أنصاف الحرائر

قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «دوماس الصغير»
دوماس الصغير نَغْلٌ١ لدوماس الكبير، ولد له في ٢٩ يونية سنة ١٨٢٤ من رابطة لم يحلها القانون، وقد رُبِّيَ في حجر ظئر ظل عندها بعد فطامه زمنًا، وفي الخامسة من عمره انتقل إلى مدرسة يقوم بأمرها أحد أصدقاء أبيه، ومنها انتقل إلى مدرسة أرقى، ثم ترك الدراسة في السادسة عشرة من عمره، وظل إلى الحادية والعشرين لا صناعة له إلا التنقل بين الأوساط التي يتردد إليها أمثاله من الشبان، وأثقل الدين كاهله في تلك الفترة، فلم يجد سبيلًا للخلاص منه إلا أنْ يلجأ للتحرير مستفيدًا من اسم أبيه، وتلك مصادفة من المصادفات السعيدة التي تفيد صاحبها وتفيد الإنسانية كلها؛ لأنها مصادفة أصابت روحًا قويًّا، ونفسًا طموحًا، وقلبًا كبيرًا، وعقلًا ناميًا، وخيالًا خصبًا، وأعصابًا حساسة، وفؤادًا عرف الألم فامتلأ بالأمل، وأحاطت به عظمة أبيه، فلم يتردد لحظة في أنه مصيب من العظمة ما أصاب أبوه.

على أنَّ هذه القوى الكبيرة والملكات الجمة لم تلق النجاح لأول ما عالجت سبيله، ذلك بأن دوماس أراد أنْ يسلك في الكتابة طريق أبيه، ودوماس لم يكن صاحب تلك النفس الضعيفة التي تأتم بإمام لها، بل كان قوة لذاته، فلم يفده ضغط نفسه إلا ضياع مجهوده، ورأى هو ذلك رأي العين، فأطلق نفسه من كل قيد، وأراد أنْ يغامر في الحياة بكل ما فيه من قوى الحياة، أراد أنْ يكون سيدًا لا أسيرًا، أراد أنْ ينشر على الحياة المحيطة به لون نفسه، فكتب لأول ما كتب في هذا النوع قصته الكبيرة «غادة الكاميليا»، وحكي في الفصلين الأولين من هذه القصة صورة نفسه والمحيطات التي أحاطت به أيام صباه؛ فكان فيما كتب صادق التصوير قويه، فلم تلبث روايته حين نشرت أنْ لقيت ما قدر لها من نجاح لا يزال إلى اليوم في حدته؛ فما تزال «غادة الكاميليا» غادة على المسرح رغم تعاقب السنين، وما تزال النفوس تشتاق إليها كما تشتاق إلى كل شيء محبوب.

وصف دوماس في «غادة الكاميليا» بعض صور حياته، وحياته — كما رأيت — شاذة، خارجة على متعارف الناس في الحياة، ولد في وسط غير شرعي، وعاش في جماعة الأدباء والكتاب والمفكرين، وهؤلاء لا يعيشون عيشًا عاديًّا أغلب الأمر؛ لذلك كان ما جاء في غادة الكاميليا خارجًا على تعارف الناس في الحياة؛ لأنه جعل بطلة روايته إحدى أولئك الجميلات اللاتي ولدن في أحضان الفقر والفاقة، وفي وسط من الأوساط الوضيعة المقام، ولكن هذه البطلة امتازت بجمال فتان يرفع المرأة إلى ذروة لا يتسامى إليها المال ولا تتسامى إليها الألقاب، وإذن كان الجمال ثروة لذاته، وكان ثروة طبيعية، ثم إذ كان الفقر وكانت ضعة القدر لا تتنافى مع العواطف السامية، فقد جعل دوماس لمرجريت حظًّا من هذه العواطف يعدل حظها من الجمال، وأسمى العواطف الحب، الحب عاطفة قوية تأسر القلب، وتتحكم في الفؤاد، وتدفع صاحبها لكل صور التضحية، انتهت هذه العاطفة بغادة الكاميليا إلى الموت.

هذه القصة الأولى لدوماس لقيت من الناس إعجابًا؛ ولكنها لقيت كذلك اعتراضًا عليها وتبرمًا بها، وكيف لا يعترض الناس على قصة تضع قواعد الخلق المتعارفة موضع الشك! وكيف يقر الناس رجلًا يرى في بغي موضعًا لفضيلة! وهل قام نظام الاجتماع إلا على الفضيلة القاسية الضيقة التي تأخذ الناس بخطاياهم فتجزيهم عنها أشد الجزاء! ولو أبيح لأمثال دوماس أنْ يكتبوا، فيسوغوا ما تنكره الجماعة من بعض صور الحياة لما ظلت الجماعة قائمة قويَّة متينة الأساس.

كذلك اعترض غير جماعة على دوماس، لكن للكتاب ورجال الفن ردهم على هذا الاعتراض، وليس أبلغ من كلمة دوماس نفسه في التعبير عن هذا الرد، قال:

أول شرائط العبقرية الصدق، وكل ما كان صادقًا كان طاهرًا، والزهرة العذراء عريانة وهي مع ذلك عذراء، والانفعال الذي يحدث عن تصوير عاطفة من العواطف تصويرًا تعبر عنه لغة جميلة وحركة جميلة كذلك، هو — أيًّا كان نوع تلك العاطفة — خير ألف مرة من تلك التدابير الموضوعة التي تطلبون إلينا كتابتها مقابل رضاكم عنا، على نحو ما توضع تلك المناقصات التي تقرر في أعمال البلديات، وتلك الانفعالات أبعد أثرًا في تقويم أخلاق الإنسان بما تدفعه إليه من النظر في أعماق نفسه، ومن تحريك غرائز الطبع الإنساني تحريكًا يدفع بخبايا الفؤاد إلى الظهور أمام بصيرته.

إذن فهؤلاء الفنانون من الكتاب لا يريدون أن يقف الكاتب عند تكرار ما تعارف الناس عليه من ألفاظ براقة وجمل خلابة، ولكنهم يريدون أنْ يبحث في مختلف صور الحياة مما صادفه، وأنْ يحلل ما وقع تحت حسه من هذه الصور، وأنْ يسبر غورها ويجلو حقيقتها، وأنْ يعرضها على الناس كما يراها، حتى يعرف الناس دخائلها وحتى يحيطوا بكل ما في الحياة، يجب ألا يبقى الكثير من زوايا الجماعة مظلمًا لا يعرفه إلا بعض الناس ممن دفعتهم إليها صروف القدر، بل يجب على الذين احتكوا بها، وعرفوا جوانبها وبحثوها أنْ يطلعوا الناس على كل ما وجدوه فيها، يجب أنْ يطلعوهم على الطريف في جماله، وعلى الطريف في وحشيته، والطريف في نفعه، والطريف في ضره، يجب أنْ تكون غاية صاحب الفن — مصورًا كان أو رسامًا أو شاعرًا أو كاتبًا — أنْ يقصد إلى الحقيقة، يجلوها مهما كانت هذه الحقيقة مرعبة مخيفة، ولكن صاحب الفن إنما يقصد إلى تجميل الحسن وتقبيح القبيح، وإنما يكون ذلك بصدق الوصف صدقًا يجعلك تحس بالصورة، وكأنها الشيء انتقل كل ما فيه من المعاني إلى نفسك، فأحدث فيها كل ما يمكن أنْ يحدثه من الانفعالات.

وحياة دوماس الصغير شاذة كما رأيت، هو قد عرف من حياة الجماعة تلك الزوايا المظلمة التي لا يتاح لكثيرين أنْ يعرفوها، عرف مرارة إحساس الابن الذي يولد من علاقة غير مشروعة، وعرف صور الحياة التي يلجأ هذا النَّغْل إلى أنْ يعيشها، عرف حياة الإماء وأشباه الإماء، وعرف ما يدفع إلى هذه الحياة من النضال بين هبات الطبيعة وتقاليد الجماعة، وعرف معاذير الأشخاص الذين ينزلون إلى هذا النضال، وعرف النتائج السيئة التي تعلق بهم منه، والآثار الخطيرة التي تترتب على ذلك في حياة الاجتماع، فكان من ذلك كله موضع بحث وتفكير عميق عنده.

وقد تطورت استنباطاته في هذه المسائل تطورًا عجيبًا، فقد كان في صباه رءوفًا بالمرأة الساقطة، وكان يجد لها من جمالها ومن إحاطة الناس بها عذرًا عما قد ترتكبه من هفوات، ورأيه هذا أبداه في «غادة الكاميليا»، ثم إنه تحول عن هذا الرأي بعد ذلك، ورأى في وجود هذا الصنف من الساقطات أذى للجماعة وإضرارًا بها يجب معه تجنبها ومحاذرتها، ورأيه هذا أبداه في أنصاف الحرائر.

ثم انتقل إلى أبعد مدى من هذا، فلم يرَ مجرمًا من يقتل المرأة الخائنة، وهذا هو رأيه في قصته «قضية كلمنسو».

•••

قد مثلت روايته «أنصاف الحرائر» في دار الأوبرا الملكية مساء الاثنين الماضي، وكانت واحدة من الروايات القليلة التي قامت بتمثيلها الممثلة الفرنسية البارعة الآنسة سيسيل سوريل، وكانت من بين الروايات التي نالت نجاحًا باهرًا، فحق علينا وقد شهدناها أنْ نثبت أمرها في «السياسة»، وأنْ نعرضها للقراء.

موضوع هذه القصة بسيط كل البساطة، خلاصته أنَّ جماعة من النساء اللاتي أوتين حظًّا من الجمال، وكن طُمُحًا إلى ما حلَّ وحرم من نعم الحياة، جماعة من النساء اللاتي يجدن في المدن وفي اجتماعاتها من صور الاستمتاع ما يحبب إليهن اتباع هواهن، والخروج على متعارف قواعد الاجتماع إذا اجتمعن، وهذا الطراز من النساء المولعات بنعم الحياة وأنواع الاستمتاع فيها يوجد في كل مدينة من المدائن الكبرى، حيث لا يعرف الناس بعضهم بعضًا، وحيث لا يقف الواحد من شئون جاره على الكثير ولا القليل، وحيث يتاح لكل أنْ يحاذي الجريمة أو يقارفها وهو مرتدٍ برداء المجد والشرف، وهو طراز يمتاز بأن النساء من أهله كلهن متزوجات، ولا يرى واحد لإحداهن زوجًا؛ لأن زوج واحدة منهن منقطع عنها لوفاة أو لغربة، وهن لذلك في انتظار الزوج لا يأبين المتعة، وفي يد كل واحدة عصمتها، وعقد هذه المتعة الحب أو دعوى الحب، وهي تدوم ما دام عقدها.

اجتمع إذن جماعة من هذا الطراز من النساء، إحداهن سوزان التي أسمت نفسها البارونة دانج نسبة إلى زوج لم تعرفه حياتها، ولكن اسمه يجعل لها في الحياة بريقًا محبوبًا، و«الفيكونتس دفرينير» وابنة أختها «مارسل» وابنة الأخت هذه فتاة طيبة القلب، لم تعرف حرامًا في الحياة، ولكنها ولدت، ثم سارع إليها اليتم، فلم يكن بد من أنْ تلجأ إلى خالتها، وأنْ تبقى في جماعتها، وإلى جانب هؤلاء الثلاث «فالنتين دسانتيس»، وهي زوج ممن يدعى «فرنان شاربان» الذي هجرها منذ عشر سنوات؛ أي بعد زواجهما بقليل، إذ ثبت لديه أنها خانته، ولم يك عجيبًا أنْ تخونه، فقد ولدت في بيئة كهذه البيئة التي وصفناها، وعاشت فيها ثم ابتعدت عنها زمنًا حتى تزوجت، فكان طبيعيًّا بعد ذلك أنْ تعود إلى مثل أخلاق البيئة التي خرجت منها.

وكانت «سوزان» رفيقة «المركيز تومران» زمنًا، فحصلت منه على ثروة كانت تدر عليها خمسة عشر ألف فرانك كل سنة، فلما هجرته أحبت شابًّا من ذوي النبل يدعى «أولڨييه دجاثي» زمنًا، ثم بدا لها أنْ تهجر هذه الحياة التي عاشتها إلى الثامنة والعشرين من عمرها، وفكرت في الزواج من شاب مستقيم غني كريم المَحْتِد، ولم يكن ذلك الشاب ميسورًا لها بين من عرفتهم وعرفوها، لذلك انتظرت تتحين الفرص، فلما عاد «ريمون دمانجاك» من أفريقيا، وكان جنديًّا قضى بها عشر سنوات، أقبلت عليه وجعلت الزواج منه غايتها وهمها.

وإذ خشيت إنْ هي بقيت معه في باريس أنْ يقف على حقيقة أمرها فيتداعى ما تدبره، فكرت في أنْ تسافر معه بعيدًا عن فرنسا إذا اقتضى الحال، ورأت أنْ تخبر «أولفييه» بعزمها وبانقطاع ما كان بينهما من صلة، وأنْ تودعه قبل سفرها، وإنها لتدخل إلى بيته فتجد عنده «الفيكونتس دفرنيير»، وكانت قد جاءت تحدثه في شأن ابنة أختها «مارسل» التي تهواه، وتسأله لم لا يتزوجها؟ فيرفض؛ لأنه قد يعتقد بطهارة مارسل، ولكن أمامه مدام دسانتيس مثلًا حيًا على أنَّ المرأة تعود إلى بيئتها وإنْ خرجت منها أول خروجها نقية طاهرة، تدخل سوزان عند أولڨييه وتخرج دفرنيير، وتخبر سوزان صاحبها بانقطاع ما بينهما وبعزمها على السفر، وبإحلال الصداقة المخلصة محل ما كان بينهما من علاقة قديمة، وإنهما ليتحدثان إذ يعلن الخادم مقدم المسيو ريمون دمنجاك، فتضطرب سوزان؛ لأنها لم تكن تريد أنْ يعرف واحدًا ممن يعرفونها، وبعد هنيهة من روية تأمر الخادم أنْ يدخل ريمون، ولا تبقى هي في حضرة الرجلين طويلًا بل تدعهما وتنصرف.

ولم يكن ريمون يعرف أوليڨييه من قبل، وإنما جاء من قبل صديق له، يتحدث في أمر مبارزة تقع بين صديقه وصديق لأولڨييه، وقد أخذ حين رأى البارونة دنج «سوزان» عنده؛ لذلك كان حديثه أول الأمر حادًا قاسيًا، فكان يقف في سبيل كل حل يتقدم به أولڨييه لمنع المبارزة، وقد أبدي له أولڨييه دهشته عند ذلك، فسأله عما يمكن أنْ يكون بينه وبين سوزان من علاقة، فلما علم منه أنها الصداقة ليس غير، ولما اقتنع حين أخبره أولڨييه بأنه كان يستطيع أنْ يخبئها في أي غرفة من غرف الدار لو أنَّ في الأمر شيئًا، اتفق على ما ارتآه أولفييه من منع تلك المبارزة، وأصبح الرجلان صديقين، وأفضى ريمون إلى ألڨييه بعزمه على التزوج من سوزان، وبما بينهما من حب جاوز حدود العقل، هنا ينتهي الفصل الأول.

•••

فإذا كان الفصل الثاني فقد اعتزم أولڨييه أنْ يحول دون زواج سوزان بريمون، وهو يزعم خلال القصة كلها، ويتابعه في زعمه نفاد الرواية أنه أخذ نفسه بذلك كشريف يريد أنْ يحقق لصديق شريف معنى الشرف، وأنْ يحبط أباطيل هذه المرأة الساقطة، وقد يكون ما يزعمه أولڨييه من ذلك صحيحًا، قد يكون الدافع له على العمل للحيلولة دون هذا الزواج، هو هذه الصداقة الجديدة التي تمت بينه وبين ريمون، وحبه لطبقة الأشراف التي هو منها، ولكني أحسب أن ثمت دافعًا آخر، فقد كان أولڨييه يحب سوزان، وهو لم يزل يحبها، وهي التي أرادت أنْ تقطع ما بينه وبينها من حب، وهي التي أرادت أنْ تستبدل به رجلًا آخر، وهي التي أعلنت ذلك إليه حين أخبرته بعزمها على السفر، وحين أفضى إليه صديقه الجديد بأنه سيتزوج من سوزان، فالغيرة التي حركت نفسه، والتي حركت عوامل الحقد على سوزان؛ لأنها ستتركه، وحرصه على أنْ تبقى إلى جانبه، وأنْ لا يستأثر بها رجل سواه، هذه الغيرة وهذا الحرص هما اللذان دفعا إلى نفسه هذا العزم، وهما اللذان حركاه بقية فصول الرواية، وهما اللذان هوَّنا عليه المخاطرة بحياته في آخرها.

اعتزم أولڨييه إذن أنْ يحول دون زواج سوزان بريمون، وقد تهيأت له أول فرصة لذلك حين كان معه في منزل الكونتس دفرنيير، وكانت هناك سوزان وفالنتين وسانتيس ومارسل، فقد جعل يقص على صاحبه من حياة أولئك النسوة، ويصف له طرازهن ونوع حياتهن وصورة مجتمعهن، هذا المجتمع الوبيء الذي تهوي إليه كل زوجة لا تحرص على الوفاء لزوجها، والذي ترتفع إليه كل ساقطة عافت الهوى وسيلة للكسب، وتعلقت به سببًا للاستمتاع بلذات الحياة، صور له هذا المجتمع، وأشهده ما يدور من حوار بين السيدات فيه، وقد تنبهت سوزان إلى الحديث فأسرعت إلى منعه، ولما سألت أولڨييه كيف يعدها الصداقة بالأمس، ثم يطعن عليها اليوم — ولو بالطعن على بيتها — أجابها بأن الصداقة لا تمنع الرجل من المحافظة على شرف الشريف، وكذلك أعلنت الحرب بينهما.

على أنَّ هذا الحديث الذي جرى بين أولڨييه وريمون لم يفتح عين هذا الأخير بعد، إذ غشَّى عليها الحب الذي نصبت سوزان له حبائله، وكانت لا تفتأ تغذوه بدعوى الحب من جانبها، وبما تظهره من عواطف ملتهبة، وكل ما فعله أنْ خاطب سوزان فيما قاله صاحبه: فكفى أنْ تظهر الصد والعدول عن فكرتها؛ ليعود هو إليها خاضعًا ذليلًا.

•••

لم يغير ذلك من نفس أولڨييه ولم يثنه عن عزمه، بل تراه في الفصل الثالث أكثر إمعانًا في تنفيذ ما اعتزمه، وأشد إقدامًا على اقتحام كل العقبات، تراه وقد منعت سوزان عليه بابها ينتهز فرصة دخول ريمون فيستأذن هو الآخر، ويتساءل عن ربة البيت، فيعلم أنها خرجت، فيهمُّ بالانصراف ويطلب إلى ريمون أنْ يبلغها أنه كان يحمل إليها رسالة، ولكنه يعود فيخاطب ريمون في أمر سوزان من جديد، ويطلب إليه أنْ يسألها عن زوجها الأول، فإذا انتهى من حديثه وهمَّ بالانصراف سأله صاحبه عن الرسالة التي يريد أنْ يحمله إياها لمخطوبته، فيتردد، ثم يسلمه الرسالة بعد أنْ يأخذ عليه عهدًا ألا يفضها، وبعد أنْ يخبره أنها خطابات غرام كانت ترسلها إليه سوزان، هنالك يغلي الدم في عروق ريمون، وينتظر عودة سوزان بصبر ذاهب، فإذا عادت قدمت إليه شهادة ميلادها، وعقد زواجها،وشهادة وفاة زوجها، وأنت لا شك تعلم أنَّ هذه الأوراق الرسمية الثلاث مزورة كلها، ولكن الرجل الساذج الذي قضى عشر سنوات في أفريقيا، الذي يحسب أنَّ كل برَّاق ذهبًا لا يلتفت إلى هذا التزوير، ويضعف أمام هذه الماكرة الماهرة ولكنه يظل مأخوذًا بفكرة الخطابات التي تبودلت بين سوزان وأولڨييه، فيطلب إلى سوزان أنْ تكتب خطابًا يخطها، ثم يحضر الرسائل ويفضها ويقارن الخط، فإذًا كل شبهة ساقطة، إذ ليس بين خطها وخط هذه الرسائل شبه، حينذاك يقتنع، ويستغفر لها عن سوء ظنه بها، ويكرر لها أحر عبارات الحب وأقواها.

وعاد أولڨييه وقابل سوزان، فسخرت منه، وأخبرته بأنها عرفت كيف أسلم رسائلها ريمون، وأنها لم تكن مكتوبة بخطها، وإنما كانت تمليها على مدام دسانتيس كما أخبرته بأنها قدمت شهادة ميلادها، وعقد زواجها، وشهادة وفاة زوجها، وتحدِّثه إنْ استطاع أنْ ينقض ما أبرمت.

•••

فلما كان الفصل الرابع عاد أولڨييه إلى حيث صديقه ورفيقته، وذكر ريمون ما عرفه من أمر الخطابات، ومن تزييف الأوراق التي قدمتها سوزان، فطرده ريمون، ولما لم يخرج انتهيا إلى أنهما سيتبارزان، فلما رأت سوزان عظيم الخطر الذي يتهدد رفيقها القديم وزوجها، جاهدت تريد أنْ تمنع هذه المبارزة، فتوسلت لريمون فلم يُجْدِ توسلها، وأخيرًا قابلت «مارسل» وأخبرته بما سيكون، ومارسل — كما رأيت — مولعة ولهى بأولڨييه، فذهبت إليه أول الفصل الخامس تريد منعه، فأبدى أنه نازل على إرادتها، لكنه تركها وخرج من باب آخر، وجاءتها سوزان فذكرت لها أنَّ أولڨييه الذي يبدي أنه يحبها، يقول لها هي أيضًا أنه يحبها، فترددت مارسل في تصديق الخبر، فطلبت إليها أنْ تخرج وتدع لها المكان، وعاد أولڨييه من المبارزة جريحًا، فلما رأى سوزان ذكر سابق حبه ولاعج غرامه، وعند ذلك دخل ريمون فوجدهما على هذه الحال، فانفتحت عينه وأيقن أنَّ ما ذكره أولڨييه له عن سوزان صحيح، فألقى إليها بعقد لها، فأخذته فمزقته مغضبة حانقة أنْ أخفق كل ما كانت ترجوه، ودخلت مارسل، فاستقبلها أولڨييه في حفاوة وترحاب، وطلب يدها، ومدحها له ريمون، وتم زواجهما وانتهت الرواية.

•••

هذه القصة — أنصاف الحرائر — هي الدور الثاني من تطورات تفكير دوماس الصغير في أمر أنصاف الحرائر، فقد رأيت أنه كان يعطف عليهن حين كتب «غادة الكاميليا».

فلما كتب أنصاف الحرائر كان قد بدأ يحقد عليهن، وقد تم تطوره حين كتب «قضية كلمنسو»، فإنه جعل موضوعها دائرًا حول امرأة تزوجت، فخانت زوجها، فقتلها زوجها وأبرأه القضاء.

•••

ولعلك ترى ما في قصة أنصاف الحرائر من بعض أوجه النقد، فهذا جالن ينعي مدام دسانتيس سيرها، ويرد سوءه إلى نشأته، ويجعل ذلك سببًا لرفض التزوج من مارسل أول الرواية، ثم هو يعود فيقبل زواجها في آخر الرواية، ولم يحدث ما يدعو إلى تغيير رأيه، وهذا دمانجاك يظل الأيام والأسابيع تتتالى عنده الشبهات، فإذا الحب قد غشي على بصره فلا يرى، وهذا قد لا يكون عيبًا، ولكن هذه سوزان اعتزمت السفر حتى لا يقف أحد من أمرها على شي، وهي أشد ما تكون رغبة في الفرار بعيدًا عن أولڨييه جالن، وهي تطيق هذا الفرار، ولكنها على الرغم من ذلك تبقى، والحرب بينها وبينه حرب ضروس لن تنتهي إلى حين.

ولكن مواضع النقد هذه ليست ذات خطر إلى جانب قيمة الرواية وقوتها، وقد وضعنا دوماس أمام مشاهد بلغت من الإبداع في الفن غايته، مشاهد ليست مما يراه الكثيرون في الحياة، وقد يرى بعض الخلقيين عرضها في غير مصلحة الأخلاق، ولكنها مشاهد تمثل حياة طائفة كبيرة من أهل المدن، وقد يكون من الخير أنْ تعرض حتى يعرف الناس موضع المرض فيتقوا جرثومته.

•••

وقد مثلت جوقة الكوميدي بالأوبرا الملكية هذه القصة خير تمثيل، ولسنا بحاجة للثناء على مدموازل سيسيل سوريل في تمثيلها دور «سوزان»، فقد كانت هذه الحرب بينها وبين أولڨييه، وحرصها على أنْ تصل إلى الفوز، وإلى تحقيق ما اعتزمته من التزوج من ريمون دمانجاك تحتاج إلى قوة في بعض المواقف، ورِقَّة في البعض الآخر، وضعف في مواقف أخرى، فلم يكن صوت سوريل وحده هو الذي يعبر عن القوة وعن الرقة وعن الضعف، بل كانت مقدرتها في العبارة راجعة إلى كل كيانها، وإنك لتستعبر في بعض المواقف حين تراها، وقد رأت نفس ريمون يداخلها الريب، قد صارت كلها حبًّا واستعطافًا ورقة وضعفًا، ثم إذا بك تراها أمام أوليڨييه، وقد ملكت كل وسائل القوة في حالة من الهدوء النفساني، تتجلى معها القوة القاسية في سكينتها وسخرها.

وقد نفثت مدموازل سوريل على الرواية من روحها قوة، وكان الممثلون إلى جانبها يزيدون هذه القوة وضوحًا وجلاء، لولا بعض مواضع كانت تبدو في الأدوار الثانوية.

وقد مثلت جوقة الكوميديا بالأوبرا الملكية هذا العام تمثيلًا حاز أكبر الإعجاب.

ديسمبر سنة ١٩٢٣
١  ولد غير شرعي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤