خياطة لونيفيل

للكاتب الفرنسي «ألفريد سڨوار»

لا تقل إنها امرأة ذكية حادة الذكاء، ولكن قل: إنها جذوة من الذكاء، ولا تقل: إنها ماهرة في الفن، ولكن قل: إنها الفن يحيا ويتحرك، فأنت إذا شهدتها لم تستطع أنْ تفرق بين الذكاء والذكي، ولا بين الفن والفنان، وإنما اختلط عليك الأمر اختلاطًا، ثم اقتنعت بأنك تشهد الذكاء والفن يضطربان ويترددان في ملعب التمثيل فيستأثران بهواك، ويخلبان لبك، وينسيانك نفسك وما يحيط بك، ويقصران حياتك على ما تسمع وعلى ما ترى.

فأنت معلق بألفاظ الممثلة، وأنت معلق بحركاتها، وغريب جدًّا ما تشعر به حين يلقى الستار، وتعود إلى نفسك فتشعر بها وتفكر فيما يحيط بك، وأنا زعيم بأن هذه العودة لن تكون يسيرة عليك ولا محببة إليك، فستظل بعد أنْ تفارق ملعب التمثيل أسير الملعب، وستسمع صوت الممثلة، وسترى حركاتها، وستحب هذا الأسر وترغب فيه، وتكره أنْ تصرفك عنه صارفات الحياة، ستتصل نفسك بما سمعت؛ لأنه جميل، وستتصل نفسك بما رأيت؛ لأنه جميل، وستستعذب هذا الاتصال وتستثقل الحديث الذي يصرفك عنه، وتتبرم بغير الحديث من شئون الحياة التي تضطرك إلى أنْ تفكر في غير ما رأيت أو سمعت، وستتمنى حين تخرج من ملعب التمثيل أنْ تخلو إلى نفسك، أو أنْ تخلو إلى ما سمعت وإلى ما رأيت، أو أنْ تخلو ليتاح لك أنْ تستعذب الفن وتسيغه، وأنْ تستعذبه وتسيغه إلى غير حد، وبم يمتاز الجمال الفني؟ وبم يمتاز أثر الجمال الفني في نفسك؟ أليس يمتاز بأنك لا تنال منه حظًّا إلا استعذبته وتمنيت منه المزيد، ومهما أتيح لك منه فلن يثقل عليك، ولن تنصرف عنه نفسك، ولن تزداد إلا اتصالًا به وفناء فيه!

أنا زعيم لك بهذا كله إذا شهدت هذه الممثلة فسمعتها تقول، ورأيتها تلعب، وقد أطيل القول فلا أقول شيئًا، وقد أتكلف تخير الألفاظ فلا أجد ما أؤدي به شيئًا مما أجد في نفسي، من ذا الذي يستطيع أنْ يصور بالألفاظ ما يحس في نفسه من جمال الفن! ومن ذا الذي يستطيع أنْ يترجم الموسيقى ترجمة صادقة إلى الكلام! أستطيع أنْ أقرأ كتابًا من كتب العلم أو الأدب أو الفلسفة فأعجب به، ثم أنقل إليك خلاصة ما قرأت، وأصف لك لذتي بما قرأت، وأشركك في هذه اللذة، ولكني أعترف، وأظن أنَّ غيري من الكتَّاب يعترفون بالعجز كل العجز عن أنْ نشهد آية من آيات الفن، ثم ننقل إليك منها صورة صادقة أو قريبة من الصدق، ثم نصف لك لذتنا بهذه الآية واغتباطنا بها، ونشركك في هذه اللذة وفي هذا الاغتباط نحن عاجزون عن هذا العجزَ كله؛ لأن استعدادنا للشعور أعظم من قدرتنا على الوصف، ولأن الألفاظ التي أتيحت لنا حين نحاول الوصف أقل عددًا وأضيق نطاقًا من هذه العواطف والأهواء التي لا تحصى، والتي تثيرها في أنفسنا آيات الفن على اختلافه، وإذا ضاقت اللغة بالعلم والفلسفة فهي بالفن أشد ضيقًا، وأحسب أنَّ اللغة لم تخلق لتعبر عن الفن، وإنْ تكن قد خلقت لتعبر عن الفن فأنا أعتقد أنَّ بينها وبين تحقيق هذه الغاية التي خلقت لها أمدًا لا يزال بعيدًا.

لقد رأيت السيدة سيمون في مواقف مختلفة الاختلاف كله، متباينة أشد التباين، وحاولت أنْ أفاضل بينها في هذه المواقف المختلفة المتباينة، وأفضلها على نفسها في موقف دون موقف، فما وجدت إلى ذلك سبيلًا، ومع ذلك فإن اختلاف هذه المواقف عظيم، عظيم بحيث لا تكاد تتصور أنْ يوفق فرد إلى إتقانها جميعًا، انظر إلى هذه الممثلة في موقف كله لعب وفتنة، وكله لذة ولهو، انظر إليها فإذا هي تأخذ بحظها من ذلك موفورًا، كأنها لم تعرف في حياتها إلا اللعب والفتنة، وإلا اللذة واللهو، وكأنها خلقت لهذا الموقف، وخلق لها هذا الموقف! ولكن احذر أنْ تحكم عليها مثل هذا الحكم، فما أسرع ما تراها قد انتقلت من هذا الموقف إلى أشد المواقف بعدًا عنه ومناقضة له، إلى الحزن والكآبة، إلى البؤس العميق الذي امتزج باللحم والدم، وصور النفس على صورته، فإذا هي بؤس وكآبة، تنتقل إلى هذا الموقف في سرعة مدهشة، فانظر إليها فيه، فتشعر بأنها ليست أقل اطمئنانًا إليه وقدرة عليه وبراعة في تمثيله مما كانت في الموقف الأول، ثم دع هذين الموقفين وانظر إليها في موقف آخر، في موقف يزدري اللذة واللهو كما يزدري الحزن والبؤس، في موقف يشرف منه الإنسان على الحياة ولذاتها وآلامها إشراف الفيلسوف يزدريها، ويبتسم لها ابتسامة لا تستطيع أنْ تتبين أهي ابتسامة سخط أم رضا، انظر إليها في هذا الموقف فستضطر إلى الحكم بأنها قد خلقت له وخلق لها، وليس العجب أنها تستطيع أنْ تتقن هذه المواقف وتبرع في تمثيلها فحسب، وإنما العجب كل العجب أنها تستطيع أنْ تنتقل بين هذه المواقف في غير هدنة ولا مهلة، وفي غير تكلف ولا تصنع.

ماذا أقول! هي إلى التأثير فيك أسرع منك إلى التأثُّر بها، فبينا أنت مغرق في الضحك؛ لأنها بعثتك على الضحك، وبينا أنت في حاجة إلى شيء من المهلة؛ لتقضي العجب وتأخذ بحظك من هذا الضحك، إذا هي مغرقة في حزن لا أول له ولا آخر، وإذا هي اختطفتك في عنف وخفة من الابتهاج والسرور إلى الابتئاس والعبوس، وإذا أنت لعبة في يدها، تضحك؛ لأنها أرادت أنْ تضحكك، وتبكي؛ لأنها أرادت أنْ تبكيك، وقد نسيت نفسك فما تدري لم تضحك ولم تبكي! وكيف تنتقل من ذلك الضحك إلى هذا البكاء!

شهدتها تمثل قصتين، إحداهما التي أحدثك عنها اليوم، وأعترف بأن هاتين القصتين في نفسهما لم تعجباني، ولم تتركا في نفسي من الأثر القوي ما كنت أنتظر أنْ تتركا، ولكني مع ذلك لم أعجب قط بقصة تمثيلية قرأتها أو شهدتها إعجابي بهاتين القصتين حين شهدتهما في الأوبرا الملكة، لا أستثني من ذلك إلا قصة «بيرنيس» لراسين حين كانت تمثلها «بارتيه»، وإلا قصة «الحب» لبول جيرلدي حين تمثلها «بييرا»، لا أستثني غير هاتين القصتين، على أني شهدت قصصًا تمثيلية كثيرة وحظها من الإبداع الفني عظيم، وشهدت ممثلات كثيرات فيهن «سيسيل سوريل» ونظائرها.

وقد أستطيع أنْ أحدثك فلا أفرغ من الحديث، دون أنْ آتي بشيء مما أشعر به من الحق للسيدة «سيمون» فلأُرِحْكَ، ولأُرِحْ نفسي من هذا العناء غير المفيد، ولألخص لك القصتين تلخيصًا موجزًا.

•••

«خياطة لونيڨيل» قصة غريبة في نفسها، كلها أشياء غير منتظرة، ويكفي لإثبات ذلك أنْ تعلم أنَّ التلخيص الذي وضع لها ليقرأه الجمهور قبل التمثيل، لا يشتمل إلا على خلاصة الفصل الأول، فأما الفصول الثلاثة الباقية فقد أشير إليها بأصفار، وهذا يبين مقدار اعتماد الكاتب على الممثلة وأمله فيها، فقد أنشأ القصة لها وحدها.

يرفع الستار فإذا مطعم من مطاعم باريس الفرحة المبتهجة يختلف إليه آخر الليل أولئك الذين استمتعوا بما أتيح لهم من اللذة في ملاعب التمثيل والموسيقى، فلما قضوا حظهم من ذلك أقبلوا يأكلون ويشربون ويتمون الليل في لهو ولعب، وهذه الليلة من ليالي الرقص في الأوبرا، فالمزدحمون على هذه المطاعم كثيرون، تضيق بهم غرفاتها الخاصة والعامة، وقد أقبل فيمن أقبل على هذا المطعم فتى فرح مبتهج، ومعه امرأة جميلة فتنته، أو قل إنه فتنها، أو قل إنها تعبث به، هذا الفتى هو «بيير رولون»، وهذه المرأة هي «إيرين سلفاجو»، كانت في أحد ألواج الأوبرا، فلحظت هذا الشاب فأشارت إليه، فسعى إليها، فأقبلا يتمان ليلتهما في اللهو بهذا المطعم، فلا تكاد تسمع حديثهما حتى تتبين أنَّ هذه المرأة أجنبية، وحتى تتبين من صوتها أو حديثها أنها غامضة شديدة الغموض، مبهمة إبهامًا لا حدَّ له، شديدة الانتقال من طور إلى طور في عبث وتحكم، مالكة أمر نفسها، لا تأكل ولا تشرب ولا تلهو إلا بمقدار ما تريد، أما الفتى فعلى عكس هذا كله، سمح، طلق، سهل القياد، لم يكد يخلو إلى صاحبته وتدفعه إلى الحديث حتى أخذ يتحدث ويتحدث، ويقول عن نفسه ما يقال وما لا يقال، وهو نشوان، ثم لا يلبث أنْ يسكر ويندفع في القول، وقد زعم لصاحبته أنه يحبها ويهيم بها حبًّا وهيامًا لا عهد له بمثلهما، وأنه حر لا يقيده حب آخر، ولكن نظرة في صحيفة من الصحف تظهر صاحبته على أنه سيتزوج غدًا، أو قل سيتزوج ظهر اليوم، فنحن في الساعة الثالثة صباحًا، هذه المرأة روسية معروفة، تلعب في السينما توغراف، فإذا علمت أمر صاحبها وإنه سيتزوج بعد ساعات، وعلمت من قصته في ماضيه أنه كان ضابطًا في الجيش، وأنه رابط في مدينة لونيڨيل غاظها خداعه وكذبه وإخفاؤه أمر الزواج، فأضمرت في نفسها شيئًا، فأقبلت عليه تلاطفه وتلهيه وتتكلف الشرب وتغريه به، فيشرب حتى يفقد صوابه، وحينئذ تدعو سائق سيارتها وتكلفه أنْ يحمل هذا السكران إلى لونيڨيل، وأنْ يعزله في قهوة هناك بالقرب من القلعة ثم يعود، وهي إنما تريد بذلك أنْ تفوت عليه ميعاد الزواج.

•••

فإذا كان الفصل الثاني رأيت صاحبنا في باريس، وقد مضى على قصته هذه ستة أشهر، وكان ماليًّا يعمل في المصارف والبورصة، فما زالت به صاحبته الروسية هذه حتى بدَّد ثروته وانصرف إليها عن كل شيء، وما هي إلا أنْ أسرع إليه الإفلاس، ففقد ما كان عنده وأضاع ثقة الناس به، واعتزم أنْ يترك باريس، وأنْ يذهب إلى حيث تقيم أمه في الأقاليم، وهو مع ذلك كلف بهذه المرأة التي حملته كل هذه الأعباء دون أنْ يظفر منها بشيء، كلف بها حتى إنه ليرجو من خادمه أنْ يبعث إليها بأزهار، وأنْ يدفع ثمن هذه الأزهار من دين له على سيده، يخرج الخادم، ولكنه يعود مسرعًا؛ لأنه يرى هذه المرأة مقبلة، فلا يكاد ينبئ سيده بمقدمها حتى يهيم هذا فرحًا، فيأذن لخادمه في أنْ ينصرف، ويلهو طول يومه، يريد أنْ يخلو إلى صاحبته، فإذا دخلت عليه أنبها ولامها لومًا عنيفًا، فتظهر له أنها قد أقبلت لتنيله ما يريد، وأنها إنما امتحنته طول هذه المدة فاطمأنت إليه، وأقبلت تريد أنْ تعيش معه، ولكنها جائعة فهي تريد أنْ تأكل، وعطشى فهي تريد أنْ تشرب، وقد انصرف الخادم، فصاحبنا مضطر إلى أنْ يذهب ليحمل طعامًا وشرابًا، ولكنه لا يكاد يخرج حتى تتغير هذه المرأة تغيرًا غريبًا، فإذا شكلها ولباسها أبعد الأشياء عن شكلها ولباسها حين دخلت، ويعود صاحبها، فلا يكاد يراها حتى يدهش ويبحث عن صاحبته ويناديها، فتجيبه هذه المرأة في حركة جنونية وصوت ملائم لهذه الحركة، حتى يخيل إلى الرجل أنه أمام مجنونة، وهو حانق على هذه المرأة؛ لأنه لا يجد صاحبته، وما هي إلا دقائق حتى يتبين أمر هذه المرأة التي أمامه، فإذا هي امرأة من لونيڨيل كانت بنت رجل يبيع التبغ، وعرفها صاحبنا حين كان مرابطًا في هذه المدينة فأغواها ثم هجرها، وعرف أبوها الأمر فطردها، وكانت حاملًا فولد لها طفل لم يلبث أنْ مات، وقد مضت على هذه القصة أعوام طوال حتى نسيها صاحبنا نسيانًا تامًا، أما هي فلم تنسها، ولم تفكر إلا في هذا الفتى الذي أغواها وهجرها، والذي تحبه هي حبًّا شديدًا وتريد أنْ تلقاه، عاشت وحدها، فاتخذت حرفة الخياطة، ثم انتقلت إلى باريس فوصلت إلى ملاعب السينما توغراف، ولكنها لا تقص على صاحبنا تفاصل أمرها، وإنما تنبئه منه بما يكفي، فإذا علم أنها كانت حاملًا وأنها فقدت طفلها، ذكر ماضيه وماضيها ورق لابنها وعطف على الفتاة، وسألها ماذا تريد، فتنبئه بأنها اقتصدت، وأنَّ لديها ١٠٠٠٠٠ فرنك تريد أنْ تُثَمِّرها، وهي تأتمنه على هذا المقدار؛ لأنه يعمل في المصارف، صاحبنا سعيد بهذا؛ لأن هذا المال سيصلح من أمره، وسيرد إليه ثقة الناس به، فهو مغتبط، وصاحبته هذه كلفة به، فهي تعرض عليه حبها وتعزيتها، وما أسرع ما يطمئن إليها الفتى فيقضيان الليل معًا.

•••

فإذا كان الفصل الثالث أصبح الفتى فلم يجد صاحبته، فيفترض أنها خرجت، وهو سعيد؛ لأنه سيصلح من أمره المالي، سيبقى في باريس وسيستأنف عمله، ولكن الروسية تقبل مغضبة، فتزعم له أنها بينما كانت منتظرة حين ذهب ليأتي بالطعام دخلت امرأة اسمها «أناتريبييه»، وعرفت هي أنَّ هذه المرأة صاحبته فانصرفت مغضبة، يجتهد صاحبنا في إقناعها بأن هذه المرأة ليست صاحبته الآن، وإنما عرفها قديمًا حين كان في الجيش، وهجرها منذ أعوام طوال، وقد أقبلت إليه لحاجة.

ولكنك قضيت الليل معها! وما تزال به حتى يعترف، ولكنه إنما قضى الليل معها فرقت له وواسته، ثم عرضت نفسها عليه، ثم لا تزال به صاحبته حتى تكرهه على أنْ يصف لها ليلته وصفًا مفصلًا فيفعل، ولكنه يكذب كثيرًا، فيصف نفسه بالبراءة، ويصف صاحبته بالمكر والخديعة، وقد لا يكتفي بذلك فيذم جسم صاحبته ذمًّا يغضب هذه المرأة؛ لأنها هي بعينها، حتى إذا أتم لها وصف الليلة أظهرت عفوها عنه وسماحها له، ولكنها تطلب إليه ١٠٠٠٠٠ فرنك؛ لأنها محتاجة إلى هذا المقدار احتياجًا شديدًا؛ ولأنها إذا لم تظفر به فستضطر إلى أنْ تبيع خاتمًا في يدها، وهي حريصة على هذا الخاتم، يعتذر فتلحُّ، فيعترف بفقره وإفلاسه، فلا تصدقه، ثم تعمد إلى خزانته فتفتحها وتبحث فيها، فإذا المال الذي أودعته «أنَّا»، تحصيه وتريده فيأبى، وينبئها أنه لا يملك هذا المال، ولا يستطيع أنْ يعرضه، ولكنها تلح وتنذر، وتعلن أنها ستسلم نفسها إلى شريكه القديم، وما تزال به حتى يفقد صوابه، فيدفع إليها المال فتنصرف فرحة.

أما هو فتعس محزون؛ لأنه أضاع ما لا يملك، وأضاعه في شهوة دنيئة، ليرضي امرأة، يشتهيها ولا يحبها، بل هو يمقتها؛ لأنها تعبث به وتسخر منه، وهو في حزنه إذ تقبل «أنَّا» فرحة مبتهجة، وقد حملت إليه متاعًا، ونظرت في شئونه، فهي تريد أنْ تصلح الفاسد منها، هي فرحة مبتهجة، وهو تعس حزين، وقد أحضرت صحيفة مالية، فيسألها ما هذه الصحيفة؟ أحضرتها لنبحث معًا عن أحسن مورد نستغل فيه مائة ألف الفرنك، ما رأيك في مناجم الذهب؟ يعترف لها بجريمته فتبكي ويبكى، ثم يريد أنْ يصلح ما أفسد، فيعرض عليها أنْ يتخذها زوجًا؛ لأنه عرفها فقيرة ثم هجرها، ثم عرفها غنية فأضاع ثروتها، وهو فقير، فيستطيعان أنْ يقترنا وسيحبها وسيفي لها، أما هي فتظهر الشك، ثم تمتحنه فتسأله أعندك رسائل لهذه المرأة؟ نعم! إذن فهاتها واحرقها، يتردد، ثم يستطيع أنْ يحضر هذه الرسائل فإذا عاد أنبأته بأن هذه المرأة تحدثت في التلفون، فقالت: إنها تنتظره نصف الليل، فلا يكاد يسمع هذا الحديث حتى يجن جنونه فينسى كل شيء إلا هذه المرأة وميعادها، وتحذره هي وتنهاه أنْ يذهب.

•••

فإذا كان الفصل الرابع فنحن في بيت هذه المرأة الروسية، بل في غرفة نومها، وهي تتحدث إلى نفسها وبين يديها رسالة تنظر فيها، كتبت هذه الرسالة منذ أعوام إلى «أنَّا» في لونيڨيل، وكاتبها هذا الفتى «بييررولون» يعلن فيها القطيعة إلى صاحبته.

تتحدث إلى نفسها بأن هذا الفتى إنْ لم يردها فقد تاب وصلح أمره، فهو إذن يحبها، وهي إذن تستطيع أنْ تظهر له حقيقة أمرها، وأنْ تقترن به، وأنْ تسعد بالحياة معه؛ لأنها تحبه إلى غير حد، وهي تتكلف ما يتكلف، ويؤلمها ما يؤلمه؛ لأنها تحبه وتريد أنْ يحبها، وهي الآن أمام مسألة دقيقة أي المرأتين يحب؟ أيحب هذه المرأة القاسية اللعوب، أم يحب تلك المرأة الهادئة الصريحة؟ أيحب الرحمة أم يحب العنف؟ أيحب الشرف أم يحب الإثم؟ إنْ لم يأتِ فسأسعد بالحياة معه، فإن أتى فهي تضمر في نفسها أمورًا عظامًا تفهمها من حديثها إلى الخادم، فهي تذكر لها صوت المسدس، وأنها قد تسمعه، وأنها قد تدعو الطبيب، وهي إذ يدق الجرس، إذن فقد أقبل، إذن فهو لا يحب الرحمة ولا الشرف، وإنما يضحى بهما في سبيل القسوة والإثم، يدخل فإذا هي في سريرها فيهجم عليها فتتلقاه عابثة مقطبة، ولكنها مقصية، ثم يكون بينهما حديث فتشترط عليه ليظفر بما يريد أنْ يقطع ما بينه وبين «أنَّا» فيقبل! إذن فاكتب الآن إليها رسالة القطيعة، يريد أنْ يؤجل فتأبى، يمانع فتلح، وتأمره أنْ يجلس ويكتب ما تملي عليه نص الرسالة التي كانت تنظر فيها أول هذا الفصل، والتي كتبها منذ أعوام طوال إلى «أنَّا» حين هجرها في «لونيڨيل».

يكتب كارهًا، ولكنه لا يكاد يتوسط الرسالة حتى يكف عن الكتابة، تأمره فيأبى، ثم يشتد بينهما الخصام، فإذا هو قد أطلق عليها المسدس، ولكنه قد أخطأها!

– إذن فقد كنت تريد أنْ تقتلني!

– نعم!

– في سبيل «أنَّا»؟!

– نعم!

ثم يعترف لها بأنه لا يحبها، وإنما يشتهيها عنادًا، ويريد أنْ ينتقم لنفسه من هذا العبث الطويل، أما حبه فمقصور على «أنَّا»، ثم يريد أنْ ينصرف ولكنها تدعوه، إذن فتعال! يلتفت فإذا «أنَّا» أمامه! من أنت أكنت اثنتين؟ من أنت؟ أأنت «أنَّا» أأنت إيرين؟ من أنت؟ فتجيبه: أنا «أنَّا» التي تحبك، وأنا «إيرين» التي تفتنك! يجيبها: إني لأحبك «أنَّا»، وإني لأحبك «إيرين»!

ديسمبر سنة ١٩٢٤

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤