مطاردة في الشوارع

في الصباح أخذ «تختخ» طريقه إلى الأهرام، حيث جلس في مكانه، وكان يخشى أن يمضي اليوم جالسًا كما حدث بالأمس دون أن يظهر ٣٣٣، ولكنه في هذه المرة لم ينتظر طويلًا؛ فلم تمضِ نصف ساعة حتى دخلت امرأة عجوز تحمل حقيبةً زرقاء للخضار إلى مكتب الإعلانات تسأل عن بريد ٣٣٣، تنبَّهت أعصاب «تختخ» فورًا، وأخذ يرمق السيدة العجوز بحدة وهي تتسلَّم الخطابات. لقد كان يتصوَّر أنه سيقابل رجلًا، ففوجئ بهذه العجوز فقرَّر أن يتبعها لعلها تقوده إلى الرجل الذي يتوقَّف على وجوده حل اللغز.

تسلَّمت العجوز البريد، وخرجت فتبعها «تختخ» من بعيد، وعبر خلفها شارع الجلاء حيث يقع مبنى الأهرام، ثم سارت بجوار هيئة التليفونات فسار خلفها، ثم اجتازت شارع رمسيس ودخلت إلى شارع سوق التوفيقية، فأسرع «تختخ» يقترب منها حتى لا تضيع منه في زحام السوق، وأصبح على بعد خطواتٍ منها، وهي تسير في نشاطٍ ظاهر، ثم توقَّفت عند باعة الفاكهة، فاشترت ما يلزمها، ثم واصلت السير، فسار يتبعها حتى وصلت إلى شارع توفيق، واجتازت شارع ٢٦ يوليو، ودخلت إلى شارع طلعت حرب، وكانت حركة المواصلات والزحام على أشدها، ولكن «تختخ» استطاع أن يظل قريبًا منها دون أن تشعر به.

اتجهت العجوز إلى داخل شارع طلعت حرب و«تختخ» يتبعها، حتى وقفت أمام سينما مترو، وكانت حفلة الساعة العاشرة قد بدأت منذ دقائق قليلة، فأسرعت السيدة إلى شباك التذاكر لتقطع تذكرةً في الصالة، ووجدها تدخل السينما، فأسرع إلى الشباك هو الآخر وقطع تذكرةً وتبعها، ولكنه كان قد تأخَّر لحظات كانت كافيةً لأن يفقد أثرها في ظلام السينما.

وقف «تختخ» في الدهليز نصف المظلم ينظر حوله دون أن يرى أثرًا للعجوز، فقرَّر أن يدخل إلى الصالة لعله يجدها ولو في الظلام، ومدَّ يده بالتذكرة إلى العامل الذي يُنظِّم جلوس الروَّاد، فقاده في الظلام إلى مكانه، وكم كانت فرحته أن وجد نفسه بجوار العجوز التي كانت تجلس في الظلام، وهي تتابع الفيلم القصير ﻟ «ميكي ماوس» الذي تعرضه السينما قبل الاستراحة.

كان قلب «تختخ» يدق بعنف وهو يجلس بجوار العجوز؛ فعلى بعد سنتيمترات منه ربما يوجد حل اللغز الذي يهم رجال الشرطة في مصر كلها، ولكن ماذا يفعل؟ هل يترك العجوز ويخرج ليتصل بالمفتش «سامي» تليفونيًّا، قد تخرج العجوز من السينما دون أن يراها، هل يظل يراقبها؟ قد تضيع منه في الزحام. كان عقل «تختخ» يعمل بسرعة ليصل إلى حل، وانتهى فيلم «ميكي ماوس» دون أن يفهم منه شيئًا تقريبًا، وجاءت الاستراحة فأخذ يُدقِّق النظر إلى العجوز دون أن تلاحظ حتى لا تشك فيه، وأحسَّ بشعورٍ غامضٍ حيالها؛ فمظهرها برغم شعرها الأبيض يوحي بالقوة والسيطرة، وقد أمسكت بحقيبة للخضار كبيرة من القماش الأزرق السميك، وأخرجت العجوز علبة سجائر، ثم تذكرت أن التدخين ممنوع في السينما، فقامت إلى الممر، وسقط منها عند قيامها ورقة صغيرة، فالتقطها «تختخ»، ووجد أنها تذكرة لقطار المعادي، وقرَّر «تختخ» ألَّا يتبعها حتى لا تشك فيه، ولكنه ظل قلقًا طول الوقت يدور برأسه تجاه الباب في انتظار عودتها، ولم تكد السينما تُطفئ أنوارها ليبدأ الفيلم، حتى عادت العجوز إلى مكانها، وأحسَّ «تختخ» بالارتياح. بدأ الفيلم، وكان فيلم «الفرسان الثلاثة»، وفرح «تختخ» لأنه كان يُحبه وقد شاهده مرة، ولكن لم يكن هناك مانع من أن يراه مرةً أخرى. ومرَّت ربع ساعة وهو منهمك في مشاهدة الفيلم، وفجأةً أحسَّ بالعجوز تتحرَّك، فانتبه، ووجدها تتجه إلى الباب، فانتظر قليلًا، ثم تبعها، ومن بعيد وجدها تدخل دورة المياه، فاطمأن وعاد إلى مكانه يتابع الفيلم.

طالت غيبة العجوز، وأحسَّ «تختخ» أنه أخطأ عندما تركها في دورة المياه دون أن يراقبها من بعيد، فانتظر فترةً أخرى، ثم قام وأسرع إلى الممر، ووقف من بعيد يرقب باب دورة المياه، ولكن انتظاره طال، فأدرك أن العجوز قد أفلتت منه إلى الأبد، وأسرع إلى عامل الباب يسأله عنها، فقال الرجل: لم تخرج سيدات منذ بداية الفيلم، والذي خرج هو رجل … رجل! دُهش «تختخ» كثيرًا … ولكنه فهم أن السيدة هي في الحقيقة رجل متنكر … وتذكَّر التذكرة التي وجدها فأسرع يستقل تاكسيًا برغم قرب المسافة، وبعد دقائق قليلة كان يقف على محطة «باب اللوق» ويدور ببصره في كل اتجاه؛ لعله يلمح الرجل ذا الحقيبة الزرقاء، ولكن الوقت مضى دون أن يرى الرجل، وأحسَّ باليأس يهبط على قلبه، فجرَّ قدمَيه إلى القطار وألقى نفسه فيه، وقد أحسَّ أنه أغبى إنسان في العالم بعد أن ترك حل اللغز الهام يُفلت من يدَيه.

سار القطار مسرعًا كالمعتاد، ثم توقَّف تقريبًا عند محطة مصر القديمة كما يحدث كل مرة، وكان الكمساري قريبًا من «تختخ» فسأله عن سر توقُّف القطار في هذا المكان، فقال الرجل: هناك إصلاح في الخط منذ فترة، والقطار يُضطر إلى تهدئة سرعته بسبب هذا الإصلاح.

وأطلَّ «تختخ» من النافذة يرقب المنازل التي تقترب كثيرًا من القطار، حتى تكاد تلمسه، وفجأةً من بعيد شاهد الحقيقة الزرقاء، نفس الحقيبة التي كانت مع العجوز في الصباح، وكان يحملها رجل في منتصف العمر يسير في أحد الشوارع القريبة من القطار. وقف «تختخ» مسرعًا، وقرَّر أن يقفز من القطار، ولكن القطار كان قد تحرَّك في هذه اللحظة وانطلق، فلم يكد «تختخ» يصل إلى الباب حتى كان القطار يسير بأقصى سرعة، ولم يكن في إمكانه أن يقفز منه إلَّا إذا كان يُريد الانتحار. فوقف قرب الباب ينظر إلى الشوارع التي كانت تظهر وتختفي، والناس … والمنازل … وكان كل شيءٍ يدور ويدور … وأحسَّ أن رأسه يدور أيضًا، وأنه سيسقط، فأسرع إلى أقرب كرسي فارتمى عليه وهو يشعر بالمرض يغزو جسمه ويُدير رأسه.

لا يعلم «تختخ» كيف وصل إلى منزله، ولعله نزل بحكم العادة في محطة المعادي، وحملته قدماه إلى منزله حيث صعد إلى غرفته، واستلقى على الفراش دون أن يخلع ثيابه، ثم ذهب في نومٍ عميق.

عندما استيقظ «تختخ» كان المساء قد هبط على المعادي، وكان يشعر أنه أحسن حالًا من الصباح، ولكنه كان يشعر أن جسمه ثقيل، فأخذ يخلع ثيابه في بطء، ثم طلب من الشغَّالة أن تُعِد له كوبًا من الشاي.

أحضرت الشغَّالة كوب الشاي، وفجأةً دقَّ جرس الباب، وكم كانت مفاجأة مدهشة أن دخل بقية المغامرين الخمسة معًا، وهم يضحكون! كان الأربعة «محب» و«نوسة» و«عاطف» و«لوزة» قد لوحت الشمس لونهم وكانت صحتهم جيدة، وهم يهزون يد «تختخ» في حماسة، وكان هو شديد الفرح؛ لأن أصدقاءه عادوا ولم يعُد وحيدًا في المعادي.

قالت «لوزة» وهي تضع في يده صدفةً بحريةً جميلة: لقد رأيت أن آتي لك بهذه الصدفة من البحر، أمَّا الأصدقاء فقد أحضروا لك كميةً من السمك والكابوريا المشوية.

ابتسم «تختخ» وشكَر الأصدقاء على كرمهم، ثم انطلقت «لوزة» تسأل: أليست هناك مغامرات جديدة؟ أليس هناك لغز للحل؟ قضينا إجازةً ممتعةً ولكن دون أن نشغل رءوسنا بشيء، فهل عندك شيء لنا؟

كاد «تختخ» يروي لهم مغامراته التي لم تنتهِ بعد، ولكنه تذكَّر تحذير المفتش، ففكَّر قليلًا ثم قال: إنني مشترك في مغامرة حقًّا، ولكن للأسف الشديد لا أستطيع أن أروي لكم شيئًا عنها. إن المغامرين الخمسة لا يُخفون شيئًا عن بعضهم البعض، ولكنني مضطر إلى هذا كطلب المفتش «سامي».

تبادل الأصدقاء النظرات، ثم قال «محب»: من واجبك أن تُنفِّذ تعليمات المفتش «سامي» بدقة، ولا داعي لأن نتدخَّل في أي شيءٍ لا يخصنا.

عاد «تختخ» إلى الحديث فقال: ولكن على كل حال هناك جزء من المغامرة يُمكنكم الاشتراك فيه، ولكن دون أسئلة.

دبَّ الحماس في نفوس الأصدقاء، وقالت «نوسة»: سنشترك دون أسئلة.

تختخ: المطلوب منكم العثور على رجلٍ متوسط القامة أو امرأة عجوز فهما شخص واحد، وهذا الشخص لا نعرف عنه سوى أنه يحمل حقيبةً من القماش الأزرق.

عاطف: وأين يوجد هذا الشخص، من غير المعقول أن نبحث عنه في مصر كلها، أو في المعادي كلها.

تختخ: إن الأماكن التي يتردَّد عليها محطة «باب اللوق»، وجزء من مصر القديمة، وربما سوق التوفيقية في القاهرة، ولكننا سنُركِّز بحثنا عنه في المكانَين الأولين … لقد استنتجت أنه يسكن في مكانٍ ما بين القاهرة والمعادي؛ لأنني عثرت في مكانه في السينما على تذكرة لقطار المعادي، ثم رأيته من بعيد في أحد الشوارع القريبة من شريط السكة الحديد بمصر القديمة … وهو في الغالب يسكن وحده؛ لأنه يذهب لشراء حاجاته بنفسه، ولو كان عنده شغَّالة لتركها تشتري له ما يُريد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤