بين الشك واليقين

قرَّر «تختخ» أن يعود بعد أن قضى نحو نصف ساعة يتجوَّل، وبينما هو يعبر رصيف الكورنيش إلى الرصيف الآخر، إذ بسيارة مسرعة تمر به قريبةً جدًّا منه، حتى اضطُر إلى التراجع إلى الوراء مسرعًا، ولكنه استطاع أن يُلقي نظرةً على من فيها، فخُيِّل إليه فجأةً أنه رأى داخلها سيدة … تُشبه إلى حدٍّ بعيد الجاسوس رقم ٣٣٣ في تنكُّره. ارتفعت دقَّات قلب «تختخ» بشدة، وتبع السيارة ببصره وهو يحاول التقاط رقمها، ولكنها لم يتمكَّن، كل ما استطاع معرفته هو أنها سيارة سوداء ماركة «شيفروليه».

وقف «تختخ» مكانه مفكِّرًا وقد أخذت الخواطر تملأ رأسه؛ هل وصل الجاسوس إلى الإسكندرية؟ ومنذ متى وصل؟ وهل لم يستطع رجال الشرطة معرفة مكانه؟ وهل قُدِّر له أن يشهد نهاية اللغز الذي بدأ في المعادي، وقد ينتهي في الإسكندرية؟

عشرات الخواطر مرَّت برأس «تختخ» في سرعةٍ خاطفة. استأنف سيره وهو غائب عمَّا حوله تمامًا، حتى إنه تجاوز المنزل دون أن يدري، ولم يُفق إلى نفسه إلَّا وقد اقترب من محطة الترام، فعاد مرةً أخرى يشق طريقه في الزحام إلى المنزل …

اجتمعت الأسرة حول مائدة الغداء، وظل «تختخ» صامتًا يُفكِّر، فقال والده: إنك منذ أيام صامت تُفكِّر، فهل من الممكن أن تشركنا معك؟

ردَّ «تختخ» في استحياء: آسف جدًّا لأنني لا أشترك معكم في الحديث، ولكن الحقيقة أنني مشغول فعلًا في حل لغزٍ مثير …

الوالدة: كنت أظن أننا غادرنا الألغاز خلفنا في المعادي، فإذا بها تسبقنا أو تلحق بنا أو تصحبنا في السيارة إلى الإسكندرية.

تختخ: إنه لغز خطير، وقد طلب مني المفتش «سامي» أن أشترك معه وحدي دون الأصدقاء …

الوالد: ألم ينتهِ اللغز بعد؟

تختخ: لقد انتهى اللغز، ولكن المجرم ما زال مطلق السراح، وأخشى أن يُفلت من رجال الشرطة …

الوالد: ما دام اللغز قد حُلَّ، فدعك منه لتستمتع بإجازتك، ولا داعي لهذا الصمت المزعج، ودع المسألة بين يدَي رجال الشرطة.

تختخ: للأسف إنني الوحيد الذي شاهد هذا المجرم، ومن المهم جدًّا أن أشترك في مطاردته … ومن المدهش أنه يُخيَّل إليَّ أنني رأيته اليوم على الكورنيش.

الوالد: مصادفة غريبة، ولكن في الغالب ليس هو المجرم؛ فمن المعروف في علم النفس أنه إذا ركَّز الإنسان تفكيره في البحث عن شيءٍ ما، أو بشخصٍ ما؛ أن يُخيَّل إليه أنه يراه … وهو في الواقع يرى شيئًا أو شخصًا يُشبهه … مثلًا إذا كنت في انتظار صديقٍ يلبس بالطو، فإن أي شخصٍ يأتي من بعيدٍ يلبس بالطو يُخيَّل إليك أنه هو … وفي الغالب أنك كنت تُفكِّر في المجرم، فرأيت شخصًا يُشبهه فظننت أنه هو …

تختخ: قد يكون هذا صحيحًا، ولكن مهما يكن فسوف أتصل بالمفتش «سامي» الآن وأخطره، حتى ولو كان الأمل واحدًا في المائة، فقط فسوف أحاول، ولن أُضيِّع الفرصة.

الوالد: أنت حر طبعًا، ولكن نرجو أن تنتهي من هذه المهمة سريعًا، حتى تستطيع التمتُّع بالإجازة.

عاد «تختخ» إلى البيت وانتهى من غدائه بسرعة، ثم قام إلى التليفون فطلب رقم صفر ثلاثة، ثم أدار رقم تليفون منزل المفتش «سامي» في القاهرة؛ فقد توقَّع أن يكون المفتش في مثل هذه الساعة في منزله، وقد صحَّ ما توقَّعه، ولكن المفتش كان نائمًا. تردَّد «تختخ» لحظةً ثم طلب من المتحدِّث إليه أن يُخبر المفتش «سامي» أن «تختخ» طلبه، ثم أعطاه رقم تليفونه بمنزلهم في الإسكندرية، وطلب منه أن يتصل به المفتش بمجرَّد استيقاظه … ثم جلس بجوار التليفون ينتظر.

كان والد «تختخ» ووالدته قد قرَّرا النزول إلى المدينة لتناول القهوة في محطة «الرمل» وزيارة بعض الأصدقاء، فاعتذر «تختخ» عن مصاحبتهما وبقي وحده في المنزل في انتظار مكالمة المفتش. مضت ساعة تقريبًا فأحسَّ «تختخ» بالملل، وقرَّر أن يخرج إلى الشرفة، ولكنه لم يكد يتحرَّك حتى دقَّ جرس التليفون دقاته الطويلة التي تدل على مكالمة خارجية، فأسرع إليه، وكان المفتش هو المتحدِّث.

قال المفتش: أهلًا، هل بدأت إجازتك؟

تختخ: نعم منذ ساعاتٍ قليلة، ولكن يبدو أنني لن أقوم بها.

المفتش: لماذا؟! هل حدث شيء؟

تختخ: نعم … في الحقيقة إنني متردِّد في إخبارك، ولكن يُخيَّل إليَّ أنني شاهدت رقم ٣٣٣ في سيارة سوداء على الكورنيش … قد يكون هذا مجرَّد خيال … أو كما يقول أبي إنه نوعٌ من الحالة النفسية التي تجعل الإنسان يرى غير الحقيقة، ولكنني على كل حال قرَّرت إبلاغك فقد لا أكون واهمًا …

ولشدة دهشة «تختخ» قال المفتش: في الأغلب إنك لست واهمًا؛ فنحن أيضًا عندنا معلومات عن وجود رقم ٣٣٣ في الإسكندرية؛ فقد استطاع بعض ضبَّاط المباحث الجنائية القيام بتحرياتٍ واسعة، وقال بعض الأشخاص إنهم شاهدوا سيدةً تنطبق عليها الأوصاف التي لدينا متجهةً إلى الإسكندرية في سيارةٍ خاصة.

تختخ: نعم إنها سيارة ماركة «شيفروليه» سوداء، ولكني لسوء الحظ لم أتمكَّن من معرفة أرقامها …

المفتش: في هذه الحالة سوف أحضر إلى الإسكندرية مع عددٍ من الضبَّاط، فلا بد من مطاردة الجاسوس قبل أن يُفلت منا إلى الأبد. هل تستطيع انتظاري في الإسكندرية؟

تختخ: وسوف أحاول إقناع والدي بالبقاء هنا يومًا أو يومَين؛ لأننا سنقضي الإجازة في مرسى مطروح هذا العام.

المفتش: بعد نصف ساعة سأكون مع رجالي في الطريق إلى الإسكندرية، وسنصل ليلًا، ونتصل بك في الصباح الباكر، وتستطيع أن تقول لوالدك إنني أريدك في الإسكندرية لمدة قصيرة.

وضع «تختخ» السمَّاعة وجلس قليلًا يُفكِّر، ثم قال ﻟ «زنجر» الذي كان يجلس تحت قدمَيه: لقد أحضرت معي ملابس الجاسوس الداخلية من باب الاحتياط يا «زنجر» … ويبدو أنه سيكون لك دور في المطاردة المقبلة.

ثم قام ففتح حقيبته وأخذ الكتاب الذي كان قد بدأه في المعادي عن الجاسوسية، وجلس في الشرفة يقرأ، وقد تحفَّز للمغامرة المقبلة.

قُرب الساعة العاشرة عاد والد «تختخ» ووالدته، فوجداه جالسًا في الشرقة يقرأ باهتمام، فقال والده: كنا نتصوَّر أنك نمت أو خرجت …

تختخ: لا هذا ولا ذاك؛ فقد اتصل بي المفتش «سامي» من القاهرة، وطلب مني البقاء في الإسكندرية يومًا أو يومَين، وهو يرجوك الموافقة على هذا الرجاء …

الوالد: شيء مضحك … لقد كنت أريد أن أطلب منك أن تتأخَّر يومًا أو يومَين في الإسكندرية؛ لأن هناك بعض الأعمال في انتظاري هنا، فطلباتنا إذن متوافقة …

تختخ: عظيم جدًّا، الآن سأذهب لأنام، فسيكون أمامي غدًا عمل كثير.

استيقظ «تختخ» مبكِّرًا في صباح اليوم التالي وكان يحس بانتعاش، وبعد أن ارتدى ثيابه جلس في الشرقة يتأمَّل البحر، والشمس تصعد في الأفق مسرعةً كأنما هي على موعد، وكان «زنجر» يجلس بجواره يبصبص بذيله في نشوة، كأنما يُحس هو الآخر أنه مقبل على مغامرة شيِّقة …

في الثامنة تناولت الأسرة طعام الإفطار، ثم نزل والد «تختخ» وبقي هو بجوار التليفون في انتظار مكالمة المفتش «سامي»، ولم يطل انتظاره؛ فقد دق الجرس وكان المفتش يتحدَّث: صباح الخير، إنني أكلمك من الإسكندرية في محطة الرمل … هل أنت جاهز؟

تختخ: إنني جاهز منذ فترةٍ طويلة …

المفتش: سنأتي لنأخذك … فما هو العنوان؟

تختخ: ٢٤ شارع عبد اللطيف الصوفاني بجوار جامع سيدي جابر …

المفتش: بعد ربع ساعة سنكون عندك …

كانت الدقائق تمر بطيئة، فقرَّر «تختخ» النزول إلى الشارع ومعه لفة من الملابس الداخلية للجاسوس ومعه «زنجر»، فأخذ يتمشَّى على الرصيف فترة، ثم ظهرت سيارة المفتش فأسرع إليها …

كان المفتش يبدو في أحسن حالاته، وقال ﻟ «تختخ» وهو يمد يده مصافحًا: لقد وضعنا للجاسوس كمائن في كل مكان، وفي المحطة البحرية حيث تُبحر السفن عشرات من رجالنا، ولا يمكن أن يفلت …

تختخ: إنني أفكِّر أيضًا في أن تضعوا كمائن على الطريق الزراعي والطريق الصحراوي؛ فقد يُفكِّر الجاسوس في خداعنا والعودة إلى القاهرة وركوب الطائرة.

المفتش: لقد وضعنا هذه الكمائن فعلًا، المهم الآن أن يتحرَّك الجاسوس سريعًا حتى يقع …

تختخ: إن عندي فكرة؛ لقد عثرت عند زيارتي الثانية لمسكن الجاسوس على بعض ملابسه الداخلية، وسوف أجعل «زنجر» يشمها، ثم أطوف به على البلاجات لعله يعثر على الجاسوس.

المفتش: إن هذا يستدعي جهدًا ووقتًا … لا أظن أن الجاسوس سيتردَّد على البلاجات؛ فليس عنده وقت للفسحة، ولكن هناك شيئًا آخر؛ إن بعض رجالنا يطوفون بالفنادق الهامة للسؤال عن سيدة بالأوصاف التي نعرفها. بالطبع سيكون هناك سيدات كثيرات لهن نفس الأوصاف، ويمكن «زنجر» أن يمارس نشاطه في الفنادق التي يُعثر فيها على سيدات موضع شبهتنا …

تختخ: هذه فكرة ممتازة، ولكن لعل الجاسوس نزل في شقةٍ خاصة.

المفتش: هذا ممكن، ونحن نعمل ما بوسعنا، فالإسكندرية مدينة كبيرة يسكنها أكثر من مليون، والعثور على شخص بين مليون شخص ليس مسألةً سهلة. كانت السيارة تسير مسرعةً على الكورنيش، و«تختخ» والمفتش يتبادلان الحديث، وفجأةً قال «تختخ»: لقد نسينا السيارة «الشيفروليه» السوداء، لماذا لا يُتابع رجالك السيارات التي من هذا النوع؛ إن العثور على سيارة بين عشرين أو ثلاثين ألف سيارة أسهل من العثور على رجل في مليون.

قال المفتش مقاطعًا: لم ننسَ ذلك؛ فبعض رجالي يطوفون بالجراجات للسؤال عن السيارات التي من هذا النوع وهذا اللون …

وصلت السيارة إلى مبنى مديرية الأمن في الإسكندرية، وكان المفتش «سامي» قد اختار غرفةً فيها لإدارة عملية القبض على الجاسوس، وكان فيها بعض الضبَّاط، حيث قدَّمهم المفتش إلى «تختخ» وعرَّفهم به، ثم جلسوا جميعًا يتحدَّثون، وكانت المكالمات التليفونية لا تنقطع من الأجهزة الكثيرة في الغرفة، وكانت كلها عن تحريات رجال الشرطة. وعلى خريطة لمدينة الإسكندرية كانت هناك أعلام يُحرِّكها أحد الضبَّاط عن تحرُّكات رجال الشرطة خلف الجاسوس، وفجأةً من بين الأحاديث التليفونية الكثيرة، قال أحد الضبَّاط للمفتش «سامي»: يبدو أن هناك أثرًا للجاسوس في أحد الأماكن …

قام المفتش فورًا إلى جهاز التليفون، وكان أحد رجاله يتحدَّث وسمع «تختخ» المفتش يقول: عظيم … معقول، سنكون عندك بعد لحظات، ثم وضع السمَّاعة والتفت إلى رجاله وإلى «تختخ» قائلًا: لقد عثرنا على أثر معقول؛ فهناك سيارة «شيفروليه» سوداء في جراج قريب … وصلت من القاهرة أول أمس ليلًا، وتركبها سيدة عجوز ويقودها سائق خاص، وقد خرجت السيارة من الجراج في الصباح، ولم تعد حتى الآن … هيا بنا.

تحرَّكت السيارة تُقِل الرجال، وجلس «تختخ» و«زنجر» في سيارة المفتش، فلمَّا اقتربوا من مكان الجراج تركوا السيارات في شارع جانبي حتى لا يلفتوا الأنظار إليهم، واتجه المفتش و«تختخ» و«زنجر» وأحد الضبَّاط إلى الجراج.

كان «الجراج» هادئًا، ويجلس أمامه رجلان من الواضح أنهما من عمَّاله، وكان الضابط الذي يلبس الملابس العادية، الذي عثر على السيارة مختفيًا وراء إحدى السيارات، فلمَّا شاهد المفتش ظهر مسرعًا، وبعد أن أدَّى التحية قدَّم للمفتش تقريرًا موجزًا عن معلوماته التي لم تخرج كثيرًا عن المعلومات التي قالها في التليفون.

قال المفتش: سنقف جميعًا بعيدًا عن الجراج، حتى لا نلفت انتباه الجاسوس، فإذا ظهرت السيارة فسنتركها حتى تدخل الجراج، ثم نُطبق على من فيها …

كان للجراج بابان فأحاط الرجال بهما … ووقفوا بعيدًا وقد وضعوا أيديهم على أسلحتهم، وكانوا جميعًا يرتدون الملابس العادية، فلم يكن أحد ليشتبه فيهم …

قال «تختخ» للمفتش وهم يقفون بعيدًا: أقترح أن أدخل أنا و«زنجر» إلى الجراج، ونتجوَّل أو نختفي في إحدى السيارات الواقفة؛ فمن الأفضل أن يكون أحدنا قريبًا من الجاسوس …

المفتش: إن هذا الجاسوس خطر جدًّا، وأخشى أن يُصيبك مكروه …

تختخ: لا تخف، وسأختفي في إحدى السيارات الواقفة حتى لا ألفت الأنظار.

فكَّر المفتش لحظات ثم وافق، فأسرع «تختخ» إلى «الجراج» … ولكن أحد الرجلَين الجالسَين أمامه تصدَّى له، فأسرع المفتش وتفاهم مع الرجل، فاعتذر ودخل «تختخ» إلى الجراج ومعه «زنجر»، فاختار سيارةً كبيرةً وفتح بابها، ثم جلس هو و«زنجر» وقد أخفى نفسه، ولم يُبقِ سوى عينَيه تراقبان …

مضت مدة طويلة وسيارات كثيرة تدخل وتخرج دون أن تظهر «الشيفروليه» السوداء، وأحسَّ «تختخ» بالقلق، وبدأت الأفكار السوداء تغزو رأسه؛ فقد يكون الجاسوس قد تنكَّر للمرة الثانية حتى لا يعرفه أحد، وقد تكون هذه السيارة التي ينتظرونها ليست هي سيارة الجاسوس المتنكِّر، وقد يكون الآن في طريقه إلى مكانٍ آخر أو استطاع الإفلات من رجال الشرطة وغادر البلاد كلها …

كانت لفَّة الثياب الداخلية للجاسوس في يده ففتحها، وقرَّبها من أنف «زنجر» الذي أخذ يشمها بعمق وينظر إلى «تختخ» كأنما يسأله: متى أنطلق للبحث عن الرجل المطلوب؟ وأخذ «تختخ» يربت على رأسه ويُهدِّئه في انتظار اللحظة المناسبة لتركه …

ونظر «تختخ» في ساعته، كانت قد أشرفت على الحادية عشرة صباحًا، ومعنى هذا أنه قضى في جلسته نحو ساعتين، وأحسَّ بعضلاته تؤلمه؛ لأنه لم يتحرَّك مطلقًا خلال هذه الفترة، وسمع «تختخ» إحدى السيارات مقبلةً فرفع رأسه قليلًا، ولكنها لم تكن السيارة المطلوبة؛ فقد كانت من طراز «فيات» بيضاء اللون، وكان يقودها شاب أسود الشعر، وكاد «تختخ» يعود إلى جلسته لولا أن السيارة وقفت قريبًا منه، ثم أحسَّ بجسد «زنجر» يتوتر فجأة، وإذا به يُحاول أن يُفلت من يده! أخذ «تختخ» يُحاول إسكات «زنجر» ولكن الكلب لم يتوقَّف، بل حاول القفز من نافذة السيارة. فلم يجد «تختخ» بُدًّا من إطلاقه.

وكانت السيارة «الفيات» قد وقفت ونزل راكبها، واتجه إلى الخارج وهو يحمل حقيبةً جديدة، وكم كانت دهشة «تختخ» عندما وجد «زنجر» يقفز بسرعة إلى الرجل وهو ينبح بشدة، ويدور حوله وهو مستمر في النباح! ولكن الرجل لم يلتفت إليه، بل استمر في سيره كأن شيئًا لم يحدث …

شيء ما في نفس «تختخ» أشعره أن «زنجر» يُريد أن يقول شيئًا، ففتح باب السيارة فجأةً ونزل، ولفتت هذه الحركة انتباه الشاب الذي يتبعه الكلب، فالتفت بسرعة خارقة وهو يضع يده في جيبه الخارجي، فلمَّا رأى «تختخ» عاد يستدير ببساطة ثم يواصل سيره. وكاد يخرج من الجراج لولا أن «زنجر» في هذه اللحظة قفز عليه وهو ينبح بوحشية، فأدرك «تختخ» أنه لا شك أمام الجاسوس، ماذا يفعل؟ إن الرجل مسلح، ولو اشتبك معه لما تردَّد الرجل في إطلاق الرصاص عليه، وإذا تركه فسوف يُفلت من الحصار، ولعلها تكون آخر مرة يراه فيها.

كان الرجل قد ألقى الحقيبة على الأرض، والتفت يُحاول الخلاص من الكلب وهو يسب ويلعن، فصاح «تختخ» في صوت مرتفع: يا حضرة المفتش … يا أستاذ «سامي». وفي لحظات ظهر رجال الشرطة أمام الجراج، فلمَّا شاهدهم الجاسوس أسرع إلى داخل الجراج مرةً أخرى، وأخذ يجري للخروج من الباب الآخر، وكان المفتش «سامي» قد ظهر فأخرج مسدسه، ثم أطلق منه رصاصةً بجوار الجاسوس، فلم يتردَّد الجاسوس وأخرج مسدسه هو الآخر، وأطلق رصاصةً على المفتش «سامي» …

كان «تختخ» في منتصف الجراج بين الجاسوس وبين المفتش، فأحسَّ بالرصاصتين وهما تُصفِّران بجانبه، وأدرك أنه قد يُصاب برصاصة، ثم سمع المفتش يصيح: انبطح على الأرض … وكان هو قد قرَّر ذلك فرمى نفسه على الأرض، ثم أخذ يتدحرج حتى اختفى تحت إحدى السيارات، وأخذ يُراقب الرصاص والمطاردة. كانت الحلقة تضيق على الجاسوس، ولكنه لم ييأس؛ فقد عاد مسرعًا إلى سيارته وهو يُطلق الرصاص في كل اتجاه، ثم دار بها دورةً واسعة، وحاول الخروج من باب الجراج الأمامي، ولكن رصاص رجال الشرطة مزَّق العجلات، فدارت العربة حول نفسها ثم اصطدمت بجدار الجراج، وقبل أن يتحرَّك الجاسوس حركةً أخرى كان الرجال قد أحاطوا به من كل جانب، وأخرجوه من السيارة كالفأر الذي وقع في المصيدة …

خرج «تختخ» من تحت السيارة يبحث عن «زنجر» الذي كان هو الآخر يُسرع إلى «تختخ»، فاحتضنه بإعزاز؛ فلولاه لكان الجاسوس — الذي تنكَّر للمرة الثانية وصبغ شعره — قد أفلت إلى الأبد. وأقبل المفتش يطمئن على «تختخ» الذي كانت ثيابه قد اتسخت تمامًا، فقال المفتش ضاحكًا وهو يربت على كتفه: لعلك ستأخذ علقةً ساخنةً من الوالدة …

فقال «تختخ»: لا بأس بعلقة ساخنة أو باردة ما دام الجاسوس رقم ٣٣٣ قد وقع …

المفتش: سنصعد الآن إلى المكان الذي يعيش فيه لتفتيشه، فالمهم هو أن تكون الوثائق معه ولم يُهرِّبها من البلاد.

وصعد «تختخ» مع المفتش إلى غرفة في بنسيون كان يسكنها الجاسوس، وأرشد هو رجال الشرطة إليها، ولم يطُل البحث طويلًا؛ فقد كانت الوثائق السرية قد وضعها الجاسوس في جيب سحري بإحدى الحقائب، وكان ينوي مغادرة البلاد عن طريق السلوم.

فقال «تختخ» معلِّقًا: إذن كان سيمر علينا في مرسى مطروح.

عاد «تختخ» إلى منزله في تاكسي بعد أن ترك رجال الشرطة مشغولين باستجواب الجاسوس، وكما توقَّع المفتش، قامت والدته بتأنيبه تأنيبًا شديدًا على اتساخ ملابسه بالوحل والشحوم، وقد تلقَّى «تختخ» حملة التأنيب وهو يبتسم، ويربت على رأس «زنجر» وهو يضع له كميةً من اللحم لم يُقدِّمها له من قبل …

وفي صباح اليوم التالي كانت السيارة تحمل الأسرة إلى مرسى مطروح، وكان «تختخ» يجلس في الكرسي الخلفي يضع يدًا على رأس «زنجر» ويُمسك بيده الأخرى إحدى جرائد الصباح، وكان مكتوبًا بها بالخط العريض …

القبض على أخطر جاسوس

وكان «تختخ» يبتسم في سعادة، وهو يتذكَّر المغامرة الخطيرة التي انتهت أمس نهايةً طيبةً برغم أن بدايتها كانت تُؤكِّد أنها لن تنتهي هذه النهاية … على الإطلاق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤