الفصل الأول: عصر الابتداع

(أ) الشعر

لقد تواضع مؤرخو الأدب الإنجليزي على أن يُطلقوا على الثلث الأول من القرن التاسع عشر «عصر الابتداع»١ ليميزوه من عهد الاتباع٢ الذي كان سائدًا قبلُ؛ ولعله من الخير — لكي نفرق بين «الاتباع» و«الابتداع» — أن نعيد هنا ما ذكرناه في هذا الصدد في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

«لسنا نريد بلفظ الاتِّباع أن الأدب يستقي وحيه من الآداب اليونانية والرومانية القديمة فحسب، فذلك وحده لا يكون اتباعًا، لأن الأدب في عصر «اليصابات» كان يستوحي تلك الآداب القديمة، ومع ذلك فهو أدب ابتداعٍ خالص؛ وإنما نعني مجموعة من الخصائص مجتمعة؛ فالاتِّباعيون يعنون كل العناية باللفظ قبل المعنى، بالصورة قبل المادة؛ هم يكثرون من القيود التي يراعون فيها أن تكون مستمَدَّة من الآداب القديمة، ثم تكون البراعة عند الأديب أن يحافظ على تلك القيود؛ والشاعر الابتداعي يهتم بالمعنى وبالمادة التي يريد أن يعبر عنها، ثم لا يتقيد بشيءٍ حين يختار لنفسه أداة التعبير، لأنه حُرٌّ يختار أنسب أداة تُخرج المعنى الذي يريد إخراجه قويًّا سليمًا؛ أما الشاعر الاتباعي فيبدأ بالتسليم بضرورة صورةٍ معينة للتعبير، ثم يحاول أن يعرب عما في نفسه في حدود تلك الصور.

وقد يتشابه الاتباعي والابتداعي في المعاني، لكن هنالك سماتٍ تُميز أحدهما من الآخر؛ فالكاتب الاتباعي يميل إلى السخرية والهجاء، وإلى أن يكون أدبه تعليميًّا تهذيبيًّا؛ ويحب أن يصف حياة المدنية لا حياة الريف، ووصفه موضوعي يتعلق بالشيء الموصوف أكثر منه ذاتيًّا يعبر عما يجيش في نفس الأديب الواصف؛ على نقيض الكاتب الابتداعي، فهو يميل نحو الطبيعة كما تبدو في كافة صورها، ومن بينها الحقول والأزهار والحياة الريفية، ويميل كذلك إلى وصف الغريب دون المألوف، والمغامرة دون الاستقرار، ثم هو في وصفه ذاتيٌّ يدوِّن خلجات نفسه إزاء ما يصف؛ ولئن كان الأديب الاتباعي يريد أن يعلم قارئه درسًا بما يكتبه فإن الأديب الابتداعي يكفيه أن يغنِّي بما في قلبه ولا يعنيه بعد ذلك أفاد القارئ شيئًا أو لم يفد؛ والاتباعي يحتكم إلى العقل ويلجم العواطف الحادة، أما الابتداعي فيرخي العنان لخياله ولا يكبت شيئًا من عواطفه، بل — على نقيض ذلك — لا يرى الأدب إلا أداة للتعبير عن تلك العواطف.»٣ كانت هذه الفترة التي نتحدث عنها الآن ابتداعيةً خصيبة الإنتاج في شعرها ونثرها، لكن كانت للشعر السيادة على النثر، ولعلنا في هذا نجد فارقًا آخر يميز لنا أدب الابتداع عن أدب الاتباع؛ فقد كانت للنثر السيطرة في الفترة الاتباعية التي امتدت طوال القرن الثامن عشر تقريبًا، وذلك بمعنيَين، الأول أن الإنتاج المنثور كان أغزر من الإنتاج المنظوم، والثاني أن الإنتاج المنظوم ذاته كان أقرب إلى المنثور صُبَّ في قوالب الشعر منه إلى الشعر الخالص، ذلك لأنه كان عصرًا سادت فيه أحكام العقل على أحكام الخيال، وأحكام العقل بطبيعتها تصغي إلى قواعد المنطق، والمنطق ينصبُّ في قوالب النثر على نحوٍ أيسرَ جدًّا مما يجد وسيلة تعبيره في صور الشعر؛ أما الفترة التي نحن بصددها الآن فقد كان الأمر فيها على عكس ذلك؛ كان للخيال المنزلة الأولى، ولذلك ساد الشعر على النثر بمعنيَين كذلك: الأول أن الإنتاج الشعري في ذاته كان أغزر من الإنتاج النثري، والثاني أن الأدب النثري لم يعد يُعنى بتدوين الحقائق بمقدار ما عُني بالتعبير عن الخيال؛ لم يكن ميدان النثر تاريخًا أو اجتماعًا أو فلسفة، وإنما كان أداة للتعبير عن مشاعر الكاتب وخواطره الذاتية على نحو ما تكون القصيدة أداة الشاعر في ذلك؛ فإن أردت طابعًا مميزًا لهذه الفترة الابتداعية التي نقدم لك تاريخها، فقل إنه تعاون الشعر والنثر معًا على أن يجريا مع خيال الأديب؛ فلم يُنشئ الناثرون نثرهم بغية أن يعلِّموا قراءهم أو أن يكونوا وسيلة لنشر مذهبٍ بعينه في السياسة أو الاقتصاد، بل لم ينشئ الناثرون نثرهم إذ ذاك ليقوِّموا خلقًا معوجًّا أو رأيًا سقيمًا، إنما أنشئوا نثرهم ليعبروا عما يجيش في صدورهم وكفى؛ فإن قال قائل: ألم يكتب الأدباء في النقد الأدبي، والنقد الأدبي — مهما قيل فيه — فهو مبادئُ نظرية يصطنعها الأديب الناقد ويطبقها على ما ينقد؟ هذا صحيح، لكن النقد إذ ذاك كان أيضًا تعبيرًا عن نفس الأديب، كان الأديب يقرأ إنتاج غيره ليرضى عنه أو يسخط، ثم يصب هذا الرضا أو هذا السخط في إنشاءٍ أدبي ليشرك القارئ معه في شعوره، أو بعبارةٍ أخرى كان الناقد يحاول أن يفتح عينَيْ قارئه إلى مواضع الجمال، لا أن يسوق له الحجج التي تقنعه بوجود الجمال في إنتاجٍ معيَّن؛ لم يكن الناقد قاضيًا يزن الأمور بعقله ليصدر في النهاية حكمًا عادلًا، إنما كان الناقد أقرب جدًّا إلى رجل يقرأ لك ليبصِّرك بسر الجمال فيما يقرأ؛ ولسنا نريد بذلك أن الناقد الابتداعي قد حرم على نفسه أن يسجل حكمه، لكن العبرة هنا بطريقة الأداء، فكل الفرق بين الشاعر والناقد أن الأول يرى الجمال في الكون فيعبر عنه لينتشي قارئه بسحر ما فتنه هو، والثاني يرى الجمال في إنشاء الأدباء فيعبر عنه ليمتع قارئه بما استمتع به هو في قراءته.

كان أدباء العصر الابتداعي «أفرادًا» بكل ما في الفردية من طيب وخبيث؛ هم «أفراد» بمعنى أن الواحد منهم لا يجري قلمه إلا بتجربته الشخصية الفردية الذاتية التي لا يشاركه فيها فردٌ آخر، ولتكن هذه التجربة النفسية بعد ذلك ما تكون؛ وثقوا بأنفسهم وأخلصوا لمشاعرهم، واستمعوا لخلجات نفوسهم، ثم أجروا كل ذلك في شعر ونثر لا يتهيَّبون شيئًا ولا يحول دونهم شيء؟ وهم «أفراد» بمعنى الفردية الهادم لأوضاع المجتمع، فليس للمجتمع ولا لأوضاعه وقواعده عندهم المكانة الأولى، فالفرد أولًا، وللجماعة أن تكون بعد ذلك أو لا تكون.

ولئن كان من العسير في كثير من الأحيان أن تحدَّد بداية للفترات الأدبية — لأنها تتداخل — فمن حسن الحظ ألَّا يتعذر علينا هنا أن نجد الحادث الأدبي الفريد الذي يحدِّد بداية العصر الابتداعي الذي نتحدث عنه، وذلك هو صدور ديوان «الحكايات الوجدانية المنظومة»٤ عام ١٧٩٨، أخرجه الشاعران «كولردج»٥ و«وردزورث»٦ فجاء فاتحة عهدٍ جديد؛ فهو جديد في لغته، لأنه لم يعبأ بما جرى عليه الشعراء من أن يكون للشعر لغةٌ خاصة، وهو جديد في موضوعه لأنه لم يجعل للشعر موضوعًا خاصًّا؛ فكل شيء في الطبيعة والحياة الإنسانية جدير أن يكون موضوعًا للشعر إن تحركت له نفس الشاعر. وحسبنا هذا القدر من التقديم للعصر، ليراه القارئ في رجاله.

(١) صموئيل تيلر كولردج Samuel Taylor Coleridge (١٧٧٢–١٨٣٤م)

هذا بغير شك في طليعة الرواد الذين رفعوا علم الحركة الابتداعية في الأدب الإنجليزي في أول القرن التاسع عشر. ولم يكن كولردج غزير الإنتاج في شعره، ولم يبلغ تمام الإجادة إلا في قليل أنشأه، ولكنه في هذا القليل الجيد قد بلغ الذروة التي ليس بعدها مطمع لشاعر. وليست مكانة «كولردج» في تاريخ الأدب مرتكزة على جيد شعره فحسب، بل إنها لتعتمد كذلك على الأثر العميق الذي كان له في عصره، فكم من رجل من أعلام الأدب يدين في ظهوره ونبوغه إلى «كولردج»! فهذا «سَذِي»٧ ظل سابحًا في قراءة الكتب دون أن يبدي شيئًا من علائم فطرته الأدبية حتى اتصل به «كولردج»، بل هذا «وردزورث»٨ نفسه لم يكن قد أنشد من شعره الجيد شيئًا يذكر حتى عرفه «كولردج»، ثم قل ما شئت في مبلغ أثره في «لام»٩ الذي ربطته به أواصر الصداقة منذ الصبا، حتى «هازلت»١٠ الذي لا تكاد تجد بين رجال الأدب من له مثل كبريائه واعتداده بنفسه، تراه يعترف في صراحة أنه لم يتعلم شيئًا من رجل كائنًا من كان ما خلا «كولردج»، بل ماذا تقول في هذا الشاعر الذي غير بفلسفته مجرى الفلسفة في بلاده؟ ولقد قيل صدقًا إنك توشك ألَّا تجد حركةً أدبية سواء أكانت في الشعر أم في النثر — ما بين العام الذي أخرج فيه مع زميله «وردزورث» ديوان «الحكايات الوجدانية المنظومة»١١ (١٧٩٨م) والعام الذي فارق فيه الحياة (١٨٣٤م) — توشك ألا تجد بين هذين العامَين إنتاجًا في الشعر أو في النثر لم يتأثر بكولردج بطريقٍ مباشر أو غير مباشر؛ فلو وضعنا نصب أعيننا هذا النشاط الروحي العجيب، الذي كان مصدر وحي لرجال الأدب في إنجلترا جميعًا مدى ثلث قرن، لما أدهشتنا قلة إنتاجه، بل لأخذتنا الدهشة كيف استطاع أن ينتج ما أنتجه!

التحق «كولردج» بجامعة كيمبردج ولكنه غادرها ولم يظفر بدرجتها الجامعية، ولم يلبث أن تفرغ بجهده كله للأدب، ولم يشأ له الله أن يعيش في هدوء وميسرة، فما فتئ، شاعرنا قلق النفس جوَّالًا يكتنفه الغموض، يدمن على الأفيون إدمانًا يبلغ به حد الإفراط، ولم يكن على وجه الجملة مستقيم السيرة في حياته الخاصة، فما كان أبعد الفرق بين سلوكه وبين ما يبشِّر به من مبادئ الأخلاق! ولا عجب أن تراه يضع لنفسه الخطط فيما ينبغي أن يكتب، ثم تذهب الخطط الموضوعة هباءً لأن صاحبها لا يجد فراغ الوقت وهدوء البال اللذين يعينانه على تنفيذ ما يريد لنفسه!

انصرف «كولردج» ببعض جهده الأدبي إلى الصحافة التي ارتفعت أجورها عندئذٍ بحيث تكفيه موردًا يغنيه عن السؤال لولا اضطراب حياته، لكنه لم يتردد في قبول ما كان المريدون الأغنياء يبعثون به إليه من المنح، بل لم يتردد في كثير من الأحيان أن يلتمس منهم العطاء التماسًا، ومع ذلك كله ناء بحمل أسرته، فألقى بعبء زوجته على عاتق عديله «سَذِي»، وأخذ يضرب في أنحاء الأرض، آنًا في لندن وآنًا في غيرها، ثم ألقى عصاه آخر الأمر في لندن، حيث التفَّ حوله نفر من أدباء الشباب، أخذ يمدُّهم بالوحي حتى وافته منيته.

كان في طليعة ما أنتجه كولردج «سقوط روبسبيير»١٢ الذي اشترك في تأليفه مع «سَذِي» ونشراه سنة ١٧٩٤م، ولم يكن أيٌّ من الأديبَين قد كشف عن موهبته الصحيحة بعدُ. ثم نشر بعد عامَين ديوانًا يحوي ما أنشأه من الشعر، وكان في أثناء ذلك يحاضر في الأدب فيعرض وجهة نظره في قواعد النقد، ويقوم بتحرير صحيفةٍ أدبية. وفي عام ١٧٩٨م أخرج مع «وردزورث» ديوان «الحكايات الوجدانية المنظومة» الذي جاء نشره بمثابة الإعلان عن قدوم عهدٍ جديد في الشعر؛ وقد نُشرتْ له في هذا الديوان طائفة من أجود شعره. نخص بالذكر منها قصيدة «النوتي الهرم»١٣ ثم نشر بعد ذلك قصيدة «قُبْلا خان»١٤ وقصيدة «كِرِسْتَبِل»١٥ ومجموعة من محاضراته في النقد الأدبي أطلق عليها «سيرة أدبية»؛١٦ وسنعود بعد قريب إلى عرض قصيدتَيه العصماوَين «النوتي الهرم» و«كرستبل» وترجمة نماذج منهما.

كان «كولردج» روحانيًّا في نظرته إلى الوجود، فالأشياء المادية عنده لا تنحصر حقائقها في مادتها، بل هي وسائل للتعبير عن روح الوجود الكامنة وراءها؛ فأنت تعلم أن الفلاسفة — منذ نشأة الفلسفة — ينقسمون شعبتَين، وكل فيلسوف إما أن ينتمي إلى هذه أو تلك؛ ففريق يرى أن الأشياء مركباتٌ مادية، وإن اختلف بعضها عن بعض في طريقة التركيب؛ وفريقٌ آخر ينفذ ببصره خلال سجف المادة البادية فيرى وراءها فكرةً أو روحًا اتخذت من هذه الأشياء التي نراها وسيلة للتعبير عن وجودها، ومن هذا الفريق كان أفلاطون. وبهذه النظرة الأفلاطونية أخذ «كولردج» ولم يكفه أن يأخذ بالعقيدة لنفسه، بل طفق يذيعها في كل ما يكتب من نثر، وكانت الفلسفة الألمانية — فلسفة كانْت مثلًا — أقرب ما تكون لهذه النظرة التي ارتضاها الشاعر لنفسه، فأخذ ينشر بين قرائه من الإنجليز شيئًا من آراء الفلاسفة الألمان، فيما يكتب لهم من سياسة ودين ونقدٍ أدبي وفلسفة؛ فضع هذا الأساس المشترك نصب عينك إذا أخذت تقرأ شيئًا من نثر «كولردج» يبدُ لك الكاتب وحدةً متجانسة على تباين الموضوعات التي أدار فيها الفكر وأجرى بها القلم، وإلا لألفيت مقالاته أشتاتًا يُعْوِزها اتحاد الروح والغاية كأنما كتبها رجالٌ عدة.

وتستطيع كذلك أن تلمس في نثره — وفي شعره — طابعَين آخرَين؛ أولهما دراسة لألفاظ اللغة ومآخذها، وثانيهما درايته بحقائق النفس البشرية، فهو — من حيث هذه الخاصة الثانية — يكاد يدرك بقوة البداهة ودقة الملاحظة ما ينتهي إليه العالم النفسي بعد بحث وتجريب.

ولسنا نريد أن نطيل الوقوف عند «كولردج» الناثر، لأنه قبل كل شيء شاعر، وشاعر من قادة الشعراء، وأعجب العجب في إنتاجه الشعري أنه يكاد كله أن يكون ثمرة عامٍ واحد، (١٧٩٧-١٧٩٨م) فكل قصيدة من جياد قصائده — التي خلَّدته شاعرًا — تم إنشاؤها أو وضع أساس بنائها في تلك الفترة الوجيزة من حياته، فحياته الشاعرة — على خلاف كثير من الشعراء — لم يتدرج إليها النضوج قليلًا قليلًا بحيث تستطيع أن تجد لتطورها بدايةً وختامًا يتخلَّلهما نموٌّ هنا وهبوط هناك مما تقتضيه عادةً ظروف البيئة وعوامل النفس ودوافعها إزاء تلك الظروف؛ إنما جاءه النضوج الشعري فجأة وزال عنه فجأة، كأنما هو الثمرة تبلغ تمام إيناعها في لحظة ثم لا تكاد تُيْنع حتى تلفحها السموم فتذوي. ولو قرنَّا هذه الظاهرة في شعره بما رويناه عن نثره، تبيَّن لنا أن الرجل كأنما آمن بأن رسالته في نشر المبادئ والأصول أكثر منها في الخلق والإبداع على أساس ما نشر من مبادئ وأصول. ولعل إيمانه بقدرته على قرض الشعر لم يكن شديدًا؛ فانتهى به ذلك إلى قصر في أمد شاعريته وقِلَّة في نتاجه الشعري على السواء، وما أبعد الفرق في ذلك بينه وبين صديقه وردزورث، وإن يكن الصديقان قد التقيا في وجهة نظر واحدة؛ كولردج يبسط أصولها، ووردزورث ينشئ القصيد على أساسها.

لننتقل الآن إلى عرض قصيدتَيه «كرستابل» و«النوتي الهرم»، وهذه القصيدة الثانية نشرت له عام ١٧٩٨م في الديوان المشترك الذي أخرجه مع زميله وردزورث ليكون لهما بمثابة الإعلان عن مذهبهما الجديد في الشعر، أعني ديوان «الحكايات الوجدانية المنظومة» الذي سبقت الإشارة إليه؛ وكلتا القصيدتَين أنشئت في العام الخامس والعشرين من عمر الشاعر، وهو أغزر أعوام عمره إنتاجًا، والقصيدتان تمتازان بصفةٍ شعريةٍ عجيبة لعلها أخصُّ ما يميز الشعر من صفات، تلك أنهما تنمَّان عن إحساسٍ مرهف واغتباطٍ مرح بالجمال ثم بقوة هذا الاغتباط وذلك الإحساس يسريان إلى نفس القارئ، وهما بعدُ منظومتان في أسلوب «الحكاية المنظومة»١٧ بما لهذا الأسلوب الشعري القديم من تقاليد، وهما «ابتداعيتان»١٨ جريئتان من الخيال البديع المبتكر، تحركان في القارئ ميله الفطري إلى الرواية عن الأمور الخارقة للطبيعة؛ وربما كان الفارق الأساسي بين كولردج وصديقه وردزورث في الشعر هو هذا: كولردج يروي عن الخارق فيخيل لقارئه أنه يروي له عن شيءٍ يجري مع الطبيعة المعهودة مجرى الإلف والعادة، ووردزورث على عكس ذلك يحكي لقارئه عن أشياء يألفها فعلًا في حياته الجارية لكنه يكاد يفتن قارئه عن حسه الواعي بالحياة الواقعة فيُخيل له أنه يقرأ عن أشياء لم تقع عليها عين من قبلُ.

ولئن كان الإنسان نزَّاعًا بفطرته إلى القَصص يُروى عن الكائنات الخارقة للطبيعة المألوفة، فتراه يُفتَن بما يُروى له عن الغيلان والجن والمردة — وعلى أوتار هذه النزعة الفطرية أنشد كولردج قصيدتَيه هاتين — إلا أن هذه الفطرة المغروزة في طبيعته لم تبقَ على حالٍ واحدة في مراحل الرقي العقلي؛ فالإنسان في العصر الحديث لا ينخدع بمثل ما كان ينخدع به الأجداد الأولون في سذاجتهم، وإذن فشاعر العصر الحديث إن أخذ نفسه بإشباع هذا الميل الفطري في الإنسان، فلا مندوحة له عن إتقان فنِّه وإرهاف حسِّه وخفَّة لمسه فيما يروي لنا من تهاويل، حتى تجوز خدعته الفنية على عقولنا التي دقَّ منطقها وشُحذت قدرتها على النقد، وها هنا نبوغ شاعرنا كولردج، وإنه ليقال — على سبيل الجد أو الفكاهة — إن إدمانه على «الأفيون» قد أكسبه هذه القدرة على ما يشبه الأحلام في الوعي، فيروي لك شيئًا لا تدري إزاءه أأنت بصدد حلم أو حقيقة.

وهاك شيئًا من قصيدة «كرستابل» التي لم يُتم الشاعر بناءها كما أراد له أن يكون؛ إذ أنشأ منها جزءًا وبعض جزء من أربعة أجزاء، وهذا الذي نقدمه إليك بداية الجزء الأول:

انتصف الليل في جيران ساعة الحصن،
وأيقظت البوم الديك فصاح
تو – وت! – تو – وو!
ثم أنصت مرةً أخرى؛ أنصت إلى الديك الصانع:
كيف صاح في شبه النعاس

•••

وللسيد «ليولين» — وهو البارون الغني —
كلبةٌ عقور بغير أسنان،
ومن تحت الصخرة، وهي في كُنِّها،
أجابت الساعة في دقاتها،
فأربع لأرباعها واثنتا عشرة للساعة في تمامها،
وما انفكت الكلبة — أشمس الجو أو أمطر —
تعطيك ست عشرة نبحةً لا تزيد عليها بالصياح؛
ويقال إنها ترى كفن سيدتي.

•••

أكانت الليلة باردةً معتمة؟
كانت الليلة باردة، لكنها غير معتمة؟
وانتشر في السماء سحابٌ رماديٌّ رقيق
لا يحجب السماء ولكن يغطيها،
والقمر خلف السحاب في تمِّه،
لكنه يبدو ضئيلًا أدكن؛
الليلة باردة والسحاب رمادي،
والشهر شهر قبل مايو،
والربيع يدنو رويدًا إلى هذي الربوع.

•••

والغادة الجميلة «كرستابل»
التي يحبها أبوها حبًّا شديدًا
ماذا استبقاها إلى هذه الساعة المتأخرة في الغابة؟
على ربع ميل من بوابة الحصن؟
لقد امتلأت بالأحلام ليلتها البارحة،
بالأحلام عن خطيبها الفارس؛
أحلام أنَّتْ لها ثم وثبتْ
بعد أن كانت في فراشها غارقة في نعاس؛
فقد أرادت أن تضرع بالدعاء في الغابة انتصف فيها الليل،
بالدعاء لحبيبها أن يسعد، وحبيبها في منأًى بعيد.

•••

تسللت خلال الطريق صامتة
تزفر تنهداتها لينةً خافتة،
وقد تعرَّت السنديانة من كل خضرتها،
ولم يكن ثمة إلا أعلاق من حشائش،
فركعت عند جذع السنديانة الشامخة،
وأخذت تدعو في سكوت.

•••

وبغتة فزعت الغادة واقفة؛
الغادة الجميلة «كرستابل»!
فقد سمعت أنَّةً من قريب، جد قريب،
لكنها لم تدرِ من أين هذا الأنين،
فيظهر أن قد جاءها من وراء
السنديانة العتيقة الضخمة ذات الصدر العريض!

•••

الليلة باردة والغابة جرداء!
أهي الرياح الباردة التي بعثت ذاك الأنين؟
لكن الهواء ساكن لا ريح فيه
تهز خصلة شعر
للغادة الجميلة تدلت فوق خدها!
لم تكن ثمة ريح ترقص
الورقة الحمراء الوحيدة، الأخيرة من نوعها،
الورقة التي ما ونيت راقصة كلما واتتها الظروف أن ترقص،
الورقة العالقة في خفة، العالقة في ارتفاع
فوق الغصن الأعلى الذي يرنو إلى السماء.

•••

صه أيها القلب النابض، قلب «كرستابل»!
يا مارية اليسوع إنها في حماك!
وطوت ذراعَيها تحت معطفها،
واسترقت خطاها إلى جانب السنديانة الآخر،
فماذا رأت هناك؟

•••

رأت هنالك فتاةً باهرة الضياء
ارتدت ثوبًا من حريرٍ أبيض،
وبدت كالطيف وضاءة في نور القمر،
نقص بياض عنقها من بياض ثوبها؛
فجيدها الأملد والذراعان كانت عارية،
وقدماها حافيتان شفَّتا عن زرق عروقها،
وسطعت ببريقها الأخاذ هنا وهناك،
جواهر انعقدت في ثنايا شعرها؛
ما أرعبه منظرًا أن تقع العينان في ذاك المكان
على امرأةٍ في مثل تلك الثياب الفاخرة!
إنها جميلة دونها كل جميل!
«مارية يا أماه عونك الآن!»
ثم قالت كرستابل: «من عساكِ أن تكوني؟»

•••

فأجابت المرأة الغريبة من فورها
في صوتٍ خافتٍ رخيم:
«اعطفي عليَّ في موجع كربتي
أكاد أعيى عن النطق من نَصَبٍ هدَّ قوَّتي
مدِّي إليَّ يدًا ولا تخافي!»
فقالت كرستابل: «كيف جئت إلى هذا المكان؟»
فطفقت الفتاة عن ذلك تجيب

•••

في صوتها الخافت الرخيم:
إن بعلي ذو حسبٍ شريف
واسمي «جيرالدين»
أمسك بي في صبيحة الأمس خمسة من رجال القتال؛
أمسكوا بي أنا، نعم أنا المرأة العزلاء!
وعنوة وبالإرهاب كمَّموني لا أصيح،
وشدُّوني على جوادٍ مسرجٍ أبيض،
وانطلق بي الجواد في سرعة الريح،
وامتطوا جيادهم خلفي راكضين
يركضون في سرعة البرق على غُرِّ الجياد،
واجتزنا معًا ما اجتزنا من عتمة الليل؛
وربِّ السماء الذي به أعوذ
ما أدري من هؤلاء الرجال!
كلا ولا أدري كم لبثت ها هنا
(فقد كنت في غيبوبة لا أعي)!
كم لبثت مذ جاءني أحدهم، أطول الخمسة جميعًا،
وحملني عن ظهر الجواد،
حملني امرأةً منهوكة القوى أشرفت على الموت؛
وتمتم رفاقه بكلمات،
فوضعني الرجل تحت هذه السنديانة
وأقسم لي أنهم عائدون على عجل،
ولست أدري أين ذهبوا؟
وخُيِّل إليَّ منذ دقائق أني سمعت
صوتًا كأنه صوت جرس لحصن؛
مدِّي إليَّ يدًا وأعيني
امرأةً منكودة الحظ على القرار (وختمت حديثها).

وهكذا يمضي الشاعر في حكاياته عن «كرستابل» و«جيرالدين»، ولعلك قد أدركت ما زعمناه من أن عدوى إحساس الشاعر تمتد إليك فتسايره وأنت مخدوع عن وعيك، فلا تدري أهو حلم ما تقرأ أم أمر من الواقع! ولا بد لك أن تُعوِّض بخيالك ما لا بد أن تفقده الترجمة من حلاوة في اللفظ وإيقاع في الوزن والقافية. وعلى نفس هذا المنوال نسج آيته الكبرى «النوتي الهرم» وهاك مثالًا منها، وهو جزء من سبعة أجزاء.

(يقابل النوتي الهرم ثلاثة رجال من ذوي النخوة جاءتهم الدعوة إلى حفلة عرس فيستوقف أحدهم.)

إنه نوتي هرم،
استوقف رجلًا من ثلاثة؛
«أستحلفك بلحيتك الطويلة البيضاء، وعينك الوضاءة، إلا
أخبرتني فيم استوقفتني؟

•••

إن دار العريس فتحت أبوابها
وإني له أقرب قريب،
واستُقبل الأضياف، والوليمة قد أُعدَّت
ألا تسمع طنين الفرح؟»

•••

فيمسكه من يده الهزيلة
ويقول: «هنالك كانت سفينة …»
«أمسك! خلِّ يدي، أيها السفيه ذو اللحية البيضاء!»
فأرخى قبضته عن يده،

(ضيف العرس تسحره عين النوتي العجوز ويرى نفسه مجبرًا على الوقوف ليستمع إلى حكاية.)

لكنه بوميض عينه أمسكه،
ووقف ضيف العرس لا يستطيع حراكًا،
ويصغي كأنه الطفل في عامه الثالث،
وتتم للنوتي إرادته.

•••

وجلس ضيف العرس على صخرة
لا يملك إلا أن يستمع!
وهكذا تحدث ذلك الرجل العجوز؛
ذلك النوتي ذو العين البراقة:

•••

«هتفوا للسفينة وأخلوا لها الميناء
وهبطناها في مرح طروب
حذاء الكنيسة، حذاء التل،
حذاء المنار.»

(يحكى النوتي كيف سارت السفينة تجاه الجنوب والريح مواتية والجو معتدل.)

«أشرقت الشمس ذات اليسار،
إذ صعدت من جوف المحيط،
وسطعت وضاءة، ثم ذات اليمين
هبطت الشمس إلى جوف المحيط،

•••

ثم ظلت كل يوم في صعود
حتى حاذت القلع عند الزوال …»
هنا ضرب ضيف العرس على صدره
إذ طنَّ في سمعه ضرب العازفين.

(يسمع ضيف العرس موسيقى الفرح لكن النوتي يمضي في حكايته.)

والعروس إلى القاعة قد أقبلت
حمراء كأنها وردة
والمنشدون في طرب تقدموها
يومئون بالرءوس.

•••

ضرب ضيف العرس على صدره
ولكنه لم يملك سوى أن يستمع،
وهكذا تحدث ذلك الرجل العجوز؛
ذلك النوتي ذو العين البراقة.

(يعصف بالسفينة عاصفة تجذبها نحو القطب الجنوبي.)

وهنا هبَّت العاصفة
قويةً عاتية
تضرب بجناحَيها العريضَين
وتقتفينا صوب الجنوب،

•••

ومالت القلاع وانغمس الحيزوم في الماء
فالمقتفي ما فتئ في إثرنا يهب ويصيح
ولم تزل قدمه دائسة على ظل عدوه
منحنيًا برأسه إلى أمام؛
أسرعت السفينة سيرها، وعلا من العاصفة زئيرها
وصوب الجنوب أخذنا طريق الفرار،

•••

ثم جئنا إلى ثلج وضباب
وانقلب البرد زمهريرًا
وعلا الثلج ما علت القلاع، ومضى حذاءنا طافيًا
على خضرة الزمرد.

(أرض الثلج وأرض الأصوات المخيفة حيث لا تقع العين على كائنٍ حي.)

وأرسلت جبال الثلج على ظهور الموج
ضوءًا تنقبض له النفوس؛
لا ترى العين إنسانًا ولا حيوانًا،
كل ما تراه ثلج من ورائه ثلج،
ثلج هنا وثلج هناك،
ثلج أينما أدرت البصر،
تشقَّق الثلج فأزَّ وزأر وعوى؛
أصوات خليط كأنما غشيتنا الغاشية.

(لبثت الحال كذلك حتى مرق من الضباب الثلجي طائرٌ بحريٌّ ضخم يدعى القادوس واستقبلوه بفرحةٍ كبرى واحتفالٍ عظيم.)

وأخيرًا أقبل علينا القادوس؛
جاءنا من خلال الضباب،
كأنما كان روحًا مسيحيًّا؛
فباسم الله حييناه!

•••

أكل طعامًا لم يأكله من قبلُ
وحلق فوقنا ثم حلق،
وانشقَّ الثلج في مثل صوت الرعد،
ووجه بنا السفينة صاحب السكان.

(ها هو ذا الطائر يدل إلى أنه بشير بالخير، ويتبع السفينة في طريق عودتها صوب الشمال خلال الضباب والثلج الطافي.)

وهبت من الجنوب ريحٌ مواتية،
وتبعنا القادوس،
وكل يوم إن أراد طعامًا أو أراد مزاحًا
أقبل على النوتي يحقق له ما أراد.

•••

تراه يرقب ما طال المساء
آنًا على السارية وآنًا على الشراع، لا يثنيه ضباب أو سحاب، وفي الليل خلال دخان الضباب الأبيض
كان يسطع ضوء القمر.

(لكن النوتي العجوز غدر بالطائر البشير بالخير فقتله.)

كان الله في عونك أيها النوتي العجوز!
ووقاك الشياطين التي أضلَّتك سواء السبيل!
ما هذه النظرة الغريبة في عينيك؟ لقد وجهت سهمي إلى
القادوس فأردته قتيلا!

وعلى هذا الغرار يمضي الشاعر في الأجزاء الباقية من القصيدة؛ ففي الجزء الثاني يُنبئنا بثورة البحَّارة على النوتي الهرم لقتله الطائر الذي جاءهم بشيرًا بالخير، لكن لم يكد الضباب ينقشع حتى نسي البحارة جرم زميلهم بل أيدوه فيما فعل، وبذلك التأييد كانوا شركاءه في جرمه. واستمر النسيم رُخاءً، ودخلت بهم السفينة في المحيط الهادي وسارت صوب الشمال تجاه الغاية المقصودة، ثم وقفت السفينة فجأةً كأنما بدأ الانتقام لموت «القادوس»؛ فقد كان يتابعهم روح من هذه الأرواح التي لا تراها العين ولكنها تسكن هذا الكوكب الأرضي الذي نعيش فيه؛ هنا أخذ البحارةَ الهمُّ من جديد، وألقوا بالتبعة كلها على زميلهم النوتي الهرم، وللدلالة على جريمته النكراء علقوا جثة الطائر القتيل حول عنقه. وفي الجزء الثالث من القصيدة ينبئنا الشاعر بأن النوتي الهرم أبصر بشيء في الأفق البعيد، فلما اقتربوا قليلًا خُيِّل إليه أنها سفينة، فأخذت الجميعَ هزةٌ من الفرح وشربوا اغتباطًا لهذه النجدة القريبة، لكنهم سرعان ما عاودهم الفزع؛ إذ تساءلوا: أيمكن أن تسير سفينة بغير ريح وتيار؟ وهكذا ذهب رجاؤهم أدراج الرياح وأخذوا يسقطون صرعى رجلًا في إثر رجل. وفي الجزء الرابع يُحدِّثنا الشاعر أن ضيف العرس الذي يستمع إلى قصة النوتي الهرم خشي أن يكون المحدث نفسه روحًا من هاتيك الأرواح، لكن النوتي الهرم طمأنه على حقيقة حياته وأنها جسد من لحم ودم، ومضى يقصُّ له حكايته: كيف ارتاع لجثث زملائه ملقاة إلى جانبه، بينما يرى خلائق المحيط حية! أفما كان الأجدر بتلك الحياة زملاؤه؟ لكن لعنة الله قد أصابته وقد لمسها في أعين هؤلاء الموتى. وطلع القمر وفي ضوئه الفضي شاهد النوتي الهرم بعض خلائق البحر في جمالها وجذلها، فدعا لها الله بدوام ذاك الجذل بالحياة. وما كاد يبدل نظرته إلى تلك الخلائق حتى انبسط لسانه بالدعاء، وسقط عن عنقه جثمان الطائر القتيل. وفي الجزء الخامس من القصيدة يقول الشاعر إن رحمة الله نزلت على النوتي الهرم غيثًا، وسمع أصواتًا وتبدَّت له في السماء أشباح، وسارت السفينة قدمًا، ودبَّت حركة الحياة في جثث زملائه الموتى! وفي الجزء السادس من القصيدة تأخذ النوتيَّ الهرم غيبوبةٌ روحية إذ يستوثق من وجود الملائكة معه تعينه، فها هي ذي قوةٌ ملائكية تدفع السفينة دفعًا نحو الشمال في سرعة تستحيل على البشر. ويعود النوتي الهرم إلى وعيه وتزول عنه اللعنة ويبصر بأرض بلاده تدنو في الأفق، وعندئذٍ تخرج أرواح الملائكة مرةً أخرى من أبدان زملائه الموتى، وتتبدَّى في هيئة من الضوء. وفي الجزء السابع والأخير يلتقي النوتي الهرم براهب، ويقدم توبته، وتكون كفارته أن يظل طول حياته مرتحلًا من بلد إلى بلد، فيكون مثالًا للناس يتعلمون منه أن يضمروا الحب والتقدير لخلائق الله جميعًا.

(٢) وليم وردزورث William Wordsworth (١٧٧٠–١٨٥٠م)

«وليم وردزورث» هو الذي شارك «كولردج» في إخراج ديوان الحكايات الوجدانية «المنظومة» التي تُعدُّ فاتحة العهد الابتداعي الجديد، لكنه مع ذلك يختلف عن شريكه كل الاختلاف؛ مات أبوه وهو يافع في الثالثة عشرة من عمره، وكانت أسرته حينئذٍ تعاني الضنك، ومع ذلك الْتمس الفتى طريقه إلى مدرسةٍ ثانوية فجامعة كمبردج، بل إن ما كانت تعانيه أسرة الشاعر من عُسر لم يحُلْ دون أن يستمتع بما لا يستمتع به عادةً إلا الأثرياء من فراغ وارتحال وانقطاع للدرس. وقد كان لإقامته في فرنسا إبان ثورتها أثرٌ عميق في نفسه، جعله بادئ الأمر يتعصب للمذهب الجمهوري، لكن هذه الحماسة سرعان ما بردت في نفسه وزال أثرها.

فقد كانت الثورة الفرنسية في أوائلها حين كان «وليم وردزورث» طالبًا في كمبردج فتأثر بتعاليمها كما تأثر سائر شباب جيله، وكان من الطبيعي أن يظهر ذلك الأثر في شخصيته وفي شعره. والعجيب أن حماسته للثورة في بداية الأمر ذهبت به إلى حدِّ التطرف، فلم يهزَّ نفسه — كما هزَّ نفوس غيره — إفراط رجال الثورة في حزِّ الرقاب وإراقة الدماء، بل كان يرى في كل ذلك قِصاصًا عادلًا لما نال الفقراء والضعفاء من عسف على أيدي الأشراف والملوك. ولم يجفل من إعلان رأيه بأنه إبان الثورة للحرية لا يمكن أن تكون حرية؛ إذ في فترة التحول تزكو الفضائل السياسية على حساب الفضائل الخلقية، لكنه رغم هذه الحماسة كلها في بادئ الأمر، لم يسعه في النهاية إلا أن يستنكر الطغيان العسكري وحُمَّى الغزو التي انتهت إليهما الثورة الفرنسية. نعم ظل الشاعر ثابتًا على مبادئه الأساسية من حيث قيمة الإنسان وما له من حقوق وما عليه من واجبات، لكن الذي انقلب في نفسه رأسًا على عقب هو رأيه في تطبيق تلك المبادئ وفي حكمه على رجال عصره وأحزابه السياسية والوسائل التي اتخذت لتنفيذ الدعوة إلى حرية الإنسان. ولما خابت آمال الشاعر في فرنسا الثائرة أن تُحقق له ما يريد للإنسانية، تحولت تلك الآمال إلى شيءٍ آخر تتعلق به؛ تحولت إلى وطنه إنجلترا فتعلقت بما فيها من تقاليد دامت مع الزمن وضربت بجذورها في قلوب الناس فطبعتهم على أسلوبٍ مقبول من الحياة المُتَّزنة. وقد كان هذا التحول العجيب من النقيض إلى نقيضه يكاد يشبه الارتداد المفاجئ من دين إلى دين، لكن الشاعر لم يعبأ بما قد يقوله الناس في هذا التغير السياسي السريع، بل لم يحاول أن يبرره لهم، إنما ترك لشعره أن يقصَّ على الناس قصة نفسه. لكن على الرغم من ذلك كله، ظل للثورة وحوادثها في نفسه ذلك الأثر الذي لا بد أن تتركه الهزات الإنسانية العنيفة في أصحاب النفوس القوية المرهفة، فقد شحذت فيه ذكاءه وإرادته مرتين؛ حين اعتنقها أولًا، وحين عاد إلى نفسه ثانيًا فغربل حوادث الثورة ليقبل منها ما يقبل ويرفض ما يرفض؛ ومن هذا كله خرجت شخصيته الفذة بارزة بكل ما آتاها الله من مواهب.

كان «وردزورث» مفكرًا فيلسوفًا، أخذ على نفسه أن يفكر لنفسه في أمانة وإخلاص، في كل ما يتعلق بالطبيعة والإنسان. ثم كان شاعرًا، أولًا؛ لأن موهبة الشعر جزء من طبيعته فلا يسعه إلا أن يشعر، وثانيًا؛ لأنه وجد في الشعر وسيلةً أخصب وأتمَّ للوصول إلى الحق فيما يعنيه من أمور الطبيعة والحياة الإنسانية، ثم لتبليغ ذلك الحق وتركيزه في أفئدة الناس، فالشاعر عنده مُعلِّم والشعر تعليم، ويقول: «كل شاعرٍ عظيم معلم، والذي أرجوه لنفسي هو إما أن أُعدَّ معلمًا أو ألَّا أُعد شيئًا على الإطلاق.» فما هو من الشعراء الذين يكتبون ليُمتِعوا، ولا هو من الشعراء الذين يرون أن الشعر تعبير عما ارتآه الآخرون ولكن في صيغةٍ أجمل، ولا هو من الشعراء الذين لا يمزجون نفوسهم كل المزج بما ينشئون وإنما يقفون إزاء خلقهم موقفًا أشبه ما يكون بموقف المتفرج، ولا هو من الشعراء الذين اضطربت في رءوسهم الفكرة ثم أبت عليهم ثورة نفوسهم أن تتبلور هذه الفكرة وتتحدد معالمها فتخرج شعلةً من غير صورة؛ بل لم يكن من الشعراء الذين ينظمون ليزيحوا عن صدورهم ما أثقلها من مشاعر، أو ليجتذبوا العطف على آمالهم وآلامهم؛ إنما وردزورث يقرض الشعر ليعلم الناس مذهبًا جديدًا، كان يقرض الشعر لأن الشاعر من طبيعة كل الأنبياء، وشعره وسيلة الأداء في نشر الدعوة، كان يقرض الشعر «ليُسرِّي عن المكروب كربته، ليضيف إلى ضوء النهار إشراقًا بأن يجعل السعيد في حالةٍ أسعد، ليعلِّم الشباب وذوي النفوس الحية من كل سنٍّ أن ينظروا وأن يفكروا وأن يشعروا، فيكونوا بذلك أقرب إلى عمل الفضيلة وكأنهم يعبرون عن أنفسهم.» تلك هي رسالة الشاعر كما عبر عنها بألفاظه.

ليس «وردزورث» شاعرًا وكفى، بل هو صاحب مذهبٍ جديد في الشعر، فصَّله تفصيلًا في مقدمةٍ طويلة قدَّم بها الطبعة الثانية من ديوان «الحكايات الوجدانية المنظومة»، والفكرة الرئيسية في مذهبه هي أن الشعر لا ينبغي أن تكون له ألفاظٌ خاصة به، وأنه يجب أن يُصاغ في أبسط عبارةٍ ممكنة كالتي يتفاهم بها عامة الناس في الريف البعيد عن عوامل المدنية التي قد تفسد نقاء العبارة، وأن جوهر الشعر في المادة المكتوبة، وليس للوزن أو القافية إلا أتفه الأثر في طبيعة الشعر، فهما عَرَضان لا يكونان جزءًا من جوهره؛ إذ جوهر الشعر هو التعبير عن تجربةٍ روحيةٍ عاطفية مرت بنفس الشاعر. وقد أخذ «وردزورث» ينشد الشعر على أساس مذهبه هذا، والعجيب أنه — في رأي بعض النقاد — لم يضعف في شعره إلا حين طبق مذهبه، وأنه لم يكتب قصيدةً ممتازة على منهاجه الجديد في الشعر؛ فكثيرًا ما كان الشاعر ينسى مذهبه ويطلق العنان لطبيعته الشاعرة فيبدع ويجيد، بل إن هذا الشاعر الذي أنكر أن يكون للشعر ألفاظٌ خاصة به، كان من أكثر الشعراء التزامًا للألفاظ الشعرية في قصائده! فلئن ذهب «وردزورث» مذهبًا في ألفاظ الشعر لم يخلص له في قصائده، فقد كان لمذهبه جانبٌ آخر أخلص له حتى النهاية، وذاك رأيه بأن جوهر الشعر في المعنى وحده، وكل ما عدا ذلك من بحور وأوزان وقوافٍ أعراض ليست من الجوهر في كثير ولا قليل.

كان «وردزورث» مستكشفًا لشيءٍ جديد، وشأنه في كشفه الجديد شأن سائر رجال الكشف عن الجديد بكل ضروبه، وذلك أن نبوغه الحقيقي هو أنه رأى ما لم يره غيره على الرغم من وجوده أمام الأعين جليًّا واضحًا، وما إن يوجِّه المستكشف إليه أعين الناس حتى يروه في وضوح ويعجبون معه كيف ظل مستترًا خافيًا. وبكشفه الجديد فتح «وردزورث» عالمًا جديدًا من الفكر ومتعة الشعور، وتستطيع أن تعد شعره علامةً ترمز إلى بداية شوطٍ جديد في مراحل الفكر والأخلاق من تاريخ البشر. ولكنه أمام هذا الخلق المبتكر الجديد لم يكن له مندوحة عن تغيير أذواق الناس حتى يتذوَّقوه، وتعليمهم الفن الذي يرون به فنه ويحكمون عليه؛ لأن الناس لم يكونوا على استعدادٍ نفسي لهذا الانقلاب، فلما رأوه يلتمس أسمى مشاعر الإنسانية وأعمقها وأدقَّها في توافه الأشياء وأبسط الألفاظ والأساليب لم يسيغوه، بل زادوا على ذلك أن جعلوا منه موضوعًا للهزؤ والسخرية.

ففي دارٍ هادئة في منطقة البحيرات شمالي إنجلترا، لبث الشاعر نصف قرنٍ كامل يُنشئ الشعر في تؤدة وعلى مهل، وينشر إنشاءه حينًا بعد حين، وكله إيمان بجودة شعره، لكن جمهور القراء لم يُقبِل عليه بادئ الأمر إقبالًا يتناسب مع ثقة الشاعر الشديدة في قيمة شعره، ثم ما لبث أن وجد الطريق إلى قلوب فئةٍ ممتازة من القارئين، وأخذ المعجبون في ازدياد حتى أصبحت لشاعرنا المكانة الأولى بين قرَّاء الشعر. وما هي إلا أن منحته جامعة أكسفورد درجةً فخرية اعترافًا بمنزلته في دولة الأدب، كما أجرى عليه الملك راتبًا، ثم عُين أميرًا للشعراء في السنوات السبع التي ختمت حياته؛ فما الذي حوَّل وجهة النظر إلى شعره هذا التحول العجيب؟ ما الذي جاء في شعره من جديد حتى عرَّضه أول الأمر لسخرية الساخرين، بل لسخط رجال كان يعترف لهم في عصره بالقدرة وسعة العلم؟ أما أنه امتاز بموهبةٍ شعرية من الطراز الأول فذلك ما لم يكن قط موضعًا لشكٍّ منذ أخرج ديوان «الحكايات الوجدانية المنظومة» وحسبه في ذلك الديوان قصيدةٌ واحدة — قصيدة «أشعار نظمت بالقرب من كنيسة تنترن»١٩ — ليعترف له كل قارئ بالشاعرية الفذة، كلا ولا كانت مواهبه من حيث قوة العبارة وأصالة الفكرة ونصوع الخيال وخصوبته والسيطرة على اللغة في نقائها وجمالها وجلالها، ما كان ذلك كله ليُجحَد إذ لم تكن سبيل إلى جحوده منذ نشر أول نتاجه. وإذن فليس شيء من هذا ما أثار حوله ثائرة القارئين، لأن هذا وحده — وهو كثير — لا يشتمل على العلامة المميزة التي جعلت من وردزورث نسيج وحده وإمام عصره، ورسولًا يبشر باتجاهٍ جديد في الفكر والشعور؛ وإنما امتاز «وردزورث» بخاصةٍ أخرى، هي أنه رأى في الموضوع البسيط وفي التعبير البسيط كل ما يريد من مادة وأداة! لم يرَ «وردزورث» ضرورة لزخرف العبارة ولا لجسامة الموضوع الذي يتحدث عنه، وفي هذا الانقلاب الذي يبدو شيئًا تُمليه البداهة التي لا تحتاج إلى عميق فكر، في هذا الانقلاب اليسير كان خروجه على المألوف وكان بدؤه لعالمٍ جديد، ثم كانت الثورة عليه من أنصار القديم المألوف! كانت له العينان اللتان تدركان عناصر الشعر في الأشياء الساذجة التي عميت عنها أعين السابقين، أو قل التي رأتها أعين الشعراء السابقين، واهتزت لها نفوسهم، ولكن أوضاع الشعر التقليدية أبت عليهم أن يتخذوها موضوعات لشعرهم! فكانت رسالة «وردزورث» أن يفتح أعين الناس ويزيل الغشاوة التي رانت على قلوبهم لعلهم يرون في أصغر الأشياء «وأحقرها» قرينًا يعدل أي شيء مما جرى العرف أن يُعدَّ أعظم الأشياء وأسماها.

الحق، والحق وحده، رائدك إن أردت أن تقول شعرًا، وليس في الحق تافه وعظيم؛ الحق هو القانون الأول في تكوين الشعر الصحيح، تلك هي الدعوة التي حمل لواءها «وليم وردزورث»، وقد أفلح في أن يهدي القراء والشعراء على السواء إلى هذا النهج القويم؛ ومن هنا كانت طريقته في اختيار موضوعاته التي يقول فيها الشعر، فقد تعلم كيف يرقب الطبيعة في كل ظواهرها ومظاهرها، وكيف يرى فيها ذخرًا لا نهاية له ولا حدود؛ ذخرًا من أشياء تلمس صميم القلب فتنطق اللسان بالشعر، لقد أحب وردزورث الطبيعة حبًّا بلغ به حد العبادة، فهو يمجد شوامخ الجبال وهوج العواصف كما يقدس الزهرة النحيلة تهزُّها الريح.

أخرج «وردزورث» دواوين تشتمل على مجموعات من قصار القصائد، ثم أخرج مجموعةً كبرى من «القصائد الأربع عشرية» فيها الجيد والرديء، لكنها في مجموعها — وقد بلغت ما يقرب من خمسمائة قصيدة — تُعدُّ من عيون الأدب في العالم، ثم له من القصائد الطوال «الرحلة»٢٠ التي هي جزء من مشروع قصيدة أطول وأشمل يكون عنوانها «المعتزل»،٢١ وله كذلك «المقدمة»،٢٢ ويطول بنا الحديث لو أخذنا في ذكر قصائده، بل جياد قصائده، فهذا رجل لبث خمسين عامًا لا يكاد يفكر في شيء أو يكتب شيئًا ليس شعرًا أو ما يتصل بالشعر، والآن فلنعرض بعض أمثلة من شعره:
هذه قصيدة «جسر وستمنستر»٢٣ نختارها نموذجًا لمقطوعاته الأربع عشرية.٢٤ قالها الشاعر إذ وقف على جسر (كوبري) وستمنستر في لندن في أول الصباح، حين كانت مدينة لندن الجبارة لا تزال ناعسة. احتفظنا في الترجمة بتوزيع القوافي وهي تجري على هذا النظام:

«أ – ب – ب – أ» «ﺟ – د – د – ﺟ –» «ﻫ – و – ﻫ – و – ﻫ – و»

الأرض لا تملك أروع من هذا منظرًا تبديه
يا له من صغير النفس إنسان هنا يعبر
فلا يستوقفه بسحر الجلال هذا المنظر!
فالمدينة الآن قد نشرت ثوبًا ترتديه
من جمال الصبح الساكن العريان؛
أفلاك وأبراج ومسارح ومعابد وقباب
كشفت صدرها فلا يحجبها عن الحقول أو السماء حجاب،
كلها ساطع لألاء في هواء بغير دخان.
لم أرَ الشمس قبل اليوم بهذا الجمال تغمر
بطلائع نورها الوِهاد والصخر والنِّجاد،
لم أشهد ولم أحس سكونًا كهذا السكون ينشر،
والنهر ينساب في رقة كما أراد.
رباه! حتى المنازل خلتُها في سبات تظهر،
وهذا القلب القوي٢٥ بأسره في سكتة ورقاد.
وهذه قصيدةٌ قصيرة له عنوانها «جبت وحيدًا»:٢٦
جبت وحيدًا كالسحاب
ينساب فوق الوديان والتلال،
إذ رأيت جمعًا على غير ارتقاب؛
جمعًا من نرجسٍ ذهبي
إلى جانب البحيرة، تحت الشجر
ترف مع النسيم وترقص،

•••

موصولًا غير مقطوع كالنجوم لألاءةً
في نهر المجرة تلمع،
امتد في خط على حاشية الخليج،
امتد ما امتد البصر،
عشرة آلاف رأيت منها في طرفة عين،
تومئ برءوسها في رقصٍ بهيج،

•••

وإلى جانبها رقص الموج؛ لكنها
فاقت الموج المتلألئ في نشوتها!
وهل يملك شاعر إلا أن ينتشي
في صحبة هذا الجمع الطروب؟
حدَّقتُ بعيني — وحدَّقت — لكني عندئذٍ ما قدرت!
أي ذخر اقتنيت من ذلك المنظر!

•••

فكلما استلقيتُ بعدئذٍ على أريكتي
خليَّ الفؤاد أو متأملًا
وثب هذا المنظر إلى عين الخيال،
التي هي نعمة الوحيد في عزلته؛
عندئذٍ يملأ البشر قلبي،
فيهتزُّ راقصًا مع أزهار النرجس.

وهاك أسطرًا من قصيدته الكبرى «المقدمة»:

إننا من تراب، لكن الروح الخالدة — رغم ذلك — تراها
تعمل عمل الاتساق بين أنغام الموسيقي؛ فلها ضرب من الفن
يخفى على العين الفاحصة، به توفق
بين العناصر المتنافرة، وتجعلها متآزرًا بعضها مع بعض
في صحبةٍ واحدة؛ ألا ما أعجب أن أرى
مخاوفي وآلامي وما رأيت في سالف أيامي من شقاء
وندم وانفعال نفس وفتور همة! كلها يمتزج
في وحدة عقلي، ثم تتعاون كلها على الأخذ بنصيب —
بل بالنصيب الذي لا غنى عنه — في تكوين هذه الحياة الهادئة
التي أحياها حين أكون جديرًا بنفسي!
والحمد على ذلك للغاية التي ينشدها الوجود!
والفضل للوسائل التي تصطنعها الطبيعة لبلوغ تلك الغاية؛
سواء اتخذت لوسيلتها سبلًا لا تبعث الخوف في النفوس،
أو جاءت بشيء من الفزع الرفيق، كأنها الضوء الذي لا يؤذي
يشق السحاب المستكن، أو اختارت وسائل أشد عنفًا
وأغلظ أسلوبًا توائم ما تنشده من غرض.

(٣) رُبرت سَذِي Robert Southey (١٧٧٤–١٨٤٣م)

«ربرت سَذِي» زميلٌ معاصر «لكولردج» و«وردزورث» لكنه كان — بغير شك — دونهما قدرة ونبوغًا. ومهما يكن من أمر منزلته بالقياس إلى زميلَيه ففي شعره أجزاء بلغت من الروعة حدًّا يدعو إلى الإعجاب، وقد كان لشعره أثرٌ غير قليل في عصره، وهو يمثل نزعات ذلك العصر تمثيلًا صادقًا دقيقًا.

مات عنه أبوه وهو صغير، فكفله خاله وأرسله إلى جامعة أكسفورد، غير أنه غادرها دون أن يظفر منها بدرجة، وتزوج وهو في سنٍّ صغيرة وليس أمامه الأمل المزدهر في رزق يسمح له ولأسرته بالعيش الرغيد، فارتحل إلى البرتغال حيث أقام زمنًا، وهنالك اشتدت صلته بالأدب الإسباني، وما هو إلا أن شغف حبًّا بالأدب وتوفَّر عليه بمجهوده كله؛ وما كان ليستطيع ذلك بغير موردٍ ثابت للرزق، فأجرى عليه زميل له في الدراسة مبلغًا من المال يعينه على العيش. وقد لبث «سَذِي» أربعين سنة من حياته متفرغًا للأدب، قانعًا بدخلٍ ضئيل، ومع ذلك استطاع — رغم هذا العسر — أن يجمع مكتبةً زاخرة، وأن يعنى بتربية أبنائه، لا بل يعنى إلى جانب ذلك بأسرة «كولردج» — عديله — الذي كثيرًا ما كان يحمل عبئها؛ وكان «سَذِي» متصل الإنتاج الأدبي، وإن لم يعد عليه أدبه إلا بالقليل، ومات بعد أن قضى بضعة أعوام لم يكن فيها موفور الصحة العقلية.

كان «سَذِي» أميرًا للشعراء. وقد ظن أنه سيخلد بشعره، ولكنه ناثرًا أعظم منه شاعرًا، ونثره هو الذي أفسح له مكانًا رفيعًا في الأدب، وأهم إنتاجه «سقوط روبسبيير»٢٧ التي أخرجها مع كولردج، وخمس حكايات منظومة أراد أن يحلل ويصف في كلٍّ منها لونًا من ألوان الخرافات الأسطورية (الميثولوجيا) في الشعوب المختلفة؛ من هذه الحكايات «جان دارك» التي نظمها وهو في التاسعة عشرة من عمره. ومنها «ثعلبة المدمر»٢٨ وقد أراد بها أن يصف شيئًا من أساطير المسلمين، تقرؤها فكأنك من حيث الجو الخيالي الذي يحيط بك تقرأ قصةً من ألف ليلة وليلة. ولم يجر الشاعر في نظمها على سننٍ معلومةٍ مرسومة، لأنه ارتأى أن في مثل هذه الحكاية — التي تستخدم عناصر خارقة للطبيعة فتخرج عن قوانين الطبيعة — ينبغي للشاعر كذلك أن يحيد عن قوانين النظم المطردة، فليس من الملائم مثلًا أن يلتزم الشاعر فيها شيئًا من القافية؛ ولذلك أنشأها شعرًا مرسلًا، لكن الشعر المرسل نفسه قد يصعد إلى أعلى درجات التوقيع الموسيقي، كما هي الحال في «الفردوس المفقود» ﻟ «ملتن»؛ وإذن فلا يكفي الشاعر في قصيدة «ثعلبة» أن يستخدم الشعر المرسل على إطلاقه، بل يجب عليه فوق ذلك أن يجعله مهلهل الديباجة نوعًا ما، ليتناسب الموضوع والأسلوب. ومن هذه الحكايات أيضًا «لعنة كيهاما»٢٩ بُنيت على موضوع من الأساطير الهندية؛ و«لذريق الغوطي»٣٠ وهي خير هذه المجموعة — على غير ما قدر الشاعر نفسه؛ إذ كان في ظن الشاعر أن قصيدته التي تسمى «مادك»٣١ هي آية فنِّه — وقد يكون بعض قيمة هذه القصيدة في نزعتها الخلقية، إلى جانب ما في حوادثها من مآسٍ تحرك عواطف النفس.

وهاك مثالًا من «ثعلبة»:

وجد في الكهف «امرأةً»؛
«امرأة» تعيش في عزلة،
كانت تغزل إلى جانب المدفأة،
وتغني وهي تغزل.
وكانت أغصان الصنوبر من بهجة تتوهج،
ووجهها من وهج النار يلمع،
وجهها وجه «الفتاة»
ولكنها مبيض شعرها،
حيَّته بابتسامة
ومضت في غزلها،
تغني وهي تغزل …
والخيط الذي نسجت كان يلمع كالذهب
في ضوء النار ذات الأريج،
لكن الخيط كان رفيعًا جد رفيع!
فلولا لمعانه في الضوء
لاقتربتَ منه باحثًا عبثًا!
وجلس الشاب يرقب الخيط،
ورأت فيه المرأة نظرة العجب،
فعاودت الحديث مرةً أخرى
ولم يزل كلامها غناءً:
«سألتك أن تلفَّه حول يديك،
رجوتك أن تلفَّه حول يديك؛
خيطي صغير، خيطي رفيع،
لكني أريد له أن يكون
أشد منك بأسا وقوة،
من ذا يستطيع أن يقطع خيطى هذا؟»

•••

وشخصت بعينَيها الزرقاوَين البراقتَين،
وابتسمت له ابتسامةً رقيقة،
ولم يرَ في ابتسامتها شرًّا.
وحول يده اليمنى أخذ يلفُّ الخيط ويلف،
وحول يده اليسرى أخذ يلفُّ الخيط ويلف؛
يلفُّ الخيط الدقيق الرفيع.
ثم عاودت «المرأة» الحديث،
ولم يزل حديثها غناءً:
«اجمع الآن — أيها الغريب — قوَّتك
واقطع هذه السلسلة الرقيقة.»

•••

وحاول «ثعلبة» أن يقطع الخيط،
لكن الخيط غزلته يدان سحريتان!
وعلت خدَّه حمرة الخجل،
وامتزج بالخجل شيء من الوجل؛
نظرت إليه وضحكت منه ساخرةً،
ثم عاودت الغناء:
«خيطي صغير، خيطي رفيع،
لكني أريد له أن يكون
أشد منك بأسًا وقوة.
من ذا يستطيع أن يقطع خيطى هذا؟»

•••

وشخصت بعينَيها الزرقاوَين البراقتَين،
وابتسمت له ابتسامة الفاتك:
«أشكرك ثم أشكرك يا ابن حضيرة!
أشكرك فقد حبكتَ لي ما ليس تنقض حبكته،
أشكرك على قيد نفسك بغلٍّ أنا التي نسجتُه!»
ثم من رأسه انتزعت
خصلةً من شعره الفاحم،
وبالخصلة في نارها قذفت،
وصاحت والشعر يحترق:
«أختاه! أختاه! اسمعي صيحتي!
أختاه! أختاه! تعالي واشمتي!
إن الخيط قد غزل،
والجزاء قد بذل،
والعمل قد عمل؛
فقد اتخذت أسيرًا من ابن حضيرة.»

(٤) وولتر سكُتْ Walter Scott (١٧٧١–١٨٣٢م)

«وولتر سكُتْ» يكبر «كولردج» بعام، ويصغر «وردزورث» بعام. وهو ينتمي إلى قبيلةٍ كبيرة موطنها عند الحدود التي تقع بين اسكتلنده وإنجلترا. ولد في «إدنبره» وقد كان في صدر طفولته عليلًا حتى لم يكن يرجى له طول البقاء، ثم بقي له من مرضه عرجٌ لازمه حتى ختام حياته. تلقَّى علومه في جامعة «إدنبره» وكان يديم القراءة حتى اتسعت دائرة مطالعاته، لكنه في أعوام شبابه لم يُبدِ شيئًا من علائم النبوغ في الأدب، سوى كتابٍ صغير نشره وهو في الخامسة والعشرين من عمره يحتوي على قطعٍ منقولة عن الأدب الألماني، وقليل من «الحكايات المنظومة» نشرها بعد ذلك بزمنٍ قصير؛ ولما بلغ الثامنة والعشرين تزوج من سيدة على شيء من اليسار، وعيِّن في منصبٍ إداري في إحدى مقاطعات اسكتلنده؛ فكان له من دخل زوجته ودخله ما هيأ له عيشًا رغيدًا. فلما كان عام ١٨٠٥م نشر قصيدته المشهورة «أغنية المنشد الأخير»٣٢ فكانت أروع ما شهدته اللغة الإنجليزية من شعر لأعوامٍ سبعة مضت، منذ أصدر «كولردج» وزميله «وردزورث» ديوانهما المشترك «حكايات وجدانية منظومة»؛ فقصيدة «سكُتْ» هذه جاءت علامة للمذهب الابتداعي الجديد لا يخطئها النظر، حملت المترددين في قبول الابتداع في الشعر على الإيمان به؛ فقد كان بعض الناس قد رأى جمالًا رائعًا في قصيدة «كولردج» «النوتي الهرم» لكنهم رأوا تفاهة موضوعها فلم يشفع لها عندهم جمالها. كذلك قصيدة «وردزورث» «كنيسة تنتيرن» لم تكن كافية وحدها أن تفرض المذهب الجديد على قراء الشعر. فجاءت قصيدة «المنشد الأخير»، وضمنت النصر لمذهب الابتداع، ثم أتبعها «سكُتْ» بطائفة من طوال القصائد: «مارميون»٣٣ و«سيدة البحيرة»٣٤ و«أمير الجزائر»٣٥ وذلك فضلًا عن عددٍ كبير من القصائد الغنائية القصيرة. ومن العجب أن هذا الشاعر لم يكن يعزف شيئًا من الموسيقي، ولم تكن له بها دراية، ومع ذلك أنشأ للموسيقيين طائفة من أجمل الأغاني وأروعها، ولما اتجه «سكُتْ» إلى كتابة القصة — وسنحدثك عنه كاتبًا للقصة في الفصل التالي — لزمته موهبته في إنشاء الأغاني، فصار ينتهز لها الفرص في سياق قصصه.

لم يكد شاعرنا يخرج قصائده الكبرى حتى توطدت حياته الأدبية، وأخذ أدبه يدرُّ عليه مالًا كثيرًا، وجاءته قصائده بدخلٍ كبير، لكنه لا يقاس إلى ربحه من قصصه التي ظلت أعوامًا عدة تكسبه كل عام شيئًا يقع بين خمسة عشر ألفًا وعشرين ألفًا من الجنيهات. وقد أنشأ لنفسه دارًا جميلة واشترى حولها أرضًا فسيحة الأرجاء وأُنعم عليه بلقب «سير» وزوَّج أكبر أبنائه من فتاةٍ غنية من أسرةٍ نبيلة، وانفتحت أمامه السبيل إلى غايته التي كان ينشدها ويتمناها، وهي أن يؤسس أسرة تعدُّ بين كرام الأسر، لكنه لسوء حظه شارك القائمين على طبع كتبه في تجارتهم فانتهى أمره إلى إفلاس، وصمم «سكُتْ» ألا يرضى لنفسه بهذه الخاتمة، فضاعف مجهوده في الإنتاج ليردَّ عن نفسه دَينًا بلغ مائة ألف من الجنيهات أو يزيد، وقد أفلح فيما أراد، لكن مجهوده أضناه وأصابه بشلل ومسٍّ من جنون، ثم عاجلته بعد ذاك منيته.

ولكي نقدر شعر «سكُتْ» قدره الصحيح — بل لكي نقدر شعر شاعر على الإطلاق — ينبغي لنا أن ننظر إليه من وجهتَين؛ الأولى وضعه في عصره ومقدار تأثيره فيمن عاصروه ومن أعقبوه، والثانية قيمته الذاتية الباقية على وجه الزمان بغضِّ النظر عن بيئته وعصره. فأما من وجهة النظر الأولى فتكاد لا تجد من الشعراء من يضارع «سكُتْ» في عمق أثره، فقد كان يتعذر — لولاه — أن يتحول الذوق الأدبي السائد إذ ذاك إلى الاتجاه الجديد، ولولاه لقضي على شعر قادة الابتداع وأعلامه: «كولردج» و«وردزورث» و«شلي» و«كيتس» أن يظل طويلًا دون أن يجد من الناس من يسيغه أو يزنه بميزانه الصحيح. وربما اعترضك في ذلك ناقد بقوله: إن من الخطأ أن تعوِّل كثيرًا على حكم جمهور القراء، فليس هناك كبير خطر إن أسرع الناس إلى تقدير الشاعر أو أبطئوا؛ إذ ما دام لشعره قيمةٌ فنيةٌ ذاتية، فلا بد أن يفرض هذا الشعر نفسه فرضًا على القراء إن عاجلًا وإن آجلًا. وهذه النظرة في النقد الأدبي صحيحة إلى حدٍّ كبير، لكنا لا نستطيع أن نغضَّ من شأن رجل يفلح في توجيه الناس توجيهًا صحيحًا، لأنه إذا سلم ذوق الناس في الأدب تهيأت الفرصة لنوابغ الشعراء أن يظهروا.

وأما قيمة شعره الذاتية فليست موضع شك، وإن يكن بعض النقاد أميل إلى وضعه في الصف الثاني من الشعراء؛ فالرجل شاعر لا ريب في صدق شاعريته ولو أنه في سوق الحكاية أنبغ منه شاعرًا، فلو قارنته بالشعراء الأربعة الأعلام في حركة الابتداع: «كولردج» و«وردزورث» و«شلي» و«كيتس» لحِرتَ في كثير من المواضع أيهم أجود شعرًا، على أنه إذا ما كانت القصيدة حكايةً منظومة فلن تتردد لحظةً واحدة في تفضيل «سكُتْ» عليهم جميعًا من حيث براعة الرواية، وفضلًا عن ذلك كله فشاعرنا من الشعراء القلائل الذين سرعان ما يدور شعرهم على ألسنة الناس؛ ففيه ما يقربه من قلوبهم ويحببه إلى نفوسهم، وليس ذلك على الشاعر بقليل.

وفيما يلي مثال من قصيدة «آخر المنشدين»، وهو بمثابة المقدمة للقسم الأول من القصيدة:

كانت الطريق طويلةً والرياح صرصرًا،
وكان «المنشد» عاجزًا عجوزًا مدبرًا
ذابل الخدين مبيضَّ الذوائب،
تبدَّل حالًا بعد عزٍّ ذاهب
قيثارته، وهي الندم الوحيد المقيم،
يحملها له ولدٌ يتيم.
جاء هذا المنشد آخر من أنشدوا،
فتغنوا بالحماسة عند «الحدود» ومجَّدوا،
ولكن وا حسرتا! يومهم تولى إلى غير معاد،
وأذهبت المنايا عنه صحبة الإنشاد،
فلما رآه مهملًا تمنى
لو لحق الإخوان فاستكنَّا،
لم يعد على جوادٍ راقص يركب،
وكالقبرة عند الصبح يغنى ويطرب،
لم يعد موضع احتفاء واحتفال؛
فلا يكرم من ضيفٍ ولا له في البهو المقعد العال،
فيهز صاحب الدار وزوجه في جذل
بأغنية عفو الساعة ترتجل.
تلك عهود تقضَّت فتقضَّى طبعٌ أصيل،
وآل «ستيورت» عرشهم اعتلاه دخيل٣٦
والمتزمتون في العهد الجديد الذي سيطرا
عدُّوا فنَّه المسالم جرمًا منكرًا.
يغني على القيثار في فقرٍ زريٍّ وتجواب،
يسأل الخبز في طريقه من باب إلى باب،
جلف غليظ هو الآن من يسرُّ ويمتع
إذ يشدُّ قيثارًا كانت تصغي إليه الملوك وتسمع.

(٥) جورج جوردن بيرن George Gordon Byron (١٧٨٨–١٨٢٤م)

ولد «بيرن» لأبٍ عربيد وأمٍّ بلغت من حدة الطبع حدًّا لا يكاد يُحتمَل. وقد ورث لقب اللوردية وهو لم يزل طفلًا، ثم أضاف إلى مجد الحسب طلعةً جميلة لولا ظلعٍ يسير؛ فأحسَّ وهو في مدرسته الثانوية شموخًا وكبرياء لهذا اللقب الذي يحمله دون سائر الطلاب، وكان مشتعل الذكاء، ملتهب المواطن، قُلَّبًا لا يستقر على حال، فقد عرف الحب وهو في الثامنة من عمره، فلما كان طالبًا في المدرسة الثانوية أحب فتاةً تكبره، وتزوجت من سواه، فلم ينقطع تفكيره في حبيبة قلبه التي لم يظفر بها، وأخذ ينشد فيها الشعر.

وانتقل «بيرن» من مدرسته الثانوية «هارو» — مدرسة يرتادها أبناء العلية — إلى جامعة «كيمبردج» فعُرف فيها بعناده وازدرائه لرؤسائه. ولما بلغ التاسعة عشرة أخرج أول ديوان له وأطلق عليه «ساعات الفراغ»،٣٧ طبعه أول الأمر طبعةً خاصة قصد بها إلى الأخصَّاء، ولم يرد أن ينشره على الناس عامة، وليس لشعره في هذا الديوان كبير قيمة، لو استثنينا بعض أجزائه، فهاجمه النقاد في مجلةٍ أدبيةٍ مشهورة إذ ذاك، هي «مجلة إدنبره»؛٣٨ ولم يكن الديوان ليستوقف أنظار النقد لولا أن صاحبه «لورد»، ويظهر أن توجيه النقد لأصحاب الألقاب فيه لذة للنقاد! وما هو إلا أن قابل «لورد بيرن» هذه الهجمة النقدية بهجمةٍ أشدَّ منهما وأعنف، وكان في رده ذاك ساخرًا لاذعًا مُجيدًا في سخريته اللاذعة، ولقد حدث أن راجع «بيرن» بعد ذلك بسنوات كل ما كتبه في هذا الباب، فوجد أنه لم يكتب شيئًا يعدل هذه القطعة الساخرة التي أنشأها وهو في الحادية والعشرين.
ارتحل «بيرن» في أوروبا بين عامي ١٨٠٩ و١٨١١م، ثم ظهر له بعد ذلك مباشرة الجزآن الأولان من قصيدته الكبرى «تشايلد هارولد»٣٩ في بحر يجري على غرار ما أنشأه «سبنسر»،٤٠ ولم يكد يُنشَر له هذا الشعر حتى «استيقظ ذات صباح فألفى نفسه ذائع الصيت.» — على حدِّ تعبيره — وقد صادف هذا الجزء من «تشايلد هارولد» إعجابًا شديدًا عند «وولتر سكُتْ» بحيث أصبح الشاعران بعدئذٍ صديقَين حميمَين، بعد أن كان بينهما عداوة ونفور، وتبادلا الثناء؛ ﻓ «سير وولتر» معجب بشعر «بيرن» و«لورد بيرن» مفتون بقصص «سير وولتر».

ولم ينبُه ذكر شاعرنا في دولة الأدب وحدها، بل اشتد نفوذه في دوائر المجتمع، حتى أصبح فيها «ضرغامًا» — فقد كان يُنعت بهذه الكُنية بين عارفيه — فهو وسيم الطلعة جميل الهندام معنيٌّ برشاقته وفخامة مظهره، ولبث نجمه يسطع في تلك الدوائر الاجتماعية ما أقام في إنجلترا قبل أن يغادرها إلى أوروبا مرةً أخرى. وقد أنشأ في تلك الأعوام قصصه الشرقية التي حاول فيها أن يقتفي أثر زميله «سكُتْ» وهذه القصص الشرقية حكاياتٌ منظومة اتخذ منها ستارًا ليحكي قصة حياته خلال الفترة التي كان فيها «ضرغام» المجتمع في بلاده. وفي ذلك كتبت زوجته بعد انفصالها عنه إلى صديقة لها تقول: «إن الأنانية هي المحور الرئيسي في خياله، فمن العسير عليه أن يُشعِل قوةَ خياله موضوعٌ لا تتمثل فيه شخصيته وأهواؤه.» وقد صدقت؛ فقصائده كلها تعبير عن حياته ومغامراته ومشاعره وخواطره، رغم ما تكلَّفه من عناء في إخفاء ذلك بما ابتكره من أسماء يتنكَّر وراءها.

ففي قصيدتَيه «الكافر»٤١ و«عروس أبيدوس»٤٢ إشارات لمن أحب من النساء، وله غير هاتين مما تصح الإشارة إليه قصيدة «القرصان»٤٣ و«حصار كورنثه»؛٤٤ وحسبنا — لكي نقدر وقع هذه القصائد عند أول نشرها — أن نقول إن «القرصان» بيع منها عشرة آلاف نسخة في اليوم الأول من نشرها.
وفي عام ١٨١٥م — والشاعر في السابعة والعشرين من عمره — تزوج من فتاة كان يُنتظر لها أن ترث ثروةً طائلة، لكنه لم يقم على حياته الزوجية إلا ريثما ولدت له ابنته، وبعدئذٍ ضاقت زوجته بالعيش معه وهجرته إلى أهلها. ولم يستطع «بيرن» الإقامة في إنجلترا لكثرة ما أحاط به من هموم الدين واضطراب الأسرة، فغادرها إلى سويسرا حيث لبث بضعة أشهر في صحبة الشاعر «شلي» — الذي سنتحدث عنه بعد قليل — ولشاعرنا روايةٌ تمثيلية عنوانها «مانفرد»٤٥ تصوره في شخص بطلها، ففي مغامرات البطل فوق قمم الجبال وأمام العواصف القوية ومجاري الثلج الكاسحة تصوير لعواطف الشاعر ومطامعه، ومما يصح ذكره عن رواية «مانفرد» أنها صادفت هوًى عند شاعر الألمان «جيته» ويظهر أن «بيرن» قد تأثر فيها بما ترجم له من رواية «فاوست» لجيته.
ثم أخذ وهو في سويسرا ينشئ القصيدة بعد القصيدة، فيبثُّ في شعره لواعج نفسه فيما يمس العلاقة بينه وبين زوجته وأخته، ومن هذه المجموعة قصيدةٌ جميلة عنوانها «حلم»٤٦ كذلك أنشأ في تلك الفترة الجزء الثالث من قصيدته الكبرى «تشايلد هارولد» الذي جاء عامرًا بما يشفُّ عن نفسه. وبعدئذٍ سافر إلى البندقية فروما حيث أتم «تشايلد هارولد» بإخراج جزئها الرابع الذي عرض فيه وجهة نظره فيما شاهد في تلك البلاد من آيات الفن — وكان مما أخرجه وهو يتنقل في ربوع إيطاليا قصيدة «السماء والأرض»٤٧ التي أعجبت «جيته»، وقصيدة «دون جوان»٤٨ التي بلغ فيها منتهاه من روعة الفن.

وعندئذٍ كانت الحرب قائمةً بين تركيا واليونان، فتحمس الشاعر لأهل اليونان الذين يجاهدون في سبيل حريتهم، وقصد إلى بلادهم يريد القتال في صفوفهم، فنالت منه حمى الملاريا هناك ومات في أبريل سنة ١٨٢٤م.

قليل هم الشعراء الذين اختلف في تقديرهم النقاد بمثل ما اختلفوا في شعر «بيرن»؛ فقد رنَّ صداه في أرجاء أوروبا حيث كانت له منزلة فوق منزلة شيكسبير، وفي إنجلترا نفسها ترى رجلًا له مكانته العالية في النقد، هو «ماثيو آرنلد»٤٩ يقول عنه إنه أقوى قوةٍ دافعة في الأدب الإنجليزي، بينما تجد شاعرًا عظيمًا مثل «سونبرن»٥٠ لا يدع من عبارات النقد شيئًا إلا وجَّهه إلى «بيرن» فشاعر كهذا اختلف فيه الرأي كل هذا الاختلاف، يَحسُن أن يُترَك الحكم فيه لكل قارئ على حدة، ومما ييسر هذا أن قد نقل له بعض شعره إلى العربية.

هذا مثال من قصيدته «حلم»، وتقع القصيدة في تسعة أقسام؛ والمثال الآتي بعض جزأيها الأول والثاني:

١

حياتنا ذات شقين: فللنوم عالمه،
وهو حد يفصل شيئَين أسميناهما خطأً
فناءً ووجودًا؛ للنوم عالمه،
وهو عالمٌ فسيح، وجوده لا يُنكَر،
وللأحلام في تطورها أنفاس
ودموع وآلام وهزة من الفرح،
وهي تثقل عقولنا اليقظى بحمل من حملها،
كما تخفف من هموم اليقظة برفع جزء من حملها؛
تقسِّم وجودنا شطرَين، فهي تصبح
جزءًا من أنفسنا كما هي تملأ جزءًا من دهرنا،
وكأنما هي تباشير الخلود؛
إنها تنقضي كما انقضت أرواح السالفين — وإنها لتنبئ
بما هو آتٍ كأنما هي إحدى متنبِّئات العهد الغابر، وإن لها لسلطانًا —
إذ تطغي علينا بأفراحها وأحزانها.
… … … …

٢

رأيت شخصَين في إهاب الشباب
واقفين على تلٍّ؛ تلٍّ رقيق
اخضرت جوانبه وتدرج انحداره؛ وهو حلقةٌ أخيرة
من سلسلة من التلال طويلة، كأنه رأسها؛
غير أنه لم يكن ثمة بحر يغتسل فيه أسفله،
بل كانت هنالك بقعة من الأرض تنبض بالحياة؛ وكانت موجات
من أشجار الغاب وحقول القمح، ومنازل القوم؛
كل ذلك تناثر، فهو يبدو آنًا ويختفي آنًا؛ والدخان ينعقد على هيئة الأكاليل
تصدر من هاتيك الأسطح الريفية، وازدان
التل على رأسه بإكليلٍ عجيب
من الشجر صُفَّ في دائرة، ولم تحلقه في دائرته
يد الطبيعة، بل هكذا صفَّته يد الإنسان.
وهذان الشخصان: فتاةٌ عذراء في صحبتها شاب، كانا هنالك
يرسلان البصر، فأما الفتاة فتنظر إلى كل ما دونها،
وقد كان ما دونها في مثل جمالها؛ وأما الفتى فأمعن فيها النظر؛
وكلاهما شاب، والفتاة رائعة!
كلاهما شاب، لكن الشباب فيهما لم يتشابه،
وكما يكون القمر الرقيق على حاشية الأفق،
كانت تلك الفتاة في بكرة الأنوثة؛
كان الفتى يصغرها؛ لكن قلبه
كان يكبر أعوامه بشوطٍ بعيد؛ ولم يكن لعينه
على وجه الأرض سوى وجهٍ واحد حبيب،
وكان ذاك الوجه مشرقًا عليه؛ وقد أخذ يُحدِّق
في ذلك الوجه حتى لم يعد يستطيع أن يزول عنه؛
وقفت في الفتى أنفاسه، فلا حياة له إلا في حياتها؛
كانت هي صوته؛ فلم يتحدث إليها،
لكنه كان يرتعش لكلماتها؛ كانت هي بصره
إذ تبعت عيناه عينَيها، حتى لكأنه ينظر بناظرَيها.
وتلوَّنت دنياه بما أرادت له فتاته؛ لم يعد الفتى
يعيش في نطاق نفسه لأن فتاته كانت حياته؛
كانت لمجرى أفكاره بمثابة البحر الخضمِّ
تندفق فيه وتختفي؛ فحسبه منها نبرة،
حسبه منها لمسة، لتفيض دماؤه وتفيض،
وتضطرب وجنتاه اضطرابًا عنيفًا؛ وقلبه
ما يدري سبب عذابه،
لكنها لم تقاسمه من هذه المشاعر الغرامية شيئًا؛
لم تكن تنهداتها له؛ فلم يكن لها
أكثر من أخٍ شقيق، أخ لا أكثر، وكان هذا الإخاء شيئًا ثمينًا؛
إذ كانت بغير إخوة، وهذا أخ ولو لم يشاركها لقب أسرتها،
فما أكثر ما اكتسب من تلك الصداقة البريئة!
… … … …

وهذه قطعة عن «البحر» نختارها من آيته الخالدة «تشايلد هارولد»:

إني لأستمتع بالغابات انسدَّت مسالكها،
وإني لأنعم على شاطئ البحر خلا من الأناسي؛
فهنالك أجد سامرًا حيث لا يقتحم عليَّ الحياة إنسان،
هنالك إلى جوار البحر العميق الذي لزئيره لحن الموسيقى؛
ليس في ذلك انتقاص لحبي للإنسان، ولكنه ازدياد في حبي للطبيعة؛
فحيثما التقيتُ بها فاستطعتُ أن أنسلخ
مما عسى أن تكون عليه نفسي، أو مما كانت عليه قبلُ،
أنسلخ عن نفسي لأتَّحد مع الوجود، فأحسُّ
ما يستحيل أن أبديه، ولكني أستطيع أن أخفيه.

•••

اضرب بأواذيك أيها الخضم العميق ذو الزرقة الدكناء!
فعبثًا تنساب على متنك السفائن ألوفًا ألوفًا،
فلئن وصم الإنسان وجه الأرض بعلامات الدمار،
فعند شطك حد سلطانه؛ أما على ظهر الماء
فالتدمير فعل يديك، فلست ترى هنالك
أثرًا من تخريب الإنسان، اللهم أن يحيق به
عندما يغوص إلى أغوارك وهو يبعث أنةً تجلجل بالماء،
فتراه قد اختفى في طرفة عين كأنه قطرة الغيث،
اختفى مجهولًا: فلا لَحْد يُشقُّ ولا جرس يُدقُّ ولا كفن يؤويه!

•••

ليس يدب الإنسان بخطوه فوق مماشيك؛ كلا ولا رحابك
كانت لسطوه مرتعًا؛ فإنك لتنهض
لتقذف به عنك بعيدًا، مزدريًا كل سلطان له دنيء
يصبه فوق الأرض لينتهي بها إلى الدمار،
تنفضه في ازدراء عن صدرك صوب السماء،
فتبعث به مرتعشًا فوق رشاشك اللعوب،
وهو يعوي لآلهته حيث علَّق
آمالًا له ضئالًا في مرفأٍ قريب أو خليج
تتطوح به نحو الأرض من جديد، وهنالك تتركه سطيحًا.

•••

أدوات القتال التي دكَّت كأنها الصواعق أسوار
المدائن أنشئت على الصخر الأصم، فارتعدت لها أمم
وارتعشت ملوك فوق عروشهم؛
وجبابرة السفائن التي بُنيت من السنديان، فجعلت بضخام ضلوعها
قطعة الأديم التي أنبتتها تنتفخ من غرور فتتخذ لنفسها لقبًا؛
سيدة البحار وحكم القتال!
كل أولئك لُعبٌ في يديك، وتراها — كأنها رقائق الثلج —
تذوب بين أواذيك التي سخرت
من زهو «الأرمادا» وغنائم «الطرف الأغر».

•••

شطآنك دولٌ عراض، تبدَّلت في كل شيء إلاك.
ما آشور واليونان وما روما وقرطاجنة، ما أولئك اليوم؟
إن أمواهك نفحَتْها السلطان، إذ كانت حرة،
وبعدئذٍ كم من طاغية هنالك ساد، فأرضها تأتمر
بالدخيل والرقيق والهمجي، وانهيارها
صوح عمرانها فبات يبابًا! ولا كذلك أنت؛
فأنت لا تتغير إلا حين يهتزُّ من لَعِبٍ موجُك الجبار.
إن الزمان لا يخطُّ أثرًا فوق جبينك اللازوردي
فما تزال تموج اليوم كما كنت في فجر الزمان.

•••

وإني لأحبك يا بحر فكانت متعتي
أيام الصبا أن تحملني فوق صدرك،
فأطوف كأني من حَبَبِك الطافي؛
لاعبتُ موجك مذ كنت غلامًا، فكان موجك
لي متاعًا، فإن تغيرتَ فجعلتَ من موجك
مصدر رعب، كان لي رعبًا لذيذًا؛
فقد كنت لك بمثابة الوليد،
ووثقتُ في أمواجك قريبها والبعيد،
فكنت أضع يدي فوق لَبَدِك كما أفعل الآن.

(٦) بيرسي بيش شلي Percy Bysshe Shelley (١٧٩٢–١٨٢٢م)

ولد «شلي» لأبٍ من الطبقة الرفيعة، وكان منذ نشأته ثائرًا كأنما أُريدَ له أن تتجسد فيه روح الثورة، فلم يكن له إخوة يحدُّون نزواته بحقوقهم، وكان له أخوات بسط عليهن سلطانه. ثم بدأ حياته الدراسية في مدرسةٍ خاصة كان فيها بغير رفقاء، ومنها انتقل إلى «إيتن» — مدرسة لأبناء الخاصة — حيث قاوم كل من أراد أن يستبدَّ بالأمر من الأساتذة والطلاب على السواء؛ فقرَّبه ذلك من قلوب الزملاء على الرغم من شذوذه المنكر المرذول. ولم يكن «شلي» طالبًا مُجدًّا في درسه؛ فقد كان يهمل واجبه المدرسي ليترك نفسه على سجيتها فيقرأ ما يحلو له. وأكثر ما أثار اهتمامه «جُدْوِن»٥١ وفلسفته، وقد تأثر بتعاليمه تأثرًا ظهر في أول إنتاجه الأدبي الذي أخرجه وهو طالب؛ وبعدئذٍ انتقل شاعرنا إلى جامعة أكسفورد، وهنالك أخرج «ديوان فكتور وسازير».٥٢
لم يكن لشلي في الجامعة صديقٌ حميم سوى من أرَّخ له حياته فيما بعدُ، وهو «تومس هُجْ»،٥٣ وكانت دراسته في أكسفورد على غير نظام، فهو الذي يوجِّه نفسه في مطالعاته، وكان أكثرها مما يتصل بالعقائد يهدم بعضها ويبقي على بعض، وأخرج عندئذٍ «ضرورة الإلحاد»٥٤ فلم ترَ الجامعة بُدًّا من إخراجه، وخرج معه صديقه «هج».

تزوج شلي من فتاةٍ صغيرة كانت صديقةً لأخته، وأخذ يتنقل بها في الريف حيث واصل الكتابة والقراءة، وبخاصة قراءة «جُدْون» الذي طفق يراسله ويجاهد في نشر مبادئه؛ ثم أرادت له المصادفة أن يلتقي بابنة ذلك الفيلسوف «ماري جدون» وكان إذ ذاك قد ملَّ زوجته التي رفضت أن تحيا معه حياة الأخت بعد أن ملأت «ماري» مكانها من قلب الشاعر؛ ولم يلبث شلي أن سافر مع حبيبته «ماري» إلى سويسرا، وهنالك التقي بهما «بيرن» ثم عاد معها إلى إنجلترا بعد قليل.

أخرج «شلي» بعد عودته إلى إنجلترا «الملكة ماب»٥٥ التي ظهرت فيها شاعريته الفذة و«ألاسْتَر»٥٦ وهي قصة روحٍ وحيد يحاول الفرار من نفسه إلى حيث مشاهد الطبيعة الشامخة المنعزلة؛ روحٍ شريرٍ قلق غير قانع مثل «شلي». وسافر شلي من جديد إلى إيطاليا، وتزوج من «ماري جدون» بعد انتحار زوجته التي أوذيت في كرامتها، وأنشأ قصيدته الطويلة «لاوون وسِذْنا»،٥٧ التي أعاد نظمها وبدَّل عنوانها فجعله «ثورة الإسلام».٥٨
كان شلي حالمًا بطبعه يرى في ظواهر من الأسرار ما لا يبدو لغيره، وأخذت شاعريته تقوى وتزداد خصوبةً ونضوجًا؛ ولا يعلم إلا الله ماذا كان هذا الشاعر لينتج من آيات الفن لو امتدَّ به الأجل. ومن خير ما كتب في أخريات سنيه قصيدةٌ رائعة رثى بها زميله الشاعر «كيتس» عنوانها «أدونس»٥٩ ثم قصيدة «برومثيوس الطليق»٦٠ الذي يثور فيها على العالم كما هو، ويدافع عن حقوق البشر الذين نال منهم الظلم والألم.

ومات شلي غريقًا في إيطاليا على إثر عاصفةٍ هوجاء، وأُلقي في النار ما طوح به ماء البحر من جسده على أرض الشاطئ؛ ووضع رماد جثمانه إلى جوار مثله من جثمان صديقه «كيتس» في «مكان له من الجمال ما يحببك في الموت».

وهذا مثال من قصيدته «ألاستر، أو روح العزلة»:

أيتها الأرض ويا أيهذا البحر والهواء، أيتها الأخوة المحببة إلى فؤادي!
لو كانت أمنا الكبرى قد عمرت نفسي
بشيء من الورع الفطري فشعرت
بحبك، وبادلت هذا النعيم من عندي بنعيم مثله؛
لو كان الصبح النديُّ، والظهر الأريج، والمساء
بشمسه الغاربة في موكبها الجليل،
ومنتصف الليل بسكتته الرصينة ذات الصدى؛
لو كانت زفرات الخريف الجوفاء بين أشجار الغابة الزاوية،
والشتاء الذي يكسو بثلجه النقي ويتوج
بجليده المتلألئ رمادي العشب وعاري الغصون؛
لو كان الربيع بلهثاته الشبقة حين يتنفس
أولى قبلاته الحلوة؛ لو كان هذا كله حبيبًا إلى نفسي؛
إذن لم أكن عن عمد قد آذيتُ طائرًا مرحًا
ولا حشرةً ولا حيوانًا وديعًا، بل لبثْتُ على حبها،
وأعززتها جميعًا لأنهنَّ عندي من ذوي قرباي؛ إذن فاغفري لي
هذا الزهد، أيتها الأخوة المحببة إلى فؤادي، ولا تحرميني شيئًا
مما عودتنيه من حدب وعطف.
… … … …
كان هنالك شاعر لم تشيد قبره الذي جاء قبل أوانه
يدٌ بشريةٌ خاشعة من التقوى،
بل أقامته دوامات رياح الخريف المسحورة،
أقامته على عظامه النخرة هرمًا
من أوراق الشجر اليابسة في الفلاة اليباب،
كان شابًّا جميل المحيَّا، لم تقصد إلى قبره فتاةٌ محزونة لتُزيِّن
بالزهور الباكية أو أكاليل السوسن المنذورة
مخدعَه الموحش الذي رقد عليه رقدته الأبدية.
كان رفيقًا شجاعًا كريمًا، يجيء إلى قبره منشد،
فيتأوَّه بزفرةٍ واحدةٍ منغومة حسرةً على ما أصابه من قضاءٍ بهيم؛
عاش، ومات، وغنَّى، وهو في عزلة.
كم من غريب أبكاه أن يسمع نغماته الحرَّى!
والعذارى، حين قضى هذا الشاب مجهولًا، شقين
وأبلاهن الغرام بعينَيه العارمتَين،
كان في محجرَيهما شعلة لم تعد متقدة،
و«الصمت» من فرط غرامه بذلك الصوت لم يسعه
سوى أن يحبس موسيقاه الصامتة في سجنٍ غليظ الجدر.
… … … …
ضرب ذلك الشاعر في تجوابه
يتبع خواطره بخطاه، فزار
ما خلفته الأيام السوالف من آثار تخشع لها النفوس؛
حج إلى أثينا وصور بعلبك، كما قصد إلى اليباب
الذي كانت أورشليم ذات يوم تعمره؛ وزار الأبراج الهاوية
في بابل، والأهرامات الخالدات؛
زار ممفيس وطيبة، وكل ما يستوقف النظر
من منحوت على مسلات المرمر،
ومن قبور قُدَّت في صخر الجرانيت المزركش الألوان،
ومن أبي الهول برته عوادي الزمن،
ومما تخفيه إثيوبيا المعتمة في ثنايا التلال من صحرائها؛
وبين المعابد المتهافتة جدرها هناك،
بين العمد الشوامخ والتماثيل الغلاظ
التي تصور من هو أكثر من الإنسان، حيث وقف شياطين المرمر
يلحظون سر السماء في مسالك نجومها؛ وحيث الموتى
يعلقون خواطرهم الصوامت على الجدر الصوامت التي تحيط بهم؛
هنالك أخذ الشاعر يسير الهوينى، يتأمل ما خلَّفته
الدنيا من عهد شبابها؛ وقضى يومه الطويل القائظ
وهو يحدق البصر في تلك الأشباح الخرساء، ولم ينصرف
حين ملأ القمر رحاب الأبهاء الملغزة أشباحًا سابحة،
بل واصل الشاعر تأمله وظل يحدق بالبصر،
ثم يحدق، حتى أشرق على ذهنه الخالي معنًى
كأنه الوحي الملهم؛ إذ رأى
مولد الزمان الذي يهزُّ بأسراره النفوس.
وهذه أبيات قصيدة له رائعة عنوانها «إلى قبرة»:٦١
نعماك أيها الروح المبارك
— فإنك لم تكن قط طائرًا —
أيها الروح الذي يصبُّ صميم فؤاده صبًّا
من السماء أو قربها
في نغماتٍ دافقاتٍ من فنِّك الفطري،

•••

فما تزال تصعد ثم تصعد
مبعدًا عن الأرض في صعودك،
كأنك سحابة من نار،
وترف بجناحَيك عبر محيط من القبة الزرقاء،
لا تني مغردًا في صعودك، ولا تنفك صاعدًا وأنت مغرد،

•••

في بريقٍ ذهبي
من الشمس الغاربة
سطعت السحب في ضيائه،
أراك طافيًا عاديًا،
كأنك مرح «مجرد» انطلق لتوِّه يسري.

•••

المغرب الأرجواني الشاحب
يفنى حولك إذ تطير
كأنه نجم في السماء
غمره الضحى من ضوء النهار؛
خفيتَ عن النظر، لكني أسمع صياح نشوتك،

•••

أسمعها نفاذة كأنها السهام
من ذلك الكوكب الفضي
الذي يذوي سراجه الوهاج
كلما وضح من الفجر الضياء؛
يذوي حتى لا نكاد نبصره، لكننا نحسُّ وجوده هناك،
الأرض كلها والهواء
بصوتك تدوي
كأنه القمر حين يتعرى الليل
فلا تحجبه سحابةٌ واحدة،
كأنه القمر يدفق أشعته فتُترَع بها حِفَافُ السماء.

•••

لسنا ندري ماذا عساك أن تكون
فماذا يقرب منك شبهًا يا ترى؟
إن قوس قزح سحابُهُ إذ يفيض،
قطراته لا تسطع بحيث ترى،
كذلك حيث أنت يسيل هاطل من النغم.

•••

إنك كالشاعر اندسَّ
في شعلة من فكره،
وأخذ ينشد الألحان، ولم يطلب إليه إنشادها،
حتى يستوقف مسامع الدنيا
فتصغي إلى آمالٍ ومخاوف لم تكن بها آبهة.

(٧) جون كيتس John Keats (١٧٩٥–١٨٢١م)

«شلي» و«كيتس» بين الشعراء السبعة٦٢ الذين يمثلون حركة الابتداع، هما أخلصهم من آثار الماضي وأقواهم تصويرًا للمذهب الجديد. وقد ولد «جون كيتس» بعد زميله بثلاث سنوات ومات قبله بعام؛ مات في السادسة والعشرين وهو في ريعان الشباب. ولقد قلنا عن «شلي» إن قوة شاعريته أخذت تعلو وتزداد حتى يستحيل الحكم ماذا كان ينتهي إليه شعره لو مُدَّ له في أجله، أما «كيتس» فقد بلغ ببعض قصائده ذروة الكمال التي ما كان له ولا لغيره من الشعراء أن يجاوزها، فما فقدناه بموته السريع هو نقص في كمية الإنتاج لا قصور في درجة الكمال. ولد «كيتس» لأبٍ فقير يسوس الجياد، لكنه لم يُحرَم نعمة الدرس، وتخرج طبيبًا جراحًا، ومارس مهنته سبعة أعوام، ثم جذبته فطرته إلى الاشتغال بالأدب، وقد ربطته صلات الصداقة برجلَين من أئمة النقد الأدبي إذ ذاك هما «لي هَنْت»٦٣ «هازلِت»٦٤ فتعلم من الأول بعض خصائص الشعر الحديث، وحفزه الثاني على دراسة الشعر الإنجليزي القديم؛ لكن الشاعر الشاب لم يكن في حاجة إلى كثير إرشاد؛ فحسبه أن يترك نفسه لدوافع نفسه، فله من فطرته الشاعرة ما يكفل له الأصالة والابتكار.
أخرج «كيتس» أول إنتاجه في الشعر وهو في الثانية والعشرين، ديوانًا لا يُبين عن نبوغه في أكمل مراتبه، ثم نشر بعد عام قصيدته «أنديميون»٦٥ وهنا بدأت عِلَّته تستفحل وتقوى، وأخذت علائم السُّل تظهر عليه واضحةً جلية، ومع ذلك استطاع بعد عامَين أن يخرج ديوانًا آخر فيه طائفة من القصائد الروائع مثل «لاميا»٦٦ و«هايبريون»٦٧ و«ليلة عيد القديس أجنيرس»٦٨ ثم سافر إلى إيطاليا ليلقى حتفه في روما.
كان ﻟ «كيتس» خصائصُ واضحة تميزه عن سواه، منها أنه كان يبحث في كل عصور الأدب عن موضوعات تصلح ليتخذ منها هياكل لقصائده، بحيث يستطيع أن يقرن فيها الصورة بالنغم، ثم يؤدي بها المعنى الذي يريد أداءه، ومنها قدرته العجيبة على التغلغل إلى صميم الشعوب التي يقرأ عنها، فهو لم يعرف اللغة اليونانية، ومع ذلك يكاد يُجمع النقاد أن الأدب الإنجليزي كله لا يشتمل على قصيدة تمثل الروح اليونانية كما تمثلها قصيدته «نشيد على وعاءٍ يوناني»؛٦٩ وكذلك كان ما قرأه عن الأدب الوسيط قليلًا، وبهذا القليل تمكن من تصوير روح الحياة في العصور الوسطى وكتب قصيدته La Belle Dame Sans merci فصوَّر بها تلك الحياة أروع تصوير.

وهذه أمثلة من شعره:

ففي قصيدة «أنديميون» قال عن الجمال هذه الأسطر:

الشيء الجميل متعة لا تزول،
جماله يزكو ولا يحول
قط إلى عدم، بل ما ينفك يجعل من مخادعنا
كِنًّا هادئًا لمأوانا، ومن نعاسنا
نومًا مليئًا بحلو الرؤى وبالعافية والتنفس الهادئ؛
وإذن فكأنما نحن في كل صبح نضفر
من الزهر رباطًا يربطنا بالأرض،
رغم ما يعاودنا من غمٍّ وما نعاينه من قحط
في نبل الطبائع لا يتفق ومنزلة الإنسان،
ورغم ما نصادفه من أيامٍ داجية، ومن صعابٍ
شائكةٍ مُعتمة تعترض سبيلنا،
فتحول دون سيرنا؛ نعم. على الرغم من كل هذا
ترى لونًا من ألوان الجمال يزيل الغشاوة
عن أنفسنا القواتم، كالشمس والقمر،
والشجر قديمه والجديد، إذ يمد ظلًّا تتفيؤه
الأغنام الساذجة؛ وكالنرجس
بعالمه السندسي الذي يعيش فيه، وكالجداول الصافية
التي نسجت لأنفسها غلالة بليلة
تقيها الصيف الحرور، وكالأعشاب تنمو في جوف الغابة
غنية بما انتثر فيها من الزهرات ذات الأريج؛
وكالذي أصاب مشاهير الموتى من قضاء
فيه جلال صوَّره لنا الخيال؛
وكالذي سمعنا أو قرأنا من رائع القصص،
كل هذا معين لا ينضب من شرابٍ خالد
ينصبُّ علينا من حافة السماء.

وهذه قصيدةٌ أخرى عنوانها «أغنية للخريف»:

يا فصلًا فيه الضباب وفيه ينضج الثمر،
يا صديقًا حميمًا للشمس المبدعة التي تمنح الأزهار النضرة والإيناع،
كأنما دبَّرتما معًا أمر الكروم التي تلفُّ حفاف السقوف،
فاتفقتما كيف تباركانها وتثقلانها بالثمار،
كما اتفقتما كيف تحنيان بالتفاح أشجار الكوخ غطى جذوعها الطحلب،
لقد دبَّرتما معًا كيف تُترعان الفاكهة كلها بالنضج حتى الصميم،
وكيف تكبِّران اليقطين وتملآن قشور البندق
باللباب الحلو؛ ثم كيف تزهران الزهر
وما تزالان تزهرانه في أواخر الفصل لتهيئا للنحل طعامًا،
حتى يحسب النحل أن أيام الدفء ليس لها نهاية؛
إذ يرى أن «الصيف» قد أترع له الخلايا حتى فاضَ شهدُها.

•••

من ذا الذي لم يرك يا خريف وسط محصولك المخزون؟
فإن لم تكن خزينًا، فها أنت ذا عند مجمع الغلال
قد افترشت الأرض في غير احتفال،
وشعرك رفرفته الريح التي هبَّت لتذروه؛
أو ها أنت ذا غارق في نعاسك في أخدود المحراث الذي لم يتم حصاده
أنعستك من الخشخاش نفحات، فألقيت منجلك
لتبقي على حزمة من الحصاد انضفرت أزاهرها، كانت ستقطف بأول ضربة من منجلك،
وأحيانًا أراك في نبتة من فضلات الحاصدين
لبثت مُحنيةً رأسها المثقل عَبْرَ مسيل الماء،
أو أراك إلى جوار معصرة التفاح ترقب صابرًا
آخر القطرات تسَّاقط ساعةً بعد ساعة؛
أين أناشيد الربيع، أين؟
دع عنك أناشيد الربيع، فلك يا خريف أنغامك،
فحين تزخرف السحائب المخططة نهارك إذ ينحدر برفق إلى الغروب،
فتصبغ بالورد سهولًا جُمعت منها الحنطة وبقيت أعقابها؛
عندئذٍ يأخذ البعوض الصغير في تغريد لحنٍ حزين
بين صفصاف النهر، حينًا تراه يعلو
وحينًا يهبط، كلما هبَّت النسمة الخفيفة أو سكتَتْ عن الهبوب،
وكذلك تسمع الحملان التي اكتمل نموها تثغو عند السفوح،
والصراصير عند حفاف الحقول تغني، وفي صوتٍ رخيم
يصفر أبو الحناء في البستان،
كما تزقزق العصافير طارت في الهواء زرافات.

(ب) القصة

(١) وولتر سكُتْ

لقد تحدثنا عن «سكُتْ» شاعرًا من شعراء الحركة الابتداعية في الأدب الإنجليزي، ونتحدث عنه الآن كاتبًا للقصة من الطراز الأول بين قُصَّاص العالم أجمع. وربما عجبت للدافع المباشر الذي حوَّل أديبنا من قرض الشعر إلى كتابة النثر، وذلك أنه رأى ذكر «بَيْرُن» يتسع ويزداد حتى لم يعد لنفسه خطر بالقياس إليه، فأخذته الغيرة وضرب بقلمه في مجالٍ آخر، فكان هو المجال الذي أعدَّته له الطبيعة التي قلَّما تخطئ هدفها. على أن «سكُتْ» حين اتجه بجهده إلى القصة لم يكن يخطو في أرضها أولى خطاه، فهو حكَّاء منذ الصبا، وكانت له محاولاتٌ موفَّقة فيها، فلما اعتزم أن تكون القصة ميدانه أخذ يقلِّب في أوراقه القديمة حتى أخرج من بينها فصولًا كان قد أنشأها من قصص «ويفرلي»٧٠ فمضى فيها الآن حتى ختامها ونشرها، فجاءت آيةً أدبيةً كبرى أثارت إعجاب النقاد جميعًا، كما صادفت هوى القراء؛ فأما الإنجليز منهم فقد رأوا فيها جدة وطلاوة فيما عرضته عليهم من مناظر اسكتلندة وأخلاق شعبها، وأما أهل اسكتلندة فقد وجدوا فيها ما عهدوه في بلادهم فأعجبهم منها دقَّتها وصدقها. على أن هؤلاء القراء من إنجليز وإسكتلنديين على السواء قد فاتهم أن عظمة هذه المجموعة الخالدة لا ترتكز على صدق وصفها لاسكتلندة وأهلها فحسب، بل ترتكز قبل ذلك على أنها تعرض الحياة الإنسانية عامة في ثوب من الفن الرفيع، فالمناظر والأشخاص فيها — على الرغم مما يكسوها من خيال الكاتب — تُصوِّر ما يصادفنا في الحياة، فكأنما هي حية تسري فيها الدماء وتدبُّ فيها الحركة والنشاط، وليست من قبيل القصص القديمة التي تهوِّل وتشطح في الخيال وتزخرف الأشخاص، فتجعل كل ما فيها دُمًى خشبية يحركها اللاعب وهي في ذاتها ميتةٌ جامدة.
ولم يكد ينشر هذا الأديب الفحل مجموعته هذه حتى أحسَّ كأنما وقع من نفسه على كنزٍ ثمين، فأخذت قصصه بعد ذلك تتوالى في تتابعٍ سريع؛ فكنت تراه يفرغ من القصة الطويلة في ستة أسابيع، ولم ينفق في أيٍّ منها أكثر من بضعة شهور؛ وبذلك أخرج سلسلةً كل حلقة فيها آيةٌ خالدة، فالحق أن قصصه كلها من الجودة والروعة بحيث يكاد يستحيل القول إن هذه أو تلك أفضلها جميعًا. حسبنا أن نذكر أنه أخرج أول الأمر نحو عشر قصصٍ طوال تدور كلها حول وطنه اسكتلنده، ثم لعله أحسَّ أن الموضوع قد أنهكته إفاضة الحديث، فاكتفى منه بهذا القدر واتجه إلى تاريخ بلاده وتاريخ أوروبا عامة يسرد الحوادث في لونٍ قصصيٍّ بديع. ولقد تُصادف ناقدًا يأخذ على الكاتب أنه لم يراعِ الدقة في سرد حوادث التاريخ، لكن مثل هذا النقد لا يصدر إلا عن رجلٍ تُعوِزه الدراية بالفن الأدبي في كتابة القصص التاريخي، وخير قصصه في هذا الباب قصة «أيفانهو»٧١ التي صوَّر بها عصر الملك شارل قلب الأسد، وقصة «كونتن درورد»٧٢ التي عالج فيها صورةً من صور التاريخ الأوروبي، وله في الحروب الصليبية قصتان «الطلسم»٧٣ و«الخطيبة».٧٤

إنك لا تستطيع أن تستعرض القصة في مراحل نموها دون أن تذكر «وولتر سكُتْ» الذي دفعها إلى الأمام دفعةً قوية؛ فهو الذي خلق القصة التاريخية خلقًا بعد أن لبثت ما يقرب من ألف عام تحاول الظهور محاولاتٍ كانت تنتهي دائمًا بالخيبة والفشل، وهو الذي عرف كيف يجعل الخصائص القومية لأمة من الأمم محورًا أساسيًّا للقصة. ولو عُرض الأشخاص الذين خلقهم خيال الأدباء — في كل العصور — في متحف لوجدت «سكُتْ» قد خلق منها عددًا لا يجاريه في كثرته أديبٌ آخر إلا شيكسبير، ثم هو يفضل شيكسبير في كثرة ما صوَّر من مناظر في قصصه. وكان له أعظم الفضل في رفع القصة إلى مستوى الأدب الرفيع؛ إذ جاء وهي على شيء من الزراية، توضع في منزلةٍ أدنى من سائر الصور الأدبية، ولا يحاولها إلا قلة من الأدباء ويقرؤها الناس في شيء من التخفِّي والاستحياء، فتركها وهي — بفضله — في منزلةٍ واحدة مع سائر ضروب الأدب احترامًا ودَرًّا للمال وخصوبة في الإنتاج.

(٢) جين أوستن Jane Austen (١٧٧٥–١٨١٧م)

تصغر هذه الكاتبة معاصرها «سكُتْ» بأربعة أعوام فقط، لكن لم يكتب لها أن يمتد بها الأجل بقدر ما امتد به؛ إذ ماتت ولها من العمر اثنان وأربعون عامًا. ولئن عُدَّ «سكُتْ» أبًا للقصة في القرن التاسع عشر، فلا شك أن «جين أوستن» أمٌّ لها؛ فكلاهما كان للقصة واضعًا للأسس، مقيمًا للدعائم. فبينا ترى «سكُتْ» قد طرق بقصصه كل الأبواب الممكنة، ثم مضى في بعضها إلى حدٍّ بعيد من الجودة والإتقان، ترى زميلته «أوستن» قد تناولت بنجاح — يوشك ألَّا يقل عن نجاحه — أبواب القصة التي لم يمسَّها «سكُتْ» إلا مسًّا رفيقًا.

تلقَّت «جين» درجةً عالية من التعليم، وعاشت معظم سنيها في الريف قُراه ومدنه؛ وماتت ولم تتزوج. وقد بدأت كتابة القصة وهي حول العشرين من عمرها، لكنها لم تجد ناشرًا، وكانت أولى قصصها «كنيسة نورثانجر»،٧٥ اشتراها منها ناشر، لكنها لم تُنشر إلا بعد موتها؛ وأول ما نُشر لها في حياتها قصة «سلامة إدراك ودقة إحساس»٧٦ ثم تبعها قصة «كبرياء وتعصب»٧٧ ثم جاء بعد هذه ثلاثٌ أخرى، وهي في كل قصصها هذه كادت لا تعالج إلا موضوعًا واحدًا هو حياة الطبقة العالية في أنحاء الريف. ولن تجد في عالم النقد ناقدًا لرأيه وزن إلا رأيته يضع هذه الكاتبة في الصف الأول بين أصحاب القصة أجمعين.

«كنيسة نورثانجر» موضوعها قصة فتاةٍ جميلةٍ ذكية ظنها أحد الأغنياء وارثة فرحب بها وأغدق عليها من كرم وفادته إغداقًا رجاء أن تكون زوجة لابنه، فلما تبين له فقرها طردها من منزله طردًا عنيفًا. و«سلامة إدراك ودقة إحساس» تدور حول شخصيتَين مختلفتَين لأختَين شقيقتَين، إحداهما على شيء من الرعونة تستجيب لدوافع العاطفة بغير احتكام للعقل، والأخرى هادئة تُحكِّم إدراكها العقلي في شتى أمورها، تركهما أبوهما في عُسر فعاشتا مع ذوي قرباهما الأغنياء. وأساس القصة مقارنة بين الأختَين في مختلف المواقف. والدرة العصماء بين هذه القصص كلها، قصة «كبرياء وتعصب» وهي قصة فتاةٍ طَموحٍ أبية النفس أحبها شابٌّ غني، لكنها نبذته في كبرياء لما لمسته فيه من ازدراء لأهلها وذويها. وهكذا تمضي الكاتبة في قصصها جميعًا تُصوِّر لنا الفقراء على اختلاف صورهم وهم يخالطون الأغنياء لتُرينا كيف يفكر الأغنياء وكيف يعيشون. وهي تختار أبسط الموضوعات لقصصها، لكنها حين تجري الحوار أو تحلل الأشخاص تُبدي براعة قل أن يكون لها نظير. ولو لم يكن في قصتها حبكة لكفاها جودة مثل ذلك الحوار البارع وهذا التحليل الدقيق. ويتميز أسلوبها بشيء من السخرية الرفيقة التي لا تفارق قلمها، وقد يأخذ عليها الناقدون أحيانًا أنها تقسو في بعض المواضع في سخريتها. ومهما يكن من أمر هذه الكاتبة القديرة، فقد وجهت أدب القصة توجيهًا جديدًا حين بينت في وضوح وقوة أن الحياة اليومية المألوفة المعروفة إذا أجاد الفنان ملاحظتها والاختيار من أجزائها، كانت له معينًا خصيبًا لا ينضب، للقصة في أعلى مراتبها.

(ﺟ) المقالة

على الرغم من هذا المجهود الجبار الذي بذله «سكُتْ» و«جين أوستن» ربما لم تكن للقصة المنزلة الأولى في عالم النثر في الثلث الأول من القرن التاسع عشر. وربما كنا أدنى إلى الصواب إذا جعلنا تلك المنزلة الأولى للمقالة التي وجدت مجالًا خصيبًا في الصحف الأدبية التي كثرت في ذلك العهد لتسدَّ حاجة عند القراء. ولم تكن المقالة عريقة الأصول في الأدب، فقد رأينا في الجزء الثاني من هذا الكتاب، ونحن نؤرخ لمونتيني في الأدب الفرنسي، كيف خُلقت المقالة خلقًا على يدي «مونتيني» في القرن السادس عشر، لكن العجيب في أمرها أنها حين ولدت جاءت كاملة الخلق والتكوين، وأخذت — منذ ظهرت في عالم الوجود — توسع من نطاقها من حيث الموضوعات التي تعالجها، فكانت مجالًا لتحليل الشخصيات، ومتنفَّسًا للأديب يبثُّ فيها مشاعره وخواطره، وميدانًا للنقد الأدبي، ووسيلة للإصلاح الاجتماعي. وهكذا لبثت المقالة طوال القرنَين السابع عشر والثامن عشر أداةً طيِّعة في يد الأديب يتخذها لكل موضوع شاء أن يكتب فيه، ومن حسن حظها أن تناولتها أيدي فحول الأدباء فضمنت لها القوة وطول البقاء. فلما كان الثلث الأول من القرن التاسع عشر — وهو العهد الذي نحن الآن بصدده — تعهدتها طائفة من الأفذاذ، حسبنا أن نذكر منهم الأربعة الأعلام: «لام» و«هَنت» و«هازِلت» و«دي كِوِنسي».

(١) تشارلز لام Charles Lamb (١٧٧٥–١٨٣٤م)

هو لندني المولد والنشأة والإقامة، تلقى بعض التعليم المدرسي ولم يبلغ في شوطه إلى غايته؛ إذ أُريد له أن يُستخدَم في إحدى الشركات الكبرى، لكن حياته اضطربت بسبب جنونٍ موروث لم يبلغ في حالته حدَّ الجنون الكامل إلا فترةً قصيرة، ثم كانت علامته بعد ذلك شذوذًا في سلوكه، غير أنه كان أشد ظهورًا في أخته «مارية» حيث انتهى بها إلى قتل أمها في ثورة من ثورات جنونها. وأخذت هذه الثورات الجنونية تنتابها على فترات تزداد قصرًا كلما تقدمت بها السن. وكانت «مارية» تقيم مع أخيها «تشارلز» الذي أحبها حبًّا شديدًا، ولم يتزوج حرصًا على راحتها.

الْتقى «لام» بكولردج فكان له في حياته الأدبية أبلغ الأثر، وقد يكون هو الذي وجه «لام» إلى دراسة الأدب في عهد اليصابات دراسةً ملكت عليه نفسه حتى إنه أنشأ مأساة على غرار المآسي في ذلك العهد عنوانها «جون وودفيل»٧٨ وأخرج مع أخته «مارية» «قصص من شيكسبير»،٧٩ ونشر مجلدَين فيهما مختارات من الأدب التمثيلي في عهد اليصابات، علق عليها بمذكراتٍ نقديةٍ رائعة، وأما آيته الكبرى فهي «مقالات إليا»٨٠ التي طبعها بطابعه مادة وأسلوبًا حيث جاءت شيئًا فريدًا في الأدب الإنجليزي كله، وقد حاول أن يقلده المقلدون لكنهم جميعًا انتهوا في محاولتهم إلى الفشل؛ ففي خياله، وفي أسلوبه، وفي فكاهته خصائص تدركها بذوقك ولا تستطيع لها تحليلًا ولا وصفًا.

اتخذ لام المقالة أداة للتعبير عن نفسه، واتخذ من شخصٍ خيالي يرمز به إلى نفسه أطلق عليه «إليا»، محورًا تدور حوله أفكاره وخواطره وذكرياته وتأملاته. وهو في كل ما كتب سواء أكان ذلك تعليقًا على كتاب أو على شخص صادفه في حياته أو على وضع من أوضاع المجتمع؛ إنما كان يعبر عن صدى هذا الشيء أو ذاك في نفسه هو دون أن يجعل هذه النظرة الذاتية صريحةً مباشرة. لكن النظرة الذاتية في أدبه لها خصائص يتميز بها عن سواه، فكل أديبٍ ذاتيٌّ فيما يكتب إلى حدٍّ ما، لكن ليس كل أديب ذاتيًّا بمعنى أن يشقَّ نفسه شطرَين، شطر منهما ينقد شطرًا آخر نقد الحذر البصير الذي لا يغيب عن ذهنه قط ما يقع فيه الإنسان من خداع، إذ يحكم على الأشياء وفق هواه فيخطئ أحيانًا وهو لا يدري بخطئه لأن هواه قد أعماه. وبهذا الأسلوب الذاتي المحايد عادت المقالة إلى ما كانت عليه عند أول خلقها على يدي «مونتيني».

ومع ذلك فلم يكن «لام» في مقالته صورةً مكررة من «مونتيني»، بل ظل بينهما هذا الفارق الذي جعل لكلٍّ منهما شخصيته في أدبه؛ «مونتيني» يحلل نفسه تحليلًا أقرب جدًّا إلى ما يصنعه عالم النفس إذ يردُّ المركب إلى عناصره الأولية، ثم هو يستخرج العبرة لعلها تكون درسًا يقوِّم الأخلاق، أما «لام» فلا يجعل همه هذا التحليل ولا ذلك التقويم إنما أراد شيئًا واحدًا، هو أن يمتع نفسه بما يكتب وأن يمتع قارئه بما يقرأ، وهو في ذلك فنانٌ مطبوع، إن أراد أن يرهف حسَّ قارئه أو أن يعلو بنفسه، اصطنع لذلك سبيلًا غير مباشرة بحيث لا يحسُّ قارئه أنه إزاء معلم يؤدِّبه.

(٢) لي هنت Leigh Hunt (١٧٨٤–١٨٥٩م)

لم يكد «هَنْت» يفرغ من دراسته حتى وجد سبيله إلى منصب في الحكومة يضمن له اطرادًا في حياته، لكنه لم يلبث أن تركه مدفوعًا برغبته في الاشتغال بالأدب؛ وكان له أخ يعرف كيف يشق طريقه في الحياة العملية؛ فتعاون الشقيقان على إخراج صحيفة تلوَّنت بالدعوة إلى الحرية ومعارضة الحكومة. وقد زُجَّ «لي هنت» في السجن لمهاجمته للوصي على العرش عندئذٍ، ولبث بعد خروجه من السجن خمسين عامًا، لم يكد يغادر فيها مدينة لندن، ولم يشتغل خلالها إلا بالأدب. ولم يكن «هنت» في الصف الأول من رجال الأدب في شعره أو نثره؛ إذ أعوزه الفراغ وطمأنينة العيش، فكان يكتب على عجل لكسب قُوته، كما أعوزه الذوق المرهف. والفراغ وسلامة الذوق الأدبي شرطان لازمان للأديب الممتاز. وأبرع ما برع فيه قدرته على النقد الأدبي؛ فقد كان سديد الرأي في تقدير إنتاج غيره من الأدباء، ثم قدرته على كتابة المقالة الصحفية التي تتناول شتى الشئون؛ فهو في هذه نابغٌ قدير لا يدين لسابقيه إلا بالقليل، وله أعمق الأثر في عشرات من لاحقيه في هذا المجال. وقد حاول «هنت» أن يكتب أدبًا قصصيًّا وغيره من ألوان الأدب فلم يفلح؛ فكأنما خلق بطبعه كاتبًا صحفيًّا. غير أنه في الصحافة أقرب شبهًا بأدباء الصحافة الأقدمين منه بالمحدثين؛ إذ كان يتولى كتابة الصحيفة بنفسه، أو — على الأقل — كان العامل الرئيسي في تحريرها؛ فلم تكن الصحيفة الأدبية — مثلها اليوم — ميدانًا تتعاون فيه أقلام طائفةٍ كبيرة من الكتاب. كان «هنت» مخلصًا فيما جاهد في سبيل نشره من آراء في إصلاح السياسة والاجتماع والدين، فقد أراد للأفراد والمجتمع نظرة للأمور تسودها القيم الروحية العليا، وله أعظم الفضل في أن خفف عن المقالة الأدبية بعض أعبائها وهيأها للصحافة، بحيث جعلها أداةً صالحة لكثيرٍ جدًّا من أغراض الإصلاح، ولعله كان في الأدب الإنجليزي أول من استخدم المقالة في النقد المسرحي، وفي هذا تبعه «هازلت» وتفوق عليه إلى مدًى بعيد. وله في النقد آراءٌ صائبة صدر فيها عن تمثله بنماذج الأدباء القدامى، وخير ما خلفه لنا هذا الكاتب سيرة حياته٨١ التي ملأها بما يستوقف القارئ بالإعجاب، والتي تلقي ضوءًا قويًّا على الرجل وعلى عصره الذي كان غنيًّا بالأدباء الأعلام. ومما خلفه أيضًا مجموعات مقالاته وأهمها «رجال ونساء وكتب»٨٢ و«الفطنة والفكاهة»٨٣ و«الخيال السوي والخيال الشاطح».٨٤

(٣) وليم هازلت William Hazlitt (١٧٧٨–١٨٣٠م)

هو في النقد أعظم من زميلَيه «لام» و«هنت»؛ بل إن شئت فقل إنه من أئمة النقد في آداب العالم كلها. ربطته الصلات بكولردج كما ربطت غيره من أدباء العصر، فكان لكولردج أعمق الأثر في توجيهه وإشعال نبوغه، كما صنع بكل من اتصل به. وعاش «هازلت» حياةً فيها كثير من المتعة لكن تنقصها السعادة، فقد تزوج مرتين، وساء حظه فيهما معًا؛ إذ اختلف مع الأولى اختلافًا أدى إلى الطلاق، وهجَرَته الثانية بعد زواجها منه بأمدٍ قصير، ولعله المعيب في كلتا الحالتين، لأنه كان معروفًا بحدَّة طبعه التي ضاق بها حتى أخلص الأصدقاء. وكان يهاجم الناس عن طبع يميل إلى المشاكسة بداعٍ وبغير داعٍ، بل حمله ذلك الطبع المشاكس على الخوض بنقده وهجومه في أدب الأسبقين فضلًا عن المعاصرين. وكانت تنقص «هازلت» الدراية التامة بالآداب واللغات الأجنبية، لكنه رغم هذه النقائص كلها، أنتج في نقد الأدب الإنجليزي مجموعة من المقالات والمحاضرات تكاد لا تجد لها نظيرًا؛ ولهذا كان في عصره كاتبًا يُحسَب حسابه، ومن العجيب أنه لم يلقَ كل هذا التقدير عند الجيل الذي تلاه، لكنه عاد بعدئذٍ إلى الصعود في نظر الأجيال التالية، ولعله حتى اليوم لم يوضع بعدُ موضعه الصحيح.

«هازلت» فردي في روحه، بحيث وقف إزاء العالم موقف التحدي والمصارعة في السر والعلن، فكل ما تواضع عليه الناس من رأي وعقيدة أصابته طعنات نقده التي لم تصدر عن جهلٍ عابث، بل صدرت عن رجل أوتي من نفاذ البصيرة وصواب الحكم قسطًا موفورًا. وإن شئت أن تتخيله فصوِّر لنفسك رجلًا بلغت به الكبرياء حدًّا مفرطًا، واعتدَّ بنفسه اعتدادًا حدا به أن يستهين بسواه، بل أن يمقت غيره من أفراد الإنسان، ولم تكن له هذه النفس السمحة ولا هذا الصدر الرحب الذي ييسر على نفسه طريق الحياة، لكنه مع ذلك كان إذا ما أراد نقدًا ضبط من نفسه جماحها واتَّزن في حكمه على نحوٍ يدعو حقًّا إلى كل إعجاب. فهو بهذا ثنائي الشخصية تراه على لون في حياته وعلى لونٍ آخر في نقده، ولعل في هذا الازدواج مصدر شيء من خصوبته وإن يكن بغير شك مصدر تعاسته وشقائه. وهو على أي الحالَين صاحب نظرةٍ نقَّادة، من طبعه أن ينقد ما يصادفه، وهو في هذه الثورة أو ما يشبه الثورة صنيعة الثورة الفرنسية ووليد دعوةٍ قوية الأصداء إلى تحكيم العقل في كل الأمور والاهتداء بهديه؛ وهو من هؤلاء الرجال الذين يرون أن «الحياة عقيدة وجهاد» أعني أنه يعتقد بصواب المبدأ النظري ثم لا يلين بعد ذلك في جهاده في سبيل ما اعتقد صوابه.

وإنه لمما يبدو تناقضًا في القول أن نزعم أنه من رجال الأدب الابتداعي — والأدب الابتداعي أَميَل إلى الأخذ بالعاطفة — ثم نزعم في الوقت نفسه أنه يسلم قياده لأحكام العقل. لكن هذا التناقض الظاهر ربما زال لو أضفنا إلى هذين الزعمَين تحديدًا، فاحتكامه إلى العقل هو في تبيُّن الحدود التي ينبغي أن تقف عندها العاطفة؛ أعني أنه يسلم بضرورة أن يترك الإنسان نفسه على سجيتها في التأثر بالأشياء والحكم عليها بالفطرة واللقانة، على ألَّا يجاوز ذلك الحدود المشروعة.

كان «هازلت» ناقدًا للأدب وناقدًا لأوضاع الحياة في آنٍ معًا، وهو في نقده مطبوع بصراحةٍ عجيبة، صراحة مصدرها ثقته بنفسه؛ فلا يعبأ في قليل أو كثير أجاء رأيه مستطابًا عند الناس أم مريرًا. وهو في تبيُّنه للعيوب لا يصطنع التحليل بقدر ما يلجأ إلى الإدراك المباشر، فعينه الفاحصة لا تخطئ ما يريد أن يراه؛ ولذلك تحس وأنت تسايره في أيما طريق شئت كأنما يلفتك الرجل لفتاتٍ مفاجئةً متداركة، تقلب لك آراءك التي ألِفْتها رأسًا على عقب، ويزيح عن عينَيك الغشاوة التي تريك ظواهر الأشياء حقائق ثابتة. وقد تمدحه على صنيعه لك، وقد تسبُّه وتلعنه لأنه سيُريك رغم أنفك الحقائق المرة عن بعض الأشياء، وليس الإنسان على استعداد دائمًا أن يصغي إلى الحق.

وكذلك ترى هذه اللفتات المفاجئة القوية في نقده الأدبي، فهو — بحركةٍ واحدةٍ سريعةٍ ماهرة — يجد نفسه في صميم الشخصية التي هي موضوع نقده، لا يحاور في ذلك ولا يداور؛ ثم هو يتدرج في خروجه من ذلك الصميم الذي وقع عليه شيئًا فشيئًا؛ فإذا بك ترى المعالم والقسمات في جلاء ووضوح. وكثيرًا ما كان يقع على جانبٍ خفي من نفس الأديب الذي يكون موضوع بحثه، حتى ليُخيَّل إليك أنه يهتدي في ذلك بهذه الأساليب التي يستخدمها أصحاب التحليل النفسي في هذه الأيام فيبرزون بها ما خفي عن العيون. على أنه بغير شك لم يكن معصومًا من الخطأ، فقد يضل بسبب تعصبٍ سابق لرأي بذاته. ومن أمثلة خطئه في الحكم أنه لم يرَ في «شلي» شاعرًا مُجيدًا. لكنه على كل حال من أقل النقاد ضيقًا في الأفق وجريًا مع الهوى، وفضله عظيم في تحليل كثير من شخصيات شيكسبير، فهو من المعجبين بأدب النهضة عامة، وإن يكن من العسير عليك أن تجد له عصرًا معيَّنًا أو شاعرًا خاصًّا أو مدرسة بذاتها تنسبه لها، فهو مادح أينما وجد ما يستحق المدح، مهاجم أنَّى صادف ما يستثير الهجوم.

(٤) تومس دي كونسي Thomas De Quincey (١٧٨٥–١٨٥٩م)

مات أبوه وخلفه صغيرًا، لكنه ترك له إرثًا لا بأس به، وإن يكن «دي كونسي» بدَّده فيما بعدُ على نحوٍ لا يشينه، غير أنه يدل فيه على غرابة وشذوذ؛ مثال ذلك أنه أجزل العطاء لرجال الأدب — فقد أعطى مبلغًا كبيرًا لكولردج — وأنه لم يعمل شيئًا مما يعود عليه بالكسب اعتمادًا على ثرائه الموروث، وأنه لم يتمَّ دراسته الجامعية، إلى غير ذلك من أمور. ولما كان الشباب والفراغ والجِدَة مفسدةً للمرء أي مفسدة، كان لأديبنا بدوات في شبابه، منها إدمانه المفرط في «الأفيون»، وقد ذكر لنا مغامرات شبابه في سيرة حياته التي كتبها بقلمه وفي كتابٍ آخر عنوانه «اعترافات مدمن في الأفيون».٨٥

عرف «دي كونسي» في نفسه القدرة على الإنشاء؛ ثم نفد ماله الموروث، فأخذ يكتب كتابة لا تنقطع مدى أربعين سنةً من حياته. وفي أخريات أيامه جمع كثيرًا مما كتب وأعاد طبعه، فكان لنا بذلك أكبر مجموعة في الأدب الإنجليزي من أدب المتفرقات وأكثرها تنوعًا؛ فقد كان هذا الأديب يجمع في نفسه دقة التحقيق العلمي وسعة الاطلاع، وكانت له قدرة على القصص، وموهبة نادرة المثال في العرض والتلخيص، فضلًا عما امتاز به من فكاهة ونبوغ في الأسلوب المنمق المزخرف الذي لن تجد من يفضله فيه، ذلك إن وجدت من يجاريه. وكان يعلم أنه موهوب في هذا الضرب من الكتابة، لكنه أخطأ فظنَّ أن مثل ذلك النثر المزوَّق أعلى منزلةً من النثر السلس المتدفِّق. ومهما يكن من أمر فإنه إنما يحتل مكانه في تاريخ الأدب لأنه في طليعة من غيروا مجرى النثر الأدبي في القرن التاسع عشر، فجعلوه نثرًا مزخرفًا بعد أن كان ساذجًا عاريًا من كل تنميق. وقد وجد «دي كونسي» في ميدان الأحلام مجالًا فسيحًا لنثره، وهذه حقيقة لها مغزاها الواضح ودلالتها القوية؛ إذ لبث النثر الفني مائة وخمسين عامًا لا يريد لنفسه شيئًا فوق أن يكون أداة للتعبير عن شئون الحياة العملية، وها هو ذا ينتقل بمَثَله الأعلى إلى ميدانٍ آخر، فصار على يدي «دي كونسي» أداة للخيال قبل أن يكون وسيلة للتعبير عن الواقع. ولا شك في أن هذه نتيجةٌ طبيعية لمذهب «وردزورث» في الشعر — الذي أسلفنا الكلام عنه — بأن جوهر الشعر في المعنى لا في طريقة الأداء؛ فقد يكون الكلام شعرًا حتى إن خلا من الوزن والقافية؛ فكان من أثر هذه الدعوة أن رأينا بعض أنصار المدرسة الجديدة يكتبون الشعر منثورًا، أو قل يكتبون النثر ليكون شعرًا.

(د) ضروبٌ أخرى من النثر

آثرنا أن نقسم الحديث في النثر قسمَين، فقسم للمقالة أسلفناه، وقسمٌ آخر لضروب النثر الأخرى التي ظهرت فيما كان يؤلَّف من الكتب على اختلاف موادها، وذلك لأن الأسلوب في الحالتَين مختلفٌ أشد اختلاف، فما أساغه الذوق في المقالة لم يكن ليسيغه في الكتاب. فقد كان يتعذَّر على «دي كونسي» — مثلًا — أن يجد ناشرًا لكتابه «اعترافات مدمن في الأفيون» لو أنه أخرجه كتابًا كاملًا، فلولا أنه نشره في الصحف الأدبية منجَّمًا في مقالات لما وجد سبيله إلى المطبعة. فقد اختار أدباء المقالة في العصر الذي نؤرخه — الثلث الأول من القرن التاسع عشر — الأسلوب المنمق لمقالاتهم، وكان هذا التنميق في الأسلوب علامة التجديد، لكن مثل هذا الأسلوب لا يصلح في كتابٍ طويلٍ متصل؛ لهذا كان للنثر في ذلك العهد أسلوبان مختلفان: أسلوب للمقالة وأسلوب للكتاب، وسنختار اثنين من أصحاب الأسلوب الثاني لنسوقهما مثالًا للنثر الأدبي في غير المقالة، وهما: «سَذِي» و«ماكولي».

(١) سَذِي Southey

لقد أسلفنا الحديث عن «سَذِي» شاعرًا من شعراء الابتداع، وزعمنا إذ ذاك أنه خالد بنثره أكثر منه بشعره؟ فلو فرضنا أن للنثر الإنجليزي معيارًا يُقاس به الجيد والرديء، كان نثر «سَذِي» أقرب ما يكون إلى ذلك المعيار؛ فيوشك أسلوبه أن يكون نموذجًا يُحتذى. نقول ذلك على سبيل الافتراض الذي يقرب الصورة إلى الأذهان، لأننا نعلم أنه يستحيل أن يكون لكل ضروب النثر طريقةٌ واحدة وأسلوبٌ بعينه، فلكل موضوعٍ طريقة تصلح له، ولكل كاتبٍ أسلوبه الخاص الذي ينبغي أن يُحكم عليه باعتباره كائنًا حيًّا مستقلًّا دون النظر إلى سواه. وآيته النثرية الكبرى هي «حياة نلسن»؛٨٦ ولو أنه من الحق أن يُقال إن قدرة الكاتب في التعمق في أسرار النفس كانت لها حدودها، وإنه حين تسلف «كارلايل» في التأريخ للأبطال كان مثله الأعلى في البطل مشوبًا بعاطفته الوطنية. ومهما يكن من أمر فقد قدَّم لنا «سَذِي» في شخص «نلسن» صورةً للرجل النشيط الطامح الذي لا يزال يدنو من غايته في نمو لا ينحرف ولا ينتكس. وقد أظهر الكاتب براعةً ممتازة في تلخيص الحوادث الكثيرة التي صادفت بطله تلخيصًا جاء في سياقٍ رائعٍ خلَّاب. وإن شئت وصفًا لما يمتاز به نثر «سَذِي» في هذا الكتاب فقل إنه الوضوح والنقاء، وللكاتب قدرةٌ عجيبة على استخدام الألفاظ الفصحى والعامية والمتداولة والمزخرفة كلها جنبًا إلى جنب بحيث تأتي الديباجة رغم ذلك كله متَّسقة البناء سليمة الحبك.

(٢) ماكولي Macaulay (١٨٠٠–١٨٥٩م)

ماكولي نابغ منذ طفولته، فقد كانت سنُّه العقلية أسبق من سنِّه الزمنية بمرحلةٍ بعيدة، وكانت له ذاكرة هي أعجوبة الأعاجيب؛ فلما كان في التاسعة من عمره قرأ قصيدة «سكُتْ» «المنشد الأخير»٨٧ مرةً واحدة فحفظها وأنشدها؛ ولازمته هذه الذاكرة القوية مدى الحياة، فكانت له أكبر عون على ملء كتابته بالإشارات التاريخية والأدبية؛ مما جعل لمقالاته وتاريخه قيمةً نادرة، وكان في ذلك غير منافَس، لكن إلى جانب ذلك كان اعتماده على ذاكرته في بعض المواضع مؤديًا به إلى الزلل. وكان «ماكولي» يقرأ في سرعة تكاد تستحيل على سواه، ويقرأ كل ما تقع عليه يداه، دون أن ينسى شيئًا مما قرأ. وقد عالج كتابة الأدب وهو دون العاشرة، وظفر وهو طالب بالجوائز الأدبية على بعض ما أنشأ.

ليس الصواب كل الصواب أن يُحشر «ماكولي» في زمرة أدباء الابتداع بغير تحفظ، فهو في حقيقة أمره مرحلةٌ وسطى بين ذلك العهد وما تلاه؛ فهو ربيب أعوام سادت خلالها في إنجلترا الفلسفة العملية النفعية التي تقيس العمل بمقدار ما يعود به على الناس عامة من خير، وكان لهذا الاتجاه الفكري أكبر الأثر في «ماكولي» إذ جعله يُؤْثِر أحكام العقل المنطقي وينشد في الظواهر تتابع الأسباب ومسبباتها، بل إن معيار الحق عنده هو ما يسود الظواهر من اطراد ينمُّ عن انسياق للقواعد، ولذلك أثره في كتابته للتاريخ، فلم يكن بالمؤرخ الذي يتعقب الوثائق بحثًا عن الحقائق، بل كان يقرأ عن العصر الذي يؤرخ له، ثم يكوِّن فكرةً واتجاهًا عقليًّا إزاءه، ثم يُنسِّق كل ما يكتبه عن ذلك العصر وفق هذه الفكرة وهذا الاتجاه العقلي؛ يثبت ما يؤيده ويمحو ما ينفيه؛ فوراء تاريخه رجل له نزعاته وأفكاره وآراؤه يريد أن يعبر عنها فيما يكتب من التاريخ. وفي رأيه إذا لم يُكتَب التاريخ ليكون درسًا لقارئه ففيمَ يكتب؟ فلا غرابة أن يرفضه المؤرخون المحترفون، وأن يرحب به الأدباء؛ لأنه رجل لم تَعنِه الحقيقة في ذاتها بقدر ما عنته آثارها في نفسه ونفس قارئه؛ ولهذا تراه يرسل لقلمه العنان فيختار ما يعجبه من الصور ليبلغ أعمق ما يمكن أن يبلغه من أغوار قارئه.

ولكنك تخطئ لو ظننت أنه شطح مع خياله في كتابة التاريخ إلى حدٍّ يقربه من القصة، فتاريخه تاريخٌ يتوخَّى الصدق في الرواية، على نحو يختلف بعض الشيء عن طريقة المؤرخ المحترف، فهو يبحث عن الوثائق والشواهد التي تعينه على تصوير إطار وبطانة تبرز عصره الذي يتناوله بالوصف إبرازًا واضحًا. وهو ممتاز في قدرته على وصف أوضاع الحياة وعلى أن يحيط الأشخاص والحوادث بجوٍّ نابض بالحياة، بحيث يستحيل عليك أن تقرأه دون أن تمتزج نفسك بحياة العصر الذي يقدمه إليك، وذلك كله يرجع إلى قدرته على النفاذ إلى قلب الشخص أو صميم الحادثة فيفهمها على حقيقتها ويُفهمك إياها.

له كتاب عن تاريخ إنجلترا يُصوِّر عصر الانتقال من القرن السابع عشر إلى القرن الثامن عشر، وله مقالات — كل مقالة بمثابة كتابٍ صغير — عن بعض رجال الأدب ورجال التاريخ، وهو أبرع في مقالاته منه في تاريخه؛ لأنه على كل حال مقيَّد في كتابة التاريخ ببعض القيود التي هو منها طليق حين يؤرخ لشاعر أو كاتب، على أن أسلوب الحديث فيهما متشابه، والمادة في «المقالات» أضحل منها في «التاريخ» وهو كثيرًا ما يبعد فيها عن الصواب في أحكامه، لكنه إذا كتب عن أديب صادف هواه فهنالك تجده في أعلى ذراه.

ولا يمكن الحديث عن «ماكولي» دون أسلوبه وخصائصه، فهو دفَّاقٌ سلسٌ واضح تكثر فيه المقابلة كما يكثر فيه القول القصير القوي؛ مرةً تطول معه الجمل ومرةً تقصر وتتركز كأنها الأمثال السائرة، وهو على كل حال يُعنى أكبر العناية بهندسة بنائه بحيث يخرجه متَّزنًا متَّسقًا، هنا عبارةٌ طويلة يقابلها هناك عبارةٌ طويلة مثلها، وفي هذا الجانب استعارة تقابلها في الجانب الآخر استعارةٌ مثلها وهكذا. ويؤخذ عليه جمودٌ في طريقة تفكيره وتعبيره؛ فهو يمضي في كل ما يكتب على صورةٍ واحدة وضع فيها كل ثقته، ولا نظنه قد وقف مرةً ليناقش نفسه الحساب فيرى إن كان في ذلك مخطئًا أو مصيبًا.

١  الرومانتيكي.
٢  الكلاسيكي.
٣  انظر قصة الأدب في العالم، الجزء الثاني، القسم الثاني، ص٤١٣-٤١٤.
٤  Lyrical Ballads.
٥  Coleridge.
٦  Wordsworth.
٧  Southey.
٨  Wordsworth.
٩  Lamb.
١٠  Hazlitt.
١١  Lyrical Ballads.
١٢  The Fall of Robespierre.
١٣  The Ancient mariner.
١٤  Kubla Khan.
١٥  Christabel.
١٦  Biographia Literaria.
١٧  Ballad. قلنا عن «الحكاية المنظومة» في الجزء الثاني من «قصة الأدب في العالم» صفحة ١٠٤ ما يلي: «هي قصيدةٌ قصصيةٌ قصيرة»، لقارئها أن يتلوها تلاوةً أو يتغنَّى بها، وهي مزيج من «شعر الملاحم» و«الشعر الغنائي»، وقد تتخذ بعض الحكايات المنظومة قالبًا تمثيليًّا فيه حوار بين أشخاص. وأما موضوع «الحكاية المنظومة» فقد يكون بطولة المحاربين أو مغامرة المحبين أو عجائب بلاد الجن، والخيال فيها ساذجٌ جامح، والشعور عميق يصوِّر عواطف الإنسانية بأسرها، وكثيرًا ما تتخير المواقف والمناظر التي تثير في السامعين الحزن والشجن، تلك هي المميزات العامة للحكاية المنظومة، على أن بعضها يقوم على أساس من التاريخ مع تغيير في الحوادث من حيث الزمان والمكان والأسماء بحيث لا تكاد تتبيَّن فيها من الحقيقة التاريخية شيئًا. راجع الجزء الثاني صفحة ١٠٣ وما بعدها.
١٨  اصطلحنا في هذا الكتاب على لفظ «الابتداعي» للرومانتيكي، و«الاتباعي» للكلاسيكي.
١٩  Lines Written Above Tintern Abbey.
٢٠  The Excursion.
٢١  The Recluse.
٢٢  The Prelude.
٢٣  Composed Upod Westminister Bridge.
٢٤  انظر في الجزء الأول من هذا الكتاب معنى المقطوعة الأربع عشرية.
٢٥  يقصد مدينة لندن.
٢٦  I Wandered Lonely.
٢٧  Fall of Robespierre.
٢٨  Thalaba the Destroyer.
٢٩  The Curse of Kehama.
٣٠  Rodericle the Goth.
٣١  Madoc.
٣٢  The lay of the Last Minstrel.
٣٣  Marmion.
٣٤  The Lady of the Lake.
٣٥  The Lord of the Isles.
٣٦  حدث في تاريخ إنجلترا في منتصف القرن السابع عشر أن قامت ثورة المتزمتين الدينيين بقيادة «كرمول» كان من أثرها أن قتل الملك شارل الأول، وأعلن كرمول قيام جمهورية كان هو على رأسها، لكن لم تمضِ سنواتٌ قلائل بعد موت «كرمول» حتى عادت الملكية بعودة شارل الثاني، ثم بعد قليل اعتلى العرش «وليم أورنج» وانتهى باعتلائه هذا عهد أسرة ستيورت. ومن المعروف أنه أثناء حكم المتزمتين الدينيين (وهم الذين يسمون في بعض الكتب العربية خطأ بالمطهرين) أن تدهورت الفنون كلها وأقفلت المسارح؛ إذ عدَّ المتزمتون هذه الأمور كلها خارجة عن الدين، وإلى هذا العهد يشير الشاعر بما أصاب «المنشد» من فقر وزراية وإهمال. راجع ما قلناه في الجزء الثاني من هذا الكتاب صفحة ٢٨٢ عن تأثير عهد المتزمتين في الأدب المسرحي.
٣٧  Hours of Idleness.
٣٨  Edinburgh Revieu.
٣٩  Childe Harold.
٤٠  قلنا في الجزء الثاني من هذا الكتاب، صفحة ١٤٣، إن «سبنسر» في قصيدته الكبرى «ملكة الجن» قد ابتكر بحرًا عُرف بعد ذلك باسمه؛ إذ وجد «سبنسر» عند سلفه «شوسر» بحرًا استخدمه ذلك الشاعر في «حكاية الراهب» وهو أن تنقسم القصيدة مقطوعاتٍ قوام الواحدة منها ثمانية أبيات، تجري قوافيها هكذا: أ ب – أ ب – ب ﺟ – ب ﺟ، فأضاف سبنسر سطرًا تاسعًا يتَّحد في القافية مع البيتَين السادس والثامن، على أن يكون البيت التاسع من الوزن الإسكندري — والبيت الإسكندري يشتمل على ست تفعيلات في كل تفعيلة جزآن لا يكون في أولهما ضغطٌ صوتي عند النطق، ويقع على ثانيهما ضغطٌ صوتي عند النطق — فكان له بذلك مقطوعة قوامها تسعة أبيات تاسعها طويلٌ بطيء يكون للقارئ بمثابة الخاتمة الموسيقية الهيِّنة الهادئة، فيرى نفسه مضطرًّا أن يقف عندها وقفةً قصيرة قبل أن يبدأ في تلاوة المقطوعة التالية.
٤١  The Giaour.
٤٢  The Bride of Abydos.
٤٣  The Corsain.
٤٤  Siege of Corinht.
٤٥  Manfred.
٤٦  Dream.
٤٧  Heaven and Earth.
٤٨  Don Juan.
٤٩  Mathew Arnold.
٥٠  Swinburn.
٥١  Godwin.
٥٢  Poems by Victor and Cazire (سازير هي أخته اليصابات).
٥٣  Thomas Hogg.
٥٤  The necessity of altheism.
٥٥  Queen Mab.
٥٦  Alastor.
٥٧  Laon and Cythna.
٥٨  The Revotl of Islam.
٥٩  Adonais أدونيس في أساطير اليونان شابٌّ جميل أحبَّته «فينوس».
٦٠  Prometheus Unbound، في هذا إشارة إلى رواية «برومثيوس المقيد» في الأدب اليوناني؛ فراجع الجزء الأول من قصة الأدب.
٦١  To a Skylark.
٦٢  هم: «كولردج» و«وردزورث» و«سذي» و«سكُت» و«بَيْرُن» و«شِلي» و«كِيتس».
٦٣  Leigh Hunt.
٦٤  Hazlitt.
٦٥  Endymion.
٦٦  Lamia.
٦٧  Hyperion.
٦٨  The Eve of St. Agnes.
٦٩  The Ode on a Grecian Urn.
٧٠  Waverley.
٧١  Ivanhoe.
٧٢  Quentin Durward.
٧٣  The Talisman، نقلها إلى العربية الأستاذ محمود محمود، فهي من خير النماذج لقصصه.
٧٤  The Betrothed.
٧٥  Northanger Abbey.
٧٦  Sense and Sensibility.
٧٧  Pride and Prejudice.
٧٨  John woodvil.
٧٩  Tales From Shahespeare، وقد نقله إلى العربية الأستاذ محمد بدران.
٨٠  Esseys of Elia.
٨١  Autobiography.
٨٢  Men, Women and Books.
٨٣  Wit and Humour.
٨٤  Imagimation and Fancy.
٨٥  Confessions of an Opium Eater.
٨٦  Life of Nelson.
٨٧  ترجمنا جزءًا منها عند الحديث عن «سْكُت» الشاعر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤