الفصل الأول: عصر الابتداع في النصف الأول من القرن التاسع عشر
(أ) الشعر
(١) فرانسوا رينيه دي شاتو بريان Francois-René de Chateaubriand (١٧٦٨–١٨٤٨م)
اتخذت الحركة الابتداعية من «شينْييه» بداية، لكن البداية كانت مختلفة كل الاختلاف عن سائر الحركة كما أسلفنا؛ ﻓ «شينييه» اتباعيٌّ في صميمه لعنايته الشديدة بالصقل والتجويد، والحركة ابتداعية تُسلم زمامها للوجدان.
إذا استعرضت الأدب الفرنسي من أوله إلى آخره وجدت عاملَين يظهر أحدهما آنًا ويختفي آنًا ليظهر مكانه العامل الآخر، فإذا ما اجتمعا في أديب أو في طائفة من الأدباء كان الكمال؛ فأما أولهما فرغبةٌ في الدقة أضْفت على النثر الفرنسي خصائصه من حيث الوضوح وتوخِّي الصدق ومتابعة الواقع، وأما الآخر فميلٌ إلى زخرفة اللفظ والعناية به لذاته، فترى الأديب يحب اللغة التي يلهو بألفاظها على سنان قلمه، لا لأنه يريد أن يزيل معنًى عن صدره لا يطمئن إلا إذا أخرجه، بل لأنه يستمتع باللعب بالألفاظ نفسها، فيجد لذَّته في رصِّها على نحوٍ معلوم وتزويقها على صورةٍ معينة. وقد حدث لهذين العنصرَين أن اجتمعا في القرن السابع عشر فَحَدَّ المعنى من اللفظ وخدم اللفظُ المعنى في اتزانٍ عجيب، فنرى في أدب «راسين» و«لافونتين» واقعيةً تنشد صدق الأداء، لكنها تعرف كيف تستخدم من أجل ذلك لغةً جميلة تفتن القارئ بما فيها من روعة الفن، فلا يقال اللفظ الفخم لفخامته، ولكنه يقال لأن المعنى المراد يتطلَّبه. ذلك الالتقاء بين العنصرَين كان على أيدي فُحُول الأدب الفرنسي في القرن السابع عشر، فلما جاء القرن الثامن عشر، ذلك القرن الذي كتب فيه الكتَّاب ونظم الشعراء لينشروا في كتابتهم وفي نظمهم مذاهبَ فكرية أرادوا لها أن تشيع بين الناس، تغيرت الحال، فلم تعد العناية بالفظ واجبة على الأديب، فلا عليه أن يستخدم هذا اللفظ أو ذاك، هذه العبارة أو تلك، ما دام المعنى واضحًا، ومثال هذا تراه في فولتير، وذلك هو ما وجده رجال الأدب الابتداعي عندما شبَّت الثورة الفرنسية، وجدوا واقعيةً ذهبت إلى حدِّ التطرف، فماذا تظنهم فاعلين؟ الثورة لقلب الوضع من النقيض إلى نقيضه، فلئن عُني أدباء القرن الثامن عشر بالمعنى وحده وبالواقع وحده، فلنذهب نحن اليوم إلى الطرف الآخر فلا نُعنى إلا بجمال العبارة وإلا بروعة الخيال. لم يقف الثائرون موقفًا وسطًا فيه اتزان واعتدال، لم يقلدوا أدباء الاتباع في القرن السابع عشر فيعدلوا القسمة بين اللفظ والمعنى، لأن الاتزان والاعتدال قلَّما تجدهما عند جماعةٍ ثائرة، وقد وجدت هذه الحركة الجديدة لسانها المعبر في «شاتوبريان».
وُلد «شاتوبريان» من أسرةٍ عريقة، ولو استثنينا زمالة أختٍ هزيلةٍ عليلةٍ رقيقة المزاج، صح لنا أن نقول إنه قضى طفولةً لا زمالة فيها، قضاها وحيدًا لا تصاحبه إلا الرياح والأمواج، وإلا المروج الفسيحة والغابات، فكانت العزلة التي تكتنفه وهو في داره، وظواهر الطبيعة التي تصادفه وهو خارج الدار، هما مصدرَي وحْيِه، بالإضافة إلى بعض الأدباء القدامى — مثل هوراس — الذين غذَّوا خياله بخيالهم.
لقد عُني «شاتوبريان» في أدبه بثلاثة أمور: المسيحية، والطبيعة، ونفسه. وها نحن قد حدثناك عن أثر المسيحية في أدبه، وعن تأثيره بها في آداب من جاءوا بعده حتى منتصف القرن. وأما وصفه للطبيعة، فقد جاء — كوصفه للمسيحية — رائع العبارة خلَّابها، ضحل الإيمان قليله! نعم، قد تقرنه بأديبٍ مثل «روسو» فتراه وصف الطبيعة بما لم يبلغه «روسو» سعةً ودقةً وزخرفة، ورغم ذلك ترى «روسو» في قليله وساذجه أشد منه إقناعًا لك بالطبيعة وجمالها؛ تقرأ عن الطبيعة فتتحرك نفسك لما تقرأ لأنك بصدد كائنٍ حي، وتقرأ «شاتوبريان» فترى زخرفة أقرب إلى عينَيك منها إلى قلبك وفؤادك.
(٢) ألفونس دي لامارتين Alphonse de Lamartine (١٧٩٠–١٨٦٩م)
ذهب «شاتوبريان» وخلف وراءه أثرًا عميقًا؛ فهذا أدب القرن الثامن عشر الذي كان قد بلغ ختامه، يبدو إلى جانب أدبه المتدفق النابض بحرارة الحياة وقوة الخيال، نحيلًا هزيلًا باردًا خلوًا من المعنى. وقرأ الناس «شاتوبريان» فتبدَّى لهم عالمٌ فيه الطبيعة باهرة بفتنتها، وعلى بساط هذه الطبيعة الباهرة يختال الفرد من الإنسان أشم الأنف عامر القلب بالإيمان.
وأراد الله أن يصنع «لامارتين» في دولة الشعر ما صنعه «شاتوبريان» في عالم النثر؛ فلدى «لامارتين» الشاعر تجد ما تراه عند «شاتوبريان» الناثر من حب للطبيعة ومن إيمان بالعقيدة الدينية ومن اعتداد بفردية الإنسان.
كان «لامارتين» رغم كل ما صادفه من عقبات في حبه وفي حياته السياسية وحياته المالية — إذ أفل نجمه في السياسة بعد سطوع وأصابه الفقر بعد ثراء — مستبشرًا بالحياة لأنه كان يحمل بين جنبَيه قلبًا مؤمنًا؛ فإذا ما أرسل البصر إلى الطبيعة من حوله لم يقع على ما فيها من خسيسٍ مرذول، كأنما خسيس الحياة ومرذولها أضأل من أن تراهما عين هذا الشاعر الذي طار عن الأرض وحلق في السماء؟ نعم كان «لامارتين» حزين القلب يشوب تفكيره ظل من الشك، لكنه لم يكن حزن الناقم المتمرد، ولا شك الثائر المخرِّب، إنما كان حزنه وكان شكه على كثير من الرقة والدعة؛ فحسبه أن يكون في الحياة ما فيها من عطف الأمومة ومن حب العاشقين ومن إيمان المؤمنين.
لم يكن «لامارتين» قويًّا في أدبه الوصفي بحيث يقدم لك الصورة ناصعةً جلية؛ فالصور التي تخرجها ريشته باهتة بعض الشيء، غامضة المعالم بعض الشيء، لكنه إذا ما وصف شعورًا ألمَّ به فهيهات أن يلحق به لاحق. ولم تكن نغمات شعره مما يستوقف الآذان، ولكنها كانت تغزو القلوب.
لم يكن شعر «لامارتين» في أخريات أعوامه من القوة كما كان شعره وهو في عنفوانه، فهو من هؤلاء الشعراء الذين يرتفعون إلى قمة المجد الفني، ثم ينحدرون هبوطًا مع هرم الشيخوخة وضعفها. أراد أن يبثَّ فلسفته في شعره فكان له هاتان الآيتان اللتان ذكرناها: «جوسلان» و«مَلَك يهوي» فهو في الأولى يدير القول حول قصة صديق له كان قسيسًا بهذا الاسم، نشأ من أسرةٍ فقيرة، ولجأ إلى العزلة في الجبال فرارًا من فظائع الثورة، ولم يكن قسيسًا بعدُ، ثم رافقه شابٌّ يدعى «لورنس» اضطهده الثائرون فلاذ بالفرار، ثم تبيَّن أن «لورنس» هذا كان فتاةً متخفية في ملابس الرجال، فانقلبت الصداقة بين الزميلَين غرامًا بين حبيبَين؛ وبعدئذٍ نُصِّب «جوسلان» قسيسًا، فافترق الحبيبان، لكن الفتاة لم تحتمل صدمة الفراق فغلبتها العاطفة على أمرها، وتعهدها الحبيب في ساعات احتضارها، ثم أودع جثمانها التلال ومجاري الماء التي شهدت الغرام بينهما. وهكذا وضع الشاعر في «جوسلان» مشاعره من غبطة وأسًى، معترفًا أنه حين أنشأ هذه القصة كان يحتذي «برناردان» في قصة «بول وفرجيني».
كانت قصة «جوسلان» قصيدةً كاملةً قائمة بذاتها، لكنها مع ذلك أنشئت بادئ ذي بدء لتكون فصلًا من قصةٍ أشمل، تكون الإنسانية بأسرها بطلها، كما أنشئت قصيدة «مَلَك يهوي» لتكون في تلك القصة الشاملة فصلًا آخر. وهذه القصيدة الأخيرة تمثل أدب الشاعر حين كان في طريقه إلى الضعف؛ فنحن فيها بين جبال لبنان حيث أحبَّ مَلَك فتاةً من البشر، فلبس لها لبوس البشر ليظفر بحبها، وبهذا أراد الشاعر أن يصوِّر هُويَّ الإنسانية كلها إذا ما أسلمت نفسها لشهوات حسِّها، كما أراد بالقصيدة السالفة «جوسلان» أن يصور الإنسانية في طموحها، إذ تستمسك بما يغذي النفس لا الحس، والروح لا البدن. ولقد قيل إن القصيدتَين تُصوِّران شعر «لامارتين» في صعوده نحو الكمال، وفي هبوطه إلى الضعف.
وسنسوق مثالًا لشعره قصيدته «البحيرة»:
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
(٣) فكتور هيجو Victor Hugo (١٨٠٢–١٨٨٥م)
إبان أعوام الثورة الفرنسية وفي ظل نابليون وخلال الأعوام التي تلت سقوطه، أوشكت فرنسا أن تنفق جهدها كله في الحرب والسياسة، وبذلك قضت من حياتها أربعين عامًا لم تشهد خلالها من الأدباء الأعلام إلا نفرًا قليلًا. لكنه لم يكد ينقضي ثلث القرن التاسع عشر حتى نهضت طائفة من الأدباء أعادت للأدب الفرنسي سالف مجده، وأقامت الدليل على أن اللسان الفرنسي لم يزل قويًّا. وكانت هذه الطائفة الجديدة الناهضة من الأدباء ترتبط كلها معًا برباط من مذهبٍ واحد، كما هي العادة المألوفة في تاريخ الأدب الفرنسي؛ أفرادها من الشباب المتحمس الذي ينظر إلى الماضي نظرة الساخر، ويُلقي ببصره نحو المستقبل فيرى أملًا يبهر الأنظار؛ فلم يترددوا في رفع علم الثورة على تقاليد الأدب الاتباعي بغية أن يمهدوا الطريق لمذهبٍ جديد يريدون له السيادة، وقد كُتب لهم آخر الأمر أن يظفروا بما أرادوا بعد لأيٍ ومجهود. ولم يكن التجديد الذي أرادوه تافهًا ولا ضئيلًا، إنما كان تحوُّلًا يمسُّ الصميم؛ لهذا أصبحت سنة ١٨٣٠م تاريخًا مشهودًا في تاريخ الأدب الفرنسي؛ فكل عبارة جرى بها قلم في فرنسا منذ ذلك التاريخ عليها طابع التحول الذي وقع في عام ١٨٣٠م. فما الذي حدث بحيث جعل من ذلك العام فاصلًا بين عهدَين؟
ولعل أعظم انقلاب تم على أيدي هؤلاء الابتداعيين هو ما يختص بألفاظ الشعر؛ فقد كان للشعر الفرنسي مجموعة من الكلمات لا يجوز له أن يجاوزها، ثم أخذت هذه المجموعة المحدودة تتناقص كلما تناقصت عبقرية الأديب. فليست ألفاظ اللغة كلها عند الشاعر سواء، إنما هي تنقسم طائفتَين، فألفاظٌ خسيسة لا يصح للشعر أن ينزل إلى دركها، وأخرى شريفة هي التي ينبغي أن تكون مجال الشعراء. ولا يمكن للفظة أن ترتفع إلى منزلة الشرف إذا هي دارت على ألسنة العامة ولاكتها أفواههم، أو إذا كانت لفظةً فنية تعبر عن معنًى خاصٍّ في دائرةٍ خاصةٍ من الناس؛ فإذا أراد الشاعر أن يعبر عن معنًى يقتضي لفظة من الألفاظ المحرمة وجب عليه أن يدور حول المعنى المراد بعبارةٍ كاملة لينجوَ من المحظور. صوِّر لنفسك أمثال هذه القيود التي غلَّ بها الشعراء الاتباعيون أنفسهم لتعلم كم كانت الثورة الأدبية عنيفة حين حطمت الفواصل بين خسيس اللفظ وشريفه! فقد كان لفتح باب اللغة على مصراعَيه أمام الأديب أثران؛ الأول أن انفسحت آماد القول فخرج الأدب الفرنسي من الغرفة المحبوكة المملوءة بالطُّرَف والتحف إلى حيث الهواء طلق والأفق فسيح. لكننا ينبغي أن نسارع في هذا الصدد إلى تذكير القارئ بما أسلفناه وهو أن طابع الأدب الابتداعي في فرنسا هو العناية باللفظ والبلاغة، لا الحرص على نقل الحقائق نقلًا أمينًا دقيقًا؛ لهذا لم تستخدم هذه الثروة اللفظية التي غمرت أرض الأدب في الاتجاه نحو الواقعية التي تعكس على صفحتها حقائق الدنيا كما هي، بل استخدمت هذه الألفاظ الجديدة لما فيها من ظلال وما توحيه من أثر؛ استخدمتها للزيادة من بلاغة القول لا للزيادة من المعنى وأداء الحق والواقع، لكن على مر السنين جاء الأثر الثاني لهذه الثروة اللفظية الجديدة؛ وهو أن اشتدت قدرة الأدب الفرنسي على تصوير الحق حين جاء عهدٌ سادت فيه الرغبة إلى مثل هذا التصوير.
كان القرن الثامن عشر — إذن — أعني ما قبل الثورة الابتداعية عصرًا يمجد العقل ويسعى في أدبه إلى التعبير عن الحقائق العامة في العلم والاجتماع والسياسة، وكان الفن الأدبي في ذلك العصر ميراثًا هبط إليه من القرن السالف وأخذ يتناقص على يدَيه، وأما الحركة الابتداعية التي أعقبته، والتي تم نضجها في نهاية الثلث الأول من القرن التاسع عشر فقد قررت للخيال حقه في حرية التعبير، كما قررت لشخصية الأديب، التي لا يشاركه فيها إنسان آخر، الحق في الإفصاح عن نفسها بما ترتئيه من الوسائل المؤدية إلى ذلك، فلما رد للخيال حقه الضائع أبى أن يستسلم للقواعد التي كان العقل قد فرضها على نفسه في القرنَين السالفَين. كان الأدب الاتباعي يرى من الواجب ألَّا تتداخل صور الأدب بعضها في بعض، فعجب أدباء الابتداع من هذا اللزوم لما لا يلزم؛ لماذا تحبس كل صورةٍ أدبية في حظيرة فلا تمتزج بأخواتها؟ لماذا لا تبيح للملحمة أو للرواية التمثيلية أن تمتزج بالقصيدة الغنائية فتأخذ عنها شيئًا من التعبير عن وجدان الشاعر؟ لماذا لا تأذن للمأساة أن تأخذ بنصيب من الملهاة فتخفف حدتها، وللملهاة أن تأخذ بنصيب من المأساة فتزيد من جدِّها؟ لماذا نحصر أنفسنا في حدود ما رسمه اليونان والرومان لأنفسهم من أوضاع كأنهم الخالقون ونحن العابدون؟ لماذا لا نغوص في كل عصور التاريخ فنأخذ من هذا ما يروعنا ومن ذاك ما يصادف منا الإعجاب؟ لئن كان عصر اليونان والرومان مصدر الشعر والشعور، فلقد كان العصر الوسيط الذي سادت فيه الكنيسة وصفَتْ فيه العقيدة المسيحية مصدر المعجزة والعاطفة الروحية؛ فلنمجد إذن آباءنا الذين عاشوا في هذا العصر الوسيط. وخلِّ عنك العقل ومنطقه وقيوده إذا ما ولجتَ بابًا من أبواب الخيال، فالخيال أدرى بما يلزم له من طرائق التعبير، وإذا أردت حقيقةً عامة عن بني الإنسان فحسبك أن تغوص في نفسك وخصائصها، وعن طريق نفسٍ واحدة ستجد سائر النفوس؛ فالصورة الذهنية قد تكون إلى جانب معناها في ذاتها رمزًا يرمز إلى ما عداها، وقد ترسم صورةً تاريخية لعهدٍ واحد فإذا بك ترمز بها إلى حقيقةٍ عامة تشمل كل الشعوب في سائر العصور؛ فليكن الفرد موضوعك، والخيال أداتك.
ولم يكن «هيجو» غافلًا عن عظمته، بل كان من الاعتداد بمكانته بحيث رأى العظمة متمثلةً في نفسه، وجعل من نفسه لنفسه بطلًا كأبطال الأساطير؛ ﻓ «هيجو» الرجل يُمجِّد «هيجو» البطل. وكان رحب الصدر سمحًا كريمًا مع الناس أجمعين، إلا إذا آذاه إنسان في كرامته أو انتقص له من عظمته؛ فهنالك تجد البركان الثائر والليث الغاضب؛ إذ لم تكن تخالجه ذرة من شك في أنه الخير كل الخير، فمن عارضه كان بالضرورة شرًّا يجب أن يُقتلَع من جذوره.
كانت عيناه لا تدعان من تيار الحياة الدافق حوله صورة إلا أخذتاها، وكانت أذناه لا يفلت منهما صوتٌ ينطق به مَرُّ الهواء أو تلاطُم الموج، وكانت ألفاظ اللغة توحي له بما يكتب كأنها كائناتٌ حية تدور في رأسه وتتحدث إليه. فقبل أن تنعت «هيجو» بصفةٍ كائنةٍ ما كانت، يجب أولًا أن تصفه بهذه القدرة العجيبة التي أبداها في السيطرة على ألفاظ اللغة سيطرةً لم تعرف في آداب اللغات مثيلًا، قل ذلك عنه في غير تحفظ وأنت بمنجًى من الخطأ إذا استثنيت «شيكسبير»؛ فهو يخوض في غمر من الثروة اللغوية خوضًا، وتنساب بين شفتَيه الألفاظ انسيابًا، لا يجد في ذلك مشقة ولا عسرًا؛ فعلى الرغم من ضخامة إنتاجه وتنوعه، تكاد لا ترى صفحةً واحدة ليس فيها الدليل الناهض على هذه الصفة فيه؛ فكما ترسل الوردة عبقها إرسالًا لا جهد فيه، وكما يفيض عن الشمس ضوءها فيضًا، كذلك كانت ألفاظ اللغة تسيل على قلمه سيلًا تنتظمه براعة الفن وتمسك بقياده أنامل الفنان، فليس هو اللغو الفارغ الذي يصب الكلام صبًّا في غير وعي وعلى غير هدًى.
لقد أتى هذا الأديب في أدبه بالأعاجيب، فهو مستطيع أن يصوِّر أمام عينَيك أغرب ما يستطيع خيال أن يتصوره، وهو مستطيع أن ينفض عن الماضي غبار القدم فإذا هو أمامك في جلاله وجماله، وهو مستطيع أن يتغنَّى بألوان الجمال التي تبلغ من الدقة حدًّا يتعذر على غيره أن يدركه فضلًا عن أن يعبر عنه، وهو مستطيع أن ينشد على قيثارته أناشيد الحب رقيقةً حينًا، عنيفةً حينًا، وهو مستطيع أن يؤجِّج إنشاءه نارًا، وهو مستطيع أن يخفض في إنشائه الصوت ليكون صوتًا حزينًا. فلو قلت إن «هيجو» كان أعظم من أنشد الشعر الوجداني في فرنسا لما عدوت الحق، لأنه ربما كان أعظم من أنشد هذا الضرب من الشعر في آداب العالم كلها. ولعلَّه استمدَّ هذه القوة الجبارة في غنائه من امتزاج نفسه بما حوله، فهو بشعره هذا يعبر عن وجدانه ثم يعبر في الوقت نفسه عن أنغام العالم بأسره، وقد تردَّد صداها بين جنبَيه؛ فكأنما القصيدة من قصائده يغنِّيها الكون كله لا شاعرٌ واحد؛ ذلك لأن «هيجو» لم يعتزل تيار الحياة، بل امتزج به امتزاجًا جعل الحياة جزءًا منه.
ولو زعم «هيجو» أنه الأديب الفنان وكفى، لما وجد إنسانًا واحدًا يُنكر عليه ما زعم؛ لكن الغرور يخدع حتى «هيجو»! إذ ظن أديبنا العبقري أنه حين يكتب، فهو الفيلسوف وهو الأخلاقي وهو المتنبئ وهو المفكر وهو المؤرخ، ومن حقك أن تشك في أن الشاعر قد صدق حين زعم لنفسه هذا كله.
كانت عبقرية «هيجو»، بل عبقرية أدباء الابتداع قاطبة، في الشعر الوجداني؛ فالشعر الوجداني الذي تنحصر كل مهمته في التعبير عن عواطف الأديب نفسه، عواطفه الفردة التي يتميز بها عن سائر أهل الأرض جميعًا؛ الشعر الوجداني الذي تنحصر مهمته في هذه الفردية هو صميم الحركة الابتداعية في الأدب؛ لذلك تجد «هيجو» في مسرحياته فاشلًا إلا فيما تحتوي عليه تلك المسرحيات نفسها من مقطوعات تعبر عن وجدان الشاعر! فهو حين أخرج روايته «هِرْناني»، ومُثِّلت في «المسرح الفرنسي» أحدث ضجة بل أحدث معركةً حقيقية بين جدران المسرح إبان تمثيلها، كان يناصره فيها جماعة من الشبان ويعارضه قوم ممن استمسكوا بالتقاليد المسرحية، ودوَّى في المكان صوتٌ قائل: «اقتلوه!» ولعلك من هذا وحده تستطيع أن تقدِّر ما بلغته حماسة القوم في النزاع الأدبي القائم، وما بلغته رواية «هيجو» الأولى من البعد عن التقاليد. وقد كان يكون هذا التجديد محمدة لولا أنه لم يكن في حلبة الأدب المسرحي من فرسانها. وتوالت رواياته المسرحية ثم انتهى أمرها جميعًا إلى الفشل.
جاوز الشاعر الستين، فالسبعين، فالثمانين، وآثاره تترى تباعًا. ونحن إذ نقدم لك «هيجو» في صفحاتٍ نُحسُّ كأنما نحاول أن نصبَّ البحر الخضمَّ في كوب. وحسبنا أن نقول إن دولة الشعر تفخر أن كان بين أعلامها «فكتور هيجو».
وهاك بعض أمثلةٍ من شعره:
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
(٤) ألفرد دي فني Alfred de Vigny (١٧٩٧–١٨٦٣م)
ربما جاز لنا أن نقسِّم خصائص الأدب الابتداعي قسمَين؛ فهو أدبٌ يميل إلى التنوع والخصوبة وسعة الأفق وارتفاع النفس من جهة، وهو أدبٌ يختص الفرد بكل عنايته من جهةٍ أخرى. وقد ظهرت هاتان الخاصتان معًا في أدب «فيكتور هيجو»، ثم انشعبتا منفصلتَين عند اثنين من زملائه، في «ألفرد دي فِنْي» عُني بالأولى، وعني «ألفرد دي ميسيه» بالثانية.
•••
•••
•••
•••
•••
(٥) ألفرد دي ميسيه Alfred de Musset (١٨١٠–١٨٥٧م)
«دي فني» و«دي ميسيه» نقيضان، فلئن كان الأول بين زملائه المفكر الرزين الهادئ، فقد كان الثاني بمثابة الطفل المدلَّل رعونةً وغرامًا وجاذبيةً وجريًا وراء الشهوات، لكنه مع هذا كله كان الشقي العاثر الجد، وكان شعره سجلًّا لهذه المشاعر المتقلِّبة وهذه الحالات النفسية المختلفة التي تعتريه آنًا بعد آن، وهذا الحب الذي كان دائمًا ينتهي به إلى الفشل، وهذا اليأس الذي تولَّاه آخر الأمر.
أبوه هو الذي أرَّخ له «روسو» وإذن فقد تشرَّب الأدب منذ نعومة أظفاره عن أبٍ أديب، فلما أن شبَّ تلفَّت حوله فإذا المجد السياسي الذي ازدهر على يدَي نابليون قد انقضى، وإذا بالإيمان الديني الذي كان ذات يوم يعمر القلوب قد مضى؛ فماذا بقي حيًّا بين الأحياء يستمسك به؟ بقي له الشعر، فهذا هو شعر «شينييه» يُطبع ويُنشر، وهؤلاء هم «لامارتين» و«هيجو» و«دي فني» يفتحون أمام خياله المتوثب آفاقًا فسيحة الأرجاء، وهذا شاعر الإنجليز «بيرن» قد خلف للناس «تشايلد هارلد» و«دون جوان»، فإن كانت هذه الثروة الشعرية كلها أمام عينَيه، وإن كان الله قد خلقه شاعرًا، فليمرح إذن في جو خلقه الله ليعيش فيه.
كان «دي ميسيه» شاعرًا من شعراء الابتداع، مدفوعًا إلى ذلك بفورة شبابه، أكثر منه بعقيدة وإيمان؛ فقد تجمَّعت فيه خصائص الشباب على نحو ما تجمعت في «بيرن» من قبله، فكنت تراه في عامه التاسع عشر شابًّا مستهتِرًا ساخرًا شكاكًا أفاكًا؛ وبهذه الروح أنشأ الشعر أول الأمر، لكن بعض هذا الشعر الأول جاء جيد الإنشاء، وكان لبعض مقطوعاته وأبياته من الرشاقة ما يذكر بخير الشعر وأجوده. ثم مرَّ الشاعر بعد ذلك الشطر الأول من حياته الشاعرة في دور انتقال انتهى به إلى ما خُلق له، فلم يكن «دي ميسيه» ابتداعيًّا خالصًا تذهب به الحماسة إلى الاتجاه الجديد مذهبًا ينكر معه الأعلام القدامى؛ فلئن أُعجِب ﺑ «هيجو» فقد أُعجِب كذلك من الاتباعيين القدماء ﺑ «راسين»، فشاعرنا كانت له شخصيته الفذة التي تأبى أن تذوب في هذه المدرسة أو تلك. نعم لم يكن «دي ميسيه» من الأساطين القادة، وكانت لقدرته وموهبته حدودها، لكنه أراد ألَّا يشرب إلا من كوبه الصغير، وألا يستوحي إلا نفسه؛ وكان ما احتوى عليه ذلك الكوب حبًّا وشبابًا ممزوجَين بشيء من دواءٍ مرير.
ومن شعره:
أغنية
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
(٦) ثيوفيل جوتييه Theophile Gautier (١٨١١–١٨٧٢م)
بلغ الشعر الوجداني الذي يعبر فيه الشاعر عن نفسه أقصى مداه في شعر «ميسيه» وها نحن أولاء نصادف شاعرًا آخر من شعراء الابتداع يتخذ لابتداعه طريقًا آخر غير الطريق التي سلكها «ميسيه». فها هنا عند «جوتييه» نجد شاعرًا لا يُنطِق بشعره دخيلة نفسه، بل يُخضِع نفسه للموضوع الخارجي الذي يستوقف حواسَّه والذي يستثير فيه قول الشعر؛ ﻓ «جوتييه» حين يكتب الشعر بمثابة عينٍ ترى ويدٍ تلمس؛ إذ هو يتخذ من نفسه أداة تخدم الشيء الخارجي، فالشيء الذي يدور عنه القول هو هنا صاحب السلطان.
ولما بلغ التاسعة والعشرين من عمره، شدَّ رحاله إلى إسبانيا فإيطاليا فالجزائر فالقسطنطينية فروسيا فاليونان، وهو في كل هذه الرحلات ينقل عينَيه فيما يصادفه فكأنما هو يرى في كل شيء فتنةً في اتساق الألوان. لقد كان العالم في رأيه مجالًا للعين ترسل في جنباته البصر لتشهد هذا الجمال اللوني، فهو لم يسافر أسفاره تلك ليدرس الحياة، بل سافر ليرى «بديع صنع الباري». نعم سافر ليرى، حتى إذا ما عاد وأرجعت له ذاكرته القوية ما رأى، أخذ يرسم للقارئ صورة بما حباه الله من قدرةٍ عجيبة على وعي ألفاظ اللغة واستعمالها في مواضعها الصحيحة، بحيث يقرأ القارئ فكأنه يرى ما كان قد رآه الكاتب، فلا تنحرف الصورة في موضع ولا يخبو لونها في موضع، بل هي كاملةٌ زاهية في كل جوانبها على السواء، فهو في إنشائه مصوِّرٌ يستخدم الألفاظ والقلم مكان ريشة الفنان وألوانه. وليس المعجم في عُرفه مجموعة من ألفاظ رُصَّ بعضها إلى جانب بعض على نظامٍ معلوم، إنما هو صندوق من جواهر يسطع لونها ويتلألأ بريقها، ومهمته أن يختار من هذا الكنز الحقيقي جوهرةً من هنا وجوهرة من هناك ليصوغها الصياغة بمعناها الحرفي الذي يفهمه الجوهري حين ينسِّق أحجاره الكريمة تنسيقًا يرضي قواعد الفن.
و«جوتييه» في شعره — كما هو في نثره — صائغ يصوغ اللفظ الجميل في سبكٍ جميل، فليس همَّه أن يثبت خواطره ومشاعره، كلا فهذه فردية عُرف بها غيره من أدباء الابتداع، أما هو فيريد وصف الشيء لا وصف ما يدور في نفسه؛ إنه اختار لنفسه موقف الرسام والصائغ؛ فهذه هي الحياة يتلاطم موجها حوله، لكنه لا يريد منها شيئًا لأنها ليست غايته، غايته الأولى والأخيرة أن يرى بعينَيه لا بقلبه، وأن يرسم لقارئه ما رآه مزخرفًا جميلًا؛ وبهذا كان «جوتييه» حلقة اتصال بين مدرسة الابتداع التي عُنيت بنفس الأديب، وبين مدرسة ستتلوها تجعل عنايتها أدبًا موضوعيًّا.
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
(ب) القصة
كان الأدب القصصي خلال القرن التاسع عشر سجلًّا أمينًا لما شهده العصر من نزعاتٍ شتي؛ فمن أراد من الناس أن يعود إلى الماضي الزاهر، ففي القصة أداته، ومن أراد منهم أن يقصر نفسه على الحاضر المحيط به يصوِّره كما يقع، ففي القصة ميدانه، ومن أراد منهم أن يكون الأدب تعبيرًا عن مشاعر الأديب وخواطره، وأن تكون مهمة الأديب هي أن يصبَّ على الورق ما يجيش به صدره، ففي القصة كذلك مجالٌ فسيح؛ وإذن فستجد بين قِصص هذا العصر، قَصصًا تاريخيًّا، وقَصصًا يصور الواقع، وقَصصًا يعبر عن وجدان الأديب.
(١) ستندال Stendhal (١٧٨٣–١٨٤٢م)
لُقِّن «بيل» أيام طفولته وجوب أن يكتم في نفسه أحاسيسه، فيبدو في الناس بوجهٍ لا ينمُّ عما يدور في طويته، فكأنما تعلم بذلك أن يضرب بين نفسه وبين الناس حجابًا كان له مصدر شقاء في صغره، ثم كان عاملًا قويًّا على العزلة الموحشة في كبره. وقد خدم في جيش نابليون بجد، وكان يضع عليه ستار الهدوء الذي وافق طبيعة تكوينه، ثم أحسَّ في نفسه ميلًا شديدًا إلى إيطاليا؛ مناظرها وأهلها وموسيقاها وفنِّها، فاختارها مستقرًّا ومقامًا، كما اختار لغذائه العقلي فلاسفة القرن الثامن عشر الذين وجد في مذهبهم المادي ما يتفق مع وجهة نظره، فقد كان يرى أن ما ينسب إلى الله عبث كعبث الأطفال، وفي ذلك قال «إن العذر الوحيد الذي يشفع لله ما يصنع هو أنه غير موجود.» وفي رأيه أن هدف الإنسان الأخير هو المتعة في هذه الحياة، فما كان أشد إمتاعًا من غيره كان أفضل، والإنسان أناني بطبعه ولا ينبغي له أن يقاوم في نفسه هذه الأنانية لأنها قانونه الذي يحيا بمقتضاه. ولقد مجَّد في نابليون تمثيله للقوة، ففي شخصه تجسدت رغبة الإنسان في النفوذ والسيطرة.
لم يكن ﻟ «بيل» قدرة الفنان الممتاز في مرونة الخيال، وإنما انحصرت كفايته في صدق نظراته التحليلية التي تعتمد على القوة العاقلة في الكاتب، ولا شك أن لهذه النظرات الصادقة قيمتها، لكنها في النهاية لا تكوِّن قصةً من الطراز الأول.
(٢) جورج سان George Sand (١٨٠٤–١٨٧٦م)
ولدت لأبٍ ضابط من أسرةٍ عريقة في خدمة الجيش، وأمٍّ من الطبقة الدنيا، فاجتمعت فيها خصائص الطبقتَين العليا والدنيا على السواء. وقد قضت أولى سنيها في بيت جدتها في الريف حيث الغابات والأزهار والمروج والنجاد المعشوشبة والوهاد الباسمة بخضرتها، وحيث الحقول تمتد فيها آثار المحراث خطوطًا خطوطًا، وحيث الزارعون في حياتهم الساذجة يحرثون الأرض ويروونها، ويجمعون الحصاد ويخزنونه، ويجتمعون في المساء ليستمعوا إلى حكايات فيها البساطة وفيها ما يشبع العقول التي تصدق الخرافة؛ ومن ذلك كله تلقت الكاتبة أول دروسها. فلما أُرسلت في عامها الثالث عشر إلى باريس لتبدأ حياةً دراسيةً منظمة في أحد الأديرة، كان ذهنها قد اختزن محصولًا ثمينًا يصلح للقصة حين تبدأ في كتابة القصة، وأخذت تغذي عقلها بقراءةٍ واسعة المدى منوَّعة الألوان، فقرأت فيما قرأته شعرًا وتاريخًا وفلسفة، لا تضع لقراءتها خطةً أو نظامًا، ولا تملُّ القراءة مهما يكن موضوعها؛ قرأت ﻟ «شاتوبريان» كتابه «عبقرية المسيحية» ثم قرأت «روسو» و«بيرن». فلما بلغت من العمر ثمانية عشر عامًا تزوجت من رجلٍ لم يصلح لها زوجًا؛ إذ لم يكن يعمر قلبه تلك المشاعر، ولا رأسه تلك الخواطر التي كان لا بد منها لتجعل منه زوجًا ملائمًا لها، وأنجبت منه طفلًا وطفلة، وبعدئذٍ لم تستطع الحياة معه فظفرت منه بطلاقها، واعتزمت أن تعيش على فنِّها وأدبها في باريس.
أرأيت الينبوع ينبثق فيه الماء دفَّاقًا في غير عناء لأن طبيعته هي أن يدفق الماء؟ كذلك كانت «جورج سان» في إنشائها لقصصها؛ تجلس إلى مكتبها في الساعة العاشرة، وذهنها خالٍ لا يكاد يشتمل على تخطيطٍ تقريبي لما يُكتب، لكنها تُجري القلم على القرطاس، فتستدعي الصور بعضها بعضًا، ويظل القلم يسيل بالقصة سيلًا حتى الساعة الخامسة، كأنما القصة تكتب نفسها، وكأنما فضل الكاتبة هو أن تمسك بالقلم بين أناملها، وعلى القلم أن يرسم لنفسه الطريق! وهكذا دواليك كل يوم، جلوس إلى مكتبها في العاشرة وكتابةٌ موصولة تنبثق من قلمها انبثاق الماء من ينبوعه حتى الساعة الخامسة. وتصوير إنشائها على هذا النحو قد يوهمك أن أدبها آليٌّ يخلو من الفن ويعوزه التفكير، وحقيقة الأمر في إنشائها هي أن القصة في يدها كانت تنمو كأنها الكائن الحي يبدو بذرةً صغيرة ثم يظل آخذًا في النمو حتى يورق ويترعرع وينتج الثمار. هكذا كانت «جورج سان» تبدأ وليس في ذهنها من قصتها إلا نواة لا يكاد يكون لها شكل وصورة، وما تزال تنمو على تتابع الصفحات يومًا بعد يوم فإذا بها قصةٌ كاملة.
وكأنما أرادت «جورج سان» ألا تسدل ستار حياتها على قصص الفقر والبؤس، فانتقلت في آخر مراحلها إلى ربوع العِلْية تصورها إلى جانب تصويرها لأبناء الريف السذج. وكانت تقدمت بها السنُّ وفاض منها كأس التجارب، وازداد قلبها رقةً ووداعةً، فطفقت تكتب القصص لتروي لأحفادها الصغار، ثم تكتب القصص للناس عامة وكأنهم في عينها حفدةٌ صغار أيضًا تروي لهم القصص على النحو الذي تروي به الجدة حكاياتها على الحفدة الصغار. وكان أكثر الناس استدرارًا لعطفها أهل الريف، وأصحاب الفنون، وأجدر الأنماط البشرية بدراستها الرجل الذي يجد من طبيعته ميلًا إلى الركون إلى امرأةٍ أقوى منه شخصيةً لتكون له دعامة، والفتاة التي يتوسط عمرها بين الطفولة والمراهقة. وأسلوبها في قصصها سلسٌ دفَّاق لا تعترض مجراه الصخور والجنادل، فيه اتساقٌ صوتي في غير تكلف ولا تعقيد، وهو يصور الجمال في صفاء وهدوء كما يصور المنظرَ الريفيَّ الجميلَ نهرٌ رائقٌ ساكن.
(٣) أونوريه دي بلزاك Honoré de Balzac (١٧٩٩–١٨٥٠م)
«جورج سان» و«بلزاك» تعاصرا في كتابة القصة، وكانت الأولى وجدانية الأدب، بمعنى أنها تعبر عن نفسها، فإن صورت الواقع بما وهبها الله من دقة في الملاحظة، صورته كما وقع في نفسها، وكان الثاني واقعي الأدب، إلا أن واقعيته كانت تنتابها الأحلام والأشباح آنًا بعد آن.
وما هو إلا أن وجد «بلزاك» نفسه محوطًا بالجو الذي يستطيع أن يتنفس فيه، حتى واصل الكتابة للصحف تارةً وللكتب طورًا، وتستطيع أن تقول إن «بلزاك» منذ أخذ القلم يجري بين أصابعه إلى اليوم الذي لاقى فيه منيته، كان يحيا مع ناسٍ خلقهم له خيالُه على غرار الواقع؛ فقد كان له أصدقاءُ قليلون، لأنه لم يجد للأصدقاء متسعًا من الوقت؛ إذ كاد لا يغادر مكتبه إلا إلى سريره، فهو يأوي إلى فراشه مع الغروب ليستيقظ إذا ما انتصف الليل، فيشرب قدحًا أو قدحَين من القهوة ليحرك بهما نشاط ذهنه، ثم يكتب، فإذا بالصفحات تمتلئ واحدةً بعد واحدة لا يكاد كاتبها يتنبه إلى نفسه حتى ينتصف النهار، وعلى هذا النحو قضى عشرين عامًا حتى أضناه الجهد ففارقته الحياة.
كان إحساس الكاتب بالحياة قويًّا ناصعًا، يدرك من تيارها بلمحةٍ واحدة كل ما يمكن لِعَين الرائي أن ترى، ولقلم الكاتب أن يصف ويحلل؛ فكل حواسه منصرفة إلى الواقع حوله، وكل عواطفه تدور حول الأشياء التي تراها الأبصار وتمسُّها الأيدي؛ وكل همه هذا المجتمع الإنساني وما يحركه من دوافع، هذا الميدان الذي يعترك الناس فيه تنازعًا على بقائهم، هذا الصراع الذي لا ينقطع ولا ينتهي سعيًا وراء المال وقوة السلطان، هذا الجهاد الذي ينتهي إلى النصر حينًا وإلى الهزيمة حينًا. هذه الإرادة القوية الكاسحة التي تبدو في بعض الأفراد فتنثر عن طريقها الضعاف يمينًا ويسارًا، وتدوس الصرعى تحت أقدامها وهي ماضية في سبيلها. هذا الطموح بما يقتضيه من صفاتٍ نبيلة وصفاتٍ خسيسة في آنٍ معًا، وما يتطلبه من شهامة البطولة آنًا ومن قسوة الطغيان آنًا؛ هذا هو ما صرف إليه «بلزاك» كل انتباهه ليستخرج منه العوامل المحرِّكة فيضفي عليها ثوبًا من خياله ويقدمها للناس قَصصًا رائعًا؛ فما رأته عيناه وما خلقه خياله لا يضيع منهما ذرةٌ واحدة، إذ يجريهما على قلمه، فإذا القارئ يحسُّ أنه يرى بعينه وبخياله ما وقع للكاتب.
لكن عبقرية «بلزاك» لم يكن قوامها إحساسًا رقيقًا دقيقًا، بل كانت على كثير من الغلظة والخشونة، فليس هو الكاتب الذي تبادره النكتة الفطنة أو يسارع إليه اللفظ الذي يقتضي الذوق الاجتماعي أن يقال في مناسبةٍ معينة. وليس هو الكاتب الذي يقف طويلًا ليناقش نفسه الحساب على ما يقول ويفعل، أو الذي يحاول أن يكون خافت الهمس رقيق اللمس فيما يكتب. وليس هو الرجل الذي تضعه في وسط من علية القوم فيزن تقاليده وزنًا دقيقًا يرضى عنه ذلك الوسط وأوضاعه؛ ولهذا كله تراه في إنشائه يقذف عبارة بعد عبارة كأنه يرمي في كومة مهوشة حجرًا فوق حجر، فالأدب عنده — فوق أنه فنٌّ جميل يستمتع به الفنان — أداة لجلب الشهرة وكسب المال.
ولعل ذلك يفسر لنا ناحيةً من أدب «بلزاك» فقد أخطأت عيناه ملامح الطبقة العليا من المجتمع، ولم يدرك من حياة الأشخاص رقيقها ورشيقها؛ فليس في وسع خياله — مثلًا — أن يصور لك سيدة من اللائي يجعلن رشاقة الحركة ورقَّة النبرة لُبَّ الحياة وصميمها، أما مجاله الصحيح فالطبقتان الوسطى والدنيا بما فيهما من صخب وجهاد. ذلك هو المحيط الذي وجَّه إليه دراسته فدرس كل نواحيه؛ الشارع والبيت والغرفة، فهذه كلها يهتم لها كما يهتم بمن يسكنها وينشط فيها من الناس، لأنها القوقعة الطبيعية التي ينمو فيها الكائن الحي الذي هو بصدد تحليله وتشريحه، هي التي تحدُّ تصرفه وتُشكِّله فيصبح على النحو الذي نراه. وقد خلق «بلزاك» بقوة خياله ما يقرب من ألفَي شخص، كل واحد منهم كامل الخلق والتكوين، وكثيرًا ما يجعل في الفرد مركزًا واحدًا تصدر عنه كل أفعاله، كحب المال أو الطموح إلى الشهرة، أو السعي وراء القوة، أو هذه الغريزة أو تلك من غرائز الإنسان التي تهبط به إلى مستوى الحيوان. لكن الفرد يعيش في وسط من الأحياء والأشياء يؤثر فيها ويتأثر بها، فلا بد عند تصويره من وضعه في بيئته التي يستمد منها القوة والتي يكافح فيها ويجاهد.
(٤) بروسبيه مريميه Prosper Mérimee (١٨٠٣–١٨٧٠م)
عندما بسطنا في مواضعَ مختلفة مما سلف عناصر الأدب الابتداعي، حاولنا أن نُبرز من بينها عنصرًا يكاد يكون لها أساسًا ومحورًا، وذلك هو التعبير عن فردية الأديب الكاتب، ثم قلنا إن هذه الفردية المتمثلة في الأدب هي التي تجعله وجدانيًّا أو غنائيًّا، سواء أكان الأثر الأدبي قصيدةً أم قصة. أما إن وصف الأديب الأشياء كما هي، لا يجعل من نفسه عنصرًا إلا بالحد الأدنى الذي يجعل الكتابة أدبًا، فذلك أدبٌ واقعيٌّ اتباعي في صميمه. لكن هل يستحيل أن يكون الأدب ابتداعيًّا دون أن يكون وجدانيًّا؟ ألا يمكن أن يكتب الأديب الابتداعي أدبًا موضوعيًّا خالصًا، يكتم فيه وجهة نظره وينظر بين الفينة والفينة إلى الناس نظرة سخرية واستعلاء؟ ذلك هو ما حاول أن يصنعه «مريميه» في قصصه.
كان «مريميه» من هؤلاء السادة الذين صقلهم التهذيب الاجتماعي؛ فأنت قد ترى الرجل سيدًا مصقولًا بفطرته كأنما هذَّبته يد الله، وقد ترى الرجل مصقولًا بتطبعه لا بطبعه هذَّبته التربية والوسط الاجتماعي لا الفطرة والغريزة. و«مريميه» من هذا الفريق الثاني، هو رجل كأنما صُقل صقلًا صحيحًا لا خطأ فيه، كما تُركَّب الجملة وفق قواعد النحو والصرف؛ ومثل هذا الرجل الذي هُذِّب هذا التهذيب لا ينبغي له أن يبدي للناس انفعاله إذا انفعل، ولا أن يعبر عن عاطفة له إذا أحسَّ بها تجيش في صدره، ولا أن تأخذه الحماسة لفكرة أو شيء مهما تكن الفكرة ومهما يكن الشيء، لأن التحمس فيه انفعال يضطرب معه الاتزان المطلوب؛ ولا ينبغي أن يكون له عقيدة تملك عليه فؤاده، ولا بد له أن يعلو على الضعف البشري بكافة نواحيه، فلا يبدو في صورة العاجز المحتاج، وله إن أراد أن ينظر للحياة نظرة العابس المتشائم على شرط أن يهيمن على تشاؤمه هذا فلا يحميه بحرارة الإيمان، وله إن أراد أن يسخر من الناس، على شرط أن تكون سخريةً مقنعة. وإن حدث لمثل هذا الرجل — الذي هذَّبته التربية هذا التهذيب — أن يكون أديبًا، فلا بد أن يكون أديبًا أنيقًا في تفكيره وتعبيره؛ فلا يكتب قط ما يثير في القارئ ضحكةً عالية، ومع ذلك فيستطيع بقوة فنِّه أن يجعل من الأثر الأدبي موضوعًا للضحك والسخرية؛ ومثل هذا كان «مريميه».
(ﺟ) التاريخ والنقد
(١) أوغسطين ثييري Augustin Thierry (١٧٩٥–١٨٥٦م)
تغيرت كتابة التاريخ في فرنسا إبَّان القرن التاسع عشر لما تغيرت وجهة النظر الفلسفية عند الفرنسيين؛ فقد كان القوم قبلئذٍ يأخذون بفلسفاتٍ تزدري العصور الماضية وتنظر إلى آرائها وأفكارها نظرها إلى الخرافة. أما في هذا العهد الجديد فقد تغيرت وجهة نظرهم وأصبحت فلسفتهم أن يأخذوا من كل عصر ما يروق من فلسفته، مهتدين في هذا الاختيار بالذوق ودليل القلب أكثر منهم بالعقل والمنطق؛ ولهذا أخذوا ينظرون إلى ديانات الأقوام المختلفة نظرة عطف وتقدير، لا يعميهم الهوى ولا يُصمُّ التعصب آذانهم. كذلك أداروا أعناقهم إلى العصور الوسطى وعقائدها وأفكارها، بعد أن كانت هنالك قطيعةٌ فكرية بين العصر الحديث وتلك العصور، على اعتبار أنها عصورٌ مظلمة لا خير فيها ولا غَناء. وكان رائد الطريق في ذلك التجديد في الأدب التاريخي هو «ثييري» الذي قرأ صفحات من أدب «شاتوبريان» فوجدها مترعةً بشعور العطف على العصور الماضية، فأوحت له تلك الصفحات بما ينبغي هو أن يؤديه، ثم قرأ فيما بعدُ «وولتر سكُتْ» الأديب الإنجليزي الذي كتب القصة التاريخية فبلغ بها حد الكمال، فركزت في نفسه العقيدة بأن التاريخ لا بد أن يُكتب على نحوٍ جديد يستخدم قوة الخيال، فهذه المهازل التي يخرجها الناس ويسمونها تاريخًا تحرج الصدر وتثير النفس، فكاتبو التاريخ إما ينقصهم العلم فهم عُميٌ عن الحقائق لا يبصرونها، أو ينقصهم الخيال فيرصُّون لك الحقائق رصًّا لا تصوير فيه؛ وإذن فلا بد له أن يقدم للناس طريقة جديدة في كتابة التاريخ، فيها العلم بالحقائق وفيها إبداع الخيال في الوصف والتصوير.
(٢) فرانسوا جيزو Francois Guizot (١٧٧٧–١٨٧٤م)
«جيزو» مؤرخ لكنه نفسه يُكوِّن جزءًا من تاريخ أمته؛ وعنده أن واجب المؤرخ ذو شعبٍ ثلاث: أولاها تحقيق الوقائع، وثانيتها تصنيف هذه الوقائع تصنيفًا يدرج الأشباه منها تحت قانونٍ واحد من مجموعة القوانين التي ينحلُّ إليها بناء المجتمع وآلته، وثالثتها وصف الوقائع وصفًا يجعلها واضحةً ناصعة أمام عين القارئ؛ وكانت عبقرية «جيزو» في قدرته على التحليل والتعليل، فليس هو بصاحب الخيال الذي يسلكه في عداد الطراز الأول من رجال الفن، وليس هو بالذي يتغلغل في الحياة فيرى ظلالها وأضواءها ولا هو بالكاتب الذي يمتاز بجودة الأسلوب، لكنه مفكِّر، يدرك حياة العصور السالفة عن طريق الأفكار التي سادت في تلك العصور، تقرؤه فلا تجد صورًا حية كالتي تُنتظر من قلم الأديب، ولا تجد قلوبًا نابضةً بالعواطف التي تستوقف نظر الرجل الذي تسيطر فيه العاطفة، بل تجد المجتمع قد انحلَّ أمامك إلى عناصر وخيوط، وتراك قد سايرت الكاتب حتى بلغت من بين هذه العناصر تلك الأسس التي عليها يقوم بناء المجتمع كله، وتلك الدوافع الكبرى التي تكمن وراء تيار الحياة.
(٣) جيل ميشليه Jules Michelet (١٧٩٨–١٨٧٤م)
«ميشليه» هو أعظم من نفخوا الحياة في الماضي بقوة خيالهم، وعبروا عن روح فرنسا الغابرة بفصاحة أقلامهم. ولد في باريس من أبوَين فقيرَين؛ فعرف الغلام وهو لم يزل في نعومة أظفاره كيف يكون العسر والإملاق؛ فهذا أبوه يكدح طول يومه في صناعة الطباعة، ثم لا يكاد يقوى على حماية أسرته من عادية الجوع والبرد، ومع هذه المسغبة صمم الوالد على أن ينال ولده قسطًا من التعليم، وكأنما استمدَّ الولد شجاعةً وبأسًا من أبيه، فهو يرى أمه تنوء تحت عبء من العمل لتعاون أبًا يرزح تحت هم من الفقر، وإذا ما ذهب إلى مدرسته لقي من زملائه زرايةً وسخريةً، ومع ذلك كله لم ينل منه اليأس، وكلما شهد شيئًا من علائم بؤسه وبؤس والدَيه قرأ من الأدب ما يرد لنفسه الثقة، أو قصد إلى متحف ليرى من الآثار ما يغوص به في أعماق الماضي لينسى هذا الحاضر المتجهِّم. وما أحلى أيامًا كان يقضيها عند عمة له في الريف فتقصُّ عليه حكايات، قدم عليها العهد، تنبئ عن فرنسا في سالف أزمانها! ولم يمضِ على الفتى طويل وقت حتى سمع في طوية نفسه صوتًا يناديه بما ينبغي عليه أن يصنعه، وهو أن يحمل قلمه ليكتب التاريخ.
انظر إليه وقد جلس إلى وثائقه، التي نُشر بعضها وبعضها لم ينشر، يستنبئها أخبار أعصرٍ خلت، وكأنه يخالط منها ناسًا من لحم ودم تنصت وتحدث. له الخيال القوي الذي ينفذ به خلال الصورة السطحية إلى اللب والصميم، ويأخذه العطف الشديد على ألوف من الرجال العاملين تتعاقب جيلًا بعد جيل في ظلام النسيان، وهو يبكي للأحزان التي يراها مرقومة على الورق مدادًا، وهو يفرح لخير يراه قد أصاب هذا أو ذاك ممن يستحقون الخير. وهو شديد الإعجاب بمن يراه جديرًا بإعجابه، شديد النقمة على من يثير فيه السخط والنقمة. يعرض أفكاره فإذا هي أوعية أُترعت بالعاطفة حتى حفافيها، ويعرض عاطفته فإذا هي مثقلة بالفكر الرصين. على هذا النحو كان يجلس «ميشليه» إلى وثائقه، أو قل كان يجالسها، ليعيد الحياة إلى ماضٍ ثوى في أعماق القبور. وتصور «ميشليه» تاريخ أمته كائنًا حيًّا له جسم وروح، ثم نظر إلى ما كتبه أعلام المؤرخين مثل «جيزو» و«ثييري» — وقد حدثناك عنهما — فوجد أن كلًّا منهما يتناول جزءًا واحدًا من ذلك الجسم أو شطرًا واحدًا من هذه الروح، أما هو فأمله ضخمٌ عريض، أمله أن يعيد إلى الحياة هذا الجسم كله كاملًا وهذه الروح كلها تامة، أمله أن يعيد تاريخ فرنسا كله، لأن تاريخ فرنسا كائنٌ عضويٌّ واحد يستحيل أن يتجزأ بغير أن يفقد الحياة، ومذهبه في ذلك أنه إما أن يحيي التاريخ كله أو لا يصنع شيئًا.
لكن هذا الشعب الذي أخذ على عاتقه أن يؤرِّخ له تأريخًا كاملًا، لا يتحرك في الهواء؛ إنه يعيش على أرض لها سماتها وقَسَماتها، من تربتها يستمد غذاءه ومن هوائها يتنفس حياته، وإذن فلتكن الخطوة الأولى من عمله العظيم أن يصف لك هذه الأرض التي عاش عليها قومه، وهنا ترى «ميشليه» يصور لك كل جزء من الأرض الفرنسية كأنه يصف كائنًا حيًّا لا يابسًا من جماد، ثم ما هو إلا أن يطالعك بحقيقة يكشفها أمام عينَيك، وهي أن طابع فرنسا الذي يميزها هو وليد هذه الوحدة الأرضية التي تصل أجزاء البلاد بعضها ببعض فتجعلها «فرنسا». وهو كلما مضى في تاريخه فترة بعد فترة يحاول جهده أن يبين لك أن الشعب الفرنسي ما غفا عن الحياة قط. فها هو ذا يصل بقصته إلى القرنين العاشر والحادي عشر وما اكتنفهما من ظلام، فيهتزُّ شعوره لما يلاقيه من جهل ومن عنف في ذلك العصر. ولكن هل ماتت في الشعب روحه؟ كلا! فهذا أمامك الفن القوطي، وهذه أمامك الحروب الصليبية، كلها تحدثك أن هنالك أفئدةً حية تعبر عن حياتها في آثار الفن وفي القتال في سبيل الدين. ثم دنا بتاريخه من ختام القرون الوسطى، فبدا كل شيء كأنما زالت عنه الحياة، وبدت جموع الشعب كأنها أصنام جمدت في عروقها الدماء؛ كلا! فهذه حرب المائة العام في ذلك العهد تشهد مولد الوعي القومي، فمن ويلات تلك الحروب ولدت القومية الفرنسية وأصبحت فرنسا وطنًا وأصبح الفرنسيون أمة.
وانقضت ثلاثة عشر عامًا والمؤرخ يساير أمته في نشوئها وارتقائها حتى جاوز العصر الوسيط وبلغ ختام عهد لويس الحادي عشر، وهنا وقف برهة! لماذا؟ لأن التفاتةً عابرة حانت منه إلى برج كنيسة ريمز؛ ذلك البرج الذي جرى التقليد بأن تتوج في ظله رءوس العاهلين، فرأى على حجر البرج عند أعلاه نقشًا يصور طائفة من بني الإنسان وقد سيمت عذابًا وشاهت أجسادًا! ماذا؟ أهؤلاء من الشعب الفرنسي في عهد الملكية المطلقة الذي أنا مقبل على كتابة تاريخه؟ أيقع مني البصر على مثل هذا الرمز ثم أجد في نفسي الهمة لأكتب عن إيماني بقوة الشعب وروح الشعب؟ لا! لأتريث قليلًا حتى أتثبت مما أنا مقدم عليه؛ لألتمس العصور التي تبدو فيها هذه الروح واضحة ثم أخطو خَطْو الحذر نحو عهدٍ كهذا الذي سادت فيه الملكية وكان الشعب بحيث أرى في هذا النقش عند حافة البرج. وبهذا قفز المؤرخ عبر قرنَين أو نحو ذلك ليؤرخ للثورة الفرنسية، التي أنفق في كتابة تاريخها ثمانية أعوام، والتي أخرج تاريخها كأنه ملحمةٌ شعرية بطلها هو الشعب الفرنسي نفسه. وعاد مؤرخنا بعد هذه الأعوام الثمانية التي أنفقها في تاريخ الثورة الفرنسية، إلى حيث كان قد ترك الطريق، عاد إلى القرن السادس عشر يواصل تاريخه، لكن الأعوام الثمانية أنفقت في جو من الثورة والثائرين لم تمضِ عبثًا لتترك روحه كما كانت قبلها. لقد تغير الرجل وتغيرت وجهة نظره؛ لقد كان مجد العصر الوسيط؛ كيف ذاك والكنيسة كانت تستبد بالناس، وكل استبداد هو الشر بعينه حتى لو صدر عن الكنيسة؟ وبمثل هذا التشكك أخذ يؤرخ للإصلاح الديني وللنهضة وللحروب الدينية، فجاء تاريخه هذا أقل من كتبه الأولى اتزانًا وتماسكًا.
(٤) آبل فرانسوا فلمان Abel-Francois Villemain (١٧٩٠–١٨٧٠م)
كان النقد الأدبي قُبيل هذا العصر الذي نؤرخه الآن يحكم على الأثر الفني بإحدى طريقتَين، فإما أن يطبق عليه طائفة من القواعد التي عاشت على مر الزمان فاكتسبت مجدها بالقدم، وإما أن يُحكَّم فيه الذوق وحده. أما إن اتبعت الطريقة الأولى فالأثر الفني جميل أو قبيح بمقدار ما يجري على سنن تلك القواعد الموروثة أو يبعد عنها، كما تستطيع مثلًا أن تحكم على جملة بصحة التركيب أو خطئه وفق مجموعةٍ معروفة من القواعد؛ وأما إن اتبعت الطريقة الثانية فالحكم هو الناقد وحده، إن قالت له أذنه هذا شعرٌ نابٍ كان الشعر نابيًا، أو قالت إنه جميل فهو جميل.
(٥) دزريه نيسار Désiré Nisard (١٨٠٦–١٨٨٨م)
وهكذا ترى أن «نيسار» لم يكن ممن يؤمنون بأن النقد الأدبي «مسألة أذواق»، فذلك في رأيه فوضى، لأنه إذا اختلفت الأذواق فلا حكم بينها. وكانت الغاية التي ينشدها «نيسار» هي أن يضبط «الأذواق» بالقواعد. ولكنه من الحق أن نقول إنه حين أراد أن يجعل من النقد علمًا ينبني على أصولٍ ثابتة، وحين أراد أن يهتدي إلى تلك الأصول الثابتة، جعل «ذوقه» حكمًا، فما يصح أن يُتخَذ نموذجًا يقاس عليه هو ما صادف منه إعجابًا، وقد يكون إعجابه نفسه أمرًا مشكوكًا في سلامته؛ وإذن فقد تدهور النقد على يدَيه إذ أراد له ارتفاعًا، ولكنه في تدهوره ذاك اكتسب شيئًا وهو أنه لفت الأنظار إلى وجوب العناية بالنقد الصحيح، وإن شئت فقل عن «نيسار» إنه جاء بمثابة الشكيمة التي حدَّت بعض الشيء من رغبة في التحلل من جميع القيود باسم الحرية.
(٦) سنت بيف Sainte-Beuve (١٨٠٤–١٨٦٩م)
وبعدُ، فإن «سنت بيف» هو ناقد المدرسة الابتداعية غير منازَع، وهو أعظم من نقد على أساس المذهب التاريخي الذي بسطناه عند الحديث عن «فلمان» وهو المذهب الذي يفهم الأثر الأدبي بفهمه للظروف التي عملت على إنتاجه، وقد نعتناه بالتاريخي لأنه شبيه بعلم التاريخ الطبيعي الذي يفهم الكائن الحي بوضعه في موضعه من شجرة التطور لكي تظهر السوالف التي انتهت إلى خلقه وإخراجه.
كان «سنت بيف» شاعرًا وقصاصًا، وكان يدرس الطب، وكان شكَّاكًا، وكان مؤمنًا، وكان اشتراكيًّا، وكان استعماريًّا. مفارقات يُعلِّلها أنه كان يسبح في محيط الفكر سبحًا، كلما فرغ من جانب انتقل إلى جانبٍ آخر، فهو اليوم شكَّاك لأنه يدرس ويفهم ويستسيغ ما يقوله الشكَّاكون، وهو اليوم مؤمن لأنه يقرأ ويعجب بما يقوله المؤمنون، وهكذا كلما فهم شيئًا تركه جانبًا ليفهم شيئًا آخر.
لم يرد «سنت بيف» — كما أراد «نيسار» — أن يجعل من النقد الأدبي علمًا يقوم على أصولٍ مقررة وقواعدَ ثابتة، أو بعبارةٍ أصحَّ لم يطمع في ذلك؛ إذ رآه فوق مقدور شخصٍ واحد؛ وإنما كان رجاؤه أن تكون الملاحظات الكثيرة التي يثبتها هو ويثبتها غيره من النقاد طريقًا ينتهي إلى تكوين العلم الذي نرجوه للنقد. وإلى أن يتم تكوين هذا العلم المنشود ويجمع الرأي على سلامة أصوله وصحة قواعده لا ينبغي أن نتسرع فنضع قاعدةً عامةً شاملة نحكم على أساسها في أقدار الأدباء، بل يجب أن يُدرَس كل أديب على حدة، وبغير افتراض قواعدَ أدبية قبل البدء في دراسته. وطريقته في الدراسة هي أن يدرس الأديب ليفهم ما أنتجه من أدب، أي أن يتخذ من حياة الأديب منظارًا ينظر خلاله إلى أدبه فيفهمه. فإذا أردت مثلًا أن تدرس شعر المتنبي فادرس كل تفصيلات حياته أولًا؛ لأن شعره هو حاصل جمع العناصر التي تكونت منها تلك الحياة. وهكذا كان «سنت بيف» يتناول الأديب فيحلل كل ما أحاط به وما سبقه مما كان له أثر في تكوينه؛ يحلل بنية جسمه، يحلل أسرته التي هبط منها، ويحلل المجتمع الذي نشأ بين أفراده، يحلل الظروف التي سايرته في تعليمه، يحلل علاقاته بأصدقائه وصلاته بمعاصريه، يحلل اللحظة التي بدأ فيها أدبه في الظهور، فيم اختلفت عن سائر لحظات حياته، ويحلل اللحظة التي بدأ فيها أدبه في التدهور إن كان أدبه قد اجتاز مرحلةً كهذه ليرى علة هذا التدهور في هذا الظرف المعين دون سواه، يحلل أتباعه ومشايعيه ومن أُعجبوا بأدبه، كما يحلل أعداءه ومناهضيه، فإن وجد أن هذه الجوانب كلها تلتقي في نقطةٍ واحدة واستطاع أن يصفها، كان هذا الملتقى وما يوصف به هو نقد الأديب. ولعلك تدرك من هذا أن «سنت بيف» لا يقدم لك «قاعدة» تحكم بها من فورك على الأثر الأدبي أجيد هو أم رديء، إنما يقدم لك «طريقة» في البحث وأسلوبًا في النقد، وقد كان لهذه الطريقة أعمق الأثر في الدراسات الأدبية إبان القرن التاسع عشر.