فلسفته

(١) طبيعة المعرفة وتحليلها

(١-١) مصدر الأفكار

أولى المقدمات التي يقيم عليها هيوم فلسفته، هي التفرقة بين «الانطباعات» التي ينطبع بها الإنسان انطباعًا مباشرًا حين يحس شيئًا بإحدى حواسه، أو حين يتمرس تمرُّسًا مباشرًا بحالة معينة من حالات وجدانه، وبين ما تخلفه تلك الانطباعات عند صاحبها من صور ذهنية أو ذكريات،١ وهو يطلق اسم «الأفكار» على أمثال هذه الصور والذكريات.
فليس منا من لا يعرف الفرق الواضح بين الإدراك العقلي عند من يعاني لذع الحرارة الشديدة، أو من ينعم بالدفء، وإدراكه العقلي حين يستعيد ذلك الرجل نفسه ذكرى ما قد عاناه من لذع أو ما قد نعم به من دفء؛ فهذه الذكرى إنما تجيء على غرار ما قد أحسه الإنسان عند الانطباع الأول المباشر، لكنها يستحيل أن تبلغ من حيث القوة والوضوح ما قد بلغه ذلك الانطباع؛٢ فالتفرقة إذن واضحة بين إحساسي بالشيء حين أكون على صلة مباشرة به، وبين صورته أستعيدها في ذهني حين لا يكون الشيء نفسه قائمًا على مشهد مني أو مسمع؛ فها أنا ذا أنظر إلى الغرفة التي أنا الآن جالس فيها، فلا أتردد في أني أحسها بالرؤية إحساسًا مباشرًا؛ ثم ها أنا ذا أستعيد في ذهني صورة غرفة في منزل صديق زرته بالأمس، فلا أتردد كذلك في أن ما قد استحضرته في الذهن إن هو إلا صورة شيء ليس الآن على صلة مباشرة بحواسي؛ ويستحيل أن يختلط عليَّ الأمر في أي من الحالتين، بل إني لأفرق تفرقة لا موضع فيها لشك بين ما هو «انطباع» وما هو «فكرة» «اللهم إلا إذا اختل العقل عن مرض أو جنون»٣ فعندئذٍ فقط قد تتشابه علينا الحالات فلا ندري أيكون ما ندركه إحساسًا لشيء أمامنا أم تصورًا لفكرة في رءوسنا؛ أما في الحالات السوية فالإدراكان متميز أحدهما من الآخر بما بينهما من فرق بعيد في درجة الوضوح، وأقصى ما يمكن أن تبلغه الصورة الذهنية، أو «الفكرة» باصطلاح هيوم، فهو أن تدنو في وضوحها من الأصل، لكنها محال أن تساويه، وإن الإنسان إذا ما أراد أن يصف فكرة في رأسه عن شيء ما، فخير ما يقوله عنها هو أنها تكاد تمثل له الشيء كأنه قائم بذاته على ملمس منه أو مرأى؛ «وكافة ألوان الشعر، مهما بلغت من الروعة، محال عليها أن تصور الأشياء الطبيعية على نحو يزيل الفرق بين الصورة والأصل المصوَّر بحيث يختلط الأمر على القارئ فلا يدري أهي صورة للمنظر الطبيعي أم المنظر الطبيعي نفسه.»٤
هذه التفرقة بين المدرك الحسي وصورته في الذهن، أو قل بين «الانطباع» و«الفكرة» تعم بحيث تشمل سائر الإدراكات العقلية جميعًا؛ ففرق بعيد بين الغاضب ساعة غضبه وبينه حين يسترجع بالذاكرة انفعال الغضب الذي كان؛ وفرق بعيد بين إدراكي لعاطفة الحب حين يُحكى لي عنها عند شخص آخر، وبين إدراكي لهذه العاطفة نفسها حين أكابدها وأعانيها؛ وهكذا قل في سائر العواطف من حيث الفارق البعيد في إدراكها بين حالتي وقوعها واسترجاعها؛ فأنت حين تستعيد انفعالك بعاطفة سبق لك أن عانيتها، فقد تكون الصورة المعادة أمينة غاية الأمانة بحيث تجيء طبق أصلها لا تنحرف بنقص أو زيادة، ولكنها مع ذلك فلا بد أن تجيئك وقد خفتت ألوانها عما كانت عليه العاطفة ساعة وقوعها وليس هذا الفرق في نصوع اللون ووضوحه بين الأصل ساعة حدوثه والصورة المسترجعة فيما بعد، مما يتطلب لإدراكه دقة في الملاحظة أو عمقًا في التأمل، بل هو فرق صارخ يدركه حتى ذو النظرة العابرة.٥
وإذن ففي مستطاعنا الآن أن نقسم إدراكاتنا العقلية على اختلافها قسمين، يتميز أحدهما من الآخر بالتفاوت في درجة الوضوح وقوة الأثر؛ ونريد أن نطلق اسم «الانطباعات» على أكثرهما وضوحًا وأقواهما أثرًا، وأن نطلق اسم «الأفكار» على أقلهما في الوضوح وأضعفهما في الأثر؛ فالسمع والرؤية واللمس، وكذلك الحب والكراهية والرغبة والإرادة، تكون «انطباعات» حين تكون جلية واضحة عميقة الأثر أثناء مباشرتها وممارستها، ثم تكون هي نفسها «أفكارًا» حين نستعيدها فيما بعد باهتة اللون خافتة الصوت ضعيفة الأثر.٦
فالفكرة من أفكارنا هي — إذن — صورة لانطباعاتنا الحسية أو الشعورية؛ ويستحيل أن نجد بين أفكارنا فكرة واحدة لا يمكن تعقبها إلى الانطباع أو الانطباعات التي أحسسناها أو خبرناها؛ نعم إن الفكر طليق والخبرة المباشرة مقيدة بزمان معين ومكان معين، بمعنى أنني بالفكر أستطيع أن أصور لنفسي كائنات ليست في شكلها الظاهر مما يوجد بين الكائنات الواقعة، على حين أني بالخبرة المباشرة لا أعدو ما هو كائن فعلًا؛ وبالفكر أستطيع أن أجاوز حدود مكاني الذي أقيم الآن فيه، بل أجاوز الكرة الأرضية كلها وأتصور نفسي سابحًا في الهواء أو سائرًا على ما شئت لنفسي من كواكب، أما بجسمي الذي هو موطن الخبرة المباشرة فلا أعدو اللحظة الراهنة ولا المكان المحيط بي؛ أقول إن الفكر حر ينشئ لنفسه ما شاء من صور، على حين أن الخبرة المباشرة مقيدة بما هو واقع هنا والآن، مما قد يوهم المتعجل بأن للفكر مصادر غير الخبرة المباشرة، لكن هذا المتعجل لو أمعن في الأمر لانتهى إلى أن أفكاره كائنة ما كانت يمكن تحليلها وردها خيطًا خيطًا وعنصرًا عنصرًا إلى خبرات مباشرة مارسها بالحس أو بالشعور؛ فقد يخيل لنفسه جبلًا من ذهب، ثم يقول ها هي ذي فكرة في رأسي ليس لها أصلٌ مما قد وقع في الحس، لكنها في الحقيقة فكرة مؤلفة من عنصرين، الجبل والذهب، وكلاهما قد عرفه بالحس المباشر حين رأى جبلًا وشهد ذهبًا، ثم جاء الآن فألَّف بينهما في فكرة مركبة واحدة؛ فأرسل خيالك ما شئت وصوِّرْ لنفسك العجائب، صوِّرْ لنفسك حصانًا يتحلى بالفضيلة مثلًا، فأنت ما تزال في حدود خبراتك، رأيت الحصان وعرفت ماذا من الفعل يكون فاضلًا، ثم ألفت بين الخبرتين، «وهكذا تكون كافة أفكارنا التي هي إدراكات خافتة، صورًا تحاكي انطباعاتنا التي هي إدراكات ناصعة.»٧
تلك قاعدة عامة نقيم عليها البرهان بحجتين؛ فأولًا إذا حللنا أفكارنا بالغة ما بلغت من التركيب أو السمو، وجدنا دائمًا أنها تنحل إلى مجموعة من أفكار بسيطة كل فكرة منها صورة لانطباع جاءنا في الخبرة المباشرة؛ خذ — مثلًا — فكرة «الله» حين نعني بالكلمة كائنًا لا نهائي العقل والحكمة والخير وغير ذلك من صفات؛ فهذه المجموعة من الصفات اللانهائية إن هي إلا امتدادات لنفس الصفات التي عرفناها في خبراتنا الإنسانية المباشرة؛ فأنا أعلم من تجاربي متى أسمي الإنسان عاقلًا أو حكيمًا أو خيِّرًا، لكنني أعلم كذلك من تجاربي أن الإنسان العاقل محدود في قدرته العقلية وأن الحكيم محدود الحكمة والخيِّر محدود الخير وهكذا، فما عليَّ بعدئذٍ إلا أن أمطَّ هذه القدرات المحدودة لأبلغ بها في خيالي صفات لا تقف عند نهايات أو حدود، حتى إذا ما تم لي ذلك جمعت الصفات في كائن أسميته «الله».٨
وأما الحجة الثانية التي نقيمها على صدق ما زعمناه، وهو أن الفكرة من أفكارنا يستحيل ألا ترتد إلى أصول لها بين انطباعاتنا المباشرة، فهي أن من حُرم حاسة حُرم بالتالي الأفكار التي كان يمكن أن تترتب على انطباعات تلك الحاسة المفقودة، فالأعمى لا يعرف ما اللون والأصم لا يعرف ما الصوت؛ ورد للأعمى بصره وللأصم سمعه تفتح لهما طريقًا جديدًا تنساب إليهما منه أفكار لم يكن لهما بها عهد؛ وقل مثل ذلك أيضًا إذا ما سَلِمَتْ للإنسان حاسة معينة كالبصر مثلًا، لكن بصره هذا لم يقع على شيء معين، فلن تكون له عندئذٍ فكرة عن ذلك الشيء الذي لم يقع له في خبرته البصرية، وكذلك الذوق فمن لم يذُق الخمر — مثلًا — لا يعرف ما طعمها؛ وليس الأمر هنا بقاصر على الحواس الظاهرة من رؤية وسمع … إلخ، بل هو كذلك واقع بالنسبة إلى حياتنا الوجدانية؛ فمن الناس من لا يعرف كيف تكون العاطفة التي تدفع صاحبها إلى قسوة أو انتقام، ومن طُبعَ على الأنانية لا يتصور كيف تكون عاطفة الإيثار.٩
لكن الأمانة تقتضينا أن نضرب مثلًا لحالة من الحالات الشاذة التي لا ينطبق عليها المبدأ الذي نذهب إليه وندافع عنه، وأعني بها الحالات التي يكون لدينا فيها فكرة ثم لا يكون لهذه الفكرة أصلٌ حسي في انطباعاتنا؛ والحالة التي نسوقها مثلًا لذلك هي درجة معينة من درجات اللون أو من درجات الصوت، لم تقع فيما وقع للعين أو للأذن من ألوان أو أصوات، ومع ذلك قد نكوِّن لأنفسنا فكرة عنها؛ فلا شك أن العين قد انطبعت بمختلف الألوان من أحمر وأصفر وأزرق وما إليها، بحيث أدركنا ما بين هذه الألوان من أوجه الاختلاف الذي يجعل الواحد منها متميزًا من الآخر، كما أدركنا ما بينها من أوجه الشبه الذي يجعلها جميعًا مما ينطوي تحت اسم واحد هو كلمة «لون»؛ وقل ذلك نفسه في درجات اللون الواحد، فقد رأت عينك — مثلًا — درجات مختلفات من اللون الأزرق، بحيث أدركت ما بين هذه الدرجات من أوجه الاختلاف الذي يجعلها متباينة بعضها عن بعض، كما أدركت ما بينها من أوجه الشبه الذي يجعلها على تباينها مما يجتمع تحت اسم واحد هو كلمة «أزرق»؛ فافرض الآن أن هنالك درجة من درجات اللون الأزرق لم تقع لك أبدًا في خبراتك الحسية المباشرة، لكنك رأيت ما هو أكثف منها وما هو أخف منها كثافة، ثم افرض أنك قد وضعت كافة درجات اللون الأزرق التي وقعت لك فعلًا في خبراتك الماضية، تاركًا في وسطها فجوة تمثل الدرجة التي لم تخبرها فيما مضى، ألا ترى أنك تستطيع أن تملأ الفجوة بخيالك، وبذلك تكوِّن لنفسك «فكرة» عن لون معين لم يكن له انطباع حسي في خبراتك المباشرة؟١٠ لكن مثل هذه الحالة نادر بحيث لا يجوز أن نسرف في أهميته إسرافًا يدعونا إلى نبذ المبدأ الذي ندعو إليه.١١
إنك بهذا المبدأ تستطيع أن تتخلص من كثير جدًّا من أشباه المدركات العقلية التي يجعلها الميتافيزيقيون موضوعات لأحاديثهم على حين لا تكون في حقيقة أمرها أفكارًا مستندة إلى أصول انطباعية مارسناها في خبراتنا المباشرة حسًّا كانت تلك الخبرات أو شعورًا؛ فالأفكار بطبيعتها لا بد أن تكون — كما أسلفنا — أخفت لونًا وأضعف أثرًا من الانطباع المباشر، وإذا كان ذلك صحيحًا عن الأفكار التي هي صور ذهنية تحاكي الانطباعات محاكاة التطابق، فهو أصح بالنسبة إلى الأفكار المجردة التي لا تطابق انطباعات بعينها، بل تحتاج إلى تحليل إلى عناصر أولية، يكون كل عنصر منها صدًى لأصل انطباعي؛ إذن فالأفكار المجردة، التي منها تتألف الميتافيزيقا وعليها تدور مباحثها، محتوم عليها أن تكون على كثير من الغموض بالقياس إلى الانطباعات المباشرة، ولذلك فالانزلاق هنا هيِّن والوقوع في الخطأ يسير؛ إذ سرعان ما يختلط علينا الأمر فلا نفرق بين فكرة مجردة مما يمكن تحليله ورده إلى أصول من الخبرة المباشرة، وبين فكرة أخرى مزعومة، نحاول رد عناصرها إلى أصولها الانطباعية الأولى فلا ترتد؛ ولا يخدعنا أن نجد الفيلسوف الذي يستخدم أمثال هذه الأفكار المزعومة يعرِّفها ويحددها بسلسلة من اللفظ؛ فإذا ما وقفت موقف المرتاب إزاء فكرة مما يسوقه الفلاسفة في مباحثهم، فما عليك إلا أن تسأل: إلى أي انطباع مباشر نستطيع أن نرد هذه الفكرة المزعومة؟ فإذا لم يدلوك على انطباع بذاته من انطباعات الحس أو الشعور كان مصدرًا لتلك الفكرة، فلك أن تتنكر لها وأنت على ثقة من صوابك؛ وهكذا يزول عن أفكارنا ما قد يكتنفها من غموض يسبب اختلافنا في الرأي والمذهب، إذا نحن أخرجناها إلى الضوء الواضح، ضوء خبراتنا المباشرة.١٢

•••

ذلك هو الأساس الأول الذي يبني عليه هيوم مذهبه الفلسفي، وهو أن كل فكرة صحيحة يمكن ردها إلى انطباعاتنا المباشرة التي كانت بمثابة النوافذ التي دخلت منها الخبرة التي كونت تلك الفكرة، وما ليس يمكن رده من أفكارنا إلى انطباعاته الأولية فليس هو من الأفكار التي يركن إليها على أنها صواب؛ على أن أفكارنا إما أن تكون بسيطة أو مركبة، ونعني بالبسيط ما لا يمكن تحليله، وبالمركب ما يمكن تحليله إلى عناصر أبسط منه؛ فإن كانت الفكرة بسيطة كانت صورة لانطباع معين، كفكرتي — مثلًا — عن لون البرتقالة أو عن طعمها، وأما إن كانت الفكرة مركبة فينبغي أولًا تحليلها إلى عناصرها، لنرد كل عنصر على حدة إلى انطباعه الذي هو صورة له، كفكرتي عن البرتقالة في مجموعها، فهي فكرة مؤلفة من لون وطعم ورائحة وشكل … إلخ، فلا بد — إذن — أن أحلل الفكرة إلى هذه العناصر، ليسهل رد كل واحد منها إلى أصله الحسي.

وإن هيوم ليتحدى معارضيه أن يأتوا له بفكرة لا يمكن إرجاعها على هذا النحو إلى أصولها الحسية التي جاءت منها؛ ومن هم معارضوه؟ هم أولئك الذين كانوا يزعمون أن لبعض الأفكار مصدرًا غير الانطباعات المباشرة؛ إذ يزعمون أن الأفكار قد تخرج من باطن العقل بغير حاجة منها إلى أصول تأتي من الخارج، وذلك هو مذهب «الأفكار الفطرية» المشهور في الفلسفة؛ فمنذ أفلاطون لم ينفك الفلاسفة عن القول بوجود أفكار تنبع من فطرة الإنسان لا تستند إلى خبرة حسية، بل هي أفكار قد نجاوز بها حدود الخبرة الإنسانية كلها؛ فالأفكار الرياضية المجردة — مثلًا — لم تكن عند هؤلاء الفلاسفة مما يستمده العقل من خبرة، وكذلك قل في جواهر الأشياء، فهي أيضًا عند هؤلاء الفلاسفة لم تكن مما تجيء به الخبرة المباشرة، فالروح التي هي جوهر الإنسان — مثلًا — لا سبيل إلى إدراكها بالخبرة المباشرة، ومع ذلك ففكرتها — عندهم — قائمة في العقل، مستمدة من طبيعة العقل نفسها؛ والعالم الروحاني كله الذي كان يقول به رجال اللاهوت، لا نعرف ما نعرفه عنه بالخبرة المباشرة، فليس لديَّ «انطباع» مما جاء عن طريق البصر أو السمع أو اللمس، أعده أصلًا لما عندي من أفكار عن الكائنات الروحانية التي أظن أنني على علم بها؛ نعم إنه منذ أفلاطون والفلاسفة «العقليون» لا ينفكون يذكرون لنا أمثلة من الأفكار التي لا يستمدها الإنسان من خبرته الحسية؛ فمن ذا الذي رأى في خبرته الحسية نقطة أو خطًّا مستقيمًا يتحقق فيه التعريف الهندسي؟ أليست النقطة الهندسية هي كائن بغير أبعاد، أي إنها لا طول لها ولا عرض ولا عمق؟ فأين شهدت جزءًا من مكان بغير طول ولا عرض؟ ثم أليس الخط المستقيم في تعريف الهندسة هو ما له طول بغير عرض — إذ لو كان له عرض لأصبح سطحًا لا خطًّا مستقيمًا — فأين شهدت مثل هذا الخط المستقيم؟ وقل هذا في الحقائق الرياضية المجردة كلها، دع عنك الكائنات الروحية من أنفس وعقول وملائكة وشياطين وآلهة … هذه كلها عند الفلاسفة العقليين حقائق لها عندنا أفكار لم تكن «الانطباعات» المباشرة مصدرًا لها.

فإذا ما جاء هيوم يقضي ببطلان كل فكرة لا تستند في أصلها إلى انطباع فإنما جاء يقول شيئًا يهدم للفلاسفة كثيرًا جدًّا مما ظنوه «أفكارًا» وما هو من «الفكر» في شيء، فإن هي إلا ألفاظ يرددونها بغير معنًى؛ وكيف يكون للكلمة معنًى دون أن تكون مشيرة إلى عنصر أو عناصر مما عسى أن يقع في خبرة الإنسان؟ ماذا «أعني» إذن بهذه الكلمة التي لا تشير إلى مسمًى؟

إن الوضعيين المعاصرين ليعدون هيوم أباهم الحقيقي، على الرغم من أنهم لا يتكلمون نفس اللغة التي كان يتكلمها عن «الانطباعات» و«الأفكار»، بل هم يحصرون جهدهم الفلسفي — لا في أبحاث نفسية معرفية كما فعل هيوم — بل في العبارات اللغوية والألفاظ، يحللونها إلى عناصرها، فالأساس بينهم وبين هيوم واحد، أما طبيعة ما يعملونه على هذا الأساس فمختلفة عن طبيعة ما كان يعمله؛ ذلك أن الوضعيين المعاصرين حين يتناولون كلمة بالتحليل، تراهم يلجئون إلى تعريفها، لكن التعريف سيتألف من عدة كلمات، ولذلك فهم يعودون إلى هذه الكلمات نفسها واحدة فواحدة يحاولون تعريفها بكلمات أخرى، وهكذا … فأين تنتهي سلسلة التعريف؟ أنظل نسير في ألفاظ بعد ألفاظ بعد ألفاظ؟ كلا، بل لا بد أن تنتهي إلى كلمات يكون تعريفها لا بكلمات أخرى بل بالإشارة إلى مسمياتها فيما تحتوي عليه خبرة الإنسان المباشرة؛ وإن شئت فسمِّ هذه الكلمات الأخيرة التي نعرفها بالإشارة إلى مسمياتها، باللامعرفات، أي هي الكلمات التي لا يكون تعريفها بكلمات سواها؛ وبذلك تنقسم الكلمات إلى «مُعَرَّفات» و«لا معرفات» وبالثانية نعرف الأولى.

فماذا لو صادفت كلمة وأردت تعريفها بكلمات، ثم هذه بأخرى، والأخرى بأخرى، وهكذا دون أن أجد نقطة أقف عندها لأخرج من نطاق الكلمات إلى دنيا الأشياء؟ أعني دون أن أجد النقطة التي أنتهي عندها مشيرًا إلى المسميات الواقعة؟ إنها عندئذٍ تكون كلمة منتحلة مختلقة ليست بذات معنًى حقيقي.

فالوضعيون المعاصرون يقابلون بين «اللامُعَرَّفات» و«المُعَرَّفات» كما كان هيوم يقابل بين «الانطباعات» و«الأفكار»، الأساس واحد لكن العمل مختلف؛ الأساس المشترك بينهما هو المعيار الذي أقيس به مشروعية «الفكرة» وصلاحيتها، فإن كانت الفكرة من أفكاري مشروعة تحتم أن ترتدَّ إلى مصدرها في الخبرة المباشرة وإلا فهي زائفة، هذا هو المبدأ بلغة هيوم، فإذا عبرت عنه بلغة المدرسة الوضعية المعاصرة قلت: إن كانت اللفظة التي أستخدمها مما يمكن تعريفه في النهاية بالإشارة إلى مسماها في عالم الأشياء الواقعة، فهي لفظة مشروعة وإلا فهي لفظة زائفة.

(١-٢) الألفاظ الكلية المجردة

لو كانت الفكرة من أفكارنا نسخة تطابق انطباعًا خِبريًّا صادفناه في حياتنا التجريبية، بحيث إذا وجدنا بين أفكارنا فكرة لا نجد لها الأصل الخِبْرِيَّ الذي هي نسخة منه، كانت فكرة زائفة، أقول إنه لو كان الأمر كذلك لنشأ إشكال عسير، هو: كيف — إذن — أفهم اللفظة الكلية المجردة؟ كيف أفهم — مثلًا — لفظ «إنسان»؟ ماذا يرد إلى ذهنك مما تعده «معنًى» لهذه الكلمة؟ إن من صادفتهم في حياتك من أفراد الإنسان مختلف بعضهم عن بعض في نواحٍ كثيرة، فلا هم ذوو طول واحد ولا لون واحد ولا جنس واحد ولا مجموعة واحدة من العادات السلوكية؛ لكن هؤلاء الأفراد أنفسهم هم الذين انطبعت بهم حواسك انطباعًا مباشرًا، فإذا كانت الفكرة الصائبة هي تلك التي ترتد إلى انطباع معين، فإلى مَنْ مِن هؤلاء الأفراد ترد فكرة «إنسان» لتقضي في أمرها إن كانت فكرة صحيحة أو لم تكن؟ أتردها إلى فلان؟ لكن فلانًا هذا ذو صفات خاصة به لا تتكرر في سواه، فلو جاز أن ترد إليه هو فكرة «إنسان»، فكيف إذن تطلق هذه الكلمة نفسها بعد ذلك على أفراد آخرين؟ إنها إن طابقته هو فلن تطابق أحدًا عداه، أي إن هذه الفكرة إن ارتكزت في مبررات وجودها على فلان هذا، فلا يجوز بعد ذلك أن ترتكز على غيره من الأفراد الذين يختلفون عنه.

قد تقول: ولكني أطلق هذه الكلمة «إنسان» على ما هو مشترك بين هؤلاء الأفراد جميعًا، بعد تجريدهم من الصفات التي هي فيهم موضع اختلاف، فلا أطلق الكلمة «إنسان» — مثلًا — على طول بعينه أو لون بعينه أو جنس بعينه، بل أطلقها على كذا وكذا من الصفات التي هي كائنة في كل فرد من الناس، كصفة التفكير العاقل مثلًا … قد تقول هذا — وقد قاله فيلسوف مثل أرسطو وغيره — لكنك عندئذٍ تقول ما يستحيل أداؤه؛ كيف تستبعد صفات وتستبقي صفات مع أن هذه وتلك مما يستحيل أن تكون إلا مجتمعة معًا؟ فهل رأيت فردًا من الناس بغير لون حتى يجوز لك أن تتصور «إنسانًا» بغير لون؟ هل رأيت فردًا بغير طول معين حتى تنشئ لنفسك فكرة «الإنسان» الذي لا طول له؟

وأعود فأسأل: أين المسمى الذي أطلق عليه اسم «إنسان»؟ ليس في عالم الأشياء شيء مجرد عام، كلها أشياء جزئية فردية، وكان يصح أن أطلق اسمًا خاصًّا على كل واحد من تلك الأشياء الجزئية الفردية وينتهي الإشكال، فإلى أي شيء أشير إذن بالكلمة المجردة العامة «إنسان»؟

هذا هو السؤال بعينه الذي انقسم الفلاسفة حياله ثلاثة مذاهب: ففريق يتبع أفلاطون في قوله إنه إذا كان اسم العَلَم يشير إلى فرد بعينه، فالاسم الكلي المجرد يشير إلى مسمًّى كلي مجرد، ولكن أين هذا المسمى ولست أرى حولي إلا أفرادًا جزئية؟ يجيبك هذا الفريق إنه ليس هنا في هذا العالم الأرضي، ولكنه في عالم آخر، عالم قوامه كائنات من نوع آخر، هي أفكار مجردة وليست هي بالأفراد الجزئية، فلفظ «إنسان» يشير إلى «شيء» حقيقي قائم بذاته في ذلك العالم، هو الفكرة المجردة، أو المثال العقلي الذي صُب على غراره هؤلاء الأفراد الذين نراهم هنا في دنيانا هذه؛ ولذلك سُمي هذا الفريق من الفلاسفة بفريق «الشيئيين» وكبير مذهبهم هو أفلاطون.

وفريق آخر يتبع أرسطو، يذهب إلى أن الكلمة العامة «إنسان» بالطبع لا تشير إلى زيد وحده أو إلى عمرو وحده من بني الإنسان، لكنها تشير إلى كائن مثلها فيه التعميم والتجريد، لكن هذا الكائن لا هو في دنيا الأفراد الجزئية ولا هو كذلك في عالم فوق هذا العالم كما زعم أفلاطون، إنما هو كائن في عقل أي فرد منَّا، فعند كل فرد منَّا فكرة أو تصور مجرد، أقامه في رأسه، هو الذي نشير إليه بالكلمة العامة «إنسان»؛ ولذلك سُمِّي هذا الفريق بالتصوريين.

وفريق ثالث يختلف في الرأي عن هؤلاء وأولئك؛ إذ يرى أن ليس في العالم إلا أفراد جزئية، وأنه من المحال علينا أن نستمد معارفنا إلا من هذا العالم، وبالتالي يتحتم على كل معارفنا أن تجيء فردية جزئية، وإذن فليس في رأسي من الناس إلا صورة فلان أو فلان، فإذا استعملت كلمة «إنسان» العامة فلست أشير بها إلا إلى واحد من هؤلاء الأفراد، أتَّخذه ممثلًا لسائر أشباهه؛ وبهذا يكون اللفظ الكلي «إنسان» هو كأي اسم آخر أسمي به هذا الفرد أو ذاك، ومن ثم سُمِّي هذا الفريق ﺑ «الاسميين».١٣

وكان فيلسوفنا هيوم من فريق «الاسميين» بل كان زعيمًا من زعمائهم؛ وتلك بالطبع نتيجة تلزم حتمًا عن مذهبه في تحليل المعرفة إلى «انطباعات» و«أفكار»، فليست «الفكرة» عنده إلا «انطباعًا» بَهَتَ لونه، ليست «الفكرة» إلا نسخة من «انطباع» تأذنا به، لكن الانطباع محال أن يكون إلا لفرد جزئي معين، كيف تنطبع العين — مثلًا — إلا بهذا الفرد الجزئي أو ذاك؟ هل ترى العين «إنسانًا كليًّا» أو «مثلثًا كليًّا» أو «قطًّا كليًّا» أم ترى هذا الفرد أو ذاك من بني الإنسان، وهذا المثلث أو ذاك، وهذا القط أو ذاك؟ وإذا كانت العين لا ترى إلا أفرادًا جزئية أو مواقف جزئية، فالأفكار — بالتالي — لا تكون إلا صورًا ذهنية لأفراد جزئية أو مواقف جزئية … فكيف نفسر الدلالة الكلية التي تكون للفظ الكلي؟

يجيب هيوم عن هذا السؤال١٤ بما خلاصته أن الاسم الكلي هو اسم نشير به إلى صورة ذهنية جزئية (أي «فكرة» باصطلاح هيوم) هي بدورها نسخة من انطباع انطبعنا به في خبراتنا المباشرة، والانطباع — بداهة — لا يكون إلا لمؤثر جزئي بكامل فرديته، لا تعميم فيه ولا تجريد.
يقول هيوم: إن الفكرة المجردة «إنسان» تمثل أفراد الناس في مختلف أحجامهم وصفاتهم، وقد يقال إنه لا يمكن أن يتم لها هذا التمثيل إلا بإحدى وسيلتين، فإما أننا نحشد في رءوسنا صورًا لجميع أفراد الناس، ثم نشير إليهم جميعًا بهذه الكلمة العامة «إنسان» أو أننا نستغني عن كل هؤلاء الأفراد بحيث نجعل هذه الكلمة لا تشير إلى أيٍّ منهم على وجه التخصيص؛ والوسيلة الأولى مستحيلة لأنها تقتضي عقلًا إنسانيًّا يحيط بما لا نهاية لعدده من أفراد لهم ما ليس له نهاية من مختلف الصفات، وإذن فتبقى الوسيلة الثانية التي نجعل بها الكلمة الكلية لا تعني فردًا معينًا بصفاته المعينة دون سائر الأفراد، وهي أيضًا مستحيلة لأن تجريد الفرد عن صفاته التي تميزه ضرب من المحال، نعم قد يقال إننا في مأزق لا مفر منه، إذا نحن أخذنا بمذهب يقول إن الكلمة الكلية تشير إلى فرد بعينه ليكون ممثلًا لسائر أفراد نوعه، لأننا إما أن نحشد مجموعة الأفراد كلها وهذا محال على العقل الإنساني المحدود، وإما أن نستغني عن الأفراد كلها فنجاوز صفاتها الجزئية الفردية المميزة وهو ما يهدم رأينا؛ غير أننا نقيم برهانين على صدق ما نذهب إليه، فنبرهن أولًا على أنه مما يستحيل استحالة قاطعة أن نتصور أية صفة كمًّا كانت أو كيفًا، إلا إن كانت تلك الصفة جزئية فردية، ثم نبرهن ثانيًا على أن الفرد الذي نختاره من سائر أفراد النوع، وإن يكن مختلفًا عن بقية الأفراد إلا أنه من الممكن استخدامه ممثلًا لها.١٥

وسنبدأ بدعوانا بأن «العقل يستحيل أن يكوِّن أية فكرة عن كم أو كيف إلا إذا كوَّن فكرة دقيقة عن الدرجة التي يكون عليها ذلك الكمُّ أو ذلك الكيف» فلنا على ذلك حجج ثلاث: أولاها هي أنه مما لا شك فيه أن الأشياء إذا اختلفت أمكن التمييز بينها، وأن ما يمكن التمييز بينه يمكن كذلك فصل بعضه عن بعض بالفكر والخيال؛ والعكس صحيح أيضًا، أي إنه إذا أمكننا أن نفصل بالفكر شيئًا عن شيء، تحتم أن يكون الشيئان متميزين أحدهما عن الآخر، وأن يكونا بالتالي مختلفين؛ إذ كيف يمكن أن نفصل شيئًا عن شيء إذا لم يكن ممكنًا أن أميز أحدهما من الآخر، ثم كيف أميز بينهما عل هذا النحو إذا لم يكن بينهما اختلاف؟

فإذا أردنا أن نعرف إن كان في الإمكان أن نجرد صفة من الصفات لنقيمها وحدها منفصلة عن زميلاتها التي كانت مؤتلفة معها في فرد واحد، وجب أن أستيقن أولًا من أن هذه الصفة المراد عزلها وتجريدها هي مما يمكن عزله، وقد قلنا إن ما يمكن عزله لا بد أن يكون مما يمكن تمييزه من سواه، ولا يتميز الشيء من الشيء إلا إذا كانا مختلفين؛ خذ خطًّا مستقيمًا — مثلًا — وانظر هل يمكن أن تعزل الخط عن طوله؟ ذلك محال، لأنه لا تمييز في الخط الذي أمامك بين الخط وطوله، وإذا كان لا تمييز فلا اختلاف وبالتالي لا انفصال لأحدهما عن الآخر، وإذن فلا يمكن أن أجرد «الخط» عن طوله المعين، لأقول إنني سأجعل الصفة الأولى جوهرية عامة في سائر الخطوط، وسأطرح الصفة الثانية باعتبارها عَرَضًا يكون في خط ولا يكون في آخر، وهكذا قل في شتى الصفات، محال أن تعزل الصفة وحدها مجرِّدًا إياها من الدرجة التي تكون عليها؛ وعلى ذلك فيستحيل على إنسان أن يتصور خطًّا مستقيمًا بغير طول معين، ولا عبرة بعد ذلك بأنه قد يتخذ هذا الخط ذا الطول المعين ممثلًا لغيره من الخطوط ذوات الأطوال المختلفة، أم أنه سيترك هذا التمثيل لخط آخر ذي طول آخر.١٦
والحجة الثانية هي أنه محال على شيء أن يطبع الحواس، وبالتالي يَمْثُلُ أمام العقل، إلا إذا كان شيئًا فرديًّا جزئيًّا له درجة معينة محددة من كم وكيف؛ ولما كانت الأفكار كلها صورًا أو نُسَخًا من انطباعاتنا، فما يَصْدُق على هذه يصدق أيضًا على تلك؛ إذ الأفكار لا تختلف عن الانطباعات التي هي أصول لها إلا في درجة النصوع والوضوح وقوة الأثر، واختلاف درجة الوضوح لا يعني فيما يعنيه أن يكون الانطباع ذا كم معين وكيف معين وأن تجيء الفكرة التي هي نسخة منه مجردة عن هذا التعين في الكم والكيف.١٧

والحجة الثالثة هي أنه من المبادئ التي تقرها الفلسفة عامة أن كل شيء في الطبيعة فرد متميز بفرديته، فمن السخف أن تفترض وجود مثلث في الطبيعة دون أن تكون لأضلاعه وزواياه مقادير معلومة معينة بالنسبة بعضها إلى بعض، كأن يكون — مثلًا — مثلثًا متساوي الأضلاع أو مختلفها، متساوي الزوايا أو مختلفها، وأن أضلاعه أو زواياه إذا اختلفت فلا بد أن يكون اختلافها بنسبة معلومة متعينة فإذا كان افتراض وجود مثلث في دنيا الأشياء الواقعة لا تكون له أضلاع وزوايا ذوات مقادير معينة محددة، أقول إنه إذا كان هذا القول سخفًا، فسخف بالتالي أن تقول ذلك عن «فكرة» المثلث، ما دامت «الفكرة» نسخة من الانطباع الحسي، وما دام هذا الانطباع الحسي لا يكون إلا من شيء قائم فعلًا في دنيا الأشياء، شيء له جزئيته وفرديته ودرجته المعلومة المعينة من كيف وكم.

إنه لا فرق إطلاقًا بين قولك عن فكرة ما بأنها مجرد فكرة في الرأس، وقولك عنها إنها فكرة تشير إلى شيء في الخارج، لأن الفكرة كائنة ما كانت — ما دامت فكرة مشروعة — فلا بد بحكم طبيعة تكوينها أن يكون لها مقابل في الخارج؛ لأنه لولا وجود الشيء الخارجي لما كان «انطباع» ثم لما كانت فكرة؛ ولما كان محالًا على فكرة كائنة ما كانت أن تصور شيئًا بغير كم وكيف، فإنه محال عليها كذلك ألا يكون هذا الكم فيها وهذا الكيف ذوي درجة معينة تجعل منها فكرة فردة جزئية متميزة من سواها مهما كان بعد ذلك بينها وبين سواها من أوجه الشبه.

فقل ما شئت عن الفكرة التي تتخذها ممثلة لمجموعة من الفكرات الشبيهة بها، لكنه محتوم عليك أن تسلم بأنها لا بد أن تكون في ذاتها فكرة جزئية؛ وإذن فما نقول عنها إنها فكرة عامة أو فكرة مجردة، إن هي في حقيقة أمرها إلا فرد من سائر الأفراد، وكل ما هنالك أنها اختيرت لتكون ممثلة لسائر الأفراد؛ فهذا التعميم في تطبيقها واستخدامها لا يُدخل في طبيعتها شيئًا جديدًا يغير من كيانها.١٨
وإذا كانت طبيعة الفكرة الفردية الواحدة — فكرتي عن زيد من الناس مثلًا أو عن مثلث رأيته مرسومًا ذات يوم — لا تقتضي بحكم طبيعتها أن تكون ممثلة لغيرها مما يقع معها في نوع واحد، فكيف يحدث أن يجعل الإنسان منها نائبًا ينوب عن سائر أفراد النوع في التفكير؟ يقول هيوم في ذلك إننا حين ندرك شبهًا بين مجموعة أفراد أو مجموعة أشياء، ترانا نطلق عليها اسمًا واحدًا رغم ما بينها من اختلافات في درجة كمها أو كيفها، حتى إذا ما اعتدنا أن نطلق هذا الاسم الواحد على أفراد المجموعة، كان ذكر هذا الاسم بعد ذلك كافيًا لاستعادة صورة ذهنية لأحد أفرادها، أو قل لاستعادة «فكرة» واحد من أفرادها — إذ لا فرق بين «الصورة الذهنية لفرد ما» و«فكرتنا عن هذا الفرد» — فهذا الاسم العام قد ارتبط بكل فرد من أفراد المجموعة على السواء، وهو كفيل إذا ما ذكر أن يستثير صورة أي فرد منها، أو يستثير صور أي عدد منها، لكنه في الأعم الأغلب يستثير في أذهاننا صورة فرد واحد، أو قل «فكرة» واحدة من بين عنقود الأفكار، ويكون في ذلك ما يكفي لنفهم معنى الاسم الذي ذكرناه، اذكر — مثلًا — كلمة «إنسان» وسيرتسم في ذهنك صورة إنسان معين ببعض تفصيلاته الفردية لينوب عن بقية زملائه، فأين تكون بقية أفكارنا عن بقية أفراد الناس الذين صادفناهم في الحياة؟ إنها موجودة بالقوة، مستعدة أن تثار لو اقتضت الضرورة ذلك؛ نعم قد تكون استثارة جميع الصور الكامنة التي انطبعت في نفسي عن جميع الأفراد مما يتعذر حدوثه أو يستحيل، لكنه يكفينا لكي يكون الاسم العام صالحًا للتفاهم أن يرتبط في أنفسنا بعادة التحفز لاستعادة «فكرة» أو بضعة «أفكار» بالقدر الذي يرضي.١٩
ذلك لأن ذكر الاسم الكلي إذا ما أثار في عقلي صورة واحدة لفرد واحد من أفراد المجموعة التي أطلقت عليها ذلك الاسم، فقد تشاء المصادفة أن يرد إلى ذهني صورة لفرد لا يحقق الصفات التي أجعلها موضوع تفكيري عندئذٍ، فها هنا أراني بطبيعتي على استعداد أن أستثير صورة أخرى لفرد آخر. أو صورة ثالثة لفرد ثالث من أفراد المجموعة، لعلني أجد فيه الصفات التي التمستها في الفرد الأول فلم أجدها؛ فافرض مثلًا أني ذكرتُ الاسم «مثلث» فوثب إلى ذهني صورة مثلث متساوي الأضلاع، فلو كانت هذه هي الصورة الوحيدة التي يمكن للفظ «مثلث» أن يثيرها في ذهني، لظننت خطأً أن معنى كلمة «مثلث» هو دائمًا هذا المثلث الخاص الذي تتساوى أضلاعه وزواياه؛ لكن لا، فسرعان ما تزدحم على عقلي أفكار أخرى لمثلثات أخرى، فتردُ — مثلًا — صورة مثلث متساوي الساقين، وصورة أخرى لمثلث مختلف الأضلاع، كل هذه الصور سرعان ما تتعاقب على ذهني إذا ما ذكرتْ كلمة «مثلث» فأعلم عندئذٍ ما معنى الكلمة الصحيح، فلا أقول إن المثلث دائمًا متساوي الزوايا، أو دائمًا مختلف الزوايا، بل أعلم أمر المثلث على حقيقته،٢٠ نعم قد يحدث لأحدنا ألا يجد في خبراته الماضية صورًا ذهنية فيها شتى صنوف الأفراد المختلفة، التي تقع تحت اسم كلي واحد، لكن مثل هذا الرجل هو الذي يتعرض للخطأ وللتفكير الناقص لأن الكلمة عنده ستعني مدى أضيق من مداها عند من اتسعت خبراته وعرف إلى أي حد تتنوع أمثلة الأفراد التي نضمها معًا في مجموعة واحدة.

صفوة القول في تكوين الكلمات الكلية وطبيعتها، هي أننا إذا ما أردنا أن نطلق واحدة منها على مجموعة أفراد متشابهة من بعض الوجوه، كان علينا أن نستعرض عددًا من صنوف هؤلاء الأفراد لنمثل أوجه الخلاف بقدر المستطاع؛ وبعدئذٍ إذا ما ذُكرَتْ تلك الكلمة فربما أثارت فردًا واحدًا من هذه الأفراد على اختلاف الأفراد فيما بينها، لكننا نكون على استعداد أن نستثير فردًا آخر أو أفرادًا أخرى من الصور الكامنة، بقدر ما يتطلبه الموقف الذي نكون بصدده؛ على أنه لا ينبغي أن يغيب عنا أبدًا أن الفكرة التي يستثيرها اللفظ الكلي هي دائمًا فكرة جزئية في ذاتها، وإن تكن مستخدمة استخدامًا يجعلها فكرة عامة بسبب تمثيلها لبقية أفراد مجموعتها؛ إنه لا ينبغي أن يغيب عنَّا أن الفكرة الواحدة إنما تصبح «كلية» «عامة» «مجردة» لكونها ارتبطت ﺑ «كلمة كلية عامة»؛ الفكرة الواحدة قد تطلق عليها اسم عَلَم تنفرد به فتكون جزئية، وقد تطلق عليها هي نفسها اسمًا كليًّا لتستخدمها ممثلة لنوعها فتصبح فكرة كلية.

وقد يسأل سائل: إذا كانت كل فكرة في أذهاننا هي بحكم طبيعتها فكرة جزئية فردية، وأن الكليِّ المجرد منها لا يكون كذلك إلا بطريقة استعمالها؛ فكيف نفسر عمل العقل حين يجرد جانبًا واحدًا من فكرة معينة مطرحًا سائر الجوانب، كأن يجرد من الكرة استدارتها أو من البرتقالة لونها؟

وجواب هيوم على ذلك هو أنه محال على العقل أن يعزل الاستدارة عن الشيء المستدير، أو اللون عن الشيء الملون؛ محال أن تقوم استدارة وحدها أو أن يقوم لون وحده؛ فإذا ما عرضت أمامي كرة بيضاء مثلًا، جاءني انطباع دائري أبيض، بحيث يستحيل عليَّ أن أدرك الاستدارة وحدها دون لونها الأبيض ولا اللون الأبيض وحده دون الاستدارة، لكنني بعد ذلك قد أرى كرة سوداء ومكعبًا أبيض، فأقارنهما بالكرة البيضاء لأدرك موضعين للتشابه في هذه الأشياء الثلاثة، فأرى الكرة البيضاء تشبه السوداء في الاستدارة، ثم أرى الكرة البيضاء تشبه المكعب الأبيض في البياض، فها هنا أبدأ في تمييز الاستدارة من اللون تمييزًا عقليًّا؛ وبعدئذٍ إذا ما استعدت الكرة البيضاء وحدها فإنني لا يسعني سوى أن أكوِّن عنها فكرة جزئية واحدة يندمج فيها الشكل واللون معًا بغير انفصال أحدهما عن الآخر، لكنني في الوقت نفسه أوجِّه نظري إلى ما بين هذه الفكرة وفكرتي عن الكرة السوداء من شبه، وبهذا أحصل على فكرة الاستدارة؛ وكذلك إذا أردت فكرة اللون الأبيض فلا يسعني سوى أن أستعيد فكرة الكرة البيضاء باستدارتها ولونها معًا، لكنني في الوقت نفسه أوجِّه نظري إلى ما بينها وبين المكعب الأبيض من شبه، وبهذا أحصل على فكرة البياض؛ أما من يطلبون منَّا أن ننظر إلى الكرة البيضاء وحدها لنجرد الاستدارة عن اللون، فإنما يطلبون منَّا محالًا،٢١ لأنه ليس بين الأشياء الحقيقية الواقعة استدارة قائمة بذاتها، وإذن فلا يمكن أن تنطبع حواس الإنسان باستدارة قائمة بذاتها، وبالتالي يستحيل أن تكون هذه الفكرة بين أفكارنا.

(١-٣) ترابط الأفكار

إنه لا شك في أن أفكارنا مترابطة بعضها ببعض على نحو يجعل الواحدة منها إذا ما حَضَرَتْ أمام الذاكرة استدعت سواها بطريقة نلاحظ فيها شيئًا من الاطراد والانتظام؛٢٢ وهذا الترابط ملحوظ في سلسلة أفكارنا في جميع حالاتنا، لا فرق في ذلك بين تفكير واعٍ منظم وأحلام يقظة يترك الإنسان نفسه فيها على سجيتها تُسَلْسل الخواطر بغير ضابط، أو أحلام نوم؛ ففي التفكير الواعي المنظم ترانا نرتب أفكارنا ترتيبًا يجعل الفكرة اللاحقة ذات ارتباط بالفكرة السابقة، وكذلك في الأحلام بنوعيها: أحلام اليقظة أو أحلام النوم، رغم انسياب خواطرنا انسيابًا حرًّا حتى لقد يبلغ في ذلك حد التخليط، فإنك إذا ما أمعنت النظر بعد ذلك في تسلسل تلك الخواطر المنسابة، وجدت كل واحدة منها ذات صلة معلومة بسابقتها وبلاحقتها على السواء، كأنما كل فكرة ترد إلينا تشد وراءها فكرة متصلة بها على نحو ما؛ وتتَّبع محادثة تجري بين مجموعة من الناس أرسلوا أنفسهم في سلسلة الحديث إرسالًا، فإنك لا شك واجد أن حلقات الحديث — رغم أنه حديث حر ليس له ضابط — يرتبط سابقها بلاحقها على نظام معين؛ وحتى إن بدا لك في أحد مواضع الحديث أن الحلقة اللاحقة مبتورة الصلة بالحلقة السابقة، وخيل إليك أن حبل الحديث قد انقطع عند ذلك الموضع بأن تَدَخَّل فيه أحد المتحدثين بموضوع جديد طارئ قطع الصلة بين ما فات وما هو آتٍ؛ فَسَلْ ذلك المتحدث الذي بتر التسلسل بموضوعه الطارئ هذا، تجد أن قد جرى في ذهنه خاطر أو خواطرُ شديدة الصلة بما قد كان جاريًا من أحاديث، ثم استثارت فيه هذه الخواطر الباطنية موضوعه هذا الذي أقحمه على المتحدثين، وبذلك يظل التسلسل بين أجزاء الحديث قائمًا، وكل ما في الأمر أن جزءًا من السلسلة قد تم في رأس أحد المتحدثين.
وإنه لمما يلفت النظر في اللغات المختلفة، أن بينها تقابلًا — على بعد ما بينها من صلات قد لا تجعل أهل اللغة الواحدة منها على صلة قط بأهل اللغات الأخرى — إذ ترى أن فكرة ما من أفكارنا المركبة، أعني من أفكارنا التي تأتينا عناصرها البسيطة فُرَادى ثم تتركب داخل رءوسنا، يطلق عليها كلمة في كل لغة من اللغات، مما يدل على أن العناصر البسيطة التي تجيئنا عن طريق الانطباعات تتركب داخل رءوس الناس على طريقة واحدة؛٢٣ وإلا فلماذا — مثلًا — كان في كل لغة كلمة تدل على «شجرة» على حين أن «الشجرة» فكرتها في الرأس مركبة، عناصرها البسيطة هي انطباع اللون وانطباع اللمس … إلخ؟ أليس ذلك دليلًا على أن هذه العناصر الأشتات ترتبط بعضها ببعض في عقول الناس على صورة واحدة، بحيث ترسم في رءوس الناس فكرة واحدة، أجازت لهم أن يطلقوا عليها كلمة واحدة؟
«وإنه على الرغم من أن الأفكار المختلفة يرتبط بعضها ببعض ارتباطًا هو أوضح من أنه تخطئه الملاحظة، إلا أنني لا أجد بين الفلاسفة فيلسوفًا واحدًا قد حاول أن يحصي أو يصنِّف شتى المبادئ التي يجري الترابط بمقتضاها؛ وإنه لموضوع جدير باستثارة الرغبة في أنفسنا لبحثه؛ ويبدو لي أن ثمة مبادئ ثلاثة فقط يجري بمقتضاها الترابط بين الأفكار وهي: التشابه، والتجاور في زمن الوقوع أو مكانه، والعلة أو المعلول.»٢٤ أي إن الفكرة تستدعي فكرة إذا كان بين الفكرتين وجه من الشبه، أو إذا كانتا قد وقعتا في لحظتين من الزمن متتابعين، أو وقعتا معًا في لحظة واحدة، أو إذا كانتا قد وقعتا في موضع واحد من المكان أو في موضعين متقاربين، وكذلك تدعو الفكرة فكرة سواها إذا كانت علة لها أو معلولًا.
فإذا ما نظرت إلى صورة ما استدعت الصورة إلى ذهنك فكرة الأصل الذي هذه الصورة هي صورته، لما بين الفكرتين من تشابه، وذكْر مسكن في عمارة يستدعي المسكن الذي يجاوره،٢٥ لما بين المسكنين من تجاور في المكان؛ ويكاد يستحيل أن تفكر في جرح بغير أن تفكر في الألم الذي يصحبه لما بينهما من علاقة السبب بمسبَّبه.

تلك هي المبادئ الثلاثة التي تترابط الأفكار على أساسها؛ يذكرها هيوم ويقول إنه لا يدَّعي أنها هي المبادئ الوحيدة في هذا الصدد؛ فما على القارئ الذي يشك في ذلك سوى أن يستعرض لنفسه ما شاء من أمثلة لترابط الأفكار في رأسه وأن ينعم النظر فيها محلِّلا ما بينها من روابط، لعله يجد مبدأ آخر ينتظم طائفة أخرى من صنوف الارتباط؛ قد يجد مثلًا أن «التضاد» بين الفكرتين ربما يكون داعيًا لارتباطهما بحيث يستدعي الضد ضده كما يستدعي ذكر اللون الأبيض اللون الأسود؛ غير أن التضاد يظهر بالتحليل أنه مزيج من مبدأَي السببية والتشابه؛ لأنه إذا كان ثمة ضدان فإن الضد منهما يفني ضده، أي إنه يكون سببًا في فنائه، وفناء فكرة ما قد يستدعي في الذهن ما قد كانت عليه قبل فنائها؛ مثال ذلك الأبيض والأسود؛ فإذا ما وردت إلى خاطري فكرة الأبيض، أدركت على أساس السببية أن وروده إنما كان على حساب فناء فكرة الأسود، وعندئذٍ أذكر ما قد كان الأمر فأذكر اللون الأسود، وهكذا يتتابع الضدان في الذهن.

(٢) الإدراك الحسي والذاكرة

(٢-١) الانطباعات الحسية وأصولها الخارجية

سؤالان يريدان منَّا جوابًا؛ أولهما خاص باعتقادنا عن شيء ما ندركه بحواسنا أن لوجوده استمرارًا واتصالًا على الرغم من أنه قد يكون حاضرًا أمام الحواس آنًا وغائبًا عنها آنًا آخر، فما الذي يحملنا على مثل هذا الاعتقاد رغم أننا نجاوز به شهادة الحواس؟ فهذا المكتب الذي أكتب عليه الآن موجود بشهادة الرؤية واللمس، لكنني قد أخرج من الغرفة فلا أراه ولا ألمسه ولا أشهد وجوده بحاسة أخرى، ومع ذلك فإني إذا ما عدت إلى الغرفة وعدت إلى رؤيته ولمسه، ملكني الاعتقاد بأنه هو نفسه المكتب الذي كنت قبل ذلك أراه وألمسه، فأنى لي هذا الاعتقاد باستمرار وجوده، مع أنني لو ركنتُ إلى شهادة الحواس وحدها لقلت إنه مكتب آخر قد بدأتُ لتوي أدركه بحسي؟

والسؤال الثاني خاص باعتقادنا بوجود الشيء الذي ندركه بالحواس خارج حدودنا، أي إنني حين أنظر إلى هذا المكتب الذي أمامي، يملكني الاعتقاد بأنه ليس مجرد انطباع على شبكية عيني، بل هو كائن مستقل عني موجود خارج نطاقي؛ فما الذي يحملني على هذا الاعتقاد إذا كنت في حقيقة الأمر لا أعلم إلا أن انطباعًا حسيًّا واقع على جسدي؟ أفلا يجوز أن هذا الذي أراه إن هو إلا هذا الانطباع وحده دون أن يكون ثمة في الخارج ما يقابله، كما يحدث أحيانًا حين يتوهم الواهم أنه يرى أو يسمع وليس هنالك الشيء الذي يتوهم أنه يراه ويسمعه؟

والسؤالان مرتبطان أحدهما بالآخر، لأنني إذا ما اعتقدت عن شيء ما أنه موجود في لحظة لا يكون انطباعه فيها واقعًا على حسي، كأن أعتقد بوجود مكتبي هذا حتى في اللحظة التي أكون فيها جالسًا في غرفة أخرى لا أراه ولا ألمسه، على أساس أن له وجودًا متصلًا غير متقطِّع بتقطُّع إدراكاتي الحسية لوجوده، أقول إنني إذا ما اعتقدت ذلك عن هذا المكتب، فقد اعتقدت بالتالي أن وجوده مستقل عن وجودي، وأن وجوده لا يعتمد على إدراكي الحسي المباشر له وجودًا وعدمًا؛ والعكس صحيح أيضًا، بمعنى أنني ما دمت قد اعتقدت أن وجود هذا المكتب مستقل عن وجودي وعن إدراكي المباشر له، فقد اعتقدت بالتالي أن وجوده يظل قائمًا في حضوري أو غيابي على السواء … ذانك هما السؤالان اللذان نريد الإجابة عنهما لنعلم ما الذي يحملنا على الاعتقادين معًا: الاعتقاد باتصال وجود الشيء الخارجي، والاعتقاد بوجوده مستقلًّا عنا؛ أهي «الحواس» نفسها التي تحملنا على هذين الاعتقادين؛ أم هو «العقل» أم «الخيال»؟

أما «الحواس» نفسها فيستحيل أن تكون مصدرًا لأيٍّ من هذين الاعتقادين؛ إذ من الواضح أنني حين أكون غائبًا عن هذا المكتب بحيث لا أراه وحين أحكم — رغم غيابي عنه — أنه موجود، فليس هذا الحكم عندئذٍ مستمدًّا من حواسي؛ لأنني — بحكم الفرض الذي فرضته — غائب عنه، فليس هو على صلة ببصري أو بلمسي؛ وإلا فلو قلت إنني أرى المكتب حين لا أراه، وألمسه حين لا ألمسه، فذلك يكون مني تناقضًا صريحًا.

وكما أن «الحواس» لا تكون مصدرًا لاعتقادي باتصال وجود الشيء الخارجي أثناء غيابي عنه، فكذلك لا تكون مصدرًا لاعتقادي بأن للشيء الذي أدركه بها وجودًا خارجيًّا مستقلًّا عن وجودي، وذلك واضح كذلك، لأن كل ما تمدني به العين حين تنطبع برؤية هذا المكتب — مثلًا — هو ما قد انطبعت به، أي هو الانطباع نفسه، وليس في وسعها أن تمد إدراكها إلى ما وراء ذلك لترى إن كان للشيء نفسه — الذي هو مصدر الانطباع الواقع عليها — وجود مستقل أو لم يكن؛ إن اللَّقْطة الحسية الواحدة لا تدرك إدراكَين في وقت واحد: الانطباع والشيء الطابع؛ كل ما هنالك عند الحاسة في اللحظة المعينة هو انطباعها، فإن حكمت بعد ذلك بأن في العالم الخارجي شيئًا قائمًا بذاته هو سبب هذا الانطباع، كان ذلك مني استدلالًا عن طريق العقل أو الخيال؛٢٦ وقد أصيب في هذا الاستدلال أو قد أخطئ، بمعنى أنني قد أدرك انطباعًا على حواسي لشيء ما فأستدل وجود هذا الشيء خارج جسمي، وإذا بالأمر وهم، فلا شيء هناك كما توهمت أن يكون؛ لكن الفيصل الذي أقرر به إن كان الاستدلال صائبًا أو خاطئًا، أي أقرر به إن كان لانطباعي الحسي أصل في الخارج أو هو من خلق أوهامي، هذا الفيصل الذي أقرر به لا يكون في طبيعة الانطباع نفسه، لأن الانطباع لا يختلف في الحالتين؛ فالذي تُوهمه الأوهام أنه يرى في الهواء طائرًا إنما يدرك انطباعًا على حسه كالانطباع الذي يدركه إذا ما كان في الهواء طائر فعلًا؛ وإذا كان الأمر كذلك فليس في مضمون الانطباع ذاته ما يدل إن كان صورة لواقع أم اختلاقًا من الوهم؛ ولا بد — إذن — أن يكون مرجعنا في الحكم الذي نقرر به إن كان الانطباع الحسي ممثِّلًا لشيء خارجي أو لم يكن، إلى عوامل أخرى غير الانطباع نفسه، كأن نرجع إلى علاقاته بسائر الأشياء المحيطة به، لأن الروابط التي تصل الانطباع في الحالة الأولى بما حوله، مختلفة عن الروابط التي تصله بما حوله في الحالة الثانية.
فإذا ما قدمت لنا الحواس انطباعات معينة على أنها صور لأشياء خارجة عنَّا ومستقلة بوجودها عن وجودنا، كان لا بد لحواسنا من أن تفرِّق بإدراكها بين طرفين: فالأشياء الخارجية من جهة، وذواتنا المدركة من جهة أخرى، وإلا لما استطاعت أن تقارن وتوازن وتقضي بأن ذلك الطرف شيء قائم بذاته مستقل عن هذا الطرف، غير أن المشكلة ها هنا هي: كيف يمكن أن يكون الإنسان نفسه موضوع إدراك حواسه؟٢٧ الحق أنه لا معنى لقولنا إن انطباعاتنا الحسية «تخدعنا» أحيانًا حين تحملنا على الاعتقاد بأنها تصور أشياء خارجية مع أنها لا تصور شيئًا، لا معنى لقولنا هذا، لأن الانطباعات — عند الوعي — على درجة سواء من حيث يقين الإدراك، فلا فرق عند الإنسان المدرِك بين انطباع وآخر من حيث إدراكه له ويقينه بأنه هناك في وعيه؛ فها هنا لا تكون تفرقة بين ما هو وهم وما هو حقيقي، لأن كليهما انطباع حاضر في الذات الواعية؛ وإذن فما مصدر الخطأ حين نتوهم أن إدراكنا الحسي يمثل شيئًا خارجيًّا عندما لا يكون كذلك؟ ما مصدر الخطأ إذا كانت الانطباعات الحسية في ذاتها لا تخطئ ولا تخدع؟
ليست هي الحواس — إذن — التي تحملنا على الاعتقاد بأن الشيء الذي نحس انطباعه عليها يتصف وجوده بالاستمرار، كما يتصف باستقلاله عنَّا؛ لأنه إذا كانت الحواس هي نفسها الدالة على أن الصورة التي تقدمها إلينا إنما هي صورة لأصل خارج عنها، لوجب أن تقدم لنا الأصل وصورته معًا، لكنها بداهة لا تفعل.٢٨
كلا ولا هو «العقل» الذي يحملنا على الاعتقاد بأن الانطباع الحسي الذي يطبع حاسة من حواسنا إن هو إلا صورة لأصل خارج عنَّا؛ لأنه لو كان العقل هو وسيلة ذلك الاعتقاد للزم أن تكون النتيجة مستمدة من المقدمة؛ لكن الانطباع الحسي باعتباره هو المقدمة التي سنستدل منها، لا يحمل في طيه أبدًا ما يلزمنا باستنتاج نتيجة تقول إن وراء هذا الانطباع أصلًا مستقلًّا خارجًا عنَّا؛ وحتى على فرض أن الفلاسفة قد استطاعوا أن يقيموا الحجة على أن الانطباع الحسي يلزم عنه وجود الأصل الذي نشأ عنه ذلك الانطباع، فليست هذه الحجة هي التي تحمل الطفل والساذج بل والكثرة العظمى من الناس — فنحن لا نستثني هنا إلا طائفة الفلاسفة وحدهم — أقول إن هذه الحجة ليست هي التي تحمل هؤلاء جميعًا على الاعتقاد بأن انطباعاتهم الحسية صور لأشياء قائمة فعلًا ولها وجود مستمر، لا، بل إن هؤلاء جميعًا ليدمجون الشيء الخارجي في انطباعه على الحس دمجًا لا يسمح حتى بالتفرقة بينهما وجعلهما طرفين: أصل وصورة … ليس هو «العقل» إذن الذي يحملنا على هذا الاعتقاد، ولكنه «الخيال».٢٩
ذلك أن الإنسان إذا ما تعوَّد انطباعًا معينًا يأتيه كلما وجَّه حاسته وجهة معينة كان أيسر عليه أن يفترض أن هذه الانطباعات المتشابهة التي تعاوده من ذلك المصدر المعين، إنما ترتبط كلها برباط الهُوِيَّة، أي إنه يفترض أنها في الحقيقة ليست سلسلة انطباعات، كل انطباع منها قائم بذاته مستقل عن سوابقه ولواحقه (كما هي الحال في حقيقة الأمر) بل هي انطباع واحد بذاته يتأثر به كلما وجَّه حاسته إلى ذلك المصدر؛ مثال ذلك إذا نظرت إلى الشمس أو إلى البحر مرة بعد مرة، فإنني في كل مرة سأتلقى انطباعًا حسيًّا هو في الحقيقة مستقل عن الانطباع الذي تلقيته في لحظة سابقة أو الذي سأتلقاه في لحظة مقبلة لكنني أجد أنه من الأيسر أن أفترض أن هنالك شمسًا واحدة وبحرًا واحدًا، وأن الشمس يأتيني منها انطباع واحد، وأن البحر كذلك يأتيني منه انطباع واحد، بحيث يجوز لي أن أقول إن للشمس وجودًا متصلًا وكذلك للبحر وجود متصل، لا يتقطَّع بتقطُّع إدراكي لهما، فها أنا ذا أفتح عيني للشمس فأراها، ثم أغمضها فلا أراها، لكنها هناك لا تزال في سمائها، لأنني إذا ما عدت ففتحت لها عيني من جديد رأيتها؛ لو أنني اتبعت المنطق العقلي الصارم مع نفسي لقلت إن الانطباع الذي جاءني من الشمس أول مرة هو غير الانطباع الذي جاءني منها في المرة الثانية، ولذلك ففي حدود ما أعلمه من انطباعاتي الحسية هنالك شمسان، ما دام هنالك انطباعان متتابعان، أو هنالك ألف ألف شمس إذا كنت قد تلقيت ألف ألف انطباع من هذا القبيل، ولا يشفع لي أن أقول إنها انطباعات متشابهة كلها؛ لكنني لا ألتزم مع نفسي منطقًا صارمًا هنا، وأدع نفسي للخيال يخيِّل لي أن هذه الانطباعات كلها هي انطباع واحد، وأنه ما دامت الشمس لا يغيِّر منها أن أفتح عيني أو أغمضها فلا بد أن تكون هنالك شمس واحدة متصلة الوجود، خارجة عني ومستقلة عن إدراكي.٣٠

(٢-٢) مبدأ الذاتية

قلنا إن الإنسان إذا ما جاءته سلسلة انطباعات على لحظات من الزمن متتابعة شديدة الشبه بعضها ببعض، فإنه يميل بخياله إلى دمجها بحيث تصبح وكأنها انطباع واحد يدل على شيء واحد؛ فالشمس — مثلًا — أراها مرة بعد مرة، وفي كل مرة تطبع عيني بانطباع هو في الحقيقة مستقل عن الانطباع الذي تطبعني به في المرة التالية، لكن الانطباعين يكونان على تشابه شديد، فأدمجهما بحيث أجعلهما وكأنهما انطباع واحد مبعثه شيء واحد في الخارج هو الشمس؛ هذا التوحيد الذي أدمج به ما هو في الحقيقة متعدد، هو الذي يسمى في الفلسفة بمبدأ الهوية أو مبدأ الذاتية.

فلو كان ما أراه انطباعًا واحدًا في لحظة واحدة، لما كان ثمة داعٍ لهذا المبدأ، لأن المبدأ يقتضي أن تكون هنالك حالتان أو انطباعان على الأقل، يتلو أحدهما الآخر في لحظتين مختلفتين، ثم أقول عن الانطباع الثاني إنه هو هو بعينه الانطباع الأول؛ بعبارة أخرى لو كان هنالك وحدة واحدة لما كانت هنالك «ذاتية» أو «هُوِيَّة»، لأن الوحدة واحدة بحكم تعريفها، فليس فيها التعدد الذي نحكم على وحداته بأنها تكوِّن فردًا، وبالتالي فليس فيها الإشكال الذي يحاول الفلاسفة أن يفسروه بمبدأ الذاتية.

وكذلك لو كان هنالك عدة حالات أو عدة انطباعات، مهما يكن بينها من تشابه، دون أن أزعم لها أنها في الحقيقة ذاتٌ واحدة، لما نشأت مشكلة الذاتية، لأن هذه المشكلة — كما قلنا — لا تكون إلا بقيام الوجهين معًا: التعدد الذي يكوِّن وحدة.

وإذا كانت لا الوحدة وحدها ولا التعدد وحده هو ما نعنيه حين نتحدث عن علاقة الذاتية، فلا بد أن تكون هذه «الذاتية» علاقة لا هي بهذا ولا هي بتلك؛ وإن يكن هذا مما يبدو للنظرة الأولى محالًا؛ إذ لا بد لك من أحد اثنين فإما وحدة وإما تعدد، ولا وسط بين الطرفين، إلا إذا جاز لك أن تقول إن هنالك وسطًا بين الوجود وعدم الوجود، ذلك لأنك حين تسلم لشيء ما بأنه موجود فلا محيص لك بعد ذلك عن أحد أمرين، فإما أن تفرض الوجود لشيء آخر سواه، ومِن ثَم تنشأ لك فكرة التعدد، أو أن تفرض أن ليس هنالك شيء آخر يتصف بالوجود؛ ومِن ثَم تنشأ فكرة الوحدة، ولا ثالث لهذين الفرضين.٣١
لكن فكرة الزمن تحل لنا هذا الإشكال؛ لأن الزمن بمعناه الدقيق يقتضي التتابع؛ فإذا كان لدينا شيء غير متغير ثم قَرَنَّا به فكرة الزمن، صور لنا خيالنا أن هذا الشيء الثابت إنما يشارك الأشياء الأخرى في تغيرها، أي في تتابع حالاتها الذي تتضمنه فكرة الزمن؛ وعلى هذا فإذا ما ركَّزت انتباهي في شيء ثابت لا يتغير في ذاته، تركيزًا يدوم فترة من الزمن، فإنني على الرغم من ثبات الشيء الذي وضعته موضع الانتباه، سأقارن الحالة في لحظة من لحظات تلك الفترة الزمنية، بالحالة في لحظة غيرها من لحظات تلك الفترة عينها، ومِن ثَم ينشأ لي في خيالي فكرة الوحدة التي لم تتغير على تعدد اللحظات؛ أو ربما نظرت في لحظة ثالثة إلى تينك اللحظتين المذكورتين، واضعًا ثبات الشيء في اعتباري، فتنشأ لي فكرة التعدد رغم وحدانية الشيء؛ وهكذا يتوقف الأمر على وجهة نظرك فإذا وجهت النظر إلى واحدية الشيء خلال لحظات الزمن المتعاقبة، كانت لك الوحدة رغم الكثرة، وإذا وجهت النظر إلى تعدد اللحظات على الشيء الواحد، كانت لك الكثرة رغم الوحدة؛ وإذن فها هنا تتكون فكرة هي وسط بين الوحدة والتعدد، أو إن شئت فقل إنها وحدة أو كثرة حسب اختيارك لوجهة النظر، وتلك هي التي نسميها بفكرة «الذاتية»؛ وإذن ﻓ «الذاتية» أو «الهوية» هي ثبات الشيء على حالة واحدة خلال تغير مفروض في لحظات الزمن.٣٢

فلننظر بعد ذلك إلى موقفنا إزاء الانطباعات المتشابهة التي تأتي إلينا على فترات قد تكون متباعدة، ومع ذلك نقضي بأنها ترتبط بذاتية واحدة؛ كأن أرى النهر — مثلًا — ثم أراه بعد حين يقصر أو يطول، فأحكم بأن الانطباع الذي انطبعتُ به أول مرة، والانطباع الذي انطبعتُ به في المرة الثانية، هما في الحقيقة انطباع واحد، أو قل هما انطباعان بينهما ذاتية تربط بينهما في وحدة تجعل النهر الذي رأيته في المرة الأولى هو بعينه النهر الذي رأيته في المرة الثانية؛ فحقيقة الأمر هنا هي أنني إزاء انطباعين لا انطباع واحد، وبالتالي فقد تكون لديَّ عن النهر فكرتان لا فكرة واحدة، ولأن أجعلهما فكرة واحدة فهو خطأ يجاوز الواقع كما وقع.

لكن هذا الخطأ قمين أن يقع، فليس أدْعَى إلى أن ينظر الإنسان إلى إحدى أفكاره فيظنها فكرة سواها، مما قد يكون بين الفكرتين من رابطة في الخيال بحيث يسهل الانتقال من إحداهما إلى الأخرى؛ وإن صدق هذا على الروابط التي تربط الأفكار في الخيال بصفة عامة، فهو أصدق وأوضح حين تكون هذه الرابطة بين الفكرتين هي ما بينهما من تشابه؛ ذلك لأن الأمر في حالة التشابه بين الفكرتين لا يقتصر على أن الشبيه يستدعي شبيهه إلى الذهن، بل إن الأمر ليجاوز هذا، بحيث تكون العمليات العقلية في إحدى الحالتين شبيهة جدًّا بالعمليات العقلية في الحالة الأخرى؛ ولكي نوضح ذلك، نضرب لك مثلًا برابطة أخرى غير رابطة التشابه، كالتجاور المكاني،٣٣ ففكرة حديقة معينة إذا وردت على خاطرك قد تدعو فكرة شخص معين قابلته فيها، بسبب التجاور أو الترابط المكاني بين الفكرتين؛ ها هنا فكرة تدعو فكرة أخرى إلى الحضور، لكن العملية العقلية في حالة تصور الفكرة الأولى تختلف عن العملية العقلية في حالة تصور الفكرة الثانية، بمقدار ما بين انطباع الحديقة وانطباع الشخص من اختلاف بعيد، وكذلك فإن ارتباط الفكرتين هنا لا يوقعني في الخطأ بحيث يمكن أن أقول إن الأولى هي بعينها الثانية؛ ولا كذلك إذا ما كانت الرابطة بين الفكرتين هي رابطة التشابه، وكلما اشتد الشبه بين الفكرتين اشتد احتمال الوقوع في الخطأ بحيث أظن أن الفكرة الثانية المستدعاة هي بعينها الفكرة الأولى الداعية؛ وهذه هي الحال حين تكون الفكرتان معًا عن شيء بعينه كالشمس مثلًا؛ فالفكرة الأولى عن الشمس في لحظة معينة، والفكرة الثانية عن الشمس أيضًا ولكن في لحظة أخرى، فإذا ما استدعت الفكرة الأولى الفكرة الثانية، كان الأرجح أن يختلط عليَّ الأمر بحيث أظن أن بين الفكرتين وحدة ذاتية؛ فالانتقال من فكرة إلى فكرة شديدة الشبه بها يكون بمثابة الانزلاق الهين السهل حتى ليتعذر على العقل أن يدرك أنه قد انتقل من فكرة إلى أخرى، ويخيل إليه أنه لم ينتقل، بل لبث مشغولًا بفكرة واحدة لم يتزحزح عنها إلى سواها، ومِن ثَم ينشأ الاعتقاد بأن الشيء الخارجي الذي هو مبعث الفكرتين الشبيهتين، شيء له هوية واحدة، ثابت على حالة واحدة؛ وهكذا يختلط علينا الأمر بين ما هو في الحقيقة حالات متتابعة وبين توحيد هذه الحالات وجعلها حالة واحدة تصور شيئًا واحدًا.٣٤

(٢-٣) الذاكرة والخيال

كنَّا حتى الآن نتحدث عن طرفين من أطراف الخبرة، أما أولهما فالانطباعات التي ينطبع بها الإنسان بما يُعْطاه من خارج، وأما الآخر فالأفكار التي هي الصور الذهنية لتلك الانطباعات بعد غياب بواعثها؛ فالفكرة هي انطباع فترت قوته وبهتت ألوانه، والانطباع هو فكرة في حالة نصوعها ووضوحها؛ ها أنا ذا أنظر إلى شجرة خلال نافذتي، فما عندي منها — طالما أشخصُ إليها ببصري — هو انطباع، ثم أحوِّل عنها البصر محتفظًا بصورتها في ذهني، فما يكون عندي منها عندئذٍ هو فكرة.

لكن الفكرة المتخلفة في أذهاننا عن انطباع معين لا تظل على درجة واحدة من الوضوح مع توالي الزمن؛ إذ قد يصيبها الوهن والضعف، أو أنها قد تحتفظ بمعظم ما كان لها من قوة نصوع حين كانت انطباعًا على إحدى الحواس؛ وإذن فتستطيع أن تقول إن هناك ثلاث درجات متوالية في درجة الوضوح، أوضحها هو الانطباع حالة وقوعه على الحاسة، وأبعدها عن الوضوح هو الفكرة حين يصيبها مر الزمن بالهزال والخفوت، وبين الطرفين مرحلة وسطى، هي الفكرة حين لا يكون لها كل الوضوح الذي كان للانطباع، كما لا يكون لها كل الغموض الذي يصيب بعض الأفكار؛ فإن كانت الفكرة التي تستعيدها من خبراتك الماضية هي من النوع الوسط فتلك ذاكرة، وأما إن كانت من النوع الذي بَهَتَ لونه وغمضت حدوده، فذلك خيال.٣٥

فإذا ما أردنا التمييز بين «الذاكرة» و«الخيال» فذلك لا يكون بالتفرقة بين ما يكوِّن كلًّا منهما من عناصر بسيطة، فلا نقول مثلًا إن الذاكرة قوامها كذا وكذا من العناصر، أما الخيال فقوامه كيت وكيت؛ وذلك لأن كليهما عناصره البسيطة واحدة، مستمدة من مصدر واحد هو الانطباعات التي تقع على الحواس؛ إذ ليس ثمة من مصدر آخر؛ فإن كانت الأفكار المستعادة بالذاكرة قوامها ألوان وطعوم وأشكال وما إلى ذلك مما تأتي به الحواس عن طريق انطباعاتها فكذلك الأفكار التي نقول عنها إنها خيال هي الأخرى قوامها ألوان وطعوم وأشكال وما إلى ذلك مما تأتي به الحواس عن طريق انطباعاتها أيضًا.

كلَّا ولا هو ترتيب تلك العناصر البسيطة ما يميز الذاكرة من الخيال، فليس من الصواب أن نقول إن الخيال يختلف عن الذاكرة في أنه يغير ويبدل من ترتيب العناصر كما قد جاءت بها الانطباعات أول الأمر؛ لأنه وإن يكن الخيال قد يختلف فعلًا عن الذاكرة في أن هذه الأخيرة تحتفظ بالترتيب الأصلي للأفكار سابقًا قبل لاحق، وأن الخيال يقدِّم في الأوضاع الأصلية أو يؤخر كيف شاء، إلا أن هذا الفرق وحده لا يكفي للتمييز بينهما؛ إذ كيف تستطيع استعادة الانطباعات الأولى بترتيبها بحيث تنظر إليها مقرونة إلى تذكُّرها، لتقول إن كانت قد احتفظت في الحالتين بترتيب واحد أو لم تحتفظ؟ ذلك محال، بل هو تناقض في القول، لأنك إذا ما استعدت الانطباعات الأولى فتلك ذاكرة فكأنما أنت تقرن ذاكرة إلى ذاكرة لتقيس الثانية بالأولى!

وإذا كانت الذاكرة لا تتميز من الخيال على أساس المقومات البسيطة لكل منهما، ولا على أساس الترتيب الذي تتخذه الأفكار في الذهن، إذن فلم يبقَ إلا أنهما متميزان على أساس درجة النصوع والوضوح والقوة؛ فتخيل ما شاء لك الخيال أن تتخيل من مغامرات لك في الماضي، فلن يختلف ما تنشئه بخيالك عمَّا تستذكره من الخبرات الماضية الحقيقية إلا في كون الخيال أخْفَت وأبهت وأكثر غموضًا.٣٦
فكثيرًا ما يحدث لشخصين أن يشهدا منظرًا بعينه، حتى إذا ما مر الزمن، استعاده أحدهما بالذاكرة واضحًا جليًّا، على حين يظل الثاني ناسيًا له، فيأخذ زميله الذاكر في تذكيره بتفصيلات المنظر، فيذكر له زمانه ومكانه وشتى تفصيلاته وأجزائه، ويظل الناسي على نسيانه؛ لكن هذا النسيان لا يمنعه من أن يرسم لنفسه صورة بالخيال مكونة من الأوصاف التي يذكرها له صديقه الذاكر؛ ويمضي الصديق الذاكر في تغذية زميله الناسي بتفصيلات جديدة، ويمضي هذا في إكمال الصورة التي يرسمها لنفسه بخياله مما يسمع من تفصيلات، حتى يحدث أن يذكر الصديق الأول حقيقة معينة، فتصحو الذاكرة عند صاحبه بغتة، ويتذكر كل شيء؛ ها هنا تنتقل الصورة التي كان قد رسمها مستعينًا بالتفصيلات التي ذكرها له صديقه، تنتقل هذه الصورة من خيال إلى ذاكرة، فهل تتغير تفصيلاتها بهذا الانتقال؟ أم هل تتغير العناصر في ترتيبها؟ قد لا يكون هذا ولا ذاك، لكن الذي يتغير حتمًا بانتقال الصورة المرسومة من خيال إلى ذاكرة هو درجة النصوع، ففجأة يصب عليها ضوء جديد، وإذا هي أوضح جدًّا مما كانت وأنصع.٣٧

الذاكرة لا تختلف أساسًا عن الخيال إلا في أن فكرتها أوضح وأجلى، فإذا ما أراد مصور أن يصوِّر إنسانًا ذا عاطفة معينة أو انفعال معين، كأن يصوره غاضبًا أو خائفًا أو محبًّا أو حاقدًا، فخير له أن يتذكر شخصًا معينًا وهو في الحالة التي يريد المصور أن يصوِّرها، لأن ملامح العاطفة التي يراد رسمها تكون أمامه عندئذٍ أوضح جدًّا مما لو ترك نفسه للخيال وحده يحاول به أن يحدد تلك الملامح؛ نعم إنه حتى حين يترك نفسه لخياله، فلن يتقيد إلا بما كانت انطباعاته قد جاءته به من خبراته الحسية، لكن صور الخبرة الماضية في حالة الخيال تكون أشد غموضًا منها لو استعيدت بالذاكرة متمثلة في شخص معين أو موقف بذاته؛ وكلما كانت هذه الذاكرة أقرب زمنًا إلى وقت حدوث الانطباع كانت أكثر وضوحًا؛ ولكن اترك الأعوام تمضي، وسيمضي معها وضوح ما كنَّا خبرناه وذكرناه حيًّا نابضًا، إنه بمر الزمن سيمَّحي كثير من تفصيلاته ويغمض كثير من جوانبه، حتى ليحدث كثيرًا أن يختلط الأمر علينا عندئذٍ فلا ندري أتكون الصورة الماثلة في أذهاننا بهذا الفتور والضعف ذاكرة أم خيالًا.

وكما يتناقص وضوح الفكرة حين تكون ذاكرة حتى تبلغ درجة من الغموض تصبح فيها خيالًا، فكذلك قد يزيد وضوح الفكرة حين تكون خيالًا حتى تبلغ درجة من الوضوح تصبح فيها ذاكرة؛ وذلك ملحوظ في الكاذب حين يكرر كذبته ويعيدها مرة بعد مرة، فتتضح الصورة في ذهنه حتى ليأخذ هو نفسه في الاعتقاد بأنه إنما يذكر ما قد وقع، وليس يختلق صورة من محض خياله؛ فالعادة هنا — أي التكرار — تفعل ما تفعله في مواقف أخرى كثيرة، وهو أن تكسب الفكرة وضوحًا كالوضوح الذي كانت تكسبه لو كان مصدرها انطباعًا آتيًا من الطبيعة الخارجية.٣٨

على أن التفاوت في درجة الوضوح إن يكن هو المميز الأساسي فليس هو بالمميز الوحيد للذاكرة من الخيال؛ بل هنالك فارق آخر وهو أن الخيال لا يتقيد بنفس الترتيب الذي كانت الانطباعات قد جاءتنا به أول مرة، على حين تتقيد الذاكرة بذلك الترتيب؛ فمن الواضح أن الإنسان حين يتذكر ما قد خبره من حوادث، فإنما يتذكرها كما وقعت سابقًا فلاحقًا، فإن حدث أن خلط الأوضاع ولم يذكرها كما وقعت، كان ذلك نقصًا في ذاكرته وعيبًا؛ فالمؤرخ — مثلًا — له أن يقدم حادثة على أخرى في الوقت الذي يعلم فيه أن الحادثة التي قدمها في الترتيب قد وقعت مؤخرة، لكنه لا بد — لكي يكون مؤرخًا دقيقًا — أن يكون على وعي بما هو فاعل؛ وكذلك نفعل في خبراتنا الماضية حين نعود إلى ذكرها، فلا تكون الذاكرة سليمة إلا إذا أعيدت الخبرات بترتيبها الأصلي، ما لم نتعمد لسبب من الأسباب أن نقدم المتأخر ونؤخر المتقدم.

فوعينا للترتيب الذي وقعت به الحوادث صفة تميز الذاكرة من الخيال الذي يفك عن نفسه هذا القيد؛ وانظر إلى القصص والشعر، ترَ القصصي أو الشاعر قد قلب أوضاع الأشياء الطبيعية رأسًا على عقب، فحيوان ينطق بما ينطق به الإنسان، وحصان يطير بالأجنحة التي يطير بها الطير، وأفاعٍ تزفر ألسنة من لهب، وعمالقة تبلغ من الارتفاع ما لم يبلغه أحد من البشر … وهكذا نتلقى العناصر الأولية عن طريق انطباعاتنا من الطبيعة، لكننا نعيد ترتيبها ونغيِّر أوضاعها حين يكون الأمر متروكًا للخيال.٣٩

(٣) يقين المعرفة واحتمالها

(٣-١) علاقة السببية

لا يخرج الموضوع الذي يتناوله العقل بالتفكير عن أحد أمرين: فهو إما أن يكون متصلًا ﺑ «العلاقات الكائنة بين فكرة وفكرة» أو أن يكون متصلًا ﺑ «أمر من أمور الواقع»؛٤٠ والعلوم الرياضية هي من الصنف الأول، والعلوم الطبيعية من الصنف الثاني؛ أو بعبارة أخرى، كل قضية نحكم بصدقها بالحدس أو بالبرهان القياسي هي من الصنف الأول، وكل قضية نحكم بصدقها على أساس الخبرة الحسية هي من الصنف الثاني، فقولي عن المثلث إن زواياه تساوي قائمتين هو قول أقيم البرهان على صدقه بالقياس المنطقي، ولذلك فهو قول يستنبط نتيجة من مقدماتها، أي إنه يستنبط فكرة من فكرة دون الرجوع إلى الأشياء الطبيعية الخارجية، ولذلك فهو قول كل ما فيه أنه تحليل لفكرة معينة كي نستخرج منها فكرة أخرى تتولد عنها؛ وأما قولي عن الشمس إنها تبعد كذا ميلًا عن الأرض، فهو ينبني على مشاهدة الخارج ووصفه وسنرى أن المعرفة التي من القبيل الأول يقينية، وأما المعرفة التي من القبيل الثاني فاحتمالية تحتمل الخطأ حتى وإن رجحنا فيها الصواب.

القضية من قضايا الهندسة والجبر والحساب، كقولنا — مثلًا — إن المربع المنشأ على وتر المثلث القائم الزاوية مساوٍ لمجموع المربعين المنشأين على الضلعين الآخرَين، أو أن خمسة مضروبة في ثلاثة تنتج عددًا هو نصف الثلاثين، هي قضية تحدد العلاقة بين أفكار، ولا شأن لها بالواقع كما هو واقع؛ ففي المثل الأول تحديد للعلاقة بين مربعات ثلاثة نتصورها بالفكر، وفي المثل الثاني تحديد للعلاقة بين أعداد معينة نحسبها ونتصورها بالفكر كذلك؛ فهذه وأمثالها قضايا نكشف عن صدقها بعمليات فكرية صرفة، دون الرجوع إلى شيء مما هو واقع في أرجاء الكون؛ فلو لم يكن في الطبيعة كلها مربع واحد ولا مثلث واحد ولا دائرة واحدة، لما نقصت درجة اليقين التي نحكم بها على النظريات التي أوردها إقليدس في هندسته.

ولا كذلك القضايا التي نصف بها أمور الواقع كما وقعت أو كما ينتظر لها أن تقع؛ ففي الوقت الذي أتصور فيه استحالة ألَّا يكون المربع ذا قوائم أربع، لأنها حقيقة تترتب على تعريفه، أستطيع أن أتصور نقيض أية واقعة من الوقائع الطبيعية، فلا استحالة عند العقل المحض أن تجري وقائع الطبيعة على غير الصورة التي تجري عليها؛ وليس أعسر على العقل أن يتصور نقيض الواقعة الطبيعية من أن يتصور الواقعة كما وقعت؛ فلأن تغيب الشمس غدًا عن الظهور فلا تشرق، أمرٌ لا يشق على العقل أن يتصوره، فمثل هذه الصورة عنده يساوي في سهولة التصور أن تشرق الشمس غدًا؛ وعبثًا تحاول أن تقيم برهانًا عقليًّا على بطلان القول بأن الشمس لن تشرق غدًا؛ ولو كان مثل هذا البطلان مما يقام عليه البرهان العقلي، لكان في تصوره تناقض، بل لكان مجرد تصور العقل له أمرًا محالًا.٤١

وإذا كانت أحكامنا على وقائع العالم الطبيعي — على نحو ما أسلفنا — مما يمكن للعقل أن يتصور نقيضه، وأن التجربة وحدها هي التي تنبئنا بما يحدث، وأن ما قد يحدث غدًا ربما جاء مخالفًا لما حدث اليوم أو أمس، فلا استحالة — مثلًا — عند العقل ألا تشرق الشمس غدًا … أقول إنه إذا كان الأمر كذلك، فما الذي يميل بنا كل هذا الميل نحو قبول أحكامنا على وقائع العالم الطبيعي كما لو كانت يقينًا ثابتًا؟ أيكون في الأمر شيء يجاوز حدود شهادة الحواس في اللحظة الراهنة، وشهادة الذاكرة بما كانت قد انطبعت به الحواس فيما مضى من خبرات؟

يذهب هيوم إلى أن كل تدليلاتنا الخاصة بأمور الواقع إنما تقوم على أساس العلاقة السببية، أي علاقة السبب بالمسبب؛ فعن طريق هذه العلاقة يجاوز الإنسان حدود شهادة الحس وشهادة الذاكرة في حكمه على وقائع العالم الطبيعي؛ فَسَلْ من شئت عن علة اعتقاده في أمر معين من أمور الواقع مما لا يكون قائمًا حاضرًا في مجال الحس، ولا مما تشهد الذاكرة بأنه كان ذات يوم قائمًا حاضرًا في مجال الحس، سَلْه — مثلًا — ما الذي يدعوه إلى الاعتقاد بأن صديقه فلانًا هو الآن مقيم في الريف، أو هو الآن مقيم في فرنسا؛ مع أن حواسه لا تشهد في اللحظة الراهنة شيئًا عن إقامة صديقه ذاك، كلا ولا ذاكرته تعي شيئًا عن ذلك؛ يُجبك بأنه أقام اعتقاده ذاك على أساس واقعة أخرى من وقائع العالم الطبيعي، كأن يقيمه — مثلًا — على أساس خطاب وَرَدَ إليه من صديقه، أو على ما كان قد سمعه من صديقه ذات يوم أنه معتزم أن يرتحل إلى الريف أو إلى فرنسا؛ لكن «الخطاب» الذي وَرَدَ إليه من صديقه أو «العبارات» التي كان سمعها منه، ليست هي نفسها «الإقامة» في الريف أو فرنسا؛ إنه — إذن — يستدل حقيقة من حقيقة أخرى، ويبني اعتقاده بشيء على إدراكه الحسي لشيء آخر؛ وسؤالنا الآن هو: ما الذي يبرر له ذلك؟ وجواب السؤال هو — كما أسلفنا — أن المبرر هو علاقة السبب بالمسبب، فهذه العلاقة هي التي نستعين بها على مجاوزة حدود الإدراكات الحسية سواء كانت قائمة الآن أو مستعادة بالذاكرة من خبرات ماضية؛ إن من يجد أثناء سيره في جزيرة مهجورة ساعة أو أية آلة أخرى، يحكم من فوره بأن قد كان على هذه الجزيرة المهجورة إنسان، وهكذا يقيم اعتقادًا ما على أساس إدراكه الحسي لشيء ليس هو نفسه موضوع ذلك الاعتقاد … وهكذا قل في سائر أحكامنا على أمور الواقع؛ وبالطبع إذا لم تكن هناك رابطة بين الواقعة التي تقع على حواسنا والواقعة الأخرى التي نستدلها منها، كانت أحكامنا قائمة على أساس متداعٍ؛ إنك إذا سمعت في الظلام صوتًا بشريًّا يتحدث حديثًا معقولًا، حكمت مصيبًا بأن هنالك إنسانًا حتى وإن لم يكن في مستطاع عينك رؤيته، ذلك لأنك تربط رباطًا سببيًّا بين الحديث الذي سمعته وبين الجهاز الآدمي؛ وهكذا حلل شتى أحكامك عن أمور الواقع تجدها جميعًا قائمة على أساس الرابطة السببية، على أن هذه الرابطة التي تربط السبب بمسببه ربطًا يدعو الإنسان إلى استدلال أحدهما من الآخر، قد تكون بادية ظاهرة حينًا، وخافية بعيدة تحتاج إلى شيء من التحليل لإظهارها حينًا آخر، كما أنها قد تكون على صورة التتابع بين الحادثتين اللتين نسميهما سببًا ومسببًا، أو قد تكون على صورة المعية في الوقوع، أي إنهما يحدثان معًا في لحظة واحدة دائمًا، كما ترتبط الحرارة والضوء في صدورهما معًا في النار، بحيث يجوز لنا أن نستدل إحدى الظاهرتين من وجود أخرى.٤٢
وما دامت الرابطة السببية هي حيث هي من الأهمية في أحكامنا على أمور الواقع، فلا مندوحة لنا عن البحث في طريقة وصولنا إلى العلم بها؛ وأول ما أقرره في هذا الصدد، مبدأ أطلقه على سبيل التعميم الذي لا يعرف الشذوذ، وهو أن علمنا بالرابطة السببية في جميع حالاتها لا ينشأ عن التفكير العقلي الخالص، الذي يستغني عن الخبرة الحسية في تقريره لما يقرره؛ أو بعبارة أخرى، ليس علمنا بالرابطة السببية في أية حالة من حالاتها علمًا «قَبْليًّا» مستقلًّا عن مصادر الخبرة الحسية في إثبات صدقه؛ بل هو علم مستمد دائمًا وفي جميع الحالات من الخبرة الحسية التي تقدم لنا الشيئين اللذين نحكم بأن بينهما رابطة السبب بالمسبب، تقدمهما لنا متصلًا أحدهما بالآخر في كل حالة يقعان فيها لنا في خبراتنا؛ وإذا لم يحدث لشيء معين أن يقع لنا في خبراتنا الحسية أبدًا، بحيث لا ندري شيئًا عن سوابقه أو لواحقه أو مصاحباته، ثم سُئِلنا: ماذا يكون سببه أو ماذا يكون مسببه، لاستحال علينا استحالة قاطعة أن نجيب عن ذلك بشيء، مهما تكن لدينا القدرات العقلية على أتم ما تكون كمالًا وقوة، فآدم — على افتراض كمال قدراته العقلية — ما كان ليستدل من سيولة الماء وشفافيته أنه يختنق به لو غرق فيه أو يستدل من الضوء والدفء اللذين ينبعثان من النار، أنه يحترق لو وثب فيها؛ ذلك أنه محال على الإنسان أن يستدل من بعض الخصائص الحسية لشيء ما بعضها الآخر، دون أن تكون هذه وتلك قد اقترنتا في خبراته الماضية اقترانًا يبرر له استدلال بعضها هذا من بعضها ذاك؛ وبعبارة أخرى نقول إن التفكير العقلي وحده، أعني التفكير العقلي الخالص الذي لا يستند إلى خبرة حسية، محال عليه أن يستدل شيئًا قط عن طبيعة العالم الطبيعي الواقع.٤٣

الخبرة الحسية وحدها — إذن — لا التفكير العقلي الخالص، هو المصدر الذي نستقي منه علمنا بعالم الواقع، ويستحيل علينا بغير تلك الخبرة أن نتوقع ما عساه أن يحدث من حوادث ذلك العالم؛ وإلا فكيف يمكن لإنسان بعقله البحث أن يحكم على قطعتين ملساوين من الرخام التصقت إحداهما بالأخرى أنهما لو جُذبتا في اتجاه عمودي لتنفصل إحداهما عن الأخرى فلا بد لهما من قوة عظيمة، على حين تكفي قوة يسيرة لانفصالهما إذا ما دُفعت الواحدة منهما دفعًا أفقيًّا لتنزلق على الأخرى؟ كيف يمكن للإنسان بغير خبرة حواسه أن يعلم شيئًا عن دوي البارود إذا ما تفجر، أو جذب المادة الممغطسة للمعادن. كيف يمكن بغير هذه الخبرة أن نعلم أن اللبن والخبز غذاء صالح للإنسان، وغير صالح للأسد أو النمر؟

ومع ذلك فهنالك من خصائص الوقائع الطبيعية ما يخيل إلينا أننا مدركوه بغير خبرة حسية، وأن العقل الصرف قادر وحده أن يدرك بعض العلاقات السببية بين الأشياء حتى ولو لم تقع لنا حالة واحدة من حالاتها في ماضي خبراتنا؛ مثال ذلك ما نتوهمه إزاء كرة البلياردو حين تتحرك حتى تصدم كرة أخرى فتحركها؛ فها هنا تُرانا نظن أن تحريك الكرة الأولى للكرة الثانية أمر كان يمكن الحكم بوقوعه بمجرد التفكير العقلي، وأن الضرورة لا تقتضي أن ننتظر حتى يحدث ذلك في خبراتنا لنحكم بعد ذلك بإمكان وقوعه؛ لكنها العادة هي التي تخدعنا عن حقيقة الموقف، بأن تجعل لنا الأمر على درجة من الإلف بحيث نتوهم أنه أمر ظاهر اليقين، وأن الإدراك الفطري وحده كافٍ للكشف عنه.

لكن العقل المحض يستحيل عليه أن يجاوز حدود الأمر الواقع بحيث يقول إنه سبب لكذا أو مسبَّب لكذا؛ فمهما حللت بعقلك البحت واقعة ما، فلن تجد فيها ما يدل على أنها كانت مسبوقة بكذا، أو أن كذا سيصاحبها أو سيلحق بها؛ السبب شيء والمسبب شيء آخر؛ السبب والمسبب حادثان مختلفان وتحليل أحدهما تحليلًا عقليًّا لا يدل وحده على الآخر؛ فحركة الكرة الثانية من كرتي البلياردو حادث قائم وحده بالنسبة إلى حركة الكرة الأولى، وليس في أي من الحركتين أقل علامة تشير إلى ضرورة وجود الأخرى … اقذف بحجر في الهواء، واتركه غير مستند إلى شيء، يسقط على الأرض من فوره؛ لكن لا بد من الخبرة الحسية السابقة لأعلم منها هذا التلاحق بين الحادثتين، وإلا فالعقل البحت وحده، مهما أمعن في تحليل الموقف، فلن يجد أن السقوط إلى الأرض متضمن بالضرورة في وجود الحجر في الهواء؛ إذ ليس عند العقل الصرف ما ينفي أن يستمر الحجر في صعوده إلى أعلى بدل سقوطه إلى أسفل، أو ما ينفي أن يتحرك الحجر إثر رميه في الهواء نحو اليمين أو نحو اليسار؛٤٤ وما دام العقل لا ينفي أن يتحرك الحجر في أي اتجاه، إذن فالخبرة هي مصدرنا في العلم بأن الاتجاه الفعلي للحجر — بين الممكنات الكثيرة — هو الاتجاه إلى أسفل.
إنني إذا شهدت كرة من كرات البلياردو متحركة في اتجاه كرة أخرى ساكنة، فهل يقضي العقل المجرد بضرورة أن تتحرك الكرة الأخرى إذا ما مستها الأولى؟ ألا يمكن عقلًا تصور أن تسكن الكرتان معًا؟ ألا يمكن عقلًا أن تصدم الكرة المتحركة الكرة الساكنة وبدل أن تحركها تعود هي مرتدَّة، أو تقفز فوقها ثم تسير في أي اتجاه؟ هذه كلها أوضاع ممكنة عند العقل الصرف، ولا مبرر — من حيث التفكير العقلي الخالص — يجيز لنا أن نفضل حالة على أخرى من هذه الحالات التي يتساوى إمكانها عند حكم العقل؛ وإذن فيستحيل علينا الحكم «قبل» الخبرة ماذا تكون عليه الحال في مثل هذه الظروف؛ وإنما الذي يقضي لنا في الأمر، بحيث نختار أحد الممكنات دون سائرها، هو الخبرة الحسية التي تدلنا على ما قد يقع فعلًا، فنتوقع حدوثه — لا لأنه ضرورة عقلية محتومة — بل لأنه هو الذي شهدت به التجربة كما وقعت في الحس واحتفظت به الذاكرة.٤٥

(٣-٢) الحكم على أساس الخبرة احتمالي لا يقيني

إنه لا مناص من التسليم بأن الطبيعة قد أخفت عنا سرها المكنون، وأنها لم تعلن لن إلا عن قليل من صفاتها الظاهرة، فهي تبدي لنا عن الشيء المعين بعض خصائصه المحسوسة من لون وطعم ورائحة وشكل … إلخ، أما القوى الخبيئة لذلك الشيء، والتي عليها يتوقف تأثير ذلك الشيء في غيره من الأشياء، فلا تفصح عنها؛ إننا نعرف عن الخبز — مثلًا — لونه وطعمه ووزنه؛ لكن ما الذي يجعل هذا الخبز صالحًا لتغذية الجسم البشري؟ ليس في وسع الخبرة الحسية ولا في وسع الفكر الخالص أن يجيب عن هذا السؤال؛ إن البصر واللمس يعطياننا فكرة عن الحركة الفعلية في الأجسام المتحركة، وأما تلك القوة العجيبة التي تحفظ للجسم المتحرك حركته إلى الأبد، على اختلاف الأماكن التي يمر خلالها، بحيث لا تزول عنه إلا إذا انتقلت منه إلى جسم آخر فحركته، فليس لنا إلى معرفتها من سبيل.

لكن جهلنا هذا بالقوة الخبيئة في طبائع الأشياء، لا يمنعنا من الحكم الصادق بأنه إذا تشابهت الخبرات الحسية الواردة إلينا من شيئين، كان الفعل المترتب على هذين الشيئين متشابهًا كذلك، فإذا ما رأيت — مثلًا — مادة معينة لها ما قد ألَفْتُه في خبراتي الماضية من صفات الخبز لونًا وتكوينًا، جاز لي أن أحكم في يقين بأن هذه المادة ستفعل في تغذية الجسم ما قد فعلته أشباهها في الماضي.

وها هنا ينشأ السؤال الآتي: على أي أساس عقلي أتوقع لخبرات الماضي أن تتكرر في المستقبل إذا ما تكررت ظروفها؟ كيف جاز لي أن أقرر في يقين أنه ما دام خبز اليوم له نفس المعطيات الحسية التي كانت لخبز الأمس، فسيكون له كذلك نفس القُوى الداخلية التي كانت لخبز الأمس؟ ألا يجوز أن يكون التشابه بينهما مقصورًا على الخصائص الظاهرة، أما طبائعهما الداخلية فمختلفة؟

واضح أن حكمنا على المستقبل بأنه سيجري على غرار الماضي، هو حكم لا تقضي به الضرورة العقلية؛ إذ لا تناقض عند العقل أن تتكرر الظواهر نفسها لشيء ما دون أن تتكرر معها الطبائع والقُوى؛ ومع ذلك ترانا نسير في حيواتنا على هذا المبدأ، وهو أن نتوقع المستقبل على غرار الماضي، فما علة ذلك في طبائعنا؟

فلنلحظ جيدًا أن القضية التي نطلقها على خبرة الماضي ليست هي بعينها القضية التي نطلقها على خبرة المستقبل؛ فليس قولنا «لقد وجدت فيما مضى أن الشيء الفلاني كانت له النتيجة الفلانية» مساوٍ بالضبط لقولنا «إنني أتوقع لسائر الأشياء التي تشبه في صفاتها الظاهرة الشيء المعين الذي خبرته فيما مضى، أن يكون لها نفس النتائج التي كانت لذلك الشيء»، هاتان قضيتان مختلفتان كما ترى؛ إحداهما تقصُّ عن خبرة مضتْ، والأخرى تتوقع خبرات مقبلة، ومع ذلك فالناس لا يترددون في استنتاج القضية الثانية من القضية الأولى مع أن القضية الثانية ليست متضمَّنة في القضية الأولى، فكيف جاز لهم هذا الاستدلال؟ ولا تقُلْ إنه حكم العقل؛ لأن العقل لا يستنبط نتيجة من مقدمة إلا إذا كانت المقدمة محتوية على النتيجة؛ وليس الأمر كذلك في الحالة التي نحن بصددها؛ كلا ولا هو حكم الحدس (= العيان العقلي المباشر) لأننا إزاء حكمين مختلفين، حكم عن خبرة ماضية وآخر عن خبرة لم تقع بعد، وليس في هذين الحكمين من الوحدة الذاتية ما يجعلنا ندرك بالحدس أنهما حكم واحد؛ وإذن فلو زعم لنا زاعم أن توقع الإنسان لخبراته المقبلة إنما هو نتيجة مستنبطة استنباطًا منطقيًّا من خبرته الماضية، كان عليه أن يبين لنا الحلقة التي تصل المقدمة بالنتيجة؛ إذ بغير هذه الحلقة سيظل الطرفان مستقلًّا أحدهما عن الآخر، وليس هناك قنطرة يعبر عليها الفكر من طرف منهما إلى طرف؛ «وإني لأعترف أنني عاجز عن إدراك طبيعة هذه الحلقة الوسطى، وعلى أولئك الذين يقررون وجودها ويقررون كذلك أنها المصدر الذي نصدر عنه في شتى أحكامنا على أمور الواقع، أن يظهروها لنا.»٤٦

وإذا لم تكن هنالك ضرورة عقلية تحتم أن تجيء خبرة المستقبل على غرار خبرة الماضي، فتوقعنا لخبرة المستقبل استنادًا إلى خبرة الماضي هو من قبيل الاحتمال لا من قبيل اليقين؛ ذلك أن استدلالاتنا نوعان: استدلال برهاني أو استنباطي واستدلال استقرائي أو احتمالي؛ أما الأول فيكون حين نحلل فكرة معينة لنستخرج منها أحد أجزائها المكونة لها، وأما الثاني فيكون حين نحكم بحكم معين على أمر من أمور الواقع؛ ولما كانت النتيجة في الاستدلال البرهاني متضمنة في المقدمة، وكل ما في الأمر أننا حللنا المقدمة وأبرزنا أحد عناصرها في النتيجة، كان حتمًا على هذه النتيجة ألا تناقض المقدمة التي عنها تولدت، وكان كذلك مستحيلًا علينا أن نتصور نقيض هذه النتيجة؛ وأما في الاستدلال الاستقرائي الذي يتعلق بأمور الواقع، فالنتيجة ليست مجرد إبراز لعنصر كان متضمنًا في المقدمة، بل هي إضافة جديدة، حكمنا بها على موضوعنا اعتمادًا على خبراتنا الحسية، ولذلك فلا استحالة في أن يكون الحكم نقيض ما هو الآن، لأنه لا استحالة في أن يتصور العقل أن تكون خصائص الأشياء على غير ما هي عليه، فلو قلت مثلًا إن المثلث سطح مستوٍ محوط بثلاثة خطوط مستقيمة، ثم انتزعت من هذه المقدمة نتيجة هي أن في المثلث زوايا ثلاثًا، كانت النتيجة لازمة عن المقدمة لزومًا يستحيل معه أن نتصور نقيضها؛ إذ لا يمكن أن يكون السطح المستوي محوطًا بثلاثة خطوط مستقيمة، ثم لا تكون فيه زوايا ثلاث؛ فالنتيجة هنا هي نفسها المقدمة (أو بعض عناصر المقدمة) موضوعة في عبارة أخرى، فلو تصورنا نقيض النتيجة كنا كمن يتصور الشيء ونقيضه معًا؛ أما إذا قلنا إن الخبز يغذي الإنسان ولا يغذي النمر، فهذا حكم استقيناه من التجربة، ولم يكن عند العقل ما يمنع أن يكون الأمر على خلاف ذلك؛ إذ لا استحالة في أن يكون الخبز غذاء النمر دون الإنسان؛ كلا الأمرين محتمل عقلًا، وإنما قضينا بواحد دون الآخر استنادًا إلى الخبرة وحدها.

واستدلالنا لما ستكون عليه الأشياء في الخبرة المقبلة مما كانت عليه في الخبرة الماضية ليس من قبيل الاستدلال البرهاني الاستنباطي الذي يجعل النتيجة جزءًا محتومًا من مقدمتها، بحيث يستحيل تصور نقيضها، بل هو من قبيل الاستدلال الاستقرائي الاحتمالي، الذي يجعل النتيجة حقيقة مختلفة عن المقدمة، وإنما حكمنا بها على سبيل الاحتمال، مقرين في الوقت نفسه بإمكان أن يجيء المستقبل على غير ما جاء به الماضي، وأن تغير الطبيعة من مجراها، بحيث يصبح نفس الشيء الذي ألفناه فيما مضى ذا فعل خاص، وقد تغير أمره ولم يعد له ذلك الفعل الذي ألفناه؛ أليس في مستطاعي أن أتصور تصورًا محددًا واضحًا أن جسمًا ساقطًا من السحاب، ويشبه الثلج في كل مظاهره، ومع ذلك أجد مذاقه ملحًا، وأجده عند اللمس لاسعًا كالنار؟ هل هناك استحالة عقلية في أن أتصور الشجر وقد أورق في الشتاء وذوت أوراقه في الصيف؟ وما دام الأمر في حدود التصور الواضح، إذن فهو عند العقل ممكن الوقوع، وإذن فلا استحالة فيه ولا تناقض، ولا يمكن البرهنة على بطلانه برهانًا يقوم على العقل المجرد بغض النظر عن الخبرة ومضمونها.٤٧
كل أحكامنا التي نبنيها على أساس خبراتنا الماضية، قائمة على أساس التشابه بين الأشياء، فإذا وقعت على شيء أراه شبيهًا بما صادفته قبلئذٍ، حكمتُ عليه بنفس الأحكام التي صَدَقتْ على ذلك الشبيه، إذا دلت خبرتي الماضية على أن الفاكهة التي من حجم معين ولون معين وشكل معين طعمها فيه حلاوة ممزوجة بقليل من مرارة، ثم وجدت فاكهة شبيهة بتلك في حجمها ولونها وشكلها توقعتُ أن يكون في طعمها كذلك حلاوة ممزوجة بقليل من مرارة … لكن حكمي هذا وإن يكن قائمًا على الخبرة الماضية وحدها — لا على حكم العقل الصرف — ونقضيه ممكن الوقوع، إلا أنه «لا ينازع في سلطان الخبرة علينا، ولا يتنكر لهذا السند الذي يهدينا في حياتنا البشرية، إلا أحمق أو مجنون».٤٨ فلا يجوز لك أن تقول إنه ما دامت الخبرة الماضية لا تدلني على ما عساه أن يقع لي في الخبرة المقبلة إلا على سبيل الترجيح الذي لا يقين فيه، إذن فلأرفض هذا المصدر ولأبحث عن مصدر سواه يأتيني بالعلم اليقين؛ فقد حبتنا الطبيعة هذه الهداية في العلم بما يحيط بنا من أشياء، ولا مندوحة لنا عن الاهتداء برشدها، بحيث نتوقع من الأسباب المتشابهة نتائج متشابهة.
الخصائص الظاهرة للأشياء، تلك الخصائص التي تقع انطباعاتها على حواسنا، لا تدل بذاتها على ما يترتب عليها من نتائج، فلون البرتقالة — مثلًا — واستدارتها وطعمها ليست وحدها بكافية للدلالة على مدى ما فيها من غذاء يبني الجسم الإنساني؛ فلا بد إذن من التجربة والخبرة، مرة ومرة ومرة، حتى إذا ما وجدت هذه الخصائص يتبعها تغذية على النحو الفلاني، استطعت في مقبل خبرتي أن أتوقع نفس النتيجة الغذائية إذا ما رأيت مجموعة الخصائص الظاهرة من لون واستدارة وغيرهما؛ ونعيد هنا ما أسلفناه لك من قول، وهو أن حكمك في حالة الخبرة المستقبلة ليس استدلالًا يقينًا لازمًا عن حالة خبرتك السابقة، ومع ذلك فهو وسيلة لا بد منها لنسلك سبيلنا في حياتنا العملية؛ إن تكرارك للخبرة المعينة آلاف المرات، ووصولك في كل هذه المرات إلى النتيجة عينها، لا يجعل استدلالك للخبرة الجديدة التي من نفس النوع استدلالًا يقينيًّا؛ لأن هنالك دائمًا الإمكان العقلي بأن تغير الطبيعة مجراها فلا تأتي الأشياء على غرار ما أتت، بل إنه قد يحدث فعلًا في بعض الحالات أن تتوقع شيئًا مستعينًا بخبرتك الماضية، فإذا هذا الذي تتوقعه لا يجيء على نحو ما توقعت له أن يجيء، وما دام هذا الانحراف ممكنًا أحيانًا، فلماذا لا يمكن دائمًا؟ بأي منطق، وبأي العمليات العقلية تستطيع أن تتقي هذا الخطأ الممكن؟ كيف السبيل إلى إزالة هذا الشك عما ستجيء عليه حوادث المستقبل إزالة تامة؟ ولا تقلْ إنها خبرة الماضي تهديني سواء السبيل، لأن خبرة الماضي منصرفة إلى الماضي الذي وقع وليست بذاتها دليلًا على الجديد الذي لم يقع بعد وينتظر له أن يقع غدًا أو بعد غد؛ «إنني مثلك على أتم اقتناع بأن خبرة المستقبل يمكن قياسها على خبرة الماضي، لكني مقتنع بذلك باعتباري إنسانًا مثلك يسلك ليعيش، أما باعتباري فيلسوفًا له نصيب من التطلع — ولا أقول من التشكك — فإني أبحث عن أساس هذا الاستدلال ما هو، فليس فيما قرأته، وما قمت به من أبحاث بقادر على أن يزيل عني هذا الإشكال، أو يبعث في نفسي بعض الرضى في أمر له كل هذا الخطر.»٤٩

(٣-٣) نوعان من الاحتمال

انتهى هيوم — بما أسلفناه لك من جوانب مذهبه — إلى نتيجة خطيرة، وهي أن كافة القضايا التي تدور حول العالم الطبيعي احتمالية لا يقينية، ولا يقين إلا إذا كانت القضية قائمة على تحليل العلاقة بين فكرة وفكرة أخرى، أعني أنه لا يقين إذا ما جاوز الإنسان دائرة أفكاره إلى حيث الخبرات الحسية؛ ولماذا يكون اليقين في دائرة الفكر ولا يكون في مجال الحس؟ لأننا في الحالة الأولى نحلل ما هنالك ولا نضيف علمًا جديدًا؛ إذ نحلل فكرة معينة كفكرة المثلث — مثلًا — لنبرز بعض عناصرها ثم نبين الرابطة بين هذه العناصر الفرعية والفكرة الرئيسية التي حللناها، فكأنما نحن نكرر ما قد أثبتناه في الفكرة الرئيسية، نكرره بذكرنا لبعض العناصر التي هي بين مقدماتها؛ وهذا هو التفكير الرياضي وما يدور مداره، فمثل هذا التفكير الرياضي لا يزيد على أن يحلل فروضًا أولية ليستخرج من جوفها ما هي مشتملة عليه من عناصر، فيكون هذا المستخرج المستنبط هو «النظريات» الرياضية التي يستحيل أن تكون موضع شك ما دمنا قد سلمنا بتلك الفروض الأولية التي هي أصل لها، ومِن ثَم كان صواب النظريات الرياضية لا شأن له البتة بما هو واقع في عالم الطبيعة الخارجي.

أما في العلوم الطبيعية، حيث تكون القضايا تقريرات عن خبراتنا الحسية المكسوبة من مسنا لظواهر العالم الطبيعي بهذه الحاسة من حواسنا أو تلك، فالأمر على خلاف ذلك؛ لأننا عندئذٍ لا يسعنا إلا أن نقرر عما قد خبرناه فعلًا؛ فإذا ما أردنا أن نتخذ من هذه الخبرات السابقة ذريعة للحكم على خبرات شبيهة بها ينتظر لها أن تحدث في مقبل الأيام، جاوزنا بذلك حدود المنطق؛ لأننا عندئذٍ سنكون بمثابة من يقضي بأن المستقبل ستأتي حوادثه على غرار الماضي، وهذا في ذاته زعم ليس لدينا ما يبرره من داخل الخبرة نفسها … وإذن، فلو حكمت على خبرة المستقبل بما حكمت به على خبرة الماضي، كان ذلك على سبيل الاحتمال لا اليقين.

ولقد سبق فلاسفةٌ آخرون هيوم في التنبه إلى هذه التفرقة بين ضربين من معارف الإنسان: أولهما يقيني لأنه نابع من المقارنة بين أفكارنا العقلية وحدها، والثاني احتمالي لأنه مستند إلى الحواس وانطباعاتها؛ وكان هؤلاء الفلاسفة يضنون باسم «المعرفة» على هذا الضرب الثاني، ويقصرون استعماله على الضرب الأول وحده؛ إذ إن المعرفة عندهم لا تكون كذلك إلا إذا كانت يقينًا لا يحتمل التغير أو الشك.

ويعترف هيوم بهذه الوجهة من النظر،٥٠ لكنه يستطرد ليقول إن المعارف الاحتمالية نفسها ليست على درجة سواء، فمنها ما هو احتمالي من الوجهة المنطقية، لكنه في حقيقته يجاوز حدود الاحتمال، فيكون درجة أعلى من درجات الإثبات، فنحن إذ نحكم — مثلًا — بأن الشمس ستشرق غدًا كما أشرقت ملايين المرات من قبل، فإننا لا نحكم — من وجهة النظر المنطقية الخالصة — إلا بما هو احتمالي، لأننا عندئذٍ نبني الحكم على أساس أن الكون سيجري غدًا على غرار ما قد جرى عليه أمس القريب وأمس البعيد، لكن ليس بين أيدينا البرهان اليقيني على صدق هذه الدعوى؛ ومع ذلك «فإن من يزعم أن شروق الشمس غدًا ليس إلا احتمالًا … إنما يضع نفسه موضع السخرية، على الرغم من أنه ليس لدينا ما يؤكد لنا صدق هذه الحقيقة سوى خبرات الماضي.»٥١
ولذلك لم يُرد هيوم عند تقسيم المعارف الإنسانية قسمين أن يقف عند هذا الحد بغير تفصيل، بل يرى ضرورة التفرقة بين المعارف الاحتمالية نفسها، بحيث نميز فيها نوعين: ما هو قائم على أساس «البرهان» من جهة، وما هو قائم على أساس «التخمين» من جهة أخرى … وبهذا تصبح درجات الإثبات ثلاثًا: أعلاها اليقين المنطقي، ويتلوها درجة الاحتمال البرهاني، وأدناها درجة الاحتمال التخميني؛ والانتقال من الاحتمال التخميني إلى الاحتمال البرهاني إنما يتم على خطوتين متدرجتين: احتمال المصادفات، ثم احتمال الأسباب.٥٢

والمقصود باحتمال المصادفات احتمال يتعلق بالحوادث ووقوعها، حين تقع الحادثة بغير سبب معلوم، وحين يكون هنالك أكثر من سبيل واحدة لمجرى الحوادث، كلها سواء في إمكان الوقوع؛ إذ لا يكون لدينا أساس معلوم نستطيع أن نعتمد عليه في ترجيحنا لسبيل منها دون سائر السبل؛ ومن قبيل احتمال المصادفات أن تقذف بقطعة النقد فيظهر أحد وجهيها دون الآخر، أو أن تستخرج ورقة من بين أوراق اللعب فتخرج حمراء أو سوداء؛ ففي هذين المثالين ترى أن الحادثة التي وقعت لا ترجح الحادثة التي لم تقع، بل كانت الحادثتان أول الأمر على درجة سواء من احتمال الوقوع، ولم يكن لنا أساس معلوم يصح لنا أن نبني عليه رجحان حادثة منهما على أخرى.

على أن هذه الاحتمالات المتساوية من حيث توقع حدوثها، تأخذ في التفاوت (من الوجهة النفسية لا من الوجهة المنطقية) حين يزيد عدد الفُرَص في ناحية عنه في ناحية أخرى؛ فلو كان لدينا — مثلًا — زهرة من زهرات النرد، ذات ستة جوانب، نقش على أربع منها عدد معين، ونقش على الجانبين الآخرين عدد معين آخر، كان ظهور العدد الأول عند رمي الزهرة أرجح احتمالًا من ظهور العدد الثاني، على الرغم من أن كل جانب على حدة يساوي في درجة احتمال ظهوره أي جانب آخر.

نقول إن الأرجحية هنا ليست منطقية، لأن الأمر كله على أي حال مرجعه «التخمين» ولا برهان هناك؛ أعني أننا حين نحكم برجحان ظهور العدد المكرر على جوانب أربعة، لا نصدر في ذلك عن فكرة وعلاقتها بفكرة أخرى، بل نصدر عن الخبرة الحسية مباشرة، لنحكم بما سيقع بناء على ما قد وقع في حالات ماضية شبيهًا بالحالة التي نحن بصددها.

ولكن السؤال لا يزال قائمًا: لماذا نرجح للعدد المكرر على أربعة جوانب، دون العدد المكرر مرتين، أن يظهر عند رمي الزهرة؟ مرجع الحكم هنا نفسي، لا منطقي، فالمنطق يقضي بتساوي الاحتمالات في الجوانب الستة جميعًا، لكن الخيال لا يتصور طبعًا أن هذه الجوانب الستة ستظهر كلها معًا دفعة واحدة، بل لا بد من اختيار واحد دون سائرها، فماذا يكون هذا الواحد؟ سيمر الخيال بالجوانب الستة مرًّا سريعًا، ليقع الترجيح على جانب منها، وها هنا ستكون الصورة الذهنية للعدد المكرر أربع مرات أوضح وأنصع من الصورة الذهنية للعدد المكرر مرتين فقط، وما مصدر الوضوح والنصوع إلا زيادة التكرار؛ وبهذا يقف الإنسان إزاء فكرتين، إحداهما أقوى نصوعًا في الذهن من زميلتها، فتكون — على هذا الأساس — أقرب إلى الصدق، بناء على المبدأ الأولى العام في فلسفة هيوم، وهو أن صدق الفكرة هو في درجة وضوحها عند ارتسام صورتها في الذهن.٥٣
إن من مبادئ التي يأخذ بها هيوم مبدأ عن الأفكار المتضادة، يذهب به إلى أن الفكرتين المتضادين لا يقومان في الذهن معًا بسبب أن الواحدة منهما «تمحو» الأخرى؛ ولكن أي الضدين يمحو الآخر؟ المرجع هنا لدرجة الوضوح في الذهن؛ فأوضح الضدين يزيل أقلهما وضوحًا؛٥٤ وتطبيقًا لهذا المبدأ في حالة زهرة النرد التي نحدثك عنها، والتي نقش عدد معين على أربعة من جوانبها ونقش عدد معين آخر على الجانبين الآخرين، إذا ما أردنا أن نحكم أي الجوانب أرجح ظهورًا، كان لدينا فكرتان متضادتان: هما فكرة العدد المكرر على أربعة جوانب من جهة، وفكرة العدد المكرر على جانبين من جهة أخرى؛ ولا بد لأحد هذين الضدين أن يزيل الآخر ويمحوه، وأوضحهما هو الذي تكون له الغلبة، وإذن تبقى في أذهاننا فكرة العدد المكرر أربع مرات على جوانب الزهرة، فنحكم له برجحان الظهور.

تلك هي خلاصة ما يقوله هيوم عن «احتمال المصادفات» وأما «احتمال الأسباب» فهو ذلك الذي يحكم به الإنسان بناء على اطرادات سابقة وقعت الحوادث على نسقها؛ فكلما اطرد وقوع الحوادث التي من نوع معين على نسق معين، تكونت لدى الإنسان «عادة» تميل به إلى توقع نفس هذا الاطراد من جديد؛ ولما كانت «العادة» — أيًّا كانت — تزداد مع التكرار رسوخًا وثباتًا، فإن الإنسان كلما ازداد مشاهدة للوقوع المطرد لحادثة معينة على نسق معين، ازداد مع التكرار يقينًا بأن الحادثة ستقع على نفس الاطراد في المستقبل كما حدث لها في الماضي؛ وبذلك ينتقل الإنسان بحكمه من مرحلة «التخمين» الدنيا، إلى مرحلة أعلى من مراحل الاحتمال، وهي ما أطلق عليه اسم الاحتمال «البرهاني»؛ ويتم هذا الانتقال متدرجًا في بطء بحيث لا يلحظ الإنسان خطواته إلا حين يمعن به السير من طرف إلى طرف.

والعلاقة السببية بين الحوادث هي من أهم ما يذكره هيوم في سياق حديثه عن الاحتمالات البرهانية؛ فعلى الرغم من أن الإنسان يبدأ — إذ يبدأ خبرات حياته — باحتمال المصادفات إلا أنه ينتقل منها إلى احتمال البرهان، بمعنى أنه يشاهد بادئ ذي بدء شيئًا يتبع شيئًا آخر في الحدوث، فتكون له هذه المشاهدة في حكم المصادفة التي تجيز أن يكون الشيء اللاحق غير الذي وقع بالفعل لاحقًا؛ لكن هذا التلاحق بين الشيئين يطرد على مر الأيام، فتدخل العلاقة بينهما في مجال آخر من مجالات المعرفة، هو مجال الاحتمال البرهاني، الذي إن لم يكن يقينًا من الوجهة المنطقية، فله ثبات اليقين من الوجهة التجريبية العملية.

ثم تتكون عند الإنسان «عادة» التلاحق السببي، بحيث يكفيه بعد ذلك أن يتلاحق الشيئان مرة واحدة، ليربط بينهما رباطًا سببيًّا، بحيث يتوقع النتيجة إذا وقع السبب، لا لأن الشيئين اللذين هما سبب ونتيجة قد تكرر وقوعهما مرات عدة، بل لأن «عادة» الحكم السببي قد تكونت في المراحل الأولى من حياة الإنسان؛ أو بعبارة أخرى، لقد «تعود» الإنسان اطراد الطبيعة في تتابع حوادثها، وعلى أساس هذا الاطراد يجيز لنفسه بعد ذلك أن يتوقع للمستقبل أن يجيء على صورة الماضي، فإذا ما حدثت حادثة ما، كانت قد حدثت في الماضي متبوعة بحادثة معينة، فعلى أساس اطراد الطبيعة الذي «تعوده» الإنسان من تجاربه، يستطيع أن يحكم على المستقبل بأنه إذا حدثت الحادثة الأولى، فستحدث في إثرها الحادثة الثانية.

(٤) بين الضرورة والعَرَض

(٤-١) فكرة «الضرورة» لا أصل لها

يستهل ديفد هيوم حديثه عن فكرة الإنسان عن العلاقة الضرورية٥٥ التي يحسبها قائمة بين شيء وشيء، كالعلة ومعلولها مثلًا، بقوله إن الميزة الكبرى التي تمتاز بها العلوم الرياضية على العلوم الأخلاقية، هي أن الأفكار في العلوم الرياضية واضحة ومحددة؛ فإذا ما كان ثمة أدنى اختلاف بين فكرة وأخرى أمكن للإنسان إدراكه فورًا؛ والمصطلح الذي يطلقه الرياضيون على فكرة من أفكارهم يظل ثابتًا على معناه الواحد الواضح المحدد، فلا اختلاف ولا غموض؛ فيستحيل على أحد أن يخلط بين الشكل البيضاوي والدائرة مثلًا، أو بين المثلث المتساوي الأضلاع والمثلث المختلف الأضلاع، لأن كل شكل من هذه الأشكال الهندسية له خصائصه الواضحة المميزة، ولا كذلك الأمر في الفضيلة والرذيلة أو في الصواب والخطأ، فها هنا ترى المعالم الفاصلة قد انبهمت، وجاز أن يزل الإنسان بحيث يظن فضيلة ما ليس منها، وصوابًا ما هو خطأ.
في الهندسة لا يشق على الباحث أن يضع مكان الكلمة تعريفها في أي موضع من أي سياق؛ فأينما وجد كلمة «مثلث» — مثلًا — استطاع أن يضع مكانها «سطح مستوٍ محوط بثلاثة خطوط مستقيمة»؛ كما لا يشق عليه أن يقرن الكلمة إلى الشكل الذي جاءت الكلمة لتسميه؛ فلا موضع لتردد أو خلاف؛ أما ما يدور في النفس من عواطف، وأما ما يختلج به العقل من عمليات، فعلى الرغم من أن كل واحدة منها لها ما يميزها من سواها فإن الفوارق بينها لا تعصمنا من خلط إحداها بالأخرى؛ وليس في مستطاعنا دائمًا أن نستعيد لأنفسنا الأصل الانطباعي الذي عنه نشأت هذه العاطفة أو تلك، وقامت هذه العملية العقلية أو تلك؛ وهكذا يتسرب غموض المعنى إلى أمثال هذه الأفكار، حتى لتختلط علينا الأشباه فنظن الواحدة منها هي عين الأخرى حين لا تكونان إلا شبيهتين مع اختلاف من بعض الوجوه؛ وينتهي بنا الأمر إلى نتائج هي أبعد ما تكون النتيجة عن مقدماتها التي تبررها.٥٦
على أننا إذا ما وازنا بين العلوم الرياضية من جهة والعلوم الأخلاقية من جهة أخرى؛ استطعنا أن نقرر في ثقة بأن بكل منهما من المزايا والنقائص ما يعوض بعضه بعضًا فيتعادلا؛ فلئن كان في إمكان العقل أن يحتفظ بالأفكار الرياضية — كما في الهندسة مثلًا — واضحة محددة، دون أن يجد في سبيل ذلك عسرًا، فلا بد له من جهة أخرى أن يجتاز في انتقاله من فكرة إلى فكرة طريقًا طويلة كثيرة الخطوات دقيقة الثنايا والانحناءات، لكي يضمن لنفسه الصواب؛ ولئن كانت الأفكار الأخلاقية قمينة أن تنحدر بنا إلى الخلط والغموض، فهي مقابل ذلك لا تكلفنا عناءً كبيرًا في انتقالنا من فكرة من أفكارها إلى فكرة أخرى؛ إذ المراحل التي يجتازها العقل من المقدمة إلى النتيجة أقل جدًّا من المراحل التي يجتازها إذا ما كان بصدد علم رياضي.٥٧
ومهما يكن من أمر، فإن العقبة الكأداء في سبيل ارتقائنا في العلوم الأخلاقية أو الميتافيزيقية، هي غموض أفكارها وتعدد معاني ألفاظها؛ فإذا كانت الفلسفة الأخلاقية قد تلكأت في تقدمها عن العلوم الرياضية والطبيعية، فذلك معناه أننا يجب أن ننفق مجهودًا أكبر وعناية أكثر لإزالة ما يعوق تقدمها من عقبات.٥٨

ولئن كانت الميتافيزيقا بصفة عامة متصفة بالغموض، فليس فيها ما هو أشد غموضًا وما هو أبعد عن اليقين من كلمات مثل «قوة» أو «طاقة» أو «رابطة ضرورية»، وهي كلمات لا غنى لنا عنها في هذا المجال؛ فلا بد لنا — إذن — أن نحاول تحديد هذه الألفاظ تحديدًا يزيل عنها الغموض.

ونبدأ بتقرير هذه الحقيقة الآتية التي أسلفنا الحديث فيها، «والتي لا أظنها موضع اختلاف كبير»٥٩ عند أصحاب الرأي، وهي أن أفكارنا كلها ليست سوى صور من انطباعاتنا؛ أو بعبارة أخرى إنه مستحيل علينا أن «نفكر» في شيء لم يكن قد سبق لنا أن «أحسسناه» بإحدى الحواس الظاهرة أو الباطنة؛ فإذا كانت لدينا فكرة مركبة، واستطعنا تعريفها بسلسلة من ألفاظ وعبارات، كان ذلك نفسه معناه أننا نحاول أن نحصي ما فيها من أفكار بسيطة، بحيث يكون لكل فكرة بسيطة منها الانطباع الحسي الذي يقابلها باعتباره مصدرًا لها»؛ إن الفكرة المركبة لتتضح وضوحًا تامًّا كاملًا محددًا إذا حللناها إلى أفكارها البسيطة التي منها رُكِّبت، ثم إذا التمسنا لكل واحدة من هذه الأفكار البسيطة مصدرها الحسي؛ ذلك لأن الانطباع الحسي محدد واضح لا تعدد لمعناه؛ وهكذا يكون رد الفكرة المركبة إلى مقوماتها البسيطة، بحيث نعود فنرد كل واحد من هذه المقومات إلى الانطباع الحسي الذي هو أصله ومصدره، بمثابة المجهر الذي نتعقب به دقائق أفكارنا الأخلاقية أو الميتافيزيقية لنميز زائفها من صحيحها.
وخذ بعد ذلك فكرة «القوة» أو «الرابطة الضرورية»٦٠ وسَلْ نفسك ما انطباعها الحسي؟ ماذا انطبعت به هذه الحاسة أو تلك، بحيث بقي الانطباع في أنفسنا فكرة، هي التي نقول عنها إنها فكرة «القوة» أو «الرابطة الضرورية»؟

إننا إذا ما تلفتنا حولنا متجهين بأنظارنا إلى الأشياء الخارجية، باحثين فيما نسميه من تلك الأشياء «أسبابًا» لنرى ما فعلها، فلن نجد في أية حالة من الحالات كلها ما يكشف لنا عن «قوة» أو «رابطة ضرورية» بين السبب ومسببه، إننا لن نجد أبدًا صفة تنطبع بها حواسنا، وتكون هي الصفة التي تربط المعلول بعلته رباطًا يجعل ذلك المعلول نتيجة محتومة لعلته، يتبعها دائمًا ولا يتخلف عنها؛ إن كل ما نراه هو أن النتيجة تتبع سببها فعلًا؛ فنرى — مثلًا — أن كرة البليارد المتحركة إذا ما صدمت كرة أخرى كانت ساكنة، فإن هذه الثانية تتحرك كذلك؛ إن الذي ينطبع على حواسنا «الظاهرة» هو كرة أولى تتحرك وكرة ثانية تعقبها في الحركة؛ وليس هنالك من الحواس «الباطنة» ما يطبع العقل بانطباع آخر له علاقة بتعاقب هاتين الحادثتين؛ وإذن فلا الحواس الظاهرة ولا الحواس الباطنة تأتينا بانطباع يوحي بفكرة «القوة» أو «العلاقة الضرورية».

إن الصورة التي يظهر فيها الشيء لنا لأول مرة، يستحيل أن تنبئنا بالحالة التالية التي سيكون عليها ذلك الشيء؛ إذ إن مظهر الشيء في حواسنا لا يكفي وحده أن يعيننا على معرفة ما سيعقبه بحيث يجوز لنا أن نقول إن هناك رابطة ضرورية تحتم أن يعقب الشيء الفلاني، على اعتبار أن ما يحدث منهما أولًا فيه من الطاقة الطبيعية ما ينتج الشيء الذي يحدث منهما ثانيًا؛ ولو كان في مستطاع العقل أن يكشف في «السبب» عن قوة أو طاقة، لاستطاع بالتالي أن يتنبأ ﺑ «النتيجة» قبل وقوعها دون أن يعتمد في ذلك على خبرة حسية؛ نعم كان يكفي العقل عندئذٍ أن يتأمل «فكرة السبب» ليستنتج منها استنتاجًا منطقيًّا صرفًا «فكرة المسبَّب».

إنه ليس في مادة الكون كلها جزء يكشف بما يبديه من خصائص محسوسة عن قوة يخفيها؛ كلا ولا هو يمدنا بالأساس الذي يبرر لخيالنا أن يتصور أنه لا بد أن ينتج كذا وكذا من النتائج بحكم طبيعة ذلك الشيء نفسها؛ فللأشياء — مثلًا — صفات الصلابة والامتداد والحركة، وكل صفة من هذه الصفات قائمة بذاتها لا تعتمد في إدراكنا لها على صفة أخرى، لكنها في الوقت نفسه لا تدلنا أبدًا على أية نتيجة مما يتحتم أن يترتب عليها؛ نعم إن مشاهد الكون دائبة التغير، يتبع شيء منها شيئًا في تعاقب لا ينقطع؛ لكن هيهات لحواسنا أن تكشف عن القوة الخفية التي تدير هذه الآلة الكبرى من وراء ستار؛ فالصفات الظاهرة للأشياء والتي ندركها بالحواس، ليست بذاتها تدل على قوة وراءها؛ إننا نعلم من واقع الحال أن الحرارة دائمًا تصاحب لهب النار، لكن ليس في وسع الخيال البشري أن يقرر ماذا تكون العلاقة الرابطة بين الحرارة واللهب؛ وهكذا يستحيل على الإنسان أن يستنتج شيئًا عن «فكرة القوة» من مجرد تأمله للظواهر كما تقع له في الحس، ذلك لأن ظواهر الأجسام لا تشفُّ أبدًا عن قوة وراءها، بحيث تكون هي الأصل الذي استقينا منه فكرتنا عن القوة.٦١

قد يقال إن الرابطة الضرورية التي تصل بين الحوادث لاحقها بسابقها، وإن تكن غير بادية للحواس فيما يقع للحواس من انطباعات جزئية، يمكن لنا إدراكها إذا ما تأملنا عقولنا وهي في فاعليتها ونشاطها؛ نعم قد يقال ذلك، استنادًا إلى أن الإنسان في كل لحظة من لحظات حياته الواعية مدرك لهذه القوة الباطنية وهي تفعل فعلها في ربط السبب بالمسبب؛ فانظر إلى نفسك وأنت تهم بتحريك ذراع أو قدم، أليست إرادتك تأمر، وأعضاء البدن تطيع؟ وإذن فها هنا قد أدركنا القوة التي تربط معلولًا بعلته، ومِن ثَمَّ استطعنا أن نعمم القول بأن بين كل سبب ومسببه مثل هذه الرابطة الخفية التي وعيناها في دخيلة أنفسنا حين وعينا الإرادة وهي تحرك جارحة في أبداننا أو تستثير فكرة في ذاكرتنا؛ فليس بنا حاجة إلى التماس «فكرة القوة» أو فكرة «الرابطة الضرورية» في انطباعاتنا الحسية، ما دمنا قد وجدناها عند التأمل في عقولنا وهي تعمل، وفي إرادتنا وهي تحدث الأحداث.

قد يقال هذا، وإذن فلا بد من وقفة نحلل فيها هذه القوى الباطنية المزعومة، كقوة الإرادة مثلًا، أعني قدرتها على تحريك أعضاء البدن؛ وأول ما نقرره في هذا الصدد هو أن تأثير الإرادة في هذا لا سبيل إلى إدراكه إلا إذا مارسناه بأنفسنا وأصبح بهذه الممارسة خبرة من خبراتنا، شأنه في ذلك شأن الحوادث الطبيعية كلها، التي لا سبيل إلى معرفتها إلا إذا باتت جزءًا من خبراتنا؛ أريد أن أقول إن الإرادة هنا باعتبارها سببًا يسبب تحريك هذا العضو أو ذاك من أعضاء الجسم، شأنها شأن أي حادثة أخرى من حوادث الطبيعة، ومما نعده سببًا لحادث يتلوه، لا بد لنا من تجربة تدلنا على هذا التتابع بين الحادثين لنقول عنهما إنهما سبب ومسبَّب، وليس في طبيعة الحادثة الأولى نفسها ما يدل على أن الحادثة الثانية ستتلوها، وكذلك قل في الفعل الإرادي، حين يكون هنالك إرادة من ناحية وجزء من الجسم يتحرك تبعًا لها من ناحية أخرى، فليس في الإرادة ذاتها ما يدل على أنه من الحتم أن تتبعها من حركة بدنية.

نعم إننا في كل لحظة من لحظات حياتنا الواعية ندرك أن حركة البدن تتبع أوامر الإرادة، لكن هل نعي شيئًا في أنفسنا غير هذا التتابع بين الأمر الإرادي وتنفيذه الجسدي؟ هل نعي رابطة بينهما بحيث نقول إنها الرابطة الضرورية التي تحتم أن يكون الطرف الأول متبوعًا بالطرف الثاني؟ كلا؛ إذ لو وعينا العلاقة بين الجانب الإرادي من جهة والجانب الجسدي من جهة أخرى، إذن لانحلَّ لنا لغز من أعقد وأغمض ما يصادفنا في الطبيعة كلها من ألغاز، ألا وهو العلاقة بين النفس والجسم، التي يقال فيها إن عنصرًا روحانيًّا فينا له القدرة على التأثير في عنصر مادي، أو بعبارة أخرى، إن الفكر الخالص من ناحية له القدرة على تحريك المادة من ناحية أخرى؛ فليس تحريك إرادتك لذراعك بأعجب من أن تجلس مفكرًا في الجبل مريدًا له أن يتزحزح من مكانه، فيتزحزح الجبل تنفيذًا لفاعلية فكرك … أقول إنه لو كان في مستطاعنا أن ندرك في أنفسنا «قوة» هي التي تصل الإرادة بفعلها لاستطعنا بالتالي أن نعرف علاقة النفس بالجسد، أو علاقة الفكر بالمادة وكيف يؤثر الأول في الثانية.٦٢

لا، ليس في مستطاع الإنسان أن يدرك في نفسه «قوة» كهذه، وكل ما يدركه إذ هو يقوم بفعل إرادي، هو عزمه الإرادي من ناحية، ثم الحركة الجسدية المترتبة على ذلك العزم من ناحية أخرى؛ وأعيد القول بأنه ليس في الإرادة ذاتها ما يدل على أنها لا بد أن تتبعها حركة الجسم تنفيذًا لعزمها؛ بدليل أننا لا نستطيع أن نحرك بالإرادة إلا بعض أجزاء الجسم دون بعضها الآخر؛ ولو سئلنا قبل الخبرة: أي أجزاء الجسم في مستطاع الإرادة تحريكه، وأيها تعجز الإرادة عن تحريكه؟ لما كان في وسعنا أن نجيب؛ إذ لا بد أن ننتظر الخبرة لتدلنا ماذا نستطيع تحريكه من أجزاء الجسم بالإرادة، وماذا لا نستطيع؛ لماذا يكون للإرادة قدرة تحريك اللسان والأصابع ولا يكون لها قدرة تحريك القلب والكبد؟ كنا نجيب عن هذا السؤال لو كان لنا علم بقوة معينة موجودة في الحالة الأولى وغائبة في الحالة الثانية، لكن ليس لدينا مثل هذا العلم؛ نعم، لو كان لنا علم بقوة باطنية معينة — كما يزعم الزاعمون — لعلمنا بالتالي، وقبل الخبرة، ماذا تستطيع تلك القوة وماذا لا تستطيعه.

إن من يصيبه الشلل بَغْتَةً في ساق له أو ذراع، ليحاول بإرادته أن يحرك العضو المصاب كما ألف أن يحركه من قبل؛ إنه يحاول ذلك وهو على أتم وعي بعزمه الإرادي، تمامًا كما كان على وعي بعزمه الإرادي حين كان يريد تحريك ساقه أو ذراعه قبل أن يصيبهما شلل؛ ولو كانت هذه القوة المزعومة (التي تربط بين الإرادة وفعلها) مما يستطيع الإنسان إدراكه، لعرف هذا المشلول قبل محاولته الإرادية في تحريك العضو المصاب أنه لن يستطيع ذلك لأن القوة قد غابت عنه؛ لكنه لا يدرك هذا العجز إلا بعد أن يحاول دون جدوى؛ ومعنى ذلك أن الخبرة وحدها هي التي تدلنا إن كان العزم الإرادي سيصحبه الفعل المعين أو لا يصحبه، وليس في العزم الإرادي نفسه ما يدل على ذلك قبل الخبرة؛ الخبرة وحدها هي الدالة على أن حدثًا معينًا يتبع حدثًا، دون أن تدلنا على موضع الرابطة الخفية التي تربط بين الحدثين بحيث تجعل الحدث الثاني أمرًا محتومًا في تبعيته للحدث الأول.٦٣
وما قلناه عن الإرادة في تحريكها لجزء من أجزاء البدن، من حيث إننا ندرك الطرفين ولا ندرك ما بينهما من رابطة، نقوله أيضًا عن الإرادة واستحداثها لفكرة معينة، ذلك أنك قد تستطيع بعزيمة إرادية أن تحضر إلى الذهن فكرة لم تكن حاضرة فيه؛ وها هنا كذلك يمكنك أن تدرك عزمك الإرادي من ناحية، والفكرة التي استحضرتها إلى ذهنك من ناحية أخرى، ولكنه محال عليك أن تدرك الرابطة التي بينهما؛٦٤ وإذن فكل ما يجوز لك أن تتحدث عنه هو طرف السبب وطرف المسبَّب أما أن العلاقة بينهما هي كذا أو كيت فمما يجاوز حدود مستطاعك.

وكما أن الإرادة في استحداثها لحركات الجسد محدود بحدود، بحيث يمكنها تحريك بعض الأعضاء دون بعضها الآخر لعلة لا ندريها سوى أن الخبرة هكذا تدلنا على الإرادة وحدود فعلها؛ فكذلك الإرادة في استحضارها للأفكار في الذهن محدودة أيضًا بحدود، فيمكنها أن تستحضر هذه الفكرة ولا يمكنها أن تستحضر تلك، لعلة لا ندريها، سوى أن هذه هي خبرتنا وما تدل عليه، إننا لنلاحظ عن أنفسنا أننا أقدر على استحضار الأفكار في أذهاننا في بعض الحالات دون بعضها، فنحن أقدر في حالة الصحة منا في حالة المرض، وأقدر في حالة هضم الطعام منا في حالة التخمة، فهل يستطيع أحد أن يدلنا على علة هذا كله غير معتمد على خبرته؟ هل يستطيع أحد أن يسبق الخبرة بحيث يقرر بادئ ذي بدء أنه أقدر على استحضار أفكاره في حالة الجوع منه في حالة الشبع؟ أم لا بد له أن ينتظر خبرته لنفسه وهو جائع ثم خبرته لنفسه وهو مليء، ليقول بعدئذٍ عما قد عرفه في نفسه بالخبرة … وإذن فالخبرة وحدها هي المصدر الذي نستقي منه العلم بأن كذا من الظواهر يتبع كيت، دون أن نعلم شيئًا قط عن علاقة ضرورية تربط بينهما ربطًا محتومًا يجعل الطرف الأول وحده كافيًا للدلالة على أن الطرف الثاني سيتبعه، سواء وقع لنا ذلك في الخبرة السابقة أو لم يقع.

إنه لا مراء في أن الإرادة فعل عقلي نحن له مدركون، فتدبَّرْ لنفسك هذه الإرادة ماذا تكون؟ أدرها في فكرك لتنظر إليها من شتى نواحيها، فهل تجد فيها ما يجعلها قوة خالقة تخلق الفكرة الجديدة من عدم؟ هل تجد لها قدرة هي كقدرة خالقها الذي أوجد ظواهر الطبيعة من لا شيء؟ الحق أن الإنسان مهما تأمل إرادته فلن يجد فيها شيئًا كهذا، وهو بحاجة دائمًا إلى خبرة يمارسها ليعلم ماذا في وسع الإرادة أن تستحدثه وماذا يجاوز وسعها.٦٥

ليس من العسير على الإنسان بصفة عامة أن يعلل الظواهر المألوفة له في الطبيعة، كسقوط الأجسام الثقيلة ونمو النبات وتوالد الحيوان وتغذية الأجسام بألوان الطعام؛ والناس في كل هذه الظواهر يألفون أن يتبع حدث حدثًا، حتى ليظنون أن ما يعدونه في الظاهرة المعينة سببًا إنما يستتبع حتمًا ما يعدونه فيها مسببًا؛ فإذا ما ظهر لهم السبب قطعوا بالحكم قطعًا جازمًا حاسمًا بأن المسبب سيكون في إثره، ولا يكاد يطوف بعقولهم أدنى الشك بأن ذلك السبب سيستتبع مسببًا غير الذي ألفوه فيما مضى … ولكن قد يحدث أحيانًا أن يقع ما لم يتوقعوه من الظواهر الشاذة غير المألوفة، كأن تزلزل الأرض تحت أقدامهم وقد ألفوها ثابتة، أو أن ينتشر فيهم وباء بغير علة معلومة أو أن تلد الأمهات أمساخًا، وعندئذٍ تأخذهم الحيرة في تعليل ما وقع؛ إن الحيرة لم تأخذهم في مألوف الظواهر لأنهم «اعتادوا» أن يروا حوادث الطبيعة تجري هذا المجرى، أما أن تجري على غير مألوفهم، فذلك هو مدعاتهم إلى الحيرة في التعليل، فلماذا يا ترى حدثت هذه الأحداث الشاذة، وماذا عسى أن تكون الأسباب التي سبقتها فأحدثتها؟ إنهم ها هنا سرعان ما يلتمسون التعليل في سبب خفي يدبر الأمور بعقله تدبيرًا على غير مألوف الطبيعة كما عهدوها؛ فكأنما الكثرة العظمى من الناس تقسم الظواهر قسمين: قسم لا يتعذر فيه إدراك الأسباب لأنه مألوف، وقسم يتعذر فيه ذلك لأنه شاذ يستوقف الفكر ويستدعي التأمل والنظر — أما الفيلسوف فشأنه آخر، لأنه بإمعان النظر في ظواهر القسم الأول، لا يراها مختلفة عن ظواهر القسم الثاني؛ لأنه لولا العادة التي أغمضت أعيننا لرأينا في كل ظاهرة — مهما تكن مألوفة لدينا — ما يستدعي التفكير: لماذا تتبع النتيجة سببها؟ ولا جواب عن هذا السؤال من طبيعة السبب نفسها، وإنما الجواب يلتمس في الخبرة السابقة، فهكذا جاءتنا خبراتنا السابقة بتتابع الحوادث والظواهر حتى أصبح تتابعها على هذا النحو دون سواه عادةً مألوفة لنا؛ فلئن كانت الظاهرة الشاذة خلوًّا من علاقة ضرورية تربط بين مقدماتها ونتائجها، فهكذا الحال في كل ظاهرة من الظواهر المألوفة نفسها؛ لأن الخبرة السابقة لهذه الظواهر المألوفة إنما دلت على «تجاور» بين ما أسميناه سببًا وما أسميناه مسبَّبًا، لكنها لم تدل على «رباط» ضروري ينبع من طبيعة السبب نفسه ويستلزم أن يتبعه المسبب على النحو الذي نرى.

وما أكثر الفلاسفة الذين أدهشتهم العلاقة بين السبب ونتيجته، بحيث راحوا يلتمسون التعليل في كائن غيبي مدبر عاقل يفسرون به كل ارتباط بين الأسباب ونتائجها؛ فبينما يقصر عامة الناس هذا الالتجاء إلى المبدأ الغيبي على الظواهر الشاذة وحدها، ترى هؤلاء الفلاسفة يرجعون إلى نفس المبدأ في الظواهر المألوفة والظواهر الشاذة على السواء؛ وهو لا يقتصرون في ذلك على أن يجعلوا الكائن الغيبي العاقل سببًا أولًا فحسب، أتت بعده سلسلة الحوادث أسبابًا ومسببات؛ بل يجعلونه سببًا مباشرًا لكل حادثة جزئية تقع؛ فلئن كانت الظاهرة المعينة من الظواهر المألوفة لنا، تقع دائمًا مسبوقة أو محاطة بظروف معينة تواضعنا على أن نطلق عليها «أسباب» تلك الظاهرة، فهؤلاء الفلاسفة لا يرون في هذه الظروف التي تسبق أو تحيط بالظاهرة إلا فرصة سانحة فقط لحدوث تلك الظاهرة، أما «سبب» الحدوث دائمًا فهو «الكائن الأسمى» الذي شاءت إرادته أن تكون هذه الظاهرة المعينة مصاحبة دائمًا لمثل تلك الظروف التي تصاحب وقوعها؛ فإذا كانت الكرة المتحركة من كرات البليارد قد صدمت أخرى ساكنة فحرَّكتْها، فتعليل هذه الظاهرة عند هؤلاء الفلاسفة هو أن الله قد شاءت إرادته أن تتحرك الكرة الثانية، وأنه قد عين لها هذه الحركة بأن جعل الكرة الأولى تصدمها على نحو ما فعلت، وذلك بناء على قوانين عامة سنها لنفسه لكي يحكم العالم بمقتضاها؛ ثم يمضي هؤلاء الفلاسفة أنفسهم في منطقهم هذا، فيقولون إننا إذا كنا نجهل القوة الحقيقية التي تسبب ما بين الأجسام من تفاعل، فنحن أشد جهلًا بالقوة التي تسبب التفاعل بين العقل والجسم، أو بين الجسم والعقل؛ فليس في إدراكاتنا الحسية ولا في إدراكاتنا لمجرى شعورنا الباطني ما يدلنا على تلك القوة السببية في أي من الحالتين؛ وإذن فالنتيجة التي ينتهون إليها في حالة العقل والجسم، هي نفسها النتيجة التي انتهوا إليها في حالة تفاعل جسمين، وهي أن الله هو السبب المباشر الذي ينتج الصلة بين العقل والجسم؛ فإذا رأيت بعينيك شيئًا، فلا تقل إن حاسة البصر منك هي التي أحدثت ما قد حدث فيك من إحساس بصري، بل قل إنها إرادة الله القادر على كل شيء والخالق لكل شيء فهو الذي أثار فيك ذلك الإحساس، وهيأ له حركة معينة في حاستك البصرية؛ وكذلك إذا عزمت بإرادتك أن ترفع ذراعك ثم رفعتها؛ فلا تقلْ — من وجهة نظر هؤلاء الفلاسفة — إن الإرادة سبب أحدث رفع الذراع، بل قل إنه الله الذي شاءت إرادته أن ترتفع ذراعك في تلك اللحظة، ولذلك فهو الذي أعان إرادتك — وإرادتك في ذاتها عاجزة — على أن ترفع الذراع، ولو أرجعت حركة ذراعك إلى قوة إرادتك أخطأت السبب الحقيقي، فنسبت إلى نفسك ما كان ينبغي أن تنسبه إلى الله؛ ولا يقف هؤلاء الفلاسفة عند حد الإحساس والإرادة، بل يجعلون الله كذلك سببًا في أي فكرة تمثل في العقل، فما أفكارنا إلا وحي يوحى به من عند الله؛ فلو رأيت نفسك تتجه بفكرك نحو شيء معين، فأنت مخطئ — عند هؤلاء الفلاسفة — إذا زعمت أنك قد فعلت ذلك بإرادتك، لأنك لا تستطيع أن تخلق لنفسك فكرة مهما تكن، إنما يخلقها لك الله خالق الكون كله، بأن يكشف لك عنها، ويهيئ لها وسائل المثول أمام عقلك.٦٦
هكذا ترى أولئك الفلاسفة يُدخلون الله في كل شيء، لا يرضيهم أن يكتفوا بالمبدأ القائل إنه لا وجود لشيء إلا بإرادة الله وإنه لا قوة لشيء إلا بمشيئته، بل يريدون فوق ذلك أن يسلبوا الطبيعة وكل ما فيها من كائنات مخلوقة ما لها من قوة، ليجعلوا كل شيء معتمدًا على الله اعتمادًا مباشرًا وكاملًا ومحسوسًا وهم لا يدرون أنهم برأيهم هذا إنما يحدون — بدل أن يزيدوا — من الصفات التي أخذوا أنفسهم بتعظميها، كأنما هم يستهدفون هدفًا لا يعرفون الوسيلة الصحيحة إليه؛ إذ لا شك أننا نقيم الحجة أقوى على قدرة الله إذا تصورناه وقد أذن لمخلوقاته بدرجات متفاوتة من القوة، منا لو جعلناه مسيطرًا بقوته المباشرة على كل شيء كبر أو صغر؛ إننا نقيم الحجة أقوى على حكمة الله إذا تصورناه وقد صمم الإطار العام لهذا الكون، وعرف بسابق فكره أنه لو ترك العالم وشأنه بعد هذا التخطيط العام، فسيجري على نحو يرضي حكمته، منا لو تصورناه في كل لحظة يعيد إحكام الأشياء بعضها مع بعض ليتسق سياقها ويستقيم مجراها؛ إننا نقيم الحجة أقوى على حكمته لو تصورناه وقد أعد الآلة الكونية ثم تركها تسير على نحو ما قدر لها، منا لو تصورناه ينفخ كل لحظة في عجلاتها لتدور.٦٧

(٤-٢) الجبر والاختيار

لبث المتنازعون على اختلاف في الرأي بالنسبة إلى بعض المشكلات منذ أن نشأ عند الإنسان علم وفلسفة؛ ولو قد اتفق هؤلاء على معاني ألفاظهم لكان الأرجح أن ينحسم ما بينهم من اختلاف؛ لأنه اختلاف في استخدام الألفاظ أكثر منه اختلافًا في موضوع المشكلة التي هي موضع النزاع بينهم؛ وقد كان يكفي هؤلاء المتنازعين أن يروا مشكلتهم التي يتنازعون عليها قائمة كما هي على مر الزمن، لا تحلها المناقشات، ليعلموا أنه لا بد أن يكون في العبارات المستخدمة بشأنها غموض، وأن المتناقشين لا بد أن يكونوا قد استخدموا اللفظة الواحدة بمعانٍ مختلفة، لأنه ما دام الناس يتشابهون في ملكاتهم العقلية — وبغير هذا التشابه لم يكن ليجدي أحدًا أن يناقش أحدًا في شيء — فقد كان الأرجح للمتناقشين المتنازعين حول المشكلات القائمة الدائمة أن ينتهوا فيها إلى حل يرضيهم جميعًا، لو كانوا على اتفاق تام فيما بينهم على معنًى واحد محدد لكل لفظة يستخدمونها.٦٨

ومن المشكلات التي طال قيامها بين الناس واتصل نقاشهم فيها بسبب غموض المعاني المقصودة بالألفاظ المستخدمة في بحثها، مشكلة الحرية والجبر؛ فتلك مشكلة لو كانت ألفاظها قد تحددت معانيها بتعريفات حاسمة، لزال منها موضع الإشكال؛ وفيما يلي عرض جديد للمشكلة يتبين منه القارئ كم كان الأمر كله يدور حول ألفاظ، وأما الموضوع نفسه فلا خلاف عليه، ولنبدأ بفكرة «الجبر» ثم نعقب عليها بالفكرة الأخرى، فكرة «الحرية».

ليس بين الناس من لا يعترف بأن المادة في كل عملياتها إنما تتأثر بفعل قوة ضرورية، بحيث تجيء الظاهرة من ظواهر الطبيعة متعينة محددة الصورة معلومة الدرجة، بحكم فاعلية سببها، حتى ليستحيل لهذا السبب نفسه أن يستتبع نتيجة غير النتيجة المتعينة المحددة المعلومة؛ فالجسم المتحرك — مثلًا — إنما يتحرك في اتجاه معين وبسرعة معينة، حتى لتأخذنا الدهشة إذا ما وجدناه يتحرك في اتجاه آخر وبسرعة أخرى غير ما نتوقع له بحكم السبب الذي أحدث الحركة فيه؛ وإذن فلو أردنا أن نكوِّن لأنفسنا فكرة مضبوطة دقيقة عن «الضرورة» أو «الجبر» كان حتمًا علينا أن نتعقب المسالك التي منها تسللت إلينا فكرتنا عن الأجسام المادية بحيث أصبحنا نتوقع لها سلوكًا معينًا في ظروف معينة.

إنه لو كانت ظواهر الطبيعة من التغير والتباين بحيث لا تتشابه فيها حادثتان وبحيث تجيء كل ظاهرة فريدة في نوعها، ليس بينها وبين سابقة لها أدنى شبه، بل تكون جديدة كل الجدَّة، لاستحال علينا — في مثل هذه الحالة — أن نكوِّن لأنفسنا أقل فكرة عن «الضرورة» أو عن الرابطة المحتومة التي نفرض وجودها بين الأشياء والظواهر؛ إننا في مثل هذه الحالة ما كنَّا لنقول عن أي شيء مما يحدث أو أية حادثة مما يقع إنها جاءت لاحقة لكذا وكذا من الأشياء أو الحوادث السابقة، دون أن نفرض البتة أن الحادثة السابقة قد «أحدثت» أو «أنتجت» الحادثة اللاحقة؛ أو بعبارة أخرى، لو كانت هذا هي الحال، لما عرف الإنسان شيئًا عن سبب ومسبَّب أو علة ومعلول، لأنه لم يكن ليربط الحوادث المتتابعة بمثل هذه العلاقة؛ وبالتالي لم يكن ليستطيع الإنسان أبدًا أن يستنتج شيئًا عن مجرى الحوادث في الطبيعة، وكانت الحواس والذاكرة وحدهما لتصبحا معين معرفته الوحيد؛ فلا وجود إلا لما يطبع حواسه في اللحظة الراهنة أو ما تدله الذاكرة على أنه قد طبع حواسه في لحظة سابقة؛ أما أن «يتوقع» حدوث شيء في المستقبل على أساس ما قد وقع في الماضي، فذلك لم يكن ليدخل في حدود مستطاعه؛ وإذن ففكرتنا عن ضرورة الحدوث أو السببية قد نشأت بحذافيرها من الاطراد الذي لاحظناه في وقوع الحوادث في الطبيعة؛ إذ لاحظنا أن الظواهر المتشابهة تكون دائمًا مرتبطة بغيرها على نحو واحد، وبهذا نشأت للعقل عادة الحكم بتوقع ظهور اللاحق إذا رأى السابق قد حدث؛ فلو لاحظنا — مثلًا — أن الظاهرة «س» تحدث دائمًا متبوعة بالظاهرة «ص»، اعتدنا هذا الرباط بينهما حتى إذا ما حدثت بعد ذلك «س» توقعنا بعدها «ص»؛ فإذا ما قلنا إن حدوث «ص» بعد حدوث «س» أمر ضروري، كان المعنى المراد ﺑ «الضرورة» هنا هو أن الاطراد بينهما قد لوحظ فيما مضى، وأن عادة عقلية قد نشأت لدينا من هذا الاطراد الملحوظ بينهما؛ أعني أن «ضرورة» الحدوث ليست ناجمة من طبيعة «س» ولا من طبيعة «ص» بل من طبيعة الإنسان في تكوين عاداته فلا ينبغي لنا — إذن — أن نفهم من لفظ «الضرورة» أو لفظ «الحتم» أو لفظ «الجبر» أو ما في معناها، أي شيء أكثر من أن الاطراد بين الحادثتين اللتين نقول عنهما إن بينهما ضرورة ارتباط، قد كان دائم الوقوع ولم يشذ، وأن العادة التي تكونت عند الإنسان من ملاحظته لهذا التتابع المطرد بينهما قد مكنته من أن يتوقع أو «يستدل» حدوث الحادثة اللاحقة إذا ما حدثت الحادثة السابقة.

ولو طبقنا هذا المبدأ على أفعال الإنسان الإرادية وعلى عملياته العقلية، وجدنا ألا خلاف بيننا على معنى «الجبر» أو «الضرورة» حين نستعمل هذه الكلمة في هذا المجال، وأنه إذا كان بيننا خلاف فهو على معنى كلمات كهذه، لا على الموضوع نفسه الذي أطلقت عليه تلك الكلمات.٦٩
ففيما يختص باطراد الوقوع في الحوادث المتشابهة، نلاحظ بين الناس اتفاقًا عامًّا على أن الأفعال الإنسانية فيها اطراد إلى حد كبير، مهما اختلف الزمان الذي عاش فيه الإنسان، أو اختلفت الأمة التي ينتسب إليها؛ إذ الطبيعة الإنسانية تظل على حالها من حيث المبادئ وطرائق السلوك؛ فدوافع معينة تؤدي دائمًا إلى أفعال معينة؛ وحوادث معينة تتبع دائمًا أسبابًا معينة؛ فالطموح والجشع وحب النفس والغرور والصداقة والكرم والإيثار … هذه كلها عواطف يمتزج بعضها ببعض بدرجات متفاوتة وتنتشر في أفراد المجتمع وتصبح — كما كانت منذ نشأة الإنسان — هي الدوافع التي تدفع الناس إلى السلوك الذي يسلكون؛ فهل تريد — مثلًا — أن تعرف شيئًا عن اليونان أو الرومان من حيث عواطفهم وميولهم ومجرى حياتهم؟ إذن فأمعن النظر في هذه الجوانب عند الفرنسيين اليوم أو الإنجليز؛ ولن تزل في خطأ كبير إذا ما نسبت لأولئك معظم ما قد شاهدته في هؤلاء؛ فبنو الإنسان على مقدار كبير جدًّا من التشابه؛ بغض النظر عن مكانهم وزمانهم، حتى ليكاد التاريخ لا يحدثنا بشيء جديد في هذا الصدد، والفائدة الرئيسية التي نستفيدها من دراسته هي اكتشافنا لمبادئ الطبيعة البشرية وإنها لمبادئ تعم وتطرد؛ وذلك بأن نستعرض الناس في شتى صنوف المواقف والظروف فندرك إلى أي حد تتشابه أفعال الإنسان وسلوكه إذا ما تشابهت الدوافع؛ فلا فرق بين العالم حين يستدل علمه بالنبات أو المعادن أو غيرهما مما يشاهده في أشياء الطبيعة، وبين السياسي أو الأخلاقي حين يستدل سلوك الإنسان مما يطالعه به التاريخ عن الأسلاف في حروبهم ودسائسهم وانقساماتهم وثوراتهم، فالتراب والماء وغيرهما من عناصر الطبيعة التي بحثها أرسطو وهبقراط من فلاسفة اليونان وعلمائهم، ليست بأشد شبهًا بما نراه اليوم من هذه العناصر نفسها، أقول إنها ليست بأشد شبهًا مما بين رجال الأمس كما وصفهم «يوليبيوس» و«تاسيتوس» وبين رجال اليوم؛ فلئن احتفظت عناصر الطبيعة بخصائصها فكذلك يحتفظ الإنسان بخصائصه.٧٠
إنه لو عاد إلينا رحالة من رحلة له في بلد بعيد، ليقص علينا من أنباء الناس هناك ما يجعلهم على أتم اختلاف عن الناس كما ألفناهم، فيروي عنهم — مثلًا — أنهم ناس خلت طبيعتهم خلوًّا تامًّا من الجشع والطموح والانتقام، لا يعرفون من ألوان المتعة إلا متعة الصداقة وكرم النفس والإيثار، لحكمنا من فورنا على مثل هذا الرحالة بالكذب، كما نحكم بالكذب على من يزعم لنا إنه وجد هناك الغيلان والوحوش الخرافية التي تنفث اللهب وما إلى ذلك؛ فلو أردت أن تكذِّب خبرًا رواه لك التاريخ، فليس لديك حجة أقوى من أن تقيم البرهان على أن سلوك الناس كما يصفهم هذا التاريخ الذي تعارضه، يختلف عما تجري به الطبيعة البشرية، افتراضًا منك بأن للإنسان طبيعة ثابتة دائمة، يؤدي فيها الدافع المعين إلى نوع معين من السلوك؛٧١ ولو لم يكن سلوك الإنسان مطردًا — اطراد الظواهر الطبيعة — لاستحال علينا أن نحكم على أحد، لأن خبراتنا الماضية عندئذٍ لا تجدي شيئًا في توقع ما سيكون عليه سلوك الناس في المواقف المقبلة؛ لكننا نتعلم بالخبرة شيئًا كثيرًا عن طبيعة الإنسان، وذلك لاطراد تلك الطبيعة وثباتها، تمامًا كما يتعلم المزارع من خبرته الماضية في فلاحة أرضه، لاطراد فعل الشمس والمطر والتربة في إنبات الزرع.

غير أنه لا يجوز لنا أن نفترض بأن هذا الاطراد في أفعال الإنسان عندما تتشابه الظروف اطراد شامل كامل لا ينحرف قيد أنملة عن خطه المرسوم؛ دون أن نحسب حسابًا لتنوع الشخصيات الإنسانية في ردها على مؤثرات البيئة؛ فمثل هذا الاطراد الذي لا ينحرف قيد شعرة في أية تفصيلة من التفصيلات، لا وجود له في الطبيعة بأسرها؛ فنحن إذ نلاحظ سلوك الناس، إنما نلاحظ تنوعًا في سلوكهم حتى في الظروف المتشابهة، فننتهي من ذلك إلى مجموعة من مبادئ تجرى على نسقها أفعال الناس، بدل أن ننتهي إلى مبدأ واحد؛ لكن هذه المبادئ الكثيرة المنوعة التي ننتهي إليها، هي في حد ذاتها دليل على أن الطبائع البشرية على درجة من الاطراد تسمح لنا باستخراج تلك المبادئ، ولو كانت تلك الطبائع من التنوع بحيث تخلو من كل اطراد، لاستحال علينا أن نفهم حالة على أساس فهمنا لحالة أخرى.

إننا — مثلًا — نلاحظ اختلافًا في سلوك الناس باختلاف عصورهم وبلادهم فهل نستنتج من ذلك ألَّا اطراد؟ كلا، بل نستنتج قاعدة عامة عن أثر العادة والتربية في تشكيل سلوك الإنسان؛ وكذلك لو لاحظنا اختلافًا بين سلوك الرجل وسلوك المرأة في الظروف المتشابهة، أو لاحظنا اختلافًا في سلوك الفرد الواحد في مراحل عمره المختلفة، فذلك كله أدعى إلى استخراج القواعد العامة منه إلى الظن بأن الأمر فوضى يجري على غير قاعدة؛ وإذا لم يكن في شخصية الفرد الواحد اطراد، لتعذر علينا أن نعامل الناس، فأنت في تعاملك مع زيد من الناس أو عمرو، ترجِّح لمن تعامله صورة معينة في سلوكه تتصرف معه على أساسها، فإن كان بخيلًا أو كريمًا، شجاعًا أو جبانًا، علمت أنه سيظل على بخله أو كرمه، وعلى شجاعته أو جبنه، لأنك تفرض فيه ما تفرضه في ظواهر الطبيعة نفسها من ثبات على طبيعة واحدة.

نعم إنه لا شك في أن بعض أفعال الإنسان يجيء وكأنما هو مقطوع الصلة بكل ما قد عهدناه من الأفعال التي تصدر عن دوافع معلومة لنا، حتى لنحكم عليها بالشذوذ عن المألوف والخروج على الاطراد المعروف؛ لكنها في حقيقة أمرها شبيهة بحوادث الطبيعة التي تختلف عن المجرى المعتاد لوقوع الحوادث حتى لنحكم عليها بالشذوذ عن قوانين الطبيعة، فإذا ما بحثنا الأمر بدقة وجدناها تندرج تحت قوانين أخرى غير القوانين التي تندرج تحتها الحوادث المألوفة.

إن أصحاب النظر السطحي كثيرًا ما يرجعون الحوادث التي تبدو شاذة في ظاهرها إلى عدم اطراد القوانين الطبيعية اطرادًا شاملًا؛ أما عند النظرة الفلسفية فهذه «الشواذ» هي نفسها كالحوادث المألوفة سواءً بسواء في كونها تجري وفق قوانين أخرى خاصة بها، وإن تكن هذه القوانين من الدقة بحيث يخطئ الإنسان إدراكها إلا إذا دقق البحث وأمعن في النظر؛ فالطبيعة ملأى بمصادر السلوك، ندرك بعضها ولا ندرك بعضها الآخر، فإن رأينا سلوكًا معيَّنًا لظاهرة معينة دون أن نرى مصدره، كان واجبنا أن نبحث عن مصدره الخبيء، بدل أن نزعم متعجلين بأنه سلوك سائب بغير مبدأ يصدر عنه أو قانون ينظمه؛ ولنضرب مثلًا لذلك قرويًّا ساذجًا وقفت ساعته فيصف هذه الظاهرة بأن الساعة لا يستقيم سيرها، فآنًا تخطيء وآنًا تصيب؛ كأنما يفترض فيها أنها تتحرك بغير قانون؛ أما صانع الساعات الذي يعرف لماذا تقف تروس الساعة ولماذا تسير، فحكمه آخر؛ إذ هو يدرك أن عدة الساعة من زنبرك وبندول وغيرهما إن سارت منتظمة، فعلت ذلك وفق قوانين مطردة، وكذلك إن وقفت عن السير، وقفت وفق تلك القوانين المطردة نفسها؛ فقد تكون هنالك ذرة من غبار — مثلًا — تقف دون حركة السير؛ وهكذا الأمر في كل ظواهر الطبيعة، ما يبدو منها سويًّا وما يبدو شاذًّا، كلها تجري على روابط مطردة بين أسباب ومسبباتها.

وقل هذا نفسه فيما يختص بالإنسان وسلوكه؛ فسلوكه يجري على اطراد؛ وإذا بدا من سلوكه جانب شاذ، فهذا الشذوذ نفسه يرتد إلى اطراد سبب عند النظرة المتعمقة الفاحصة؛ وكثيرًا ما تعاورت الجسم الإنساني أحداث تبدو غاية في الشذوذ عند من لا يعلم من أمر الجسم شيئًا كثيرًا، لكنها تبدو طبيعية عادية عند الطبيب الذي يعرف كيف تدور آلة الجسم المعقدة؛ والخلاصة هي أن الحوادث الشاذة، سواء وقعت في حياة الإنسان أو في ظواهر الطبيعة، إنما هي شاذة عن النظرة السطحية، ولكنها ليست كذلك عند النظرة النافذة العالمة ببواطن الأمور وخوافيها.٧٢
وإذا أراد الفيلسوف لأحكامه أن تتسق وأن تخلو من التناقض، كان حتمًا عليه أن يطبق هذا المنطق نفسه بالنسبة إلى الأفعال الإرادية عند الكائنات العاقلة فلو صدر عن إنسان معين فعل إرادي بلغ الغاية في شذوذه وخروجه عن الأفعال الإرادية المألوفة عند سائر الناس؛ كان الأرجح ألا يبدو كذلك عند من يعرف شخصية صاحب ذلك الفعل بكل دقائقها، كما يعرف الموقف الذي أحاط بذلك الفعل بكل تفصيلاته؛ لأنه عندئذٍ سيجد أمرًا طبيعيًّا ما رآه غيره شاذًّا غريبًا … ألا إن مفاجآت السلوك البشري لشبيهة بمفاجآت الظواهر الجوية، كلاهما قد يبدو كأنما هو يسير على غير قانون، لكن قانونه الخبيء ينكشف لمن يعلمون دقائق الأمور، فليست أفعال الإنسان المفاجئة الشاذة بأغرب من تغيرات الريح والمطر والسحاب وغيرها من العناصر الجوية؛ فهل نقول عن هذه إنها تسير على غير اطراد بين الأسباب والمسببات؟ هكذا قل في سلوك الإنسان.٧٣

فيبدو لنا — إذن — أن الرابطة بين الأفعال الإرادية وبين دوافعها هي من الاطراد والانتظام بنفس الدرجة التي تكون عليها الرابطة بين السبب والمسبب في أي جزء من أجزاء الطبيعة؛ لا، بل إنَّا لنضيف إلى هذه الحقيقة حقيقة أخرى، وهى أن هذا الاطراد في الرابطة بين الأفعال الإرادية ودوافعها أمر مسلم به من أفراد البشر جميعًا، ولم يكن قط موضع نزاع لا في مجال التفكير الفلسفي ولا في مجال الحياة الجارية؛ فكما أننا في شتى خبراتنا الماضية نستدل ما عساه أن يحدث في المستقبل، فنحكم على الحوادث التي شهدناها دائمًا مرتبطة على نحو معين، بأنها ستحدث في المستقبل — إن حدثت — مرتبطة على تلك الصورة بعينها؛ فكذلك نحكم على الناس في سلوكهم كيف سيكون فيما هو آتٍ بناء على خبرتنا الماضية؛ ولولا أن الناس يفرضون في السلوك البشري نفس الاطراد الذي يفرضونه في الظواهر الطبيعية لاستحال أن يركن بعضهم إلى بعض في معاملاتهم ومبادلاتهم واتصالاتهم؛ إن صاحب المصنع ليكاد يتوقع الاطراد في سلوك عمَّاله كما يتوقعه في سلوك آلاته، وإن وقع من الأولين ما يختلف عما توقعه، فكذلك قد يحدث في الآلات؛ إنني قد أستقبل الصديق الأمين في داري فأثق بأنه لن تمتد يده إلى قتلي كما أثق بأن جدران داري لن تُهدم إبَّان زيارته، ولو قيل إن ذلك الصديق قد تصيبه لوثة مفاجئة فيفعل ما لم نكن نتوقعه منه، قلنا إنه كذلك قد تحدث هزة أرضية مفاجئة فتنهدم جدران المنزل على نحو لم نتوقعه.

هكذا تطرد أفعال الإنسان اطرادًا نركن إليه في حياتنا العملية، وليس هناك بين الفلاسفة أنفسهم من لم يركن إليها كأي رجل عادي في غمار الناس؛ إذن فلماذا نركن من الوجهة العملية إلى اطراد السلوك الإنساني، ثم نأبى الاعتراف بذلك من الوجهة النظرية؟ لماذا نتصرف دائمًا على أساس أن أفعال الإنسان تجري مجرى الضرورة كبقية حوادث الطبيعة، ثم نرفض الاعتراف النظري بأن إرادة الإنسان مقيدة بهذه الضرورة؟ لماذا نسلك طريقًا في أفعالنا غير الطريق التي نسلكها في نظرياتنا؟ أظن أن تعليل ذلك هو كما يلي:

لو تأملنا عملياتنا الجسدية، متتبعين علاقة السبب بالمسبب في تلك العمليات، وجدنا أنه محال على قدراتنا الإدراكية جميعًا أن ترى في تلك العلاقة السببية شيئًا سوى أن أحداثًا معينة لوحظت مرتبطة دائمًا بأحداث معينة أخرى، ومِن ثَمَّ تتكوَّن لدى العقل عادة أن ينتقل من الأحداث الأولى إذا ما ظهرت إلى الأحداث الثانية التي كانت دائمًا مرتبطة بها؛ إنه لا حتم هناك بأن يحدث الأمر على هذا التعاقب، لكن هكذا حدث التعاقب في الماضي، وهكذا نتوقع له أن يحدث في المستقبل؛ لكن الناس عادة لا يرضون بهذا ولا يكتفون به، ويدَّعون أنهم قادرون على النفاذ وراء هذا التعاقب الظاهر ليروا رابطة ضرورية حتمية تجعل الشق الأول من الظاهرة يخلق الشق الثاني خلقًا وينتجه إنتاجًا، وهكذا تميل بهم عقيدتهم إلى أن السبب والمسبب ليسا مجرد حادثين تعاقبا في خبراتنا الماضية، بل إن في طبيعة السبب ضرورة تقتضي أن تستتبع المسبب حتمًا؛ ثم ينظرون إلى أنفسهم من باطن، فلا يرون هذه الرابطة الحتمية الضرورية في سلوكهم؛ إذ يرون أن الدافع النفسي الذي يتبعه فعل معين، ليس فيه ما يقتضي حتمًا أن يستتبع ذلك الفعل، وكل ما في الأمر أن الدافع والفعل قد لوحظا متعاقبين فيما مضى؛ فها هنا تراهم يحكمون على أنفسهم بما لا يحكمون به على حوادث الطبيعة؛ إذ يقولون إننا وإن كنَّا لا نرى في الجانبين معًا (السلوك الإنساني وحوادث الطبيعة) رابطة ضرورية تحتم أن يستتبع السبب مسبَّبه، إلا أننا نزعم أن هذه الرابطة الضرورية موجودة بالنسبة لحوادث الطبيعة وغير موجودة بالنسبة لسلوك الإنسان؛ بعبارة أخرى هم يحكمون على حوادث الطبيعة بأنها مجبرة على السير كما تسير، أما بالنسبة إلى سلوكهم فلا إجبار هناك، بل الأمر لا يزيد على تعاقب ألِفْنَاه، وقد يتغير نظامه في أي حين … لكن المنطق يقتضيهم أن يحكموا على السلوك الإرادي بنفس الذي يحكمون به على حوادث الطبيعة، ما داموا في كلتا الحالين لا يلاحظون إلا حوادث تتعاقب في اطراد، دون أن يروا إلى جانب ذلك ضرورة داخلية في طبائع الأشياء نفسها تقتضي ذلك الاطراد؛ أقول إن المنطق يقتضيهم أن يحكموا على أفعال الإنسان بما يحكمون به على حوادث الطبيعة، من أن الأمر لا يعدو عادات تعوَّدناها؛ إذ تعوَّدنا أن نرى شيئًا يتبع شيئًا، فاعتدنا بعدئذٍ أن نتوقع ظهور التالي إذا ظهر المقَدَّم، سواء كان ذلك التالي فعلًا بشريًّا أو حادثة طبيعية، وسواء كان هذا المقدم إرادة إنسانية أو شيئًا في الطبيعة الخارجية، إن مثل هذا الكلام لا يعجب فلاسفة كثيرين ممَّن يريدون أن يفرقوا بين الفعل البشري من جهة والحادثة الطبيعية من جهة أخرى؛ لكن هؤلاء الفلاسفة أنفسهم لا يترددون لحظة في حيواتهم الخاصة أن يجروا على ألا اختلاف، حتى إذا ما ارتدوا إلى فلسفاتهم النظرية قرروا ذلك الاختلاف بين الإنسان والطبيعة بأن جعلوا في حوادث الطبيعة ضرورة حتمية لم يجعلوا مثلها في أفعال الإنسان الإرادية؛ وعلى كواهل هؤلاء الفلاسفة تقع تبعة الإثبات، فيدلونا من أين جاءوا بهذه العقيدة؟ كيف عرفوا أن بين السبب والمسبب في حوادث الطبيعة ضرورة حتمية ليس لها نظير بين السبب والمسبب في أفعال الإنسان، إذا كانوا لم يلحظوا لا هناك ولا هنا إلا اطرادًا في تتابع الحدوث؟٧٤
الظاهر أن الناس في موضوع الحرية والجبر يبدءُون من حيث كان ينبغي لهم أن ينتهوا؛ فهم يبدءُون طريق التفكير بالبحث في قدرات النفس وفي تأثير العقل وفي عمليات الإرادة؛ مع أنه كان الأجدر بهم أن يبدءوا ببحث ما هو أيسر، وأعني به عمليات الأجسام المادية التي لا أنفس فيها ولا عقول ولا إرادة، فيحاولون في هذا المجال أن يلتمسوا مصدرًا للفكرة القائلة بأن بين السبب والمسبَّب رابطة ضرورية حتمية، وسيجدون أن ليس ثمة إلا اطراد في تتابع الظواهر، يترتب عليه اعتياد بأن نتوقع حدوث الشق الثاني من أجزاء الظاهرة إذا ما ظهر شقها الأول؛ فإذا كانت «الضرورة» في حدوث الحوادث الطبيعية لا تعني إلا هذا الاطراد الذي تعودناه، والذي نحكم بناء عليه بما عساه أن يقع في المستقبل؛ أقول إنه إذا كانت الضرورة المزعومة في عالم الأشياء المادية لا تعني إلا هذا، ثم إذا كان هذا نفسه هو ما نتفق جميعًا على أنه الحال بالنسبة للأفعال الإنسانية التي تتبع عزماتنا الإرادية، انحسم الخلاف في أمر «الضرورة» أو «الجبر»، وأدركنا أن نقطة الخلاف كانت لفظية فحسب، ذلك أن أنصار «الضرورة» في حدوث الحوادث الطبيعية سيجدون أن تفسير هذه «الضرورة» هو هو بعينه نوع الارتباط الذي يقع في الإرادة الإنسانية ويسمونه «حرية»؛ أما أن نتفق جميعًا على أن نوع الرابطة التي نراها بين حوادث الطبيعة هو نفسه نوع الرابطة التي نراها في الإرادة الإنسانية وما يتبعها من أفعال، ومع ذلك يصر فريق منَّا على زعمه بأن وراء هذه الرابطة الظاهرة قوة حتمية في الطبيعة بغير نظير لها في الحياة الإنسانية، فذلك تعنت يستحيل معه أن ينتهي المختلفون إلى حسم ما بينهم من نزاع.٧٥
وننتقل إلى «الحرية» التي يوصف بها سلوك الإنسان الإرادي دون سلوك الأشياء المادية، فنسأل: ماذا يراد بهذه الكلمة؟ يقينًا أن القائلين بها لا يقصدون أن أفعال الإنسان لا يربطها رباط بدوافعه وميوله وظروفه، بحيث تجيء وكأنما هي لا تتبع تلك الدوافع والميول والظروف على نحو فيه درجة معلومة من الاطراد؛ لأن الرابطة بين الجانبين أمر معترف به متفق عليه؛ لكنهم يقصدون ﺑ «الحرية» هنا أن الدوافع والميول والظروف المحيطة قد تكون كلها قائمة، ومع ذلك فالإنسان قادر على أن يتصرف وفقها كما أنه قادر على أن يمسك عن مثل هذا التصرف؛ أو بعبارة أخرى، إنهم يقصدون بحرية الإرادة أن الظروف المحيطة كلها قد تكون قائمة، لكن لدى الإنسان قدرة بعد ذلك على أن ينشط وعلى أن يظل ساكنًا، فله أن يختار بين الحركة والسكون؛ فإذا كان هذا ما يقصدونه، فليس هناك مَن يخالفهم في هذا المعنى، فما لم يكن الإنسان سجينًا مغلولًا بالقيود، فله أن يختار في كل ظرف بين حركته وسكونه؛ ولكن السؤال المهم هنا هو: على أي صورة يتحرك إذا ما تحرك؟ الجواب الصحيح هو أنه يتحرك على نفس الصورة التي ألفْنا الناس يتحركون بها في مثل هذه الظروف القائمة.٧٦

(٥) المكان والزمان

مهما يكن الموضوع الخاص الذي يضعه هيوم موضع البحث والتحليل، فهو دائمًا يرتد إلى الأساس العام الذي جعله مبدأً لفلسفته كلها، والذي بسطَّناه للقارئ في الفصل الأول من هذا الكتاب، ومؤدَّاه أن معرفة الإنسان مستمدة كلها من الانطباعات التي تنطبع بها حواسه الخارجية وحواسه الداخلية، فطالما كان مصدر الانطباع قائمًا أمام الحس، لبثت الحاسة منطبعة بأثره عليها، حتى إذا ما توارى ذلك المصدر ولم يعد قائمًا أمام الحس؛ بقيت صورة الانطباع في الذهن نسخة من أصلها، لا تختلف عنه إلا في درجة الوضوح، وهذه الصورة الذهنية التي تتخلَّف من الانطباع الحسي المباشر هي ما يسمى ﺑ «الفكرة»؛ وإذن فكل أفكارنا ينبغي أن تكون صورًا لأصول حسية، غير أن هذه الأفكار لا تظل في رءُوسنا بسيطة فرادى كما جاءت أول الأمر، بل يمتزج بعضها ببعض ويتألف منها أفكار مركبة، فإذا أردنا أن نختبر أية فكرة من هذه الأفكار المركبة لنرى مدى مشروعيتها، كان لزامًا علينا أن نحلها إلى الأفكار البسيطة التي منها تركَّبت، ثم نرى إن كانت هذه الأفكار البسيطة كلها مُصَوِّرات لانطباعات حسية انطبعت بها حواسنا أم أن بينها أفكارًا بغير أصل حسي، فإن استطعنا ردها جميعًا إلى أصولها الحسية كانت فكرة مشروعة ذات معنًى، وإلا فهي مختلقة لا تقوم على أساس سليم … وإذن فلنطبق هذا المبدأ نفسه على فكرتَي المكان والزمان.

يحلل هيوم فكرتي المكان والزمان، فينتهي به التحليل إلى أنهما لا يشيران إلى انطباعات حسية مستقلة بذاتها، أي إنه ليس بين انطباعاتنا الحسية انطباع تلقته الحواس عن شيء اسمه «مكان» أو انطباع تلقته الحواس عن شيء اسمه «زمان»، لكن كلمتي «المكان» و«الزمان» تشيران إلى طريقة ترتيب الانطباعات الأخرى، و«طريقة الترتيب» ليست بالطبع واحدة من الانطباعات التي تخضع لهذا الترتيب، فكما ترتب مجموعة من الكتب — مثلًا — على «طريقة» معلومة دون أن تكون «طريقة ترتيب» الكتب كتابًا آخر يضاف إلى الكتب المرتبة، فكذلك «المكان» و«الزمان» طريقتان لترتيب انطباعاتنا الحسية؛ أما «المكان» فهو اسم نطلقه على طريقة ترتيبنا لانطباعاتنا التي انطبعت بها حاستا الرؤية واللمس؛ وأما «الزمان» فهو كذلك اسم نطلقه على طريقة ترتيبنا لانطباعاتنا الحسية، ولا يقتصر الأمر هذه المرة على نوعين فقط، هما انطباعات الرؤية وانطباعات اللمس، كما هي الحال في «المكان»، بل يجاوز ذلك ليشمل جميع انطباعاتنا الحسية، سواء كانت الحاسة المنطبعة خارجية أو داخلية.

وهاك ما يقوله هيوم٧٧ في تحليل فكرة «المكان»:

إنني إذا ما فتحت عينيَّ ووجهتما نحو الأشياء المحيطة بي، أدركتُ بهما مرئيات كثيرة، فإذا ما أقفلتهما وتأملت المسافة التي تفصل هذه المرئيات حصلتُ على فكرة الامتداد؛ ولما كانت كل فكرة مستمدة من انطباع معين على الحس بحيث تكون الفكرة على أتم شبه بالانطباع الذي منه استُمدت، كان لزامًا أن تكون الانطباعات المشابهة لفكرة الامتداد إما إحساسات جاءتنا عن طريق البصر، أو انطباعات داخلية نشأت عن تلك الإحساسات.

وما انطباعاتنا الداخلية إلا عواطفنا وانفعالاتنا ورغباتنا أو نفورنا؛ ولست أظن أن أية واحدة من هذه الانطباعات الداخلية يمكن أن يقال عنها إنها النموذج الذي جاءت فكرة «المكان» على غراره؛ وإذن فلا يبقى أمامنا إلا انطباعات الحواس الظاهرة، فهي التي يمكن أن تمدنا بفكرة «المكان»؛ فأي الانطباعات الحسية يصلح أن يكون مصدرًا لهذه الفكرة؟ هذا هو السؤال الرئيسي الذي إذا أجبنا عنه جوابًا صحيحًا، جاء الجواب حلًّا حاسمًا يوضح طبيعة فكرة «المكان».

وحسبي أن أتخير شيئًا واحدًا مما تقع عليه عيناي، وليكن هذه المنضدة التي أراها أمام بصري، فهي وحدها كفيلة أن تمدني بفكرة «المكان»؛ وإذن فهذه الفكرة لا مصدر لها سوى الانطباعات التي تطبعها المنضدة على حاسة البصر؛ لكن حاسة البصر لا تنقل إليَّ من المنضدة إلا انطباعات عن نقط ملونة رُتِّبت على نحو معين؛ ولو زعم لي زاعم بأن العين ترى من المنضدة غير هذه النقط الملونة كما تنطبع عليها، فعليه أن يهديني إليه؛ أما إذا عجز الزاعم عن الإشارة إلى شيء يجاوز هذه الانطباعات كان لنا أن نستنتج نتيجة يقينية هي أن فكرة الامتداد ليست إلا صورة لهذه النقط الملونة بالترتيب الذي ظهرت به لعيني.

وإذا فرضنا أن الشيء الممتد، أو قل التركيبة المؤلفة من مجموعة النقط الملونة — فالعبارتان بمعنًى واحد — إذا فرضنا أن هذه النقط الملونة التي استقينا منها بادئ ذي بدء فكرة الامتداد، كانت أرجوانية، فإنه يتحتم بعدئذٍ كلما أعدنا إلى أذهاننا فكرة الامتداد كما جاءتنا من تلك النقط، ألا نعيدها بنفس الترتيب الذي جاءتنا به عندما وقعت أبصارنا على الجسم الممتد فحسب، بل إنه لن يسعنا بالإضافة إلى ذلك إلا أن نعيدها إلى أذهاننا بنفس لونها الذي رأيناها به، وهو الأرجواني؛ لكن خبراتنا لن تقف بعد ذلك عند حد هذا الشيء الممتد ذي اللون الأرجواني، بل سيقع لنا في خبراتنا من مجموعات النقط الملونة ما هو بنفسجي أو أخضر أو أحمر أو أبيض أو أسود إلى آخر صنوف اللون؛ وعندئذٍ سنلحظ تشابهًا في تكوين النقط من حيث علاقاتها بعضها ببعض، رغم اختلاف ألوانها، فنحذف بقدر مستطاعنا صفة اللون من هذه التركيبات الامتدادية، ونُبقي فكرة مجردة عن طريقة التركيب وحدها بعد تخليصها من لون نقاطها، وطريقة التركيب متشابهة فيها جميعًا، فتخلص لنا بذلك فكرة الامتداد المكاني، ثم لا نكتفي في تجريدنا لفكرة الامتداد المكاني بحاسة البصر وحدها، بل نضيف إليها حاسة اللمس، فنلمس نفس الشيء الذي رأينا نقاطه الملونة مرتبة على نحو معين، نلمسه بأيدينا، فندرك أن انطباعنا اللمسي شبيه — من حيث ترتيب الأجزاء — بانطباعنا البصري؛ ومن أجل هذا الشبه بينهما تصبح الفكرة المجردة عن الامتداد صالحة لتمثيل الانطباعين معًا في آنٍ واحد: الانطباع البصري، والانطباع اللمسي للشيء الممتد؛ وها هنا نعيد ما قد أسلفناه عند حديثنا عن الأفكار المجردة (راجع الفصل الأول من هذا الكتاب) من أن الفكرة المجردة، كائنة ما كانت، هي على كل حال صورة جزئية لفرد واحد من أفراد المجموعة التي نمثلها بالفكرة المجردة، وغاية ما في الأمر أننا نطلق على هذه الصورة دون زميلاتها وشبيهاتها اسمًا كليًّا، فتصبح بفضل هذا الاسم الكلي بمثابة الفكرة الكلية التي لا تمثل نفسها فقط بل تنوب كذلك عن سائر أفراد نوعها؛ وعلى ذلك ففكرة الامتداد التي نستخرجها من رؤية هذه المنضدة وحدها كافية لتمثيل الامتداد المكاني أيًّا كان الجسم الممتد.

وهكذا تكون فكرة «المكان» عند هيوم مستمدة من الانطباعات البصرية واللمسية التي تطبعها الأشياء على حاستي البصر واللمس، وأما فكرة «الزمان» فهي كذلك مستمدة من تينك الحاستين مضافًا إليهما كل أنواع الإدراك الأخرى أفكارًا كانت أو انطباعات، وسواء كانت هذه الانطباعات على الحواس الظاهرة أو الحواس الباطنة … فكرة «الزمان» مستمدة من تتابع إدراكاتنا، مهما يكن نوعها؛ وهي كأية فكرة مجردة أخرى تتمثل في أذهاننا بفكرة جزئية لشيء محدد متعين الكم والكيف، والذي يجعلها كلية هو إطلاقنا اسمًا كليًّا عليها لتقوم بتمثيل زميلاتها وشبيهاتها.

وكما أن فكرة المكان مستمدة من الطريقة التي رُتِّبت بها الأشياء المرئية والملموسة، أعني أنه ليس ثمة شيء قائم بذاته اسمه «مكان» يطبع حواسنا كما تطبعها — مثلًا — هذه المنضدة، بل «المكان» طريقة ترتيب الأشياء التي نحسها بالبصر واللمس، فكذلك فكرة الزمان مستمدة، لا من شيء مستقل قائم بذاته اسمه «زمان» تنطبع به حواسنا، بل هي مستمدة من تتابع المحسوسات، فترانا ندرك بالحس انطباعًا إثر انطباع، أو ترد على أذهاننا الأفكار فكرة بعد فكرة، فمن هذا التتابع تتكون فكرة الزمن.

إن الغارق في نعاسه، أو المنشغل بفكرة معينة تستنفد انتباهه ووعيه، لا يحس مر الزمن ولا يدركه، وذلك لأنه عندئذٍ لا يعي تتابعًا في إدراكاته، وبالتالي فهو لا يعي الزمن؛ وعلى نفس الأساس تستطيع أن تقول إن الإنسان ليحس مر الزمن مسرعًا أو مبطئًا حسب سرعة تتابع إدراكاته أو بطئها؛ إنه حيث لا تتابع في إدراكاتنا فلا زمن؛ فحتى لو كان هنالك تتابع في وقوع الحوادث الخارجية، لكنه تتابع أسرع من أن يلاحقه إدراكنا، فسيكون أمام حواسنا بمثابة الشيء الثابت، وبالتالي لا يكون لإدراكنا له حلقات متتابعة، وإذن فلا إدراك عندئذٍ للزمن؛ وعلى ذلك فالنتيجة التي ننتهي إليها هي أن الزمن ليس شيئًا قائمًا بذاته يعرض نفسه على العقل مستقلًّا عن سواه، بل وليس شيئًا يعرض نفسه أمام العقل مصحوبًا بشيء آخر ثابت لا يتغير، بحيث ندرك حركته بالقياس إلى هذا الثابت، بل هو دائمًا وفي جميع حالاته عبارة عن إدراكنا للتتابع الذي تتلاحق به الأشياء في تغيرها.٧٨

وإثباتًا لهذا الذي قلناه عن حقيقة «الزمن» نضيف الدليل الآتي، وهو أن الامتداد الزمني مهما قصر أمده مؤلَّف من لحظات، أي من أجزاء، لأنه لولا ذلك لما كان في إمكاننا التفرقة بين فترتين زمنيتين من حيث الطول، فنقول عن إحداهما إنها أطول أو أقصر من الأخرى؛ وبديهي ألا تكون هذه الأجزاء متآنية بعضها مع بعض، أعني أنها لا تتعاصر بحيث تقع كلها معًا في آنٍ واحد، لأن تعاصر الأجزاء، أو قل قيامها معًا في آنٍ واحد، هو من خصائص أجزاء المكان لا أجزاء الزمان؛ وإذن فمن هاتين المقدمتين (وهما: أن الامتداد الزمني مؤلف من أجزاء، وأن هذه الأجزاء لا تكون متآنية) نخلص إلى نتيجة وهي أن الشيء الذي لا يتغير يستحيل أن يمدنا بفكرة الزمن؛ إذ لو كان هنالك شيء ثابت، كان معنى ثباته أن أجزاءه متآنية، لا يتلو بعضها بعضًا، أي إنه لا يكون ثمة تعاقب في حالاته، وبالتالي فلا تكون لدينا منه فكرة «الزمن»؛ إن هذه الفكرة — كما قلنا — لا بد لها من تعاقب وتتابع، أي لا بد لها من تغير يصيب الأشياء بحيث تجيء حالة وتذهب حالة؛ إنه لو أصيب العالم بسكون تام يجعله ذا حالة واحدة قائمة دائمة، لما كانت فكرة «الزمن» بين مدركاتنا.

(٦) حقيقة الاعتقاد

يفرق هيوم بين فكرتنا عن الشيء واعتقادنا فيه،٧٩ لأنه وإن تكن فكرتنا عن شيء ما شرطًا أساسيًّا لاعتقادنا فيه، إلا أنها ليست كل شيء في هذا الاعتقاد؛ ولنا — إذن — أن نسأل: ما طبيعة الاعتقاد؟ ماذا هناك من المقومات حين نكون إزاء فكرة لدينا نعتقد في صوابها؟

الفرق واضح بين مجرد تصورنا لفكرة معينة، وبين أن نحكم بوجود الشيء الذي تمثله هذه الفكرة، فتستطيع — مثلًا — أن تتصور فكرة عن كائن ذي صفات محددة معلومة، دون أن تضيف إلى هذا التصور اعتقادًا في وجود ذلك الكائن وجودًا عينيًّا في عالم الأشياء؛ ومع هذا الفرق الواضح بين الحالتين، فليس الفرق هو في إضافة عناصر جديدة في الحالة الثانية إلى ما كانت عليه الفكرة في الحالة الأولى، بحيث تصبح الفكرة اعتقادًا؛ ذلك أن فكرة «الوجود» لا تختلف في شيء قط عن فكرة الشيء الذي ننعته بالوجود؛ تصور شيئًا ما، ثم تصور أن ذلك الشيء موجود وجودًا حقيقيًّا، فلن تجد فرقًا بين الحالتين، أي إن تصورك لذلك الشيء باعتباره موجودًا وجودًا عينيًّا، لا يزيد ولا ينقص ولا يختلف عن مجرد تصورك له تصورًا عقليَّا؛ وتطبيقًا لهذا نقول إننا حين نقرر أن «الله» موجود فلسنا نضيف شيئًا ولا ننقص شيئًا ولا نغير شيئًا من مجرد تصورنا لفكرة «الله»؛ بعبارة أخرى، إن «الوجود» ليس صفة تضاف إلى سائر صفاته التي منها تتكون فكرتنا عنه، فلو فرضنا مثلًا أن فكرتنا عنه قوامها هذه العناصر: ا، ب، ج؛ فإن اعتقادنا في وجوده لا يزيد من هذه العناصر شيئًا، فستظل الفكرة — بعد الاعتقاد في وجوده كما كانت قبل الاعتقاد في وجوده — مكونة من العناصر ا، ب، ج؛ وإذن ﻓ «الوجود» ليس له فكرة خاصة به، تضاف أو تحذف من فكرتنا عن شيء معين نقول عنه إنه موجود، ومع ذلك كله فلا نزال نقرر أن ثمة فرقًا واضحًا بين أن أتصور فكرة معينة لكائن معين، وبين أن أعتقد في أن ذلك الكائن الذي تصورت فكرته في ذهني موجود؛ ولما كان هذا الفرق — كما أوضحنا — ليس في مقومات الفكرة نفسها، إذن فلا بد أن يكون ناتجًا عن «الطريقة» التي نتصور بها الفكرة؛ أي إن صورة الفكرة ترتسم في أذهاننا على نحو ما فتكون مجرد فكرة، ثم ترتسم على نحو آخر فتصبح اعتقادًا في وجود الشيء الذي تمثله تلك الفكرة.

إذا زعم لي زاعم من القضايا ما لست أعتقد في صوابه، فقال لي — مثلًا — إن قيصر مات في مخدعه، أو أن الفضة أكثر قابلية للانصهار من الرصاص، أو أن الزئبق أثقل من الذهب، فعدم اعتقادي في صدق هذه الأفكار لا يغير من قوامها في ذهني، فمن الممكن أن أتصورها كما يتصورها زميلي الذي زعمها لي، بحيث لا يكون ثمة فرق بين صورها في ذهني وصورها في ذهنه؛ وإذن فالاعتقاد أو عدم الاعتقاد لا شأن له بعناصر الفكرة ذاتها، فليست الأفكار في ذهن المعتقد في صوابها بأكثر في عناصرها منها في ذهن غير المعتقد؛ لكنه لا مِراء في أن ثمة فرقًا بين الفكرة في حالة الاعتقاد وحالة عدم الاعتقاد في صوابها، وأعود فأسأل: ماذا عسى أن يكون الفرق بين الحالتين؟ والجواب عن هذا السؤال يسير حين يكون اعتقادنا في صدق الفكرة، أو صدق القضية التي نتصورها، مستمدًّا إما من الحدس أو من البرهان الاستنباطي، لكنه يحتاج إلى شيء من التوضيح حين يكون اعتقادنا ذاك مستمدًّا من علاقة السبب بمسببه أي حين يكون اعتقادنا خاصًّا بأمور الواقع، وليس محصورًا في عالم الأفكار وحدها يستدل فكرة من فكرة.

ذلك أن هيوم يقسِّم القضايا — صادقها وكاذبها على السواء — قسمين: فقضايا تقرر عن شيء معين أنه موجود الآن، أو كان موجودًا ذات يوم أو سيظهر في حيز الوجود بعد حين؛ وقضايا لا تقرر الوجود عن شيء، ومن القضايا التي ليس من شأنها أن تقرر وجود الشيء الذي تتحدث عنه قضايا الرياضة كقولنا إن ٢ + ٢ = ٤، أو إن زوايا المثلث تساوي قائمتين، ومنها كذلك القضايا التي لا تخرج عن كونها إثباتًا لمعاني الألفاظ التي نتحدث عنها، كقولنا مثلًا إن الأسود والأبيض ليسا متشابهَين، ويرى هيوم أن الشروط اللازمة للحكم على أمثال هذه القضايا التي لا تتحدث عن وجود شيء مختلفة عن الشروط اللازمة للحكم على النوع الآخر من القضايا التي تقرر أن شيئًا ما ذو وجود فعلي حقيقي.

أما القضايا اللاوجودية (أي التي لا يقتضي صدقها أن يكون الشيء الذي تتحدث عنه موجودًا وجودًا فعليًّا) فنحكم عليها بالصدق بإحدى وسيلتين: فنحكم بالصدق على بعضها بالحدس (أي العيان العقلي المباشر) ونحكم بالصدق على بعضها الآخر بالبرهان الاستنباطي الذي يبرهن على صدق النتيجة بالإشارة إلى المقدمة التي لزمت عنها تلك النتيجة لزومًا ضروريًّا، كما نفعل في الرياضة مثلًا … فاعتقادنا في صواب القضية اللاوجودية — عند هيوم — ينبني على إدراكنا الحدسي أو على إقامة البرهان الاستنباطي؛ وهو ينبني على الإدراك الحدسي، حين لا يقتضي منك الأمر إزاء القضية التي تحكم بصوابها سوى أن تفهم ألفاظها، وهذا وحده كافٍ لتدرك من فورك أنها صادقة أو غير صادقة كأنما أنت عندئذٍ ترى بعين عقلك رؤية مباشرة؛ ومن قبيل ذلك ما يسمى في الرياضة — مثلًا — بالبديهيات، كأن نقول مثلًا إن الأشياء التي يتساوى كل منها مع شيء معين، تكون بالتالي مساوية بعضها لبعض؛ فحسبك هنا أن تدرك معنى «التساوي» لتدرك على الفور أن الجملة صواب، لأن صوابها واضح بذاته كما يقولون؛ وأما الصواب المنبني حكمه على البرهان الاستنباطي فهو — كما أسلفنا — أن تقدِّم مقدمة صدقها مفروض، ثم تستخرج منها حقيقة كامنة فيها، فتكون هذه النتيجة المستخرجة صوابًا ما دامت مقدمتها صحيحة.

هكذا يقول هيوم عن القضية اللاوجودية إن طريقة الاعتقاد في صوابها يسيرٌ هينٌ، ولكن الأمر يحتاج إلى توضيح وشرح بالنسبة إلى النوع الآخر من القضايا، القضايا الوجودية التي تقرر الواحدة منها عن شيء ما معين أنه موجود وجودًا فعليًّا، أو أنه — إذا لم يكن موجودًا هذه اللحظة الراهنة — فقد كان موجودًا في لحظة مضت أو سيكون موجودًا في لحظة آتية؛ فما سبيلنا إلى الاعتقاد في أمثال هذه القضايا؟

هناك حالات ثلاث: فإما أن أكون في حالة إدراك حسي مباشر للشيء الذي أقول عنه إنه موجود، كأن أحكم على القلم الذي في يدي الآن بالوجود لأني أراه بعيني وأحسه بأصابعي؛ وإما أن أحكم على الشيء بأنه كان موجودًا لأنني أستعيد في ذهني صورة ذهنية لانطباع حسي وقع على إحدى حواسي في تلك اللحظة الماضية، كأن أذكر أنني بالأمس رأيت صديقي فلانًا أو سمعت صوته، والحالة الثالثة — وهي ليست ببساطة الحالتين المذكورتين — وهي حين أحكم بوجود شيء وجودًا فعليًّا، لا لأن له انطباعًا مباشرًا على إحدى حواسي، ولا لأني أستعيد في ذهني فكرة عن مثل هذا الانطباع الذي ربما يكون قد وقع لي في الماضي، بل لأنه يرتبط ارتباطًا سببيًّا بشيء مما قد انطبعت به حواسي، بحيث أستطيع أن أقول إنه يستحيل أن تكون حاسة البصر — مثلًا — قد انطبعت بكذا وكذا دون أن يكون الشيء الفلاني موجودًا أيضًا، لأنه يرتبط بانطباعاتي الحسية ارتباطًا سببيًّا؛ مثال ذلك أن أرى ضوء القمر في غرفتي — ولا أرى القمر نفسه — فأحكم بوجود القمر وجودًا فعليًّا، لا لأني رأيته مباشرة، بل لأن انطباعي الحسي — أعني ضوء القمر في غرفتي — لم يكن ليوجد بغير وجود القمر نفسه، لأنهما مرتبطان معًا ارتباطًا سببيًّا.٨٠

إننا نبحث الآن عن حقيقة «الاعتقاد» وطبيعته، حين تكون في رءُوسنا فكرة معينة «نعتقد» أنها صواب؛ وقد قلنا بادئ ذي بدء ألا فرق من حيث عناصر الفكرة ومقوماتها بين مجرد تصور الفكرة على أنها فكرة وكفى، وبين «الاعتقاد» بأنها فكرة صائبة؛ ولكن هنالك بالبداهة فرقًا بين الحالتين، فماذا عسى أن يكون هذا الفرق إذا لم يكن فرقًا في عناصر الفكرة ومقوماتها؟

وفي الإجابة عن هذا السؤال قلنا إن الفرق كائن في «طريقة» التصور، لا في مادته ومضمونه؛ لكن هذه التفرقة وحدها لا تكفي لتوضيح «الاعتقاد» وطبيعته، فلنمضِ في محاولتنا تحديد الموقف وحقيقته حين يحكم الإنسان على فكرة معينة لديه بأنها صادقة.

إن مبدأنا العام في المعرفة الإنسانية كلها هو أنها نوعان لا ثالث لهما، فهي إما «انطباعات» تقع على الحواس مباشرة، أو أفكار تكون هي نفسها الانطباعات بعد أن تزول مُحْدِثاتُها من أمام الحس فتبقي صورًا ذهنية لا تختلف عن الانطباعات في حالتها الأولى إلا من حيث درجة الوضوح والنصوع؛ الفكرة هي الانطباع الذي أحدثها، أو إن شئت فقل هي نسخة من الانطباع الذي أحدثها، لا تختلف عنه في أجزائها ومضمونها، بل في قوتها فحسب، فبينما الانطباع جلي ناصع تكون الفكرة أقل وضوحًا وأبهت لونًا؛ فلو كانت الفكرة مختلفة عن انطباع معين، لم تكن هي فكرة ذلك الانطباع، بل فكرة الانطباع الذي يساويها في المضمون والفحوى، من هذا كله يتبين أن «الاعتقاد» في فكرة ما لا يغير من مضمونها وأجزائها، وكل ما يصنعه فيها هو أن يزيد الفكرة وضوحًا ونصوعًا؛ «الاعتقاد» في فكرة معينة يضيف إلى قوتها وحيويتها، لكنه لا يغير منها شيئًا؛ وإذن ففي مستطاعنا أن نعرِّف «الرأي» أو «الاعتقاد» أدق تعريف بقولنا إنه «فكرة ناصعة متصلة أو مرتبطة بانطباع حسي راهن.»٨١ ومعنى ذلك هو أن اعتمادنا في الحكم على فكرة ما بالصواب — رغم كونها فكرة لا تمثل بذاتها انطباعًا حسيًّا — قائم على أن تكون هذه الفكرة مرتبطة أو متصلة بانطباع حسي، فيخلع عليها هذا الانطباع الحسي الذي يتصل بها أو يرتبط بها على نحو ما، وضوحًا من وضوحه ونصوعًا من نصوعه.

هذه نقطة بالغة الأهمية في فلسفة هيوم، وهي من الأسس التي تجعله رائدًا للمدرسة التجريبية العلمية المعاصرة لنا اليوم، نعيدها ونوضحها للقارئ، فنقول إنه إذا كان الإنسان إزاء قضية تتصل بالوجود الفعلي الواقعي لشيء ما (أي إنها ليست مجرد قضية تحليلية تكرارية كقضايا الرياضة مثلًا) فلا بد من اتصالها على وجه من الوجوه بانطباعاتنا الحسية، فهي إما تتصل بتلك الانطباعات اتصالًا مباشرًا، بمعنى أنها عندئذٍ تكون صورة أو نسخة لانطباع حسي أو أكثر، وإما أن تكون مرتبطة بفكرة أخرى مما يقوم مباشرة على انطباع حسي أو أكثر؛ بعبارة موجزة نقول: إنه لا مناص من الرجوع إلى خبراتنا الحسية على نحو ما إذا ما أردنا إثبات الصدق لقضية تنبئ عن إحدى الموجودات الفعلية الواقعية، ولا يجوز لأحد أن يتحدث عن كائن ما، يزعم له الوجود الفعلي، دون أن يكون في مستطاعه إسناد حديثه هذا إلى خبرة حسية، من بصر أو سمع أو لمس … إلخ، أما أن تدعي الوجود الفعلي لكائن معين، ثم تعجز عن هدايتنا إلى الحاسة التي جاءنا العلم به عن طريقها، فذلك تناقض صريح، كأنك بمثابة من يقول: إني أرى ولا أرى، أو إني أسمع ولا أسمع.

إذا استنتجت وجود شيء ما من وجود شيء آخر، فلا بد أن يكون هنالك سند لهذا الاستنتاج مما يقع الآن على حواسنا، أو مما وقع على حواسنا في لحظة ماضية لكن صورته الذهنية لا تزال قائمة في الذاكرة؛ أما أن تستنج شيئًا من شيء آخر، وهذا الآخر من شيء ثالث، وهذا الثالث من شيء رابع، وهكذا إلى ما لا نهاية، دون أن تقف هذه السلسلة الاستنتاجية بخطوة ترتد بها إلى خبرتك الحسية، فذلك تسلسل في الاستنباط لا يعرف نهاية معلومة يقف عندها، وبالتالي لا يجد الحلقة الرابطة التي تصله بمجرى الوجود الواقعي.

والحق أن العقل الخالص — الذي لا يستند إلى خبرة حسية — محال عليه أن يستنتج وجود شيء معين من وجود شيء آخر؛ إنه لا يستطيع — مثلًا — أن يستنج لون البرتقالة من شكلها، فإذا ما رأينا أنفسنا نستنج شيئًا كهذا، فليس هو «العقل» الذي يهدينا، لكنها «العادة» أو «الترابط»؛ إذ اعتدنا أن نرى لون البرتقالة الأصفر مرتبطًا بشكلها المستدير، بحيث يكفي بعد ذلك أن تنطبع حواسنا بأحد الجانبين لننتقل إلى الآخر استنتاجًا؛ وترانا «نعتقد» في صواب النتيجة التي استنتجناها على أساس وضوحها في الذهن لارتباطها بانطباع حسي ذي وضوح؛ وهكذا نعود إلى تعريفنا الذي أسلفناه لاعتقاد، بأنه «فكرة ناصعة متصلة أو مرتبطة بانطباع حسي راهن».

وعد إلى خبرتك وانظر؛ فقارن بين حالتين: حالة تحكم فيها بواقعية الفكرة التي في رأسك، وحالة أخرى تعلم فيها أنك إنما تحلم، وستجد أنك في الحالة الأولى، حالة اعتقادك بأن أفكارك متصلة بالواقع الفعلي، إزاء أفكار واضحة ناصعة، وأما في الحالة الثانية، حالة الأحلام والأوهام، فأنت إزاء أفكار على شيء من الغموض … أو اقرأ التاريخ مقارنًا إياه بوقائع القصة الخيالية، تجد دائمًا أن اعتقادك في صدق التاريخ ليس مستمدًّا من أن الأفكار فيه من نوع مختلف عن الأفكار الواردة في القصة الخيالية، بل الفرق كل الفرق هو في درجة الوضوح الذهني: الأولى أكثر وضوحًا لأنها مرتبطة بأسانيد وقعت على الحواس، والثانية أقل وضوحًا لأنها لا ترتبط بخبرات حسية مباشرة.٨٢

ولنضرب لك بعض الأمثلة التي توضح مبدأ هيوم في طبيعة الاعتقاد وحقيقته، حين يكون الشيء الذي أعتقد في وجوده وجودًا فعليًّا ليس قائمًا أمام حواسي قيامًا مباشرًا:

إنني «أعتقد» أن في رأسي مجموعة عصبية ذات صورة معينة ووظائف معلومة، هي التي نطلق عليها كلمة «مخ»؛ فعلى أي أساس بنيت هذا الاعتقاد، ما دمت لا أرى مخي ولا أحسه إحساسًا مباشرًا بأية حاسة من حواسي؟ بنيت هذا الاعتقاد على أساس أن هذه الفكرة التي أعتقد في صوابها مرتبطة بشيء آخر تنطبع به حواسي الآن، وهو — مثلًا — هذه الحركات التي تتحركها يدي ممسكة بالقلم إذ أكتب هذا الذي أكتبه؛ هذا إدراك حسي مباشر، وعلمت بالخبرة الماضية أنه ما كانت لتحدث مثل هذه الحركات اليدوية وهذه الكتابة التي أكتبها إلا إذا كان هنالك جهاز عصبي من نوع معين؛ علمتني الخبرة الماضية أن هنالك شيئين مرتبطين دائمًا، وهما: أمثال هذه الحركات التي تتحركها يدي، ووجود مخ في الرأس، فربطت بينهما ربطًا يتيح لي الآن أن أستنتج الجانب الذي لا أراه من الجانب الآخر الذي أراه؛ وبهذا يكون الاستنتاج قائمًا على خبرة حسية مباشرة، ويكون «اعتقادي» في صوابه مستندًا إلى وضوح هذا الذي أراه الآن رؤية مباشرة.

مثل آخر: إنني أعلم أن قيصر مات مقتولًا في روما، فعلى أي أساس بنيت هذا العلم ما دمت لم أرَه بنفسي، وما دمنا قد جعلنا شرط المعرفة أن تنطبع حواسنا بما نعرف؟ بنيتُ علمي بذلك على أساس كتابات قرأتها، أي على أساس انطباعات حسية مباشرة، ولديَّ من الروابط ما يجعلني أستدل وجود الشيء الذي أقرأ عنه من الأسطر التي أقرؤها … لكن ماذا لو كانت الرابطة بين ما أرى الآن وبين ما «أعتقد» في وجوده استنتاجًا، لم تكن في خبرتي الماضية مطردة الحدوث؟ هنا يكون حكمي على درجة من «الاحتمال» تتناسب مع تكرار الحدوث في خبراتي السابقة، فتزيد درجة احتمال الصدق فيما أعتقده كلما زادت درجة تكرار حدوث الطرفين المرتبطين في الظروف الماضية.٨٣

(٧) ذاتية النفس

إذا كان علم الإنسان بأي شيء — كائن ما كان — قوامه انطباعات وأفكار، ثم إذا كانت هذه الانطباعات والأفكار هي كحلقات السلسلة تتوالى بحيث لا يكون حاضرًا منها إلا حلقة واحدة في كل لحظة واحدة، فعلمنا ﺑ «النفس» — كعلمنا بأي شيء آخر — هو كذلك مؤلف من انطباعات وأفكار تتوالي دون أن يكون هناك «ذات» قائمة دائمًا إلى جانب تلك الحالات المتوالية؛ وبهذا تكون «النفس» الإنسانية مجموعة من حالات، واحدة تعقب واحدة، وليست هي بالكائن الذاتي الواحد الذي ننطبع به كما ننطبع بهذه المنضدة مثلًا، أو كما ننطبع بإحدى عواطفنا الداخلية؛ إنني قد أحس إحساسًا مباشرًا حالة «الغضب» أو حالة «العزيمة الإرادية» أو حالة «الحب» أو «الكراهية» كما قد أحس إحساسًا مباشرًا لون الورقة التي أمامي ولمسة القلم بين أصابعي، ولذلك فهذه كلها «كائنات» موجودة وجودًا فعليًّا، أحسست بعضها بحواسي الظاهرة وأحسست الأخرى بحواسي الباطنة؛ لكنني لا أحس «النفس» إحساسًا مباشرًا، لا بحاسة ظاهرة ولا بحاسة باطنة.

يقول هيوم في ذلك:٨٤ إن هنالك فئة من الفلاسفة يصوِّر لها الخيال أن الإنسان في كل لحظة شاعر شعورًا قويًّا وثيقًا بما نطلق عليه كلمة «نفس»؛ وأنه يحس وجودها ويحس استمرار ذلك الوجود استمرارًا متصلًا، ولذلك فهو دائمًا على يقين لا يتطرق إليه الشك بأن له ذاتية كاملة، وأن هذه الذاتية بسيطة التكوين، وليست هي بالمركبة من مجموعة عناصر؛ وتلك الفئة من الفلاسفة لا تحمل نفسها مشقة البرهان على صدق ما تزعم؛ إذ إن كل ما قد يساق برهانًا على هذه الحقيقة — في رأيهم — هو أضعف منها وأقل صلة بنفوسنا، فما من شيء على الإطلاق هو ألصق بشعورنا من وجود «النفس الإنسانية»، أي من وجود ذواتنا، فلو كان ثمة انطباع حسي، فالنفس هي التي تنطبع به، وإذا كان ثمة عاطفة معينة، فالنفس هي التي تنفعل بها لذة أو ألمًا، فبماذا إذن نقيم البرهان على وجودها؟ إننا لو شككنا في وجود «النفس» — هكذا يقول أولئك الفلاسفة — لشككنا بالتالي في كل شيء، ولم يعد ما يمكن أن يُعْلَم علم اليقين.

لكن هيوم يأسف لهذا الموقف من أمثال هؤلاء، ويسألهم: أي انطباع حسي كان مصدر هذه الفكرة — فكرة «النفس» — عندكم؟ إن أية فكرة لا تكون إلا نسخة من انطباع حسي سبق وقوعه على إحدى الحواس — ظاهرة كانت تلك الحواس أو باطنة — فأي انطباع تكون فكرة «النفس» صورته؟ إنه لا بد من الإجابة عن هذا السؤال إذا أردنا أن تكون فكرة «النفس» واضحة مفهومة؛ إنه لا مناص لأية فكرة — كائنة ما كانت — من أن يكون لها أصل بين انطباعات حواسنا، ذلك لو كانت الفكرة جديرة باسمها هذا، ولم تكن مجرد لفظ نقوله ولا نعني به شيئًا محددًا واضحًا؛ ولو كانت «النفس» كائنًا دائم الوجود ما دام صاحبها موجودًا، لزم أن يكون هنالك انطباع حسي دائم التأثير على هذه الحاسة أو تلك، بحيث يكون لفظ «النفس» اسمًا نطلقه على ذلك الأثر الحسي، لكننا لا نجد بين انطباعاتنا الحسية انطباعًا يدوم على حالة واحدة لا يتخلف ولا تصيبه زيادة ولا نقصان، فنجعله أصلًا لهذه «النفس» المزعومة التي نزعم لها الدوام وعدم التغير؛ إن حياتنا الإدراكية سلسلة من حالات لا تتجمع كلها معًا في لحظة واحدة، فالألم واللذة والحزن والسرور وشتى العواطف والإحساسات تتعاقب واحدة في إثر واحدة، ولا يمكن أن تكون فكرة «النفس» مستمدة من واحدة وحدها من هذه الحالات، وإذن فالفكرة نفسها من خلق الوهم وليس لها وجود.

أنقول إن «النفس» ليست حالة معينة من هذه الحالات المتعاقبة، ولكنها هي النواة التي تتعلق بها تلك الحالات الجزئية وإليها تنتمي؟ لكنا نسأل: كيف تتعلق وعلى أي نحو تنتمي؟ إن حالاتنا الإدراكية كلها مختلفات، نستطيع أن نميز بينها ونفرق بين واحدة وواحدة، بل نستطيع أن نتصور وجود كل حالة منها على حدة غير معتمدة في وجودها على سواها، وغير مستندة إلى دعامة تقيمها، فبأي صورة — إذن — تنتمي هذه الحالات المفردة المتتابعة إلى نواة واحدة؟ «أما عن نفسي، فإنني إذا ما توغلت في هذا الذي أسميه «نفسي» توغلًا أحاول به أن أكون على صلة مباشرة بها، فلا أراني دائمًا إلا عاثرًا على هذا الإدراك الجزئي أو ذاك، كأن أقع على إدراك لحرارة أو لبرودة، أو نور أو ظل أو لحب أو كراهية، أو لألم أو لذة، ولم أستطع قط أن أمسك ﺑ «نفسي» في أية لحظة من اللحظات دون أن يكون هنالك حالة إدراكية معينة، ثم لم أستطع أبدًا أن ألحظ من نفسي إلا تلك الحالة الإدراكية وحدها؛ فإذا ما زالت إدراكاتي لفترة معينة، كما يحدث مثلًا في حالة النوم العميق، فإني لا أكون عندئذٍ على وعي ﺑ «نفسي» حتى ليمكن حقًّا أن يقال عني إني لست موجودًا؛ ثم لو زالت كل إدراكاتي بالموت، بحيث لا يعود في مستطاعي أن أفكر أو أن ألمس أو أن أبصر أو أن أحب أو أكره، بعد تحلل جسدي، فإنني عندئذٍ أكون قد محيت محوًا كاملًا.»٨٥ فإذا زعم لي زاعم بعد هذا أنه يختلف وإياي في الرأي، وأنه يستطيع أن يجد له «نفسًا» غير الإدراكات الجزئية التي تعرض له، «فإنني أعترف بأنني عاجز عن المضي معه في حجاج عقلي، وكل ما أسلم له به هو أنه قد يكون على صواب كما قد أكون أنا على صواب، وأننا مختلفان اختلافًا جوهريًّا في هذا الموضوع، إنه قد يكون مدركًا لشيء متصل الوجود بسيط التكوين، يقول عنه إنه «نفسه»، أما أنا فلست أشك في أنني لا أجد عندي شيئًا كهذا.»٨٦
هكذا ينكر هيوم أن يكون في جوف الإنسان كائن واحد متصل اسمه «نفس»، ويمضي في حديثه بعد هذا الإنكار ليقرر وهو مطمئن لصدق ما يقرره، يقرر أن الإنسان ليس إلا «حزمة أو مجموعة من الإدراكات يعقب بعضها بعضًا في سرعة هائلة لا يتصورها خيال، وهي إدراكات لا تنفك في حركة وتدفق لا ينقطعان.»٨٧ إن العين إذا ما دارت في محجرها تغير إدراكها، ولئن كان تغير الإدراكات البصرية بهذه السرعة وبهذا التنوع، فإن تغير الإدراكات الفكرية أشد سرعة وأكثر تنوعًا؛ وقل مثل هذا في شتى حواسنا، كلها تدرك إدراكات متلاحقة سريعة التغير، بحيث لا تظل قوة واحدة من قوى الإدراك ثابتة على مدرك واحد لحظة واحدة؛ إن العقل الإنساني لأشبه شيء بالمسرح، تتعاقب عليه الإدراكات المختلفة الكثيرة تعاقبًا سريعًا واحدًا في إثر واحد، وهي لا تفتأ في مرها هذا السريع يختلط بعضها ببعض لتتكون منها تركيبات لا نهاية لاختلافها ولا حدَّ لصنوفها وأوضاعها، حتى لنستطيع أن نجزم بأن «النفس» لا تكون نفسًا واحدة بسيطة مدى لحظة واحدة من زمن، كلا ولا هي تؤلف «ذاتية» واحدة تصب العناصر المختلفة في كائن واحد، على الرغم مما نتوهمه في أنفسنا من أن كيان الإنسان قوامه نفس بسيطة لها ذاتية فريدة واحدة، «على أن تشبيهنا العقل بالمسرح لا ينبغي أن يضللنا؛ إذ ليس العقل إلا الإدراكات المتوالية، دون أن يكون لهذه الإدراكات مكان معين لظهورها.»٨٨

فإذا كان الإنسان حلقات متتابعة من إدراكات لا تربطها وحدة، فما الذي أوحى إليه بهذا الوهم العجيب، وهو أن هذه الإدراكات المتتابعة إنما تنتمي كلها إلى «ذات» واحدة يستمر وجودها ويتصل من أول الحياة إلى آخرها، ما الذي أوهم الإنسان أن له «نفسًا» أو «روحًا» أو «ذاتًا» لا تنفك قائمة منذ لحظة ميلاده إلى لحظة موته، مع أنه إذا ما نظر إلى باطنه ليلحظ ما هنالك، لم يجد إلا حالات فرادى يتلو بعضها بعضًا، وليس بينها خيط يربطها في ذات واحدة؟

إنه لما كان الشبه شديدًا بين الذاتية التي نخلعها على حياتنا الفكرية، والوحدانية التي نصوغ فيها مجموعة الحالات التي يتألف منها فرد من أفراد النبات أو الحيوان، بحيث نقول عن شجرة معينة أو عن كلب معين — مثلًا — إنها «شجرة واحدة» رغم اختلاف حالاتها، وإنه «كلب واحد» رغم تنوع حالاته، أقول إنه لما كان الشبه شديدًا بين الذاتية التي نخلعها على أنفسنا والذاتية التي نخلعها على فرد معين من أفراد النبات أو الحيوان، فلنتحدث عن النبات والحيوان أولًا على سبيل الشرح والتوضيح.

إنه لا شك في أن لدينا فكرة محددة عن أي شيء معين كيف أنه يظل شيئًا واحدًا مدى فترة من الزمن، لا يتعاوره خلالها تغير ولا يتقطع فيها مجرى وجوده، على الرغم من أننا نعلم أن هذه الوحدانية والاستمرار اللذين نخلعهما على ذلك الشيء المعين لا ينفيان أن لحظات الزمن المختلفة تتعاقب عليه بما تحمل من تغيرات؛ بعبارة أخرى، إن لدينا فكرة محددة عن شجرة معينة أنها تظل هي هي مدى فترة معينة من الزمن، رغم ما يتعاورها من تغيرات مع تعاقب اللحظات الزمنية عليها، وهذه الوحدانية الكامنة وراء الظواهر المتغيرة هي ما نسميه بالذاتية أو بالهوية؛ وإلى جانب هذه الفكرة المحددة التي لدينا عن وحدانية الشيء الواحد، يكون لدينا فكرة محددة أخرى عن «تعدد» الحالات التي تتعاقب عليه، كأنما كل حالة من تلك الحالات الكثيرة كائن قائم بذاته لا علاقة بينه وبين سابقه أو لاحقه أو مصاحباته … هاتان فكرتان محددتان عندنا عن أي شيء معين: فكرة أن له وحدانية في ذاتيته واستمرارًا في وجوده، وفكرة أنه ذو حالات كثيرة وظواهر متعددة يتصل بعضها ببعض على نحو ما لكننا نستطيع تصور كل حالة على حدة كأنما هي كائن مستقل بذاته؛ غير أن هاتين الفكرتين على تميز إحداهما من الأخرى سرعان ما تختلط إحداهما بالأخرى في خيال الإنسان بحيث تتعذر التفرقة بينهما، وتصبح الكثرة هي نفسها الذات الواحدة، كما تصبح وحدانية الذات هي نفسها الحالات الكثيرة التي تتعاقب متصلًا بعضها ببعض؛ وسر ذلك هو أن فعل الخيال الذي نوحد به الشيء هو نفسه الذي نستعرض به الكثرة؛ فترى العقل ينتقل من حالة من حالات الشيء المعين إلى التي تليها ثم التي تليها، انتقالًا يزداد سهولة ويسرًا كلما كثر تكرار هذه العملية إزاء ذلك الشيء الذي يستعرض العقل سلسلة حالاته، فيتوهم الإنسان — لسهولة انزلاقه على سلسلة الحالات المتتابعة — أنه إنما يدرك شيئًا واحدًا لا كثرة من حالات؛ وإن هذا الوهم ليرسخ في أنفسنا رسوخًا إلى حد أننا قد ندقق النظر آنًا فندرك أننا في الحقيقة إزاء حالات متعددة حين نظن أننا إزاء شيء واحد ذي ذات واحدة، لكننا سرعان ما نعود إلى وهمنا الأول، فنثبت للشيء مثل هذه الذاتية الموهومة؛ ثم سرعان ما ننسى أننا منذ لحظة كنا قد دققنا النظر في الأمر وعلمنا ألا ذاتية هناك ولا اتصال في الوجود، ننسى ذلك ويغلب علينا الاعتقاد بأن الشيء الذي نحن بصدده ليس حالات كثيرة متتابعة وكفى، بل إن وراء هذه الكثرة وحدانية ذاتية تمسكها كلها معًا لتجعل منها كائنًا واحدًا، وها هنا ترانا نشطح في الوهم بحيث نفرض أن ثمة مبدأ خفيًّا وراء الظواهر المتغيرة الكثيرة في الكائن الواحد، وأن هذا المبدأ الخفي هو السر في ذاتية الشيء وفي اتصال وجوده، ثم نخطو بعد ذلك خطوة فنطلق على هذا المبدأ المزعوم اسمًا فنسميه «نفسًا» أو «روحًا» أو «جوهرًا»، ولا نلبث أن ننسى أن هذا المبدأ المزعوم هو من خلقنا نحن، وأن ليس هنالك إلا الحالات الكثيرة المتتابعة التي ضممناها معًا بالخيال وفرضنا لها وحدانية واتصال وجود؛ لا بل إننا قد نجاوز هذا الوهم إلى وهم آخر في حالة النبات والحيوان، فلا نكتفي فيهما بمبدأ الذاتية الذي نستعين به على أن نجعل الشجرة «الواحدة» أو الحيوان «الواحد» كائنًا واحدًا، بل نضيف إلى ذلك حقيقة ملغزة مبهمة نتخذ منها رباطًا يربط أجزاء الشجرة «الواحدة» في كائن عضوي «واحد».٨٩

أوهام هي إذن هذه الأشياء الخفية التي نسميها بالذاتية أو بالنفس أو بالروح أو بالجوهر؛ وليس قوام الشيء الذي نعده شيئًا «واحدًا» إلا مجموعة كبيرة من حالات كثيرة منوعة، ارتبطت معًا فيما ظنناه شيئًا «واحدًا» بمبدأ من مبادئ الترابط، كالتشابه أو التجاور أو تلازم السبب والمسبب؛ وما مشكلة «الذاتية» أو «النفس» أو «الروح» أو «الجوهر» إلا مشكلة ألفاظ انتحلناها انتحالًا دون أن تكون لها مسميات مما يمكن أن نقع عليه بين انطباعاتنا أو أفكارنا.

الذاتية التي نخلعها على الشيء هي من خلق خيالنا وليست هي بذات وجود واقعي في الشيء نفسه؛ فحيث يسهل انتقال العقل من إحدى حالات الشيء إلى حالة أخرى، نزعم أن بين الحالتين ذاتية توحد بينهما، وأما حيث يتعذر على العقل مثل هذا الانتقال السهل فها هنا ترانا نتشكك في أن تكون بين الحالات المختلفة ذاتية توحد بينها؛ فانظر مثلًا إلى كتلة من الصخر، ثم افرض أن زيادة طفيفة أضيفت إليها بحيث يتعذر عليك إدراك الفرق بين الحالتين، قبل الزيادة وبعدها، فعنذئذٍ يسهل على العقل أن ينتقل من حالة الصخر الأولى إلى حالته الثانية، ولذلك نحكم بأن الصخرة التي نحن بصددها «واحدة» ذات وجود متصل؛ أما إذا أضيفت إلى الصخرة إضافة كبيرة ملحوظة، أو قطعت منها قطعة كبيرة ملحوظة، بحيث لا يسهل الانتقال بين الحالتين انتقالًا فيه انزلاق لا تعثُّر فيه، لما بين الحالتين من اختلاف ظاهر، فعندئذٍ نقول عن الصخرة إنها لم تعد هي هي، وإنها فقدت ذاتيتها واستمرار وجودها.

والأمر في الجزء المضاف أو الجزء المحذوف، هل هو كبير ملحوظ أم هو صغير غير ملحوظ، أمر نسبة، فقد تضيف جبلًا بأسره إلى كوكب ومع ذلك تقول إن الكوكب لم تتغير ذاتيته ولم ينقطع وجوده المستمر على حالة واحدة، بينما قد تضيف جزءًا صغيرًا أو تحذف جزءًا صغيرًا من جرم صغير فيظهر التغير ظهورًا واضحًا يحملنا على القول بأن ذلك الجرم لم يعد هو هو، بل أصبح شيئًا آخر … الأمر كله موكول إلى سهولة انتقال الفكر بين الحالة قبل حدوث التغير والحالة بعده، فإن كان انتقالًا سهلًا، حكمنا بأن الشيء ما يزال محتفظًا بذاتيته، وإن كان متعذرًا متعثرًا حكمنا بزوال ذاتيته.

يؤيد هذا أن التغير الطارئ، حتى إن كان تغيرًا جسيمًا في النهاية، لكنه حدث متدرجًا في بطء لم نتمكن معه أن نلحظ التغير إلا بعد أن تبعد الشقة بين الطرف الأول والطرف الأخير، فإننا خلال تغير كهذا نظل نحكم بأن الشيء محتفظ بذاتيته وذو وجود متصل؛ ذلك لأن انتقال الفكر من حالة إلى الحالة التي تليها سهل بحيث لا نتنبه عند كل مرحلة أنها مرحلة جديدة تختلف عن سابقتها؛ هكذا نظل خلال التغيرات المتدرجة، حتى إذا ما بعدت الشقة بين الحلقة الأولى والحلقة الأخيرة، فها هنا نستيقظ إلى ما قد حدث من اختلاف، ونأخذ في الارتياب والتشكك بأننا في الحقيقة قد أصبحنا إزاء شيء آخر مختلف عن الشيء الأول، وأنه لم تعد بين الشيئين ذاتية تمسكهما معًا في كائن واحد.

وكذلك مما يميل بخيالنا إلى توهم الذاتية في أجزاء الشيء الكثيرة، أن يكون لهذه الكثرة من الأجزاء هدف واحد، فافرض مثلًا أننا قد غيرنا بعض الأجزاء في سفينة، فإننا سنظل نقول عن السفينة إنها هي هي لم تتغير، لأن أجزاءها — قديمها وجديدها — ما زالت مجتمعة على هدف واحد، ومن ثم يسهل على الفكر أن ينتقل من حالة السفينة قبل إصلاحها إلى حالة السفينة بعد إصلاحها، فيحكم عليها بالتالي أن لها ذاتية واحدة لم تتغير.

ولئن كان الشيء الجامد — كالسفينة في المثل السابق — ترتبط أجزاؤه في ذاتية واحدة بسبب اشتراك تلك الأجزاء في هدف واحد، فإن الكائن الحي — نباتًا كان أو حيوانًا — ليضيف إلى هذا الاشتراك في الهدف عنصرًا آخر، وهو أن الأجزاء معتمد بعضها على بعض، وبهذا يزداد خيالنا إمعانًا في توهمه بأن أجزاء النبتة الواحدة أو الحيوان الواحد مصبوبة كلها في ذاتية توحد بينها في كائن واحد، حتى إن النبتة الواحدة أو الحيوان الواحد قد يصيبه من التغير على مر الزمن ما يجعله جد مختلف عما كان عليه في كثير من الوجوه، ومع ذلك يظل الإنسان يحكم عليه بأنه ما يزال هو هو لم يتقطع مجرى وجوده، ولا زالت عنه فرديته وذاتيته؛ فشجرة البلوط التي تنمو من نبتة صغيرة حتى تصبح شجرة جبارة، نقول عنها إنها ما زالت — رغم هذا الاختلاف البعيد بين الطرفين — هي هي شجرة البلوط الواحدة، مع أنه لم يعد من وجودها الأول ذرة واحدة على حالها، ولا احتفظت بشيء من هيئتها الأولى؛ وقل ذلك بعينه في الرضيع يصبح رجلًا، وفي الرجل تزيد بدانته أو يصيبه الهزال، فسنظل نقول عنه إنه هو هو بعينه ذلك الذي كان؛ إذ نزعم له ذاتية واحدة دائمة متصلة.٩٠

مبدؤنا — إذن — هو أن الذاتية التي نخلعها على أي شيء لنجعل منه كائنًا واحدًا، على الرغم من أنه في حقيقته مجموعة كبيرة من حالات مختلفة، إنما تنشأ حينما يكون انزلاق الخيال خلال هذه الحالات سهلًا يسيرًا، فتوهمنا سهولة الانتقال من حالة إلى الحالة التي بعدها فالتي بعدها وهكذا، بأن هذه الحالات في حقيقتها كائن واحد ذو ذاتية واحدة؛ ولا نستيقظ إلى حقيقته المتكثرة إلا حين يعسر هذا الانتقال.

ولنضرب بعض الأمثلة الموضحة: إذا سمعت صوتًا متقطعًا تفصل أجزاءَه فتراتٌ من سكون، فهذه كثرة من أجزاء ولا شك، لكنك ستقول عن هذه الأجزاء المتعاقبة المتقطعة إنها صوت واحد، وذلك لما بين الأجزاء الصوتية من تشابه يسهل على خيالك الانتقال من جزء صوتي إلى الجزء الذي يليه؛ مع أن حقيقة الأمر هي أن الأجزاء الكثيرة لا تصبح خطًّا صوتيًّا واحدًا بسبب التشابه، بل تظل أجزاءً كثيرة كما هي، لكنه وهم الإنسان سرعان ما يحول ذاتية التشابه إلى ذاتية عددية، أي إنه سرعان ما يجعل من الأجزاء التي تربطها صلة الشبه جزءًا واحدًا متصلًا.

ومن هذا القبيل نفسه أن تقول عن كنيسة معينة — مثلًا — إنها لا تزال هي هي الكنيسة التي كانت بادئ ذي بدء، على الرغم مما قد يحدث من هدمها وإعادة بنائها؛ فقد تكون الكنيسة في حالتها الأولى مبنية بالطوب الأحمر، ثم تهدم ويعاد بناؤها بنوع آخر من الحجر، بل قد يعاد بناؤها على طراز آخر من فن البناء، ومع هذا الاختلاف بين حالتيها في مادة البناء وطرازه، لا بأس عندك في أن تقول عنها إنها هي هي الكنيسة هُدِمت وأُعيد بناؤها، لمجرد كونها تنتمي — مثلًا — إلى فئة معلومة من الناس، أو إلى إقليم كنسي معين؛ فإلى هذا الحد البعيد قد يتجاهل الإنسان وضع الأمور على حقيقتها، وهو أنهما كنيستان لا كنيسة واحدة، ليوحد بين الحالات المتعاقبة في ذات واحدة إن كان لخياله ما يبرر هذا التوحيد.

وانظر إلى النهر كيف يتغير ماؤه وتتغير شطآنه تغيرًا سريعًا، حتى ليستحيل أن يظل على حاله يومًا واحدًا، ومع ذلك ترانا نغضي عن هذه الحقيقة لنضم هذه الحالات المختلفة المتعاقبة في نهر واحد ذي ذاتية واحدة؛ فيكفي — مثلًا — أن يكون التغير أمرًا متوقعًا في ماء النهر ليمضي هذا التغير دون أن يثير اهتمامنا ويوقظ انتباهنا، ولو كان التغير مفاجئًا وملحوظًا لجاز لنا أن نتنبه لحقيقة الحال فنعلم أننا إزاء حالات كثيرة لا إزاء حالة واحدة مستديمة ثابتة؛ وهكذا كلما سنحت الفرصة لفكر الإنسان أن يغضي عن التغير الحادث في الشيء، كان أميل إلى الاعتقاد بأن ذلك الشيء كائن واحد ذو ذات واحدة ووجود واحد.٩١

وننتقل بعد ذلك إلى موضوعنا الرئيسي، وهو الذاتية الشخصية التي ننسبها إلى الفرد الواحد من الإنسان، وسنرى أن الأمر لا يختلف هنا عنه في النبات والحيوان والأشياء الجوامد من طبيعيٍّ ومصنوع؛ فالذاتية التي نصف بها عقل الإنسان، بأن نقول عن ذلك العقل إنه كائن واحد ذو وجود متصل، هي الأخرى وهم كالذاتية التي ننسبها وهمًا لسفينة أو منزل أو شجرة أو نهر.

انظر إلى نفسك من باطن، وستلحظ حالات فرادى من حالات الإدراك، وسترى في وضوح كل حالة من هذه الحالات وهي مفردة قائمة بذاتها، متميزة من سواها، مختلفة عن سابقتها ولاحقتها، ولو كانت «الذاتية» رباطًا يربط كل هذه الحالات الإدراكية في «عقل» واحد لما كانت الفوارق والمميزات بينها بكل هذا الوضوح؛ إن ما نسميه ﺑ «الذاتية» ليس دمجًا لهذه الإدراكات المختلفة المتتابعة، بل هو لا يعدو أن يكون نوعًا من الترابط بين أفكارنا، بحيث تجتمع أو تفترق، دون أن تضيع فردية كل فكرة على حدة؛ فمهما اشتدت الرابطة بين فكرتين، كرابطة السببية مثلًا بين الفكرة التي نقول عنها إنها سبب والفكرة التي نقول عنها إنها مسبَّب لها، فإن هذه الرابطة الشديدة لا تجعل من الفكرتين فكرة واحدة، بل تظل كل فكرة كائنًا قائمًا بذاته، يمكن أن نراه وحده مستقلًّا معزولًا عن غيره؛ إن أفكارنا لترتبط بعضها ببعض، ويدعو بعضها بعضًا على أسس ثلاثة: فإما أن يكون بين الفكرتين تشابه، أو أن يكون بينهما تجاور، أو أن ترتبط إحداهما بالأخرى بالرباط السببي (على أن نفهم «السببية» بالمعنى الذي يقصد إليه هيوم)؛ وليست «الذاتية» رباطًا آخر يضاف إلى هذه الروابط الثلاثة، بل هي كلمة كل معناها في الواقع هو أننا حين ننتقل بخيالنا من فكرة إلى فكرة، يكون الانتقال ميسرًا سهلًا، لشدة ما بين هذه الأفكار من صلة سلُسَت بالتكرار والتعود؛ والذي أسلس هذه الصلة بين الأفكار ومهد الفواصل بينها بحيث أصبحت كأنها ليست قائمة هناك تعوق الانتقال من فكرة إلى فكرة، هو — كما قلنا — تشابه الأفكار حينًا، وتجاورها حينًا آخر، ورابطة السببية بينها حينًا ثالثًا.٩٢

(٨) العاطفة وتحليلها

(٨-١) تقسيم العواطف

لعل البحث في العواطف أن يكون أضعف جانب في فلسفة هيوم، وربما أحسَّ بهذا الضعف هيوم نفسه؛ فقد كان اختصَّ موضوع العواطف بكتاب من الكتب الثلاثة التي كان يتألف منها مؤلفه الأول «رسالة في الطبيعة البشرية»، وكانت هذه الكتب الثلاثة على التوالي هي: الكتاب الأول في العقل البشري، والكتاب الثاني في العواطف، والكتاب الثالث في الأخلاق؛ ولكن «الرسالة» لم تُصِب نجاحًا عند القراء أو عند النقاد، فصمم هيوم على أن يعرض آراءَه نفسها التي في «الرسالة» عرضًا آخر، لعله يسترعي به الأنظار هذه المرة، فأخرج الجزء الخاص بالعقل البشري بادئ ذي بدء، أخرجه في كتاب مستقل جعل عنوانه «بحث في العقل البشري»، وذلك بعد أن لخص آراءَه وركزها وزادها توضيحًا؛ ثم عقب على ذلك بعد حين بالجزء الخاص بالأخلاق؛ إذ أخرجه كذلك في كتاب مستقل جعل عنوانه «بحث في مبادئ الأخلاق»، وترك الجزء الخاص بالعواطف، لم يفكر أول الأمر في إعادة نشره، حتى أصبح مسموع الصوت واسع الشهرة، فأخذ عندئذٍ يراجع الجزء الخاص بالعواطف من «رسالته» لعله مستطيع أن يخرجه هو الآخر في «بحث» مستقل كما فعل في «العقل» وفي «الأخلاق»، لكنه آخر الأمر اكتفى بأن يلخص آراءَه عن «العواطف» — لا في كتاب مستقل — بل في مقال يضيف إليه مقالات أخرى في موضوعات مختلفة، وهاك خلاصة موجزة لوجهة نظره في موضوع «العواطف».

يستخدم هيوم لفظ «العواطف» بمعنًى كان سائدًا في أيامه، وهو يختلف عن المعنى المعروف للكلمة بين علماء النفس في يومنا هذا؛ إذ يستعمل اللفظ ليشمل كل صنوف الغرائز والدوافع النفسية والميول والرغبات والانفعالات بالإضافة إلى ما يسمى اليوم ﺑ «العواطف»؛ لا بل إن هيوم ليستعمل هذا اللفظ ليشمل هذه الجوانب كلها في الإنسان والحيوان على السواء؛ ومع ذلك فهو لا يريد للفظ «العواطف» أن يشمل في معناه الشعور باللذة والشعور بالألم؛٩٣ إذ يجعل هذين الشعورين ضربين من ضروب «الانطباعات الحسية» يختلفان عن سائر الانطباعات وإن يكونا مصاحبين لها؛ ذلك أن «هنالك ثلاثة أنواع من الانطباعات الحسية تحملها لنا الحواس؛ أولها تلك الانطباعات التي تطبعنا بها الأجسام من حيث شكلها وحجمها وحركتها وصلابتها؛ وثانيها الانطباعات التي تحدثها الألوان والطعوم والروائح والأصوات والحرارة والبرودة؛ وثالثها مشاعر الألم واللذة التي تنشأ من التقاء الأشياء بأجسامنا، كالألم الذي يحدث — مثلًا — إذا ما جَرَح الجسم قاطعٌ من الصُّلب وما شابه ذلك»،٩٤ لكنه يعود في موضع آخر من «الرسالة» فيضيف إلى هذا النوع الجسدي من اللذة والألم نوعًا آخر ينشأ عن تأملنا لفكرة في أذهاننا وما إلى ذلك من حالات نفسية تشيع في الإنسان شعور الطمأنينة والرضى، أو شعور القلق والنفور؛ على أن شعور اللذة والألم — جسديًّا كان أو نفسيًّا — ليس دائمًا من طراز واحد، بل هو صنوف كثيرة مختلفة، إن كان بينها من التشابه ما يبرر لنا أن نطلق عليها جميعًا اسمًا واحدًا، هو «اللذة» أو «الألم»، فإن بينها بعد ذلك اختلافات بعيدة، «فالقطعة الجيدة من الموسيقى، والزجاجة من الخمر الجيد، كلاهما يحدث فينا شعورًا باللذة، بل إن جودتهما نفسها إنما تتقرر بهذه اللذة التي يُحدثها كل منهما، لكن هل يجوز لنا بناء على ذلك أن نصف الواحدة منهما بما نصف به الأخرى، فنصف الخمر بأنه منسجم النغم، ونصف الموسيقى بالنكهة الطيبة؟»٩٥
ونعود إلى «العواطف» بمعناها المقصود عند هيوم (وليس بينها الشعور باللذة والشعور بالألم) فنجدها بدورها تنقسم أنواعًا؛ فأولًا هنالك الشهوات الفطرية التي ينشأ عنها جانب كبير من متعتنا؛ فمن الجوع تنشأ لذة الطعام، فها هنا ترى «الجوع» عاطفة فطرية (باصطلاح هيوم) هي الشرط اللازم تحققه لتتحقق معه لذة من لذائذنا؛ والجوع بدوره مشروط بحالات الجسم، وهذه الحالات بدورها متوقفة على مجموعة كبيرة من الظروف؛ ولكن «عاطفة» الجوع رغم اعتمادها على ظروف جسدية معينة، إلا أنها غريزية في ذاتها، أعني أنها لا تتوقف في حدوثها على خبرة لنا سابقة بلذة أو ألم؛ «فأمثال هذه العواطف — أي الشهوات الجسدية — تحدث اللذة والألم، ولكنها لا تنشأ عنهما»،٩٦ وفي رأي هيوم أن هذه المجموعة الجسدية من العواطف، أي الشهوات وما إليها، تشمل إلى جانب الجوع وشهوة الجنس، حب الحياة، والرأفة بالأطفال والحنو عليهم وغير ذلك؛ فكلها عواطف لا تنبني على خبرات سابقة بلذة أو ألم، بل إنها تنبثق من الفطرة رأسًا بغير علة ظاهرة، ولذلك يسميها بالعواطف الأولية.
والمجموعة الثانية من «العواطف» (باصطلاح هيوم) تشمل الحالات الوجدانية، التي إن اتفقت مع الغرائز الفطرية — كالجوع وشهوة الجنس — في أنها هي الأخرى مميزات تصف الطبيعة البشرية، وأنها كذلك تتوقف في حدوثها على تركيب الفطرة الإنسانية، إلا أنها تعود فتختلف عن الغرائز في أن السبب المباشر لحدوثها هو دائمًا خبرة سابقة بلذة أو ألم؛ فمثلًا إذا أحسسنا جوعًا، وكنَّا في سابق خبراتنا قد أكلنا طعامًا معينًا أشبع فينا حالة مماثلة من حالات الجوع، فقد نتذكر الآن هذا الطعام، فيثير هذا التذكر شعورًا باللذة، هو الشعور الذي كنَّا قد نعمنا به في تلك الخبرة السابقة؛ وهذه اللذة المستثارة بدورها تثير فينا انطباعًا متميزًا مستقلًّا قائمًا بذاته، هو الذي نطلق عليه اسم «الرغبة»، فإن هذه «الرغبة» الحاصلة هي من قبيل عواطف المجموعة الثانية، وهي عواطف — كما أسلفنا — تشبه عواطف المجموعة الأولى في أنها ناتجة عن الفطرة الحيوانية أو الإنسانية، لكنها تختلف عن عواطف المجموعة الأولى في أنها مسبوقة بخبرات ماضية من لذائذ وآلام؛ ولذلك يسميها بالعواطف الثانوية، فلئن صح أن نسمي المجموعة الأولى ﺑ «الغرائز» فقد يصح أن نسمي المجموعة الثانية ﺑ «الحالات الوجدانية»؛ ومن قبيل هذه الحالات الحزن والفرح والأمل والخوف واليأس ثم الإرادة مضافة إلى كل منها؛ هذه هي «عواطف» المجموعة الثانية التي يصفها هيوم بأنها «العواطف المباشرة».٩٧

ومجموعة ثالثة من العواطف تنشأ — كما تنشأ عواطف المجموعة الثانية — نتيجة لاستثارة خبرة ماضية خبرناها من حيث الشعور باللذة أو الألم، إلا إن هذا الشعور — في هذه الحالة — حين تستثار ذكراه، يجيء مصحوبًا بأفكار بينها وبين «النفس» صلة أو صلات؛ ومعنى ذلك أن العاطفة في هذه الحالة حين يترتب حدوثها على خبرة ماضية باللذة أو الألم، فإنها لا تجيء وحدها، بل تجيء مصحوبة بصفات أخرى، ويصف هيوم هذه المجموعة الثالثة من العواطف بأنها «العواطف غير المباشرة» وعددها أربعة: الزهو والضعة، والحب والكراهية، وسنعود بعد قليل إلى ذكرها وتحليلها.

ولما كانت العواطف المباشرة وغير المباشرة على السواء ناتجة عن خبرة ماضية بشعور اللذة أو الألم، فإن هذين النوعين من العواطف قد يحدثان معًا في وقت واحد؛ إذ يجوز — مثلًا — أن تنتج عن الخبرة الماضية باللذة أو الألم إحدى العواطف المباشرة كالحزن أو الفرح، كما تنتج في الوقت نفسه — بسبب وجود صفات أخرى غير مجرد اللذة أو الألم — إحدى العواطف غير المباشرة كالحب أو الكراهية، فيكون الموقف الواحد باعثًا على الفرح والحب معًا، أو على الحزن والكراهية معًا؛ بل إن نوعي العواطف — المباشرة وغير المباشرة — إذا ما استثيرا معًا في موقف واحد، كان كل منهما عاملًا على الزيادة من قوة الآخر.٩٨
وهنالك — أخيرًا — مجموعة رابعة من العواطف، تختلف عن المجموعات الثلاث التي أسلفنا ذكرها، في أمرين: تختلف عنها أولًا في أنها هادئة دائمًا، لا تتسم بما تتسم به أنواع العواطف الأخرى من عنف وشدة، ولعل هدوءها هذا — كما يقول هيوم — هو السبب في أنها كثيرًا ما كانت تُعزى إلى العقل بدل أن تُعزى إلى الشعور، كأنما هي من قبيل الأحكام العقلية والاستدلالات المنطقية لا من قبيل العواطف؛ ثم هي تختلف — ثانيًا — عن سائر أنواع العواطف في أنها تنشأ نتيجة لمجرد تأملنا للجمال أو القبح الذي يكون في الأفعال أو الأشياء؛ فهي عواطف أقرب إلى أن تكون بمثابة الرضى أو السخط يبديه الإنسان إزاء فعل معين أو كائن خارجي معين؛٩٩ إنها هي العواطف التي نحسها حين ننتشي برؤية الجميل وحين ننفر لرؤية القبيح، وهي هي بعينها العواطف التي نحسها إذ نثني على فضيلة أو نذم رذيلة؛ ولما كانت أمثال هذه العواطف إنما تنشأ «مباشرة» عن حالة التأمل، كان الأنسب لها أن تضم إلى العواطف المباشرة، لا إلى العواطف غير المباشرة.

تلك هي أقسام «العواطف» الأربعة في رأي هيوم، نلخص مميزاتها فيما يلي: فهي تنقسم بادئ ذي بدء إلى «أولية» و«ثانوية»، أما العواطف الأولية فهي التي تنشأ عن الفطرة الغُفْل، وعن الدوافع الغريزية، غير معتمدة على سابق خبرة من لذة أو ألم، وتلك هي شهوات البدن من جوع وما إليه؛ وأما العواطف الثانوية فهي التي وإن تكن ناتجة عن الدوافع الفطرية الغريزية، إلا أنها تعتمد أيضًا على خبرة سابقة من لذة أو ألم.

وتعود العواطف الثانوية فتنقسم قسمين: مباشرة وغير مباشرة؛ أما المباشرة منها فهي التي لا تحتاج عند استثارتها إلا إلى الخبرة السابقة من لذة أو ألم، وأما غير المباشرة فهي التي تحتاج إلى جانب اللذة أو الألم إلى صفات أخرى، والعواطف المباشرة صنفان: عنيفة وهادئة؛ فالعنيفة هي عواطف الإقبال نحو شيء أو النفور من شيء، والفرح والحزن، والأمل والخوف، ثم الإرادة مضافة إلى كل منها، والهادئة هي التي تنشأ عن تأمل الأفعال والأشياء تأملًا يستحسن منها جانبًا ويستقبح آخر؛ والعواطف غير المباشرة، التي تنشأ من الخبرة السابقة بلذة أو بألم مضافًا إليها صفات أخرى، أربعة: الزهو والضعة والحب والكراهية١٠٠ وهذه هي العواطف التي سنتناولها الآن بحديث خاص.

(٨-٢) الزهو والضعة، والحب والكراهية

الزهو والضعة — عند هيوم — هما بمثابة الانطباعات «البسيطة» ولذلك فهما لا يُعَرَّفان بشيء سواهما، بل لا بد من ممارستهما ممارسة مباشرة، وكل ما في مستطاعنا أن نقوله عنهما هو أن نصف بعض الظروف التي تحيط بهما، وتكون شرطًا لحدوثهما؛ وأول هذه الظروف وأبرزها وأوضحها هو علاقة هاتين العاطفتين بالنفس أو الذات؛ لأنه حيث لا تدخل ذات الإنسان المدرِك عنصرًا من عناصر الموقف، فلا يكون ثمة زهو أو ضعة، «فالذات في جميع الحالات هي طرف الغاية من الزهو أو الضعة» بمعنى أن الإنسان إذ يحس شعور الزهو أو شعور الضعة، فلا بد أن يكون الموقف مرتبطًا بذاته على نحو ما.

إن عاطفة الزهو في ذاتها، أو عاطفة الضعة في ذاتها، لا تحتوي بين مقوماتها نفس الإنسان صاحب هذه العاطفة أو تلك؛ إنك إذا ما حللت أيًّا من هاتين العاطفتين في حدود نفسها وفي داخل كيانها فلن تجد نفس الإنسان عنصرًا من عناصرها؛ لكن كلًّا من هاتين العاطفتين إذا ما استثيرت، فلا تلبث أن تلوي أبصارنا إلى فكرة النفس أو الذات، وتركز انتباهنا على تلك الفكرة؛ وليس معنى ذلك أن عاطفة الزهو أو عاطفة الضعة تخلق فكرة الذات خلقًا وتولدها توليدًا، بل إن هذه الفكرة قائمة أبدًا أمام عقولنا وكل ما في الأمر هو أننا بحاجة إلى ما يوجه التفاتنا إليها، ومثل هذا التوجيه هو ما تفعله هاتان العاطفتان.

«واضح أن الزهو والضعة، رغم ما بينهما من تضاد، يتجهان نحو هدف واحد بعينه، وذلك الهدف هو الذات (أو النفس) أو إن شئت فقل هو ذلك التتابع الحادث بين أفكار وانطباعات يرتبط بعضها ببعض على نحو ما، وتكون موضع تذكرنا ووعينا؛ فهاتان العاطفتان إذا ما استثيرت إحداهما فينا، ركزت انتباهنا في تلك النفس»١٠١ ووجهت أنظارنا إليها؛ أو بعبارة أخرى، إن عاطفة الزهو عند الإنسان المزهو، أو عاطفة الضعة عند من يحس الضعة، إنما تلفت نظره إلى «نفسه»، بحيث يجوز لنا أن نقول إن «النفس» هي الهدف الذي تستهدفه هاتان العاطفتان من وجهة سيرهما، أو قل هي طرف النهاية الذي ينتهيان عنده.
وأما طرف البداية الذي تنشأ عنده كل من هاتين العاطفتين، أو إن شئت فقل «العلة» التي عنها تصدر عاطفة الزهو أو عاطفة الضعة، فهي ما يطلق عليه هيوم اسم «موضوع العاطفة»؛ وإذن فهنالك لكل من عاطفتي الزهو والضعة، موضوعها الذي تبدأ منه وهدفها الذي تنتهي إليه؛ وبديهي أنه على الرغم من التشابه بين هاتين العاطفتين من حيث إطار التكوين وطريقة السير، فمحال أن يكون ما يسبب حدوث الأولى هو نفسه ما يسبب حدوث الثانية، ومحال — بالتالي — أن تكون «النفس» هي علة حدوث هذه أو تلك، لأنها لو كانت علة، لاجتمع الضدان في علة واحدة … نعم إن «النفس» أو «الذات» لا تكون علة للزهو ولا علة للضعة، وإن تكن الهدف الذي ينتهيان إليه معًا؛ إنها لا تثير هذه العاطفة أو تلك، لكن العاطفة إذا ما استثيرت، جعلت النفس غايتها التي تتجه إليها بالتفات صاحبها؛ تثور عاطفة الزهو أو عاطفة الضعة، فينتقل الإنسان منها إلى فكرة أخرى سواهما، هي فكرة «النفس» التي هي نفسه؛ «فكأن العاطفة موضوعة بين فكرتين، إحداهما فكرة العلة التي تُحدثها، والأخرى هي فكرة «النفس» التي تنتهي إليها.»١٠٢

وليس الطرف الذي هو مبعث العاطفة مؤلفًا من الصفة التي تعمل على توليد العاطفة فحسب، بل إن هيوم ليفرق بين هذه الصفة وبين «الموضوع» الذي تكون هذه الصفة قائمة فيه؛ ولا بد في جميع الحالات أن يكون هذا «الموضوع» مركبًا من عدة عناصر، تكون إحداها فكرة النفس؛ إذ ما الصفات التي تثير فينا عاطفة الزهو؟ إنها تكون واحدة من ثلاثة أنواع: فهي إما أن تكون صفة نفسية من صفات النفس ذاتها، كالفطنة والرأي الثاقب والعلم والشجاعة والعدل؛ وإما أن تكون موهبة جسدية تتصف بها النفس أيضًا، كالجمال والقوة وإجادة اللعب بالرمح وما إلى ذلك؛ أو أن تكون صفة تصف شيئًا أو شخصًا — ليس هو النفس ذاتها — ولكنه متصل بها على نحو ما، كالأبناء والأقرباء ومنازلنا وحدائقنا والوطن الذي ننتمي إليه وهكذا، في هذه الأنواع الثلاثة من الصفات التي تثير فينا عاطفة الزهو، نلاحظ أن «الصفة» التي هي مثار العاطفة تكون قائمة في «موضوع» مما يتصل بالنفس على صورة من الصور، كأن تكون النفس جزءًا منه، أو أن يكون هو في حيازة النفس أو على علاقة بها؛ مثال ذلك حين يشعر صاحب منزل بالزهو بمنزله، فالصفة التي تثير فيه هذا الزهو هي الجمال — مثلًا — لكن هذا الجمال لا بد أن يكون قائمًا في موضوع الزهو الذي هو المنزل في هذه الحالة، فما كل جمال في أي منزل يثير في الرائي زهوًا، بل يتحتم أن يكون «الموضوع» على صلة بالنفس، فالمنزل في هذا المثل ملْكٌ للنفس الشاعرة بالزهو، ولو لم تكن هنالك هذه العلاقة لاكتفى صاحب النفس بالتمتع بالجمال، ولم يكن في الموقف عاطفة الزهو بموضوع ذلك الجمال؛ فإذا أريد للشعور بالنشوة إزاء الشيء الجميل أن يقترن بالشعور بالزهو، فلا مناص من أن تكون نفس صاحب هذا الشعور جزءًا من الموضوع الباعث عليه.

ونقيض الصفات التي ذكرناها باعثة على الشعور بالزهو، هو صفات — إذا ما وجدت في شيء ما — بعثت على الشعور بالضعة؛ أعني أنه إذا وقف الإنسان إزاء شيء فيه ما يدل على الغباء وخطل الرأي والجهل والجبن والظلم والقبح والرذيلة … إلخ، ثم إذا كانت نفسه متصلة على نحو ما بذلك الشيء الذي تكون تلك الصفات صفاته، أثار فيه الشعور بالضعة.

وهكذا يجعل هيوم «نفس» الإنسان عنصرًا من عناصر الموقف عند الشعور بالزهو أو الشعور بالضعة، وذلك بمعنيين، فهي عنصر في الموقف باعتبارها جزءًا من الموضوع الذي يثير ذلك الشعور، ثم هي كذلك عنصر في الموقف باعتبارها الهدف الذي يستهدفه ذلك الشعور؛ أو إن شئت فقل إن «النفس» — نفس الإنسان الشاعر بعاطفة الزهو أو الضعة — هي جزء من سبب تلك العاطفة، وهي وحدها المتعرضة لما تحدثه تلك العاطفة من أثر.

فكأنما الشعور بالزهو أو بالضعة مرحلة تبدأ من النفس وتنتهي إلى النفس، تبدأ منها باعتبارها جزءًا من موضوع مركب متعدد العناصر، هو الموضوع الذي يثير العاطفة، وتنتهي إليها وهي قائمة وحدها؛ وبين البداية والنهاية خطوتان شعوريتان، أولاهما الشعور بالنشور والارتياح في حالة الزهو، وبالانقباض والقلق في حالة الضعة، وثانيتهما اقتران تلك النشوة أو هذا الانقباض بالذات بحيث يتولد في النهاية زهو أو ضعة.

هذا التحليل لعاطفتي الزهو والضعة هو نفسه الذي يطبقه هيوم على عاطفتي الحب والكراهية، مع فرق واحد، وهو أن «النفس» التي يتحتم أن تكون جزءًا من الموضوع الباعث على العاطفة، كما يتحتم أن تكون هدفًا تنصبُّ عليه العاطفة، هي نفس صاحب العاطفة في حالة الزهو أو الضعة، لكنها تكون نفس شخص آخر في حالة الحب أو الكراهية؛ فأنت تزهو بنفسك أنت وتشعر بضعة نفسك أنت، لا بنفس إنسان سواك، لكنك إذ تحب أو تكره فإنما تصبُّ الحب أو الكراهية على نفس أخرى لا نفسك أنت.

لا بد في حالة الحب أو الكراهية — كما هي الحال في حالة الزهو والضعة — من موضوع خارجي يثير العاطفة، والموضوعات التي تثير الحب والتقدير كثيرة، منها الفضيلة والمعرفة والفطنة والرأي الصائب وروح الفكاهة الجيدة؛ وأضداد هذه الموضوعات تثير الكراهية والازدراء.١٠٣

وكذلك يثير الحب والتقدير صفات جسدية معينة كالقوة والجمال والرشاقة وما إليها، وأضدادها تثير كذلك الكراهية والازدراء.

على أن هذه الموضوعات الكثيرة المختلفة لا بد أن تشترك كلها في أنها تكون على صلة سببية بالشخص المحبوب أو المكروه، كما تشترك كلها كذلك في أن من خصائصها ما يبعث على الشعور باللذة والارتياح أو بالألم والقلق.

والخلاصة هي أن عاطفتي الزهو والضعة من ناحية، وعاطفتي الحب والكراهية من ناحية أخرى تتشابه في أمر وتختلف في أمر، فهي تتشابه في أنها عواطف تثير الارتياح (في حالتي الحب والزهو) أو تثير القلق (في حالتي الكراهية والضعة)، وهي تختلف في أن الزهو والضعة يتصلان بنفس الشاعر بهما، وأما الحب والكراهية فيتصلان بنفس إنسان آخر غير من يشعر بهما، أي إن الإنسان يشعر بالزهو أو الضعة إزاء نفسه، ويشعر بالحب والكراهية إزاء إنسان سواه.

(٨-٣) المشاركة الوجدانية

تتصل المشاركة الوجدانية بموضوع العواطف وإن لم تكن في ذاتها عاطفة بعينها؛ فمن خصائص الإنسان الفطرية أن يشارك الناس بعضهم بعضًا فيما يحسونه من عواطف، وهي خصيصة يقول عنها هيوم: ليس في طبيعة الإنسان كلها ما هو أهم منها وأخطر، وهو يعرِّف «المشاركة الوجدانية» بأنها ذلك الميل الفطري الذي يميل بالإنسان نحو أن ينقل لنفسه ميول الآخرين وعواطفهم، مهما يكن من اختلاف، بل من تضاد، بينها وبين ما عنده هو من ميول وعواطف؛ وطريقة هذا الانتقال هي كما يأتي: يشاهد الواحد منا في الآخر ظواهر معينة، فتكون هذه المشاهدة انطباعًا على حواسه؛ ثم عن طريق الترابط تستدعي هذه الظواهر الجسدية المرئية ما كان قد ارتبط بها في خبرته هو الماضية من عاطفة؛ فمثلًا يرى الواحد منَّا في شخص آخر اصفرارًا في الوجه وارتعاشًا في الأطراف … إلخ، فيتذكر من خبرته الماضية ما كان قد حدث له هو نفسه من ظواهر شبيهة بما يرى الآن في سواه، ولما كانت تلك الظواهر في خبرته الماضية قد ارتبطت عنده بالخوف، بحيث ارتبطت «فكرة» هذه الملامح الجسدية عنده ﺑ «فكرة» الخوف، فإن الانطباع الذي تنطبع به حاسته الآن مما يرى في سواه، تستدعي عنده عاطفة شبيهة بالعاطفة التي كانت قد صحبت عنده مثل هذه الظواهر الجسدية، أي إنها تستدعي في نفسه شعور الخوف؛ أو بعبارة موجزة واضحة، تكون المراحل التي تنتقل بها المشاركة الوجدانية كما يلي: رؤية علامات جسدية معينة في شخص آخر، فيستدعي ذلك عندنا «فكرة» عاطفة معينة مرتبطة بتلك العلامات الجسدية، ثم تستثير هذه «الفكرة» العاطفة نفسها التي تكون هذه «الفكرة» صورتها الذهنية؛ وبهذا تنشأ عند الرائي نفس العاطفة التي يتأثر بها الشخص المرئي؛ فإن كان الشخص المرئي مرحًا، نشأت عند الرائي عاطفة المرح، وإن كان حزينًا، نشأت عند الرائي عاطفة الحزن وهكذا.

وفي شرح عملية الانتقال الوجداني هذه من شخص إلى آخر، يستخدم هيوم مبدأً عامًّا عرضه في تحليله للجانب العقلي من الإنسان (وقد أسلفناه لك في هذا الكتاب عند الحديث عن حقيقة الاعتقاد في الفصل السادس)، ومؤداه أن الإنسان إذا ما انطبعت إحدى حواسه — كحاسة البصر مثلًا — بانطباع معين، فإن هذا الانطباع تبعًا لقوانين الترابط، سيستدعي ما يرتبط به من «أفكار»، ثم على حسب قوة الانطباع وشدة وضوحه تكون قوة «الفكرة» المستدعاة وشدة وضوحها؛ فإن كان الانطباع الراهن قويًّا ناصعًا، كانت الفكرة التي يستثيرها في أذهاننا قوية ناصعة كذلك، حتى ليظن الإنسان عندئذٍ أنه ليس إزاء «فكرة» في ذهنه، بل إزاء انطباع حسي.١٠٤
وها هنا نلاحظ شبهًا قريبًا بين «المشاركة الوجدانية» في مجال العواطف، وبين «الاعتقاد» في مجال الأفكار العقلية؛ فكما أن «الاعتقاد» في صواب فكرة معينة ليس هو نفسه فكرة بين الأفكار، بل هو «طريقة» مثول هذه الفكرة في الذهن، فكذلك «المشاركة الوجدانية» ليست عاطفة بين العواطف، بل هي «طريقة» حدوث العاطفة في نفس الشخص العاطف؛ أو بعبارة أخرى لو أردت تحليل المحصول الفكري عند الإنسان إلى عناصره ومقوماته، فلن تجد «الاعتقاد» واحدًا منها، وكذلك لو حللت عواطف الإنسان إلى مفرداتها فلن تجد «المشاركة الوجدانية» عاطفة منها؛ لأن كليهما «طريقة» مثول أو حدوث وليسا هما بالعنصرين القائمين بذاتَيهما بين مفردات «الأفكار» أو مفردات «العواطف»؛ فما «الاعتقاد» في مجال الأفكار من ناحية، و«المشاركة الوجدانية» في مجال العواطف من ناحية أخرى، سوى انتقال قوة وضوح انطباع راهن إلى الفكرة التي يستدعيها في الذهن ذلك الانطباع، حتى إذا ما كانت الفكرة المستدعاة قوية الوضوح، عملت في الإنسان كما لو كانت انطباعها الأوَّلي الأصيل.١٠٥

(٩) في الأخلاق

إنه ليس مما يحتمل الشك أننا إذ نحكم على الناس بما يرفعهم أو يخفضهم في أنظارنا، فإنما نصدر في هذه الأحكام عن صفات نلتمسها فيمن نحكم عليه، كما أننا نلجأ في أنفسنا إلى أساس نحتكم إليه، وسؤالنا الآن هو هذا: بأي معيار وعلى أي أساس نحكم بالفضل أو بعدمه في هذا الشخص أو ذاك؟ أنقيم حكمنا على أساس من العقل أم على أساس من العاطفة؟ هل تكون أحكامنا الخلقية نتيجة حجاج منطقي وبرهان عقلي أم تكون صادرة عن شعور باطني نحسه في أنفسنا إحساسًا مباشرًا؟ هل تكون تلك الأحكام من قبيل القضايا العقلية — كنظريات الهندسة مثلًا — التي يتفق عليها الناس جميعًا ما دام برهانها مقبولًا عند العقل، أم تكون من قبيل إدراكنا للجمال والقبح إدراكًا يختلف فيه فريق منَّا عن فريق اختلافًا يسببه اختلاف التربية والظروف؟

إن الفلاسفة الأقدمين — كما يقول هيوم١٠٦ — على الرغم من أنهم يؤكدون بأن الفضيلة ليست سوى مطاوعة العقل في أحكامه، إلا أن تأكيدهم ذاك لم يَعْدُ مجرد القول؛ لأنهم غالبًا ما يتحدثون عن الفضيلة وكأنما هي مستقاة من الذوق والعاطفة لا من العقل والمنطق؛ ومن الناحية الأخرى ترى الفلاسفة المحدثين على عكس ذلك، يدافعون عن وجهة النظر القائلة بأن الأحكام الخلقية قائمة على الذوق والعاطفة، شأنها في ذلك شأن الجمال، إلا أنهم يعودون فيحاولون إقامة الحجة العقلية على ما يقولون؛ فلا القدماء ولا المحدثون خلوا من هذا التناقض، فكلا الفريقين حائر: أيجعل الأخلاق وأحكامها من شأن العقل وحده أم من شأن الذوق وحده أم يتردد في قوله بين العقل والذوق، يأخذ بهذا مرة وبذلك مرة؟

أما هيوم فالرأي عنده صريح واحد، وهو أن الحكم الخلقي قائم على الذوق أو العاطفة، على أن يقوم العقل ببيان تفصيلات الموقف لكي يتاح للإنسان أن يميل بعاطفته أو ينفر.

يستحيل أن يكون العقل وحده مصدرًا لحياتنا الخلقية؛ لأن المعرفة العقلية لا يترتب عليها عمل، والأخلاق صميمها عمل؛ ذلك أن المعرفة العقلية نظرية، وقيام الرأي النظري في العقل لا يكفي وحده أن يحرك الإنسان في دنيا الفعل والسلوك، إننا في المجال الفكري النظري نحكم على الفكرة المعينة بالصواب أو بالخطأ، أما في المجال السلوكي العملي فنحكم على الفعل بالخير أو بالشر، وهكذا يختلف نوع الحكم في كل من المجالين.

لكن ماذا يراد بكلمة «العقل» عند هيوم، هذا العقل الذي يقول عنه إنه وحده عاجز عن حمل صاحبه إلى مجال السلوك والعمل؟ إنك لتستطيع أن تستخلص مما أسلفناه لك في الفصول الأولى من هذا الكتاب معنى «العقل» عند هيوم على وجه التحديد،١٠٧ فهو يصرف هذه الكلمة إلى إحدى عمليتين، فإما أن يقتصر الإنسان على تحليل الأفكار التي في رأسه ليحدد العلاقات القائمة بين فكرة وفكرة، وفي هذه الحالة لا ينصب تفكيره على شيء من أشياء العالم الخارجي الواقع، ويكون طريق سيره في تفكيره هذا استنباطيَّا صرفًا، بمعنى أنه يستولد فكرة من فكرة، وتكون النتيجة التي يصل إليها صادقة، لا لأنها تشير إلى واقعة من وقائع العالم الخارجي، بل لأن عملية الاستنباط قد سلمتْ من الخطأ؛ والعلوم الرياضية هي التي تقوم على هذا النوع من التفكير، وأما العملية الثانية التي يطلق عليها هيوم كلمة «العقل» أيضًا، فهي عملية استدلال وقوع المسبَّب إذا وقع سببه؛ فها هنا ليس الأمر مقتصرًا على تحليل الأفكار وحدها بحيث أستنبط فكرة من فكرة بغض النظر عن دنيا الواقع، بل الأمر متصل بما يقع فعلًا في دنيا الواقع، فأضع قطعة الثلج — مثلًا — قريبًا من النار، فأتوقع — بناء على خبراتي الماضية — أنها ستذوب ماءً سائلًا بفعل الحرارة؛ ومثل هذا الاستدلال السببي هو أساس العلوم الطبيعية.

هاتان هما العمليتان الوحيدتان اللتان تكوِّنان «العقل» عند هيوم، فلا يجوز إطلاق هذه الكلمة على أي حكم لا ينطوي تحت واحدة منهما؛ وهو إذ يقول بمناسبة حديثه عن مبادئ الأخلاق إن «العقل» وحده عاجز عن حمل الإنسان على السلوك والعمل، وبالتالي فهو لا يكفي وحده أن يكون مصدرًا للأخلاق، فإنما يريد بهذا القول على وجه التحديد أن كلًّا من هاتين العمليتين الفكريتين لا تتضمن بطبيعتها أن يصحبها عمل.

أما العملية الأولى، فهي — كما قلنا — مقتصرة على ربط أفكارنا بعضها ببعض، كأن أربط — مثلًا — بين فكرتي «المثلث» و«الزاوية» بحيث أقول عن المثلث إن زواياه مجموعها لا بد أن يكون قائمتين، لماذا؟ لا لأني قست مثلثًا معينًا فوجدته كذلك، فأنا أستطيع أن أقول هذا عن المثلث حتى ولو لم يكن في العالم الواقعي كله مثلث واحد؛ إنما أقول هذا عن المثلث نتيجة لتحليل «الفكرة» في ذاتها وإبراز خصائصها ومقوماتها التي منها أن زواياه مجموعها قائمتان؛ هذه نتيجة تلزم بالضرورة عن تعريف المثلث ذاته، وتعريف المثلث «فكرة» في رأسي؛ وإذن فالتفكير الذي هو من هذا النوع التحليلي — كالرياضة — لا شأن له بالعالم الخارجي، وبالتالي فلا شأن له بالسلوك العملي، أي إنه — وحده — لا يكون مصدرًا لحياة الإنسان الخلقية كما يزعم الفلاسفة العقليون.

إن الإنسان في تفكيره الرياضي كله لا يلجأ إلى «الخبرة العملية» ليقيم البرهان على صدق تفكيره؛ لأن القضية من قضايا الرياضة شرطية دائمًا، بمعنى أننا بمثابة من يقول: «إذا سلمنا بصدق كذا وكذا من الفروض، نتج كذا وكذا.» مثال ذلك قولنا: «إذا كان ثمة شيء على شكل مثلث فإن زواياه تساوي قائمتين.» وليس في هذا القول بالطبع اعتراف أو تسليم بأن هنالك شيئًا ما على شكل مثلث، لكن «إذا» تحقق الفرض، تحققت معه النتيجة؛ الخبرة العملية هنا هي التي تنبئنا إن كان ثمة شيء ما على شكل مثلث أو لم يكن، لكن هذا النبأ في ذاته لا يضيف قوة إلى البرهان الرياضي بأن زوايا المثلث تساوي قائمتين؛ ولما كان الجانب العملي السلوكي من حياتنا متصلًا بالأشياء الفعلية الواقعية، ثم لما كانت «الأخلاق» متصلة بهذا الجانب العملي السلوكي، كانت العلاقة مبتورة — كما ترى — بين التفكير النظري الذي هو من النوع التحليلي الرياضي وبين الجانب الإرادي الفعلي السلوكي الذي هو جانب الأخلاق.

إذن فهذا معنى من معنيي «العقل» قد فرغنا منه، وننتقل إلى المعنى الثاني لهذه الكلمة عند هيوم، وهو — كما قدَّمنا — الحكم بأن شيئًا معينًا سيحدث ما دام قد حدث شيء آخر؛ لأننا قد عرفنا من خبراتنا السابقة أن الشيئين مرتبطان في الحدوث، ونحن نزعم أن «العقل» بهذا المعنى أيضًا لا يمكن أن يكون مصدرًا كافيًا للفعل الخلقي؛ ذلك لأن كل ما تدلنا عليه خبراتنا هو أن الأمور هكذا تقع، لكنها لا تدلنا على أن في الأمر «وجوبًا»؛ ولما كانت القضية من قضايا الأخلاق فيها معنى «الوجوب» دائمًا، فنقول: «يجب أن تفعل كذا وألَّا تفعل كيت.» ثم لما كانت خبراتنا الحسية الماضية خالية من فكرة «الوجوب» هذه، إذن فليس «العقل» — بهذا المعنى الثاني — مصدرًا للأحكام الخلقية١٠٨ وفيما يلي عبارة هامة يقولها هيوم في هذا الموضوع:
«في كل فلسفة مما قد صادفته حتى الآن من فلسفات الأخلاق لاحظت دائمًا أن المؤلف يمضي في حديثه حينًا ما مستطردًا في تدليلاته على الطريقة المألوفة، فيؤكد وجود الله، أو يثبت بعض ملاحظاته عن شئون البشر؛ ولشد ما أدهش إذ أراه فجأة، بعد أن يكون في قضاياه مقرِّرًا لما هو كائن أو ما ليس بكائن، ينتقل إلى طائفة من قضايا مشتملة كلها على «يجب» أو «لا يجب»؛ إنه انتقال قد يخطئه النظر، لكنه بالغ الأهمية؛ لأنه لما كانت لفظة «يجب» أو «لا يجب» تشير إلى نوع جديد من علاقات الإثبات، كان من الضروري أن نضعها موضع البحث والتفسير، كما يتحتم في الوقت نفسه أن نبين … كيف تسنى لهذه العلاقة الجديدة أن تُستنبط من غيرها الذي هو مختلف عنها كل الاختلاف.»١٠٩ بعبارة أخرى موجزة، يريد هيوم أن يقول إن «الوجوب» الذي تراه في الأحكام الخلقية لا يستمد من أحكام العقل بنوعَيها؛ لأن أحكام العقل تقرر ما هو كائن، وإذن فهذا «الوجوب» إضافة ليست تستند إلى مقدمات عقلية.
وإذا لم يكن «العقل» وأحكامه مصدر أحكامنا الخلقية، فما مصدرها إذن؟ على أي أساس أحكم بأن هذا الفعل فضيلة وذلك الفعل رذيلة؟ إن هيوم ليصرُّ على أساس يقيم عليه الأخلاق لأنه لا يقر الشُّكَّاك على وجهة نظرهم القائلة بألا أساس للأخلاق، وأن لكل فرد أن يفعل ما يشاء ويهوى؛ فلئن كان إنكاره أن يكون «العقل» سندًا لأخلاق ومصدرًا لها مما يؤيد الشُّكَّاك في وجهة نظرهم هذه، فهو لا يريد أن يترك الأمر عند هذا الإنكار حتى لا يُعد واحدًا منهم؛ فإذا لم يكن «العقل» عنده هو أساس الأخلاق فليلتمس هذا الأساس في جانب آخر من الطبيعة البشرية.١١٠
وحين يلتمس هيوم في الطبيعة البشرية أساسًا للأخلاق، يحاول ألا يخرج عن حدود مذهبه بأن ليس ثمة عند الإنسان إلا «انطباعات حسية» و«أفكار» — و«الأفكار» عنده هي نفسها «الانطباعات الحسية» بعد زوال المؤثرات التي أحدثتها — ولذلك تراه يبحث عن أساس للأخلاق بحيث لا يتناقض مع مذهبه الرئيسي، وهذا لا يكون — بطبيعة الحال — إلا إذا كانت «أفكارنا» الخلقية — كغيرها من الأفكار — صورًا لانطباعات حسية؛ ولكن ماذا عساها أن تكون تلك الحاسة التي تنطبع بمؤثر معين بحيث تكون صورة هذا الانطباع فيما بعد فكرة خلقية عن فضيلة أو رذيلة؟ إنها بالطبع لا تكون العين ولا الأذن ولا اللمس، وإذن فلا بد أن تكون لدينا «حاسة خلقية» يكون أمرها كأمر بقية الحواس في كونها تنطبع انطباعًا مباشرًا بمؤثرات معينة، فإذا انطباعاتها هذه — بعد زوال المؤثرات — هي نفسها «أفكارنا الخلقية»، إن لكل حاسة من حواسنا المعروفة مؤثرات خاصة بها، فللعين مؤثراتها المعينة التي لا تؤثر في السمع أو في اللمس، وللأذن مؤثراتها التي لا تؤثر في حاسة الإبصار أو الشم، وهكذا؛ وإذن فلهذه الحاسة التي يزعم هيوم أنها «حاسة خلقية» مؤثراتها الخاصة بها والتي لا شأن لسائر الحواس بها؛ أعني أن هنالك معطيات حسية من نوع فريد، فلا هو ضوء ولا هو صوت ولا رائحة ولا طعم، هو الذي يصح أن نقول عنه إنه مُعْطَيَات الحاسة الخلقية المزعومة؛ ولنا أن نسأل: ما طبيعة هذه المعطيات؟ يقول هيوم في ذلك: «ليست حاسة الفضيلة عندنا إلا أن «يحس» الإنسان إحساسًا من نوع فريد بالرضى حين يمعن الفكر في شخصية معينة؛ وهذا «الإحساس» نفسه هو ما نبديه من ثناء وإعجاب؛ إنه لا خطوة وراء هذه الخطوة؛ فلسنا نبحث بعدئذٍ عن علة هذا الرضى، كلا، ولا نحن نحكم بالفضيلة على تلك الشخصية استنتاجًا من شعورنا إزاءها بالرضى؛ بل إن مجرد شعورنا بمثل هذا الرضى الذي هو من طراز فريد كهذا، هو نفسه شعورنا بصفة الفضيلة.»١١١ ومعنى ذلك أن «الخير» أو «الشر» عند هيوم هو إحساس معين باللذة أو إحساس معين بالألم، على أن تكون اللذة أو الألم «من طراز فريد» هو الذي يجعلها لذة أو ألمًا من نوع «خلقي»، بحيث يستحيل علينا أن نصف مثل هذا الإحساس بغيره، أو أن نحلله إلى عناصر من شيء سواه؛ أي إن «الخير» و«الشر» عنده مقولتان أساسيتان في الطبيعة البشرية، أو قل هما لونان من الانطباعات الحسية التي تطبع فينا حاسة مستقلة بذاتها عن سائر الحواس، هي الحاسة الخلقية، ندرك بها ما هو خير وما هو شر، كما ندرك الألوان بالعين والأصوات بالأذن؛ فلقد نشاهد شجيرة من السنط وهي تكبر إلى جوار أمها ثم تكبر وتكبر حتى لتطغى بوجودها على وجود الأم فتمحوها محوًا، لكن هذه المشاهدة هي مما تنطبع به العين ولا تنطبع به «الحاسة الخلقية»؛ إذ لا نحس إزاءها بالسخط على هذه الوليدة الناشئة وهي تقتل أمها؛ بل إننا قد نحس نوعًا من الألم لزوال الشجرة الأم بفعل وليدتها، ولكنه لا يكون أبدًا هو نفسه نوع الألم الذي نتألمه إذا ما شهدنا ولدًا يقتل أباه من بني الإنسان، فهذا الألم الأخير من نوع «خلقي» على خلاف الألم الأول؛ نعم إن لذائذنا وآلامنا كثيرة منوعة، تنبعث فينا لأسباب كثيرة منوعة كذلك، لكن ما كل لذة وما كل ألم هو من النوع الخلقي الذي نحسه حين يكون الموقف خلقيًّا نشهد فيه فضيلة فيشيع في أنفسنا رضى، أو رذيلة فيشيع سخطًا من طراز فريد؛ وهذه المواقف الخلقية لا بد أن تكون مما يتصل بأفعال الإنسان أو بخلاله أو بشخصيته.
لم يكن هيوم في مذهبه الأخلاقي من جماعة الشُّكَّاك؛ فهو — كما رأينا — إن يكن قد أنكر على «العقل» أن يكون مصدرًا للأخلاق فقد حاول أن يجد لها مصدرًا آخر يصلح أن يكون أساسًا مكينًا لبناء قوي متين؛ ولكي يزيد هذا البناء قوةً لجأ كذلك إلى رأي له آخر في اطراد السلوك الإنساني (راجع القسم الثاني من الفصل الرابع في هذا الكتاب)؛ ذلك أنه لا يرى ما يراه الشُّكَّاك من حيث إن الأخلاق تتغير بتغيُّر الأمم والعصور، تغيُّرًا لا يجعل لها قواعد عامة إنسانية ثابتة؛ وهو في ذلك يقول إنه لولا أن الطبيعة الإنسانية نفسها فيها ما يميز بين الخير والشر لما جاز أن تكون هنالك ألفاظ بعينها يتفق الناس جميعًا على معانيها، كالشرف والعار، والسمو والدناءة، وما إلى ذلك من كلمات تراها في كل لغة على الإطلاق، وترى الناس على اتفاق في مدح جانب وذم آخر؛ فاطلب ممَّن شئت من أفراد الناس أن يحكم لك على شخص معين أو على فعل معين حكمًا لا يتأثر فيه إلا بمحض طبيعته، تجده في حكمه هذا على اتفاق تام مع أي إنسان آخر ينظر إلى الشخص نفسه أو الفعل نفسه في الظروف نفسها؛ وإذن فالمبادئ الأخلاقية حقيقة واقعة لا موضع فيها لاختلاف أو نزاع؛ ﻓ «الانطباع» الذي تنطبع به حاسة الإنسان الخلقية في موقف أخلاقي معين، لا يتغير من فرد إلى فرد ما دامت الظروف المنطبعة على نفس الإنسان المدرك واحدة؛ وليس يعني هذا — بطبيعة الحال — أن يجيء الانطباع الخلقي في موقف ما متفقًا دائمًا مع الصالح الشخصي، بل كثيرًا ما ترى الإنسان يدرك لنفسه إدراكًا واضحًا أن كذا وكذا من المواقف أو من الأفعال خير، لكنه يحس في الوقت نفسه أنه لا يحقق صالحه الشخصي، وعندئذٍ يتوقف أمر اختياره لما هو خير أو لما هو في صالحه على تربيته وشخصيته؛ والمهم عندنا الآن هو أن نبرز هذه النقطة في مذهب هيوم الأخلاقي، وهي أن الأخلاقية لا تنبني على المصالح الشخصية، بل هي متوقفة على إدراك حسي مباشر من طراز خاص. نميز به بين الخير والشر؛ بل إن هيوم ليذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ إذ يقرر أن الحكم الأخلاقي على شخص أو فعل معين لا تتم جوانبه إلا إذا خلا الموقف خلوًّا تامًّا من أي صالح شخصي لمن يُصدر الحكم.١١٢
هكذا يبني هيوم مذهبه الأخلاقي على فطرة مجبولة في طبيعة البشر، وهي الشعور المباشر بالرضى أو بالسخط إزاء الأشخاص والأفعال، دون أن يكون هذا الرضى أو السخط صادرًا عن مصلحة شخصية ذاتية؛ ولهذا فلا يجوز أن نسلك هيوم من حيث مذهبه الأخلاقي في جماعة «المنفعة»؛ لأن المنفعة الناتجة عن فعل معين ليست هي على وجه الدقة مدار الحكم الأخلاقي على ذلك الفعل، بل مداره هو ما يبعثه في النفس من رضى أو سخط؛ ولماذا يرضى الإنسان أو يسخط؟ إنه يرضى أو يسخط لغير سبب وراء الموقف ذاته، إن الرضى والسخط إدراكان مباشران كإدراكنا للضوء أو للصوت؛ إنك لا تسأل إذ تفتح عينيك على زرع أخضر: لماذا أرى لونًا أخضر؟ لا تسأل سؤالًا كهذا، لأن رؤية اللون إدراك مباشر لمعطيات حسية تطبع حاسة البصر؛ وهكذا يكون انطباع الحاسة الخلقية بالرضى أو بالسخط إزاء الصفة الخلقية التي تكون في الشيء أو الفعل الذي نحكم عليه؛ على أنه مما ينبغي ملاحظته في مذهب هيوم أن هذه الحاسة الخلقية وحدها لا تكفي لتحريك صاحبها إلى العمل الخلقي؛ فلا يكفي أن أعلم — عن طريق هذه الحاسة الخاصة — أن الموقف الفلاني فضيلة لأدنو من فعله، أو أن الموقف الفلاني رذيلة لأنفر منه؛ بل الذي يدفع الإنسان لفعل هذا وترك ذلك حافز آخر ليس هو على وجه الدقة الصفة الخلقية في الشيء أو في الفعل، والتي من أجلها يراد عمل الفضيلة ونبذ الرذيلة؛ فالحافز الذي يحفز الإنسان إلى العمل، والصفة الخلقية المعينة التي تبرر العمل، شيئان مختلفان، الأول حالة نفسية بحثها من شأن علم النفس، والثانية وحدها هي التي تُعنى بها النظرية الأخلاقية.١١٣

ولكن ما تلك الدوافع التي تحفز الإنسان على العمل الخلقي؟ هي العواطف التي تثيرها في نفس الإنسان ظروف الموقف الذي يكون محيطًا به؛ ولقد أسلفنا لك القول عن تحليل «العاطفة» عند هيوم (انظر الفصل السابق في هذا الكتاب) بأن الأمر فيها ذو طرفين، فطرف يبدأ من الموضوع الذي يثيرها، وطرف ينتهي إلى النفس التي تنصب عليها العاطفة، سواء كانت هذه النفس نفس صاحب العاطفة (كما في حالتي الزهو والضعة) أو نفس شخص آخر (كما في حالتي الحب والكراهية)؛ وأما الموضوع الذي يثير العاطفة فيتألف دائمًا من عدة عناصر، أحدها لا بد أن يكون عنصر اللذة أو الألم، أو إن شئت فقل إنه عنصر الارتياح أو القلق؛ أي إنه لا عاطفة — مهما يكن نوعها — ما لم يكن الارتياح أو القلق أحد مقومات الموضوع الذي يثيرها؛ ولما كان الحافز على العمل هو دائمًا «عاطفة» ما، إذن فلا عمل إلا إذا كان في الموقف الحافز عليه شعور بالارتياح أو شعور بالقلق، أي شعور باللذة أو شعور بالألم؛ وهكذا تكون الفضيلة عملا مبطَّنًا بالشعور الأول، والرذيلة عملًا مبطنًا بالشعور الثاني؛ وعلى هذا الأساس يمكن أن نعد هيوم في الفلسفة الأخلاقية نصيرًا للمذهب اللَّذِّي النفسي، الذي يجعل معيار التفرقة بين ما هو فضيلة وما هو رذيلة من الأفعال، ما يصحبه من شعور بالرضى أو شعور بالسخط عند الإنسان.

الحافز على العمل الخلقي — إذن — هو في نهاية التحليل الشعور باللذة أو الألم؛ والغاية منه هو إحداث الشعور باللذة أو التخلص من الشعور بالألم، سواء كان الأمر في ذلك متعلقًا بالقائم بالعمل نفسه أو بغيره من أفراد الإنسان؛ حتى إذا ما تم الفعل وتأمله الإنسان بفكره، أحس إحساسًا مباشرًا بالرضى أو بالسخط، وهو الإحساس الذي قلنا عنه إنه من قبيل الانطباعات الحسية المباشرة، تنطبع به حاسة خاصة هي الحاسة الخلقية.

ها هنا نقطة دقيقة لو أفلتت منا أفلت معها الفهم الصحيح لمذهب هيوم في الأخلاق؛ وهي التفرقة بين مذهبه ومذهب اللَّذِّيين الذين يجعلون هدف الأفعال الخلقية كلها هو إحداث اللذة والتخلص من الألم، وعندهم أن اللذة المستحدثة هي نفسها «الخير» والألم المنجو منه هو نفسه «الشر»؛ فاللذة عندهم هي «الخير»، أي إن هاتين اللفظتين مترادفتان، فالفعل الذي تصفه بأنه لذيذ تصفه في الوقت نفسه بأنه خير؛ وبمقدار ما يزيد الفعل قدرة على استحداث اللذة يزيد جانب الخير منه؛ أما نظرية هيوم فتتفق مع المذهب اللَّذِّي في أن الإنسان تحفزه اللذة ويهدف إلى اللذة، بل تتفق في أن اللذة المستحدثة هي نفسها خير في ذاتها؛ لكنها تختلف عن المذهب اللَّذِّي في أنها تفرِّق ها هنا بين اللذة «النفسية» التي تحدث عن تحقيق إحدى الرغبات الطبيعية الفطرية، وبين لذة أخرى يهملها المذهب اللَّذِّي ويضيفها هيوم ويجعلها محورًا أساسيًّا جوهريًّا في نظريته، وهي الشعور بالرضى الذي يحدث عند تأمل الإنسان لما قد فعل، فهذا الشعور هو «الخير الخلقي» بأدق معناه؛ وبهذا نفرِّق بين الخير النفسي والخير الخلقي، يقتصر اللَّذِّيون على النوع الأول، ويعترف هيوم بالنوعين معًا.

ومثل هذه التفرقة نفسها يقوم بين المذهب المنفعي في الأخلاق، ومذهب هيوم، فأنصار «المنفعة» يقولون إن الفضيلة هي الفعل الذي يحقق أكبر نفع ممكن، لكن كلمة «النفع» نفسها لا يكون لها معنًى إلا بما يحققه ذلك النفع، فأي شيء هذا الذي إذا ما تحقق قلنا إن ثمة نفعًا قد تحقق، وبالتالي حكمنا على الفعل الذي حققه بأنه فعل فاضل؟ ها هنا تعود فكرة اللذة من جديد، فالنافع هو الذي يحقق اللذة أو المتعة أو الطمأنينة والرضى؛ هكذا يقول «المنفعيون»، وبهذا نفسه يقول هيوم، لكنه لا يكتفي به، بل يضيف إليه خطوة أخرى، هي الاتجاه نفسه الذي يميل بإنسان معين أن يعمل ما فيه نفع، أي ما يستتبع لذة ومتعة؛ بعبارة أخرى؛ هنالك جانبان متميز أحدهما من الآخر، الجانب الأول هو المنافع نفسها التي تتحقق، والجانب الثاني هو النشوة لأي منفعة تتحقق بغض النظر عن نوعها؛ والجانب الأول هو ما يقتصر عليه المذهب المنفعي في الأخلاق، وإضافة الجانب الثاني هي ما يميز مذهب هيوم.١١٤
الأشياء النافعة والمؤدية إلى شعور بالمتعة كثيرة، لكنها قد تكون مُرْضية من الناحية الخلقية وقد لا تكون؛ نعم إنه لا بد لجانب المنفعة والمتعة أن يتحقق فيما نحكم عليه بالامتياز الخلقي، لكن ذلك الجانب وحده لا يكفي، بل ينبغي أن يضاف إليه هذا النوع من الإحساس المباشر بالرضى الذي حدثناك عنه بأنه كأي إدراك حسي آخر، تنطبع به النفس انطباعًا مباشرًا؛ لكن ما الذي يهدينا في الموقف الذي نكون إزاءه أن الأمر منتهٍ إلى منفعة، وبالتالي يكون جديرًا بالاستحسان الخلقي؟ الذي يهدينا إلى ذلك هو «العقل»، وهنا تتضح مهمة «العقل» في الأخلاق، فليس العقل هو الذي يقضي على فعل معين بأنه فضيلة؛ ليس العقل هو مصدر الأخلاق، ليس العقل هو الذي يحمل الإنسان على فعل شيء وترك آخر؛ بل مهمة العقل في هذا الصدد مقتصرة على تحليل عناصر الموقف الذي نحن إزاءه في لحظة معينة؛ ومن تحليله هذا نعلم أنه موقف قد ينتهي بنا إلى نفع. إلى هنا لا «أخلاق» في الأمر، ولكن بعدئذٍ تأتي «العاطفة» بما تثيره فينا من شعور بالرضى أو بالسخط، باللذة أو بالألم، بالطمأنينة أو بالقلق، وعلى أساس هذا الشعور العاطفي نتحرك نحو الفعل أو ننفر منه؛ وبهذا تكون العاطفة — لا العقل — هي المصدر الحقيقي للأخلاق، وإن تكن مهتدية في سيرها بما يقدمه لها العقل من تحليل وتوضيح.١١٥

(١٠) في السياسة

أراد ديفد هيوم أن يكون في نظريته السياسية محايدًا كما ينبغي للفيلسوف أن يكون، فلا يتأثر في الرأي بصالح هذا الحزب السياسي أو ذاك؛ لكن نظريته السياسية قد جاءت — عن قصد أو عن غير قصد — مسايرة لاتجاه الحزب الذي كان الفيلسوف يناصره، وأعني به حزب المحافظين، ومناهضة للحزب الآخر الذي كان يقف منه موقف المقاومة، وهو حزب الأحرار؛ فلقد كان مما يخدم حزب الأحرار أن يقال في النظرية السياسية إن الحكومة قد نشأت بين الناس أول ما نشأت بتعاقد بين الأفراد، فالأفراد هم الذين أرادوا لأنفسهم نوع الحكومة التي تشرف على مصالحهم المشتركة، وما دام الأمر كذلك، فلهؤلاء الأفراد أنفسهم حق الثورة على الحكومة إذا لم تقم بواجبها إزاءَهم؛ أقول إن حزب الأحرار كان يستند إلى مثل هذه النظرية السياسية في تقريره لحقوق الأفراد الطبيعية في إقامة الحاكم أو عزله، ولما كان «هيوم» أميل إلى حزب المحافظين منه إلى حزب الأحرار، فقد جاءت نظريته السياسية — عن قصد أو عن غير قصد — معارضة لهذا الرأي منكرة لصواب منطقه.١١٦
ولقد بسط «هيوم» آراءَه السياسية في مقالات عدة، لعل أهمها هي مقالته التي عنوانها «في العقد الابتدائي»؛١١٧ أي العقد الذي يقال إنه تم بين أفراد الجماعة عند بداية تأليف المجتمع، وفيما يلي خلاصة لرأيه كما ورد في هذا المقال.

كان في إنجلترا على عهد هيوم — كما لا يزال بها حتى اليوم — حزبان سياسيان رئيسيان، هما حزب المحافظين من جهة وحزب الأحرار من جهة أخرى، ويلاحظ هيوم في فاتحة مقاله أن كلًّا من الحزبين يبحث لنفسه عن مبدأ فلسفي نظري يستند إليه في مذهبه السياسي؛ أما حزب المحافظين فيلتمس أصل الحكومة الأول عند الله، وذلك بأن يجعل الحكم حقًّا إلهيًّا يتمتع به الحاكم، فالله هو الذي أراد للحاكم أن يحكم، وإذن فمن الخروج على مشيئة الله وإرادته أن يتوجَّه ناقد بالنقد إلى الحكومة، مهما بلغت من الطغيان في حكمها، وبالتالي لا يكون عزل الحكومة من حق الشعب، لأن الشعب لم يكن هو الذي أقامها في مناصبها؛ إنه الله هو الذي شاء لها أن تتولى مقاليد الأمر، وهو الله الذي يشاء لها أن تزول؛ وأما حزب الأحرار فيرد الأمر إلى تعاقد أوَّلي بين الأفراد، فأعضاء الجماعة عند أول تكوينها هم الذين أرادوا لأنفسهم وتعاقدوا معًا على أن يولوا حاكمًا معينًا على أمورهم، وبالتالي يكون لهم حق مقاومة هذا الحاكم وعزله إذا ما اقتضت مصالحهم هذا العزل أو تلك المقاومة.

ويستطرد هيوم فيقول إن كلا هذين المبدأين صواب ولكن بمعنًى غير المعنى الذي قصد إليه الحزبان المتعارضان؛ وكلا المبدأين تقتضيه الحكمة على شرط ألا يبالغ في تأويلهما كما بالغ أنصار الحزبين المتعارضين.

أما أن الله هو صاحب الإرادة الأولى في تأليف الحكومة وتكوينها فيستحيل أن يشك في ذلك أحد ممن يسلِّمون بأن حكمة الله شاملة للكون بكل ما فيه ومن فيه، بحيث تجيء حوادث العالم بأسره، صغيرها وكبيرها على السواء، وفق خطة مدبرة ومستهدفة لغاية مقصودة منشودة؛ فلما كان محالًا على الجنس البشري أن تقوم له قائمة في حياة آمنة وادعة إلا في ظل حكومة تشرف على أموره وتتولى حمايته ورعايته، كان من الحتم أن تكون الحكومة نتيجة تدبير إلهي حكيم؛ وإنه ليكفينا أن نعلم أن كل مجتمع — مهما يكن زمانه أو مكانه — قد قامت عليه حكومة ما، لنعلم في يقين أن الأمر لم يكن متروكًا للصدفة العابرة، بل هو تدبير من عليم حكيم يريد الخير بعباده أجمعين؛ لكن الله إذ أراد للناس نظامًا معينًا في الحكم، إنما أراد ذلك من حيث المبدأ العام، ولا يجوز أن نستدل من ذلك أن الحاكم يمثل إرادة الله في كل عمل صغير يقوم به أثناء قيامه بالحكم؛ فشأن الحاكم في ذلك شأن قوى الطبيعة كلها، أرادها الله من حيث المبدأ العام، لكنَّا نسرف إذا قلنا إن كل فعل من أفعال تلك القوى قد استند في وقوعه إلى إرادة إلهية قائمة بذاتها؛ ولو جعلنا أفعال الحاكم الجزئية يومًا بعد يوم وساعة بعد ساعة معبرة عن مشيئة الله الخاصة، لتحتم أن نقول هذا القول نفسه في أفعال الناس جميعًا، فلا يقضي قاضٍ بحكم، بل لا يقترف لص جريمة السرقة ولا يعتدي معتد باعتداء إلا ومشيئة الله من ورائه.

وأما عن المبدأ القائل بأن الحكومة بادئ ذي بدء قد نشأت نتيجة لتعاقد تم بين الناس، فهو كذلك مبدأ مقبول على شرط ألا نبالغ في تفسيره؛ ذلك أننا إذ نلاحظ أن الناس متقاربون جدًّا في قواهم الجسدية بل وفي قواهم العقلية؛ لا يسعنا إلا أن نقرر بأنهم حينما أرادوا الاجتماع بعضهم ببعض أول الأمر، كان يستحيل على سلطة أن تفرض عليهم سلطانها بغير موافقتهم ورضاهم؛ إذ ما كان ليتاح لأحد منهم أن يفرض سلطانه بالقوة على بقيتهم، مع أنه على وجه التقريب مساوٍ لأي واحد من هؤلاء في قدراته البدنية والعقلية معًا؛ إننا لو تعقبنا أصول الحكومات إلى جذورها الأولى في الغابات وفي بيداء الصحراء، وجدناها قد قامت بإرادة الناس؛ أقاموها برغبة منهم ورضى لتنشر فيهم الطمأنينة والنظام؛ وهم الذين تنازلوا طواعية عن حرياتهم الفردية لواحد منهم، هو في الأصل مساوٍ لكل منهم، وذلك بغية أن يقضي فيهم بما يحقق لهم سلامًا وأمنًا؛ فلو كان شيء كهذا هو ما يراد عند التحدث عن «عقد ابتدائي» تم بين أعضاء المجتمع عند أول تكوينه، لم يكن لنا بد من التسليم بصوابه؛ فليس هو بالتعاقد الذي نراه مرقومًا في وثيقة مخطوطة، لأنه حدث قبل الكتابة، بل قبل أن تبدأ الحياة المتحضرة بشتى ألوان فنونها؛ بل هو تعاقد نستدله استدلالًا من طبيعة الإنسان، ومن تساوي الأفراد في قدراتهم الفطرية أو ما يشبه التساوي؛ وما تلك القدرات الفطرية إلا قوة الأبدان وقوة البأس، فما نحسب فردًا واحدًا قادرًا بقوته الفطرية وحدها أن يغلب جماعة على أمرها، ولا يمكن لهذه الجماعة أن تخضع لواحد من أفرادها إلا بإرادتها ورضاها.

وبالطبع لم يجتمع أفراد الجماعة ذات يوم ليقولوا: هذا هو منذ اليوم صاحب السلطان فينا، بل لا بد أن يكون الأمر قد تم تدريجًا وفي ظروف طبيعية كأن تضطر جماعة من الناس — مثلًا — أن ترد عنها عدوًّا مهاجمًا، فيقتضي هذا أن تكون القيادة لواحد من أفرادها، وتنتهي المقاتلة فتزول عن القائد صفته المميزة، ولكن سرعان ما ينشأ طارئ آخر، فيسهل على أفراد الجماعة أن يلقوا بزمام أمرهم إلى الرجل نفسه؛ وهكذا تظل الطوارئ تتوالى، فتتوالى معها رئاسة هذا الرئيس، حتى تصبح رئاسته عادة مألوفة، ويصبح خضوع الأفراد لأحكامه أمرًا صادرًا عن مشيئتهم.

فإذا ما طال العهد بالحاكم وسلالته من بعده، كان حق الحكم قائمًا على الإلف والعادة، لا على موافقة الناس واختيارهم، لقد كان اختيارًا وموافقة في أول الأمر، ثم انتهى إلى عادة مقررة آخر الأمر، ويخطئ الفلاسفة السياسيون إذا ظنوا أنه ما دام الحاكم قد استند في أول نشأة المجتمع إلى موافقة الأفراد، فلا بد أن يكون الآن كذلك مستندًا إلى مثل هذه الموافقة؛ يخطئون لو ظنوا أن الناس اليوم لا يزالون — كما كانوا أول نشأة المجتمع والحكومة — يولدون سواسية، لا فرق فيهم بين فرد وفرد، وأنهم يولدون أحرارًا من كل فرض يوجب عليهم الولاء لحاكم أو حكومة، اللهم إلا إذا تعهدوا طواعية بمثل هذا الولاء؛ ولما كان الإنسان لا يتعهد لغيره بولاء إلا إذا كان له من وراء ذلك كسب مساوٍ لما تنازل عنه من حقوقه الفطرية، كان ولاء الفرد لحاكمه أو حكومته متضمنًا ضرورة أن تقوم تلك الحكومة أو الحاكم بحماية مصالحه، وإلا كان له الحق في نقض ولائه الذي تعهد به.

إن الذين يزعمون أنه ما دامت مشروعية الحكومة قد قامت في أول أمرها على رضى الأفراد، فلا بد أن تظل قائمة على رضى الأفراد الآن وفي كل حين، أقول إن الذين يزعمون هذا الزعم ما عليهم إلا أن يرسلوا أبصارهم إلى دنيا الواقع، ليروا أن ما هو واقع فعلًا لا يطابق هذه الآراء النظرية التي يأخذون بها؛ فأينما يوجهون أبصارهم يرون حكامًا يملكون رعاياهم كأنما هؤلاء الرعايا ملك أيديهم، ويؤسسون ملكهم هذا — لا على أساس موافقة هؤلاء الرعايا ورضاهم — بل على أساس الفتح الحربي أو الحق الشرعي الموروث للولد عن أبيه وجده؛ وسيجدون الرعايا أنفسهم يقرون لحكامهم بهذا الحق؛ إذ يقررون أنهم — أي الرعايا — إنما ولدوا وعليهم واجب الولاء والطاعة لولي الأمر منهم، كما يولد الولد وعليه واجب فطري بالولاء نحو والديه اللذين أنسلاه؛ وليس الأمر في هذا كله مقصورًا على بلد دون بلد، أو عصر دون عصر، بل هو شامل للعالم كله في كل زمان أو مكان؛ تراه في فارس والصين، كما تراه في فرنسا وإسبانيا وفي هولندا وإنجلترا؛ إن طاعة الرعية لراعيها وحاكمها أمر قد بلغ من رسوخه في النفوس حدًّا لم يعد مقبولًا معه أن يفكر أحد حتى في مجرد البحث عن أصوله ونشأته، وعن سببه وعلته، فكأنه قانون طبيعي كالجاذبية مثلًا، نقبلها أمرًا واقعًا رضينا أو كرهنا، ولو قمت في الناس هاديًا يهديهم إلى أن الروابط السياسية بين الحاكم والمحكوم إنما تقوم على رضى المحكوم وموافقته، لَقُضِي عليك بالسجن، لأنك ستكون عندئذٍ في رأي القضاة — في كل بلاد العالم — مضللًا يعمل على فصم عرى الولاء والطاعة التي لا مندوحة عنها بين المحكوم وحاكمه؛ لا بل إن أصدقاءك أنفسهم لن ينتظروا القضاة حتى يزجوا بك في السجن، لأنهم سيحكمون عليك قبل ذاك بالتخليط والجنون؛ أمن المعقول أن يكون أفراد الناس هم الذين تعاقدوا وتعاهدوا على أن تقوم فيهم حكومة بعينها، ثم لا نجد منهم فردًا واحدًا يتذكر ما قد تعاقد عليه وتعهد به؟ أيكون أفراد البشر جميعًا في أنحاء الأرض كلها قد أصابهم النسيان فلم يعد أحد منهم ذاكرًا لفعل يقال لنا إن جميع الأفراد قد تعهدوا به وتعاقدوا عليه؟!

لكن هذا التعاقد الذي تم بين الأفراد على الحكومة التي أقاموها على أمورهم باختيارهم، هو تعاقد تم في بداية نشأة المجتمع، هو «تعاقد ابتدائي» كما يقول لنا أصحاب هذه النظرية، وعلى ذلك فهو أقدم عهدًا من أن يظل عالقًا بذاكرات أبناء العصر الحاضر؛ ويرى هيوم في هذا الصدد أنه إذا كان المقصود بالتعاقد الاجتماعي ما قد تم بين أعضاء الجماعة الهمجية عند أول التقائهم في مجتمع، فذلك أمر مقبول غير منكور؛ أما وقد طال العهد جدًّا بمثل ذلك التعاقد الابتدائي، حتى لقد عَفَّى عليه ما قد وقع من تغيرات وحوادث تعد بالألوف، فألوف الحكومات قد تتابعت، وألوف الأمراء قد تناولوا الحكم، فإنه محال أن يكون ذلك العقد الابتدائي ما يزال محتفظًا بشيء من قوته؛ ولو أننا أصررنا على أن تدوم للعقد الابتدائي قوته منذ أول نشأة المجتمع حتى يومنا هذا، لكان معنى هذا فرض إرادة الآباء الأولين الأقدمين على أبنائهم وأبناء أبنائهم إلى يوم الدين؛ ذلك فضلًا عن أن التاريخ والخبرة كليهما يشهدان ببطلان هذا القول بطلانًا تقوم عليه الشواهد في كل عصر وفي كل بلد على طول التاريخ وفي أرجاء العالم أجمع.

إن كافة الحكومات القائمة بيننا اليوم — هكذا يستطرد هيوم في قوله — وكافة الحكومات التي يسجل التاريخ أخبارها من العصور الماضية، توشك أن تكون قائمة كلها إما على أساس الاغتصاب أو على أساس الغزو أو على الأساسين معًا، دون أن يكون هنالك أقل علامة تدل على موافقة الرعية المحكومة بإرادتها وبمحض اختيارها على الحكومة القوامة على أمورها؛ فإذا ما وُضع رجل ماكر جريء على رأس جيش أو حزب، فكثيرًا ما يسهل عليه — بالعنف حينًا وبالتضليل حينًا — أن يؤسس سلطانه على شعب يفوق في عدده عدد أتباعه مائة مرة، فتراه لا يبيح لأعدائه أن يجتمع بعضهم ببعض حتى لا يدركوا في يقين مدى عددهم أو قوتهم؛ ولا يجيز لهم أن يحشدوا جهودهم ضده؛ وحتى أنصاره الذين ساعدوه على تأسيس سلطانه اغتصابًا، قد يتمنون بعد ذلك سقوطه، لكن المباعدة بينهم تحول دون أن يعلم بعضهم نيات بعضهم الآخر، وبذلك يظل السلطان آمنًا مطمئنًا؛ بمثل هذه الوسائل قويت حكومات كثيرة، وذلك هو «العقد الابتدائي» الذي يفاخر به أنصار النظرية السياسية التي تجعل للأفراد حق اختيار الحاكم وعزله!

إن وجه الأرض لفي تغير دائم لا ينقطع، فممالك صغيرة تكبر حتى تصبح إمبراطوريات عظيمة، وإمبراطوريات عظيمة تنحلُّ إلى ممالك صغيرة، ومستعمرات تقوم هنا وهناك، وقبائل تهاجر، فهل ترى في هذه الحوادث كلها علامة واحدة لشيء غير القوة والعنف؟ أين تجد في هذا كله ما يزعمونه لنا من تعاقد بين الناس يتم بإرادتهم الحرة على الحكومة التي تقوم عليهم وتسيطر على شئونهم؟

لا بل إنه كثيرًا ما يحدث للأمم أن تتلقى حكامها عن طرق لا تشرفها، وذلك حين يتولى أمور الأمة حاكم جاءها نتيجة لزواج أو تحقيقًا لوصية، ففي مثل هذه الحالات لا تكون الأمة المحكومة في الواقع سوى مهر يدفع لعروس، أو تركة يرثها وارث، ولا يكون ذلك إلا على هوى حكامها دون أن يكون لأبناء الأمة نفسها إرادة ولا شبه إرادة.

ثم افرض أحسن الفروض الممكنة، افرض أن قيام الحاكم قد تم باختيار أبناء الأمة المحكومة، فكيف وقع هذا الاختيار فعلًا؟ أليست حقيقة الأمر هنا أن فئة قليلة العدد من أعلام الناس وأعيانهم قد قرروا واختاروا نيابة عن المجموعة كلها؟ أو ربما كانت حقيقة الأمر هي أن جموعًا من الشعب قد التهبت غضبًا وثورة بفعل زعيم مضلل لا يعرفه حق المعرفة إلا قليلون من المحيطين به، وبذلك لا يكون ارتقاؤه إلا نتيجة وقاحته وجرأته، أو نتيجة نزوة مؤقتة عند أصحابه … أفتكون لأمثال هذه الانتخابات المضطربة — ومع ذلك فهي نادرة الحدوث — من قوة الأثر بحيث نعدها الأساس الشرعي الوحيد لكل حكومة وكل ولاء؟ ألا ما أبعد المسافة بين الواقع كما يقع وبين الأفكار النظرية التي يحلم بها فلاسفة السياسة!

ويمضي هيوم في قوله على هذا النحو، ثم يقرر أنه لا يريد أن يحذف موافقة الرعية فلا يجعلها أساسًا عادلًا بين غيرها من الأسس التي يمكن للحكومة أن تقوم عليها؛ بل كل ما يدعيه هو أن مثل هذه الموافقة الشعبية على الحكومة القائمة قلما يحدث فعلًا ولو إلى درجة محدودة، ويستحيل أن يحدث بأكمل معانيه وإلى أبعد حدوده، وإذن فلا مندوحة لنا عن الاعتراف بأسس أخرى غير هذا الأساس، تقوم عليه الحكومة.

إنه لو كان الناس جميعًا مهيَّئون بطبعهم أن يعامل بعضهم بعضًا بالعدل والإنصاف فلا يجحف أحد منهم بأحد ولا يسطو أحد على ملك أحد، لظلوا إلى الأبد متمتعين بحرية مطلقة لا يخضعون لحاكم ولا ينخرطون في سلك جماعة سياسية؛ لكن هذه درجة من الكمال لم تتهيأ لها طبيعة البشر؛ وكذلك لو كان الناس يتمتعون بقدرة عقلية تمكنهم من إدراك مصالحهم، لامتنع قيام حكومة فيهم إلا ما أرادوا لأنفسهم بمحض اختيارهم، لكن هذه أيضًا درجة من الكمال تقصر دونها طبيعة البشر؟ وهكذا ترى العقل والتاريخ والخبرة كلها دالة على أن اختيار الناس لم يكن هو الأساس في قيام حكوماتهم؛ ولو استعرضت مراحل التاريخ في أمة من الأمم لتتبين متى كان اختيار الناس في أقل درجاته وأضيق حدوده، وجدت أنه يكون كذلك عند قيام الحكومات الجديدة إثر الثورات والحروب وما إليها؛ فبدل أن يكون اختيار الناس واضحًا عند قيام حكومة جديدة في فاتحة عهد جديد، كما يدَّعي أنصار العقد الاجتماعي، ترى هذا الاختيار في أدنى درجاته عند تلك اللحظات التاريخية ذاتها، حتى إذا ما استقرت الأمور للعهد الجديد وللحكومة الجديدة، فعندئذٍ قد يقوم في الناس دستور ينظم استشارة الناس فيما يريدون لأنفسهم؛ وأما إبان الثورات والغزوات والانقلابات فالكلمة تكون للقوة العسكرية أو للدهاء السياسي، بحيث لا يكون للناس في أمرهم خيار.

إنه إذا ما قامت حكومة جديدة بوسيلة من الوسائل كائنة ما كانت، فالأرجح ألا يرضى الناس عنها؛ فتراهم يطيعونها عن خوف وضرورة أكثر مما يطيعونها عن عقيدة في الولاء أو عن شعور بالإلزام الخلقي؛ وهنا ترى الحاكم الجديد على حذر يتخذ الوسائل التي تمنع قيام الغاضبين في ثورة على حكومته، ولكن الزمن يمضي فيزيل شيئًا فشيئًا كل ما قد كان قائمًا في وجهه من عقبات، ويُعَوِّد الأمة على اعتبار الحاكم الجديد وأسرته حكامًا شرعيين، مع أنهم هم أنفسهم الذين كانوا أول الأمر غزاة أو مغتصبين؛ وهكذا ترى أن ليس في الأمر اختيار ولا تعاقد ولا عهد ولا وعد، بين حاكم ومحكوم، بل يبدأ الأمر بفعل القوة وينتهي بالإذعان بحكم الضرورة والعادة، وحين يصبح لحاكم حق شرعي في ملكه، فلا يكون ذلك أبدًا نتيجة اختيار الناس له أو تعاقدهم معه، بل يكون نتيجة لطول عهد ذلك الحاكم بملكه مما يكسبه حقًّا شرعيًّا فيه.

وقد يقال إن كل فرد من أفراد الشعب هو في حكم مَنْ أبدى رأيه بالموافقة على قيام الحكومة القائمة؛ لأنه لو كان معارضًا ورافضًا لَترَك البلاد إلى غيرها، لكن هذا القول لا يعني شيئًا ما لم يكن للفرد قدرة فعلية على ترك البلاد إذا أراد، أما إذا كان بحكم الظروف عاجزًا عن ذلك، فلا محل إذن للقول بأنه يستطيع مغادرة البلاد إذا لم يكن راضيًا عن الحكومة القائمة؛ وهل يستطيع أحد أن يزعم جادًّا بأن الفلاح الفقير أو الصانع حر الاختيار في ترك بلاده إذا شاء، مع أنه لا يعرف لغة غير لغته ولا لونًا من العيش إلا اللون الذي ألفه ونشأ عليه، ومع أنه كذلك يعيش على رزق يوم بعد يوم؟ إن من يدعي ذلك هو بمثابة من يقول لرجل حُمِل إلى سفينة حين كان غارقًا في نعاسه، ثم أقلعت به السفينة إلى عرض البحر، وقيل له بعد ذلك إنه إذا لم يكن راضيًا بحكم الربان، فله — إذا شاء — أن يترك السفينة، مع أنه لا يستطيع تركها إلا إذا وثب في البحر وهلك لساعته.

وماذا لو أراد فرد من الناس أن يغادر البلاد فرفض الحاكم؟ وهل يخطئ الحاكم إذا ما وجد الناس نازحة عن بلاده زرافات أن يحول دون ذلك حتى لا يحل الخراب بالبلاد؟ كلا، إن ذلك يكون منه سدادًا وحكمة، ولكنه مع ذلك قيد على حرية الأفراد.

وفضلًا عن ذلك كله، فلو كانت الأجيال تتعاقب كما يتعاقب دود القز والفراش، أنه لو كان معنى تعاقبها هو أن تنمحي جماعة لتحل محلها جماعة جديدة، لجاز أن نقول إن من حق هذه الجماعة الجديدة أن توافق أو لا توافق على نظام الحكم الذي كان سائدًا في الجماعة القديمة، لكن الأجيال يتداخل بعضها في بعض، ففي كل ساعة يضاف إلى الجماعة عضو جديد ويخرج منها عضو قديم، ويستحيل أن يتحقق استقرار للحياة على هذه الصورة إلا إذا سار الوافدون الجدد على الدرب الذي سار عليه الأسلاف، وأما ضروب الإصلاح — ولا بد منها — فيتحتم أن تجيء عن طريق الهداية البصيرة والإقناع، ولا تجيء أبدًا عن طريق العنف والقوة.

وبعد أن يسوق هيوم أمثلة من التاريخ ليدلل بها على صدق ما يذهب إليه، يعود إلى تفنيد فكرة «العقد الابتدائي» على أساس نظري فلسفي فيقول إن الوجبات «الخلقية» كلها يمكن تقسيمها نوعين: النوع الأول قوامه واجبات تدفع إليها غرائز فطرية وميول طبيعية مباشرة، فترانا نؤديها بغض النظر عن أي إلزام أو نفع يترتب على أدائها، ومن قبيل ذلك حب الوالدين للأبناء، والاعتراف بالجميل لصاحب الفضل، والإشفاق على من ألمتْ به مُلمة؛ نعم إن أمثال هذه المشاعر تصادف عند المجتمع استحسانًا ورضى، لكننا نندفع إليها بمحض الفطرة بغض النظر عن هذا الاستحسان والرضى.

وأما النوع الثاني من الواجبات الخلقية فلا يستند إلى غريزة أو فطرة، لكنها تؤدَّى بدافع من الإلزام الذي تقتضيه ضرورات الحياة الاجتماعية التي لا قيام لها ولا نجاح بغير تلك الواجبات؛ ومن هذا القبيل «العدالة» أو عدم الاعتداء على ملك الآخرين، و«الوفاء بالعهد»؛ فهذه وأمثالها فضائل نلتزم بها صيانة للمجتمع على الرغم من أنها ليست جزءًا من الفطرة؛ إذ من الواضح أن كل إنسان يحب نفسه أكثر مما يحب أي شخص آخر، ولذلك فهو بفطرته مدفوع إلى الإكثار من مقتنياته بقدر المستطاع، ولا يحد من ميله هذا إلا التفكير والخبرة اللذان يهديانه إلى النتائج السيئة التي تترتب على سلوكه ذاك، وبهذا تراه يفرض القيود على دوافعه الفطرية الغريزية.

و«الولاء» الذي هو واجب سياسي أو مدني، هو من هذا النوع الثاني من الواجبات الخلقية التي تستدعيها الخبرة ولا تحتمها الفطرة؛ لأننا لو استمعنا إلى إملاء الغرائز الفطرية وحدها، لاستبحنا لأنفسنا حرية بغير قيد أو حد، ولالتمسنا السيادة على الآخرين؛ لكنه التفكير العقلي هو الذي يقتضينا أن نضحي بهذا الذي تميله علينا العواطف الفطرية، لكي نحقق للمجتمع أمنًا ونظامًا؛ وإنه لتكفينا الخبرة القليلة لنعلم ألا قيام لمجتمع بغير قضاة يردون المعتدي، ولا خير في قضاة لا يجدون من الناس طاعة لقضائهم، ومن ثم وجب على الفرد في المجتمع «الولاء» لحكومته وما تقرره عليه من قيود.

من ذلك ترى أن «الولاء» السياسي و«الوفاء بالعهد» كليهما من الواجبات المكتسبة لا الواجبات الفطرية؛ وإذن فليس من الصواب أن نجعل الولاء السياسي نتيجة مترتبة على الوفاء بالعهد، كما يظن أصحاب نظرية «التعاقد»؛ إذ يقولون إننا نطيع الحاكم بناء على عهد قطعناه ضمنًا على أنفسنا إذ قبلنا قيام ذلك الحاكم فينا وليًّا على أمورنا؛ لأننا نستطيع أن نسألهم قائلين: وما الذي يلزمنا بالوفاء بعهودنا؟ إنه ليس من غرائزنا الفطرية أن نفي بالعهد، فما مصدر الإلزام هنا إذن؟ فإذا أجابوا بقولهم: إنه المجتمع وضرورة قيامه هو الذي يفرض علينا الوفاء بالعهد، كان اعتراضنا عندئذٍ هو أن هذا المجتمع نفسه وضرورة قيامه هو الذي يستوجب كذلك الولاء السياسي، وإذن فهذا الولاء إنما يقف في نفس المنزلة التي يقف فيها الوفاء بالعهد، ولا ضرورة هناك تحتم علينا أن نجعل الولاء فرعًا عن الوفاء ونتيجة مترتبة عليه؛ إن المجتمع ومصالحه هي التي تفرض الواجبين معًا.

فلو سأل سائل: لماذا وجبت الطاعة على الشعب لحكومته؟ أجاب هيوم بقوله: لأنه لا بقاء للمجتمع بغير هذه الطاعة، أما معارضو هيوم فيجيبون بقولهم: لأن أفراد الشعب قد تعهدوا بهذه الطاعة فوجب عليهم الوفاء بما تعهدوا، ومن رأي هيوم أن هذه الإجابة ناقصة؛ لأننا نستطيع أن نسأل القائلين بها سؤالًا يتعذر عليهم جوابه، وهو: ولماذا يجب الوفاء بالعهود؟ من الذي أوجب ذلك؟ كلا، إنه لا عهود هناك ولا وعود، أو بعبارة أخرى، لا تعاقد هناك بين حاكم ومحكوم؛ إنما للولاء واجب للحكومة على الشعب ليظل النظام الاجتماعي قائمًا.

لكن السؤال المشكل العسير حقًّا هو هذا: لمن يجب الولاء؟ أو بعبارة أخرى، من ذا يكون سلطاننا الشرعي؟ ولعل أيسر إجابة على هذا السؤال تتحقق حين يجد الشعب سعادته في الاعتراف بحكومته القائمة وفي سلطانه الراهن، على اعتبار أنه الوريث الشرعي لآبائه وأجداده … إن الشعب إذا ما وجد سعادته في هذا الاعتراف، كان من العسير على المعترض أن ينبهه إلى ما في هذه الإجابة من مشكلات؛ ذلك لأن مثل هذا المعترض يستطيع أن يعود بالسلطان الراهن راجعًا إلى الوراء خطوة بعد خطوة حتى يتبين أن جده الأول كان مغتصبًا لعرش لم يكن له فيه حق موروث … وها هنا يشير هيوم إلى حقيقة عامة، وهي أنه وإن تكن الفضيلة تقتضي ألا يعتدي أحد على ملك سواه، إلا أنك إذا ما تتبعت ما شئت من أملاك الناس، كيف تداولته الأيدي مالكًا بعد مالك، فلا بد أن تنتهي عند خطوة كان هذا الملك فيها نتيجة نهب وسرقة واعتداء؛ ولا فرق في هذا بين الملكية الخاصة والملكية العامة، أي بين أن يملك مالك قطعة من الأرض مثلًا وبين أن يملك أمير قطرًا من الأقطار بما فيه ومن فيه.

إن «وضع يد» المالك على ما يملك — في الحياة الخاصة وفي الحياة العامة على السواء — برهان قوي في أعين الناس على مشروعية ذلك الملك، مهما يكن الأصل القديم الذي عنه تفرعت هذه الملكية في اللحظة الحاضرة … هذا هو الرأي العام الشائع بين الناس، ويستحيل علينا أن نغمض أعيننا عن الرأي العام في أمثال هذه المشكلات؛ فلئن كان رأي الناس عامة لا يصلح حكمًا في المسائل العلمية النظرية، فلا شك أنه صالح في المسائل العملية كالأخلاق والنقد، بل إنه لا رأي في أمثال هذه المسائل العملية إلا رأي عامة الناس؛ وإذا أردت أن تدحض مذهبًا في الأخلاق أو السياسة — مثلًا — فلن تجد لرفضه برهانًا أقوى من أن الذوق لا يستسيغه ولا يستسيغ النتائج التي تترتب عليه؛ وعلى هذا الأساس نرفض النظرية السياسية القائلة بأن مشروعية الحكومة قائمة على تعاقد تم بين أفراد الشعب عند أول قيام تلك الحكومة فيهم؛ نرفض هذا المذهب السياسي لأنه مجافٍ لما تعتقده عامة الناس في كل العصور وفي كل الأمم.١١٨

(١١) في الدين

(١١-١) الديانة الطبيعية

يعرض هيوم رأيه في الدين في مؤلَّفين رئيسيين، أحدهما هو «التاريخ الطبيعي للدين» والآخر «محاورات في الديانة الطبيعية» والمقصود بكلمة «طبيعي» هنا هو نشأة العقيدة الدينية من أصول في طبيعة الإنسان وفطرته، مفرقًا في ذلك بين هذا الرأي الذي يرد الدين إلى طبيعة الإنسان، وبين الرأي الآخر الذي يرده إلى التأمل العقلي من جهة، والرأي الثالث الذي يرده إلى الوحي والتقليد من جهة أخرى؛ فالقائل بأن الدين نابتٌ من طبيعة الإنسان لا يحتاج في تدعيمه إلى البرهان العقلي ولا إلى وحي هبط إلى الإنسان من خارج طبيعته.

على أن «الطبيعة» الإنسانية التي قد نقول إنها أصل العقيدة الدينية، ليست تعني عند هيوم «الغرائز»، فليست العقيدة الدينية بهذا المعنى غريزة من الغرائز الأولية، بدليل أن الغرائز متشابهة دائمًا عند بني الإنسان جميعًا، على حين أن العقيدة الدينية يتغير مضمونها من فريق إلى فريق، ومن عصر إلى عصر؛ بل العقيدة الدينية فرع عن الغرائز، بمعنى أنها تنشأ عنها وإن لم تكن واحدة منها، فهي إذن ثانوية وليست أولية في جبلة الإنسان وفطرته، شأنها في ذلك شأن طائفة من الفضائل الخلقية والسياسية، كالعدالة أو الوفاء بالعهود أو الولاء لوليِّ الأمر وما إلى ذلك، فهذه كلها فضائل متفرعة عن أصول في الطبيعة الإنسانية، وليست في ذاتها أصولًا؛ وإنما الأصول التي تفرعت عنها أمثال هذه الاتجاهات في سلوك الإنسان، هي طائفة من عواطف وانفعالات أولية؛ وكما قدمنا لك في الحديث عن تحليل العواطف الأولية (راجع الفصل الثامن) يكون لكل منها طرفان: سبب وهدف؛ فالشيء الذي منه تبدأ العاطفة سيرها يكون سببها، والنهاية التي تنتهي إليها تكون هدفها؛ وكذلك الأمر في العقيدة الدينية التي هي — كما قلنا — مستمدة من العواطف الفطرية؛ فأصل هذه العقيدة هو السبب الذي يستثيرها، وما ذاك السبب إلا آمال الإنسان ومخاوفه الناشئة عن اهتمامه بمجرى حوادث الحياة؛ والآمال والمخاوف التي هي التربة التي تنبت فيها العقيدة الدينية هي وجدانات أولية فطرية في طبيعة الإنسان؛ لكن لا هذه الوجدانات الأولية في ذاتها (الأمل والخوف) ولا مثيراتها (حوادث الحياة) هي ما نسميه بالدين؛ بل لا بد من إضافة الهدف أو طرف النهاية الذي تنصب عليه وترتبط به تلك الوجدانات الأولية، فإن ارتبطت آمالنا ومخاوفنا — مهما يكن الشيء الذي يثيرها — بقوة كونية عقلية غيبية، نشأ عن هذا ما نطلق عليه اسم العقيدة الدينية؛ بعبارة أخرى، يمكن تحليل الشعور الديني إلى مقوِّمات ثلاثة؛ بداية تثير فينا وجدانات من خوف وأمل، ثم هذه الوجدانات نفسها وهي فطرية غير مكتسبة، وأخيرًا نهاية تتعلق بها وجدانات الخوف والأمل، على أن تكون هذه النهاية قوة خفية عاقلة؛ وإنه لإجماع بين أفراد البشر جميعًا أن تتعلق طبائعهم بتلك القوة الخفية العاقلة التي وإن تكن بذاتها جزءًا من فطرة الإنسان إلا أنها متعلَّقٌ تتعلق به تلك الفطرة.

على أن أفراد البشر وإن أجمعوا على وجود هذه القوة الخفية العاقلة، إلا أنهم يختلفون في طبيعتها وخصائصها باختلاف ثقافاتهم ودرجة علمهم، ومن ثم كانت العقائد الدينية المختلفة، وها هنا يأتي دور «العقل»، فبالعقل نحدد ماذا عسى أن تكون خصائص تلك القوة الخفية العاقلة، أما وجودها فلا شأن للعقل به؛ وعلى هذا الأساس ينكر هيوم موقف الملحد إنكارًا تامًّا، ذلك إذا أريد بالإلحاد الشك العقلي في «وجود» الله؛ لأن «الوجود» الإلهي — كما قلنا — أمر ناشئ عن الوجدانات الفطرية ولا شأن للتفكير العقلي به؛ كل ما يستطيعه العقل هنا هو أن يثبت لله هذه الصفة أو تلك دون أن يمس «وجوده».

وهذه الفكرة الأخيرة هي مدار النقاش في «محاورات في الديانة الطبيعية»١١٩ فها هنا محاورات تدور بين ثلاثة أشخاص ذوي نزعات مختلفة، هم «ديميا» الذي يمثل رجل اللاهوت في تعصبه وجموده ورفضه أن يخضع موضوع الدين للعقل وتحليلاته، و«كلينثيز» العقلي الذي يركن إلى العقل ويؤمن بقدرته في الوصول إلى الحق ما دام يحصر نفسه في حدود الخبرات البشرية وتأويلها، و«فيلو» المتشكك الذي لا يريد أن يؤمن لا بالدين ولا بالعقل؛ وإن مؤرخي الفلسفة ليختلفون أحيانًا فيمن يمثل هيوم من هؤلاء الأشخاص الثلاثة. لكننا نرجح بل نكاد نوقن بأنه يجري آراءه على لسان «كلينثيز» الذي يجعل للعقل حق البحث في خصائص الله، أما وجود الله فحقيقة لا مندوحة للإنسان عن الاعتراف بها بحكم طبيعته.

وتبدأ المحاورة بين المتحاورين الثلاثة: «ديميا» المتدين بإيمان أعمى، و«كلينثيز» المتدين مهتديًا بالعقل، و«فيلو» المتشكك؛ تبدأ المحاورة بينهم بالنظر في موقف «فيلو» الذي يثير الشك في قدرة العقل على الوصول إلى أي شيء يقيني كائنًا ما كان؛ فالعقل البشري — في رأيه — ضعيف وأعمى ومحدود بحدود هي أضيق الحدود، وهو حتى في شئون الحياة اليومية — ودع عنك شئون العلم — مضطرب الأحكام متناقض النتائج إلى غير حد معلوم؛ وواضح أن هذه الوجهة من النظر إلى العقل قد تؤدي — بالنسبة للدين — إلى إحدى نتيجتين، فإما أن يرتمي الإنسان في أحضان الإيمان الساذج ما دام العقل لا يغني عنه شيئًا، وإما أن يرفض الإيمان رفضًا تامًّا ما دام العقل لا يستطيع أن يهديه إلى شيء يطمئن إليه؛ أعني أن التشكك في قدرة العقل قد تحمل بعض الناس على الإيمان الديني الخالص، كما تحمل بعضهم الآخر على الإلحاد الديني الخالص؛ أما الموقف الأول فهو موقف «ديميا» وأما الموقف الثاني فهو موقف «فيلو»؛ وأما «كلينثيز» (ورأيه هو على الأرجح رأي هيوم) فيرى أن موقف الشك الشامل في قدرة العقل مرفوض من أساسه لأنه مستحيل، فحتى صاحب الشك نفسه تراه يتصرف في شئون حياته بما ينفي عنه الشك في كل شيء كما يدَّعي؛ فبدل أن نشك في قدرة العقل شكًّا كاملًا شاملًا عامًّا، ينبغي أن نبحث في قدرته في كل موقف جزئي على حدة، وعندئذٍ سيتبين لنا أنه إن كان عاجزًا في بعض المواقف، فهو قادر في بعضها الآخر.

والموضوع المعروض الآن أمام المتحاورين الثلاثة ليس هو وجود الله — لأنهم جميعًا متفقون على وجوده — بل هو مدى ما يعلمه الإنسان عن طبيعة الله وخصائصه؛ وها هنا يتفق «ديميا» و«فيلو» معًا على أن الإنسان يستحيل عليه أن يعرف عن تلك الطبيعة الإلهية شيئًا مستعينًا بعقله وحده؛ ولكن «كلينثيز» لا يوافقهما على ذلك، ويقول إن الإنسان في وسعه — مستعينًا بعقله — أن يقيس طبيعة الله على طبيعة الإنسان لما بين الطبيعتين من تشابه؛ فالعالم كما تشهده أبصارنا دالٌّ على أنه يسير على خطة مرسومة، وهو في هذا شبيه بآلة يصممها الإنسان ويرسم لها طريق سيرها، فيعد أجزاءها بحيث يلائم بعضها بعضًا لتتعاون على أداء ما أريد منها أن تؤديه، وإذن فما دامت صنعة الله شبيهة بصنعة الإنسان من حيث توافق الأجزاء والسير إلى غاية منشودة، فمن المعقول أن نهتدي على أساس التشابه والتماثل إلى خصائص الله مستنتجة من خصائص الإنسان، وعندئذٍ يكون الفرق بين الجانبين في الكمِّ وحده لا في الكيف.

هنا يلتفت المتحاورون إلى هذا النوع من الاستدلال القائم على التمثيل: هل يجوز أو لا يجوز؛ وبالتالي هل يجوز أن نحكم على الله بما نحكم به على الإنسان؟ ويحاول «فيلو» المتشكك أن يهدم حجة «كلينثيز» هذه في تصوير العالم على غرار الآلة يصنعها الإنسان؛ فلماذا لا يكون العالم — مثلًا — شبيهًا بالكائن العضوي في تكامل أعضائه وفي نمائه؟ لماذا لا يكون العالم أشبه بالشجرة في تكوينها منه بالآلة؟ وإذا كان في العالم نظام ملحوظ، فماذا يبرر أن ننسب هذا النظام لكائن أسمى ولا ننسبه لطبيعة المادة نفسها؟

هكذا يظل الحوار قائمًا حول إمكان معرفة الإنسان لطبيعة الله، ويخرج «ديميا» المتدين المؤمن من النقاش، ويبقى الآخران «فيلو» و«كلينثيز» كل منهما يحد من إسراف الآخر في وجهة نظره حتى ينتهيا إلى الاعتراف الذي يلخص الموقف كله، وهو أن مبادئ «فيلو» المتشكك أرجح صوابًا من مبادئ «ديميا» المؤمن، على أن مبادئ «كلينثيز» أشد رجحانًا في صوابها من مبادئ زميليه معًا، فبالعقل — كما يقول كلينثيز — يمكن أن نهتدي إلى خصائص الله وصفاته.١٢٠

(١١-٢) المعجزات١٢١

الحجة التي يستند إليها القائلون بمعجزات المسيح التي أيد بها صدق رسالته هي شهادة أتباعه الذين قالوا إنهم رأوا بأعينهم تلك المعجزات تحدث أمام أبصارهم؛ وإذن فالأساس الذي نقيم عليه صدق الديانة المسيحية أوهى من الأساس الذي نقيم عليه صدق ما تدلنا على صدقه حواسنا نحن، ذلك لأن من يقوم بالرؤية أقرب إلى الصدق ممن تروى له رؤية سواه؛ فأتباع المسيح قد رأوا شيئًا ثم رووه، ثم أخذ الرواة على مر السنين يروي بعضهم لبعض حتى انتهت إلينا نحن شهادة الشهود الأولين، فهي شهادة رؤية فَعَلَ فيها الزمن فعله، ولذلك فهي أضعف من شهادة حواسنا نحن إذا ما شهدنا بها شيئًا؛ ولما كانت الحجة الأضعف لا ترجح الحجة الأقوى، كان حتمًا علينا ألا نصدق شهادة حس نُقلت إلينا عن سوانا من زمن قديم إذا تعارضت مع شهادة حسنا نحن في لحظتنا الراهنة.

ولئن كانت خبراتنا الحسية هي مرشدنا الوحيد فيما نعلمه عن أمور الواقع فلا بد — مع ذلك — من الاعتراف بأنها مرشد غير معصوم من الخطأ؛ فقد يكون الإنسان (في إنجلترا) على حق إذا توقع أن يكون الجو في أي يوم من أيام يونيو أحسن منه في أي يوم من أيام ديسمبر، لأن خبرته قد دلت على ذلك في سنيه الماضية، لكن ذلك لا يعني استحالة أن يقع في الخطأ حينًا، فيجد يومًا من شهر ديسمبر أحسن جوًّا من يوم في شهر يونيو؛ ومع ذلك فلا يكون هذا الخطأ مدعاة إلى نبذ الخبرة والاهتداء بها؛ لأن الخبرة نفسها هي التي تدله كذلك أن أمثال هذا الشذوذ في اطراد الحوادث قد يقع؛ فمن الخبرة بالحوادث يتعلم الإنسان أن ليست الأحكام كلها سواء في درجة اليقين، فمنها ما يرجح صدقه ومنها ما يقل فيه الترجيح وهكذا.

فلا يسع العاقل — إذن — سوى أن ينسب درجة الصدق في اعتقاداته إلى درجة الشواهد التي تدعمها؛ فحينًا يقطع بأن شيئًا معينًا سيقع في ظروف معينة لأنه قد وقع في مثل هذه الظروف بلا تخلف، وحينًا آخر يتوقع وقوعه في شيء من الحذر، لأن وقوعه لم يطرد إلا بدرجة محدودة؛ وإذا ما احتمل الموقف حكمينْ متضادين، كان عليه أن يزن الشواهد في كل من الجانبين ليأخذ بأرجحهما أخذًا فيه من الشك والتردد بمقدار ما في الرجحان من كثرة أو قلة؛ فوقوع حدث معين مائة مرة فيما مضى، ووقوع ضده خمسين مرة، يجعل الحدث الأول أكثر رجحانًا في توقع حدوثه بالنسبة إلى حدوث ضده بمقدار الضعف وهكذا.

ولما كان لا غنى للناس في حياتهم اليومية عن الأخذ بشهادة الآخرين، كان حتمًا عليهم أن يقيسوا نسبة الصدق في تلك الشهادة بنسبة ما قد عُرِف عن أصحابها من التزام الصدق فيما يقولون، نعم قد يقال إن من صدَق غالبًا فيما مضى قد لا يصدق الآن، ولكننا في هذه الحالة شأننا في كل حالة أخرى نحكم فيها على أمر من أمور الواقع، لا يسعنا أن نحكم إلا على أساس الاطراد في الوقوع، فما قد اطرد وقوعه على تتابع معين فيما مضى، نتوقع أن يحدث على نفس التتابع فيما هو آت، على الرغم من جواز ألا يقع في المستقبل ما قد وقع في الماضي؛ وعلى هذا الغرار نحكم على من ثبت صدقه فيما مضى بأنه على الأرجح صادق فيما يقول الآن أيضًا، والعكس صحيح كذلك، وهو ألا نثق بالقول إذا صدر عن رجل عُرِف عنه الكذب في حياته الماضية.

وموازنة الشواهد في الموقف الذي نكون بصدد الحكم عليه، شيء مألوف لنا، فترانا نزن شواهد الإثبات وشواهد النفي ليتاح لنا الحكم الذي نطمئن إلى صوابه، فلو اتفق رواة التاريخ — مثلًا — على حادثة معينة كان الصواب أرجح، وأما إذا اختلفوا بحيث أثبت فريق منهم شيئًا نفاه الآخرون، كان علينا أن نوازن بين الكفتين من حيث أمانة الرواة في كل من الجانبين؛ لكن افرض أن الرواة قد أجمعوا على وقوع شيء قلما يقع له نظير في خبراتنا نحن؛ فها هنا ترى الموازنة بين خبرتنا الحسية من ناحية وخبرة غيرنا من ناحية أخرى، ولما كانت خبرتنا الحسية الخاصة المباشرة أقوى شاهدًا من خبرة حسية لغيرنا يرويها لنا، فلا بد لنا في مثل هذه الحالة أن نرفض خبرة غيرنا إذا ما تعارضت مع خبرتنا نحن المباشرة.

وننتقل الآن بحديثنا إلى المعجزات التي يرويها لنا الرواة عن شهود أقدمين؛ فنقول إن المعجزة هي خروج على قوانين الطبيعة؛ ولما كانت هذه القوانين قد أثبتتها لنا خبرات مطردة، كنا أمام المعجزة المروية لنا إزاء احتمالين: فإما أن نصدق حكمًا دلت عليه خبراتنا باطراد لم نشهد له استثناء، وإما أن نصدق خبرات غيرنا من السلف نقلها لنا الرواة على مر الزمن؛ وها هنا لا مناص من الأخذ بالبديل الأول دون البديل الثاني، ما دمنا قد سلمنا بأن الخبرة هي أساس الأحكام كلها؛ فلماذا نوشك على اليقين إذ نحكم بأن الموت لاحِقٌ بكل حي، وبأن الرصاص لا يظل عالقًا في الهواء، وبأن النار تأكل الخشب وتنطفئ بالماء؟ لماذا نحكم هذه الأحكام كلها؟ أليس ذلك لاتفاقها مع قوانين الطبيعة التي شهدت بصدقها الخبرة المطردة، وأن «المعجزة» هي أن تنكسر هذه القوانين ويقف اطرادها؟ إن ما يجري وفق مجرى الطبيعة المألوف لا يقال عنه إنه «معجزة»؛ فليس «معجزة» أن يموت فجأة إنسان تظهر عليه الصحة وسلامة البدن، على الرغم من أن مثل هذا الموت نادر الوقوع بالنسبة لحالات الموت الأخرى، لكنه مع ذلك مما قد ألفنا وقوعه حينًا بعد حين؛ ولذلك لا نعد وقوعه من «المعجزات»، لكننا نعد من «المعجزات» أن يرتد ميت إلى الحياة من جديد لأن مثل ذلك الحدث لم يقع في مشاهداتنا أبدًا، فلم يشهده إنسان في أي عصر وفي أي بلد؛ وعلى ذلك فالواقعة لا تسمى «معجزة» إلا إذا خرجت عن مألوف خبراتنا المطردة، ولكن لما كانت خبراتنا المألوفة المطردة هي نفسها البرهان على احتمال وقوع حادثة ما؛ كانت بالتالي هي نفسها البرهان على عدم احتمال وقوع ما يتنافى معها، أو بعبارة أخرى هي البرهان على عدم احتمال وقوع ما يسمونه بالمعجزة، ولا يمكن إقامة البرهان على إمكان وقوع «المعجزة» إلا ببرهان أقوى ترجيحًا من برهان الخبرة المطردة الدالة على نقيض تلك المعجزة.١٢٢
ونستدل من هذا الذي أسلفناه أن البرهان الذي نسوقه تعزيزًا وتأييدًا لمعجزة ما لا يكفي أن يكون برهانًا إلا إذا كان بطلانه أشد إعجازًا من المعجزة نفسها التي نقيم عليها هذا البرهان؛ فإن قال لي قائل إنه شهد بعينيه ميتًا يرتد إلى الحياة، سألت نفسي قائلًا: أيهما أقرب إلى احتمال الوقوع: أن يكون هذا الرائي قد خَدَعَ أو انخدع، أم أن تكون قد وقعت هذه الواقعة التي يرويها، والتي تخرج عن مألوف ما قد شهده الناس جميعًا في كل زمان وكل مكان من أن الموتى لا يرتدون إلى الحياة؟ إنني خليق ها هنا أن أوازن بين هاتين المعجزتين أيهما أكثر إعجازًا؛ معجزة أن يكون الرائي خادعًا أو مخدوعًا، ومعجزة أن يكون الميت قد ارتد إلى الحياة، وأيهما يبدو لي أكثر إعجازًا يكون عندي أبعد عن القبول والتصديق؛ فلأن يكون الميت قد ارتد إلى الحياة أبعد عن القبول والتصديق من أن يكون الرائي الذي يروي هذه الواقعة قد خدعته عيناه فيما رأى أو قد أراد أن يخدع غيره بما لم يرَ.١٢٣

ثم يمضي هيوم في عرضه موضوع «المعجزة» ليبين أن الإيمان بوقوع المعجزات إنما هو إيمان لا يستند إلى أساس مما يصح الركون إليه بحال من الأحوال؛ فأولًا: يلاحظ أن ليس هنالك معجزة واحدة مما يُروى قد شهدها عدد كاف من الشهود الذين نطمئن إلى رجاحة عقولهم وارتفاع منزلتهم من التربية العلمية ارتفاعًا يعصمهم من الوهم، وثانيًا: إن من طبيعة الإنسان نفسها ما يغريه بالاستماع إلى ما يثير العجب والدهشة، فما أهون عليه أن يستمع إلى غريب الأحداث ليشبع بها خياله؛ فعلى الرغم من أنه في حياته العملية تراه يزن صدق الرواية على أساس خبراته الماضية، إلا أنه حين تمعن الرواية في بعدها عن الواقع، تراه يستغني عن الخبرة ومقياسها في التصديق أو التكذيب، وينصت بقلبه لا بعقله. وثالثًا: إنه مما لا ريب فيه أن حديث المعجزات يكثر بين الشعوب الجاهلة والمتأخرة؛ وحتى إذا وجدت شعبًا متحضرًا لا يزال يروي شيئًا عن هذه المعجزات، فستجده قد ورثها عن أسلافه أيام جهلهم وتأخرهم، وقد نقلها السلف إلى الخلف بعد أن أحاطها بشيء من الرهبة حتى لا يعبث بها عابث.

١  راجع النص رقم ١.
٢  An Enquiry Concerning Human Understanding (ed. Selby-Bigge)، فقرة ١١، ص١٧.
٣  المرجع السابق، فقرة ١١، ص١٧.
٤  المرجع نفسه، الفقرة نفسها في الصفحة نفسها.
٥  المرجع السابق، الفقرة نفسها، ص١٨.
٦  المرجع السابق، فقرة ١٢، ص١٨.
٧  المرجع السابق، فقرة ١٣، ص١٨-١٩.
٨  المرجع نفسه، فقرة ١٤، ص١٩.
٩  المرجع نفسه، فقرة ١٥، ص٢٠.
١٠  المرجع نفسه، فقرة ١٦، ص٢١.
١١  ختام الفقرة السابقة.
هذه المشكلة التي أبرزها هيوم ثم قال عنها إنها من التفاهة بحيث لا يجوز أن تُتَّخذ مبررًا لرفض مذهبه، لها حل في ضوء التحليل الفلسفي المعاصر؛ فالمشكلة هي: هل يمكن للإنسان أن «يعرف» شيئًا لم يأتِه عن طريق خبرته؟ هل يمكن — مثلًا — لمن لم يمارس الحب أو الخوف أن يعرف ما معناهما؟ والجواب على ذلك هو بالإيجاب، وذلك بتحليل المعرفة إلى نوعين: معرفة بالاتصال المباشر ومعرفة بالوصف، أما الأولى فهي التي قال عنها هيوم إنها معرفة انطباعية، تأتي عن طريق الحس المباشر أو الخبرة المباشرة؛ وأما الثانية فهي التي أركِّبها تركيبًا منطقيًّا من عناصر تأتيني عن طريق الاتصال المباشر، فأستطيع مثلًا أن أشاهد الآثار المختلفة التي تبدو على من يمارس حالة الحب أو حالة الخوف، ومنها أكوِّن لنفسي صورة عقلية أفهم بها معنى لفظة حب أو لفظة خوف، وتكون هذه المعرفة معرفة بالوصف؛ وكذلك قل في درجة الأزرق التي لم أشاهدها لكنني أستطيع أن أعرفها بالتعريف فأقول إنها الدرجة التي تقع بين كذا وكذا من درجات اللون.
١٢  المرجع نفسه، فقرة ١٧، ص٢٢.
١٣  راجع كتابي «المنطق الوضعي»، ص٣٦ وما بعدها.
١٤  راجع القسم السابع من الجزء الأول من كتابه «رسالة في الطبيعة البشرية». A Treatise of Human Nature (ed. Selby-Bigge).
١٥  المرجع المذكور، ص١٨.
راجع النص رقم ٢.
١٦  المرجع المذكور، ص١٨-١٩.
١٧  المرجع نفسه، ص١٩.
١٨  المرجع السابق، ص١٩-٢٠.
١٩  المرجع السابق، ص٢٠-٢١.
٢٠  المرجع نفسه، ص٢١.
٢١  المرجع السابق، ص٢٥.
٢٢  An Enquiry concerning Human Understanding, (ed. Selby-Bigge) فقرة ١٨، ص٢٣.
٢٣  المرجع السابق، الفقرة نفسها في الصفحة نفسها.
٢٤  المرجع السابق، فقرة ١٩، ص٢٤.
٢٥  هذه هي الأمثلة التي يسوقها هيوم نفسه؛ راجع فقرة ١٩، ص٢٤. من المرجع السابق.
٢٦  A Treatise of Human Nature, (Everyman’s edition)، ص١٨٤.
٢٧  المرجع السابق نفسه، ص١٨٤.
٢٨  راجع النص رقم ٣.
٢٩  المرجع نفسه، ص١٨٨.
٣٠  المرجع السابق، ص١٩٣.
٣١  المرجع السابق، ص١٩٤.
٣٢  المرجع السابق، ص١٩٥.
٣٣  راجع موضوع ترابط الأفكار في الفصل الأول.
٣٤  A Treatise of Human Nature (Everyman’s Edition)، ص١٩٧.
٣٥  المرجع السابق، ص١٧.
٣٦  المرجع السابق، ص٨٧.
٣٧  المرجع نفسه، ص٨٨.
٣٨  المصدر السابق، ص٨٨-٨٩.
٣٩  المصدر نفسه، ص١٨.
راجع النص رقم ٤.
٤٠  An Enquiry concerning Human Understanding (ed. Selby-Bigge)، ص٢٥.
٤١  المرجع السابق، ص٢٥-٢٦.
٤٢  Enquiry Concerning Human Understanding (ed. Selby-Bigge)، فقرة ٢٢.
٤٣  المصدر السابق، فقرة ٢٣.
٤٤  المرجع السابق، فقرة ٢٥، ص٢٩.
٤٥  راجع النص رقم ٥.
٤٦  المصدر نفسه، ص٣٤.
٤٧  المصدر نفسه، فقرة ٣٠، ص٣٥.
٤٨  المرجع نفسه، فقرة ٣١، ص٣٦.
٤٩  المصدر السابق، ص٣٨.
٥٠  A Treatise of Human Nature (ed. Selby-Bigge)، ص١٢٤.
٥١  المرجع السابق، الصفحة نفسها.
٥٢  يرى «نورمن كمب سمث» في كتابه عن «فلسفة ديفد هيوم» (ص٤١٥) أن احتمال المصادفات واحتمال الأسباب نوعان من الاحتمال يندرجان تحت الاحتمال التخميني، لكني أرى أن الأصوب أن يقال إنهما خطوتان تصلان ما بين الاحتمال التخميني والاحتمال البرهاني.
٥٣  يقول «نورمن كمب سمث» عن هذا الرأي في مذهب هيوم إنه أضعف آرائه جميعًا؛ راجع: Norman Kemp smith, The philosophy of David Hume، ص٤١٨.
٥٤  Treatise (ed. Selby-Bigge)، ص٢٧.
٥٥  راجع القسم السابع من «بحث في العقل البشري».
٥٦  An Enquiry Concerning Human Understanding (ed. Selby-Bigge)، ص٦٠.
٥٧  نفس المرجع، ص٦١.
٥٨  نفس المرجع، ص٦١.
٥٩  المرجع السابق، ص٦٢.
٦٠  «القوة» و«الطاقة» و«الرابطة الضرورية» كلها عند هيوم ألفاظ مترادفة، فلو قلنا مثلًا إن بين العلة والمعلول رابطة ضرورية، كان ذلك بمثابة قولنا إن في العلة «قوة» من شأنها أن تنتج المعلول.
٦١  المرجع المذكور، فقرة ٥٠، ص٦٣-٦٤.
٦٢  Enquiry، فقرة ٥٢، ص٦٥.
٦٣  المرجع نفسه، ص٦٦.
٦٤  المرجع السابق، ص٦٨.
٦٥  المصدر السابق، ص٦٩.
٦٦  Enquiry، فقرة ٥٥، ص٧٠-٧١.
٦٧  المرجع نفسه، فقرة ٥٦، ص٧١.
٦٨  المرجع نفسه، فقرة ٦٢، ص٨٠-٨١.
٦٩  المرجع السابق، فقرة ٦٤، ص٨٢-٨٣.
٧٠  المرجع السابق، فقرة ٦٥، ص٨٣-٨٤.
٧١  المرجع نفسه، ص٨٤.
٧٢  Enquiry (ed. Selby-Bigge) فقرة ٦٧، ص ٨٦-٨٧.
٧٣  المرجع نفسه، فقرة ٦٨، ص٨٨.
٧٤  المرجع السابق، فقرة ٧١، ص٩٢-٩٣.
٧٥  المرجع نفسه، فقرة ٧٢، ص٩٣.
٧٦  راجع النص رقم ٦.
٧٧  Treatise (ed. Selby-Bigge): الكتاب الأول، القسم الثالث، ص٣٣-٣٤.
٧٨  Treatise، ص٣٥.
٧٩  Treatise: راجع القسم السابع من الكتاب الأول، ص٩٤ وما بعدها.
٨٠  راجع بحثًا تحليليًّا دقيقًا في نظرية هيوم عن صدق القضايا التجريبية للفيلسوف المعاصر جورج مور في كتابه «بعض المشكلات الفلسفية الرئيسية» Moore, G. E., Some Main Problems of Philosophy فصل ٥، ٦.
٨١  Treatise، ص٩٦.
٨٢  Treatise، ص٩٨.
٨٣  هذه الأمثلة مأخوذة من مقالة جورج مور، انظر: Moore, G. E. Some Main Problems of Philosophy، ص٩٣.
٨٤  Treatise، ص٢٥١ وما بعدها.
٨٥  Treatise، ص٢٥٢.
٨٦  نفس الصفحة من المرجع السابق.
٨٧  نفس الصفحة من المرجع السابق.
٨٨  المرجع السابق، ص٢٥٣.
٨٩  Treatise، ص٢٥٤-٢٥٥.
٩٠  Treatise، ص٢٥٥–٢٥٧.
٩١  Treatise، ص٢٥٧–٢٥٩.
٩٢  راجع النص رقم ٧.
٩٣  Norman Kemp Smith, The Philosophy of David Hume، ص١٦٢.
٩٤  Treatise، ص١٩٢.
٩٥  Treatise، ص٤٧٢.
٩٦  Treatise، ص٤٣٨.
٩٧  يوسع هيوم أحيانًا هذه الصفة لتشمل أيضًا مجموعة العواطف الغريزية كالجوع وما إليه من شهوات الجسد. انظر: «الرسالة»، ص٤٣٩.
٩٨  Norman Kemp Smith, The Philosophy of David Hume، ص١٦٦.
٩٩  Treatise، ص٤٧٢، ٤٧٥-٤٧٦.
١٠٠  راجع هذا التقسيم مبوبًا في «جدول» واضح الأقسام عند نورمن كمب سمث، في كتابه «فلسفة ديفد هيوم»، ص١٦٨.
١٠١  Treatise، ص٢٧٧.
١٠٢  Treatise، ص٢٧٨.
١٠٣  Treatise، ص٣٣٠.
١٠٤  Treatise، ص٣١٧.
١٠٥  Treatise، القسم الحادي عشر من الجزء الأول من الكتاب الثاني.
١٠٦  An Enquiry Concerning the Principles of Morals (ed. Selby-Bigee)، ص١٧٠.
١٠٧  نذكِّر القارئ بأن كتاب هيوم الرئيسي «رسالة في الطبيعة البشرية» ينقسم ثلاثة أقسام: الأول خاص بالعقل، والثاني بالعواطف، والثالث بالأخلاق.
١٠٨  Treatise، راجع القسم الأول من الجزء الأول من الكتاب الثالث.
١٠٩  Treatise، ص٤٦٩.
١١٠  Laing, B. M., David Hume، ص١٨٩.
١١١  Treatise، ص٤٧١.
١١٢  Treatise، ص٤٧٢.
١١٣  Laing, B. M., David Hume.، ص١٩٢.
١١٤  Enquiry Concerning the Principles of Morals (ed. Selby-Bigge)، ص٢٩٤.
١١٥  راجع النص رقم ٨.
١١٦  Laing, B. M., David Hume، ص٢٠٢.
١١٧  Of the Original Contract، راجع النص الكامل في كتاب «نظريات هيوم السياسية» الذي نشره Frederick Watkins.
١١٨  راجع مقالة هيوم عن «العقد الابتدائي» في الكتاب الآتي: Frederick Watkins, Hume, Theory of politics، ص١٩٣–٢١٥.
راجع النص رقم ٩.
١١٩  راجع هذه المحاورات في نشر Bruce M’Ewen إذ قدمها بمقدمة تحليلية طويلة.
١٢٠  راجع النص رقم ١٠.
١٢١  القسم العاشر من «بحث في العقل البشري».
١٢٢  Enquiry Concerning Human Understanding (ed. Selby-Bigge)، فقرة ٩٠، ص١١٤-١١٥.
١٢٣  المرجع السابق نفسه، فقرة ٩١، ص١١٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤