تحليل الذوق الفني

١

الذوق حاسَّة من الحواس الخمس الظاهرة: البصر، والسمع، واللمس، والذوق، والشم. وعضو الذوق هو اللسان، كما أن عضو البصر هو العين، وعضو السمع هو الأذن، وعضو الشم هو الأنف، وعضو اللمس هو سطح الجلد كله؛ حتى لنستطيع أن نقول إن الحاسة الأولى في مراحل التطور البيولوجي هي اللمس، حين كانت الأميبا تُحسُّ محيطها باللمس وحده، ثم حدث على مر الزمن تخصُّص في أجزاء الجلد المختلفة، أدَّى إلى أن تختصَّ أجزاءٌ معيَّنة ﺑ «لمس» أجسام معيَّنة دون سواها؛ فالعين «تلمس» الضوء، والأذن «تلمس» الصوت، والأنف «يلمس» الرائحة، واللسان «يلمس» الطعم، وبقية سطح الجلد «تلمس» ما بقي بعد ذلك من ملموسات، كالنعومة والخشونة.

لكننا نُلاحظ أن شعوب الأرض جميعًا، على اختلاف لغاتها، قد اختارت حاسة «الذوق» دون سائر الحواس الأخرى لترمز بها إلى نوع المعرفة التي يحصِّلها الإنسان بالاتصال المباشر بالشيء المعروف، وحين تكون تلك المعرفة المباشرة ممتزجة بالميل والرغبة؛ وعلى هذا الأساس جاز لنا أن نقول إن للعين «ذوقًا» تُفاضل به بين الألوان المرئية، وإن للأذن «ذوقًا» تقوم به الأصوات المسموعة، وهلمَّ جرًّا؛ وترانا نتَّهم الناس في «أذواقهم» حين لا يُحسنون الاختيار، أو حين لا يصدُقون الحكم في شتَّى ضروب المحسوسات الأخرى، فلماذا نُنيب حاسة «الذوق» عن سائر الحواس الأخرى؟ ما الذي يميز حاسة الذوق دون بقية الحواس؛ مما يُكسبها هذه القوة التعبيرية التي تعبِّر بها عن مجالها الخاص أصالةً، وعن بقية المجالات نيابةً ومجازًا؟

إن أول ما نُلاحظه في هذا الصدد هو أن ثلاث حواس من الخمس تُحسُّ الشيء المحسوس وهو على مبعدةٍ منها، وهي حواس البصر والسمع والشم، فأنت ترى الشيء، أو تسمع الصوت، أو تشم الرائحة، دون ما حاجة إلى مس المصدر الخارجي مسًّا مباشرًا، بل إنه في حالتَي السمع والشم قد لا يكون ذلك المصدر ظاهرًا. وتبقى حاستان، هما اللمس والذوق، لا تعملان عملهما إلا إذا مسَّتا المصدر الخارجي مسًّا مباشرًا (لاحِظ المعنى الحرفي لكلمة «يُباشر»، وهو أن تمسَّ البشرة البشرة في الشيئين اللذين يتماسَّان).

لكننا نعود فنجد فرقًا هامًّا بين هاتين الحاستين المباشرتين، اللمس والذوق؛ وذلك أن التنبيه اللمسي آلي، على حين أن التنبيه الذوقي كيموي؛ وأعني بهذا أن التنبيه في الحالة الأولى لا يتطلَّب أكثر من وجود المنبِّه على سطح الجلد، وأما التنبيه في حالة الذوق فيتطلَّب إذابة المذوقات وتفاعلها بالمواد الموجودة في الحلمات التي تكسو الغشاء اللساني؛ أي إن التنبيه الذوقي يتطلب من الفاعلية العضوية في الجسم المدرَك أكثر مما يتطلبه التنبيه اللمسي.

وللذوق صلته الوثيقة بالتغذية — التي هي العماد الأول لبقاء الحياة — إذ هو بمثابة الحارس الذي يقف عند مدخل القناة الهضمية، يُميز بين الأجسام الداخلة تمييزًا يمكنه من قَبول المفيد منها ورفض الضار المميت.

ومن هذا التحليل السريع، نخلُص إلى نتيجتين خاصتين بحاسة الذوق؛ الأولى: هي أن هذه الحاسة أقرب إلى الفطرة الأولية من غيرها؛ لأنها متصلة بمادة الغذاء الذي هو مادة الحياة، ولأنها تمتزج بالشيء المحسوس امتزاجًا لا يدع لها فرصةً تتروَّى فيها أو أن تتدبَّر الأمر قبل حدوثه؛ فالشيء المحسوس باللسان إما مقبول فورًا أو مرفوض فورًا، وليس الأمر كذلك بالنسبة لحاسة البصر — مثلًا — فلأننا نرى الشيء وهو على مبعدة منا، يُتاح لنا أن «نفكر» في نتيجة الصدام بيننا وبينه قبل وقوعه، فإما أن نُقرر العمل على التقرب إذا كان مُعينًا لنا، أو أن نُقرر الفرار إذا كان مُناهضًا لمصالحنا؛ ومن أجلِ ضرورةِ البتِّ السريع بالنسبة لحاسة الذوق، كان لا بد لها من قابليةٍ شديدة للتهذيب لكي تُرهَف الإرهاف الذي يُساعدها على هذا البتِّ السريع في القبول والرفض، أفيكون غريبًا بعد هذا أن تُتخذ مقياسًا للتهذيب الحضاري كله؟

الثانية: هي أن حاسة الذوق لكونها مباشرةً على النحو الذي وصفناه، فإنها لا تستغني بالرمز عن الموقف نفسه. وأشرح ذلك قليلًا فأقول إن الكائن الحي وهو على فطرته يستجيب لمواقف مُتعيِّنة مُشخَّصة، حتى إذا ما نما في طريق الإدراكات المجردة (وهو نموٌّ خاص بالإنسان وحده دون سائر الحيوان) أخذ يُنيب شيئًا عن شيء، فجزءٌ واحد من أجزاء الموقف يكفيه ليستجيب الاستجابة التي لم يكن ليستجيبها إلا للموقف كله، ثم يمضي الإنسان في عملية الإنابة التجريدية هذه حتى يصل إلى مرحلة استخدام اللغة، وهنا تُغنِيه اللفظة عن الشيء نفسه، فيستجيب لها الاستجابة نفسها التي يستجيب بها للشيء ذاته لو كان قائمًا أمامه مشهودًا له.

والذي نقوله الآن هو أن حاسة الذوق لا تستغني بالرمز — لغويًّا أو غير لغوي — عن الشيء نفسه أو عن الموقف نفسه؛ لضرورة أن يكون الشيء المُذاق واقعًا وقوعًا مباشرًا على اللسان. نعم إن عملية الإنابة بالرموز — الرموز اللغوية أو غيرها — هي من أقوى علامات الرُّقي الإنساني، حتى لقد قيل إن استخدام «الكلمة» — أي الرمز — هو المرحلة التي حدَّدت خروج الإنسان في مدارج التطور البيولوجي من عالم الحيوان الأعجم، ومن هنا قيل عنه إنه الحيوان الناطق، كما قيل في الكتب المقدَّسة على اختلافها إن في البدء كانت الكلمة. أقول إنه على الرغم من عملية الإنابة بالرموز عن الأشياء والمواقف، وإن تكن أقوى علامة على الرقي الإنساني، إلا أنها في الوقت نفسه تتضمَّن البعد بين الإنسان المدرِك والشيء المدرَك؛ ولذلك خلَت منها حاسة الذوق، وهذا هو السر في أننا نُشير ﺑ «الذوق» إلى أية عملية إدراكية يكون فيها الإنسان على صلةٍ مباشرة بالشيء المدرَك، سواء أكان ذلك الشيء مرئيًّا — كما هي الحال عند رؤية لوحة فنية — أم كان مسموعًا كما هي الحال عند الاستماع إلى قطعةٍ موسيقية أو إلى قصيدة من الشعر.

٢

على ضوء هذا الذي أسلفناه، نستطيع أن نفرِّق بين شيئين كثيرًا ما يحدث الخلط بينهما، وهما: (١) التذوق الفني. (٢) النقد الفني.

فالتذوق الفني هو أن تُجابه عملًا فنيًّا مجابهةً مباشرة، «فتذوقه» بالحاسة المُلائمة له (بالعين إذا كان صورة، وبالأذن إذا كان نغمة) تمامًا كما تضع لقمة الطعام على لسانك وضعًا مباشرًا لتذوقها بلسانك؛ فها هنا لا نطق ولا كلام ولا تجريد ولا رمز؛ إنك تتذوق ما تتذوقه وأنت صامت، تنظر إلى اللوحة في صمت، أو تُنصت إلى القطعة الموسيقية في صمت، وإلى هنا فلا نقد؛ لأن النقد يقتضي أن تُعلق على ما قد تذوَّقته تعليقًا تُبين به — بعد تحليل — لماذا جاء تذوقك له على النحو الفلاني من إعجاب أو من نفور.

وإذن فمرحلة النقد الفني هي مرحلةٌ ثانية تأتي بعد مرحلة الذوق أو التذوق، وهي مرحلة — كما قلت لتوِّي — يقوم فيها الناقد بعمليةٍ تحليلية؛ أي بعملية فكرية لا ذوقية؛ إذ يُحاول أن يلتمس المواضع والعناصر التي تدخل في تركيب الشيء المنقود، والتي كان من شأنها أن تُحدِث ما قد أحدثته من أثر إبَّان عملية التذوق. ولا أريد أن أترك هذه النقطة قبل أن أُبدي عَجبي من أولئك الذين يُصرون على أن النقد الفني عمليةٌ ذوقية لا مجال فيها للفكر العقلي، ولست أدري كيف يفرِّق هؤلاء — بناءً على وجهة نظرهم هذه — بين التذوق الذي يتبعه نقد، وبين التذوق فقط! أم أنهم يحسبون أن كل متذوق ناقدٌ؟ كلا، فبينما لا يكون نقدٌ فني إلا إذا سبقه تذوق، يجوز أن يكون هنالك تذوق بغير أن يلحقه نقدٌ فني. إن الناقد الفني يسأل نفسه — بعد أن تذوَّق ما تذوَّقه — لماذا كان ذلك كذلك؟ وما دام هو يسأل عن «أسباب» فهو يؤدي عمليةً فكريةً عقلية يعلِّل بها الحالة الذوقية التي مرَّ بها مُمارسًا ومُكايدًا ومُعانيًا ومُخالطًا ومُعايشًا، وما شئت من هذه المترادفات.

لكن الناقد إبَّان عملية التحليل للقطعة الفنية، كثيرًا ما يتأثَّر في تحليله بفكرةٍ سابقة تجعله يبحث عن شيءٍ معيَّن، هذا أمر لا بد منه؛ لأن القطعة الفنية مكوَّنة من آلاف العناصر، فماذا يُجديه تحليل تلك العناصر الكثيرة ما لم يكن مُهتديًا بشيءٍ يبحث عنه؟ وباختلاف هذا الشيء المبحوث عنه تختلف مذاهب النقد الفني؛ فهنالك الناقد الذي يعتقد أن القطعة الفنية إنما جسَّدت مشاعر كانت — قبل تجسيدها — كائناتٍ نفسيةً باطنية يشعر بها صاحبها شعورًا داخليًّا، وبتجسيدها أصبحت كائناتٍ مرئيةً — في حالة التصوير مثلًا — أو كائنات مسموعة في حالة الموسيقى، وما دامت هذه هي عقيدة الناقد في القطعة الفنية التي يريد تحليلها، فتراه يبحث فيها عن الدلالات التي تُشير إلى الحالات الشعورية النفسية التي دفعت الفنَّان إلى خَلق فنه هذا؛ أفيها — مثلًا — ما يدل على النشوة أم فيها ما يدل على الحزن؟ أفيها ما يدل على الانطلاق الحر أم فيها ما يدل على التقيد؟ أفيها ما يدل على تلقائية الطفل وهو على فطرته، أم فيها ما يدل على تدبير العقل الرشيد وهو مكبَّل بأغلال القواعد؟ وهكذا وهكذا.

وليس في هذا الاتجاه النقدي — أعني الاتجاه الذي ينتقل من العناصر المحسوسة التي أمامه إلى العناصر النفسية الخافية في بطن الفنَّان — أقول ليس في هذا الاتجاه النقدي ما يدعو إلى الغرابة؛ لأنه مستند إلى أساسٍ طبيعي؛ فالإنسان بطبيعته الجسدية نفسها تراه يُخرِج الباطن في علاماتٍ ظاهرة، فيُخرِج الخجل — وهو حالةٌ نفسية — في حُمرة الوجه، ويُخرِج الخوف — وهو حالةٌ نفسية أيضًا — في اصفرار الوجه ورعشة الأطراف، ويُخرِج الغضب — وهو حالةٌ نفسية كذلك — في تقطيبة الجبين، وهكذا. أفلا يجوز للفنَّان — على هذا الأساس — أن يُخرِج حالاته على اللوحة ألوانًا أو خطوطًا دالةً عليها؟

وها هنا نُلاحظ أن الناس قد تواضَعوا — لأسبابٍ بيولوجية في معظم الأحيان، ولأسبابٍ اجتماعية ثقافية في بقية الأحيان — تواضَعوا على أن تكون الألوان والخطوط دالةً على حالاتٍ نفسية معيَّنة؛ فاللون الأحمر — الذي هو في الطبيعة لون النار ولون الدم — صالح لأن يرمز إلى اضطراب العاطفة وهيجانها، وإلى العنف؛ واللون الأبيض — الذي هو في الطبيعة كثيرًا ما يكون ناشئًا عن الخلو من القذر — صالح لأن يرمز إلى الحالات النفسية التي تكون خالية من الشوائب، كالطُّهر والصفاء ونقاء الضمير؛ والضوء — الذي هو في الطبيعة آتٍ من مصادر في السماء كالشمس مثلًا — صالح لأن يرمز إلى الشعور بالقداسة، وكذلك الارتفاع المكاني نرمز به إلى الارتفاع المعنوي، وإن شئت فانظر إلى الألفاظ اللغوية الدالة على «الرفعة» الروحية، تجدها جميعًا — في أصلها — كلماتٍ استُخدمت أساسًا للدلالة على ارتفاعٍ مادي في المكان، مثل: «شرف»، و«سمو»، و«شمم»، و«أنفة»، و«علو» … إلخ. والعكس صحيح أيضًا؛ أي إن الكلمات الدالة في أصلها على انخفاضٍ مادي في المكان، تُستخدم بالطريقة الرمزية لتدل على انخفاضٍ روحي، مثل: «مُنحط»، و«سافل»، و«دنيء»، و«واطي» … إلخ.

وفي هذه المناسبة تعنُّ لي ملاحظةٌ جديرة بالذِّكر ونحن بصدد النقد الفني، وهي أن هنالك بين العلامات الجسدية الدالة على الحالات النفسية فرقًا جوهريًّا؛ فمنها ما يستحيل على الإنسان أن يفتعله مُتعمدًا، كحمرة الخجل، ومنها ما يستطيع الإنسان أن يفتعله مزوِّرًا، كتقطيبة الجبين الدالة على الغضب. وكذلك الحال بالنسبة لإخراج الحالات النفسية في رموزٍ فنية كالألوان؛ فقد يستخدم الفنَّان لونًا ما ليدل به — صادقًا — على حالته الشعورية المُلائمة له، وقد يستخدمه مُقلدًا لغيره؛ فهو مزوِّر في فنه، وعلى الناقد الفني أن يميِّز بين هاتين الحالتين في عالم الفن، كما يميِّز بينهما الإنسان المجرِّب في دنيا الحياة العملية.

هكذا قد يبحث الناقد في القطعة الفنية المنقودة عن العلامات التي تدله على ما قد كان في دخيلة نفس الفنَّان من مشاعر، كأنما هو يسير طريقه بادئًا من الخارج إلى الداخل، أو بتعبيرٍ أصح، كأنما هو يستدل النصفَ المغموس المُختفي، من النصف الظاهر البادي للعين.

لكن الناقد قد يبحث عن شيءٍ آخر؛ ولذلك فقد يغيِّر مَجرى سيره؛ إذ قد يبحث عن شيء خارج العمل الفني نفسه، وخارج ذات الفنَّان، يبحث عنه في حوادث الماضي — مثلًا — أو فيما ورد في الكتب (مقدَّسة أو غير مقدَّسة) من أساطير وقصص، أو في مظاهر الطبيعة من جبال وأنهار وما إلى ذلك، أو في أشخاص بأعينهم، وهكذا. وكلما كان الأثر الفني أنصع دلالةً على ذلك الشيء الخارجي، كان أجود. وقد يدخل في هذا القبيل أن يبحث الناقد في الأثر الأدبي عن عناصر تدل على المبادئ الخُلقية المعترَف بها في المجتمع، كالعفة والعدل والطُّهر وما إليها.

هذان اتجاهان في النقد الفني مُتضادَّان؛ أحدهما يتسلَّل خلال العمل الفني إلى ما وراءه في نفس خالقه، والثاني يتسلَّل خلال العمل الفني إلى ما وراءه في العالم الخارجي — ماضيه أو حاضره — وبالطبع قد يلتقي هذان الاتجاهان في ناقدٍ واحد وإزاء عمل فني واحد، وعندئذٍ ترى النقد يُعنى بالاتجاه النفسي إلى جانب عنايته بدلالة القطعة الفنية على أمور الواقع. وتستطيع أن تجمع هذين الاتجاهين تحت نظرية نقدية واحدة تشملهما معًا، هي نظرية المُحاكاة، التي تقول إن العمل الفني يُحاكي شيئًا سواه، وهذا الشيء المُحاكى إما أن يكون في داخل الفنَّان أو أن يكون في خارجه، ولو أن بعض رجال النقد يقصُرون نظرية المُحاكاة على مُحاكاة الفن للخارج فقط، ثم يُطلِقون على مُحاكاة الفن للداخل اسم «النظرية النفسية» آنًا، و«النظرية التعبيرية» آنًا آخر.

لكن هنالك مذهبًا ثالثًا في النقد، يتشيَّع له كاتب هذه الأسطر، وهو مذهب في حركة النقد الفني جديد في أوروبا وأمريكا، وقديمٌ معروف في حركة النقد الفني عند العرب الأقدمين، ومؤدَّاه أن ينصبَّ تحليل الناقد على العمل الفني نفسه، لا لننفذ خلاله إلى نفس الفنَّان، ولا إلى العالم الخارجي بماضيه وحاضره، بل لنقف عنده هو ذاته، فنرى كيف تأتلف عناصره؛ مما قد أدَّى إلى حسن وَقْعه على «ذوق» المتذوِّق. نعم، نحصر أنفُسنا في العمل الفني نفسه، فلا نسمح لأي عامل خارجي أن يتدخَّل في حكمنا، كنفس الفنَّان ومشاعره، أو حوادث التاريخ، أو الأساطير الدينية وغير الدينية، أو المبادئ الخُلقية، أو الأفكار الفلسفية، أو المذاهب السياسية؛ فلا يجوز للناقد — بناءً على هذه المدرسة الجديدة — أن يسأل عن لوحة — مثلًا — قائلًا: ما مَغزاها؟ أو ما معناها؟ لأنه لا مَغزى ولا مَعنى في الفنون؛ إذ الفن «خَلقٌ» لكائنٍ جديد. هل نسأل عن جبل أو عن نهر أو عن شروق أو غروب قائلين: ما مغزى؟ وما معنى؟ أو هل تُرانا ننظر إلى التكوين وحده مُعجَبين أو نافرين؟ وهكذا ينبغي أن يكون موقفنا إزاء العمل الفني؛ لأنه خَلق وإنشاء، وليس كشفًا عن أي شيء كان موجودًا بالفعل ثم جاء الفن ليصوِّره. العمل الفني — بناءً على هذه المدرسة النقدية — مِعياره هو الفن نفسه؛ فمعيار الشعر هو الشعر، ومعيار الموسيقى هو الموسيقى، ومعيار التصوير هو التصوير، وهكذا؛ أعني أن تقاليد كل نوع من أنواع الفنون، وقواعده الخاصة به، هي السَّند في أحكامنا النقدية، ولا يجوز لناقد اللوحة التصويرية — مثلًا — أن يقوِّمها على أساس ما فيها من حادثةٍ تاريخية، أو من موقعةٍ حربية، أو من أسطورة أو قصة، أو من حكمةٍ فلسفية، أو من مبدأٍ خُلقي، كل هذه أشياء لها قيمتها في مِضمارها، لكنها ليست من فن التصوير ذاته؛ فمادة التصوير لون؛ أعني أن مادته هي الضوء، كما أن مادة الموسيقى هي الصوت، ولا بد لنا أن نُحاسب الفنَّان على الطريقة التي وزَّع بها هذا اللون أو هذا الضوء على لوحته، بغضِّ النظر عن الشيء المرسوم؛ لأن هذا الشيء لا يزيد على كونه تكئةً اتَّخذها الفنَّان اتفاقًا ليرتكز عليها في تكوين الكُتل الضوئية على اللوحة.

٣

وأيًّا ما كان الأمر بالنسبة إلى النقد الفني وقواعده وأهدافه، فموضوعنا هو الذوق الفني، وقد أسلفنا القول بأنه شيءٌ يختلف عن النقد الفني؛ إذ هو المرحلة الأولى الضرورية التي لا بد أن يجتازها الرائي — أو السامع — قبل أن يقف حِيالها ليسأل نفسه عن العناصر التي كانت مَبعث نشوته الفنية، وسؤالنا الرئيسي هو: ما هي الخيوط الأولية التي منها ينشأ النسيج الذي ندعوه ﺑ «الذوق الفني»؟ ماذا عند صاحب الذوق الفني مما يُعوِزه مَن ليس عنده مِثلُ هذا الذوق؟ هذا هو السؤال.

والرأي الذي انتهيت إليه في هذا، والذي أعرضه الآن، هو أن اكتساب القدرة الذوقية في مجال الفنون معتمدٌ على نفس الأساس الذي تتعلَّم عليه ألفاظ اللغة. ولشرح هذه الفكرة أقول:

إن مُتعلم اللغة إنما يتعلم ألفاظها وتراكيبها أول الأمر بعملية الترابط بين الوحدة اللغوية من جهة وبين الشيء المسمَّى بتلك الوحدة من جهةٍ أخرى؛ فإذا أُشيرَ أمام الطفل إلى برتقالة ثم نُطِق له في نفس اللحظة بكلمة «برتقالة»، ربط بين الشيء والكلمة ربطًا يجعله بعد ذلك يستغني بالواحدة عن الأخرى؛ أي إن الكلمة وحدها تكفي للتفاهم بعد ذلك، ولا داعي بعدئذٍ إلى أن يجيء المُتفاهم ببرتقالةٍ حقيقية كلما أراد أن يتفاهم على شيءٍ يتَّصل بها، وتلك هي المهمة العظمى والأهمية الكبرى للرمز في حياة الإنسان العقلية.

لكن الرمز اللفظي قد يكون أحيانًا غير محدَّد الإشارة، وذلك حين يُستخدم لينطبق على أسرةٍ كبيرة من الأشياء والمواقف، بينها شَبهٌ ظاهر أو شَبهٌ خفي، وعندئذٍ لا يكون سبيل إلى تحديد مثل هذا الرمز إلا ضرب الأمثلة من أفراد تلك الأسرة التي ينطبق عليها؛ فلو سألتني مثلًا: ما معنى كلمة «مربَّع»؟ لما وجدت حيرة في أن أُشير لك إلى شكلٍ مرسوم على صورةٍ معيَّنة قائلًا: هذا هو مربع. ثم لما وجدت حيرة في أن أصف لك على وجه الدقة مجموعة الخصائص التي تجعل من المربع مربعًا، لكنك لو سألتني: ما معنى «الحب»؟ أو ما معنى «الغيرة»، مثلًا؟ لأخذتني الحيرة في طريقة تحديد المسمَّى؛ ولذلك فقد تراني أذكر لك الأمثلة الموضِّحة، قائلًا: أما الحب فهو الذي يتمثَّل في حالات كالَّتي وقعت بين قيس وليلى، وبين روميو وجولييت، وأما الغيرة فهي التي تتمثَّل في حالات كالَّتي نعرفها في عطيل. وإذن فمعاني ألفاظ كهذه تزداد تحديدًا كلما ازدادت خبراتنا بمواقف مُتشابهة من أسرةٍ واحدة.

ومن هذا القبيل الألفاظ الجمالية التي نستخدمها في وصف التذوق الفني؛ فالرائي يقف أمام صورة مثلًا، وفجأةً تراه يتذكَّر من خبراته الماضية مواقف يجد بينها وبين هذه الصورة الماثلة أمامه وجهًا من الشَّبه، فيصف الصورة بنفس الكلمة التي يصف بها تلك المواقف المألوفة في حياته اليومية، كأنْ يقول مثلًا: إن في هذه الصورة «رشاقة»، أو إن فيها «حرارة» أو «حركة»، وهكذا.

خذ إحدى هذه الكلمات، ولتكُن «الرشاقة»، وسَل نفسك: كيف جاءتني هذه الكلمة؟ وكيف تعلَّمتها؟ ثم ما معناها؟ تجد أن الطريقة الوحيدة لتعلمها هي أنها ارتبطت في ذهنك بأشياء، إن اختلفت في نواحٍ فهي تتشابه في نواحٍ أخرى تشابهًا يبرِّر أن نَصِفها كلها بهذه اللفظة الواحدة. وإنك لتعرف كيف تستعمل الكلمة استعمالًا صحيحًا، ولكنك قد لا تعرف أبدًا كيف تحدِّد معناها تحديدًا قاطعًا جامعًا مانعًا. إنك تعرف متى تصف فتاة بالرشاقة، ومتى تصف إناءً بالرشاقة، ومتى تصف طائرًا بالرشاقة، ومتى تصف زهرة بالرشاقة؛ ففِيمَ تتشابه هذه الأشياء الرشيقة كلها؟ أنقول إنها تتشابه في نُحول الأجزاء ودقتها ورقتها؟ لكن هذا وحده لا يكفي؛ لأنني قد أرى الفتاة النحيلة الأجزاء فأصفها بالمرض ولا أصفها بالرشاقة؛ إذن فلا بد أن تُضاف إلى النحولة حيوية الصحة ونشاط العافية؛ فإذا ما نظرت إلى صورةٍ رقيقة الخطوط هادئة الألوان ووصفتها بالرشاقة، فإنني بذلك أضمُّها إلى سائر أفراد الأسرة التي توافرت لها الصفات التي تسوغ هذه التسمية، وبمقدار ما تكون لك القدرة على إيجاد الشَّبه بين الصورة وبين أشياء الحياة الجارية المألوفة في أمثال هذه الصفات الجمالية، تكون لك القدرة الذوقية؛ وإذن فما نُسميه بالذوق الفني يرتدُّ في نهاية التحليل إلى قدرة على تطبيق الألفاظ الجمالية على عملٍ فني.

وقد تسألني: ماذا تعني بقولك «لفظة جمالية»؟ وأُجيب بأنك حين تكون بإزاء عمل فني — كلوحة مثلًا — وتريد أن تتحدث عن ذلك العمل، فلن يخرج حديثك عن استعمال أحد نوعين من الكلمات:
  • (أ)

    فإما أن تستخدم كلمات لها دلالاتٌ محسوسة في أجزاء العمل الفني المعروض، كأن تقول مثلًا: «لون أصفر»، أو تقول: «خط مستقيم».

  • (ب)

    أو أن تستخدم كلمات ليس لها دلالاتٌ محسوسة في أجزاء العمل الفني المعروض، كأن تقول مثلًا عن لوحةٍ ما إن فيها «حياة». بديهيٌّ أن ليس فيها حياة بالمعنى المعروف لهذه الكلمة، فهي لا تأكل ولا تشرب ولا تمشي؛ إذن فهذه الكلمة لم تُستخدم لتُشير إلى أي جزء محسوس مرئي يُشار إليه بالأصابع، بل تُشير إلى صفاتٍ مقدَّرة، وغير محسوسة بحاسة البصر، وإنما المعوَّل في استخدامها هو التشابه من بعض الوجوه بين الصورة من جهة وبين الكائنات الحية من جهةٍ أخرى، وصاحب الذوق الفني هو الذي له القدرة على إيجاد هذا التشابه، والقدرة على الوقوع على اللفظة المناسبة التي تحدِّد نوع هذا التشابه بين العمل الفني وبين أشياء الحياة الجارية. وإني لأخشى أن يظنَّ ظانٌّ أن المسألة إن كانت كذلك فهي هيِّنة، لكنه ظنٌّ بعيد عن الحقيقة بعدًا بعيدًا، ولطالَما استمعت إلى أصحاب الذوق الفني وهم يُطلِقون أمثال هذه الكلمات الجمالية التي تُلقي الضوء على أوجه الشَّبه بين العمل الفني وبين أشياء الحياة اليومية ومواقفها، فكنت أُحسُّ أحيانًا أن كلمة من هذه الكلمات حين تجيء صائبةً، تفتح مغاليق العمل الفني أمام عيني.

وقد يحدث أن صاحب الذوق الفني، إذ هو يصف العمل الفني بلفظةٍ جمالية تبيِّن سر جمالها، يرتِّب وصفه الجمالي هذا على وصفٍ جمالي آخر، كأن يقول مثلًا: في هذه اللوحة حيويةٌ شديدة؛ لأن خطوطها حرةٌ قوية جريئة، أو إن هذه اللوحة فيها تلقائية؛ لأن خطوطها تنساب في سهولة ويسر، أو إن هذه اللوحة متَّزِنة لما بين أنغامها اللونية من تجاوُب.

وفي مِثل هذه الحالة التي يرتِّب فيها الناقد الفني صفةً جمالية على صفةٍ جمالية أخرى، يكون كمن يترك الخيوط سائبة الأطراف معلَّقة في الهواء. وفي رأيي أن التعليل الذوقي لا تتمُّ دورته إلا إذا عاد الناقد فربط بين ألفاظه الجمالية التي لا تُشير إلى شيءٍ محسوس في اللوحة المعروضة أمامه — إن كان العمل المنقود لوحة — وبين شيء محسوس فيها، تراه العين بين أجزائها وتُشير إليه الأصابع. وكأن يقول مثلًا: إن هذه اللوحة رشيقة (الرشاقة لفظةٌ جمالية لا تُشير إلى محسوس) بسبب هذه الخطوط المُنحنية (الخطوط المُنحنية المُشار إليها شيءٌ محسوس)، أو إن هذه اللوحة ينقصها الاتزان (الاتزان لفظةٌ جمالية) لكثرة الشخوص في جانبها الأيمن دون جانها الأيسر (كثرة الشخوص شيءٌ محسوس)، أو لشدة اللمعان في أحد جانبَيها دون الآخر (اللمعان شيءٌ محسوس). وإذا لم يقدِّم لنا الناقد الفني الذي يعلِّل تذوُّقه لعملٍ ما شواهد حسية كهذه، كان كالذي ما يزال واقفًا عند مرحلة التذوق وحدها لا يجد لها تعليلًا نقديًّا. وأحسب أننا جميعًا قد مرَّت بنا أمثال هذه الحالات، والواحد منا ينظر إلى صورة أو تمثال، أو وهو يسمع قطعةً موسيقية أو قصيدةً من الشعر؛ إذ هو يُحسُّ إحساسًا قويًّا بما فيها من صفاتٍ جمالية يستطيع أن يفسِّرها تفسيرًا جماليًّا بما يهتدي إليه من أوجه الشَّبه بينها وبين خبراته المُعتادة المألوفة، لكنه يعجز عن تحديد الأجزاء الفعلية في العمل الفني الذي أحسَّ نحوه هذا الإحساس؛ الأجزاء الفعلية التي قد أدَّت به إلى إحساسه ذاك، حتى يُسعفه الناقد البارع، فيضع أصابعه على تلك العناصر الحسية في الأثر الفني، وعندئذٍ تراه يُدرك على الفور أنه قد عثر على ضالَّته، أو أن غطاءً قد انكشف عن المجهول فوَضَح أمام العين.

ومؤدَّى هذا الذي قلناه أن الذوق الفني يسير خطوتين؛ في الخطوة الأولى تكون لدى المتذوِّق قدرة على وصف العمل الفني بألفاظٍ جمالية، وفي الخطوة الثانية يربط هذه الألفاظ الجمالية بجوانب محسوسة في العمل المنقود، والفرق المنطقي بين الخطوتين هو أن الناقد الفني في الحالة الأولى يستخدم ألفاظًا تصدُق على أشياء كثيرة في وقتٍ واحد؛ فليس هناك شيءٌ واحد محدَّد هو الذي لا بد أن يوصف ﺑ «الاتزان» — مثلًا — بحيث لا يجوز أن يوصف شيءٌ غيره بهذه الصفة، ولنفرض أن الأشياء التي يمكن أن تنطبق عليها كلمة «اتزان» هي إما «أ» أو «ب» أو «ج» أو «د»، كل واحدة من هذه الحالات لو وُجدت في الصورة قيل عن الصورة إن فيها «اتزانًا». وأما في الحالة الثانية فالناقد لا يكتفي بهذه اللفظة «العائمة» ثم يتركها لتعني أي شيء من الأشياء المختلفة التي قد تعنيها («أ» أو «ب» أو «ج» أو «د»)، بل يحدِّد معناها في الموقف المعيَّن الذي هو فيه، فيقول إن في هذه الصورة التي أمامي الآن «اتزانًا» لأن فيها «ب» (افرض أن «ب» معناها هنا تعادُل الكُتل اللونية في جانبَي الصورة). بعبارةٍ أخرى، موقف الناقد في الخطوة الأولى التي يستخدم فيها لفظًا جماليًّا هو موقفٌ «مفتوح»؛ أي أنه قابل لأن تدخل فيه أشياء كثيرة، وأما موقفه في الخطوة الثانية التي يُشير فيها إلى شيءٍ محسوس في العمل المنقود فهو موقفٌ «مُقفَل»؛ لأن الأمر عندئذٍ يُختَم وينحسم بالإشارة إلى شيءٍ واحد دون سائر الأشياء التي قد تعنيها اللفظة الجمالية في الحالة الأولى.

وأُحبُّ هنا أن أُشير إلى أن هذا التحليل لا يصدق فقط على النقد الفني، بل هو بعينه ما نراه في مجالاتٍ كثيرة أخرى؛ فافرض مثلًا أن أحدًا وصف شخصًا ما ﺑ «الذكاء»، فلا شك أنه يكون عندئذٍ قد حدَّده بعض التحديد، لكن «الذكاء» كلمةٌ يصح استعمالها في حالاتٍ متعددة، ولنرمز إلى هذه الحالات بالرموز «أ»، «ب»، «ج»، «د»؛ أي إن كل حالة من هذه الحالات يجوز وصفها بكلمة «ذكاء»، لكن الأمر ينحسم بالخطوة الثانية التي يقول فيها القائل إن هذا الشخص المعيَّن موصوف ﺑ «الذكاء» لأنه «قادر على التفكير المجرد»، أو «لأنه قادر على ربط العلاقات بين أشياء قد يبدو أن ليس بينها أية علاقة»، وهكذا.

على أن هذا الطريق ذا المرحلتين الذي حلَّلنا به تكوين الذوق الفني، لا يجوز السير فيه إلا في اتجاهٍ واحد، وإلا تعرَّضنا للزلل إذا نحن سِرنا في الاتجاه المُضاد — وكثيرًا ما يكون هذا هو موضع الزلل بالنسبة للناقد المُبتدئ — وأعني بذلك أنه إذا جاز لنا أن نقول عن صورةٍ ما: إن هذه الصورة دافئة، بسبب هذا اللون الأحمر الباهت الذي نراه فيها، فلا يجوز أن أسير في الاتجاه المُضاد فأقول: إن في هذه الصورة لونًا أحمر باهتًا؛ وإذن فلا بد أن تكون صورة دافئة؛ وذلك لأنه بينما صفة الدفء لا تتوافر ولا تتحقق إلا باللون الأحمر، إلا أن العكس قد لا يكون صحيحًا؛ أي إنه قد يتوافر اللون الأحمر دون أن يسود في الصورة صفة الدفء. ولو قلت هذا بمصطلحٍ منطقي لقلت: إن صِدق المقدَّم في الجملة الشرطية يستدعي صِدق التالي، لكن صِدق التالي لا يستلزم صِدق المقدَّم.

وأُجمِل فأقول:
  • (١)

    استخدمنا كلمة «الذوق» للإدراك الفني — دون الحواس الأخرى — لما يتَّصف به ذوق الطعام باللسان من اتصالٍ مباشر بالشيء المتذوَّق، ومن فاعليةٍ يقوم بها اللسان إزاء الشيء المتذوَّق ليبتَّ في أمره بتًّا سريعًا ولا يحتاج إلى تدبر وتفكير، فإما أن يقبل الشيء المتذوَّق فيسمح له بالدخول، وإما أن يرفض فيلفظ؛ لأن دخول الطعام أمرٌ حيوي بالنسبة للكائن الحي.

  • (٢)

    والذوق الفني كالذوق باللسان فيه القبول المباشر أو الرفض المباشر، وفيه عدم التجريد؛ أي إنه لا يختار من العمل الفني جانبًا دون جانب، ولا يكفيه أن ينوب عن العمل الفني رمزٌ يدل عليه، كما هي الحال بالنسبة إلى سائر المجالات الإدراكية؛ إذ لا بد من اللقاء المباشر للعمل كله دفعةً واحدة، وإما أن يُقابَل بالنشوة أو بالنفور.

  • (٣)

    وليس التذوق الفني هو نفسه النقد الفني؛ لأن هذا مُترتب على ذلك يأتي بعده يعلِّله، فبينما الأول قد يستغني عن الثاني، يستحيل على الثاني أن يستغني عن الأول.

  • (٤)

    وللنقد الفني مدارس مختلفة، منها ما ينفُذ خلال العمل الفني إلى ما وراءه، وهذا الذي وراءه إما أن يكون داخل نفس الفنَّان أو خارجها؛ أي إنه عندئذٍ يكون في الوجود الخارجي ماضيه أو حاضره؛ كما أن من مدارس النقد ما يقف عند العمل الفني نفسه — لا لينفُذ خلاله إلى سواه — بل ليحلِّل أجزاءه هو، ويرى كيف رُكبت بحيث أحدثت الأثر الذي أحدثته.

  • (٥)

    وتكوين الذوق الفني الذي يؤهِّل صاحبه للنقد الفني السليم يتمُّ على خطوتين أساسيتين؛ الأولى: أن يُدرك وجهًا للشَّبه بين العمل الفني وبين خبرات الحياة الجارية، مُطلِقًا على هذا الشَّبه لفظةً جماليةً مما تعوَّد استعماله في حياته العادية، كأن يصف لوحة بالمرح، أو بالكآبة، أو بسرعة الحركة، أو ببطئها، وهكذا. والثانية: هي أن يُشير على وجه التحديد إلى الأشياء الحسية في العمل الفني، التي سوَّغت له أن يُطلِق عليها تلك اللفظة الجمالية.

أما بعد، فهل أصبت شيئًا من التحديد المنشود لعناصر الذوق الفني؟ ألا إنه لموضوعٌ روَّاغ سرعان ما يفلت من بين أصابعنا، وقلَّما يُصيب فيه المفكر شيئًا مما أراد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤