مقدمة

ما الشيء المشترك بين الفيلكرو والبِنسلين وأشعة إكس والتيفلون والديناميت ومخطوطات البحر الميت؟ إنها السرنديبية! فكل هذه الاكتشافات المتنوعة كانت وليدة المصادفة، شأنها في ذلك شأن مئات الاكتشافات الأخرى التي تجعل حياتنا اليومية أكثر سهولة أو إمتاعًا أو صحةً أو إثارةً. كلُّها جاءت إلينا نتيجة المصادفة أو السرنديبية؛ وهي كلمة تعني — كما في التعريف القاموسي لها — القدرةَ على اكتشاف أشياء قيِّمة أو رائعة دون السعي وراءها، أو «القدرة على اكتشاف أشياءَ مهمة وغير متوقَّعَة على نحو عَرَضي.»

أول مَن صاغ كلمة «سرنديبية» هو هوراس وولبُول في خطابٍ إلى صديقه السير هوراس مان عام ١٧٥٤. كان وولبُول مُعجَبًا بقصة خيالية قرأها عن مغامرات «أمراء سرنديب الثلاثة» — اسم قديم لسيلان، وهي دولة تُعرَف الآن باسم سريلانكا — الذين «كانوا يكتشفون، بالمصادفة والفطنة، أشياءَ لم يكونوا يسعون وراء اكتشافها …» استخدم وولبُول الكلمةَ لوصف بعض اكتشافاته الوليدة بالمصادفة. وأُعِيدَ اكتشاف الكلمة حديثًا وهي تُستخدَم حاليًّا على نحو متزايد. (لم تظهر الكلمة في طبعات ١٩٣٩ أو ١٩٥٩ من أي قواميس إنجليزية معروفة، لكنها ظهرت في طبعات ١٩٧٤ والطبعات التالية منها، وفي القواميس الأخرى المعاصرة.)

أغلب الأشخاص الذين أنعم الله عليهم بالسرنديبية لا يمانعون في الاعتراف بدور الحظ في اكتشافاتهم، وهم عادةً يكونون مستعِدِّين لوصف الكيفية التي توصلوا بها إلى اكتشافاتهم. وأعتقد أنهم أدركوا أن السرنديبية لا تقلِّل من الفضل الذي يُنسَب إليهم في صنع اكتشافاتهم. أدرَكَ ذلك لوي باستير، صاحب الاكتشافات العظيمة في مجال الكيمياء والميكروبيولوجيا والطب، وأعرب عنه باقتضاب قائلًا: «في مجال العلوم، المصادفة لا تواتي إلا العقول المستعدة.» وحديثًا، قال بول فلوري — الحائز جائزةَ نوبل — عند حصوله على قلادة بريستلي، التي تُعَدُّ أرفع تكريم تمنحه الجمعية الأمريكية للكيمياء:

إن الاختراعات المهمة لا تتم بمحض المصادفة، والاعتقاد الخاطئ بأنها تتم على هذا النحو سائد على نحو كبير، وللأسف لم تَقُم الدوائر العلمية والفنية بجهد كبير للتصدي لهذا الاعتقاد. في واقع الأمر، عادةً ما يكون للمصادفة دورٌ في الاكتشاف، لكن ثمة جوانب كثيرة متضمنة في عملية الاختراع أكثر من الاعتقاد الشائع بحدوث مصادفة مفاجئة؛ فالمعرفة العميقة والواسعة من المتطلبات الأساسية، وإن لم يكن العقل مستعِدًّا مسبقًا استعدادًا تامًّا، فربما لن تجد شرارة العبقرية الشهيرة — إذا وجب أن تُعرِب عن نفسها — شيئًا تُشعله أو تستثيره.

توضِّح العبارتان السابقتان لباستير وفلوري أنهما أدرَكَا ما قصده وولبُول عندما وصف السرنديبية بأنها اكتشافات تحدث «بالمصادفة والفطنة».

لقد صِغتُ مصطلح «السرنديبية الوهمية» لأشير إلى الاكتشافات العرَضية لطرق تحقيق هدف يُسعى إليه، وذلك على عكس المقصود ﺑ «السرنديبية» (الحقيقية)، التي تصف الاكتشافات العرَضية لأشياء لم تكن مصحوبة بسعيٍ من أجل اكتشافها.

على سبيل المثال، اكتشف تشارلز جوديير عمليةَ تصليد المطاط عندما سقطت منه مصادفةً قطعة من المطاط مغطَّاة بالكبريت داخل فرن ساخن. فعلى مدى سنوات عديدة، كان جوديير منشغلًا بمحاولة العثور على طريقة لتطويع المطاط والاستفادة منه في مجال التصنيع، ولأن المصادفة وحدها هي التي قادته إلى اكتشاف تلك العملية الناجحة التي كان يسعى وراءها بكل جدية؛ فأنا أُسمي هذه سرنديبية وهمية. وعلى النقيض من ذلك، لم تكن لدى جورج دي ميسترال أية نية لاختراع شريط التثبيت اللاصق (الفيلكرو) عندما لاحَظَ كيفية التصاق بعض البذور البرية بإحكام بملابسه.

أعتقِدُ أن العديد من الاكتشافات المعروضة في هذا الكتاب يجب أن تُوصَف بأنها سرنديبية وهمية، وهذا لا يجعلها بالضرورة أقلَّ أهميةً. وفي بعض المواضع، أحدِّد لك إن كان الاكتشاف سرنديبيًّا حقيقيًّا أم وهميًّا، وفي مواضع أخرى أترك الحُكم لك. ولكن، يظل الاكتشاف في كلتا الحالتين اكتشافًا يستحقُّ اهتمامنا وإعجابنا.

تبدأ القصص الواردة في هذا الكتاب بواحد من أوائل الأمثلة المسجَّلَة على السرنديبية الوهمية. ففي القرن الثالث قبل الميلاد، كان أرشميدس يبحث عن طريقة لاكتشاف ما إذا كان ثمة معدن رخيص في تاج ذهبي صُنِع لملكه، ووجد الطريقة من خلال ملاحظة عرضية له في أحد الحمامات العامة بمدينة سرقوسة؛ مما جعله يخرج مُسرِعًا وهو عريان من الحمام صائحًا: «وجدتها!»

تحدث تلك المصادفات السعيدة لآلاف الناس، على الرغم من أن أغلبهم ربما لم يكن ردُّ فعله مثيرًا مثل رد فعل أرشميدس. وكلنا نستفيد عندما تظهر تلك الاكتشافات الناتجة عن هذه المصادفات. في هذا الكتاب، رتبتُ بعض هذه الاكتشافات — التي يعتبر بعضها شديد الأهمية والبعض الآخَر يكاد يكون تافهًا — زمنيًّا من الماضي إلى الحاضر. وعمومًا، فقد حاولت أن أعرض الاكتشافات بأسلوب يسهُل على القارئ العادي فهمه. ولكن البعض يحبذ استخدام المصطلحات الفنية أو العلمية، وإلا فسيجد المختصون أن القصص المعروضة لا معنى لها، وذلك على نفس النحو الذي سيجد به غيرُ المختصين بعض القصص كذلك إذا تمَّ عرضها بلغة فنية صارمة. وآمل أيضًا أن تفيد تلك القصص المعلمين والطلاب من كل المستويات — من المرحلة الابتدائية حتى الجامعية — في تفعيل المحاضرات والنقاشات؛ لذلك، أقدم في بعض الأحيان بعض الشروح أو المعلومات الإضافية في شكل صيغ وأشكال توضيحية. وبالنسبة إلى مَنْ يرغبون في الحصول على معلومات إضافية أو عامة عن الموضوعات المعروضة في القصص، فقد تم توفير قائمة بالمراجع في الملحق، كما يمكنك — إذا أردتَ — الحصول على ملحق فني يشتمل على صيغ ومعادلات كيميائية إضافية، وهو ملحق يقدمه الناشر بناءً على طلبك.

لكلِّ مثال من الأمثلة المعروضة في هذا الكتاب المئات من الأمثلة الأخرى التي ليس لديَّ علم بها؛ آمل أن يكون هذا الكتاب محفِّزًا لك — إذا صادفْتَ مصادفة علمية في حياتك أو تعرف آخَرين صادفوا ذلك — كي تخبرني بتلك القصص بحيث أضمنها في الطبعات المستقبلية من هذا الكتاب.

سوف تصدر — بلا شك — طبعات مستقبلية من الكتاب لأن السرنديبية مستمرة؛ حدثٌ نشهده كل يوم!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤