الفصل التاسع والعشرون

أدوية اكتُشِفت بالمصادفة فائدتها في علاج أمراضٍ أخرى

اكتُشِف البِنسلين وأدوية السَّلْفا والسيفالوسبورينات والسيكلوسبورين على نحو عَرَضي؛ فقد اكتُشِفت «أغلب» الأدوية بشكل سرنديبي أو على الأقل عبر السرنديبية الوهمية. وعادةً ما يُكتشَف أيضًا أن الدواء المستخدَم لغرضٍ معين مفيدٌ لغرض مختلف تمامًا، يفوقه أحيانًا في الأهمية. يعرض هذا الفصل بعضًا من الاكتشافات التي من هذا النوع.

(١) الأسبرين

يُعدُ الأسبرين واحدًا من أكثر الأدوية استخدامًا على مدار سنوات عديدة، وقد نال مؤخرًا اهتمامًا أكبر. تم تحضيره في البداية لاستخدامه كمطهِّر داخلي، لكن تبيَّن أنه غير فعَّال. ومع ذلك، وُجِدَ أنه مسَكِّن ومضاد للحمى جيد، ويُوصَى الآن بتناوله للوقاية من النوبات القلبية.

بعد فترة قصيرة جدًّا من استخدام جوزيف ليستر للفينول كمادة مطهِّرة في العمليات الجراحية، فكَّرَ العلماء في إيجاد دواء يمكن إعطاؤه داخليًّا للمرضى الذين يعانون من الأمراض البكتيرية. وفي سبعينيات القرن التاسع عشر تم تصنيع حمض الساليسيليك واستخدامه لهذا الغرض؛ لأنه كان من المعروف أنه يؤدي إلى إنتاج الفينول في الجسم، لكن على الرغم من تأثيره المخفِّف للحمى، فهو لا يؤثِّر في العدوى المسبِّبة لها، كما أنه يؤدي إلى الغثيان. حضر فيليكس هوفمان — وهو كيميائيٌّ في شركة باير — لاحقًا شكلًا معدَّلًا من حمض الساليسيليك، أحد مشتقات الأسيتيل، الذي وُجِد أنه مضاد للحمى ومخفِّف لآلام التهاب المفاصل وله آثار جانبية أقل. وقد جاء اسم «الأسبرين» aspirin من حقيقة أن حمض الساليسيليك كان يتم الحصول عليه من الأساس من نباتات «السيبريا» spiraea، وقد أُضيف حرف a للإشارة إلى مادة الأسيتيل.

منذ ظهور الأسبرين في سوق الأدوية في تسعينيات القرن التاسع عشر، أقبل الناس على استخدامه أكثر من أي دواء آخَر. وتُعَدُّ فائدته المحتمَلة في الوقاية من النوبات القلبية تطوُّرًا لم يتم اختباره بالكامل بعدُ، إلا أنه يتم بالفعل إنتاجُ أكثر من ٤٠ مليون رطل منه في الولايات المتحدة الأمريكية سنويًّا؛ أيْ حوالي ٣٠٠ قرص للفرد سنويًّا.

(٢) أدوية العلاج النفسي

قبل خمسينيات القرن العشرين، لم تكن الأمراض النفسية قابلةً للعلاج بالأدوية؛ إذ كان يتعيَّن إيداع المصابين بمرض الفُصام والذين يعانون من مرض اكتئابي هوسي شديد وحالات العُصاب في مستشفيات للأمراض النفسية، لكن في غضون عشر سنوات تقريبًا، قدَّمَ العلاجُ بأدوية العلاج النفسي الأملَ في عيش حياة أقرب إلى الحياة الطبيعية، وأصبحت مستشفيات الأمراض النفسية تقريبًا خالية. وكان للسرنديبية دورٌ في اكتشاف كل أدوية العلاج النفسي تقريبًا.

الكلوربرومازين: في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين، أراد جرَّاح الأعصاب الفرنسي هنري لابوري دواءً لتهدئة مرضاه قبل إخضاعهم للعمليات الجراحية؛ حتى قبل تخديرهم. واعتقد أن استخدام أحد مضادات الهيستامين قد يفي بالغرض؛ لأنه من المعروف أن الهيستامين يتم إفرازه في جسم المريض بسبب القلق السابق لإجراء العملية، فزوَّدت إحدى شركات الأدوية الدكتورَ لابوري بمهدِّئ مضاد للهيستامين يُسمَّى البروميثازين، ويبدو أن هذا الدواء قد ساعد بعض المرضى، فطلب لابوري مضاد هيستامين أقوى. وتم إعطاؤه دواء الكلوربرومازين، فأُعجِب لابوري بشدة بالتأثير «المهدِّئ المصحوب بالبهجة» الذي يُحدثه هذا الدواء في المرضى قبل إخضاعهم للعمليات الجراحية، لدرجة أنه بدأ يوصي زملاءه باستخدامه.

وجد طبيبان نفسيان فرنسيان آخَران، وهما جون ديلاي وبيير دينيكر، أن الدواء لم يكن فقط مفيدًا قبل إجراء العمليات للمرضى الطبيعيين المقبلين على جراحة، وإنما كان فعَّالًا أيضًا في تهدئة مرضاهم في المرحلة الهوسية من المرض الاكتئابي الهوسي. جرَّبَ هذان الطبيبان إلى جانب أطباء نفسيين آخَرين هذا الدواءَ على المرضى النفسيين الآخَرين في الفترة ما بين عامَيْ ١٩٥٢ و١٩٥٥، ووجدوا أنه فعَّال على نحو خاص في علاج مرض الفُصام.

في أواخر خمسينيات القرن العشرين، بدأ استخدام دواء الكلوربرومازين على نطاق واسع في أوروبا والولايات المتحدة، وفي خلال عقد من الزمن كان بالإمكان خروج المصابين بحالات شديدة من الفُصام من المصحات النفسية، حيث كانوا يُحتَجَزون في غرف مبطَّنة ويرتدون سترات الحَجْر، وأصبح بإمكانهم العودة إلى مزاولة الوظائف الإنتاجية وممارسة الأنشطة الحياتية في المجتمع على نحو شبه طبيعي تقريبًا. وفي الولايات المتحدة، قلَّت أعداد المرضى النفسيين بالمصحات النفسية بمئات الآلاف؛ إذ أصبح من الممكن توفير خدمات الصحة النفسية المجتمعية، التي تهدف إلى علاج المرضى النفسيين في منزل مع الأسرة والأصدقاء، بفضل قدرة دواء الكلوربرومازين على تخفيف أعراض الذُّهان حتى لدى المرضى الذين يعانون من أشدِّ درجات الاضطراب.

أدَّى استخدام دواء الكلوربرومازين إلى حدوث ثورة ثانية في العلاج الطبي للمرضى النفسيين، وقد وجدت الاختبارات الإكلينيكية أن الجرعات الزائدة من هذا الدواء تسبِّب أعراضًا مماثلة لتلك الخاصة بمرض باركنسون. وقد أدَّى هذا الاكتشاف إلى إجراء دراسات على آثار الأدوية في المناطق المختلفة للدماغ وحالات الخلل الجزيئية في الدماغ المرتبطة بالمرض النفسي.

وُجِد أن الدوبامين — وهو ناقل عصبي يوجد بتركيز عالٍ في أجزاء الدماغ المسئولة عن تنظيم النشاط الحركي — يكاد يكون غائبًا في أدمغة المرضى الذين ماتوا بمرض باركنسون. وقد أدَّى حقن إل-دوبا، وهي مادة كيميائية تتحول بفعل العمليات الطبيعية في الدماغ إلى الدوبامين، إلى حدوث تحسُّن كبير في حالة المرضى المصابين بمرض باركنسون.

خمَّنَ آرفيد كارلسون، اختصاصي علم الأدوية السويدي، أنه على الرغم من أن أدوية مثل الكلوربرومازين تعالج مرض الفُصام، فإنها قد تُحدِث بالفعل نفس آثار نقص الدوبامين في الدماغ عن طريق تثبيط مستقبلات الدوبامين. وفي عام ١٩٧٥، عندما أصبح من الممكن قياس مستقبلات الدوبامين في الدماغ في معامل جون هوبكينز الخاصة بالدكتور سولومون إتش سنايدر، تأكَّدت فاعلية الآثار العلاجية للأدوية المضادة للفُصام مثل الكلوربرومازين؛ نظرًا لدورها في تثبيط مستقبلات الدوبامين. وتشير تلك النتائج إلى أن المشكلة الأساسية في أدمغة المصابين بالفُصام إما الزيادة المفرطة في إفراز الدوبامين وإما فرط الحساسية لمستقبلات الدوبامين.

الإيميبرامين: أدَّى النجاح السرنديبي لدواء الكلوربرومازين في علاج الفُصام إلى التشجيع على تصنيع مجموعة من الأدوية المماثلة له كيميائيًّا واختبارها، ومن بين تلك الأدوية الإيميبرامين، الذي صنَّعته شركة أدوية سويسرية تُسمَّى جيجي. وعندما وجد الدكتور رولاند كون على نحوٍ مثير للدهشة أن هذا الدواء غير فعَّال في علاج الفُصام، استمرَّ في دراسته وحاوَلَ تقييمَ مدى فاعليته في علاج أنواع أخرى من الأمراض النفسية. وفي عام ١٩٥٧، أثبتَ فاعليته المدهشة كمضاد للاكتئاب، وهو أثر يكاد يكون معاكسًا لذلك الخاص بدواء الكلوربرومازين.
الليثيوم: كان اكتشاف الليثيوم كدواء نفسي أكثر الاحتمالات المستبعَدَة على الإطلاق. ففي أواخر الأربعينيات من القرن العشرين، توقَّعَ طبيب نفسي أسترالي شاب يُدعَى جون كيد أن الهوس المصاحب للمرض الاكتئابي الهوسي قد يرجع السبب فيه إلى الأيض غير الطبيعي لحمض اليوريك. ولاختبار تلك النظرية، حقن حيوانات التجارب بهذا الحمض في شكل ملح ليثيوم ومعه كربونات الليثيوم، ولاحَظَ استجابات علاجية مهمة. ومع أنه نشر تلك النتائج في مجلة أسترالية، فلم ينتبه إلى نتائجه سوى القليل من الأطباء النفسيين حتى منتصف خمسينيات القرن العشرين.

ثم صادَفَ أن قرأ طبيب دنماركي يُدعَى مونتش سكو الورقةَ البحثية الخاصة بكيد، واختبر مركبات كيد في علاج الهوس ووجد أنها فعَّالة. لكن سرعان ما اتضح أن جزء حمض اليوريك من الدواء لم تكن له أية علاقة بفاعليته، لكن حقيقة استخدام «ملح ليثيوم» فقط كانت هي المسئولة عن التأثير العلاجي للدواء؛ إذ وُجِد أن أملاح الليثيوم الأخرى مفيدة أيضًا على نحو مساوٍ.

نظرًا لكثرة وجود أملاح الليثيوم وعدم إمكانية الحصول على براءة اختراع لها كدواء، كانت شركات الأدوية غير راغبة في الالتزام بإنتاجها على نطاق واسع للاستخدام الإكلينيكي. وثمة عامل آخَر أخَّرَ الاستخدام الإكلينيكي للليثيوم، وهو الخطر المحتمَل المتمثِّل في احتمال تصارُع أيونات الليثيوم، عند تناول جرعات كبيرة من الدواء، مع أيونات الصوديوم المرتبطة بها كيميائيًّا في الجسم، وتكون لذلك آثار سامة.

بالتالي، تأخَّرَ استخدام الليثيوم إكلينيكيًّا في الولايات المتحدة حتى عام ١٩٧٠، أيْ بعد أكثر من ٢٠ عامًا من اكتشاف قيمة أملاح الليثيوم في علاج مرض الاكتئاب الهوسي. ويُعَدُّ أيون الليثيوم البسيط أكثرَ عامل ذي فاعلية تم اكتشافه في علاج الهوس، لكن طريقة عمله لا تزال غامضة.

الليبريوم والفاليوم: كان عام ١٩٦٠ عامًا مهمًّا في تاريخ العلاج الكيميائي؛ فقد كان لدواءين تم إنتاجهما في ذلك العام تأثيرٌ كبيرٌ على المجتمع بطرق مختلفة؛ أحدهما: الليبريوم الذي كان يمثل أول سلسلة جديدة من المهدئات، والآخَر: مانع للحَمْل يتم تناوله عن طريق الفم ويحتوي على هرمون الإستروجين. (لقد عرضنا في الفصل العشرين قصة حبوب منع الحَمْل.) تصدَّر دواء الليبريوم قائمة الأدوية التي يتم وصفها في ستينيات القرن العشرين، إلا أن دواء الفاليوم القريب منه كيميائيًّا حلَّ محله في سبعينيات القرن العشرين. وتقوم قصة تطوير هذين المهدئين على السرنديبية الوهمية، حين قام ليو ستيرنباخ من شركة هوفمان-لا روش بأبحاثٍ لتطوير دواء مضاد للقلق.

وُلِد ليو ستيرنباخ في عام ١٩٠٨ في بلدة في شبه جزيرة بولا التي كانت في ذلك الوقت جزءًا من النمسا-المجر، ولكنها الآن جزء من يوغوسلافيا. وحصل على درجتَي الماجستير والدكتوراه في الصيدلة من جامعة كراكو الموجودة الآن في بولندا. وفي عام ١٩٤٠، كان يعمل في شركة هوفمان-لا روش في بازل بسويسرا؛ وفي العام التالي، انتقل إلى معمل الشركة في نوتلي بنيو جيرسي. وفي عام ١٩٤٦، حصل على الجنسية الأمريكية، وفي عام ١٩٧٣ تقاعد وهو في منصب مدير الكيمياء الدوائية في شركة هوفمان-لاروش.

في عام ١٩٥٣، كُلِّف الدكتور ستيرنباخ بمهمة إيجاد فئة جديدة من الأدوية المضادة للقلق (أو المهدئة)، مع مراعاة أن تكون في المركبات المطلوبة بعضُ التحديات التصنيعية، وتكون غير مستكشَفَة نسبيًّا؛ وذلك لتقليل احتمال تصنيع نفس الأدوية من قِبل المنافسين. لكن الاعتبارات الاقتصادية اقتضت أن يتم تحضير تلك المركبات من مواد بادئة في المتناول. بالإضافة إلى ذلك، كان من المفضَّل أن تسمح الوحدة الجزيئية الأساسية للمركبات بالتحوُّل إلى عدد كبير من المشتقات لزيادة فرصة الوصول إلى دواء فعَّال. وتذكَّرَ ستيرنباخ أبحاثه التي أجراها في جامعة كراكو على المركبات التي كانت موادَّ بادئة محتمَلة لتصنيع الصبغات.

كانت تتوافر في تلك المركبات معظم معايير الأدوية المضادة للقلق المطلوبة. وكان الغموض يحيط بها (فلم يعمل عليها أي شخص منذ أن حضَّرَها ستيرنباخ منذ ١٨ عامًا)، وكان يمكن تحضيرها بسهولة إلى حدٍّ ما، كما أن لها ذرة نيتروجين مرتبطة بحلقة أروماتية مثل العديد من المركبات ذات النشاط البيولوجي المعروف. لكن ظهرت مشكلة كبيرة، وهي أنها ليست لها الخصائص المطلوبة المضادة للقلق.

في أبريل من عام ١٩٥٧، طلب ستيرنباخ من فريقه البحثي وقْفَ العمل مع تلك المركبات، والتوجُّه إلى أنواع مركبات أخرى. وفي غضون ذلك، قدَّمَ له أحدُ الكيميائيين مركبًا كان قد حضَّرَه منذ عامين، لكنه لم يختبره دوائيًّا، فاختبروا تلك المادة معتقدين أن النتيجة السلبية لهذا المركب ستؤكِّد أن هذا النوع من المواد الكيميائية لا أملَ فيه، وأن عليهم التحول إلى أنواع أخرى من المركبات.

اندهش ستيرنباخ حين اتضح له أن لهذا المركب المهمَل آثارًا مهدئة قوية. وعندما سعى الكيميائيون للوصول إلى تفسير للخصائص المضادة للقلق لهذا المركب (الذي كانوا يعتقدون أنه مماثِل كيميائيًّا للمركبات التي لم تكن لها آثار مهدئة)، اكتشفوا أن هذا المركب لم يكن كما اعتقدوا؛ ففي أثناء تصنيعه، حدثت إعادة ترتيب غير متوقَّعة داخل الجزيئات، ونتج عن ذلك تركيب مختلف تمامًا. وبعد ذلك، صنعوا مركبات أخرى لها نفس التركيب الحقيقي للمركب المهمَل، لكن لم يكن أيٌّ منها بنفس فاعلية المركب الأصلي.

بعد إجراء المزيد من الاختبارات الإكلينيكية الدقيقة، طُرِح «المركب المهمَل» في الأسواق في عام ١٩٦٠ تحت اسم الليبريوم، وقد حقَّق نجاحًا مدويًّا. لكن حتى قبل ظهور دواء الليبريوم، اكتشف كيميائيو شركة هوفمان-لا روش أن أحد منتجات التحلُّل المائي للليبريوم الذي كانوا يعتقدون أن الدواء ينتجه في الجسم، له نفس فاعلية الدواء. لذا، صنعوا مشتقات عديدة من هذا المنتج، ووجدوا أن أحدها كان أفضل في جوانب كثيرة من الليبريوم، وأُطلِق على الدواء الجديد اسم الفاليوم. وبعد طرحه في الأسواق في عام ١٩٦٣، سرعان ما حلَّ محلَّ الليبريوم في الفاعلية كمهدئ.

المثير للدهشة أن الكلوربرومازين وهو مهدئ قوي ومضاد فعَّال للفصام، والإيميبرامين وهو دواء مضاد للاكتئاب، لهما صيغ جزيئية مماثلة على الرغم من آثارهما الدوائية المتضادة تقريبًا. إن الصيغة الجزيئية لكلٍّ من الليبريوم والفاليوم متشابهة ولكن ليست متطابقة. لقد عرضنا في الفصل العشرين الاكتشاف العَرَضي لمادة ثاني إثيلاميد حمض الليسرجيك التي لها تأثير نفسي قوي مع أنها ليست مفيدة كمهدئ.

منذ ظهور دواء الفاليوم، تم تطوير ١٢ دواءً آخَر لها تراكيب كيميائية مماثلة للفاليوم، وبيعت في الولايات المتحدة، هذا إلى جانب تطوير ٢١ دواءً آخَر مماثِلًا في دول أخرى عبر العالم، غالبًا بسبب الضوابط الأقل تشدُّدًا، لكن لم يحدث تطوُّر دوائي مهم في مجال المهدئات منذ الاكتشاف العَرَضي لكلٍّ من الليبريوم والفاليوم.

(٣) الأدوية المضادة لاختلال نظْم القلب

يُستخدَم النوفوكايين والزيلوكايين (واسماهما غير المسجَّلين: البروكايين والليدوكايين) على نطاق واسع كمخدر موضعي (على سبيل المثال، في مجال طب الأسنان). وفي أربعينيات القرن العشرين، اكتُشِف بالمصادفة أن حقن النوفوكايين في الكلاب — التي تعاني من اختلالاتٍ خطيرة مهدِّدة للحياة في نظْمها القلبي (أيْ ضربات قلب غير منتظمة) عند حقنها بمخدرٍ عام — يؤدي إلى انتظام ضربات القلب وعودتها إلى المعدل الطبيعي. وبعد وقت قصير جدًّا من علم أطباء التخدير بهذا، أُتِيحت الفرصة لتقييم هذا التأثير في البشر في أحد مراكز الصدر التابعة للجيش الأمريكي، وذلك على مرضى يعانون من اختلال قلبي وعائي حاد. وأجرى تلك الاختبارات الرائدة الرائدُ تشارلز بيرستين، وأعلن عن نتائجها في عام ١٩٤٦.

من المفترض أن تُجرَى تلك الاختبارات الأولية على حالاتٍ يكون فيها «الاختلال» خطيرًا جدًّا. فقد كان يتم دائمًا تجنُّب حقن النوفوكايين في المريض الواعي، حيث كان من المعروف أن هذا يؤدي إلى حدوث تشنجات. لكن في الحالات التي يتم فيها حقن المخدر الموضعي في مريضٍ «مخدَّرٍ» يعاني من اختلال شديد في النَّظْم القلبي، لم تكن هناك آثار عكسية، وإنما لُوحِظ في الواقع حدوث تحسُّن في الوظائف القلبية الوعائية. وفي عام ١٩٥٠، قدَّمَ جيه إل ساوثوورث وزملاؤه دليلًا إكلينيكيًّا على أن دواء الزيلوكايين ذو تأثير جيد كمضاد لاختلال النَّظْم القلبي. ومنذ ذلك الحين، أصبح الحقن الوريدي للعديد من مواد التخدير الموضعي فيما يتعلَّق بالجراحات القلبية ممارسةً شائعة.

يُعَدُّ هذا مثالًا واضحًا آخَر على دواءٍ تم تطويره لغرضٍ ما، واكتُشِف بالمصادفة أنه مفيد لغرض آخَر مختلف تمامًا.

(٤) المينوكسيديل وأثره في نمو الشعر

في عام ١٩٨٠، كتب الدكتور أنتوني زاباكوستا من برين ماور في بنسلفانيا خطابًا إلى مجلة «نيو إنجلاند جورنال أوف ميديسين»، واصفًا نمو الشعر الجديد على فروة رأس رجل عمره ٣٨ عامًا كان يتناول دواءً لعلاج ضغط الدم المرتفع اسمه المينوكسيديل، وقد كان هذا المريض أصلع تقريبًا منذ كان في العشرين من عمره. وقد أثار خطاب زاباكوستا وغيره من التقارير التي بدأت في الظهور قدرًا كبيرًا من الاهتمام بين أطباء الأمراض الجلدية؛ وبالطبع بين الرجال بمجرد أن وصلت إليهم تلك الأخبار. فبرغم كل شيء، كان تساقُط الشعر — وما زال — يمثِّل مشكلةً لدى الكثيرين، وقد تم البحث عن علاج لها منذ أيام قدماء المصريين.

من أطباء الأمراض الجلدية هؤلاء الدكتورة فيرجينيا فيلدر-فايس من جامعة مركز إلينوي الطبي في شيكاجو. تساءلَتْ في نفسها إن كان الدواء سيساعد على نمو الشعر بدون الأثر القوي الخاص بخفض ضغط الدم المرتفع، وبدون الآثار الجانبية غير المرغوب فيها، إذا تم استخدامه على نحو موضعي. فحضَّرت مستحضرًا من مسحوق أقراص المينوكسيديل، ودهنت به فروة رأس ثلاثة من المرضى بمعدل مرتين يوميًّا، وفي خلال أسابيع وجدت أن اثنين من المرضى قد نما الشعر عندهما! وعندما اتصلت فيلدر-فايس بشركة أبجون المصنِّعة لهذا الدواء، علمت أن الشركة قد بدأت بالفعل دراسات أولية باستخدام محلول من الدواء. بعد ذلك، تعاوَنَتْ فيلدر-فايس مع الشركة في دراسة كبرى، وقد نُشِرت ورقة بحثية في عام ١٩٨٤ ذكرت أن ٢٥ مريضًا من واقع ٤٨ نما لديهم شعر جديد، لكن حصل ١١ مريضًا فقط على نتائج مقبولة من الناحية التجميلية.

بحلول عام ١٩٨٧، كانت قد أُجريت العديد من الدراسات الأخرى، وفيما يلي النتائج التي تمَّ التوصُّل إليها: من غير المحتمَل أن يساعد محلول المينوكسيديل معظم الأشخاص الذين يعانون من تساقط الشعر بمعدل كبير، وأفضل استخدام للدواء هو مساعدة المرضى على الإبقاء على الشعر الذي لديهم بالفعل ومنع حدوث الصلع المبكر، ويبدو أن هذا الدواء يجدي فقط إذا تم استخدامه لعدد غير محدَّد من المرات، كما أن أمان استخدامه على الجلد على المدى الطويل غير مؤكَّد. وفي أواخر عام ١٩٨٧، لم تتم الموافقة عليه للاستخدام العام من قِبَل إدارة الغذاء والدواء الأمريكية. وحتى لو تمَّتْ تلك الموافقة، فسيحتاج المريض إلى الحصول عليه بوصفة طبية.

على الرغم من ذلك، ثَبَت بالتجارب الإكلينيكية أن هذا الدواء الذي كان يُستخدَم في الأساس لعلاج ضغط الدم المرتفع يؤدِّي إلى نمو شعرٍ جديد. وقد خلصت ورقة بحثية نُشِرت في مجلة «كلينيكال فارماسي» (مايو ١٩٨٧) إلى ما يلي: «إن المؤشرات التي تبشِّر بأن المرضى سيستجيبون للعلاج لم تُحدَّد على نحو دقيق، وربما سيزيد اختيار طريقة مثلى للعلاج من فاعلية الدواء، لكن يجب أن نضع في الاعتبار احتمال حدوث آثار عكسية شديدة. ونحتاج إلى معلومات أكثر قبل أن نتعامل مع المينوكسيديل على أنه أحد الأدوية المعالِجَة لتساقُط الشعر.»

(٥) الإنترفيرون: علاجٌ للسرطان والتهاب المفاصل

في عام ١٩٥٥، وصف آيزيكس وليندنمان الإنترفيرونات كمجموعة من البروتينات والبروتينات السكرية التي تنتجها الخلايا استجابةً لعدوى فيروسية، ويمكن أن تثبط نمو مجموعة متنوعة من الفيروسات. وقد جذب احتمال ظهور نوع جديد من أدوية السرطان اهتمامَ الصحافة والناس والعالم الطبي.

لكن التقدُّمَ في تطبيق هذه العوامل في الطب الإكلينيكي كان بطيئًا جدًّا؛ نظرًا لصعوبة الحصول على كميات مناسبة من المادة الأصلية. وتغيَّرَ الوضعُ على نحو كبير منذ بضعة أعوام، عندما تم استنساخ أول جينات إنترفيرون بشرية.

أدَّتْ ملاحظة عَرَضية أثناء تجربة إكلينيكية خاصة بعلاج السرطان في عام ١٩٨٤ إلى اكتشافٍ مدهش، وهو أن حقن الإنترفيرون يؤدي فيما يبدو إلى تخفيف الألم وتقليل التورُّم الذي يتسبَّب فيه التهابُ المفاصل الروماتويدي. وقد أظهرت الدراسات الأولية أن الهرمون كان فعَّالًا في حوالي ثلثَي الأشخاص الذين لم يفِدْهم العلاج المعتاد. وإذا ثبت أن تلك النتائج عامة، فيمكن أن توفِّر سوقًا جديدة كبيرة وغير متوقَّعة للهرمونات البشرية الخاصة بالهندسة الوراثية المنتجَة على نطاق واسع.

تمَّ الاكتشاف العَرَضي لتأثير دواء السرطان على علاج التهاب المفاصل أثناء دراسة في شركة بايوفيرون، وهي إحدى الشركات الألمانية التابعة لشركة بايوجين العاملة في مجال التكنولوجيا الحيوية. قال الدكتور سيث رودنيك: إن عددًا من المرضى المصابين بالسرطان والتهاب المفاصل الروماتويدي قد حدث لديهم بعض التحسُّن من ألم التهاب المفاصل. وكان المسئولون بالشركة متشكِّكين في الأمر في البداية، لكنهم أجْرَوا اختبارًا على ٣٨ مريضًا في ألمانيا، وفي غضون أسبوع أو اثنين من الحقن (الذي تم بمعدل خمس مرات في الأسبوع)، وُجِد أن ٢٨ مريضًا قد قلَّ ألمُ التهاب المفاصل لديهم، حتى إنه قد اختفى عند بعضهم. ويجب إجراء مزيد من الاختبارات لعقد مقارَنةٍ بين الإنترفيرون وبعض الأدوية الوهمية، مع ضرورة القيام بمحاولات لمعرفة إن كان الهرمون له تأثير علاجي على مرض التهاب المفاصل إلى جانب تخفيفه لأعراضه أم لا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤