الفصل الثاني

الصيدلة في سومر وبابل وآشور

استوطن السومريون في أرض بابل حول القرن الأربعين قبل الميلاد، وكان أساس طبهم في أول الأمر مبنيًّا على الطب السحري، والعامل الأساسي فيه هو الدم الذي تتركَّز فيه جميع وظائف الحياة، ويليه في الأهمية الماء والنار.

وقد ورث البابليون والآشوريون الحضارة السومرية، فاحتلَّت بابل ونينوى مركز الحضارة في القرن العشرين ق.م.

وقد كان الطب في أول الأمر في حوزة طبقة الكهنة، ولكن أخذت تدريجًا شخصية الطبيب تتميز من شخصية الكاهن.

وقد زار هيرودوت — المؤرخ اليوناني الشهير — بابل في منتصف القرن الخامس قبل المسيح، وسجَّل في تاريخه هذه الفقرة: «ينقل البابليون مرضاهم خارج المدينة ويضعونهم في الميدان العام؛ لأنه ليس لديهم أطباء، والمارة هم الذين يقتربون من المرضى ويمدُّونهم بنصائحهم في أمر علاجهم …» (I, 80).

ولم يكن هيرودوت موفَّقًا في حكمه هذا؛ إذ اتضح من الوثائق العديدة التي اكتُشِفَت في أواخر القرن الماضي والنصوص المنقوشة على ألواح الطين المحروق المكتوبة بالحروف المسمارية أنه كان لدى البابليين — في أيام ازدهار حضارتهم — أطباء مهرة طار صيتهم إلى مصر، فكانوا يُدْعون لمعالجة بعض المرضى الأغنياء.

وقد كُشِفَ في عام ١٩٠٢م في مدينة السوس Suse أسطوانة كبيرة من حجر الديوريث منقوش عليها «قانون حمورابي» نقشًا جميلًا، وحمورابي ملك حكم بابل حوالي عام ١١٠٠ق.م. واشتهر بعدله واهتمامه بشئون الشعب، ويبلغ عدد فقرات هذا القانون ٢٨٥ رُتِّبت ترتيبًا يكاد يكون هو الترتيب العلمي الحديث، فقُسِّمَت إلى قوانين خاصة بالأملاك المنقولة وبالأملاك العقارية وبالتجارة والصناعة وبالأسرة وبالأضرار الجسمية وبالعمل، وقد ذكر قانون حمورابي الأطباء كما حدَّد الرسوم التي يجب أن تُدْفَع لهم، والغرامات التي يجب أن يدفعوها في حالة موت المريض الناتج من سوء العلاج، وحدَّد أيضًا بدقة الأمراض المختلفة التي تفسخ عقد شراء العبد.
وقد وصلنا عدد كبير من الوثائق الأشورية والبابلية الخاصة بالطب، وهي — كما ذكرنا — منقوشة على ألواح الطين ومكتوبة بحروف مسمارية، وهي تشتمل على ثلاثة أنواع من البيانات:
  • القسم الأول: خاص بقوائم من الأعشاب الطبية diagnosis and prognosis.
  • والقسم الثاني: مجموعة من الوصفات العلاجية المختلفة مرتَّبة حسب العضو المريض.
  • والقسم الثالث: خاص بمناقشة تشخيص الأمراض والتنبؤ بسيرها، ولننظر على التوالي إلى هذه المجموعات الثلاثة:

أما المجموعة الأولى فهي تحوي نصًّا ذا شأن كبير في دراسة الطب البابلي، وهي عبارة عن مذكرة كانت في حوزة طبيب، وهو مرتَّب على ثلاثة أعمدة: ففي العمود الأول يذكر اسم العشب، وفي العمود الثاني المرض الذي يُعالج بهذا العشب، وفي العمود الثالث طريقة استعماله، على هذا الشكل:

المر … دواء لليرقان … يُطْحَن ويُشْرَب في البيرة.

وإذا اقتضى الحال قد يُذْكَر في العمود الأول جزء العشب الذي يُسْتَعمل: حبوب أو أصول أو براعم shoots أو أصماغ زهور.

ولم تُحدَّد بالضبط جميع الأمراض المذكورة في العمود الثاني، فقد ورد فيها، بعد السطور الأولى المكرسة للأسنان المسوسة أو المزعزعة، قسم قصير يصف حبوب السماق في شراب أو حبوب الخروع في حقن مهبلية كي تحمل المرأة.

وفي الفقرات الثلاثة التالية وصف لعلاج ضيق في الحالب بواسطة شراب أو بِذَرٍّ وضعي local insufflation من المر وصمغ الحلتيت asa-faetide أو السكبيج galbanum.
للاضطراب المسبب من اليرقان: المر والكمون أو زهور الأثل tamarix تُطْحَن وتُشْرَب بالبيرة.
ضد حمى الجفاف: كمدات قوامها الدِّفْلى المغلية، أو دلك بزيت وُضِع فيه المن وزهور العليق أو الثوم مصحوب بالخردل، للصدر عندما يكون في التنفس صفير: شراب البطم butomus، ضد السعال: شراب يدخل فيه صمغ الحلتيت والاستراك، وهناك نص طويل مخصص لأمراض الشرج يدخل فيها النعناع والدفلى وحبوب الأثل واليبروح mandrake والمر والسكران: تُسحق وتُبل بزيت العرعر أو تُمزج بشحم.

وبعد فقرتين مخصصتين لعلاج القروح والجروح المتغنغرة والالتهاب الداخلي ولين العضلات، ينتهي النص بوصفتين من شكل آخر، فهي بخلاف الوصفات السابقة تحذر استعمال بعض الأعشاب:

الذين يشعرون بوجع في أعينهم يجب أن يمتنعوا من الكراث والكزبرة، والذين يتألمون من آذانهم يجب ألا يأكلوا الفول.

وبالإضافة إلى طريقة تحضير الأدوية واستعمالها يذكر العمود الثالث من هذه المذكرة أحيانًا درجة الحرارة وعدد المرات وأي ساعة في النهار تُؤخذ، وهذه المذكرة — هي بلا شك — عمل طبيب، ومن المهم أن نلاحظ هنا أن الأمراض يُنظر إليها من مجرد الوجهة الفسيولوجية لا كظاهرة من ظواهر السحر، وأما الأعشاب التي تُذْكَر فاستعمالها كان — بلا شك — مرتبطًا بالصفات التي كانت معروفة عند الأطباء في هذا العهد.

ولا يوجد بين العدد الكبير (١٥٠) من الوصفات السابقة الذكر إلا وصفتان يمكننا أن نعدَّها من رواسب العقائد القديمة، وهذا نصهما:
  • زهور «أبو ساق» Salicornia: دواء للتخلص من «يد السحر» يُشْرَب في يوم غير مقمر.
  • بزر القنب وحبوب Allumzo: دواء ضد «العين» تدلك الرجل بزيت العرعر.

وتكوِّن المجموعتان الأخريان القسم الأكبر من الوثائق الطبية التي وصلت إلينا، وتفسيرها لا يخلو من الصعوبات؛ لأن معظمها مجرد وصفات لأطباء مجهولين في أكثر الأحيان، نقلها نسَّاخون بدون خبرة من مصادر مختلفة النزعات، فلا وحدة بينها ولا انسجام.

والوصفات العلاجية محرَّرة على نظام يكاد يكون ثابتًا، وهي تتكوَّن من ثلاثة أقسام أساسية:
  • (١)

    سرد أعراض المرض، والوصف يتخذ صورة شرطية قد تكون أحيانًا في غاية الاقتضاب: «إذا كح رجل …» أو «إذا تألم رجل من شرجه …»، أو تكون مفصلة: «إذا تألم رجل من مغص وإذا كانت معدته لا تتقبَّل الطعام بل تمجه من الفم، وإذا كان يتألم من معدته وإذا قاء باستمرار، وإذا كان لحمه لا يتحرَّك، وإذا تخابطت رياح شرجه وفلتت من بطنه …»

    وبعد وصف هذه الأعراض قد يذكر أحيانًا تشخيص المرض: فيقول مثلًا: «هذا الرجل مصاب بانسداد معوي» … أو «بتشنج في الصدر» أو «مصاب بالبواسير» أو «باليرقان».

    وتارة يذكر سبب المرض وطورًا يُعْزَى إلى أسباب غير عادية، مثل إساءة شيطان أو تقصير في الدين، ولكن أحيانًا تُذكر أسباب طبيعية مثلًا: «هذا الرجل محموم على أثر جفاف» أو «هذا الرجل يتألم من أثر الريح والشمس معًا.»

  • (٢)

    والجزء الثاني من الوصفة يشير إلى الأدوية التي يجب استعمالها وطريقة تحضيرها وإعطائها للمريض.

    ومن النادر أن تقتصر الوصفة إزاء عرض ما على علاج واحد، وفي أكثر الأحيان يستطيع الطبيب أن يختار بين عدة وصفات، فهناك مثلًا نص يسرد ٣١ طريقة لعلاج اليرقان.

    وكقاعدة عامة، كل وصفة من هذه الوصفات منفصلة عن التي تليها بعلامة واضحة، بحيث تكون الفقرات مستقلة تمامًا.

    وقد تكون هذه الوصفات كلها من جنس واحد مثلًا: لبخات أو تبخيرات، ولكن كثيرًا ما تختلف فيتنوَّع العلاج الواحد بحيث يُعطى مثلًا مقيئ مع حقنة شرجية، أو يوصف تدليك أو مكمدات، وقد تتلو وصفة هي مجرد تعويذة وصفة أخرى لا يدخل فيهما إلا الأعشاب، ولكن الفاصل بين الوصفتين يدل على أنها من مصادر مختلفة.

    ولنلاحظ أيضًا أن الوصفات تذكر أحيانًا الحمية وتحدد أيضًا مدة العلاج، فتقول مثلًا: «تُترك عليه اللبخة مدة أسبوع»، أو «يشرب المريض في هذا الشراب مرارًا مدة ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع يبرأ»، أو «بعد ثلاثة أشهر يبرأ».

  • (٣)
    والجزء الثالث من الوصفة إشارة إلى نتيجة العلاج prognosis.

    وهذا التنبؤ مقتضب جدًّا وهو عادة متفائل، فيقول مثلًا: «يبرأ المريض.» أو «يخف وجعه.» أو «تعاوده قواه.» وأحيانًا تشير الوصفة إلى أن النتيجة ستكون وخيمة، وعندما تكون حالة المريض خطرة تشير الوصفة إلى أن مصيره الموت إذا لم يُعالج، ولكن عندما تكون حالته يائسة يكتفي النص بتشخيص المرض، ويُنبئ بالموت دون الإشارة إلى أي علاج.

    وأحيانًا يُحذِّر الطبيب من المعالجة فيقول مثلًا: «إذا كان مريض يعاني يرقانًا، وإذا كان وجهه ورأسه وجسمه كله وأصل لسانه أسود فليحذر الطبيب من أن يقرب يده منه؛ لأن المريض سيموت حتمًا.»

والنصوص الخاصة بالعلاج عديدة جدًّا كما قلنا ومختلفة، والبعض منها مرتَّب على مجموعات متسلسلة كأنها ابتداء أبواب خاصة، هذه المجموعات والنصوص المنفردة التي تعالج موضوعًا واحدًا يمكن جمعها تحت عناوين رئيسية مثل: الرأس والأذنين والعينين والفم والأنف والصدر والرئة والبطن والكبد وأعضاء التناسل … إلخ، وفي نصوص أخرى يتمشَّى الترتيب مع الأمراض مثلًا: الحميات، الأمراض الجلدية، أمراض الشلل.

وهناك قسم مهم خاص بآثار السحر السيئة، وعدد من النصوص الخاصة بأمراض النساء: (اضطراب في الحيض، الولادة، البرود الجنسي) يمكن جمعها في قسم واحد.

وفيما يخص استعمال الأعشاب والأحجار هناك مشكلة مهمة تُثار لارتباطها بالحكم الذي يمكننا أن نبديه بصدد الطب البابلي، ألا وهو القيمة الحقيقية لهذه الفرماكوبيا التي يمكننا أن نسميها «طبيعية»؛ لتمييزها عن الوسائل السحرية البحتة، ويرى كثير من العلماء أن عددًا كبيرًا من هذه الأدوية هي مواد كريهة الرائحة مثيرة للاشمئزاز، يُقْصَد من استعمالها إزعاج الشيطان المسيطر على المريض وبالتالي إقصاؤه عنه، وهي تُسْتَعمل على شكل أشربة غاية في المرارة أو تبخيرات كريهة أو لبخات في غاية القذارة تمجها النفس، ومحبِّذو هذا الرأي يرون في غرابة بعض المواد المستعملة في تركيب هذه الأدوية دعمًا لرأيهم، فهناك مثلًا مواد مثل عظام الإنسان أو قشر البيض أو جلد الأفعى أو الغراء أو كبد الضفادع ودماء العصافير أو برازات عضوية مثل البول والمني وبراز الإنسان أو الحيوان …

لا شك أن الوصفة لا تخلو — في بعض الأحيان — من قصد سحري لإبعاد الشيطان باستعمال مواد برازية، ولكن يجب ألا نعمم هذه الملاحظة، فكلنا نعرف أن بعض هذه المواد الغريبة يدخل في تركيبها عناصر كيماوية، فالبول مثلًا لا يخلو من النشادر، وقشور البيض تُسْتَعمل للكلسيوم الموجود فيها، ودم العصفور الطازج يُستعمل بمثابة مادة دافئة ولزجة في نفس الوقت، ويرجع استعمال بعض هذه المواد إلى الوصفات الشعبية المتداولة في كثير من الأحيان بدون أي قصد سحري، وبعض هذه الوصفات وصلت إلى وقتنا الحاضر عن طريق الطب اليوناني.

ويجب ألا ننسى أيضًا أن كثيرًا من هذه المواد التي تحمل في ظاهرها اسم مادة عضوية ليست هي في الحقيقة إلا تسمية مجازية لأعشاب أو أحجار، مثلًا:
  • «الجمجمة الآدمية» هي الأثل tamaris.
  • «العظام الآدمي» هو الحلتيت asa fætida.
  • «والمني» هو الصمغ tragacanth.
  • «وشحم الأسد» كناية عن الأفيون.

  • و«البراز الإنساني» مجاز لعشبة لم تحدد بعد … إلخ.

وبهذا نقلل من مجموعة المواد الكريهة التي يسميها الألمان Dreckapoteke أي «الصيدلية الوحلية».

وهناك تعليل آخر لا يخلو من الطرافة: قد يستعمل بعض الأطباء للتخلص من إلحاح مريض الوهم موادَّ في غاية الكراهة كالحلتيت، أو في عصرنا هذا حقنًا ألمها شديد، فلا يلبث المريض أن يشعر بتحسين …

والقسم الثالث من النصوص الطبية مخصص للتنبؤ عن تحول ومصير الأمراض، وتتميز هذه النصوص من تلك التي درسناها بأنها لا تحوي علاجًا البتة، وهي تكوِّن كتابًا على حدة، تَمَكَّن العالم الدكتور Labat من إعادة تنسيق أقسامه المتفرقة.

وتحتوي المجموعة على أربعين فصلًا منقسمة إلى خمسة أقسام يحمل كلٌّ منها اسمًا خاصًّا، والكل مرتب ترتيبًا منطقيًّا متسلسلًا، وهناك تقسيم آخر ثنائي يجمع في النصوص بين ما هو خاص «بالأعضاء المريضة» و«ظواهر المرض»، ومن الغريب أننا سنجد عند جالينوس تقسيمًا مشابهًا عندما يقسم الأدوية «حسب الأعضاء المريضة» و«حسب ماهية المرض».

وبخلاف النصوص الخاصة بالعلاج، فإن هذه النصوص المنبئة عن مصير الأمراض لا يُقصد منها المنفعة العملية فحسب، بل لها أيضًا وجه نظري ليس فقط فيما يخص مسألة الوقوف على أسباب المرض وتشخيص الأمراض، بل أيضًا للعمليات الحسابية المبنية على أعراض المرض.

وهذه مجموعة من بعض الأدوية التي ورد ذكرها في النصوص البابلية:

سكران hyocyamus
شمار anethum fœniculum
خردل sinapis
قشر الرمان punica granatum
بذر الكتان linum usitatissivmum
حضض lycium
لبنى عنبر – استرك styrax
ماء الورد   
اللوطس nymphac lotus
الزيتون olea europaea
الدفلى laurel
آس myrtle
بصل العنصل asphodel
بطم سامش pine turpentine
السكسنبيج galbanum
خربق hellebore
مر myrrha
حلتيت asa-fœtida
وج acorus calamus
خروع ricinus communis
نعناع menthe piperata
خشخاش papaver
عرق سوس glycyrhiza glabra
يبروح mandarak
قنب، بنج cannabis
زعفران crocus
صعتر thymus
ثوم garlic
بيدستر castoreum
زيوت   
لبن بقر ولبن معيز   
بول المواشي   
عسل   
شمع   
كبريت sulphur
الشب alum
النحاس copper
الحديد iron

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤