الفصل السادس

جالينوس

GALEN
وُلِدَ جالينوس في برجامون Peragamon١ في آسيا الصغرى عام ١٣١ب.م. أي بعد أبقراط بخمسة قرون، وكان والده مهندسًا ماهرًا وديع الطبع لطيف المعشر بعكس والدته التي كان طبعها في منتهى الشراسة، ويقول جالينوس عنها: «وقد تعودت أن تعضَّ خادماتها، وكثيرًا ما كانت تغضب على أبي مختلقة — بلا انقطاع — المشاكل المفتعلة، فكانت معاملتها أسوأ من معاملة كسانتيب لسقراط، فلما قارنت فضل والدي بأهواء والدتي صممت على أن أكتسب فضائله وأن أتجنَّب مساوئها.»

وقد سمى المهندس ابنه «جالينوس» الذي معناه «المسالم أو الهادئ»، فصدق اختياره إذ وصل جالينوس إلى مرتبة عالية من الخلق ومن النُّبل فوفى بعهده بأن يقتفي آثار والده، ولكن ليس من المؤكد أن يكون قد نجح في أن يتخلَّص تمامًا من الطبع الذي ورثه من أمه، فقد تذكِّر بعض مناظراته العلمية بجو العواصف العنيفة التي كانت تهب — من حين إلى آخر — في منزل والديه.

وقد كانت برجامون في ذلك الحين مدينة ثقافة عالية لا تسبقها إلا الإسكندرية فقط، فأتاحت لجالينوس أن يتثقف ثقافة فلسفية وطبية، فاعتنق المذاهب الفلسفية السائدة وهي مزيج من آراء أرسطو وأفلاطون والرواقية والإبيقورية، وقام برحلات علمية إلى آسيا الصغرى والإسكندرية ومراكز طبية أخرى.

وعند عودته إلى برجامون عُيِّن جراحًا لدى المصارعين Gladiators، وبعد إقامة سنوات في مسقط رأسه دفعه طموحه إلى أن يذهب إلى روما، حيث ظفر بسرعة على صيت لامع كطبيب وأستاذ في التشريح، وكان من بين الذين عالجهم الإمبراطور مرقص أوريليوس نفسه، ولكن الحرب الشعواء التي أعلنها جالينوس ضد أطباء روما المشعوذين أو الجهلاء أثارت ضده عددًا كبيرًا منهم، فاضطر إلى أن يعود إلى برجامون، ولكن ألحَّ عليه مرقص أويليوس أن يعود مرة ثانية إلى العاصمة، فأذعن ومكث فيها إلى آخر حياته سنة ٢٠١ب.م.

ألف جالينوس عددًا كبيرًا من الكتب الشاملة لجميع أقسام الطب في زمانه، كما ألف كتبًا فلسفية، وكان إعجابه بأبقراط عظيمًا جدًّا ففسر أهم كتبه، وقد اقتفى آثاره، فأبدى اهتمامًا كبيرًا للفحص الإكلينيكي مستندًا قبل كل شيء على الوقائع الملموسة، غير أن ثقافته الفلسفية كانت تغلب عليه أحيانًا فأوقعته في استنتاجات منطقية بعيدة عن الصواب، ومعظم موقفه من علم الأمراض مبني على النظريات الأبقراطية.

وقد اهتم كثيرًا بالتجارب العلمية، فهو من أول الأطباء الذين أجروا اختبارات للوقوف على طريقة عمل بعض الأعضاء مثل الكلى، وصلة الحبل الشوكي Spinal Cord بحركات الجسم والحاسية وطريقة العمل للتنفس والنبض، فأثبت علميًّا أن الشرايين تحتوي على دم وتنقله، وقد اقترح تفسيرًا فيسيولوجيًّا للأحلام مرتابًا في أهميتها الطبية.

وقسَّم الأدوية إلى ثلاثة أقسام حسب احتوائها على الحار والبارد واليابس والرطب، والأدوية إذا كانت ذات فعل واحد سُمِّيَت بسيطة، والتي لها فعل إضافي غير فعلها الأصلي سميت مركبة، والقسم الثالث يشمل الأدوية التي تفعل لا بمزية خاصة بل بكليتها مثل الأدوية المقيئة والمسهلات والسموم.

وكان جالينوس يحضِّر الأدوية بنفسه، وكان له غرفة خاصة لتحضيرها اسمها «ياتيربون» Iaterion وغرفة أخرى لتخزينها اسمها أبوتيكه Apoteke، وقد وصف ٤٧٣ وصفًا من مختلف المصادر: نبات وحيوانات ومعادن، وقد أدرج في مؤلفاته عددًا من الوصفات.
وقد استعمل الناس بعده على مدى الأجيال ثلاثة أدوية نُسِبَت إليه وهي:
  • (١)
    البيرا بيكرا Holy-bitter: لعوق قوامه المر.
  • (٢)
    الطين المختوم Terra sigillata.
  • (٣)
    والترياق المشهورة Theriac.٢

(١) مؤلفات جالينوس

عمَّر جالينوس طويلًا ولم يتوقف أبدًا أثناء حياته عن التأليف، وقد بلغ عدد مؤلفاته أربعمائة مؤلَّف، عدم بعضها في حريق، وقد وصل إلينا ٨٣ كتابًا لا يتطرَّق الشك في نسبتها إليه، و١٩ يُشَك فيها، و١٥ تفسيرًا لكتب أبقراط، وهذه الكتب لم يبقَ منها إلا الترجمة العربية.

وأهم هذه الكتب هي:
  • (١)
    في أن الطبيب الفاضل يجب أن يكون فيلسوفًا On the ideal Physician.
  • (٢)
    كتاب الأسطقسات On the elements according to Hippocrates.
  • (٣)
    كتاب التشريح الكبير On anatomical preparation or Encheirosis.
وهو من أهم كتب جالينوس في علم التشريح وقد ظل المرجع الأساسي على مر القرون، وهو ١٥ مقالة، والمقالات من ٩ إلى ١٥ لا توجد إلا في الترجمة العربية، وقد نشرها ماكس سيمون وترجمها إلى الألمانية، وأضاف إليها معجمًا عربيًّا — يونانيًّا — ألمانيًّا للمصطلحات الطبية.٣
  • (٤)
    كتاب في العروق On dissection of the veins and arteries.
  • (٥)
    كتاب في حركة العضل On the movement of muscles.
  • (٦)
    كتاب في آراء أبقراط وأفلاطون On the teaching of Hippocrates and plato.
  • (٧)
    كتاب منافع الأعضاء On the use of the parts of the human body.

    وهو يشتمل على ١٧ مقالة وفيها جميع تعليم جالينوس في الفيسيولوجيا.

  • (٨)
    كتاب الصناعة الصغيرة On the Medical Art (Ars Medica).
    وهو ملخص، وكان يسمى باليونانية Microtechne وباللغة اللاتينية في القرون الوسطى Articella ars Parva Tegni.
  • (٩)
    كتاب حيلة البرء وهو ١٤ مقالة On the method of treatment (Megatechne or ars magna).

وكان لجالينوس شأن كبير عند العرب فترجموا معظم كتبه إلى العربية ولخصوها وفسروها، وقد ذكرها ابن أبي أصيبعة مطولًا في كتابه ووضح مضمون بعضها، وأشار إلى أن أطباء الإسكندرية قد اختاروا من بين هذه المجموعة الضخمة من الكتب ستة عشر كتابًا، ورتَّبوها سبع مراتب بحيث يتدرج المبتدئ من مرتبة إلى أخرى بنظام محكم ويشتاق إلى المزيد.

وها هي ذي المراتب السبع:

المرتبة الأولى

  • (١)

    كتاب الفرق: يدرس فيه قوانين العلاج على رأي أصحاب التجربة وعلى رأي أصحاب القياس.

  • (٢)

    كتاب الصناعة الصغيرة: يستفاد منه جمل صناعة الطب كلها، النظري منها والعملي.

  • (٣)

    كتاب النبض الصغير: يُستفاد منه جميع ما يحتاج إليه المتعلم من الاستدلال بالنبض على ما ينفع به الأمراض.

  • (٤)

    الكتاب المسمى بأغلوقن: ويُستفاد منه كيفية التأني في شفاء الأمراض.

المرتبة الثانية

  • (١)

    كتاب الأسطقسات: يُدرس فيه تركيب البدن من أسطقسات الأعضاء أعني الأخلاط (الدم والصفراء والسوداء والبلغم)، وأسطقسات هذه الأخلاط (النار والهواء والماء والأرض).

  • (٢)

    كتاب المزاج.

  • (٣)

    كتاب القوى الطبيعية.

  • (٤)

    كتاب التشريح الصغير.

المرتبة الثالثة

  • (١)

    كتاب العلل والأعراض.

المرتبة الرابعة

  • (١)

    كتاب تعرف علل الأعضاء الباطنية.

  • (٢)

    كتاب النبض الكبير.

المرتبة الخامسة

  • (١)

    كتاب الحميات.

  • (٢)

    كتاب البحران.

  • (٣)

    كتاب أيام البحران.

المرتبة السادسة

  • (١)

    كتاب حيلة البرء: أربع عشرة مقالة، يُستفاد منه قوانين العلاج على رأي أصحاب القياس في كل واحد من الأمراض.

المرتبة السابعة

  • (١)

    كتاب تدبير الأصحاء.

(٢) كتبه في الأدوية

وقد خصَّص جالينوس عدة كتب للأدوية نذكر من بينها:
  • (١)

    كتاب في قوى الأدوية المسهلة، مقالة واحدة «يبين فيها أن إسهال الأدوية ما يسهل ليس هو بأن كل واحد من الأدوية يحيل ما صادفه في البدن إلى طبيعته ثم يندفع ذلك فيخرج، لكن كل واحد منها يجتذ خلطًا موافقًا مشاكلًا له.»

  • (٢)

    كتاب الأدوية المفردة، جعله في إحدى عشرة مقالة، في المقالتين الأوليين خطأ مَنْ أخطأ في الطرق الرديئة التي سُلِكَت في الحكم على قوى الأدوية، ثم أصَّل في المقالة الثالثة أصلًا صحيحًا لجميع العلم بالحكم على القوى الأولى من الأدوية، ثم بيَّن في المقالة الرابعة أمر القوى الثواني وهي الطعوم والروائح، وأخبر بما يستدل عليه منها على القوى الأولى من الأدوية.

    ووصف في المقالة الخامسة القوى الثوالث من الأدوية وهي أفاعيلها في البدن من الإسخان والتبريد والتخفيف والترطيب، ثم وصف في المقالات الثلاث التي تتلو قوة دواءٍ دواء من الأدوية النباتية، ثم في المقالة التاسعة قوى الأدوية المعدنية، وفي العاشرة قوى الأدوية التي هي مما يتولَّد في أبدان الحيوان، ثم وصف في الحادية عشرة قوى الأدوية التي هي مما يُتولد في البحر والماء المالح.

  • (٣)

    كتاب قوى الأغذية: ثلاث مقالات عدَّد فيه جميع ما يُغتذى به من الأطعمة والأشربة، ووصف ما في كل واحد منها من القوى.

  • (٤)

    كتاب تركيب الأدوية في سبع عشرة مقالة أَجْمَلَ في سبع منها أجناس الأدوية المركَّبة فعدَّدها جنسًا جنسًا، وجعل مثلًا جنس الأدوية التي تبني اللحم في القروح على حدته، وجنس الأدوية التي تحلل على حدته … إلخ. وإنما غرضه فيه أن يصف تركيب الأدوية على الجمل؛ ولذلك جعل عنوان هذه السبع المقالات «في تركيب الأدوية على الجمل والأجناس».

    وأما العشر المقالات الباقية فجعل عنوانها «في تركيب الأدوية بحسب المواضع»، وابتدأ فيه من الرأس، ثم هلمَّ جرًّا على جميع الأمراض إلى أن انتهى إلى أقصاها.

    وقد أشار ابن أبي أصيبعة إلى أن جملة هذا الكتاب الذي رسمه جالينوس في تركيب الأدوية لم يوجد في زمانه إلا وهو منقسم إلى كتابين وكل واحد منهما على حدته:

    فالأول يُعْرَف بكتاب قاطاجافس وهذا العنوان نقل حرفي للعنوان اليوناني kata genes ويتضمن السبع المقالات الأولى التي تقدَّم ذكرها.

    والآخر يُعْرَف بكتاب الميامر ويحتوي على العشر المقالات الباقية، والميامر جميع ميمر وهو الطريق.

  • (٥)

    كتاب الأدوية التي يسهل وجودها وهي التي تُسمى «الموجودة في كل مكان» وهو مقالتان.

  • (٦)

    كتاب الأدوية المقابلة للأدواء جعله في مقالتين، ووصف في المقالة الأولى منه أمر الترياق، وفي المقالة الثانية أمر سائر المعجونات.

  • (٧)

    كتاب الترياق إلى مغيليانوس مقالة واحدة صغيرة.

  • (٨)

    كتاب الترياق إلى قيصر، وهو مقالة واحدة.

١  كان يكتبها العرب برغمش.
٢  الترياق معجون مركب من عدة مواد (نباتية ومعدنية وحيوانية) منها لحوم الأفاعي، وكان يقصد منه القدماء مقاومة سم ذوات السموم، وقد توارثت الأجيال صناعة الترياق، وعلى مر السنين أخذت شهرته تزداد حتى أصبح الدواء الأعظم الذي يشفي جميع الأمراض، وحتى أواخر القرن الثامن عشر كانت كلية الطب والصيدلة في باريس تقوم رسميًّا بتحضيره بحفل كبير أمام الملأ، ثم توزعه على الصيادلة، انظر كتاب الصناعة في الطب للمجوسي ج٢، ص٥٢٦ إلى ٥٣٤. REUTTER de ROSEMONT, Histoie de la pharmacie, Paris, 1932, t. 2 p. 121–28. بشر فارس، كتاب الترياق، أثر عربي مصور، القاهرة، المعهد الفرنسي ١٩٥٣م.
٣  Max SIMON, Sieben Bucher Anatomie des Galens, 2 vol., Leipzing, 1906.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤