الفصل الثالث

دور المعلم

في الطبعة السابقة من هذا الكتاب، لم أبدأ الجزء الثاني بهذا الفصل. ولكني عادةً ما أبدأ من هذا الموضع في جلساتي مع أعضاء هيئات التدريس؛ لأنه الموضع الذي يبدأ من عنده فهم ما تتضمَّنه أساليب التدريس المُتمركِز حول المتعلم. إنه موضع مألوف بالنسبة إلى الأغلبية؛ فلطالما كان دور المعلم المُيسِّر اقتراحًا قائمًا لسنوات؛ ومن ثَمَّ لا تتعارض الأفكار التي يمثلها هذا الدور، من منظور الفلسفة التربوية، مع ما يؤمن به معظم أعضاء هيئات التدريس بخصوص التعليم والتَّعلُّم؛ وبذا يُعَد هذا الموضع بمنزلة نقطة بداية جيدة.

هذا لا يعني أن المعلمين يرَونه دورًا يَسهُل القيام به؛ فهو لا يمثل الطريقة التي دُرِّس بها لمعظمنا، كما أنه ليس الطريقة التي نتبعها للتدريس أغلب الوقت، وعلى الرغم من ذلك، فإن دور مُيسِّر عملية التَّعلُّم هو جزء أساسي من كونك معلمًا تتبع طرق التدريس المُتمركِز حول المتعلم. ونجاح التغييرات الأربعة الأخرى يتوقف على مدى إتقان المعلم لهذا الدور. إذَن، فالهدف من هذا الفصل هو وصف ماذا يعني أن تكون مُعلمًا مُيسرًا لعملية التَّعلُّم، وإثبات استمرارية الاعتماد على الأدوار المُتمركِزة أكثر حول المعلم، وتقديم مجموعة من المبادئ التي تُوضِّح كيف يبدو الدور المُتمركِز حول المتعلم عند تطبيقه، والاختتام بالأسئلة التي تُثار عند تطبيق هذا الدور.

(١) ما الذي يحتاج إلى التغيير؟

ما الذي يحدث داخل قاعة الدراسة النمطية بالجامعات؟ من الذي يُقدِّم المحتوى؟ من الذي يقود المناقشات؟ من الذي يستعرض المادة العلمية ويُراجعها؟ من الذي يقدم الأمثلة؟ من الذي يطرح معظم الأسئلة ويجيب عنها؟ من الذي يسأل الطلاب؟ من الذي يحل المشكلات ويُقدِّم الرسوم البيانية ويُصمِّم المصفوفات؟ في معظم قاعات الدراسة، يكون هذا الشخص هو المعلم. وعندما يتعلق الأمر بمن يبذل قصارى جهده معظم الوقت، فإن المعلم يفوز باللقب بكل سهولة؛ فالطلاب موجودون في قاعة الدراسة؛ إلا أنهم كثيرًا ما يتلقَّون التعليم في سلبية. وبدلًا من أن يكونوا مُشاركين نشطين في العملية التعليمية، فإنهم يَجلسون ويراقبون في سلبيةٍ ما يقوم به المعلم.

المعلمون الذين يتبعون طرق التدريس المُتمركِز حول المتعلم يعملون بكدٍّ أيضًا، ولكنهم يُدركون أن على الطلاب أيضًا أن يبذلوا قصارى جهدهم لأداءِ مهامَّ متعلقة بالتَّعلُّم، وهؤلاء المعلمون يرَون أن المهمة الأساسية للمعلم هي تيسير الجهود التعليمية للطلاب أو دعمها، وعلى الرغم من أن فكرة كون المعلم مُيسِّرًا للعملية التعليمية ليست بالجديدة، فإن ثَمَّةَ اختلافًا، وعندما كُتب عن هذا الدور فيما سبق، كان مقترحًا بوصفه بديلًا؛ أي بوصفه دورًا بديلًا من بين عددٍ من الأدوار التي قد يختار من بينها المعلم أو يتنقَّل بينها. وداخل قاعات الدراسة التي تُطبق الأساليب المُتمركِزة حول المتعلم يتحول دور مُيسِّر عملية التَّعلُّم إلى كونه شرطًا أساسيًّا أكثر من كونه اختيارًا.

وعادةً ما تَستخدم المحاولات السابقة لوصف الدور التيسيري للمعلم استعاراتٍ مجازيةً لكشف السمات الأساسية لهذا الأسلوب المتبع في التدريس. ويُشبِّه فوكس (١٩٨٣) المعلمَ الذي يُيسِّر عملية التَّعلُّم بالبستاني؛ إذ يُمتدَح البستانيون بجدارةٍ لأنهم يُساعدون الورود أو الفواكه على الإزهار والإثمار؛ رغم أنهم لا يُخرجون بأنفسهم أزهارًا أو يطرحون ثمارًا. وعلى نحوٍ مماثل، يوفر المعلمون ظروفًا تُعزِّز النمو والتَّعلُّم، إلا أن مهمة إتقان المادة العلمية وتنمية مهارات التَّعلُّم تقع على عاتق الطلاب.

شُبِّه المعلمون المُيسِّرون أيضًا بالمرشدين، والكثير من الأفكار الملهمة المفيدة يُستمَد من هذا التشبيه المجازي؛ فالمرشدون يَدلُّون مَن يتبعونهم على الطريق، إلا أن مَن يتبعونهم يسيرون بأنفسهم. يشير المرشدون إلى معالم الطريق؛ حيث إنهم قطعوا هذا الطريق من قبل، ويُقدِّم المرشدون النصيحة، ويُحذِّرون من الخطر، ويبذلون قصارى جهدهم ليمنعوا وقوع الحوادث. وعلى المنوال نفسه، يتسلَّق المعلمون، الذين يتبعون طرق التدريس المُتمركِز حول المتعلم، الجبالَ مع الطلاب. ومعًا يصعد المعلمون والطلاب ما يبدو وكأنه قمم جبال عالية وجديدة بالنسبة إلى الكثير من الطلاب.

وتُقدِّم نانسي هيل (١٩٨٠، ص٤٨) وصفًا بليغًا للغاية لمواطن الضعف المشتركة والأصيلة التي تظهر حين يتسلق المعلمون والطلاب معًا: «يَعرف المعلم باعتباره متسلِّقًا للجبال كيف يربط النقاط بعضها ببعض؛ فالحبل بمنزلة أداةٍ إرشادية تربط بين مُتسلِّقي الجبال، بحيث يساعد كلٌّ منهم الآخر على الصعود لأعلى، والمعلم يصنع «حبلًا» عن طريق استخدام مشاركات الطلاب الشفهية والكتابية، وعن طريق تكوين الروابط عبر التخصصات الدراسية المختلفة، وداخل التخصص الدراسي الواحد في المواضع المناسبة تمامًا، وعن طريق ربط المادة العلمية التي يدرسها الطلاب بحياتهم الشخصية.» وناقش ماريني (٢٠٠٠) هذا التشبيه مرةً أخرى، وأضاف كذلك المزيد من المقارنات.

وفي سياقٍ متَّصل، أولئك الذين يُيسِّرون عملية التَّعلُّم يُشبَّهون بالمدربين. ويوضِّح بار وتاج (١٩٩٥، ص٢٤) في مقالٍ لهما: «المدرب لا يوجِّه لاعبي كرة القدم وحسب … وإنما يصمِّم التدريبات الكُروية ويضع خطة اللعب، ويُشارك في المباراة نفسها عن طريق القيام بتغيير اللاعبين واتخاذ القرارات الأخرى. وتذهب الأدوار الجديدة لأعضاء هيئة التدريس خطوةً أبعد من ذلك؛ حيث إن أعضاء هيئة التدريس لا يضعون خطة اللعب وحسب؛ وإنما يبتكرون «لعبة» جديدة وأفضل؛ لعبةً تُولِّد قدرًا أكبر وأفضل من التَّعلُّم.»

ويقول سبنس (٢٠١٠، ص٣)، في مقاله الرائع عن جون وودن مدرب كرة السلة — الذي لا يُضاهى — بجامعة كاليفورنيا، إن وودن اعتبر التدريب ضربًا من التدريس؛ حيث كتب أنه «يتعامل مع كل لاعب على حِدَة، محاولًا توجيه تعليماتٍ إليه إذا كان هذا من شأنه أن يُساعد في تعلُّمه. واعتمد نجاحُه على معرفة أوجُه القصور لدى كل لاعب وقدراته … كان يؤمن بأنك إذا لم تَنتبه إلى ما يفعله الطلاب، ثم تُقوِّمهم وتُعلمهم، فلن يكون هناك تدريس. وكما وصف الأمر، إذا لم يتعلم الطلاب شيئًا، فهذا يعني أن المعلم لم يُدرِّس لهم شيئًا.» ويلاحظ سبنس أن «قاعاتنا الدراسية بعيدة كل البُعد عن ممارسات وودن العملية، ولكن ألا ينبغي أن تكون أقرب شبهًا بها؟ ألا ينبغي أن تكون هذه القاعات الدراسية أماكن للتعلم حيث يستطيع الطلاب أن يُجرِّبوا ويفشلوا ويتلقَّوا التعليم؟ ما تعلمتُه من نموذج المدرب كان ضرورة أن يخوض المعلم تجربة المتعلمين. كنت بحاجةٍ إلى الملاحظة والاستماع حتى أتعرف على نقاط القوة والضعف والتميُّز لديهم. وهذا يتطلب العمل المكثف، ولكن ألا يعكس هذا واجبات مهنتنا؟»

يُشبِّه إيسنر (١٩٨٣) المعلمَ بمايسترو الفرقة الموسيقية الذي يقف أمام فرقته. والمعلم، مثل مايسترو الفرقة الموسيقية، يقف على منصةٍ أمامه نوتة موسيقية معقدة؛ أي المحتوى الذي سيقوم بتدريسه في ذلك اليوم. وأمام المايسترو فرقة تتألف من أشخاصٍ يعزفون على آلات موسيقية مختلفة، ويتمتعون بمستوياتٍ مختلفة من القدرات، وتلقَّوا مستوًى مختلفًا من التدريب. والمعلم-المايسترو لديه خمسون دقيقة ليُعِد فرقته لعزف النوتة الموسيقية. تروق لي الاحتمالات الرائعة التي ينطوي عليها هذا التشبيه.

إلا أن التشبيه المفضل لديَّ لوصف التدريس المُتمركِز حول المتعلم هو تشبيه المعلم بالقابلة. رأيت هذا التشبيه منسوبًا إلى عدة مؤلفين، ولكني قرأت عنه لأول مرة في مقال كتبه إيرز (١٩٨٦، ص٥٠)؛ حيث كتب يقول: «المعلمون الأكْفَاء يساعدون الآخَرين مثلما تفعل القابلة الماهرة؛ فالمعلمون الأكْفَاء يبحثون عن طُرق لتنشيط الطلاب؛ لأنهم يعرفون أن عملية التَّعلُّم تتطلب مشاركةً نشطة بين الفاعل و«المفعول». فعملية التَّعلُّم تتطلب الاكتشاف والابتكار. والمعلمون الأكْفَاء يعرفون متى يتراجعون ويلتزمون الصمت، ومتى يشاهدون ويتساءلون عما يحدث من حولهم. وبإمكانهم الدفع والجذب عند اللزوم — مثل القابلة تمامًا — غير أنهم يُدركون أنه لا يتم استدعاؤهم دومًا لأداء هذا الدور، بل أحيانًا يكون الأداء موجَّهًا لموضع آخر، ويجب أن يكون كذلك.»

وأنا أرى نموذج المعلم-القابلة حاضرًا عند تولُّد عملية التَّعلُّم. القابلة نفسها لا تلد، فالأمر يعود إلى المتعلم في إتقان المادة العلمية وتطبيقها على أرض الواقع، أما المعلم-القابلة فهو مجرد وسيلة مساعدة؛ إذ يستحضر الكثير من التجارب والخبرات السابقة، ويُطمئِن ويُهدِّئ؛ فهو يقف بجوار الكثير من الطلاب الآخَرين الذين يُجاهدون في سبيل تعلُّم هذه المادة. إنه يَعرف المواضع التي تتأزم فيها الأمور، ولديه استراتيجيات يمكن اقتراحها لمساعدة المتعلمين على الوصول إلى مرحلة الفهم والاستيعاب. وعندما يُولَد الفهم والاستيعاب في النهاية، يكون المعلم-القابلة حاضرًا للاحتفال بتلك اللحظات المهمة بالنسبة إلى المتعلم. يا له من تشبيهٍ جميل!

تُقدِّم هذه التشبيهات أفكارًا مُلهِمة لدور المعلم الذي يُيسِّر عملية التَّعلُّم؛ فهي مُقيَّدة بالتركيز على ما «يكون» عليه المعلمون، في مقابل ما «يفعلونه»؛ فالمعلم أشبه بالبستاني والمرشد والمدرب ومايسترو الفرقة الموسيقية والقابلة. ولكن كيف يقوم المعلم بمهامِّ البستاني أو المرشد أو المدرب أو مايسترو الفرقة الموسيقية أو القابلة داخل قاعة الدراسة؟ لكي يَضطلع المعلم بدوره، عليه أن يعرف ما يقوم به المُيسِّر؛ وإليكَ ملخَّصًا موجزًا وبسيطًا يُعَد أفضل موضع للبدء من عنده: دور المعلم هو إشراك الطلاب ودعمهم في عملية التَّعلم الصعبة والمضطربة.

إن ما يجعل الدور المُتمركِز حول المتعلم مفضَّلًا على الأدوار المُتمركِزة حول المعلم هو أنه يُعزِّز عملية التَّعلُّم بمزيدٍ من الفاعلية، ويقوم بذلك لسببين؛ أولًا: المعلمون يُركِّزون على ما يفعله «الطلاب»، بدلًا من التركيز على ما يفعلونه هم أنفسهم (بيجز، ١٩٩٩أ، ١٩٩٩ب)؛ فهم يُلاحظون إلى أي مدًى يستوعب الطلاب المادة العلمية أو لا يستوعبونها، وهذه المعلومة تسمح لهم بتعديل أسلوب تدريسهم بما يُعزِّز التَّعلُّم بمزيدٍ من الفاعلية. ووصْف سبنس لأسلوب وودن في التدريب يوضح هذا الأمر تمامًا؛ فالمدرب لا يقلق بشأن طريقة تدريبه؛ فهو يُلاحظ اللاعبين ويراقبهم، وهذه الملاحظة المُركَّزة تتيح له تقديم التقييم الذي يساعد اللاعبين على تحقيق المزيد من النجاح على مستوى الأداء.

ثانيًا، وربما الأكثر أهمية: التدريس المُيسِّر يساعد على المزيد من التَّعلُّم؛ ذلك لأن الطلاب يشاركون في تأدية مهام التَّعلُّم بأنفسهم. هكذا، هم لا يستنسخون الأمثلة التي يقدمها المعلم، وإنما يبتكرون الأمثلة خاصتهم؛ حيث إنهم لا يُسجِّلون ما يقوم به المعلم أثناء حل المسألة وحسب، بل يعملون على حل المسألة بمفردهم أو مع طلابٍ آخرين. إنهم يطرحون الأسئلة، ويلخصون المحتوى، ويبتكرون الفرضيات، ويقترحون النظريات، ويُقدِّمون التحليلات النقدية، وهكذا.

فهمت هذا المفهوم حقًّا بعد قراءة بحث بيجز (١٩٩٩أ، ١٩٩٩ب)، وأتذكر أُولى محاولاتي لإحداث التغيير. كنتُ أظنُّ أن إحداث التغيير أمرٌ يسير. لقد قدَّمتُ مفاهيم مهمة، وشرحتُها بكل عناية، طارحةً الأسئلة وطالبةً من الطلاب طرح ما لديهم من أسئلةٍ قبل أن أقول لهم: «الآن، ما نحتاج إليه هو الأمثلة، فلسوف تُساعدكم الأمثلة على فهم هذا. إذَن، ما المثال الذي سيوضِّح هذا المفهوم؟» لم يأتِني رد. انتظرتُ في صبر، ثم شجَّعتهم قائلة: «لا ينبغي أن يكون مثالًا ممتازًا، شاركوني ما يخطر على بالكم وحسب.» مرةً أخرى، لم تأتِني إجابة. انتظرت لوقتٍ أطول. حان وقت استخدام الورقة الرابحة الأخيرة؛ فقلت لهم: «حسنًا، كما تعرفون، الأمثلة تُستخدم عادةً في الاختبارات الخاصة بهذه المادة. يجب أن تُدوِّنوا في ملاحظاتكم بعض الأمثلة.» في النهاية، رفع آل يدَه في تردُّد؛ وهو طالب مُبالِغ نوعًا ما في اهتمامه بالتفاصيل والتنظيم، ودائمًا ما يشعر بالقلق حين تتباطأ وتيرة العمل داخل قاعة الدراسة، وما إن سمعتُ المثال الذي طرحه آل حتى قلتُ له: «شكرًا لك يا آل!» وانتابني بعدها شعور بالقلق. لم يكن مثالًا جيدًا. واستغرقنا ثلاث أو أربع دقائق لنصل إلى مثالٍ أشعُر أنني يُمكنني كتابته على السبورة. وبعد أن انتهيت، أتذكر أنني ألقيتُ نظرةً على ملاحظاتي، ورأيتُ ثلاثة أمثلة ممتازة مدوَّنة فيها.

أكان يتعين عليَّ مشاركتهم إياها من البداية؟ الإجابة نعم ولا. ربما كان يتعين عليَّ أن أمنح طلابي مثالًا من أمثلتي؛ بهدف التوضيح وحثِّهم على التفكير في الاتجاه الصحيح. ولكن لا ينبغي أن يُدوِّن الطلاب الأمثلة الخاصة بالمعلم في ملاحظاتهم وحسب، بل إنهم بحاجةٍ إلى بعض الأمثلة الخاصة بهم — بعض الأمثلة المنطقية بالنسبة إليهم — وهذا يربط بين ما يعرفونه بالفعل وبين المفهوم الجديد الذي يسعَون لتعلُّمه. ولن يتعلَّموا كيف يقومون بالعمل الذهني الشاق الذي يتطلبه ابتكار الأمثلة الجيدة إذا كان كل ما يفعلونه هو تدوين الأمثلة التي يُقدِّمها المعلم. علاوةً على ذلك، أفضل وقتٍ لممارسة ابتكار الأمثلة يكون داخل قاعة الدراسة، حين يكون المعلم موجودًا ليقترح طُرق البحث عنها، ويُقدِّم التقييم الذي يُحسِّن من جودتها.

والتدريس المُتمركِز حول المتعلم ليس مُقترحًا يفرض الاختيار بين كل شيءٍ أو لا شيء على الإطلاق. أحيانًا يجب على المعلمين أن يقوموا بالمهام التعليمية نيابةً عن الطلاب؛ إذ ينبغي لهم تقديم حلول، وإجابة الأسئلة، وتوضيح النقاط، وإبراز أساليب التفكير النقدي، وهذا جزء مسموح به من عملية التدريس، ولكن ليس على المعلمين أن يقوموا بهذه المهام طوال الوقت أو حتى أغلب الوقت. أخيرًا، مسئولية التعليم تقع على كاهل الطلاب، ويُشجِّع التدريس المُتمركِز حول المتعلم عملية التَّعلُّم عن طريق إشراك الطلاب مباشرةً في تلك المهام التي تُيسِّر التَّعلُّم العميق والدائم.

(٢) ما الذي لم يتغير؟

بالنظر إلى الاهتمام الكبير الذي يتلقاه التدريس المُتمركِز حول المتعلم والافتراضات الواضحة التي يستند إليها، لعلنا نتوقع أن التدريس في مجال التعليم العالي صار أكثر ارتكازًا على المتعلم. ولكن للأسف، عدد قليل للغاية من الأدلة يَدعم ذلك الاستِنتاج؛ إذ تُشير أغلب البيانات إلى مواصلة الاعتماد على أساليب التدريس المُتمركِز حول المعلم. والأدلة لا توجد في استطلاعٍ واحدٍ وشاملٍ للآراء، وإنما توجد في العديد من التحليلات المختلفة، كما توضِّح الأمثلة التالية.

(٢-١) أدلة المعلمين على استعانتهم بأساليب التدريس المُتمركِز حول المعلم

في عام ١٩٩٨، صنف ٧٦ بالمائة من أعضاء هيئات التدريس (من بينهم الأعضاء الجدد) إلقاء المحاضرات على أنها طريقة التدريس التي يختارونها (فنكلشتاين، وسيل، وشوستر). وعلى الرغم من أنه يُمكن إشراك الطلاب بفاعليةٍ في المحاضرات، فإن الكثير من المحاضرات النظامية يتمركز حول المعلم؛ حيث يكون الطلاب متلقِّين سلبيِّين للمعرفة. هل تغيرت النسبة أثناء السنوات السابقة؟ لا نعرف الإجابة؛ فلم يتمَّ الانتهاء من إعداد استطلاع آراء كهذا مؤخرًا؛ ومِن ثَمَّ لا توجد بيانات متاحة للمقارنة مع هذا الاستطلاع الإرشادي المهم.

لقد أُجريت استطلاعات للآراء في بعض التخصصات الدراسية؛ فقد تَحقَّق أحد استطلاعات آراء أعضاء هيئة تدريس المقررات الدراسية لمادة الاقتصاد للطلاب الجامعيين، أُجريَ في أعوام ١٩٩٥ و٢٠٠٠ و٢٠٠٥ و٢٠١٠ (واتس وشاور، ٢٠١١) من طرق التدريس والتقييم التي ذكر أعضاء هيئة التدريس استخدامها في تلك المقررات. ومن المثير للدهشة أنه في كل استطلاعٍ من هذه الاستطلاعات قال أعضاء هيئة التدريس إنهم خصصوا ٨٣ بالمائة من وقت تدريس المادة للمحاضرات. وعلى مدار سنوات، حدث تزايُد نوعًا ما في أعداد من أبلغوا عن استخدامهم استراتيجياتٍ أخرى متمركزة أكثر حول المتعلم، إلا أن الباحثين توصلوا إلى ما يلي: «على الرغم من إمكانية القول بأنه يُمكن توقُّع استمرار حدوث التغييرات التدريجية التي لوحظت على طُرق التدريس والتقييم (لا سيما في استطلاعَي الرأي الأخيرَين)، فإنَّ الجزء الأكبر والأكثر تأثيرًا للصورة … يتمثل في أنه لا ينبغي التقليل من قيمة التفضيلات والمحفزات والقيود التي دفعت معظم مُدرِّسي الاقتصاد إلى استخدام أساليب التدريس القائمة على «التلقين والشرح على السبورة»» (ص٣٠٧-٣٠٨).

استطلع فالتشيك ورامزي (٢٠٠٣) آراء أعضاء هيئات تدريس مادتَي العلوم والرياضيات، العاملين بنظام الدوام الكامل في معاهد مدةُ الدراسة بها أربع سنوات بولاية لويزيانا؛ حيث سألا عن الأساليب المُتمركِزة حول المتعلم (التي عرَّفاها وأوضَحاها بالأمثلة)، ووجَدا أن الاستعانة بهذه الاستراتيجيات كانت «نادرة» (ص٥٦٧). وقد خلصا إلى أن «التَّعلُّم المعتمِد على حضور المحاضرات والحفظ والتسميع ثم التقييم لا يزال قائمًا داخل قاعات دراسة مادتَي العلوم والرياضيات، وحتى داخل الكليات التي لا تُركِّز تركيزًا أساسيًّا على البحث العلمي» (ص٥٧٩).

وفي إحدى الدراسات النوعية القائمة على المقابلات الشخصية، كان هدف الباحثين الوصول إلى فهمٍ أفضل لآراء أعضاء هيئات التدريس، الذين يُدرِّسون للطلاب الجامعيين المقررات الدراسية لمادة العلوم، عن التَّعلُّم الاستقصائي (براون وأبيل وديمير وشميت، ٢٠٠٦). وعلى وجه التحديد، كان الباحثون مهتمين بتصورات أعضاء هيئات التدريس عن الأنشطة المعملية القائمة على مبادئ التَّعلُّم الاستقصائي، تلك التجارب المعملية التي يستخدم فيها الطلاب الطُّرق العلمية للتحقق من الظواهر الطبيعية وحل المشكلات. وهذا الأسلوب للعمل داخل المعمل يناقضه التجارب المعملية ذات النوعية «الوصفية» والتي ينتج عنها محصلات محددة سلفًا.

أُجريت المقابلات الشخصية مع أعضاء هيئات التدريس من مُختلِف أنواع المؤسسات التعليمية، وكانت النتيجة العامة مفادها أن أساليب التَّعلُّم الاستقصائي «ملائمة للتخصصات العملية لطلاب السنوات الأخيرة أكثر من ملاءمتها لمواد الفِرَق التمهيدية أو التخصصات غير العلمية» (ص٧٨٤). «وعلى الرغم من أن أعضاء هيئات التدريس يُقدِّرون قيمة التقصِّي العلمي، فإنهم لاحظوا القيود التي يفرضها الوقت وعدد الطلاب وطُرق تحفيز الطلاب وقدرتهم على إنجاز المهام. وقد أعاقتهم هذه القيود، بالإضافة إلى رأيهم في التَّعلُّم الاستقصائي، عن تطبيق مبادئ التَّعلُّم الاستقصائي» (ص٧٨٤).

(٢-٢) أدلة الطلاب على استعانة المعلمين بأساليب تدريس مُتمركِزة حول المعلم

استطلع استبيان أُجري على ٩٢٢ طالبًا تقييمَ هؤلاء الطلاب للمُقرَّرات الدراسية الخاصة بمادة العلوم (كارداش ووالاس، ٢٠٠١). وأسفر التحليل العاملي لاستبيان الآراء بخصوص ثمانين بندًا عن ستة عوامل، من بينها عامل يُسمى التَّعلُّم السلبي. «إن متوسط النسبة البالغ ٢٫٨١ [من ٦ على مقياس ليكرت] على مقياس التَّعلُّم السلبي يُشير بوضوحٍ إلى أن أغلبية المقررات الدراسية لمادة العلوم تظل مُعتمِدة بالأساس على المحاضرات وتُركِّز على اكتساب الحقائق» (ص٢٠٨).

وطلبت دراسة تيرنزيني وكابرارا وكولباك وبارنتي وبيوركلوند (٢٠٠١)، التي أُجريت على طلاب كلية الهندسة المُشار إليها في الفصل الثاني، من الطلاب أن يُقيِّموا المقررات الدراسية التي استعانت باستراتيجيات التَّعلُّم النشط والتعاضدي، ثم قارنوها بتقييم الطلاب الذين درسوا المقررات الدراسية النظامية المعتادة. وفيما يلي سردٌ لعينة من البنود بمتوسط درجات الطلاب (من إجمالي ٤) في المقررات الدراسية التجريبية والمقررات الدراسية النظامية، وحجم التأثير، محسوبًا بالنقاط المئوية. وجميع الاختلافات في متوسط الدرجات ذات أهمية إحصائية، والنقاط المئوية تُحابي الطلاب الذين مارسوا أنشطة التَّعلُّم النشط والتَّعلُّم التعاضدي لدراسة المقررات الدراسية خاصتهم.

يوجد فرص للعمل في مجموعات ٣٫٥١ ٢٫٢٠ +٣٩
نقوم بأنشطة تتطلب من الطلاب أن يكونوا مشاركين نشطين في عملية التدريس والتَّعلُّم ٢٫٩٢ ١٫٩١ +٣٥
يشجع المدرس الطلاب على الاستماع والتقييم والتَّعلُّم من أفكار الآخرين ٢٫٩٨ ٢٫١١ +٣١
يوجه المدرس الأنشطة التَّعلُّمية الخاصة بالطلاب بدلًا من أن يُعطيَ المحاضرات أو يشرح المادة العلمية للمقرر الدراسي ٢٫٧٤ ١٫٩٩ +٢٨
أنا أتفاعل مع المدرس كجزء من دراسة هذا المقرر ٢٫٧١ ٢٫٠١ +٢٦

وهذه البيانات لا تشير إلى إدراك الطلاب بإيجابيةٍ للأساليب المُتمركِزة حول المتعلم وحسب، بل إنها تَرسم صورة متباينة لقاعات الدراسة يكون فيها الأساتذة أنشط من الطلاب.

(٢-٣) بيانات ملاحظة قاعات الدراسة

أثبتت الأبحاث التي أُجريت في مطلع الثمانينيات من القرن العشرين أن أعضاء هيئات التدريس يُخصِّصون وقتًا قليلًا للتفاعل داخل قاعة الدراسة. ولقد أجرى فيشر وجرانت (١٩٨٣) ١٥٥ زيارة ﻟ ٤٠ قاعة دراسية من مُختلِف المؤسسات التعليمية، في مجموعةٍ متنوعة من التخصصات الدراسية، وعلى مستوى المقررات الدراسية المختلفة بدايةً من المقررات التمهيدية حتى المقررات المتقدمة. وداخل تلك القاعات الدراسية كان الأساتذة يتحدثون بنسبة ٨٠ بالمائة تقريبًا من الوقت، أكثر بمقدار أربع مرات من الطلاب الموجودين داخل قاعات الدراسة التي بلغ متوسط أعداد طلابها سبعة وأربعين طالبًا في القاعة، ولم يكن طلاب مواد التخصص بالسنوات النهائية أكثر مشاركةً من طلاب المقررات الدراسية للسنوات الأولى. ووجدتْ دراسة وصفية أُجريت عام ١٩٩٦ (نان) على عشرين قاعة دراسية لمادة العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية؛ أنَّ المعلمين خصَّصوا نسبة ٥٫٨٥ بالمائة فقط من إجمالي وقت المحاضرة لمشاركة الطلاب. وقُدر هذا الوقت بدقيقة واحدة تقريبًا لكل أربعين دقيقة من وقت المحاضرة. وتُفيد دراسة فيشر الوصفية (٢٠٠٠)، من واقع زيارة ٣٤٤ قاعة دراسية، بأنه حين حدث التفاعل، كان المعلمون يطرحون الأسئلة أو يُعلقون ردًّا على أسئلة الطلاب أو إجاباتهم بنسبة ٤٧ بالمائة من الوقت. وحتى حين تفاعل الطلاب داخل هذه القاعات الدراسية، فإن أعضاء هيئات التدريس كانوا يُجْرون ٥٠ بالمائة تقريبًا من الأحاديث أثناء تلك التفاعلات.

ربما تُعَد دراسة (إيبرت-ماي، وديرتينج، وهودر، ومومسين، ولونج، وجارديليزا، ٢٠١١) الأكثر إرباكًا من بين البيانات القائمة على الملاحظات المأخوذة من داخل قاعات الدراسة؛ وهي عبارة عن دراسة كبيرة ومعقَّدة لأعضاء هيئات تدريس مادة علم الأحياء، الذين حضروا ورشَ عمل مُصمَّمة لتحويلهم من اتِّباع طُرق التدريس المُتمركِز حول المعلم إلى طُرق التدريس المُتمركِز حول المتعلم. تضمَّنت ورش العمل عدة أيام من التدريس، وردًّا على بيانات استبيان الآراء التي جُمِّعت لاحقًّا، قالت الأغلبية العظمى (٨٩ بالمائة من مجموعة واحدة) إنهم طبقوا إصلاحاتٍ كتلك المُقترَحة خلال ورش العمل. وطُلب من إحدى المجموعات المشارِكة أن يُصوِّروا أنفسهم على شرائط تسجيلية أثناء التدريس (أربع مرات على فترات محددة خلال عامين بعد انعقاد الورشة). وخضعت هذه الشرائط التسجيلية للتحليل باستخدام أداة مصمَّمة لقياس درجة التَّعلُّم النشط والمشاركة الطلابية الملحوظة داخل قاعات الدراسة. «تشير الملاحظات إلى أن أغلب أعضاء هيئات التدريس (٧٥ بالمائة) طبقوا أساليب التدريس القائمة على إعطاء المحاضرات والمُتمركِزة حول المعلم» (ص٥٥٥). وتثير هذه النتائج تساؤلات خاصة بقابلية تطبيق تجربة ورش العمل وخاصةً بانفصال تصورات أعضاء هيئات التدريس عن الواقع الذي تمت ملاحظته. غير أن الدراسة المذكورة هنا كدليل وصفي تَدعم استمرار الاستعانة بطرق التدريس غير المُتمركِزة حول المتعلم.

(٢-٤) تحليل أدوات التدريس بحثًا عن أدلة استخدام التَّعلُّم النشط

جمعت كانديس آرشر وميليسا ميلر (٢٠١١) مجموعة من خطط المناهج الدراسية من المقررات الدراسية «الأساسية» لمادة العلوم السياسية، إحدى المواد التمهيدية الكبيرة، والتي تكون عادةً المادة الوحيدة في هذا التخصُّص الدراسي. واهتمَّت كانديس آرشر وميليسا ميلر بمدى التَّعلُّم النشط الذي اشتملَت عليه تلك المناهج الدراسية، وقرَّرتا أن تُلقيا نظرةً على خطط المناهج الدراسية، مُشيرتين إلى أنه «في حين أن خطط المناهج الدراسية لا يُمكن أن توصِّل بالكامل ما يحدث داخل قاعة الدراسة، فإنها تُقدِّم ملخصًا عن نِيَّات المدرس، ونواتج التَّعلُّم المرجوَّة، والأساليب التربوية والتعليمية المتبَعة» (ص٤٢٩-٤٣٠).

وعن طريق الاستعانة بأدوات محرِّك البحث جوجل، وأدوات سيلابس فايندر (أدوات البحث عن خطة المنهج الدراسي)، حصلتا على ٤٩١ خطة منهج دراسي من ٢٣٨ مؤسسة تعليمية مختلفة، من بينها عيِّنة تمثيلية لنوعية المؤسسة التعليمية. وقد أجْرَتا تحليلًا لهذه الخطط الخاصة بالمنهج الدراسي، بحثًا عن دلالات تفيد باستخدام المعلمين أساليب التحفيز والنقاشات المنظمة، وطُرق التدريس القائمة على الاستعانة بدراسة الحالة. وشرحتا السبب وراء أن هذه الأساليب بعينها تتناسَب مع المحتوى الخاص بهذه المواد، وتَحظى بشُهرة عمومًا في أوساط هذا التخصص الدراسي. ووجدتا أن هذه الأنشطة نادرًا ما تُقترح في خطط المناهج الدراسية التي أجرتا عليها الدراسة؛ حيث استحوذَت المحفزات على ٧٫٧ بالمائة من الوقت، واستحوذَت النقاشات المنظمة على ٤٫٧ بالمائة من الوقت، واستحوذَت طرق التدريس القائمة على دراسة الحالة على ٣٫٧ بالمائة من الوقت. «في المجمل، ١٤٫٧ بالمائة من جميع المقررات الدراسية الأساسية في عيِّنة البحث استعانت بواحدٍ أو أكثر من هذه الأساليب الثلاثة الخاصة بالتَّعلُّم النشط» (ص٤٣١).

ما أُشير إليه هنا يُعَد بمنزلة عيِّنةٍ تمثيلية لمجموعةٍ أكبر من الأبحاث التي أُجريَت في مُختلِف المجالات وباستخدام مجموعةٍ متنوعة من منهجيات البحث العلمي. لا يوجد بحث واحد يُثبت أن التدريس الجامعي لا يزال مُتمركزًا حول المعلم، إلا أن غياب البيانات التي تُثبت انتشار استخدام الأساليب المُتمركِزة حول المتعلم والأدلة والبراهين — كتلك المذكورة هنا — تدعم الادِّعاء القائل بأن ما يحدث في معظم قاعات الدراسة بالجامعة لم يتغير كثيرًا منذ إصدار الطبعة الأولى من هذا الكتاب.

(٣) لماذا لم يصبح التدريس متمركزًا أكثر حول المتعلم؟

إذا كانت الأساليب المُتمركِزة حول المتعلم تُشجِّع عملية التَّعلُّم بمزيدٍ من الفاعلية (وهو ما أثبتته الأبحاث الواردة في الفصل الثاني)، وإذا كانت فكرة تيسير التَّعلُّم منطقية من الناحية البديهية، إذَن، فلماذا لا نرى المزيد من التغييرات في طُرق التدريس للطلاب؟ ربما يتَّضح أن تطبيق ما هو منطقي من الناحية الفكرية أصعب مما تَصوَّره معظمُنا. وفيما يلي بعض الأسباب وراء عدم تَحوُّل طُرق التدريس لتُصبح متمركزةً أكثر حول المتعلم.

(٣-١) لماذا يُفضِّل أعضاء هيئات التدريس الأدوار المُتمركِزة أكثر حول المعلم؟

لقد بيَّن التحوُّل إلى التدريس المُتمركِز حول المتعلم للكثير منا إلى أيِّ مدًى يَروق لنا أن نكون في بؤرة الحدث داخل قاعة الدراسة؛ فمع وجود جمهورٍ واقع تحت أَسرِنا، لا نستطيع أن نُفوِّت فرصة إبهار هذا الجمهور بما يُمكننا القيام به، وبالنسبة إليَّ يتمثَّل هذا الأمر في سرد القصص؛ فأنا يَروق لي حكْي القصص (بالطبع، القصص الحقيقية)، ومع تراكم السنوات، تراكمت القصص أيضًا. وبعض القصص كررتها كثيرًا لدرجة أنني صرت مُحنَّكة في حكْي المغزى من ورائها. وفي أيام الدراسة المعتادة، وحتى في تلك المحاضرات التي يُخيِّم على أجوائها الخمول، يُمكنني أن أحكيَ واحدة من تلك القصص لتدبَّ الحياة فجأةً في جَنَبات القاعة الدراسية. وأشعُر بأنني حققتُ إنجازًا حين يجتاح القاعةَ صوتُ الضحكات الصاخبة. يتذكر الطلاب حكاياتي؛ فحين أُقابلهم بعد مرور سنوات، يُذكرونني بقصة «غسالة الأطباق». بالطبع تتمثَّل المشكلة في أنهم نادرًا ما يتذكرون المغزى من وراء القصة؛ ومن ثَمَّ تكون جميع مبرراتي العقلانية بخصوص استخدام سرد القصص كمِشجَبٍ أُعلِّق عليه جميع المفاهيم باختلاف أنواعها (يروق لي هذا التشبيه؛ أمستاتس، ١٩٨٨) مجرد عذر أستخدمه فقط لإبراز براعتي في حكْي القصص.

أنا لا أُومِن بأن المعلمين الذين يتبعون طرق التدريس المُتمركِز حول المتعلم ممنوعون إلى الأبد من حَكْي القصص، أو ممنوعون من أي شيءٍ آخر يستمتعون أو يُتقنون القيام به حين يكونون في بؤرة الضوء؛ فهذا الأمر أشبه بمحاولة اتِّباع حِمية غذائية ومنع تناول الشوكولاتة على الإطلاق وتحت أي ظروف، بالإضافة إلى ذلك، فإن بعض القصص التي أسردُها تؤتي ثمارَها فعلًا؛ حيث إنها تُسهِّل فهم نقاط الموضوع واستيعابها، وتذكُّرها على نحوٍ أفضل. بالأحرى، الأمر متعلق بتحليل دوافعي وراء سرد القصص تحليلًا أمينًا، والتأكد من أنني أحكي هذه القصص لتيسير عملية التَّعلُّم، لا لأنني أريد التأكد من أنني ما زلتُ قادرةً على إضحاك الآخرين.

ويَبرز السبب الثاني وراء حفاظ أعضاء هيئات التدريس على الأدوار التقليدية أكثر في عنوان مقال كينج (١٩٩٣) الذي يتمُّ الاستشهاد به كثيرًا، ألا وهو: «من دور الحكيم على خشبة المسرح إلى دور المرشد خلف الكواليس»؛ إذ يبدو دور المعلم المُيسر أقل جاذبية، بل وأقل أهمية على الأرجح. هل الأمر كذلك لأننا نميل إلى الاعتقاد بأن دور المعلم أكثر أهميةً مما هو عليه بالفعل؟ وعلى الرغم من انخراطنا في كل جانبٍ تقريبًا من جوانب التدريس وتحكُّمنا في هذه الجوانب، فإننا لا يُمكننا أن نضمَن توصيل المُنتَج إلى العميل؛ حيث لا يمكن إجبار الطلاب على التَّعلُّم. ولا يستطيع المعلم أن يتعلم أي شيءٍ بالنيابة عن الطالب؛ فالطلاب يتحكمون تمامًا في أهم جزءٍ في أي تجربةٍ تعليمية. ربما يروق لنا الاعتقاد بأننا محور العملية التعليمية ونجومها، وكل ما فيها يدور في أفلاكنا، غير أن الطلاب هم النجوم الحقيقيون في هذه العملية.

ومع توافُر فهمٍ — يتسم بقدرٍ أكبر من الواقعية — لدورنا الحقيقي في عالم التعليم، يُمكننا أن نعيد التفكير في اعتقادنا بأن الأدوار الخاصة بالمعلم المُيسر تتضاءل أو تقل أهميتها بطريقةٍ ما أو بأخرى داخل العملية التعليمية، ولكن العكس صحيح؛ فأغلب النساء تُصيبهنَّ حالة من الذعر من فكرة الولادة دون توافُر أي نوع من المساعدة خلال عملية الولادة، ولا يُجازف أحدٌ بصعود قِمَم الجبال الغادرة، التي لم يَطأها أحد من قبل، إلا المغامرون، ولا يمكن لفرقةٍ موسيقية أن تعزف الموسيقى دون مايسترو، ولا تستطيع الفِرَق الرياضية أن تحرز البطولات دون وجود مدرِّب معها. وصحيح أن الأدوار الخاصة بالمعلم المُيسر لا تنطوي كثيرًا على متعة الأداء، إلا أنها تُوفِّر الفرصة للمعلمين أن يشاركوا بمزيدٍ من الحميمية في عملية تعلم الطلاب، ويعود الفضل إلى المعلمين فيما يتعلَّق بجعل عملية التَّعلُّم مُمكنة ومُيسَّرة؛ فالطلاب يتعلمون عن طريقنا لا رغمًا عنا.

وهناك سبب آخر أكثر خفاءً يمنع بعض أعضاء هيئات التدريس من التحوُّل إلى اتباع طرق التدريس المُيسِّرة، فالعلاقة التي تَربط بين المعلم والطالب قد تتشابَك مع مسائلَ خاصةٍ بالاعتماد المتبادَل والفوائد النفسية المتنوعة التي يجنيها كلا الطرفين من العلاقات التي تتسم بالاعتماد والاتكالية على الطرف الآخر؛ فبالنسبة إلى الطلاب، تَخلق هذه العلاقة شعورًا بالتحرُّر من المسئوليات؛ فالواجبات المنزلية تَصير أسهل حين يأخذ المعلم القرار بخصوص كافة تفاصيلها الدقيقة. وأما بالنسبة إلى أعضاء هيئات التدريس، فإنهم يتحكمون في عددٍ أكبر من المتغيرات غير المتوقَّعة في عملية التدريس، ويتمتعون بقدرٍ أكبر من السيطرة، ولا تتكشَّف مواطن ضَعفِهم، ذلك بالإضافة إلى شعورهم بالأهمية من جراء اتخاذ القرارات نيابةً عن الآخَرين. ولكن بالنسبة إلى كلا الطرفين، فإن العلاقات الاتكالية هي علاقات غير صحية من الأساس؛ إذ تحدُّ من إمكانية تحقيق النمو والتطوُّر على المستوى الشخصي لكلا الجانبَين.

(٣-٢) دور المعلم المُيسِّر أكثر صعوبةً من الأدوار الأخرى

يتضمَّن تيسير عملية التَّعلُّم مهاراتٍ نادرًا ما تتمُّ ممارستها، وربما يكون هذا الأمر مربكًا ومزعجًا، ونظرًا لأن المعلمين لا يُفكِّرون في شيءٍ سوى أدائهم أو هذا ما يشغل تفكيرهم أغلب الوقت، فإنهم لا يتحلَّون بالموضوعية الشديدة أو بالفطنة لمعرفة السبب وراء تسبُّب الدور الجديد في الشعور بالانزعاج. إنهم يُدركون أن الأمور لم تَسِر في الاتجاه الصحيح، أو لم تَبدُ على خير ما يُرام؛ ومن ثَمَّ لا يُمكنهم التدريس بهذه الطريقة، ويُفضِّلون أن يعودوا إلى ما عَهِدوه قبل أن يَنتهيَ بهم المطاف بجعل أنفسهم أضحوكةً أمام الطلاب، لا سمح الله. إنَّ فَهْم كيف يؤتي هذا الدور ثماره، وما الذي يجعل تيسير عملية التَّعلُّم طريقةً أصعب للتدريس؛ يُفسِّر إلى حدٍّ ما سبب عدم قيام المعلمين بهذا الدور، والسبب وراء أن الكثيرين يقولون إن تجاربهم الأولى كانت بعيدةً كل البُعد عن الإيجابية.

أولًا: هذه الطريقة للتدريس لا تَخضع لسيناريو مكتوب؛ فأنت لا تدخل قاعة الدراسة ومعك كل شيءٍ مخطَّط له مسبقًا. أجل، أنت تدخل القاعة بتحضيرٍ جيد لما ستُدرِّسه، ولكن إذا كان جزء من الخطة أن تطلب من الطلاب أن يَضربوا أمثلة، فأنت لا تعرف ما الذي سيَبتكرونه، وهناك احتمالات قائمة بأنهم سيأتون بمثالٍ لم تُفكر فيه من قبلُ أو أنهم سيُقدِّمون مثالًا رديئًا. وفي كلتا الحالتين، يتعيَّن عليك أن ترد، وستقوم بذلك دون أن تحظى بفرصةٍ للتحضير المسبق.

ما كان يُمثل تحديًا أكبر بالنسبة إليَّ هو المواجَهة المُستمرَّة للجانب الفوضوي للعملية التعليمية. ربما يتسبَّب المُحتوى الذي تتناوله المحاضرة في شعور الطلاب بقدرٍ كبير من الحيرة والارتباك، إلا أن الطلاب يُجيدون التظاهر بالانتباه، ويتجنبون طرح الأسئلة؛ ومن ثم نُفاجأ بوجود مشكلةٍ حين نُصحِّح اختباراتهم. وإذا كان الطلاب مشاركين في العمل الجماعي، ويُنفِّذون المهامَّ الموكلة إليهم على نحوٍ رديء؛ فإن ذلك التقييم سيكون صادمًا بالنسبة إليك. إدراك هذه الفوضى هو مجرد الخطوة الأولى، ويتعيَّن عليك أن تفعل شيئًا حيالها. هل ينبغي لك أن توليها الانتباه؟ هل تُصلح ما أفسدتْه هذه الفوضى؟ هل تجعلهم يُصلحون ما أفسدتْه هذه الفوضى؟ وكما سنُناقش في القسم التالي المعنون ﺑ «مشكلات التطبيق»، فالإجابة عن هذه الأسئلة ليست سهلة أو واضحة دائمًا.

وهذه التحديات تزداد سوءًا بمُقاومة الطلاب للتدريس الذي يُركِّز على تيسير التَّعلُّم؛ فهم لا يريدون التعامل مع معلِّمين يتوقَّعون منهم ابتكار الأمثلة أو حلَّ المسائل أو شرح بعضهم المفاهيم لبعض، فهذه هي مهمة المعلم، وهذا ما يُفترض من المعلم «الجيد» القيام به، وهذا ما أوضحه لي أكثر من طالبٍ حقيقةً. وهذه الطريقة للتدريس تعني المزيد من العمل بالنسبة إلى الطلاب؛ حيث إن نقل الأمثلة من على السبورة أسهل من ابتكارها، كما أن هذا التصرف آمِن أكثر لأنه ليس هناك مجال للخطأ، فأنتَ لديك الأمثلة التي ضربها المعلم، إذَن كيف يُمكن أن يكون مثال المعلم خاطئًا؟ الفصل الثامن مخصَّص لمناقشة موضوع مقاومة الطلاب، بما في ذلك أشكال تلك المقاومة، وكيف يمكن للمعلمين أن يستجيبوا لها على نحوٍ بَنَّاء، وكيف تتبدَّد هذه المقاومة عادةً حين يلتزم المعلمون بهذا الدور. ويجدر بنا ذكر مقاومة الطلاب هنا لأنها واحدة من الأشياء التي تجعل دور المعلم المُيسِّر أصعب من حيث التطبيق. فأنت تُجرِّب شيئًا جديدًا، مُستشعِرًا قدرًا معينًا من الرهبة، وفي الوقت نفسه الذي تحتاج فيه إلى الدعم، يتعيَّن عليك التعامل مع كافة أشكال المعارضة.

لا يُعَد التَّعلُّم المُتمركِز حول المتعلم طريقةً أسهل للتدريس؛ وبعض المعلمين يستشعرون ذلك؛ ومن ثَمَّ يتجنبونه، والبعض الآخر يعيشون التجربة ويُحجمون عن تكرارها. ومن الممتع أنه حين تَسأل أعضاء هيئات التدريس، فإن الكثيرين منهم يَذكرون سببًا آخَر لإحجامهم عن تجربة الأساليب المُتمركِزة حول المتعلم. أسمع هذا السبب طوال الوقت في ورش العمل خاصتي؛ إذ يقول المعلمون: «لا يستطيع طلابي التعامل مع مستوى المسئولية التي تقترحينها، ولا سبيل لي للاستعانة بهذا الأسلوب على الإطلاق؛ فهم ليسوا مستعدِّين لذلك.» بالتأكيد، ثَمَّةَ مشكلات مُتعلقة بتنمية المهارات، والفصل التاسع مخصَّص بأكمله لمُناقشة هذه المشكلات، ولكنَّني أظن أيضًا أن هذا الاعتراض أحيانًا ما يكون عُذرًا أكثر من كونه سببًا، أما بخصوص الأسباب الحقيقية، فإننا سنُناقشها في هذا القسم؛ وهي أسباب متعلقة بالمعلم أكثر من كونها مُتعلقة بالطلاب. وعلى أي حال، وكما أشرتُ في الفصل الأول، فإن فريري وهورتون نجَحا في الاستعانة بهذا الأسلوب في ظل أسوأ مستويات الإعداد الخاصة بالطلاب.

(٤) التدريس المُيسِّر: مبادئ إرشادية لإدخاله حيز التطبيق

يمكن الاسترشاد بمجموعةٍ من المبادئ التي تصف ما يفعله المعلمون الذين يتبعون طرق التدريس المُتمركِز حول المتعلم؛ وذلك لإدخال دور المعلم المُيسِّر في حيز التطبيق. وكما هي الحال مع أي دور، ليس هناك طريقة واحدة فقط صحيحة لتطبيق هذا الأمر. والمبادئ هي ما يجعل الدور واضحًا، إلا أن الأمثلة هي ما يجعل الدور متميزًا بمفرده. توجد طُرق مختلفة يستطيع بها المعلمون أن يُشركوا الطلاب ويدعموا بها الجهود التي يبذلها الطلاب للتعلم. ويُنفَّذ الدور على نحوٍ أكثر فعاليةً حين يجد المعلمون طرقًا ناجحةً بالنسبة إليهم تتناسَب مع المحتوى الذي يدرسونه، وتَفي بالاحتياجات التعليمية الخاصة بطلابهم.

(٤-١) المبدأ الأول: يسمح المعلمون للطلاب بأداء المزيد من المهام التعليمية

لقد استعرضتُ هذا المبدأ بالفعل؛ إذ يجب على المعلمين أن يتوقفوا عن القيام بالكثير من المهام التعليمية نيابةً عن الطلاب، فلا ينبغي للمعلمين دومًا أن يُنظِّموا المحتوى، ويُعطوا الأمثلة، ويطرحوا الأسئلة، ويحلُّوا المشكلات، ويُصمِّموا الرسومات البيانية. والكلمة المفتاحية هنا هي «دومًا». في بعض الأحيان (وفي بعض المحاضرات قد يكون الأمر في الكثير من الأحيان)، يتعين على المعلمين أن يقوموا بكل هذه المهام بالنيابة عن الطلاب. وهذا المبدأ يدور حول الإقلال تدريجيًّا من القيام بهذه المهام، حتى نصل إلى المرحلة التي يكون فيها القيام بهذه المهام استثناءً لا قاعدة.

على سبيل المثال، في نهاية النقاش بالمحاضرة، لا ينبغي أن يكون المعلم هو من يُلخِّص الموضوعات. لاحظتُ، ذات مرة، أن إحدى المعلمات تسمح للطلاب بأن يُلخِّصوا ما جاء في المحاضرة بواسطة استراتيجيةٍ متميزة وفعَّالة للغاية. كانت هذه محاضرةً عن الأدب الإنجليزي، وكان الطلاب يُناقشون جزءًا من إحدى الروايات. وفي تلك المحاضرة، كانوا يجلسون على شكل نصف دائرة، ويُساهمون بأفكارهم دون إقرار المعلمة بصحة هذه الأفكار أو عدم صحتها. وبينما كانوا يتحدَّثون، كانت المعلمة تُدوِّن سريعًا تعليقاتهم على السبورة، لم تُعقِّب على شيء، ولكنها كانت تُركز على تسجيل خلاصة إسهاماتهم، وبعد مرور عشر دقائق، قالت للطلاب: «إلى أين وصلنا؟ يجب أن نُفكر في هذه المناقشة ونرى إن كان بإمكاننا أن نصل إلى أي نتيجة. من فضلكم ألقوا نظرةً على هذه الملاحظات التي كتبتها على السبورة.» وبعد دقيقةٍ من الصمت، قالت: «هل من أحدٍ يرى أي رابطٍ بين هذه التعليقات؟» وبينما كان الطلاب يُخمِّنون الروابط، رسمَت المعلمة خطوطًا ودوائر وأضافت أرقامًا، وعدَّلت أشياء أحيانًا، ومسحت أشياء في أحيانٍ أخرى، وبالتدريج اتضحت بعض الاستنتاجات، وطلبَت من الطلاب أن يُدوِّنوها في دفاترهم بكلماتهم الخاصة، ثم طلبَت من ثلاثة طلاب أن يكتبوا تلخيصهم على السبورة، وواصل الطلاب مناقشة مميزات كل تلخيص، وفي النهاية ابتكروا تلخيصًا أدمج عددًا من الأفكار الفردية خاصتهم.

كان الجزء الذي راق لي بشدةٍ في هذا المثال التوضيحي هو إلى أي مدًى أبعدها الدور التسجيلي بفعاليةٍ عن بؤرة تركيز النقاش. كان الطلاب يُوجِّهون تعليقاتهم وردودهم بعضهم إلى بعض؛ ففي معظم محاضراتي، بصرف النظر عن الموضع الذي أقف فيه داخل قاعة الدراسة، لا يُوجِّه الطلاب حديثهم إلا إليَّ، وحينئذٍ أدركت أنني الشخص الوحيد الذي يردُّ على تعليقاتهم. في الواقع، حالما توقفتُ عن القيام بذلك على نحوٍ منتظم، بدءوا يتحدَّثون بعضهم إلى بعض.

يتجنَّب بلاك (١٩٩٣) القيام بمهام حلِّ جميع المسائل في محاضرات الكيمياء العضوية خاصته، وذلك باتباع الأسلوب التالي؛ كان يصل إلى قاعة المحاضرات في وقتٍ مبكر ويكتب المسائل في كل مكانٍ مُتاح على السبورة، وحالما يَصل الطلاب، يتم تقسيمهم عشوائيًّا ليعمل كل اثنين على حلِّ واحدةٍ من تلك المسائل الكيميائية. وحالما تبدأ المحاضرة، يقف من ثمانيةٍ إلى عشرة طلاب على السبورة للعمل على حل المسائل، ويُواصلون القيام بذلك لمدة خمس أو عشر دقائق من زمن المحاضرة. يسير بلاك في قاعة الدراسة ليتحدث إلى الطلاب الآخرين، ويتابع الطلاب الذين يقومون بحل المسائل. وإذا ما تعثَّروا في الحل، فربما يقدم لهم تلميحًا أو يطرح سؤالًا مهمًّا.

«حين تَنتهي المهمة، يُطلب من طلاب آخرين غير هؤلاء الذين قاموا بالحل على السبورة … أن يُحللوا أو يُعلقوا على المسألة وحلها … وأساعدهم عن طريق طرح الأسئلة لتوجيه تقييمهم للإجابة. هل الإجابة صحيحة؟ هل يمكن أن تكون أفضل من ذلك؟ إذا كانوا لا يعتقدون أن الإجابة صحيحة، إذَن، فما المشكلة وكيف يُمكن حلُّها؟ ما الفكرة الرئيسية؟ ما المبدأ الذي نتحدَّث عنه هنا؟ كيف ستحلونها؟» (بلاك، ١٩٩٣، ص١٤٣). لاحِظ إلى أي مدًى تُركِّز أسئلته على عملية الحل ذاتها، لا التوصُّل إلى الإجابة الصحيحة وحسب.

وحالما تبدأ في التفكير بالأمر تجد جميع أنواع المهام التعليمية التي يستطيع المعلمون أن يجعلوا الطلاب يقومون بها، مثل: تلخيص الموضوع في نهاية المحاضرة، والمراجعة على ما سبق في بداية المحاضرة التالية، وتوقُّع النتائج التجريبية، واقتراح النظريات الممكنة، وابتكار الفرضيات، وتقييم النتائج. هل سيؤدُّون هذه المهام مثلما يؤديها المعلم؟ أكاد أجزم بأنهم لن يفعلوا ذلك، ولكن مع الممارسة سيتحسن مستواهم. وهذه الطريقة للتدريس تُشجِّع التَّعلُّم عن طريق تنمية مهارات التَّعلُّم وتعزيز استيعاب المحتوى في الوقت نفسه، كما هو موضَّح بالتفصيل في الفصل الخامس.

(٤-٢) المبدأ الثاني: يُقلل المعلمون من الحديث ليزيد الطلاب من الاستكشاف

يميل المعلمون بشدةٍ إلى الإفراط في الحكي والحديث أمام الطلاب. لنفترض أن لدينا عرضًا توضيحيًّا داخل قاعة الدراسة مخطَّطًا له مسبقًا، فنُخبر الطلاب بما سنقوم به، ثم نقوم بالمهمة، ثم نخبر الطلاب بما حدث، ونخبر الطلاب بتوقيت مُذاكرتهم والطريقة التي ينبغي لهم اتباعها للمذاكرة، ونخبرهم بألا يَحشُروا المعلومات في رءوسهم أو يُماطلوا في المذاكرة. نخبر الطلاب بما يجب عليهم أن يقرءوه، أو المسائل التي يجب أن يحلوها كواجبٍ منزلي، ونخبرهم بألا يأتوا إلى المحاضرة دون تحضير أو في وقتٍ متأخر. ونخبرهم بعدد أوراق البحث الذي ينبغي أن يُقدِّموه، والخط الذي ينبغي أن يستخدموه، وكيف يقدِّمون واجباتهم الدراسية عبر شبكة الإنترنت؟ هل هذا القدر المفرط من التلقين يُشجِّع عملية التَّعلُّم؟ وكيف يؤثر ذلك على تنمية مهارات الطلاب باعتبارهم متعلمين؟

قد يتحوَّل هذا القدر المُفرط من الحديث والتلقين إلى حلقةٍ مُفرغة؛ فمعظمنا يقضي الكثير من الوقت في تحضير خطة مفصلة للمنهج تصف كل جانبٍ من جوانب المادة. ولكننا مُضطرون إلى «استعراض» هذه الخطة سريعًا داخل قاعة الدراسة؛ لأن الطلاب لن يقرءوها. وبالتأكيد، فإننا نُعبِّر عن آرائنا ونستفيض ونُجيب عن أي أسئلة، بَيْدَ أننا غالبًا ما نُردِّد النص المكتوب على مسامع الطلاب. وبعد أن نَنتهيَ من هذه المهمة، لا يكون الأمر مرتبطًا في الأساس بأن الطلاب لا يُريدون القراءة بقدر ما أنهم ليسوا مضطرين إليها. وفي بعض الأحيان أتساءل إن كان هذا النقاش المطول لما جاء في خطة المنهج الدراسي ليس جزءًا من السبب وراء مواصلة الطلاب طرح أسئلة أُجيبَ عنها في خطة المنهج بالفعل. وبالطبع، يُجيب معظمنا عن هذه الاستفسارات.

توجد بدائل متمركزة أكثر حول المتعلم؛ حيث اتسمت خطة منهج مادة التواصُل اللفظي التي أُدرِّسها كمادة أساسية للطلاب المستجدِّين بأنها خطة طويلة ومعقدة (انظر الملحق الأول). أُوزِّع هذه الخطة على الطلاب أثناء دخولهم قاعة الدراسة في اليوم الأول من الفصل الدراسي، ثم أمنحهم عشر دقائق ليقرءوا الخطة سريعًا، وبعد ذلك أُشجِّعهم على طرح الأسئلة. لم يكن هناك، دومًا، أسئلة تُطرح، بالرغم من أن هذا المقرر الدراسي تميَّز بالكثير من السمات غير المعتادة، مثل: اختيار الطلاب للواجبات الدراسية التي كانوا يَقومون بها، وإمكانية خوض اختبارات جماعية، والتقييم الذاتي لمشاركاتهم. إلا أن الطلاب كانوا فاتري الهمة؛ إذ أعرضوا عن المشاركة، وشعرت بأنهم لم يرغبوا في طرح الأسئلة على أمل الخروج من المحاضرة مبكرًا.

لم يكن لديَّ خطة بديلة في أول عامٍ جرَّبتُ فيه هذا الأسلوب في التدريس؛ ومن ثَمَّ في ظل غياب الأسئلة استسلمتُ واستعرضت خطة المنهج الدراسي سريعًا. احتقرتُ نفسي للغاية لأنني استقررتُ فورًا على أسلوبٍ مختلف عما كنتُ أخطط له. وفي الفصل الدراسي التالي، لم تُطرح أي أسئلة أيضًا؛ ولذا عقبت قائلةً: «حسنًا، إنَّ فهم خطة المنهج جزء مهم للغاية من أجل النجاح في هذه المادة، ونظرًا لأن جزءًا من مهمتي هو مساعدتكم على النجاح، إذَن فلنُجرِ اختبارًا قصيرًا لنرى إلى أيِّ مدًى تستوعبون خطة المنهج الدراسي.» كنت أستعين بهذا الأسلوب بانتظام، وكانت الاستجابة بعيدةً كلَّ البُعد عن الحماس. ولكنَّني كنتُ أحافظ على ابتسامتي. لم يكن لديهم علم بأنني لن أضَع تقديراتٍ لهذا الاختبار القصير على أي حال. وما إن انتهَوا من هذا الاختبار، حتى شجَّعتهم على مقارنة إجاباتهم مع إجابات مَن حولهم، وتغيير أي إجابات يُريدونها، ثم عرضتُ الاختبار القصير، وأجريتُ تصويتًا على الإجابات. وبالنسبة إلى البنود التي لم نصل فيها إلى إجماعٍ واضح، وجهتُ الطلاب لمراجعة خطة المنهج الدراسي، ثم بدأنا المحاضرة التالية بتلك الأسئلة والبنود.

يُسفر هذا الأسلوب الخاص ﺑ «عدم استعراض» خطة المنهج سريعًا عن نتيجتَين تَجعلانِني أظنُّ أنه أسلوب ناجح؛ حيث إنه يُشجِّع إجراء مناقشةٍ رائعة عن المحاضرة والنسق العام لها؛ فعند مرحلةٍ معينة، يبدأ الطلاب في طرح أسئلة، وأُشجِّع الطلاب الآخرين على إجابتها، وإذا لم يتوصلوا إلى إجابة، أوجههم نحو الفقرة ذات الصلة التي يتعين عليهم قراءتها. ثانيًا، يبدأ الطلاب المحاضرة بإلقاء نظرةٍ على خطة المنهج بحثًا عن معلوماتٍ ذات صلة بالمقرر. وأنا أؤيد هذا التصرف حين أعطي واجبات دراسية جديدة؛ إذ يُخرج الطلاب خطة المنهج ويقرءون الوصف الخاص بالواجب الدراسي، ثم يَطرحون الأسئلة بخصوص هذا الأمر، فإذا سألني أحد الطلاب سؤالًا وإجابته موجودة في خطة المنهج، أستعين بروح الدعابة، ذاكرةً سِنِّي المتقدمة، وتقاعُدي الوشيك، وأقول إنهم إذا أرادوا الإجابة الصحيحة، فعليهم أن يُلقوا نظرةً على خطة المنهج. ولكن معياري المفضل لقياس النجاح هو الطريقة التي تبدو عليها مَلزمة خطة المنهج في نهاية الفصل الدراسي؛ حيث بدت مَلزمة خطة المنهج أنها قُرئت، وليست مجرَّد صفحات نظيفة لم يَقربْها أحد بكتابة الملاحظات عليها كما اعتدتُ أن أراها.

ينبغي أن نسمع شعار «دعهم يَكتشفون» في الكثير من المواقف التعليمية، فإذا طرَح أحد الطلاب سؤالًا مُجابًا عنه ببراعة في الكتاب الدراسي، فعليك بإحالته إلى الكتاب الدراسي، ولعلك تتابع هذا السؤال في اليوم التالي لترى ما إذا كان ذلك الطالب قد بحث عن الإجابة أم لا. وإذا ما ظهر محتوًى تمَّت تغطيته فيما سبق في سياقٍ جديد، فاجعل الطلاب يبحثون عن المعلومات السابقة في دفتر الملاحظات خاصَّتهم. على الطلاب أيضًا أن «يستكشفوا» ويتحمَّلوا مسئولية القرارات التي يتخذونها، والتي تُؤثِّر على عملية تعلُّمهم. ويُناقش الفصل السادس هذا الموضوع بالتفصيل.

ومن أجل التخلُّص من عادة «الحكي والحديث»، يروق لي نهج شروك (١٩٩٢، ص٨) الموضَّح في الاقتباس التالي: «يقول الطلاب إن حُجرة مكتبي تُذكرهم بعِلِّية منزل الجدة؛ حيث تتشارك الكتب والأوراق في نفس المكان جنبًا إلى جنبٍ مع الملصقات السياسية، وإعلانات فترة الكساد الكبير، ودبابيس الدعاية الانتخابية وميداليات البيسبول القديمة … ولكن أهم لافتةٍ لا علاقة لها بالماضي، وإنما مُرتبطة بشدةٍ بالحاضر والمستقبل، كانت تشير إلى التحدِّي الدائم الذي يواجهه التدريس المُتمركِز حول الطالب؛ وهي موضوعة عن قصدٍ بجوار باب حجرة مكتبي من الداخل (أعلى مفتاح الإضاءة) بحيث تكون آخر شيءٍ أراه قبل أن أتوجَّه إلى قاعة الدراسة. مكتوب على هذه اللافتة، بخط يدي البسيط، بأسلوبٍ فيه إصرار وعزيمة واضحان: «لماذا نُخبرهم بهذا؟»»

(٤-٣) المبدأ الثالث: يؤدي المعلمون المهمة الخاصة بالتصميم التعليمي بمزيدٍ من الحرص

عندما يكون الطلاب مشغولين بالعمل أثناء المحاضرة ولا يكون المعلم منشغلًا مثلهم، فإن الكثيرين منا يشعرون بالذنب كما لو أننا لا نفي بالتزاماتنا المهنية. وأثناء تلك اللحظات، عادةً ما ننسى الوقت والجهد المتضمَّنَين في عملية تصميم وإعداد الأنشطة التي يشارك فيها الطلاب في الوقت الحالي، وتُعَد أوجُه التصميم التعليمي المتضمَّنة في دور المعلم جزءًا لا يتجزَّأ من الأساليب المُتمركِزة حول المتعلم. إنها القنوات التي يَحدث عن طريقها عملية التَّعلُّم. ويصف فينك (٢٠٠٣) العملية بأنها عملية «تخلق تجارب تعليمية عظيمة»، وهي تجارب تختلف كثيرًا عما قام به الطلاب خلال الفصل الدراسي الماضي، وما يقومون به في معظم المحاضرات الأخرى.

وتتمتَّع الخبرات التعليمية الجيدة التصميم بأربع سمات؛ أولًا: هذه الخبرات التعليمية (مثل الواجبات أو الأنشطة) تحثُّ الطلاب على الانخراط والمشاركة، فالهدف هو جذب الطلاب لكي ينخرطوا ويحفزوا حتى من قبل أن يُدركوا ذلك. ثانيًا: كما اقتُرح من قبل، إحدى أفضل الطرق لتحقيق الهدف الأول هي عن طريق الواجبات والأنشطة التي تجعل الطلاب يُنفِّذون مهامَّ أصيلةً مرتبطة بالتخصص الدراسي. ويشرح ويجينز وماكتايت (٢٠٠٥) في كتابهما: «يتعيَّن على الطالب أن يستكشف التخصص الدراسي ويعمل عليه، بدلًا من الحفظ أو الإعادة أو التكرار من خلال عرضٍ توضيحي لما دُرِّس له أو ما يعرفه بالفعل» (ص١٥٤). فالطلاب يقومون (بما يتناسب مع مستواهم بالطبع) بما يقوم به علماء الأحياء والمهندسون والفلاسفة وعلماء السياسة وعلماء الاجتماع. ثالثًا: الواجبات والأنشطة جيدة التصميم تأخُذ بِيَد الطلاب من مستوى معرفتهم ومهاراتهم الحالية إلى موضعٍ جديد للإتقان والكفاءة، ويفعلون ذلك من دون الإفراط في مستوى السهولة أو الصعوبة على حدٍّ سواء. وفي هذا المقام تَجدر الإشارة إلى الحاجة لترتيب مجموعة من الخبرات التعليمية في سلسلةٍ لكي تتراكم بعضها فوق البعض. ويذكر الفصل التاسع بعض الأمثلة على القيام بذلك. وأخيرًا: ثَمَّةَ تجارب تُطوِّر المعرفة التي يقدمها محتوى المادة الدراسية، وتُنمِّي المهارات التعليمية في آنٍ واحد. وهناك المزيد من المعلومات عن هذا الجانب مذكورٌ في الفصل الخامس.

هذه السمات تضع معايير مرتفعة، وليس من الواقعي أن تتحقَّق كل هذه المعايير في كل نشاطٍ وواجبٍ دراسي. ومع ذلك، ينبغي أن تكون هذه السمات نقاطًا مرجعية للأنشطة والواجبات الدراسية التي نستعين بها في الوقت الحالي وتلك الأنشطة والواجبات الدراسية الجديدة التي نُصمِّمها. ولا يُقلِّل المعلمون الذين يتبعون طرق التدريس المُتمركِز حول المتعلم من قيمة التحديات الفكرية التي تشتمل عليها التجارب المصمَّمة لتعزيز التَّعلُّم العميق وتنمية المهارات.

وهكذا، تستلزم هذه الأنواع من الخبرات التعليمية التعامل مع تصميم المهارات بلمسةٍ إبداعية وبراعة، وذلك مع الإقرار بأن التصميمات الجيدة ذات جانب تطوُّري. تخضع الخطط الأصلية للتغيير — وذلك بعد تجربتها — عن طريق الاستعانة بتقييمات الطلاب وحدْس المعلمين نحو ما حقَّق نجاحًا وما باء بالفشل. دعوني أوضِّح هذا عن طريق نشاطٍ طوَّرتُه على ست مراحل على الأقل قبل أن أصل به إلى المرحلة التي شعرت عندها بأنه يُحقِّق الأهداف التعليمية التي حددتُها له.

استعنتُ بدراسة حالة ابتكرها سيلفرمان وويلتي (١٩٩٢) لحثِّ النقاش داخل الجامعة، وتضمَّنتْ دراسة الحالة طالبًا يتَّهم المعلم بأنه أعطى له تقديرًا بِناءً على دوافع عنصرية، وفي الوقت نفسه حظي طالب مُتعسِّر في التعليم بأفضليةٍ في المعاملة. قرأ الطلاب الحالة قبل حضور المحاضرة واستعدوا ليتخذوا أحد جانبَي المناقشة؛ إما التأييد وإما المعارضة. ولقد صممتُ نسقًا للمناقشة باستخدام أسلوب فريدريك (١٩٨١) للنقاش الإجباري؛ فصنعتُ ممشًى وسط القاعة، ثم وجهت المقاعد ناحية هذه المساحة المفتوحة. وما إن وصل الطلاب، حتى جلسوا في الجهة التي تتناسب مع الجانب الذي قرروا أن يتخذوه؛ الجانب المؤيد أو الجانب المعارض. وبعد ذلك تحدث بعضهم مع بعضٍ عن الأسباب التي جعلتهم يتخذون هذا الجانب أو ذاك من المناقشة. وإذا غيَّروا رأيهم في أي وقتٍ خلال المناقشة، انتقلوا إلى الجانب الآخر من القاعة.

في هذا المقام قمتُ بدور مُسجِّل النقاش، مُقسِّمةً السبورة إلى نصفين، ومُنتبهةً للحجج الداعمة للجانب الذي رأَوه مُناسبًا لرأيهم. وعندما توقفتُ عن الاستماع إلى حججٍ جديدة، جعلت كل جانبٍ يجتمع لتحديد الحجة التي ظنوا أنها الأقوى، والطريقة التي سيردُّون بها على ما اعتقدوا أنها أفضل حجةٍ مؤيدة للجانب الآخر من النقاش. ثم تطوع شخصٌ من كل جانب من جانبَي النقاش ليُمثل المناقشة بين المعلم والطالب الذي يعترض على تقديره.

عادةً ما يبدأ النقاش بوتيرةٍ بطيئة، ولكن نظرًا لأن الطلاب كانوا مهتمين بتوزيع التقديرات بعدالةٍ تحمَّسوا، وسرعان ما انتقلت الأفكار ذهابًا وإيابًا بين الجانبين؛ ومن ثَمَّ ناقشوا وفنَّدوا الحُجج، وجمعوا الأدلة، ووضحوا النقاط، وعبَّروا عن آرائهم؛ حيث شارك عدد من الطلاب أكثر مما هو معتاد في النقاش الدائر داخل قاعة الدراسة. غيَّر بعض الطلاب رأيهم وانضمُّوا إلى الجانب الآخر من المناقشة، واقترب طلاب آخرون أكثر من الجانب الآخر للنقاش؛ مما يُشير إلى أنهم لم يَعودوا مقتنعين بذلك الرأي مثلما كانوا في بداية النقاش. ولقد سمعتُ أمثلةً رائعة استخدمتُها فيما بعدُ عند تدريس كيفية تقديم الحُجج وتمييز المغالطات وتقديم الأدلة والبراهين.

إنها استراتيجية رائعة، ويُمكن استخدامها مع عددٍ كبير من السياقات على اختلاف أنواعها، وإذا كانت قد أثارت اهتمامك، فأنا أُوصي بعملٍ قام به هايريد (١٩٩٤، ١٩٩٩، ٢٠٠٧) الذي يقترح عددًا من الاستراتيجيات ذات الصلة من أجل استخدام دراسات الحالة في محاضرات مادة العلوم. لقد ضمَّ النشاط الذي طوَّرتُه مصدرَين من المصادر المتاحة في تجربة مصمَّمة لتنمية مهارات النقاش لدى الطلاب. وأضفتُ عنصر لعب الأدوار في النهاية لأن النشاط بدا غير مكتمل، ويُتيح لعب الأدوار للطلاب أن يدركوا إلى أي مدًى «الاستعداد» للنقاش يُحسِّن من جودته. أخذتُ أُجرِّب طرقًا مختلفة لتهيئة قاعة الدراسة وجرَّبتُ عددًا من الأدوار لنفسي قبل أن أختار أن أكون مُسجِّل النقاش. وساعد التسجيل الكتابي الطلاب في استعراض النقاشات، وكل هذه السمات الخاصة بالتصميم تصنع فارقًا، لا تتَّصف أي سمةٍ من تلك السمات بأنها فريدة على نحوٍ خاص، وإنما تعمل عناصرها المتنوعة معًا لتعزيز نتائج التَّعلُّم المرجوَّة من النشاط.

(٤-٤) المبدأ الرابع: يقدم أعضاء هيئة التدريس نموذجًا للطريقة التي يتعلم بها الخبراء

يوضِّح المعلم المُيسِّر كيف يتعامل المتعلمون البارعون مع عملية التَّعلُّم. ويتم هذا على نحوٍ ناجح للغاية عن طريق ضرب مثل حي للتعلم داخل قاعة الدراسة، ولكن إذا كان المقرَّر الذي يدرسه الطلاب لا يتعدى كونه مقدمة أساسية وكان المعلم قد دَرَّسه عدة مراتٍ من قبل، فإن من المستبعَد أن يتعلم المعلم شيئًا جديدًا. إننا نعرف المحتوى جيدًا في مثل هذه المقررات، ولكن من آنٍ لآخر يطرح أحد الطلاب سؤالًا جديدًا أو يقدم مثالًا مختلفًا، وقد يُظهر ردُّ فعلنا كيف يتعامل المتعلم المُحنك مع الأفكار والمعلومات الجديدة.

وتُعَد المناقشات الواضحة لأساليب التَّعلُّم التي يستعين بها المعلم على نفس قدر فاعلية عملية «التَّعلُّم» ذاتها داخل قاعة الدراسة. فعندما تقوم بحل المشكلات يُمكنك أن توضح ما الذي يدور في بالك، يمكنك أن تخبر الطلاب كيف واجهتَ الصعوبات والمشكلات المحيِّرة، وتشرح ما الذي تقوم به حين تتعثَّر أو تصل إلى الإجابة الخاطئة. ومن المفيد أيضًا أن تتذكر شعورك حين واجهتَ هذه المادة العلمية لأول مرة؛ هل كانت محيرة؟ هل كانت باعثةً على الشعور بالإحباط؟ هل فهمتها على الفور؟ ما الأخطاء التي ارتكبتَها؟ ما الذي ساعدك في النهاية على حل المشكلة؟ فالطلاب يَحظَون بالتشجيع والمساعدة حين يُقدِّم المعلمون نموذجًا عن طريق سرد تجاربهم الأولى مع المادة العلمية.

يحتاج الطلاب أن يرَوا أمثلةً لتجارب التَّعلُّم التي تتسم بالصعوبة والفوضوية، حتى بالنسبة إلى المتعلمين المحنكين. ذات مرة حكت إحدى الزميلات كيف وَجد طلابها أن عملية المراجعة وإعادة الكتابة من جديد بمنزلة عمليةٍ مُهدِرة للوقت، وباعثة على الشعور بالإحباط. لقد أعدُّوا بحثًا، وظنوا أنهم انتهَوا منه، ولكنهم اضطُروا إلى القيام بكل هذه التغييرات، لا بد إذَن أنهم كُتاب سيِّئون، لكن تغيَّرت وجهة نظرهم بدرجةٍ كبيرة حين أطلعتْهم على التقييم الذي جاءها من أحد المحرِّرين بخصوص أحد أبحاثها، ومن المدهش أن المعلمة اضطُرت إلى مراجعة وإعادة كتابة بحثها بالكامل تقريبًا، ولم يكن هذا بسبب أنها كاتبة ذات مستوًى ضعيف.

ويُقدِّم المعلمون نموذجًا مؤثرًا للطلاب حين ينخرطون — هم أيضًا — في العملية التعليمية؛ غير أنني لا أقصد تعلُّم المزيد من المعرفة القائمة على التخصص الدراسي التي يعرفونها ويُحبُّونها بالفعل. فعندما يتعلم المعلمون مادة علمية جديدة في مجالات مختلفة وبعيدة عن منطقة الراحة خاصَّتهم، فإن الطلاب يتلقَّون المساعدة بطريقتَين؛ أولًا: التجربة التعليمية الجديدة تُعيد التواصُل بين المعلمين، الذين قد ينسَون بكل سهولةٍ ذلك الشعور الخاص بأن تكون في موضع الطالب، وما يرتبط به من مشاعر الارتباك والحيرة والإحباط وتحقيق الإنجاز. كنتُ قد أنهيتُ دورتَين دراسيتَين لمادة العلوم بعد أن نُشرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب، وأتذكر المرة الأولى التي رفعتُ فيها يدي في مادة علم الفلك، وطرحتُ ما بدا لي سؤالًا وجيهًا تمامًا بخصوص شيءٍ لم أفهمه. وجاء رد المعلم بأنه لم يفهم السؤال؛ ومِن ثَمَّ أعدتُ صياغة السؤال. رد على سؤالي، إلا أن ما قاله لم يكن منطقيًّا على الإطلاق بالنسبة إليَّ، وما أدهشني أنني ابتسمتُ وأومأتُ برأسي وشكرته، ومنذ ذلك اليوم، وأنا أحاول أن أتابع أيَّ طالب يَبتسم ويومئ برأسه ويشكرني ردًّا على إجابتي له.

يُقدِّم مقالان من المقالات التربوية المفضلة جدًّا بالنسبة إليَّ تجربتَين لأعضاء هيئات التدريس الذين قاموا بدراسة مواد مع الطلاب غير تلك التخصُّصات الدراسية التي يدرسونها؛ حيث درَس الأستاذ الإنجليزي ستارلينج (١٩٨٧) ثلاث مواد من سلسلة المواد الأساسية لإدارة الأعمال كجزءٍ من شبكة تعلُّم، والْتحقَ أستاذ اللغة الإنجليزية جريجوري (٢٠٠٦) بدورةٍ لدراسة فن التمثيل. يزخر كلا المقالين بالأفكار الملهمة المستفادة من التجربتين، وأنا أتفق مع ما جاء في المقالين تمامًا؛ حيث كانت تجربتي دراسةَ مادتَي علم الفلك والكيمياء مع الطلاب الجامعيين من أكثر التجارب إثارةً وإحراجًا على الإطلاق بالنسبة إلى حياتي المهنية مؤخرًا، لقد عادت هذه التجربة بي وبطريقة تدريسي إلى المبادئ والأساسيات.

الخلاصة هي أن الطلاب يستفيدون حين يعيش معلموهم تجربة التعليم (سواءٌ أكانوا يتعلمون مادةً يُدرِّسونها أم مادةً يتعلمونها لأول مرةٍ أو يتعلمونها اعتمادًا على أنفسهم)؛ وهذا لأن هؤلاء المعلمين عايشوا حديثًا تجربة أن يكونوا في موضع الطلاب. كما يستفيد الطلاب أيضًا لأنهم يدركون أن تعلُّم أي شيءٍ جديد يستلزم جهدًا، وليس بأمرٍ يسير، وعادةً ما يتضمَّن ارتكاب أخطاء. ولقد «نشر» زملائي في المعمل خبر جهلي بالكيمياء في الحلقة الدراسية المخصَّصة للفرقة الأولى التي كنتُ أدرسها أثناء دراستي لمادة الكيمياء؛ حيث إنه في نهاية كل تجربةٍ علمية نقوم بها في المعمل، كان هناك سؤال اختياري «للتفكير» فيه والحصول على درجات إضافية، وبما أننا زملاء بالمعمل فبإمكاننا أن نتعاون للإجابة عن السؤال. قدمتُ إجابة محتمَلة لزملائي، ووافقوا عليها دون أن يُشككوا في صحتها. فعلى أي حال، مجموعتهم تضمَّنت وجود معلمة وسطهم. بالطبع كانت الإجابة التي قدمتُها خاطئة، وقد أعلن أحد زملائي على الملأ في الحلقة الدراسية التي أقدمها قائلًا: «لقد وجدنا أن ماريلين لا تعرف كيف تجيب عن أسئلة التفكير الحر.»

(٤-٥) المبدأ الخامس: يُشجِّع المعلمون الطلاب على التَّعلُّم بعضهم من بعض، والتعاون بعضهم مع بعض

كثيرًا ما يستخفُّ أعضاء هيئات التدريس بقيمة العمل الجماعي، وحين أُوصي به تظهر دومًا حُجج متنوعة تشي بالأسباب التي تحمل المعلمين على تجنُّب العمل الجماعي. للمعلمين مطلق الحرية في التمسُّك بآرائهم؛ إلا أن تلك الآراء تتعارض مع عدد كبير من الأدلة التجريبية. والكثير من الأبحاث (التي ألقى الفصل الثاني الضوء على عددٍ قليل فقط منها) أثبت أن أشكال العمل الجماعي على اختلافها وتنوُّعها تُمكِّن الطلاب من التَّعلُّم بعضهم من بعض، والتعاون بعضهم مع بعض. صحيح تمامًا أن تجارب التَّعلُّم الجماعي تتطلب من المعلمين وضع الخطط وبذل الجهد. وأُكرِّر مرةً أخرى أن أحد مفاتيح نجاح المهام الجماعية يكمن في تصميم تلك المهام وكذلك إبداء الرغبة في مساعدة الطلاب على تعلُّم المشاركة بفاعليةٍ في العمل الجماعي. ولا يوجد أحد منا مولود ويعرف بالفطرة كيفية المشاركة في العمل الجماعي؛ وإنما هي مهارة أخرى لا بد من تعلُّمها واكتسابها.

يُعارض طلاب كثيرون فكرة العمل الجماعي، وعادةً ما يكون أفضل الطلاب هم أصحاب أوضَح الاعتراضات؛ إذ يكون لديهم قائمة طويلة من الحكايات التي تَسرد التجارب السيئة مع العمل الجماعي؛ أغلبها يتضمَّن عدم قيام أعضاء آخرين بنصيبهم من العمل، وعدم الوفاء بالمواعيد النهائية لتسليم العمل؛ ومن ثَمَّ التسبُّب في إحباط المجموعة. والكثير من هذه التجارب هو نتيجة للعمل الجماعي السيئ التصميم، ونتيجة لأن المعلمين لا يؤهلون الطلاب للتعامل مع مشكلات التفاعل داخل المجموعات. وهكذا، ينتهي المطاف بالطلاب بالاعتقاد بأن في إمكانهم القيام بعملٍ أفضل اعتمادًا على أنفسهم، ولا يقتنعون بتجربة العمل الجماعي إلا عن طريق عيش تجربةٍ تُوضِّح — توضيحًا جليًّا — كيف يمكن للمجموعات أن تقوم بعملٍ أكبر وأفضل من الأفراد.

أحاول أن أوضِّح قيمة التعاون في نطاقٍ يأخذه الطلاب على محمل الجد، ألا وهو الاختبارات؛ ففي مادتي، يستطيع الطلاب أن يختاروا الانضمام إلى مجموعةٍ دراسية تشارك في تجربة الاختبار الجماعي، كل مجموعةٍ دراسية تُجهِّز بعض المراجعات لباقي الفرقة، وبالإضافة إلى ذلك يرجع إلى المجموعة قرار قضاء الوقت في المذاكرة معًا أم لا. فبعض الطلاب يَقضون الوقت في المذاكرة معًا، والبعض الآخر لا يفعلون ذلك. وهؤلاء الذين يَقضون المزيد من الوقت في العمل معًا يكون مستوى أدائهم أفضل عادةً، كما أثبتَت الأبحاث التي أُجريت على التَّعلُّم التعاوني (على سبيل المثال، انظر هسيونج، ٢٠١٢). ونظرًا لأن الاختبارات الجماعية تُعَد تجربةً جديدة بالنسبة إلى معظم الطلاب، فإنني أميل إلى تقليل مستوى المجازفة فيما يتعلق بالتقديرات. فالمجموعات ذات الأداء الجيد تُكافأ؛ أما المجموعات ذات الأداء الضعيف فلا تُعاقَب. كنتُ أحسب نسبةً إضافية للتقديرات على الأساس التالي: يخضع جميع الطلاب لاختبارٍ يتكون من أربعين سؤالًا للاختيار من متعدد أثناء النصف الأول من وقت الاختبار، وبعد ذلك يُقدِّمون إجاباتهم كلٌّ على حِدَة، ثم تجتمع المجموعة وتحلُّ الاختبار نفسه معًا، وأقوم بتصحيح الاختبارات الفردية أولًا، وأحسب متوسط درجات أفراد المجموعة، ثم أقوم بتصحيح الاختبار الجماعي. إذا كانت درجة المجموعة أعلى من متوسط درجات الأفراد، يُضاف هذا الفارق (عادةً ما يتراوح الفارق بين أربع نقاط واثنتي عشرة نقطة من إجمالي ثمانين نقطة لهذا الاختبار) إلى درجة كل فرد.

استعان آخرون بالاختبارات الجماعية وغيرها من الأساليب المتنوعة لوضع الدرجات؛ فيستعين بنفينوتو (٢٠٠١) بأسلوبٍ كهذا في مادة الكيمياء، ولكن مع الاختبارات القصيرة الأسبوعية. وفي مادة الهندسة، ربط مورتوز (١٩٩٧) الدرجات الإضافية التي يحصل عليها الطلاب بمستوى الاستقلالية بين أعضاء المجموعة، ولا تُمنح الدرجات الإضافية إلا إذا كان جميع الطلاب في المجموعة قد حقَّقوا مستوًى معينًا من الدرجات في الاختبار.

تروق لي مُشاهدة الطلاب وهم يؤدُّون الاختبارات الجماعية؛ إذا يلتفُّون حول الاختبار ويَجلسون القرفصاء، تبدأ مُناقشتهم بحماسةٍ هادئة؛ إلا أن الخلافات سرعان ما تظهر ويبدأ الجدال. يكاد يكون من رابع المستحيلات أن يختلف طلابي المستجدُّون بعضهم مع بعض؛ حيث إنه لا يروق لهم حدوث خلاف مع أقرانهم؛ ومن ثم يبذلون قصارى جهدهم لتجنب حدوث هذا داخل قاعة الدراسة. ولكن في هذه الحالة، يحدث الخلاف دون حتى أن يلاحظوه. وأفضل شيءٍ يحدث على الإطلاق هو أن الطلاب يناقِشون محتوى المادة بحماسة، وهذا في حد ذاته إنجاز يكاد يكون من المستحيل في المعتاد تحقيقه.

يُحلِّل الطلاب تجربة الاختبارات الجماعية بعد أن يتسلموا تصحيح الاختبارات خاصتهم؛ ومن ثم يرى الطلاب الذين يحصلون على نقاطٍ إضافية دليلًا قاطعًا على أن الانضمام إلى مجموعةٍ قد ساعدهم. ويستطيع معظم الطلاب أن يشرحوا السبب الذي يجعل أداء المجموعة أفضل أو أسوأ من أدائهم الفردي. إن المشاركة في الاختبارات الجماعية بمنزلة اختيار (سأشرح اختيار الواجبات الدراسية في الفصل الرابع)، وعادةً ما يختار الطلاب، الذين يتمتعون بدرجةٍ كبيرة جدًّا من الذكاء والتألق، عدمَ المشاركة في الاختبارات الجماعية، وعندما أسألهم عن السبب يسارعون بالتفسير قائلين شيئًا على غرار: «إنني أتعلم على نحوٍ أفضل حين أكون بمفردي دكتورة وايمر.» ويقول آخر: «ليس لديَّ وقت للتعاون مع المجموعة.» أحترم اختيارهم، ولكنني أبذل قصارى جهدي لأواجههم بالأدلة التي تَثنيهم عن المشاركة بعض الشيء. على سبيل المثال، أثناء محاضرة تصحيح إجابات الاختبار، أذكُر أعلى خمس نتائج لدرجات الاختبار، ثم أضع علامة بجوار الدرجات الجماعية وبجوار الدرجات الفردية. وأعلى ثلاث أو أربع نتائج من هذه النتائج الخمس تكون نتائجَ جماعية. وليس من المستبعَد أن أُرسل إلى هؤلاء الطلاب المستقلين الذين يتمتعون بدرجةٍ كبيرة من الذكاء رسالة بريد إلكتروني مقترِحةً عليهم إبداء التعليقات على هذه الدرجات عندما يكتبون المُدخَل الخاص بالاختبار في سِجل سير التَّعلُّم خاصتهم.

تستوجب المعتقدات السلبية بخصوص العمل الجماعي إعادةَ التفكير من جانب كلٍّ من الطلاب وأعضاء هيئات التدريس على حدٍّ سواء، وتزخر الأدبيات التربوية بوصفٍ للمهام الجماعية الجديرة بالاهتمام، والتي استعان بها أعضاء هيئات التدريس ونفَّذوها بنجاح. وقد أشرتُ إلى عددٍ منها في الفصل الثاني، وسأصِف عددًا آخر منها في الفصول التالية. الخلاصة أن بإمكان الطلاب أن يتعلم بعضهم من بعض، وأن يتعاون بعضهم مع بعض، بل إنهم يقومون بذلك بالفعل.

(٤-٦) المبدأ السادس: يعمل أعضاء هيئة التدريس والطلاب على خلق أجواءٍ مواتية للتعلُّم

سيُناقَش هذا المبدأ في الفصل السادس مناقشةً مستفيضة؛ ومِن ثَمَّ لسنا بحاجةٍ في هذا المقام إلى شيءٍ سوى التقديم لهذا المبدأ؛ فالتدريس المُتمركِز حول المتعلم لا يرتبط كثيرًا بالتهذيب والانضباط (أو «إدارة قاعة الدراسة»، كما يُطلَق عليه من باب التخفيف اللفظي)، بل إنه مرتبط أكثر بخلق الأجواء التي تُشجِّع عملية التَّعلُّم. يلعب المعلمون دورًا قياديًّا لخلق تلك الأجواء، ويتحمَّلون جزءًا من المسئولية تجاه الحفاظ عليها. غير أن أجواء قاعة الدراسة بمنزلة شيءٍ يُشارك في خلقه وتهيئته كلٌّ من المعلم والطلاب على حدٍّ سواء. الهدف هو دفع الطلاب نحو تحمُّل جزءٍ من المسئولية تجاه ما يحدث داخل قاعة الدراسة.

(٤-٧) المبدأ السابع: يستعين أعضاء هيئة التدريس بالتقييم من أجل تعزيز التَّعلُّم

هذا المبدأ هو موضوع أحد الفصول التالية أيضًا (ألا وهو الفصل السابع)، ومع ذلك، أودُّ في البداية أن أُوضِّح أن هذا المبدأ لا يعني أن أعضاء هيئة التدريس يؤدُّون مهام إعطاء الدرجات على نحوٍ أقل؛ فهذه المسئولية تبقى على عاتق أعضاء هيئة التدريس كما هي الحال دائمًا. الفارق هو أن المعلمين يرَون أن التَّعلُّم بمنزلة احتمالٍ قائم في كل مرةٍ يقيمون فيها الطلاب. بإمكان المعلمين تقديم التغذية الراجعة وتصميم أنشطة المتابعة التي تزيد من احتمالية تعلُّم الطلاب من التجربة وقدرتهم على تحسين مستواهم كنتيجةٍ لذلك، ويتضمَّن جزء من هذا الاعتراف أن الطلاب بحاجةٍ إلى أن يتعلموا تقييم عملهم وكذلك عمل أقرانهم. هذا لا يعني أنهم يضعون لأنفسهم أو لأقرانهم درجات، وإنما يعني أن بإمكانهم المشاركة في أنشطةٍ تُتيح لهم إلقاء نظرةٍ نقدية على عملهم أو عمل أقرانهم.

•••

توضِّح هذه المبادئ السبعة الشكل الذي يَبدو عليه التدريس المُتمركِز حول المتعلم عند وضعه في حيز التطبيق، كما أنها تصف الجوانب المختلفة لدور المعلم المُيسِّر وصفًا مستفيضًا؛ باعتباره مرجعًا ومرشدًا ومتعلمًا متمرسًا ومصمِّمًا للأنشطة التعليمية. وهو دور مختلف، إلا أنه لا يُعَد شكلًا من أشكال التدريس التي تتسم بكونها أقل أهميةً أو ضرورةً أو شكلًا مُنتقصًا من أشكال التدريس بأي صورةٍ كانت، بل إنه دور يربط بين التدريس والتَّعلُّم ربطًا مباشرًا وفعالًا.

(٥) مشكلات التطبيق المثيرة للاهتمام

ظهر عدد من مشكلات التطبيق المثيرة للاهتمام أثناء محاولاتي الأولى للتدريس بطرق مُيسِّرة أكثر؛ ففي إحدى المحاضرات، استعنتُ بنشاطٍ جماعي مباشر إلى حدٍّ ما، وبدت النتائج المترتبة عليه بسيطة ومباشرة بنفس الدرجة، إلا أنني وجدت صعوبةً في الإجابة عن الأسئلة المثارة. وفي وقتٍ لاحق أدركتُ أن هذه الأسئلة لها دورٌ محوري في التطبيق الناجح للأدوار التي يُركِّز عن طريقها المعلم على الطلاب وما يفعلونه. ولكن دعوني أبدأ بما حدث.

كنتُ أستعينُ بنشاطٍ مقسَّم على فترتين يُجريه الطلاب في مجموعات صغيرة داخل قاعة الدراسة. أنجز الطلاب النصف الأول من النشاط؛ ومن ثم كان عليهم أن ينتقلوا إلى المرحلة التالية. ومن أجل تقديم الإرشاد اللازم خلال تلك العملية، تجاوبتُ مع العمل الذي أنجزتْه كل مجموعةٍ عن طريق توزيع ملاحظاتٍ قصيرة مكوَّنة من عدة فقرات. أعطيتُ هذه الملاحظات القصيرة لشخصٍ من كلِّ مجموعةٍ أثناء متابعتي سريعًا للمهمة التي يؤدونها، ومنحتُهم عشرين دقيقة لقراءة الملاحظات القصيرة ومناقشة المسائل التي أثارتها هذه الملاحظات، ثم مراجعة ما قدَّموه فيما سبق. ومضَتْ جميع المجموعات بالعمل قُدُمًا بالطريقة (المنطقية) نفسها؛ يقرأ أحد أعضاء المجموعة الملاحظات القصيرة لباقي المجموعة.

على يساري مباشرةً كانت تجلس مجموعة مكونة (بالصدفة) من أفراد خجولين للغاية، وشرعَت الطالبة التي أعطيتها الملاحظات القصيرة في قراءتها لنفسها، بينما انتظر باقي أفراد المجموعة في صبر، وعندما انتهت من قراءتها، دون إبداء أي تعليقات، مرَّرتِ الملاحظات إلى الشخص الجالس بجوارها الذي شرع في القراءة أيضًا في صمت.

في البداية اندهشت، ما الذي كانوا يفكرون فيه؟ حسنًا، من الواضح أنهم لم يفكروا في شيء. لماذا لم يُلقوا نظرةً من حولهم على المجموعات الأخرى؟ عادةً ما يَعتمد الطلاب على تقليد ما يقوم به زملاؤهم الآخرون، لماذا لم يتفوَّه أحد من هذه المجموعة بأي شيء؟ هل من المحتمل أن جميعهم يتَّسمون بهذا القدر من التحفُّظ والكتمان؟ تحوَّلتُ من الدهشة إلى الحيرة، ما الذي يتعين عليَّ القيام به؟ هل عليَّ أن أتدخل؟ بدا لي هذا الأمر وكأنني أرجع خطوةً إلى الوراء؛ فالمعلم يتدخَّل فجأةً ويُصلح المشكلة في كل مرةٍ يتخذ الطلاب قرارًا سيئًا؛ ومن ثَمَّ تتأثَّر جودة العملية التعليمية الخاصة بهم، واحتمالية تعلُّمهم سلبيًّا بهذا الأسلوب السخيف.

دار هذا الحديث في رأسي، وتوالت الأسئلة: ما الذي عليَّ القيام به إذا تدخلت؟ ما الذي بإمكاني أن أقوله دون أن أوصِّل لهم رسالةً مفاداها أنني أظن أن أسلوب تعامُلهم مع المهمة يتسم بالغباء؟ ربما كان عليهم أن يُدركوا اعتقادي بأنهم اتخذوا قرارًا سيئًا، وعلى أحدهم أن يدرك ذلك الأمر. والسؤال الأهم: ما الذي بإمكاني أن أقوله دون أن أقول لهم إنهم يُواجهون مشكلة؟ كنت خائفة من أن أسألهم: «كيف حالكم؟» لتكون إجابتهم إيماءةً بالرأس والرد بقولهم: «بخير!» ربما كان بإمكاني أن أسألهم: «هل تفهمون المهمة؟» ليُجيبوا قائلين: «أجل!» ثم أسألهم ثانيةً: «حسنًا، كم تبقَّى من الوقت لديكم، ألا يزال أمامكم الكثير لتُنجِزوا هذه المهمة؟» إلا أن هذا بدا أقرب إلى التدريس المُعتمِد على التلقين، وإخبار المتعلمين بما يتعين عليهم فعله.

انتهى بي المطاف إلى عدم القيام بأي شيء، وانتهى بهم المطاف إلى عملٍ ذي مُستوًى ضعيف. لا أدري إن كانوا قد ربطوا بين طريقة أدائهم للمهمة وحصولهم على تقديرٍ مُنخفِض أم لا. لستُ مُتفائلة، وأتوقع أن معظمهم قد اعتبر هذه تجربة أخرى أكدت ما كانوا يتشككون فيه بالفعل حيال جدوى مُحاولة الانخراط في العمل الجماعي. إلا أن ردَّ فعلي الأخرق حيال هذه المجموعة واستنتاجَهم بخصوص تجربة العمل الجماعي ككُل ليسا هما المشكلتين البارزتين في هذا المقام؛ فما حدث داخل تلك المجموعة أثار ثلاثة أسئلة مهمة بخصوص تنفيذ دور المعلم المُيسر.

(٥-١) هل عليك أن تتدخَّل؟ وإذا فعلت ذلك، فمتى؟

هذان السؤالان مُتداخِلان للغاية، لدرجة أنه يُمكن التفكير فيهما معًا. إذا كان هذا الأسلوب في التدريس معنيٌّ بمنح الطلاب حرية الاستكشاف وتحمُّل عواقب قراراتهم، فهل ينبغي للمعلمين أن يتدخَّلوا؟ بإمكانك أن تُجادل بأنهم لا ينبغي أن يفعلوا. فكل شكلٍ من أشكال التدخُّل يؤثِّر بالسلب على إمكانية تعلم الطلاب من أخطائهم، وبإمكاننا جميعًا أن نُعدِّد الدروس المستفادة من أخطائنا.

بالنسبة إلى الطلاب المستجدين (وهم أكثر شريحة أعرفها من الطلاب)، أعتقد أن الرد لا يقتصر على نعم أو لا. بالتأكيد يمكنني، بل وينبغي لي، أن أتدخل بدرجةٍ أقلَّ مما كنت أفعل حين أتبع أسلوب التدريس المعتمِد على التلقين باعتباره أسلوبي المعتاد للعمل. ولكن بالنسبة إلى الطلاب المستجدين (أو ربما بالنسبة إلى جميع الطلاب) توجد مناسبات تُبرِّر التدخُّل. البراعة هي أن تُحدِّد المناسبة والتوقيت المناسب الذي ينبغي لك أن تتدخَّل فيه؛ ففي بعض الحالات، تَبرُز الحاجة إلى التدخل على نحوٍ أوضح من حالاتٍ أخرى؛ حيث إننا نتدخَّل حين يكون القرار مؤذيًا للطلاب، مثل أن يرغب الطلاب في التسجيل بنظام الساعات المعتمَدة لمدة ١٨ ساعة، والعمل لمدة ٣٥ ساعة في الأسبوع. إننا نتدخل حين يؤثِّر قرار بعض الطلاب بالسلب على إمكانية تعلُّم طلاب آخرين؛ مثل الطلاب الذين يجلسون في الصف الأخير ليُثرثروا ويُشوِّشوا على الطلاب الآخرين في قاعة الدراسة. إننا نتدخل حين تُسفر جهود الطلاب لفهم شيءٍ ما عن الشعور بإحباطٍ وارتباكٍ شديد لدرجة تُؤثِّر بالسلب على النتائج التعليمية المرجوَّة من التجربة؛ فالشعور بالغضب يَحُول دون التَّعلُّم. ولكن في مواقف أخرى لا تتضح الحاجة إلى معلم، ويزداد غموض عواقب التدخل، هل من المفيد أن نُقدِّم مجموعةً من الخطوط الإرشادية؟ ربما يفيد ذلك، بل وربما من الأفضل التفكير أكثر في الأمثلة، كذلك المثال الذي أوضحتُه هنا، ومناقشة تلك الأمثلة على نحوٍ أوسع؛ حيث يوضِّح هذا المثال كيف يجب على المعلمين أن يتَّخذوا قراراتٍ صعبةً بخصوص مواقف فردية مُعتمِدة على سياقٍ معين ومُبهمة كثيرًا، ولكنها تَحدُث على أي حال.

(٥-٢) ما أفضل وسيلة للتدخل؟

إذا كانت المسئوليات الأخلاقية والتأثير السلبي على النتائج المرجوَّة من تجربة التَّعلُّم تستلزم التدخل، فما الشكل الذي ينبغي أن يكون عليه هذا التدخل؟ لقد أفردتُ الكثير من الوصف للجزئية الخاصة بتلقين الطلاب وإخبارهم بما يتعين عليهم القيام به، ربما كان هذا الشكل من التدريس مُناسبًا في بعض الأحيان، ولكن حين نفعل ذلك طوال الوقت، سينتُج عنه اعتماد الطلاب على المعلم ليُخبرهم بما يتعين عليهم وما لا يتعين عليهم القيام به. يجب على المتعلمين الراشدين أن يكونوا قادرين على أن يُحدِّدوا هذا الأمر بأنفسهم، ومن الأفضل أن تطرح على الطلاب الأسئلة التي تقودهم إلى المعرفة والفهم اللازمَين.

يوجد سؤال إضافي بخصوص التوقيت المناسب مرتبط بالسؤال عن الوسيلة؛ هل ينبغي أن تتدخل أثناء ارتكاب الطلاب للأخطاء أم ينبغي لك أن تنتظر حتى ينتهوا من ارتكابها؟ والإجابة عن هذا السؤال تكون «على حسب الموقف»، ولكن بإمكانك أن تُبرِّر الانتظار حتى الانتهاء من ارتكاب الخطأ إذا كان الطلاب يُحاولون تحديد الخطأ الذي حدث، وهذه هي النتيجة المرجوة من التَّعلُّم من الأخطاء، ويجب أن أعترف بأنه ليس لديَّ الكثير من الإجابات الجيدة عن هذا السؤال، حتى في الطبعة الثانية من هذا الكتاب، وكما هي الحال بالنسبة إلى السؤالين السابقين، فهذا السؤال يستحقُّ تحليلًا متأنيًا لما يحدث قبل المحاضرة وبعدها.

•••

وكما يُوضِّح الكثيرُ من الموضوعات التي تناولها هذا الفصل، ليس من السهل تنفيذ الدور الخاص بالمعلم الذي يتبع التدريس المُتمركِز حول المتعلم؛ فهذا الدور يتطلب أن ينتقل المعلم من أسلوب التدريس الذي يركز على ما يقوم به المعلم إلى أسلوب التدريس الذي يستجيب لما يقوم به الطلاب. الهدف هو إشراك الطلاب في عملية التَّعلُّم ودعمهم خلال تلك العملية. وقد اقتُرحت مجموعة من المبادئ باعتبارها طريقة توضِّح، على نحوٍ ملموس أكثر، ما يؤديه المعلم المُيسر لعملية التَّعلُّم، وتوضح أيضًا الأمثلة هذا الدور وهو في حيز التنفيذ، وهذه الأمثلة تقدم عددًا قليلًا من التطبيقات الممكنة الكثيرة.

يتجنَّب بعض المعلمين هذا الدور لأنه يبدو وكأنه ينتقص من أهمية المعلم، ولكن كما حاولتُ أن أوضِّح في هذا الفصل، فهو دور أساسي ومهم؛ فباستطاعة الطلاب أن يتعلموا اعتمادًا على أنفسهم، إلا أن المعلمين أصبحوا عنصرًا ضروريًّا بالنسبة إلى الأغلبية العظمى من الطلاب الجامعيين في الوقت الراهن. إننا لم نتناول كل شيءٍ بعد، إلا أننا تناولنا ما يكفي لنفهم أن التدريس المُتمركِز حول المتعلم يُقدِّم تحدياتٍ مُثيرة للاهتمام ومكافآت مجزية أيضًا. كما أننا أدركنا أنه دور يُشجِّع التَّعلُّم ويدعمه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤