الفصل الرابع

توازن السلطة

على الرغم من أن أغلب أعضاء هيئات التدريس مُتقبِّلون إلى حدٍّ ما لفكرة تغيير الأدوار التي قد تُيسِّر عملية التَّعلُّم على نحوٍ أكثر فاعلية، فإن فكرة الحاجة إلى تغيير موازين السلطة داخل قاعة الدراسة هي فكرة جديدة ومُقلقة. ومن واقع تجربتي في الكتابة والحديث عن هذا الموضوع أدركتُ أن أفضل طريقة لمنع الرفض التام هي التمهيد للفكرة عن طريق طرح بضعة أسئلة.

كيف ستَصِف طلابك؟ هل تَصِفهم بأنهم متعلمون لديهم من التحفيز الذاتي والقدرة على ممارسة السلطة ما يجعلهم يتعاملون مع المهام التعليمية بثقةٍ وبراعة؟ ربما يتَّصف عدد قليل منهم بهذه الصفات، ولكن الكثير من الطلاب الجامعيين اليوم يتصفون بالقلق والتردُّد؛ حيث إنهم يَشرعون في دراسة المواد على أمل أنها ستكون سهلة، شاعرين بالقلق حيال ما سيفعلونه إذا ما واجهوا صعوبة في دراسة تلك المواد. وبإمكان معظم الطلاب أن يُعِدوا قائمةً بالأشياء التي لا يجيدونها أو لا يستطيعون القيام بها؛ فيبحثون عن مواد تخصصية تستلزم دراسةَ قدرٍ قليل من الرياضيات والعلوم، ويبذلون قصارى جهدهم لتجنُّب المواد التي تستلزم الكثير من الكتابة. يُفضِّل أغلب الطلاب عدم الحديث داخل قاعة الدراسة، وتتمثَّل فكرتهم عن المحاضرة الجيدة في تلك المحاضرة التي يدخلها المعلم ليُخبرهم بما يتعين عليهم القيام به بالضبط. ثَمَّةَ تعميمات، إلا أن التعليم بالنسبة إلى الكثير من الطلاب هو شيء يَحدث لهم، ويتسم بأنه تجربة مُمِلة وغير ممتعة في أغلب الوقت.

وعندما أشتكي أنا وزملائي من افتقار الطلاب إلى الثقة وتبنِّيهم لتوجُّهاتٍ شديدة السلبية تدفعهم إلى التسليم بأي شيءٍ يقوله أستاذ المادة، فإننا نتساءل عما يمكننا القيام به للتغلب على هذا الإذعان الذي يؤثر كثيرًا بالسلب على الجهود التي يبذلها الطلاب للتعلم. هذا سؤال وجيه، ولكنني لا أظن أنه السؤال المناسب. يجب علينا أن نطرح سؤالًا أصعب: لماذا يتصرَّف الطلاب بهذا الأسلوب؟ لماذا يوجد الكثير من الطلاب المتوتِّرين والمتردِّدين غير الواثقين في أنفسهم كمُتعلمين؟ والسؤال الأكثر وضوحًا هو: هل هناك شيء يعيب الطريقة التي نُدرِّس بها للطلاب ليجعلهم متعلمين اتكاليِّين ويعوق تنمية مهاراتهم، مما يجعلهم لا يستطيعون التَّعلُّم إلا إذا أخبرهم المعلمون بما يتعلمون وكيف يتعلمونه؟ تقودنا هذه الأسئلة مباشرةً إلى مشكلاتٍ تتعلَّق بتوازن السلطة داخل قاعات الدراسة.

(١) ما الذي يحتاج إلى التغيير ولكنه لم يتغير بعد؟ الإجابة هي: إمساك المعلمين بزمام الأمور

تُعتبر سلطتنا كمعلمين من الأمور المسلَّم بها، لدرجة أن معظمنا لم يَعُد يَستوعب إلى أي مدًى يُوجِّه المعلمون العملية التعليمية الخاصة بالطلاب، لكن من شأن الإجابة عن مجموعةٍ بسيطة من الأسئلة أن توضِّح الأمور كثيرًا. من الذي يقرر ما سيتعلمه الطلاب في هذه المادة الدراسية؟ بمعنى: من الذي يتخذ القرار الخاص بالمحتوى الذي ستتضمَّنه المادة؟ من الذي يتحكم في الوتيرة التي تسير بها عملية تغطية هذا المحتوى؟ أقصد من الذي يُحدِّد الأنشطة والواجبات التي سيؤدِّيها الطلاب؟ من الذي يُهيئ الظروف المناسبة للتعلم؟ أي بصياغةٍ أدق: من الذي يُحدِّد السياسات الخاصة بالمحاضرة؛ مثل الحضور والغياب والمشاركة، ومواعيد تسليم المشروعات، وقواعد السلوك المعمول بها داخل قاعة الدراسة؟ وفي قاعة الدراسة نفسها، من الذي يتحكم في تدفُّق عملية التواصل؟ أي من يُقرِّر التوقيت الذي يشارك فيه الطلاب، أو يُنظم مشاركات المتطوعين، أو يدعو غير المُتطوِّعين للمشاركة؟ وفي النهاية، من الذي يُقرِّر مدى استيعاب الطلاب للمادة العلمية أو عدم استيعابها؟ أعني من الذي يُحدِّد الدرجات التي يحصل عليها الطلاب؟

توضِّح معلمة الكيمياء الموقرة ديان بونس (٢٠٠٩) هذه النقطة بالوصف التالي: «الطلاب «يُدركون» أن المادة مِلك للمعلم؛ فالمعلم يُحدد السياسات ومواعيد تسليم المشروعات، وصعوبة الاختبارات، ودرجة كل واجب دراسي/اختبار. ويُقرِّر المعلم أيضًا المادة العلمية المهمة، والطريقة التي ستُقدَّم بها هذه المادة العلمية. فلا أحد يسأل الطلاب عما يحتاجون إلى تعلُّمه. وعادةً، لا يُعبِّر الطلاب عن آرائهم فيما يتعلق بطريقة إنجاز المهام، وكذلك لا يُرجح أن يتطوَّعوا بأي مقترحاتٍ خشيةَ أن يصفها الآخرون بالحماقة» (ص٦٧٦).

ومن أجل التوصل إلى دليلٍ ملموس لميل المعلمين إلى التحكم في الطلاب وعملية تعلُّمهم، لسنا بحاجةٍ إلى إلقاء نظرةٍ على ما هو أبعد من خطة المنهج الدراسي، فحتى أعضاء هيئة التدريس، الذين يتَّسمون برِقَّة التعامل واللطف بصفةٍ عامة، يَلجَئون إلى واجب التعديلات وإصدار التعليمات والتوجيهات التي تُملي على الطلاب ما يتعيَّن عليهم القيام به دون الالتفات إلى آرائهم، فتجدهم يقولون أشياء على غرار: «لن أقبل الأبحاث بعد انقضاء موعد تسليمها أبدًا، وتحت أي ظروف»، «لا تطلبوا درجات أعلى؛ ينبغي أن نقضيَ الوقت ونبذل الجهد في الواجبات المنتظمة»، «عدم المشاركة سيُقلِّل من تقديراتكم الدراسية»، «ممنوع الحديث داخل قاعة الدراسة، أنتم هنا لتسمعوا وتتعلموا»، «يجب أن تُحضِّروا الدرس قبل الحضور للمحاضرة؛ فالتعبير عما تعتقدونه دون تكوين رأيٍ قائم على الاطلاع يُهدر وقت المحاضرة الثمين.»

في مقالين مؤثرين، ينتقد مانو سينجهام (٢٠٠٥ و٢٠٠٧) ما أصبحت عليه خطة المنهج الدراسي: «إنها تُعدد القراءات المُوصى بها عن طريق إفراد قائمةٍ لها، ولا تُفسِّر «لماذا» تستحق المادة الدراسة أو «لماذا» تمثل أهمية أو تُثير الاهتمام أو تتصف بالعمق، أو تُعدِّد استراتيجيات التَّعلُّم التي ستُستخدم لدراسة المادة، ولا تعطي الخطةُ النموذجية للمنهج الدراسي أيَّ إشارةٍ بأن المعلم والطلاب يخوضون معًا مغامرةً تعليمية ممتعة ومثيرة، بل إن الأسلوب الخاص بها يُشبه كثيرًا كُتيِّب تعليمات يُسلَّم للمسجون في أول يومٍ له بالسجن» (٢٠٠٧، ص٥٢). ويواصل قائلًا: «خطة المنهج الدراسي المفصلة والصارمة تتعارض تمامًا مع ما يُحفِّز رغبة الطلاب في التَّعلُّم. ويوجد عدد كبير من الأبحاث المطبوعة عن موضوع تحفيز التَّعلُّم، وإحدى النتائج توضح صراحةً أن الأجواء المسيطرة والمتحكمة لطالما أثبتت أنها «تُقلِّل» اهتمام الناس بأي شيءٍ يقومون به، حتى إن كانوا يقومون بأشياء قد تكون مُحفِّزة جدًّا في سياقاتٍ أخرى» (٢٠٠٧، ص٥٤-٥٥).

يحدد أعضاء هيئة التدريس بكل حزمٍ مَن هو المسئول عن تقرير السياسات التي تتعامل مع كل أشكال السلوكيات الفردية والمشكلات التي تَحدث داخل قاعة الدراسة. وثَمَّةَ أعضاء بهيئة التدريس يتوقَّفون عن الشرح إذا ما وجدوا طالبًا يرتدي قبعة بيسبول أو يَمضغ علكة داخل قاعة الدراسة. ورأيتُ مؤخرًا خطةً لأحد المناهج الدراسية تنصح الطلاب بالاستحمام قبل حضور المحاضرة، وأوضحت المُدرِّسة أنه قبل عدة سنوات كان لديها طالب اعتاد حضور المحاضرات برائحةٍ كريهة تنبعث منه؛ ولذا، أضافت هذا البند في سياسة الحضور، ولقد أتى هذا الأمر بثماره حتى هذه اللحظة؛ حيث إنه لم يدخل قاعةَ الدراسة طالبٌ تفوح منه رائحة كريهة منذ ذلك الحين. وإذا ما فَتَر النقاش في أي وقتٍ أثناء إحدى ورش العمل التي أُقدِّمها، فبإمكاني دومًا أن أُشعِل جذوة الحماس مرةً أخرى إذا ما سألت الحضور عن سياسات استخدام الهاتف الجوال أثناء المحاضرات، على الرغم من حقيقة أنه قد مرت شهور منذ آخر مرة قدمتُ فيها ورشة دون أن يُقاطعني رنين الهاتف الجوال الخاص بأحد الحاضرين من أعضاء هيئات التدريس. ويصف سينجهام (٢٠٠٧) ما يطلق عليه «السياسات التعقُّبية»؛ حيث «يواصل أعضاء هيئات التدريس إضافة قواعد جديدة للتصدي لأي عذر يتذرع به الطلاب لعدم الانصياع للقواعد الحالية» (ص٥٥). ولا أستطيع الاستعانة بدراسةٍ لإثبات أن عدد السياسات الواردة في خطة المنهج الدراسي قد زاد منذ إصدار الطبعة الأولى لهذا الكتاب في عام ٢٠٠٢، إلا أنني على استعدادٍ للمراهنة على أن هذا العدد لم يقل على أي حال.

معظم أفراد هيئات التدريس على استعدادٍ للاعتراف بأنهم يُمارسون قدرًا كبيرًا من السلطة على عملية تعلُّم الطلاب، إلا أنهم يُقاوِمون بشدةٍ أيَّ تلميح بأن هذا القدر من السلطة مُبالَغ فيه، وقد يحمل في طياته نوعًا من الإيذاء؛ ففي أحد المنشورات على مدونة تيتشينج بروفيسور بتاريخ ٢٤ أغسطس ٢٠١١ (www.facultyfocus.com)، شجعتُ القراء على إعادة التفكير في خطط المناهج الدراسية عن طريق مجموعةٍ من الأسئلة التي استفسرتْ عن الأسلوب المستخدَم في خطة المنهج الدراسي، وما إذا كانت الخطط عبَّرت عن التشويق والإثارة المرتبطَين بعملية التَّعلُّم، وما إذا كان ينبغي للمعلمين أن يتخذوا جميع القرارات الخاصة بالمادة، وما إذا كان يُطلَب من الطلاب إبداء ملاحظاتهم على خطة المنهج الدراسي. حظيَ المنشور بعددٍ كبير من الردود والتعليقات، بعضها إيجابي، إلا أن الكثير منها كان يُدافع بشدةٍ عن خطة المنهج الدراسي باعتبارها اتفاقيةً بين طرفين. وجاءت التعليقات على غرار: «لو لم يكن الهدف من خطة المنهج الدراسي خاصتكِ توضيحَ شروطكِ على نحوٍ يقيكِ حِيَل الطلاب، لربما قلتُ إنكِ جديدة في المهنة.» «خطتي للمنهج الدراسي ليست وسيلةً لمجاملة الطلاب أو إرضائهم، وإنما هي موضع أذكر فيه، بأسلوب أشبه بأسلوب العقود والاتفاقات، ما الذي يتعين عليهم إنجازه بالضبط للحصول على الدرجة … فهي ليست عرضًا ترويجيًّا مقدمًا لحضانة الطفولة السعيدة.» «هذا هو الهراء العاطفيُّ الذي يُفضي إلى الموقف الاستحقاقي الذي نُواجهه داخل قاعة الدراسة.»

تعليقاتٌ كهذه توضِّح لماذا يَعتقد المعلمون أنه يجب عليهم إحكام السيطرة؛ فالطلاب بحاجةٍ إلى ذلك؛ فلا يُمكن أن نثق بأن في مقدور الطلاب اتخاذ قراراتٍ تعليمية أو الاستجابة على نحوٍ ناضج في أجواءٍ تعليمية لا تخضع للسيطرة الكاملة؛ فهم لا يَحترمون السلطة، ولا يتمتَّعون بمهارات مذاكرة جيدة، ولا يُجيدون التحضير، ولا يُبدون اهتمامًا بالمحتوى، ويُسجِّلون أنفسهم في المواد من أجل الحصول على تقديرات، ولا يهتمُّون بعملية التَّعلُّم في حد ذاتها، وكل ما يُريدونه من التعليم هو الحصول على وظيفةٍ ذات أجرٍ جيد.

وهذه السمات هي سمات نموذجية للطلاب الجامعيين — رغم أن من الممكن أن نختلف بشأن عددها بالضبط — وهي مشكلات يجب أن نتعامل معها إذا ما كنا سنضع ثقتنا في الطلاب بخصوص اتخاذهم القرارات التعليمية. ولكن حقيقة أن الطلاب بحاجةٍ إلى الإعداد لكي يتعاملوا مع الأساليب المُتمركِزة حول المتعلم لا تُبرِّر اتخاذ جميع القرارات بالنيابة عنهم. ويُشير مارك مالينجر (١٩٩٨، ص٤٧٣) إلى أن «الحُجة الداعمة للقيادة تحت لواء المُدرس تَفترض أن الطلاب غير «قادرين» [التمييز السابق من طرفي] على زيادة مستوى نُضجِهم».

أما السبب الثاني وراء سيطرة المعلمين على الكثير مما يحدث داخل قاعة الدراسة فهو أنهم اعتادوا على ذلك دومًا؛ فهذا ما يُفترض أن يقوم به المعلمون. وتوضِّح سوزي براي (١٩٩٥، ص١) أن: «المعلم «الجيد» يُسيطر على قاعة الدراسة وعناصرها؛ حيث يُحضِّر خطة الدرس من أجل استغلال وقت المحاضرة استغلالًا فعَّالًا، ويُحدد أهداف المادة، ويقدم المعلومات بوضوحٍ وفاعلية لكي يستوعبها الطلاب بسرعة، ويتذكروها جيدًّا، ويسترجعوها عند الحاجة إليها.» على مدار سنوات اتَّبعتُ هذا السيناريو ظنًّا مني أنني كنت أقوم بما يريده الطلاب من المعلمين، ولم يَخطر على بالي قط أن الطريقة التي أسيطر بها على الطلاب وعمليات تعلُّمهم قد تكون مؤذية، أو أن الطريقة التي كنتُ أتبعها للتدريس قد تُحقِّق لي الفائدة على حساب مصلحتهم.

وإليك مثالًا على نوعية الاكتشافات المُقلقة التي توصَّلتُ إليها حين تفحصَّتُ ممارساتي المهنية. كان من عادتي أن أؤجِّل أسئلة الطلاب حتى أنتهيَ تمامًا من شرح فكرتي؛ لم أكن أرغب في مقاطعتي، وعندما أنتهي، أطلب منهم طرح الأسئلة، أنظر سريعًا في أرجاء القاعة ولا أرى أحدًا يرفع يده، فأطرح أنا سؤالًا، وأختار طالبًا ليُجيب عنه (لم يكن هناك متَّسع من الوقت لانتظار المتطوعين بالإجابة)، وبالكاد أُقِر صحة إجابته وأنتقل إلى نقطةٍ أخرى. لا أستطيع قضاء المزيد من الوقت في مناقشة هذا الموضوع، إذا كنتُ أُخطِّط لتغطية المحتوى كله. أغضبني التفكير في ذلك وأحرجني قليلًا؛ أقصد الإمساك بزمام السيطرة والتحكم إلى هذا الحد المفرط دون إدراك أنه ليس ما كنت أتوقع اكتشافه. إن استغلال السلطة بهذا القدر لمجرد أن المعلمين اعتادوا على ذلك منذ القدم لم يَعُد يبدو سببًا وجيهًا.

في النهاية، يُمارس أعضاءُ هيئات التدريس السيطرةَ على عملية التعلُّم وعلى الطلاب أنفسهم بسبب أوجُه الضعف والقصور التي تُعتبَر جزءًا متأصِّلًا من عملية التدريس؛ إذ إن شخصياتنا تظهر عن طريق أسلوب تدريسنا، وهذا يَعني أننا نخشى من التعرض للإيذاء؛ ومن ثَم نتوخَّى الحَيْطة والحَذَر، ولكن هذا الضَّعْف وما يرتبط به من مخاوف بمنزلة أشياء يَشعُر بها المعلمون أكثر من فَهْمهم لها. وقد اكتشف أحد زملائي هذا الأمر عن طريق كابوس مُتكرِّر عن مِهنة التدريس؛ كان هذا الكابوس عبارة عن أولِ يومٍ له لتدريس مادة أساسيات فَنِّ سوقِيَّات العمل التجاري، لفرقةٍ كبيرةِ العدد من الطلاب المستجدِّين. بدأ المحاضرةَ بالمقدِّمة المعتادة، مشيرًا إلى أنه صار يحمل درجةَ الأستاذية، ولم يَعُد مُضطرًّا إلى تدريس مواد الطلبة المستجدِّين، إلا أنه اختار تدريس هذه المادة لأن المحتوى في غاية الأهمية. وعند نقطةٍ ما وسط هذه الرسائل الترويجية، وقَف طالب — لم يستطع مطلقًا أن يتبيَّن وجهَه في الحلم — ليَصرخ قائلًا: هذا المُحاضِر شخصٌ نصَّاب وزائف ومقلِّد، ويجب التخلُّص منه؛ فالطلابُ يدفعون المصاريفَ ويَستحقُّون ما هو أفضل. ونظرًا لأن هذا الطالب المُحرِّض أثارَ الحماسةَ داخل قاعة الدراسة، اندفع الطلابُ ناحيةَ الجزء الأمامي من القاعة. واستيقظ زميلي وهو يَصرُخ ويركل؛ حيث كان يُحمَل قسرًا إلى خارج القاعة.

ضحكتُ حين استمعتُ إلى قصة هذا الحلم لأول مرة، ربما لأن هذا يبدو مُتناقضًا للغاية مع شخصيته كمعلم، إلا أنه حلمٌ له أصول مترسِّخة في الواقع؛ فإذا أراد الطلاب أن يَحملوا المعلم حملًا إلى خارج قاعة الدراسة، حتى في تلك القاعات ذات العدد القليل من الطلاب، فإنَّ هناك عددًا كافيًا من الطلاب لإنجاز ذلك العمل البطولي على أي حال. ربما يُمارس المعلمون قدرًا كبيرًا من السلطة، إلا أنهم لا يزالون غير مُحكمي السيطرة على الفِرقة بأكملها. ولقد شعر أغلبُنا بهذا الضَّعْف مثلًا عند إضافةِ واجبٍ منزليٍّ لم يُدرَج في خطة المنهج الدراسي، أو عند توبيخ أحد الطلاب على الملأ لمُخالفته أحد القوانين. وفي حالةِ تهديدِ الطلاب سلطةَ المعلم، فإن معظم المعلمين يَشعُرون بأنهم مضطرُّون إلى الرد بفرض المزيد من السيطرة؛ وهذا يؤدي إلى الدخول في دوَّامة تصاعدية لا تنتهي نهايةً إيجابيةً مطلقًا.

ونظرًا لأن القلق يساور المعلمين بشأن هذه التحديات، فإن لديهم الحافزَ الذي يجعلهم يبذلون كلَّ ما في وسعهم لمنع هذه التحديات وعرقلتها بأي شكل. ومن قبيل المُفارَقة أنه كلما واجب المعلمون المزيدَ من السيطرة، صار الطلابُ أكثرَ ميلًا للمقاوَمة. تضع خطةُ المنهج الدراسي الصارمة — التي تُقيِّد الطلاب بأصفادٍ لدراسة المادة — العلاقةَ بين المعلم والطالب في إطارٍ من العدائية، وقد يجرؤ الطلاب على القيام بأي شيء ما عدا تهديد سُلطة المعلم. وتُثبِت بعضُ النظريات التي ألقى الفصلُ الأول الضوءَ عليها، وبعضُ الأبحاث التي استعرضَها الفصلُ الثاني؛ أنَّ دافِعَ الطلاب وثقتَهم وحماسَهم للتعلم تتأثَّر تأثيرًا سلبيًّا عندما يفرِض المعلمون سيطرتَهم؛ ومن ثَمَّ ينتهي الحال بشعور الطلاب بقلة الحيلة.

إلا أن المُفارَقة لا تنتهي عند هذا الحد فحسب؛ فعلى الرغم من أنَّ معظم القرارات التعليمية تُتخذ بالنيابة عن الطلاب، وتَخضَع معظمُ عناصر البيئة التعليمية لسيطرة المُعلِّمين؛ فإنَّ الطلاب مُلزَمون باتخاذ أهم قرارٍ على الإطلاق؛ حيث إنهم بمفردهم يُقرِّرون ما إذا كانوا سيتعلمون أم لا، فالمعلمون لا يَستطيعون أن يتعلَّموا بالنيابة عن الطلاب، أو أن يَفرِضوا التعليمَ عليهم بالإجبار، وتوجد عواقبُ سلبية شديدة إذا قرَّر الطلاب ألَّا يتعلموا؛ أقصد أنهم لن يَحصلوا على شهادة علمية وستضيع عليهم الأموال التي أنفَقوها على دراسة المادة. هكذا، سيَرسُبون في المادة، مما يُعرِّض مسيرتَهم التعليمية والمهنية للخطر، أو أنهم سينتهون من دراسة المادة بقدر قليل من المعرفة أو المهارات؛ ومِن ثَم يواجِهون صعوباتٍ بخصوص دراسة المواد التالية. غير أن بعض الطلاب يختارون هذه العواقب على أي حال؛ ففي الواقع، يصبُّ توازُن السلطة داخلَ قاعة الدراسة في صالح الطلاب؛ لأنَّ بإمكانهم أن يَجعلوا التدريس لا طائلَ منه لو اتخذوا قرارًا بعدم التَّعلُّم.

باختصار، يُواصِل أعضاء هيئات التدريس ممارَسةَ قدرٍ كبير من السيطرة على عمليات التَّعلُّم الخاصة بالطلاب، وعلى الرغم من أنهم يفعلون ذلك ظنًّا منهم أن هذا يُفيد الطلاب؛ فإنه غالبًا ما يضرُّ بقدرتهم على التَّعلُّم العميق وتنمية المهارات التعليمية. إنَّ اتخاذ القرارات التعليمية بالنيابة عن الطلاب يجعلهم مُتعلِّمين اتكاليِّين، كما أن السيطرة المُحكمة على البيئة التعليمية تُؤثِّر بالسلب على الدافعية إلى التَّعلُّم. إنَّ تبرير استغلال السلطة بالقول بأنَّنا لا يُمكننا أن نثق في القرارات التعليمية التي يتَّخذها الطلاب، أو أننا لا نَثق في أنهم يتحمَّلون مسئوليةَ تصرُّفاتهم؛ يفترض أن الطلاب لا يستطيعون اكتسابَ أيٍّ من هاتين المهارتين المهمتين. هذا مبرِّر ضعيف، وهو ليس سببًا حقيقيًّا على الأرجح وراء شعور أعضاء هيئات التدريس بحاجتهم إلى ممارَسة السيطرة على عمليات التَّعلُّم وما يحدث داخل قاعة الدراسة؛ فالتدريس يُظهِر أوجُه الضَّعْف والقصور؛ ومن ثَمَّ يستطيع الطلاب أن يَنجحوا في تهديد سلطة المعلم. وفي إمكانهم أيضًا أن يَرفضوا التَّعلُّم، وهذا من ثَمَّ يؤكِّد أنه على الرغم من تمتُّع المعلمين بقدر كبير من السلطة، فإنه ليس بأيديهم حيلةٌ لضَمان تحقيق الهدف الأساسي من التعليم.

(٢) تغيير موازين السلطة

عندما يكون أسلوب التدريس مُتمركزًا حول المتعلِّم، تتمُّ مشاركة السلطة مع الطلاب، لا نقْلها إليهم بالكامل، فلا يزال أعضاء هيئات التدريس يتَّخذون القرارات الخاصة بعملية التَّعلُّم، لكنْ ليس جميعها، ولا من دون مساهَمة الطلاب دومًا. على الرغم من ذلك، يُثير التغيير مشكلاتٍ أخلاقيةً تتعلَّق بمسئوليات الطلاب؛ أيْ ما الذي يلتزم المعلمون بتقديمه للمتعلمين؛ ومِن ثَمَّ، يَقلق المُعارضون لأساليب التدريس المُتمركِز حول المتعلِّم أن ينتهي الأمر بأن يُدير الطلاب قاعةَ الدراسة ويُدَرِّسون لأنفسهم. صحيح أنَّ الهدف الأساسي هو تسليحُ الطلاب بالمهارات التعليمية التي يحتاجونها للتدريس لأنفسهم؛ فالمتعلمون المستقلون الذين يتَّسمون بالتوجيه الذاتي لا يحتاجون إلى المعلمين، أو يَحتاجون إليهم بقدرٍ أقل، إلا أن عملية التحوُّل إلى متعلم مُستقلٍّ هي عملية تدريجية، ومعظمُ الطلاب الجامعيِّين يكونون في البداية مُتعلِّمين اتكاليِّين للغاية.

داخلَ قاعات الدراسة التي يُتَّبَع فيها التدريسُ المُتمركِز حول المتعلِّم، يُعاد توزيعُ السلطة بقدرٍ يَتناسب مع قدرات الطلاب، فلا تجد وليَّ أمرِ أحدِ المُراهقين يعطي مفتاحَ سيارة الأسرة لابنه المُراهق، الذي استخرج رخصةَ قيادةٍ مؤخرًا، مساءَ يوم الجمعة ويقول له: «استمتِعْ بعطلة نهاية الأسبوع. سَنحتاج السيارةَ صباحَ يوم الإثنين.» فالاستراتيجيات التي نَتناولها في هذا الكتاب تمنح الطلابَ قدرًا من الحرية للتعبير عن آرائهم، لا السلطة لتحديدِ كلِّ شيء؛ فالطلابُ لا يُديرون قاعةَ الدراسة، والمعلمون لا يتنصَّلون من المسئوليات التربوية المشروعة.

فيما يَلي مثالٌ يُوضِّح إلى أيِّ مدًى ينجَح هذا التغيير الخاص بموازين السُّلطة: إنَّ الطلابَ المستجدين، الذين لم يَدرسوا من قبلُ مادةَ علم الاجتماع، لا يتمتَّعون بالمعرفة أو الخبرة التي تُتيح لهم اختيارَ الكتاب الذين يَدرسون منه المادة، ولو طلبتَ منهم ذلك فهذا تصرُّفٌ ينمُّ عن عدم تحمُّل المسئولية من الناحية الأخلاقية. ولكنْ دَعْنا نفترِض أن معلم المادة استعرَضَ مجموعةً مُتنوِّعة من الكتب، واختار منها خمسة كتب تَفِي بأهداف المادة والاحتياجات التعليمية للطلاب، وبعدَ ذلك يكون بإمكان الطلاب أن يُشكِّلوا لِجَانًا للاطِّلاع على هذه الكتب، ويَعملوا تحت قواعد تُحدِّد سمات الكتاب الجيد؛ نظرًا لأنَّ الفِرقة مُكلَّفة بمهمة ترشيح كتاب دراسي وتبرير هذا الاختيار. لي زميلٌ مُعتاد على الاستعانة بهذه الطريقة لاختيار الكتب الدراسية للمادة، وما يدهشه باستمرار هو أن الطلاب نادرًا ما يُرشِّحون الكتابَ الذي يتوقَّع منهم اختياره. كما أنه يَذكر أن طلابًا في الفصول الدراسية التالية ينظرون إلى الكتاب الدراسي نظرةً مختلفةً حين يَعرفون أن طلابًا آخَرين ساعدوا في اختيار هذا الكتاب.

في هذا المثال، يُمنَح الطلاب قدرًا محدودًا من السلطة، وتصميمُ الأنشطة يوجِّه عمليةَ اتخاذ قراراتهم. في المادة التي أُدرِّسها، أدَعُ الطلابَ يُقرِّرون الواجباتَ الدراسية التي سيقومون بها (وأستثني من ذلك واجبًا واحدًا)، إلا أن عمليةَ اتخاذِ القرار مُقيَّدة بعدة سمات مرتبطة بالتصميم. يختار الطلاب واجباتَهم الدراسية، إلا أن الواجبات التي يقع عليها الاختيار يجب أن تُنجَز على النحو الذي صُمِّمتْ عليه. وعلى الرغم من ذلك، يُمكنهم أن يحدِّدوا الكَمِّية التي سيؤدُّونها؛ وذلك بالنسبة إلى بعض الواجبات. على سبيل المثال: عند تقييد الواجبات الدراسية على نظامِ سجلِّ سَير التعلُّم، يُحدِّد الطلاب أيَّ الواجبات الدراسية التي سيؤدونها، وعددَ المدخلات التي يكتبونها، بالإضافة إلى ذلك، كلُّ واجب من واجبات هذه المادة له موعد نهائي لتقديمه (يتضمَّن ذلك موعدًا نهائيًّا لتسجيل الواجب الدراسي على سجلِّ سَيْر التعلُّم)، ولا يمكن تقديم الواجب الدراسي بعد مرور هذا الموعد. إنني أُدرك أن طلابي المستجدِّين يُواجهون مشكلةً بخصوص إدارة الوقت، ولا أريدهم أثناء آخِر أسبوعَين من الفصل الدراسي أن يحفظوا مادةً تَستحق بذْلَ الجهد لاستيعابها، ولا أريدهم أيضًا أن يؤدوا عددًا كبيرًا من الواجبات الدراسية دون تخصيص الوقت والجهد اللازمَيْن لكل واجبٍ منها؛ ومِن ثَمَّ، من أجل تجميعِ نقاطٍ من أداءِ أيِّ واجبٍ دراسي، يجب على الطلاب أن يحصلوا على ٥٠ بالمائة من النقاط، وإذا لم يُقبَل الواجب الدراسي، فلن تُمنَح أي نقاط.

إن تحديدَ كيف سيتمُّ تعلُّم محتوى المادة هو قرارٌ يتخذه متعلمون راشدون يتحملون مسئولية قراراتهم، وهو قرارٌ لا ينبغي أن تتَّخذه الأغلبية العظمى من الطلاب المستجدين، ولكنْ إذا كان من المأمول أن يتحوَّل الطلاب المستجدون إلى متعلِّمين راشدين، وإذا كانوا قد شرعوا في إدارة عملية التَّعلُّم الخاصة بهم؛ فحينئذٍ يجب منحُهم الفرصةَ للتحكُّم فيها، وإذا أراد المعلمون أن يتعلموا كيف يُيسِّرون عمليةَ التَّعلُّم، فعليهم أن يستعدوا ليُتيحوا للطلاب فرصَ اتخاذِ بعض القرارات. ومثلما هي الحال مع الطلاب، فأفضلُ طريقةٍ يتعلَّم بها المعلمون هي أن يُرْخوا قبضتَهم عن السيطرة تدريجيًّا.

لا يلاحظ الطلاب دائمًا فوائدَ هذا التغيير؛ في البداية يشعرون بالارتباك، ويقاوِم بعضُهم التغييرَ عن طريق الإشارة إلى أنَّ المعلم لا يؤدِّي عمله، وهذا يعني أنهم يُعِيدون زمامَ السلطة إلى المعلم مرةً أخرى؛ فالخوفُ من أن يستغلَّ الطلابُ السلطةَ الممنوحة لهم للإطاحة بالمُعلم أو الانتقاص من سلطته، هو خوفٌ لا أساسَ له من الصحة، على الأقل في تجارب الكثيرين منَّا ممَّن تشارَكوا السلطةَ مع طلابهم.

أسمح لطلابي أن يُحدِّدوا سياسة المشاركة في محاضرات مادتي، وسأَذكُر المزيد حول كيفية نجاح هذا الأسلوب في الجزء التالي، وبينما كان الطلاب يتعامَلون مع التفاصيل — أسئلة على غرار: هل ينبغي للمعلم أن يختار الطلابَ الذين يجيبون على الأسئلة، أم يَمنح الفرصةَ للمتطوعين فقط؟ هل ينبغي أن يخسر الطلاب نقاطًا إذا ما كانت إجابتُهم خاطئة؟ هل يُحسَب حضورُ المحاضرات جزءًا من درجات المشاركة؟ — فإن الطلاب كثيرًا ما كانوا يلجئون إليَّ لاتخاذ القرار نيابةً عنهم، أو يَستفسرون عن العملية في حد ذاتها؛ «لماذا تطلبين منا ذلك؟ هناك أشياء يتعيَّن على المُعلم أن يقرِّرها.» هكذا، يفضِّل المتعلمون الاتكاليون قاعات الدراسة التي يُتَّبَع فيها التدريس المُتمركِز حول المعلِّم؛ لأن هذا هو ما اعتادوا عليه؛ ومن ثَمَّ لا يتعيَّن عليهم تحمُّلُ مسئوليةِ القرارات التي يتَّخذها المعلمون.

عندما يتَّضح للطلاب أن المعلم لن يتخذ القرارات التي طلَب منهم اتخاذَها، فإنهم يتردَّدون في استغلال هذه السلطة الجديدة، ويُصابون بالتوتر إلى حدٍّ ما من جرَّاء ذلك؛ فهم يرغبون في الحصول على تقييمٍ ويحتاجون إلى الدعم، وإذا ما قُدِّم لهم هذا، فإنهم يَمضون قُدمًا بمزيدٍ من الثقة. بعد ذلك يأتي اليوم الذي يستوعب فيه الطلابُ الأمرَ — على نحو يبدو مفاجئًا — أو على الأقل يَستوعب عددٌ منهم ذلك الأمر، وهذا العددُ المؤثر يولِّد الطاقةَ والحماس؛ مما يُحفِّز باقي الفرقة. كلا، هذه ليست حالة مثالية حالمة خاصَّة بالعملية التعليمية؛ فعلى أي حال، لا يستوعب جميع الطلاب الأمر، ولا تزال بعض الأنشطة والواجبات الدراسية تبوء بالفشل الذريع، إلَّا أن المحاضرة تصبح مختلفةً بطُرق إيجابية للغاية، وسأذكر أربعَ طُرق منها لاحقًا.

عندما شرعتُ في مَنْح طلابي حريةَ اختيار واجباتهم الدراسية، لم أتوقَّع — بصراحة شديدة — أن أرى فارقًا كبيرًا. في الواقع، كنتُ أمنحهم قدرًا بسيطًا جدًّا من السيطرة، ولكنْ على الفور كان هناك تغيُّرٌ جدير بالملاحظة على مستوى التحفيز؛ حيث كان الطلاب على استعداد للقيام بالمزيد من العمل، وقبل أن أسمح للطلاب باختيار واجباتهم الدراسية، طلبتُ منهم إنجازَ ما بين عشرة واجبات دراسية واثني عشر واجبًا دراسيًّا، على حسب الوقت المتاح للفصل الدراسي، وبعد أن شرعوا في اختيار الواجبات الدراسية، أنجَزَ الطلاب العاديون أكثرَ من ثلاثة عشر واجبًا دراسيًّا، ولم يشْكُ أحدٌ من كمية العمل التي واجبَتْها دراسةُ المادة. أثبَتَ بحث بينترتش (٢٠٠٣) عن التحفيز، الذي استعرضتُه في الفصل الثاني، ما جاء في تجربتي وتجاربَ لآخَرين، وكذلك الأبحاث التي أُجرِيت على المتعلمين المستقلين، التي ألقى الفصلُ الثاني الضوءَ عليها.

وبعد ذلك، لاحظتُ أن الحصول على قدرٍ من السيطرة يؤثِّر على الطريقة التي يتعلَّم بها الطلابُ المادةَ الدراسية؛ حيث إن هذا الأسلوب سهَّلَ ربْطَ المحتوى بالواقع، ورؤيةَ تلك الروابط الواقعية، وزاد الرغبةَ في تطبيق ما تمَّ تعلُّمه. ولأكثر من مرة أتذكَّر أنني اعتبرتُ هذه المعرفة سُلْطة، وكان طلابي يمارسون معرفتهم وسلطتهم عن قصد، وأحيانًا بتوازن. وبالطبع، خوضُ تجربةِ اتخاذِ بعض القرارات يؤثِّر على التجارب التالية الخاصة باتخاذ القرارات الأخرى.

إنَّ مشاركة السلطة مع الطلاب يَخلق المزيدَ من الأجواء الإيجابية والبنَّاءة داخل قاعة الدراسة؛ حيث تجد شعورًا أقوى بالانتماء؛ أيْ شعورًا رائعًا بأن الجميع ينتمون إلى هذه القاعة الدراسية. يتَّضح للطلاب أكثر أنهم مسئولون أيضًا عمَّا يحدث داخل قاعة الدراسة. وعادةً ما تشتمل سياسةُ المشاركة داخل قاعة الدراسة، التي يُحدِّدها الطلاب في مادتي، على بند أساسيٍّ ينصُّ على أن المعلم سيختار الطلابَ الذين يتطوَّعون فقط. وأكثر ما كان يدهشني أنني حين كنتُ أطرح سؤالًا ولا أحصل على إجابة، يتحدَّث أحد الطلاب مُذكِّرًا الطلابَ الآخَرين أنني قد وافقتُ على عدم اختيارِ طالبٍ بعينه للإجابة عن السؤال، ومن الأفضل أن يتطوَّع أحدٌ للإجابة.

عندما يتشارك الطلاب في السلطة داخل قاعة الدراسة، وعندما يُوكَل إليهم اتخاذُ بعض القرارات، ويَشعرون بأنهم يُمسِكون بزمام السيطرة، تقلُّ السلوكيات التي تُخلُّ بالنظام العام. وحين لا يشعرون بقلَّة الحيلة، تقلُّ تبريراتهم لتحدِّي السلطة. تُعيد مشاركةُ السلطة تحديدَ العلاقة بين المعلم والطالب، مما يقلِّل من طابع العدائية فيها. وتشهد إدارةُ قاعة الدراسة تحوُّلًا من الحاجةِ لسياسات تمنَع سوء السلوك إلى البحثِ عن إجراءاتٍ تُشجِّع مناخًا مناسبًا للتعلم. ويناقش الفصل السادس، بمزيد من التفصيل، المشكلات المتعلقة بالمناخ المناسب داخل قاعة الدراسة.

بالنظر إلى تلك الاستجابات الإيجابية — مزيد من التحفيز، وربط أفضل بين المحتوى والعالَم الواقعي، وشعور أقوى بالانتماء، وعدد أقل من المشكلات المرتبطة بإدارة قاعة الدراسة — ليس من المستغرَب أن المُعلِّمين يستفيدون أيضًا عندما يشارِكون الطلابَ في السلطة. ومِن المُمتع العمل مع طلاب يتَّسمون بأنهم أقلُّ سلبيةً وأكثر اهتمامًا واستعدادًا للعمل! فاستجاباتُهم حفَّزتني؛ حيث بذلتُ المزيد من الجهد للتحضير والبحث عن أنشطة جيدة، وصرتُ أكثر استعدادًا لخوض مخاطر أكبر. لم أشعر قطُّ بأنني فقدتُ السلطةَ داخل تلك القاعات الدراسية التي أشارِك فيها طلابي السلطةَ، بل من قَبيل المُفارقة أيضًا أنني عادةً ما أشعرُ بمزيدٍ من التحكم والسيطرة، وعندما كنت أطلب من الطلاب أن يؤدُّوا إحدى المهام، كانوا يُذعِنون لطلبي عن طيب خاطر.

باختصار، عندما يجري تشارُك السلطة داخل قاعة الدراسة، يتغيَّر ما يحدث بداخلها؛ ومن ثَمَّ تتغيَّر طريقةُ تصرُّف المعلمين والطلاب؛ حيث وجدتُ نفسي أتحمَّل المزيدَ من الصخب داخل قاعة الدراسة خاصتي. أما بالنسبة إلى المتابعين من الخارج، فأعتقد أن القاعة تبدو لهم فوضوية؛ إذ يعمل الطلاب في مجموعات، ويتحدَّثون إلى أفراد المجموعات الأخرى. وقبل بدء المحاضرة، يتجوَّل الطلاب في أرجاء القاعة ليتحدَّث بعضهم إلى بعض، وأحيانًا يجلسون على طاولة في الجزء الأمامي من القاعة ويُعِيدون ترتيبَ المقاعد بحيث لا يجلسون في شكلِ صفوفٍ معتادة، ويكتبون الإخطارات على السبورة، ويتصرَّفون كما لو أن قاعة الدراسة هي بيتهم الصغير. ولن أنسى أبدًا يومًا دخَل فيه أحدُ الزملاء — من مقيِّمي الأداء — قاعةَ الدراسة خاصتي، واستقبله أحدُ الطلاب متسائلًا عمَّا يفعله داخلَ قاعة الدراسة، وبعد التوضيح، سمعتُ الطالب يقول لزميلي إنها «بالتأكيد محاضرة غير تقليدية، بها الكثير من الواجبات الدراسية الغريبة.» ولكن ما كان لي أن أواجِهَ مشكلةً؛ لأن مستوى هذه الفرقة كان جيدًا جدًّا، ولم أَدْرِ حينَها أينبغي لي أن أَرتعِبَ أم أَبتهج.

(٣) أمثلة على إعادة توزيع السلطة

ما نوعيةُ الواجبات الدراسية والأنشطة الفردية التي تمنَحُ الطلابَ مزيدًا من السيطرة على عمليات التَّعلُّم؟ هذا هو السؤال الذي يسعى هذا الجزءُ إلى الإجابة عنه، وتتمحْوَر الأمثلة التي يحتوي عليها هذا الجزء حول أربعة مواضع ذكرتُها في مقدمة الفصل باعتبارها المواضعَ التي يتَّخذ المعلمون — عادةً — حيالَها القراراتِ بالنيابة عن الطلاب؛ أولًا: الأنشطة والواجبات الدراسية الخاصة بالمادة. ثانيًا: سياسات المادة. ثالثًا: محتوى المادة الدراسية. رابعًا: تقييم عملية تعلُّم الطلاب. ويَحتوي هذا الجزء على أمثلةٍ تُتيح للطلاب فُرصًا مختلفة لاتخاذ القرارات، متيحًا بذلك للمُعلمين الاختيارات التي تتوافق مع استعداد الطالب والمعلم لتقاسُم السلطة، والتفكير في البدائل المتاحة.

(٣-١) الأنشطة والواجبات الدراسية

لقد ذكرتُ بالفعل أنني كنتُ أسمح للطلاب المُستجدِّين أن يختاروا الواجباتَ الدراسية التي يُريدون إنجازَها، ويوجد وصْفٌ تفصيلي لهذه الواجبات الدراسية في خطة المنهج الدراسي الموجودة في الملحَق الأول. ولقد سهَّلتُ الأمرَ من الناحية الإدارية عن طريق عدم الالتزام باتفاقات رسمية. هكذا كنتُ أرحِّب بإضافة الطلاب للواجبات الدراسية أو تبديلها، أو القيام بعددٍ أقل أثناء المُضيِّ قُدمًا في دراسة المادة. كنتُ أقيِّم عملَ الطلاب باستخدامِ معيارٍ تقييمي وضعتُه بنفسي لمقارَنة النتائج، وأدرجتُه في خطة المنهج الدراسي. وبدايةً من اليوم الأول، أدرَكَ الطلابُ عددَ الدرجات التي يَحتاجون إليها لتحقيق التقديرات الدراسية المتعارف عليها.

وعلى الرغم من أنني لم أرغب في إرهاقِ نفسي بتعقُّب الطلاب لمعرفةِ أيٌّ منهم يؤدِّي أيَّ واجبٍ دراسي تحديدًا، فإن طلابي المستجدين كانوا بحاجةٍ إلى التشجيع للتخطيط بعض الشيء لدراسة المادة؛ ومن ثَمَّ، في أول مُدخَل من مُدخَلات سجلِّ سَيْر التَّعلُّم، اختار الطلابُ بعضَ الواجبات الدراسية المبدئية، وشارَكوا ردودَ أفعالهم حيال التحلِّي بالقدرة على اتخاذ هذه القرارات. لم تكن بعض ردود أفعالهم مُشجِّعةً للغاية، وأفادوا بأنهم خطَّطوا للقيام بالواجبات الدراسية السهلة (على الرغم من أنه كان هناك خلافٌ على تحديدِ أي الواجبات الدراسية سهلة)، كما أنهم خطَّطوا لاختيار تلك الواجبات الدراسية التي «تروق» لهم، دونَ إدراكٍ عميق بأن هذه الاختيارات مُرتبطةٌ بتفضيلاتهم التعليمية، وكانوا يظنُّون أن المعلم ربما يلجأ إلى هذا الأسلوب لأنه «يحبُّ الطلاب، ويريد أن يمنحهم الفرصة»، أو «لأنه لا يريد أن يلومه أيُّ طالب على تقديره السيِّئ بالمادة.»

كان المشجِّع في هذا الأمر هو ردود أفعالهم التي أثارها السؤالُ التحفيزيُّ الأخير، المقيَّد في سجلِّ سَيْر التعلُّم: «إلى أي مدًى تظنُّ أن هذه الاستراتيجية ستؤثِّر على أدائك داخلَ قاعة الدراسة؟» وجاءت الردود: «أظن أن هذا النظام سيُساعدني فعلًا؛ فهو يجعلني مسئولًا.» «بالنسبة إلى هذه المادة، الأمر يعود إليَّ. وعلى الرغم من أن هذا يُخيفني، فإنني أشعر بأن الأمور ينبغي أن تسير على هذا النحو.» «سأنتظر لأرى، ولكن أظنُّ أنني سأبذل قصارى جهدي في هذه المادة، أشعر أنَّ أمامي فرصة.» «سأُنجِز جميعَ الواجبات الدراسية إذا كان هذا شرطًا لحصولي على تقدير ممتاز في هذه المادة؛ أنا أشعر بالتحفيز.»

لم أعترف في الطبعة الأولى من هذا الكتاب أنني حين استعنتُ بهذا الأسلوب — لأول مرة — لم أكن أفهم تمامًا النتائجَ المترتِّبة على اتباع هذا التصميم، وظننتُ أنها فكرة جيدة ربما تحفِّز بعضَ الطلاب على العمل بكدٍّ أكبر قليلًا. وكان ما توصَّلتُ إلى إدراكه هو أن هذا الأسلوبَ يُعرِّف المعلمين على بعض التحديات المعقَّدة إلى حدٍّ ما، التي يُواجِهها التصميم. عليك أن تتأكَّد من أن إتمام أي مجموعة من الواجبات الدراسية المحتملة يُحقِّق أهدافَ المادة، وهذا يجعل من الضروري تحديد مجموعة أهداف واضحة للمادة، ويستلزم أيضًا تحليلًا مدروسًا لكل واجب من الواجبات الدراسية، ولو كنتُ سأُعِيد القيامَ بهذا الأمر مرةً أخرى، لَطبَّقتُ أسلوبَ اختيار الواجبات الدراسية على نحوٍ تدريجي أكثر؛ لأتيح للطلاب الاختيار من بين عدة واجبات دراسية محدَّدة قبلَ أن أسمح لهم بالاختيار من بين جميع الواجبات الدراسية. في هذه الحالة، يَنطبق نفس المبدأ العام الخاص بالتصميم؛ أَلَا وهو: يجب أن يحقِّق كلُّ اختيارٍ الأهدافَ العامة الخاصة بالواجب الدراسي، ويجب أن تكون جميعُ الاختيارات متساويةً في الوقت المُستغرَق، ومتساويةً في الصعوبة على المستوى الفكري.

بعض أعضاء هيئات التدريس يَسمحون للطلاب باختيار موعد تسليم الواجبات الدراسية، وهذا يتناسَب تمامًا مع تقديم الأبحاث، أما بالنسبة إلى الواجبات الدراسية التي تَسير جنبًا إلى جنب مع المحتوى الدراسي، فيعطي أعضاء هيئات التدريس للطلاب مهلةً زمنية (أسبوعًا مثلًا) يجب خلالها تقديمُ الواجب. بالنسبة إلى أعضاء هيئات التدريس الذين يَعتبرون الوفاءَ بالمواعيد النهائية للتسليم أمرًا مهمًّا، فإنهم يَطلبون من الطلاب تحديدَ موعد التسليم في إطار هذه المهلة الزمنية، وتحديدَ العقوبة إذا لم يَفوا بالموعد النهائي للتسليم.

وبالنسبة إلى الطلاب المتمرِّسين أكثر، والمشروعات الأكبر حجمًا، يُمكن أن يتحمَّل الطلاب مسئولياتِ إدارةِ الوقت فيما يتعلَّق بالمشروع ككل. أَعرف زميلًا لي قام بهذا الأمر عند تَدريسه مادةَ إدارة الأعمال للفرقة الثالثة؛ ففي هذه المهمة الجماعية، كان على الطلاب أن يُعدُّوا تقريرًا مهمًّا يحاوِل إقناعَ إحدى الشركات ببناء مصنع في المُقاطَعة. كان أول جزء تُحسَب عليه الدرجات في هذا الواجب الدراسي عبارة عن مذكِّرة من فريق المشروع، يُحدِّدون فيها الخطواتِ المهمةَ والضرورية لإنجاز المشروع، والنظامَ الذي يجب أن يسيروا عليه لإنجازه، والإطارَ الزمني المبدئي، والتوزيعَ المُقترَح للعمل، والتوقيتَ والجزئيةَ التي يَوَدُّون الحصولَ فيها على تقييمٍ تقويمي من المدرس، والمَوعدَ النهائي لتسليم التقرير.

من الممكن أيضًا أن يُسمَح للطلاب باتخاذ بعض القرارات بخصوص درجات واجباتهم الدراسية. إذا كانت الاختبارات القصيرة أو الواجبات الدراسية المعتادة تمثِّل ٥ بالمائة من الدرجة، فقد يُسمَح للطالب بالاستعانة بها للحصول على نسبة ١٠ بالمائة أو أكثر من الدرجات، مع خصمِ نسبةٍ مساوية من الاختبارات النهائية أو اختبارات الوحدة. في مادة التدريس الجامعي التي أُدرِّسها لطلَّاب الدراسات العليا، يؤدِّي الطلاب خمسةَ واجبات دراسية مختلفة، ويمثِّل كلُّ واجب من هذه الواجبات نسبةَ ١٠ بالمائة من الدرجات، وأمنَحُهم الفرصةَ لتوزيع نسبة الخمسين بالمائة الأخرى على الواجبات الخمسة الدراسية، وأنصَحُهم أن يوزِّعوا النسبةَ بحسب تقييم الاحتياجات؛ فخلال خمس سنوات، ما الذي يتوقعون أنهم سيَحتاجون إلى معرفته بخصوص التدريس الجامعي؟ وعند وضع ذلك في الاعتبار، استطاعوا بكل سهولة تحديدَ أي الواجبات الدراسية ستُقدِّم لهم تلك المعرفةَ على أفضلِ نحو. وأفاد دوبرو وسميث وبوسنر (٢٠١١) بأن الاهتمامَ بالمادة والاهتمامَ بدراسة مواد أخرى في ذلك المجال زادا زيادةً كبيرة بالنسبة إلى الطلاب الذين استَطاعوا — في إطارِ نطاق محدد — تحديدَ درجةِ أهمِّ ثلاثة واجبات دراسية في مادة الإدارة بماجستير إدارة الأعمال، مقارَنةً بالطلاب الذين لم يُمنَحوا فرصةَ الاختيار هذه.

(٣-٢) القرارات الخاصة بسياسة المادة

لقد كتبتُ قليلًا عن الكيفية التي حدَّد بها طلابي سياسةَ المشاركة داخل قاعة الدراسة في مادة التواصُل اللفظي التي درَّستُها. اسمحْ لي هنا أن أُضيف المزيدَ من التفاصيل حول مدى نجاح هذا الأسلوب، وبعض الدروس التي تعلَّمتُها من هذه التجربة. لقد استعنتُ بأسلوب التَّعلُّم التعاوني المُرتبط بجدولٍ زمني محدَّد لجعل الطلاب يعملون على تحديد السياسة المُتَّبعة؛ حيث تعاوَنَ الطلاب في مجموعات مكوَّنة من أربعة أشخاص؛ بحيث أُعطِي كلُّ طالب سؤالًا مختلفًا متعلِّقًا بالمشاركة داخل قاعة الدراسة. هكذا، جعلتُهم يُجيبون عن أسئلةٍ مثل: ما السلوكيات التي ينبغي عدُّها سلوكياتٍ إيجابيةً تُضاف للدرجة المخصَّصة للمشارَكة؟ هل هناك سلوكيات تُضيف درجاتٍ أكثر؟ إذا كان الأمر كذلك، فما هي تلك السلوكيات؟ ما السلوكيات التي ينبغي أن تقلِّل من الدرجة المخصَّصة للمشارَكة، وكم عدد الدرجات التي ينبغي أن يخسرها الطالب إذا صدر منه هذا السلوك؟ طرح كلُّ طالب سؤالَه على جميع أفراد مجموعته، ودَوَّنَ ملاحظاته عن الإجابات، وفي الوقت نفسه أجاب كلُّ طالبٍ عن الأسئلة الخاصة بباقي الزملاء في مجموعته.

في الخطوة التالية، كوَّنَ جميع الطلاب الذين دَوَّنوا ملاحظاتهم عن نفس السؤال مجموعةً جديدة لمشارَكة الإجابات التي جمعوها. كانت مهمَّتهم هي تكوين إجابة جماعية تضمُّ أكثرَ الردود شيوعًا، وكذلك تجميع الأفكار الجيدة الأخرى التي دعمَتْها المجموعة. بعد ذلك، قدَّموا لي إجابتهم، وأتى ردِّي في المحاضرة التالية على هيئةِ مذكرةٍ صغيرة لكل مجموعة طرحتُ فيها أسئلة وطلبتُ منهم التوضيح. داخلَ كل مجموعة قدَّم الطلاب هذا التوضيح، ثم أفصَحوا عن إجاباتهم التي استفضْنا في مُناقَشتها، وربما يناقش الطلابُ هذا بمزيدٍ من الاستفاضة قبل أن يُجروا تصويتًا بقبول السياسة أو رفضها.

أولى المُفاجآت التي أدهشتْني هي ابتكارُ الطلاب عادةً سياساتٍ مُشابهةً جدًّا لتلك السياسات التي اعتَدْتُ استخدمَها لسنوات، على الرغم من وجود مفاجآت عَرَضية من حينٍ لآخَر؛ حيث اقترحتْ إحدى الفِرَق الدراسية أن تتساوى كلٌّ من الإجابات الصحيحة والخاطئة في الدرجات. كانت أول فكرة خطرت على بالي حينَها: أنا سعيدة لأنني لا أُدرِّس مادة الرياضيات على أيَّة حال. ثم قضيتُ وقتًا كبيرًا جدًّا أفكر فيما إذا كان بإمكاني التصديق على مثل هذه السياسة المريبة أم لا. شاركتُ شكوكي مع الفِرقة، وطلبتُ منهم أن يعطوني تبريراتهم. أقنعتْني إجابتان بأنني يُمكنني قبول هذه السياسة على مضضٍ، على الأقل خلالَ ذلك الفصل الدراسي؛ حيث فسَّر لي أحد الطلاب أنه إذا أجاب الطالب إجابةً خاطئة وحاوَلَ المعلم بكل جهده تصحيحَ تلك الإجابة أمام الجميع، فإنَّ هذا الطالب سيحتاج قدرًا كبيرًا من الشجاعة ليرفع يده مرةً ثانية. وأشار طالب آخَر، وهو أحد الطلاب المتألقين جدًّا الذي قد تحبُّه وتكرهه في آنٍ واحد، إلى أنَّ المعلمين يُكرِّرون على مسامع الطلاب قولَهم بأنه ينبغي لهم ألَّا يَخْشوا ارتكابَ الأخطاء؛ ذلك لأنه يُمكن تعلُّم الكثير من هذه الأخطاء؛ حيث قال: «الآن، إذا كنتُ سأرتكب خطأً أمام الفرقة، وستتعلَّم الفرقة كلها من هذا الخطأ، فإنه ينبغي إذَن أن أحصل على درجةٍ لقيامي بذلك.» ولقد اقتنعتُ بوجهةِ نظره فعلًا.

توضِّح صياغة هذه السياسات عادةً إلى أي مدًى يرغب الطلاب في إعادة السلطة إلى المعلم مرةً أخرى، وذلك عن طِيب خاطر منهم. في البداية، اقترحوا سياساتٍ تتَّسم بالإبهام حتمًا، على غرار: «ينبغي أن يحصل الطلاب على درجاتٍ تقديرًا لمُحاوَلتهم.» وعندما اعترضتُ متسائِلةً عن كيف يتسنَّى لي أن أحدِّد ما إذا كان الطالب يحاول فعلًا، فأجابوا على الفور قائلين: «أنتِ ستُقرِّرين، أنتِ المعلمة.» حاولتُ أن أفهمهم قائلةً: «أنتم تريدونني أن أقرِّر؟ حسنًا، يمكنني أن أقوم بذلك، ولكنْ دعوني أخبركم بشيء: في كل فصل دراسي، يَدْرُس معي هذه المادة مُهندسون ولم أرَ أحدًا منهم حاوَلَ المشاركة قطُّ، والآن أقول لكم: إنه لم يحصل أحد من هؤلاء المهندسين على درجةٍ تقديرًا لمُحاوَلته.» فاعترضوا ببراءةٍ قائلين: «لا يُمكنكِ فعل ذلك؛ أنتِ معلِّمة، يجب أن تكوني عادلة.» عند تلك النقطة، رأى بعضهم إلى أي مدًى قد يحميهم تحديدُ السياسات.

يكاد الطلاب يطلبون دومًا ألَّا يختار المعلم أحدًا إلا المتطوعين فقط، وهذا أيضًا أدهشني وحفَّزني على التفكير بجدية فيما يُشار إليه في الأدبيات التربوية باسم «الاختيار القسري». لماذا يختار أعضاء هيئات التدريس طلابًا لا يتطوَّعون بأنفسهم للإجابة؟ أحيانًا تكون هذه هي الطريقة الوحيدة لجعل الطلاب يُشاركون، أو ربما تكون أيضًا طريقةً للتعامل مع مُشكلة فرط المشاركة؛ أقصد التعامل مع هؤلاء الطلاب القليلين الذين يتطوَّعون للإجابة عن أي سؤالٍ وكل سؤالٍ يُطرَح داخل قاعة الدراسة. وجد هاورد وشورت وكلارك (١٩٩٦) أن ٢٨ بالمائة من الطلاب شاركوا بالإدلاء بنسبة ٨٩ بالمائة من التعليقات في ٢٣١ محاضرة حضروها بهدف الدراسة. وفي دراسة أخرى، أفاد هاورد وهييني (١٩٩٨) أن متوسط ٣١ مشاركة من جانب الطلاب لُوحِظت في المحاضرة الواحدة، وكانت ٢٩ مشاركة (أي ٩٢ بالمائة) من جانب خمسة طلاب فقط.

وعند سؤال أعضاء هيئات التدريس، قال معظمُهم إنهم يَختارون الطلاب قسرًا؛ لأنهم يحاولون تشجيع المشاركة، فإذا «شُجِّع» الطلاب عن طريق إجبارهم على التحدُّث عندما يُحجِمون عن التطوع؛ فإنهم يُدركون أن باستِطاعتهم المشاركة، وهذا سيُحفِّزهم على التطوع. ولقد بحثتُ على مدار سنوات عن دراسةٍ أُجرِيت على المشاركة داخل قاعة الدراسة، وحاولتُ أن أجد دراسةً تُثبِت هذا الافتراض، لكنْ حتى الآن لم أعثر على واحدة. بدلًا من ذلك، أظنُّ أن ما يتعلمه الطلاب من هذه الممارسة المتَّبعة في التدريس هو كيف يُعبرون عن آرائهم على الملأ حين يقع عليهم الاختيار. وللأسف، لن يَجدوا في حياتهم المهنية معلمًا يختارهم قسرًا، حتى إنْ كانوا بحاجةٍ إلى التعبير عن رأيهم على الملأ.

ولقد قادني الاستِغراق في التفكير إلى التساؤل عمَّا إذا كان الاختيار القسري يُفيد المعلمين أكثر من الطلاب، فمِن المزعج والمُربِك أن تطرح سؤالًا ولا تجد أحدًا يريد الإجابة؛ حيث يبدو الأمر وكأنه إهدار للوقت، على الرغم من أن أعضاء هيئات التدريس لا يَنتظرون طويلًا؛ ومن ثمَّ يكون الوقت المهدر محدودًا جدًّا. وقد يبدو الأمر أيضًا أشبه بتهديد مُستتر لسُلْطة المعلم داخل قاعة الدراسة، وكأن الطلاب يقولون: دعونا لا نُجيب عن السؤال ونرى كيف يتعامل المعلم مع الأمر. ولكنْ بمجرَّد أن يختار المعلم أحد الطلاب قسرًا للإجابة عن السؤال، فإنه بذلك يضع حدًّا للمشكلة؛ فهو الآن يُلقِي بالضغط على كاهل الطالب لكي يَبتكِر إجابة.

ولقد لاحظتُ أيضًا (وبكلِّ سرور) أن معظم السياسات التي استحدثَها الطلاب في محاضراتي تُناقِش مسألةَ الإفراط في المشاركة؛ حيث اقترحوا السماحَ بمشاركة «الكثيرين»، ولكنْ مع عدم السماح ﺑ «الإفراط في المشاركة». وقد أشرتُ إلى أن الأشخاص الذين يُفرِطون في المشاركة داخل قاعة الدراسة (وفي أي مكان آخَر) لا يعرفون عادةً أن لديهم مشكلة؛ ومن ثَمَّ نحن بحاجةٍ إلى توضيح الأمر حين يمثِّل مشكلةً بالفعل. وطرحت سؤالًا: ما عدد المشاركات التي تصل إلى حد الإفراط في محاضرةٍ مدتها خمس وسبعون دقيقة؟ وللإجابة عن هذا السؤال طرَحَ الطلابُ رقمًا اعتباطيًّا أدرجناه في السياسة. كان تأثيرُ ذلك مهولًا للغاية؛ فعلى إثر هذه السياسة، لاحظتُ أنَّ المُفرِطين في المشاركة يتتبَّعون عددَ المرات التي شاركوا فيها، وهذا بالضبط نوعُ مُراقبةِ الذات الذي يجب أن يَحْدث، وأتمنَّى تنفيذَ هذه السياسة في اجتماعاتِ لجنةِ أعضاءِ هيئات التدريس أيضًا.

ثمَّة مفاجأة أخيرة: إنَّ استحداث سياسات للمشاركة يجعل الطلاب أكثر وعيًا بآلية المشاركة داخل قاعة الدراسة؛ إذ يَشرع الطلاب في التفكير في المشاركة من حيث السلوكيات؛ مثل: طرح الأسئلة، والإجابة عن الأسئلة، وطرح أسئلة المُتابَعة، وردِّ بعض الطلاب على بعض، وتقديم الأمثلة. بدا الأمر وكأنه أشبهُ برؤيةِ المشاركة في موضع التطبيق لأول مرة. ومرةً أخرى أكرِّر أنني لا أرغب في التلميح بأنه كانت هناك حالة من المشاركة المثالية تخيِّم على أرجاء قاعاتي الدراسية؛ فالأمرُ لم يكن كذلك على أي حال؛ فلم يزل هناك طلابٌ لا يتفوَّهون أبدًا بكلمة (ضعْ في الاعتبار أن هذه مادةُ تواصُل)، ولم تزل هناك أسئلةٌ لم أحصلْ لها على إجابةٍ من أحد، ولم تزل هناك تعليقاتٌ بعيدة عن موضوع النقاش. وعلى الرغم من ذلك، تحسَّنَ الوضع في محاضراتي إثرَ هذه المُحاوَلة لإعادة توزيع السلطة. ويَذكر وودز (١٩٩٦) نتائجَ متشابهةً في فرقةٍ ذات مستوًى متقدم لدراسة مادة الهندسة؛ حيث سمح للطلاب أن يُصمِّموا الأداةَ التي يستخدمونها لتقييم مشاركاتهم في المناقشات التي تجري داخل قاعة الدراسة.

ولا تُعدُّ المشاركة في قاعة الدراسة هي السياسة الوحيدة التي يُمكن أن يُمنَح فيها الطلاب فرصةَ الابتكار؛ فلقد طوَّر بنجامين (٢٠٠٥) تمرينًا يجعل الطلاب يَصيغون أهدافَ المادة، التي أدمَجَها فيما بعدُ مع أهدافه. ويسجِّل ديكولمنتي وهاندلسمان (٢٠٠٥) تجاربهما فيما يتعلَّق بالسماح للطلاب بوضعِ سياساتِ إدارةِ قاعة الدراسة في عدد من التخصُّصات. في البداية، جعلا الطلاب يَقترحون السياسات، ثم يُقرِّر المعلم فيما بعدُ ما إذا كان سيَقبلها أم يرفُضها أم يعدِّلها، كوسيلة للوقاية من أن يقترح الطلاب شيئًا غير مناسب. ومن المثير للدهشة أن سياسة الطلاب كانت تتَماشى مع سياستهما، لدرجة أنهما في مرحلةٍ ما أسقطا من حساباتهما موافَقةَ المعلم على السياسة التي وضَعها الطلاب.

وحتى الاختيار القسري لم يَعُدْ بمنزلةٍ استراتيجية إمَّا أن تتبناها تمامًا أو ترفضها تمامًا؛ فلقد ابتكر ويلتي (١٩٨٩، ص٤٧) مصطلحًا أطلَق عليه الاختيار «المحسوب»؛ فقبل أن يبدأ المحاضرة، يطرح سؤالًا ويُخبر ثلاثةَ طلاب بأنه يودُّ منهم أن يَشْرعوا في نقاشِ إجاباتِ هذا السؤال. إن التعامل أولًا مع إخطارات قاعة الدراسة وغيرها من التفاصيل اللوجِسْتيَّة يُتيح للطلاب بعض الوقت للتفكير فيما قد يُجِيبون به كردٍّ على السؤال. إنه مثالٌ آخَر على منْح الطلاب قدرًا من السيطرة، وفرصةً لتحسين إجاباتهم.

(٣-٣) القرارات الخاصة بمحتوى المادة الدراسية

عندما أتحدَّث مع أعضاء هيئات التدريس عن إشراك الطلاب في اتخاذ القرارات المتعلقة بعملية تعلُّمهم، فإن فكرة السماح لهم باتخاذ قرارات متعلِّقة بمحتوى المادة تَلْقى رفضًا قويًّا؛ فأعضاء هيئات التدريس يعرفون الكثير جدًّا عن المحتوى، أما الطلاب فمعرفتُهم محدودة جدًّا؛ لدرجةِ أنني أتساءل حاليًّا: أليس هذا هو السبب الذي يبدو لأجله إعطاءُ الطلاب فرصةَ إبداءِ رأيهم في المحتوى الدراسي تصرُّفًا غيرَ مقبول تمامًا. هذه الأحاسيس لا يُقوِّيها سوى حجم المادة العلمية التي تُغطِّيها مناهجُنا؛ فلا يمكن حذف جزء منها، وبالطبع ليس هناك وقتٌ لإضافة موضوعات أخرى حتى حين يُظهِر الطلاب اهتمامًا بهذه الموضوعات.

وعلى الرغم من ذلك، فإننا ندع الطلاب يتَّخذون بعض القرارات المتعلقة بالمحتوى بالفعل؛ حيث إننا نسمَح لهم باختيارِ موضوع الخُطَب التي يُلقونها، واختيارِ موضوعات أعمالهم الفنية، وكتابةِ مقالاتهم، بل الأبحاث العلمية الكبرى أيضًا، حول المُحتوى الذي يَرغبون في استكشافه، وبعضُ المعلمين يُتيحون للطلاب الاختيار من بين مجموعة قراءات. وتوجد احتمالات أخرى للقرارات الصغيرة المتعلقة بالمحتوى، والتي تتَّسم بعدم إهدار الوقت. كنتُ أعرف معلمًا يسمَح لطلابه بتحديد الموضوعات التي ستُغطَّى أثناءَ محاضرة مراجعة الامتحانات. وتُسهِّل رسائل البريد الإلكتروني للطلاب تحديد الموضوعات المتوقَّعة. عندما بدأت الاستعانة بهذه الاستراتيجية لأول مرة، فعلتُ ذلك بهدف التحول إلى أسلوبٍ يتمركز أكثر حول المتعلم. واكتشفتُ أنها أيضًا آلية ممتازة للتقييم؛ فعن طريقها تَعرِف أي الموضوعات التي يَعتقد الطلاب أنها ذات أهمية، وتَعرف أجزاء المحتوى التي يتشكَّك الطلاب في استيعابها بالكامل.

يُناقش الفصل السابع عدة استراتيجيات يَستعين بها أعضاءُ هيئات التدريس لإشراك الطلاب في وضع أسئلة الاختبارات، وهذه الآليةُ للمُراجعة تشجِّع الطلابَ على التركيز على الأسئلة، بدلًا من التركيز على الإجابات. إنَّ طلابي يتذكَّرون المعلومات بكل أنواعها، إلا أنهم يَعجزون عادةً عن ربط الإجابة بالسؤال. وإذا كان تمرينُ وضع أسئلة الامتحانات يَشتمل على عنصر التقييم، فإنه سيُساعد الطلاب أيضًا على الإجابة بأنفسهم عن السؤال المتكرِّر: «ما الذي أحتاج إلى معرفته من أجل الاختبار؟» وإذا ما انتهى الحال بمَجيء بعض الأسئلة التي ابتكَرَها الطلاب (أو صِيَغ مختلفة من هذه الأسئلة)، فإن هذا يَمنح الطلابَ شعورًا بالسيطرة بعض الشيء؛ ومن ثَمَّ يتحوَّل إلى تمرينٍ يأخذونه بجدية شديدة.

ويمنَح بلاك (١٩٩٣) الطلاب مزيدًا من السيطرة على المُحتوى الخاص بمنهج مادة الكيمياء العضوية المُعدَّل؛ فالمحتوى «تتمُّ تغطيته» داخل الكتاب الدراسي؛ بمعنى أنه لا يعطي محاضراتٍ عن الموضوعات المشروحة في الكتاب. ويصف بلاك ما يحدث في قاعة الدراسة قائلًا: «حاليًّا، أصبحَتِ المُحاضَرة تُدار على نحوٍ أشبه كثيرًا بجلسات المناقشة … بوجهٍ عام، أطلب من الطلاب في بداية كل محاضرة أن يحدِّدوا ما يُمثِّل صعوبةً بالنسبة إليهم، وما يُريدون التحدُّثَ عنه. ومِن مقترحاتهم، نَعدُّ قائمةً بالموضوعات، وخلال المحاضرة أحاولُ التعامُلَ مع المشكلات التي يُواجهونها بخصوص هذه الموضوعات، ربما عن طريق التوضيح والشرح، أو تقديم الأمثلة، أو أي شيء آخر يُمكنني تقديمه للمساعدة» (ص١٤٢). إذا بَدَا هذا وكأنه أشبه بوصفة لوقوع كارثة، فحينئذٍ يردُّ بلاك بأن هذا لا يحدث، قائلًا: «من المثير للدهشة أن الفوضى لا تخيِّم على المحاضرة حين أدخل وأسأل الطلاب عما يريدون التحدُّث عنه؛ لأن الموضوع يدور في سياق الفصل الحالي، والجدولُ المخصَّص للعمل على هذه الفصول موضَّحٌ بخطة المنهج الدراسي، فحضورُ المحاضرات كلَّ يوم بمنزلة مُتعة، ودائمًا تتَّسِم المحاضرات بالاختلاف نوعًا ما. في المحاضرات، أشعُر بالاسترخاء وأستمتِع بالوقت، وهذا يتَّضح للطلاب؛ فلا أشعرُ بأيِّ ضغوطٍ من جرَّاء خوضِ سباقٍ محموم لتغطية المادة العلمية؛ وإنما نعمَل معًا على ما يَنشغلون بالعمل عليه في الوقت الحالي» (ص١٤٤).

يَصف تيشينور (١٩٩٧) كيف شارَكَ الطلاب في التصميم الخاص بالمعامل في مادة علم الوظائف، وقد ألقى الفصلُ الثاني الضوءَ على دراسةٍ (تيل، وبيترمان، وبراون، ٢٠٠٨) وقد أُجريت على مادة الرياضيات؛ حيث يلتقي المعلمُ بالطلاب داخلَ قاعة الدراسة مرةً واحدةً في الأسبوع، وتُعقَد باقي المحاضرات في المعمل؛ حيث يعمل الطلاب على حلِّ المسائل. هؤلاء الطلاب لا يُحدِّدون المسائلَ التي سيعمَلون على حلِّها، وإنما يُحدِّدون المحتوى الذي تتمُّ تغطيتُه في تلك المحاضرات؛ وذلك عن طريق تحديدِ المسائلِ التي لا يَستطيعون حلها، والحلولِ التي يتشكَّكون فيها، والأسئلة التي يَحتاجون إلى إجابة لها.

في بعض المواقف يستطيع الطلاب اتخاذ قرارات مهمَّة بخصوص محتوى المنهج الدراسي. تُعدُّ مادةُ التدريس الجامعي التي أدرِّسها إحدى مواد الدراسات العليا، ولكنها ليست مطلوبةً في أي برنامج آخَر للدراسات العليا، وهذا يعني أنني لستُ مقيَّدةً بأي قسمٍ لتغطية موضوعات معينة. ولقد ابتكرتُ قائمةً طويلة بالموضوعات والقراءات المرجَّحة للمادة الدراسية. وبالنسبة إلى أول واجب دراسي، يكتب الطلابُ مقالًا قصيرًا عن سبب دراستهم لهذه المادة، وما يأمُلون تعلُّمه، وما المحتوى الذي يَعتقدون أنه سيُساعدهم على تحقيق أهدافهم التعليمية. يتَشارك الطلاب هذا المقال مع الزملاء، ثم يَبتكرون قائمةً بالموضوعات المرجَّحة. وتُرتِّب المجموعاتُ والأفرادُ الموضوعاتِ بحسب الأولوية، ثم أستعين بقوائمهم لتحديد الموضوعات التي ستتمُّ تغطيتُها في المادة الدراسية، وأضع جدولًا، وأجمع القراءات ذات الصِّلة بالموضوعات محل الاهتمام والدراسة. وإذا استبعدَتِ الأغلبيةُ موضوعًا يهتمُّ به أحد الطلاب، أُشجِّع ذلك الطالب على الاستعانة بأحد واجباته الدراسية لاستكشاف هذا الموضوع ليَدرُسه باستفاضة.

(٣-٤) أنشطة التقييم

يعدُّ التقييم تحديًا آخَر على الساحة التعليمية لإشراك الطلاب في عملية اتخاذ القرار، فلطالما كان تقييمُ عملية التَّعلُّم حِكْرًا على أعضاء هيئات التدريس وحدهم، كما أنَّ الضغطَ الذي يُعانيه الطلاب من أجل الحصول على الدرجات يؤثِّر بالسلب على قدرتهم على التحلِّي بالموضوعية حيال تقييم عملهم. وعلى الرغم من ذلك، ثمَّة طرق لإشراك الطلاب في تقييم عملهم وأعمال زملائهم، والفصلُ السابع مخصَّص لمناقشة هذا الموضوع؛ حيث يحتوي الفصل على مجموعة متنوعة من الأمثلة، كما يناقش أيضًا المشكلات المُتَضَمَّنة.

تُشرِك عدةُ أنشطة — مُرتبطة بخطة المنهج الدراسي — الطلابَ إشراكًا متزامنًا مع عملية اتخاذ القرارات المتعلقة بالواجباتِ الدراسية، وأنشطةِ المادة الدراسية، والسياساتِ المرتبطة بها، والمنهجِ الدراسي، واستراتيجياتِ التقييم. وهذه الأنشطة مقدَّمة هنا على هيئةِ ملخَّصٍ لبعض الطرق التي يُمكن بها إعادةُ توزيع السلطة داخل قاعة الدراسة. يسمح جونسون (٢٠٠٠، ص١) للطلاب بمُساعدته في تصميم خطة المنهج الدراسي للمادة. ويُعِدُّ جونسون خطةَ المنهج الدراسي قبل بدء المُحاضَرة، ثم يوزِّع الخطةَ في اليوم الأول للدراسة، ولكنه يَكتب في الجزء العلوي من الصفحة الأولى كلمة «مُسوَّدة» بالخط العريض. ويبدأ المُحاضَرةَ بجعل الطلاب يُجْرُون مقابلةً شخصيةً بعضهم مع بعض ليتحدَّثوا عما يرغبون في دراسته في هذه المادة، ويتَشاركون فيما يقوله الآخَرون، ويدوِّن جونسون ما يسمعه من الطلاب. ثم يجتمع الطلاب في مجموعات صغيرة وفي أيديهم مُسوَّدةُ خطةِ المنهج الدراسي ليُجيبوا عن هذا السؤال التشجيعي: «بناءً على احتياجاتكم الخاصة، ونتائج مقابلاتكم الشخصية، والتزامي بإدراج إسهاماتكم، كيف تَودُّون تعديلَ المادة الدراسية؟» فالطلابُ مُرحَّب بهم لتقديم التعديلات على أي جزء من أجزاء خطة المنهج الدراسي. ويُفيد جونسون بأن الطلاب قدَّموا مجموعة متنوعة من المقترحات، والعديدُ من هذه المقترحات كان ممتازًا. «لا أستطيع أن أتذكر حالةً واحدةً حاوَلَ فيها الطلاب الاستِسهالَ للخروجِ من هذا الموقف أو إضعاف فاعلية المادة الدراسية» (ص١). ويدرس جونسون بعنايةٍ إسهاماتهم، ويُعدِّل خطةَ المنهج الدراسي بحيث يتضمَّن أكبرَ عدد ممكن من مقترحاتهم. وهذا مثال رائع على إشراك الطلاب في عملية اتخاذ القرارات بخصوص المادة الدراسية، وفي الوقت نفسه يحافِظ على القدر الكافي من سُلطة المُعلِّم لضمان نَزاهة المادة الدراسية.

منذ صدور الطبعة الأولى لهذا الكتاب عام ٢٠٠٢، ظهرت أمثلةٌ أخرى على الأنشطة المُرتبطة بخطة المنهج الدراسي في الأدبيات التربوية؛ إذ تُعطي سوزان هَد (٢٠٠٣) طلابَها في مادةِ مدخل إلى علم الاجتماع «الخطوطَ العريضة» لخطة المنهج الدراسي، التي تَحتوي على الموضوع المطلوب دراسته كلَّ أسبوع، إلى جانب النصوص والقراءات الإضافية. لا تحتوي خطةُ المنهج الدراسي على أي واجبات دراسية؛ فالمطلوبُ من الطلاب هو أن يُشكِّلوا مجموعاتٍ مهمتُها ابتكارُ الواجبات الدراسية. «في حين أنَّ الطلاب نادرًا ما يقترحون أفكارًا مبتكَرةً (مثل: اختبار جماعي داخل قاعة الدراسة)، فإنَّ الأغلبية العظمى للواجبات الدراسية تقليدية إلى حدٍّ ما، وتركِّز المناقشاتُ على التفضيلات الخاصة بالاختبارات أو الأبحاث أو العروض التقديمية الشفَهية، بالإضافة إلى توقيت تقديم كل هذه الواجبات الدراسية وأهميتها» (ص١٩٨). ويَزخر مقال سوزان هَد بالتفاصيل المرتبطة بتصميم النشاط وتنفيذه. وكان رد فعل الطلاب «إيجابيًّا بشدة»، وتَذكُر هَد أن النشاط ينمِّي الطلاب من جوانب أخرى، كما يتَّضح من تعليق أحد الطلاب: «كان الأمر أشبه بمَنْحنا السُّلطة، وهو أمر مختلف؛ فبدلًا من دخول قاعة الدراسة وتلقِّي جدول أعمال، نصنَع نحن جدولَ أعمال خاصًّا بنا» (ص٢٠٠).

تحدَّت لورا جيبسون (٢٠١١) طلابَ الفرقة الثانية المسجَّلين لدراسةِ مادةِ علم اجتماع الشيخوخة أن يُصمِّموا المنهجَ الدراسي؛ بحيث تكون المادة ذات مغزًى شخصيٍّ هادف بالنسبة إليهم. وتوضِّح لورا جيبسون في مقالها أن البعض قد يَزعمون أن منح الطلاب السُّلطةَ لوضع أهداف المادة يُخِلُّ بنزاهة المنهج الدراسي. غير أنه بسبب تجربتها، تؤمن أن «من الممكن الوفاء بالشروط الأكاديمية وشروط الحصول على درجة علمية، وتمكين الطلاب، وتحقيق النتائج التعليمية في الوقت نفسه» (ص٩٦). ومن الناحية اللوجستية، قدَّمت للطلاب خمسين هدفًا ممكنًا لدراسة المادة، واثنين وعشرين واجبًا منزليًّا مختلفًا (جميعها مُدرَج في المقال)؛ بينما حدَّد الطلاب المواعيدَ النهائية لتسليم الواجبات الدراسية، ورتَّبوا أولوياتها اعتمادًا على أهميتها بالنسبة إليهم. ثم حدَّدت لورا جيبسون أهميةَ هذه الواجبات الدراسية بناءً على الأولوية التي منحها الطلاب لهذه الواجبات. ومرةً أخرى كان ردُّ فعلِ الطلاب إيجابيًّا للغاية.

وأخيرًا، تحدَّث مينز ولونج وفيلتون (٢٠٠٨) عن تجربة إشراك الطلاب في إعادة تصميم أحد المناهج الدراسية المعنيَّة بمرحلة التعليم الأساسي، وهو منهجُ مادةٍ غير مُستحَبَّة إلى حدٍّ كبير؛ حيث شارَكَ كلٌّ من الطلاب وأعضاء هيئة التدريس معًا في تشكيلِ لجنةٍ اضطلعَتْ بتنفيذِ مشروعِ إعادةِ تصميم المنهج الدراسي، وكتبوا يقولون: «تساءلنا عما إذا كان طلابُ المرحلة الجامعية يتمتَّعون بالخِبرة التربوية والمعرفة التخصُّصية الكافية للمشارَكة في تصميمِ منهجٍ جامعي بالكامل. كما أنَّنا تساءلنا عما إذا كنا على استعدادٍ للتخلِّي عن سيطرتنا على عمليةِ إعادةِ هيكلةِ السلطة داخل قاعة الدراسة … كنا على يقينٍ من أننا لا بد أن نمتلك رغبةً حقيقية في مشاركة السلطة مع الطلاب، وليس مجرد الدعوة بألسنتنا إلى المشاركة والتعاون دون التحرُّك قَيْد أُنْملة لتحقيق ذلك. فهل كنا فعلًا مُستعِدِّين للاستعانة برأي الطلاب إذا ما اختلفنا معهم في الرأي؛ وهل ينبَغي لنا فعل ذلك حقًّا؟» (ص٢). أجابَتْ تجربتُهم عن كل هذه التساؤلات بالإيجاب، ويصف المقالُ الأسلوبَ الذي استعانوا به لابتكارِ خطةِ منهجٍ دراسي للمادة الجديدة، كما أنه بحَثَ المشكلاتِ التي تضمَّنها هذا النوع من الأنشطة القائمة على تقاسُم السُّلْطة.

(٤) مشكلات التطبيق المثيرة للاهتمام

أحد أهمِّ الأسئلة المتعلقة بالتطبيق هو سؤالٌ سعى هذا الفصل إلى الإجابة عنه: هل يُمكن تصميم مجموعة من الأنشطة والخِبرات التعليمية لتمنَح الطلابَ مزيدًا من السيطرة على القرارات التي تُؤثِّر على عملية تعلُّمهم؟ وإنْ كنتَ تسعى لمعرفة الإجابة عن هذا السؤال، فأنا أُشجِّعك على مناقَشةِ الأمثلة الواردة في هذا الفصل ودراستها باستفاضة.

في ضوء التجارب المستخدَمة كأمثلة توضيحية في هذا الفصل، تَظهَر لنا ثلاثةُ أسئلة أخرى؛ أَلَا وهي:
  • (١)

    ما مقدارُ السُّلْطة الكافي لتحفيز الطلاب؟

  • (٢)

    ما مقدارُ القرارات التي يكون الطلاب على استعدادٍ للتعامل معها؟

  • (٣)

    كيف يَعرف المعلِّمون أنهم قد أخلُّوا بالمسئولية التربوية المخوَّلة لهم؟

لم يكن لديَّ في أثناء تأليف الطبعة الأولى من هذا الكتاب إجابات واقعية، ومنذ ذلك الحين، كنتُ آملُ أن تُتاح إجاباتٌ أفضل خلال تلك السنوات، إلا أنه لا يزال يتعيَّن على الأبحاث التربوية، المعنِيَّة بالتدريس المُتمركِز حول المتعلم، الإجابةُ عن هذه الأسئلة إجابةً موضوعية بالرغم من أهميتها.

(٤-١) ما مقدارُ السلطة الكافي لتحفيز الطلاب؟

إذا كان التمتُّع بالسلطة (حيال اتخاذ القرارات كما يَقترح هذا الفصل مثلًا) يحفِّز المتعلمين، فما مقدار السلطة التي يستلزمها هذا الأمر؟ بالنسبة إلى المُحاضِرين الذين يستعينون بهذه الأساليب، يُمكن الإجابة عن هذا السؤال بطريقة عملية؛ حيث بإمكانهم أن يمنَحوا الطلابَ سلطةً تقديرية لاتخاذ القرارات، ويلاحظوا مدى تأثير الحافز لديهم على التعلُّم، وتوقيت حدوث هذا. وتشير بعض الأبحاث، التي ألقى الفصل الثاني الضوءَ عليها، إلى الإجابة؛ حيث تُسجِّل عدة دراسات درجاتٍ أفضلَ (وهو ما يوحي بتحقيق المزيد من التَّعلُّم) وتوجُّهاتٍ إيجابيةً أكثر كنتيجة لمنحِ قدرٍ مُتواضع جدًّا من السلطة التقديرية لاتخاذ القرارات (مثال على هذه الأبحاث: أرمبروستر وباتل وجونسون وفايس، ٢٠٠٩؛ جيه بي بي براون، ٢٠١٠؛ إس دي براون، ٢٠١٠؛ جوسر وكامبماير وفارما-نيلسون ٢٠١٠). وهذا ما شهدتْه تجربتي أيضًا بكل تأكيد. ولكننا بحاجة إلى ما هو أكثر من مجرد إجابات فردية؛ فنحن بحاجةٍ إلى مبادئ وخطوط إرشادية يمكن الاستعانة بها لتحديد معايير ومواصفات مِهَنية.

والسؤالُ الخاص بمقدار السلطة المتعلقة باتخاذ القرارات التي تحفِّز طالبًا واحدًا مرتبطٌ بسؤال عن الفترة الزمنية التي تستلزم إحداثَ تأثيرٍ إيجابي في الفِرقة ككل. شعرتُ وكأنني أعدتُ توزيعَ القدر الكافي من السلطة لتحفيز معظم الطلاب، ولكنْ لم يؤثر هذا القدر تأثيرًا إيجابيًّا على جميع الطلاب؛ فلا يَزال هناك طلاب يَرسُبون في المواد التي أدرِّسها، ويختارون عدم بذل الجهد، أو يَبذُلون قدرًا ضئيلًا من الجهد، لدرجةِ أنهم لا يتعلَّمون القدرَ الكافي الذي يجعلهم يجتازون المادة. وجدتُ نفسي أتساءل عما إذا كانوا بحاجةٍ إلى المزيد من السلطة، أم تراني أعطيتُهم قدرًا مفرطًا من السلطة، أم أنهم رسبوا بسبب عواملَ لا علاقةَ لها تمامًا بمشكلات السلطة والسيطرة؟

أدَّى هذا المأزق إلى التساؤل عما إذا كان من الممكن منح الطلاب سلطةَ اتخاذِ القرارات على نحوٍ غير متساوٍ، فهل يمكن منح بعض الطلاب قدرًا أكبر من السلطة، ومنح البعض الآخَر قدرًا أقل، أم أنَّ هذا سيُخِلُّ بمبادئ المعامَلة العادلة والمُنصِفة المكفولة لجميع الطلاب؟ والأهم، هل هذا ممكنٌ من الناحية العملية، مع الوضع في الاعتبار عدد الطلاب في معظم الفِرَق الدراسية؟

(٤-٢) ما مقدارُ القرارات التي باستطاعة الطلاب التعامل معها؟

يجب أن يكون هناك توازُنٌ بين مقدارِ القرارات اللازمِ لتحفيز الطلاب، وبين نُضْجهم الفكري وقدرتهم على العمل في ظل ظروفٍ يتمتَّعون فيها بمزيدٍ من الحريات ومزيدٍ من المسئوليات كذلك. والسؤال هنا: كيف يحدِّد المعلمون بموضوعيةٍ أي القرارات يكون الطلابُ على استعداد لاتخاذها اعتمادًا على أنفسهم، وأي القرارات يحتاجون فيها إلى توجيه المدرِّس وتقييمه؟

وهذا السؤال مهمٌّ لأنَّ الطلاب غير مُستعدِّين جيدًا لاتخاذ قرارات بخصوص عملية التَّعلُّم، وعادةً ما يُسارِع المُعارضون لأساليب التدريس المُتمركِز حول المتعلم بالإشارة إلى هذا السبب. وحتى فيما يتعلَّق بتلك الجوانب التي يُسيطرون عليها بالفعل، مثل تحديدِ طريقةِ الاستعداد لخوض الاختبارات، لاحَظَ مُعظم المعلمين أدلةً على ضَعْف اتخاذ القرارات. في مادة التواصُل اللفظي والحلقات الدراسية المخصَّصة للفرقة الأولى خاصَّتي، التقيتُ بطلابٍ كانوا يُعدُّون خطةَ أداءٍ للاختبار التالي، واشتملتْ هذه الخطة على إطارٍ زمنيٍّ وقائمةٍ بالأنشطة التي استعانوا بها للاستعداد لخوض الاختبار، ولطالما كنتُ أتفاجأ بعدد الطلاب الذين يُخبرونني بأنها المرة الأولى التي يَضعون فيها مثل هذه الخطَّة، ولطالما أحبَطَني عددُ الطلاب الذين أفادوا بعد أداء الاختبار بأنهم لم يَتَّبعوا أيَّ جزء من خطة الأداء، وفعلوا ما اعتادوا فعْلَه؛ أي انتظروا حتى ليلة الامتحان، ثم حاوَلوا تعلُّم (أو بالأحرى حفظ) كل شيء يظنُّون أنهم بحاجةٍ إلى معرفته.

بالإضافة إلى افتقارهم للمهارات الدراسية الجيدة، يَمتلك الطلاب قدرًا قليلًا جدًّا من الخبرة بخصوص اتخاذ القرارات المُرتبطة بعملية تعلُّمهم؛ فهم مُعتادون على تجارب تعليمية يقرِّر فيها المعلمون كلَّ شيء، بدايةً من طول صفحة كل ورقة بحثية وحتى ما إذا كان الطالب يتمتَّع بالمَلَكة الفكرية التي تؤهِّله للتخصُّص في مجال معين.

فمن دون مهارات دراسية قوية وتجارب سابقة في اتخاذ القرار، تزدادُ احتمالات اتخاذ الطلاب (لا سيما المستجدِّين منهم) قراراتٍ سيئة. فهل ينبغي للمُعلمين أن يتركوا الطلاب يتخذون بعض القرارات السيئة على أمل أن يتعلَّموا منها؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما نوعية هذه القرارات؟ إنني أحظى، في كل فصل دراسي تقريبًا، ببعض الطلاب الذين يُشاركون بانتظامٍ في محاضرات التواصُل اللفظي خاصتي، ولكنهم لا يختارون النشاطَ المتعلق بتحديدِ واجباتهم الدراسية. وعندما أشير إلى أن إسهاماتهم هي بالضبط ما تنادي به السياسةُ المتَّبعة لدراسة المادة، بمعنى أن بإمكانهم الحصول على درجاتٍ بناءً على ما يقومون به، فإنهم يكونون على استعدادٍ دومًا للاعتراف بأنهم ارتكبوا خطأ. لا أتيح لهم هذا الاختيارَ بعد الاعتراف بهذه الحقيقة، ولكنْ ربما يَجدر بي أن أتيح لهم هذا الاختيار.

إن عددًا قليلًا من الأخطاء التي يرتكبها الطلاب في مادَّتي له عواقب خطيرة؛ كان لديَّ طالب رسَب في المادة لأنه كان بحاجةٍ إلى خمس وعشرين درجة لاجتياز المادة، وعندما جاءني في مكتبي مُتفاجئًا ومحبطًا، سألته قائلة: «كم عدد الدرجات التي حصلتَ عليها؟» فأجابني قائلًا: «لا أعرف، لم أحسب الدرجات بَتَاتًا، ولكنْ لو عرفتُ أنني يَنقصني درجات، لَكنتُ بذلتُ المزيدَ من الجهد.» جعلتني هذه التجربة أتساءل عما إذا كان يتعيَّن عليَّ توزيعُ إجمالي عدد الدرجات على الطلاب خلال الفصل الدراسي؛ حيث لم أظنَّ أن هذا الأمر كان ضروريًّا؛ لأنني أعطيتهم جدولًا يحتوي على درجاتِ كلِّ واجب دراسي، وفي كل مرة أعدُّ لهم واجبًا دراسيًّا أُذكِّرهم بأنهم إذا ما تتبَّعوا درجاتهم، فإنهم سيَعرفون موقفهم بالضبط من التحصيل الدراسي للمادة، ومعظمُ الطلاب لا يواجهون مشكلةً مع هذا النظام. في الواقع، يخبرني الطلاب باستمرار إلى أي مدًى يناسبهم هذا النظام؛ فمستوى أدائهم في المادة الدراسية ليس لغزًا غامضًا، وهذا يسهِّل عليهم التركيز على الجهد الذي تستلزمه دراسة المادة.

ومع ذلك، فإن رد فعل هذا الطالب، الذي كان بحاجة إلى خمس وعشرين درجة لاجتياز المادة، تسبَّبَ في شعوري بذُعر بالغ؛ هل كانت متابَعةُ درجاته تفوق مستوى قدراته، أم أنه كان مجرد طالبٍ كسول وغير مسئول؟ ولا أعرف كيف يحدِّد المعلمون شيئًا كهذا قبل حدوثه أو بعد حدوثه. ويُوضِّح هذا المثال أيضًا مأزقَ الفرد في مقابل الفِرْقة بأكملها. ماذا عن تلك المواقف التي يَستطيع فيها أغلب طلاب الفرقة أن يتعاملوا مع اتخاذ القرارات، أو الإمساك بزمام السيطرة أو السلطة المَمنوحة لهم، بينما لا يستطيع بعض الطلاب الآخَرين القيامَ بذلك؟ هذه الأسئلة لها جانب عملي وجانب نظري، ونحتاج إلى معرفة إجاباتها.

(٤-٣) كيف يَعرف المعلمون أنهم قد أخلُّوا بالمسئولية التربوية المخولة إليهم؟

مثلما ذكرتُ بالفعل، يرى أولئك الذين يَكتبون عن المتعلمين المستقلين المتَّسِمين بالتوجيه الذاتي أن المعلمين يَنسحبون في النهاية من عملية التَّعلُّم. ومع ذلك، فالمعلمون غير مضطرين إلى التقاعد في هذه المرحلة؛ فمعظمُ طلابنا تَفصلهم سنوات عن إتقان المهارات والتحلي بالنضج الفكري اللازمَين لتحمُّل المسئولية كاملةً عن عملية تعلُّمهم، ولكن الفكرة الأساسية هي أنه في النهاية لا توجد مسئولياتٌ مخوَّلة في الوقت الراهن للمعلم لا يُمكن التنازل عنها وتفويضها للمتعلمين. وهكذا فإننا نُخلُّ بمسئوليتنا التعليمية، لا عن طريق ما نتنازل عنه من مسئوليات، وإنما عن طريق التوقيت الذي نختاره للقيام بهذه النقلة.

وبالوضع في الاعتبار مناقشتنا بخصوص الموضع الذي نبدأ منه مع معظم الطلاب، فإنه توجد جوانب يجب على المعلمين فيها أن يَحتفظوا بقدرٍ من السيطرة، وبالأحرى قدر كبير من السيطرة؛ على سبيل المثال: بما أن الدرجات تُستخدَم باعتبارها بوابةَ عبور للتجارب التعليمية التالية، مثل الالتحاق بأقسام الدراسات العليا والكليات المهنية، إذَن على المعلمين أن يَحتفظوا بقدرٍ من السيطرة على المكوِّنات الرئيسية الخاصة بعملية التقييم. وبالوضع في الاعتبار الطريقة التي يُرتَّب المنهجُ الدراسي وفقًا لها في بعض المواد التخصُّصية والبرامج الدراسية، فعندما تُدرَّس المواد بتسلسل معيَّن، وعندما يتَّفق أعضاء هيئات التدريس على أنَّ هناك موضوعاتٍ معينةً تَنتمي لمقررات دراسية معينة، فسيكون تصرُّفًا غير مسئول من جانب المعلمين إذا ما تركوا الطلاب يغيِّرون محتوى المنهج الدراسي. وفي حالة الطلاب الجامعيِّين المستجدِّين، الذين لا يزال أمامَهم الكثيرُ من مراحل التطوير، على المعلمين أن يحتفظوا بقدر كبير من السيطرة على تصميم الأنشطة الدراسية والواجبات الدراسية والنسق الخاص بها. إذَن، فمن وجهة نظر المعلم، بالإضافة إلى تقييمه لقدرةِ مجموعةٍ من الطلاب على اتخاذ قرارات معيَّنة، يجب عليه أيضًا أن يضع في اعتباره هذه المشكلات ذات السياق الأكبر.

في بعض المواقف، من السهل ملاحظة أن المعلم تخلَّى عن السلطة وترك زمام السيطرة على نحوٍ غير لائق. ذات مرة اضطُرِرتُ إلى البحث عن مدرِّس بهيئة التدريس، ليحلَّ محلَّ زميلٍ مريض، واعترض الطلاب بشدة على المدرِّس الجديد الذي لم يَحترم سياساتِ مدرِّسِ المادة، قائلين: «نحن نقيِّم عملَ مجموعتنا بأنفسنا.» لم أفهم ما كانوا يَقصِدون؛ فسألتُهم: «أتقصدون أنكم تقيِّمون ما تقوم به المجموعات الأخرى، ثم يضعُ المعلم في اعتباره تقييمَكم عندما يَحين موعد تحديد تقدير تلك المجموعات؟» فأجابوني قائلين: «كلا، إننا نقيِّم المجموعات الأخرى ونُعطيهم تقديرات، وتكون هذه تقديراتهم الدراسية.» وردًّا على هذا، سألتهم: «ما المعايير التي تستخدمونها؟» وجاءت إجابتهم: «إننا نُعطيهم التقدير الذي يستحقونه فحسب.» فسألتهم سؤالًا آخر قائلةً: «هل تمنحون أيَّ مجموعة من المجموعات تقديرًا أقل من جيد؟» لتأتيني إجابتهم: «كلا، إننا لا نعطي تقديرات سوى ممتاز وجيد جدًّا.» ولا عجب أنهم رغبوا في استمرار تلك السياسة.

وفي الحالات الأقل مبالغةً، تكون القرارات أكثر صعوبةً؛ مما يُبرِّر عادةً إعادةَ التفكير في هذه المسئوليات الأخلاقية. يتحكَّم معظم أعضاء هيئات التدريس في اتخاذ القرارات بشأن عملية التَّعلُّم بالكامل، لدرجةِ أن احتمالية تخلِّيهم عن قدرٍ كبير من السلطة بسرعة كبيرة جدًّا يبدو مستبعَدًا للغاية. الأمر أشبه بخوف المعلمين من أنهم إذا ألقوا نكتةً، فإنَّ ذلك يجعلهم مصدرَ «تسلية» بالنسبة إلى الطلاب؛ ومن ثمَّ يخلُّوا بمصداقيتهم بصفتهم مُعلِّمين تربويين! بالطبع، الأمر يعتمد على الموقف، ولكنني لا أومِن بأن الأمثلة المذكورة في هذا الفصل تخلُّ بالمسئوليات التربوية والتعليمية للمعلم.

•••

وددتُ لو أن بإمكاني تقديم إجابات حاسمة أكثر على الأسئلة المُثارة في هذا الجزء، ولعلَّ طرْحَ الأسئلة في حد ذاته أهمُّ من اقتراحِ الإجابات «الصحيحة» لها، فهذه أسئلةٌ يُمكن لأي عضو من أعضاء هيئات التدريس أن يَطرحها بهدف الاستفادة أثناء دراستهم للتغييرات التي قد يُجرونها في هذا المجال. ولكن هناك أيضًا أسئلة يجب أن نَجتمع لدراستها وبحثها، ما دام الملتزمون منَّا بالتدريس المُتمركِز حول المُتعلِّم يسعون إلى تطوير قاعدة معرفية يجب أن تَرتكِزَ عليها ممارستنا المهنية.

وفي الختام، يُغيِّر التدريسُ المتمركِز حول المتعلِّم موازينَ السلطة داخل قاعة الدراسة، فالأمر يتطلَّب أن يمنح أعضاءُ هيئة التدريس الطلابَ بعضَ السيطرة على عمليات التَّعلُّم؛ ففي معظم قاعات الدراسة بالجامعات، يُحكِم أعضاءُ هيئة التدريس قبضتَهم على السلطة، ويَستحوِذون على النفوذ، ويُحكِمون سيطرتهم، وكل هذا يقتصر عليهم وحدهم تقريبًا. والحفاظ على هذا القدر من السيطرة هو ما يجعل التدريس يُواصِل تمركُّزَه حول المعلِّم، وهو ما يجعل الطلاب يَنفصِلون تمامًا عن عملية التَّعلُّم. يُمكن مشاركةُ السلطة مع الطلاب مشارَكةً قائمةً على الثقة، والقيام بهذا عادةً ما يُسفِر عن نتائج مذهلة؛ فالمعلمون يتخلَّوْن عن السيطرة، ولكنها تعود إليهم مرةً أخرى على هيئةِ احترامٍ من جانب الطلاب المُحفَّزين والمشاركين في عملية التعلُّم، والمحبِّين لها أيضًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤