الفصل السادس

مسئولية التَّعلُّم

على الرغم من أن الشعور بعدم الرضا عن الطلاب هو شعور قديم قِدَم مِهنة التدريس نفسها، فإن التدريس للطلاب الجامعيِّين الحاليِّين يُمثِّل تحديًا لمجموعة متفردة من الأسباب، معظم هذه الأسباب معروف جيدًا، وجاء ذكرُها بالفعل في الفصول السابقة؛ فالكثير من الطلاب ليسوا مؤهَّلين جيدًا للدراسة الجامعية؛ حيث إنهم لا يتمتَّعون بمهارات دراسية جيدة، وعادةً ما يَفتقرون إلى المعرفة الأساسية، والكثير منهم يُحاول الجمع بين التعليم العالي والعمل في وظيفة بدوامٍ كامل وتحمُّل الالتزامات الأسرية، وعدد كبير منهم يرى التعليم كسبيل يقطعونه للحصول على وظائف ذات أجور جيدة؛ ومِن ثَمَّ هم غير مهتمين على وجه الخصوص بتلقي تعليم جيد المستوى. ومعظم الطلاب الجامعيِّين لا يتمتَّعون بالثقة في أنفسهم كمتعلمين؛ حيث إنهم يَميلون نحو السلبية، آملين أن يتخذ معلموهم القرارات التعليمية بالنيابة عنهم. فما يُحفِّز الطلاب هو التقديرات الدراسية، وأغلبهم لم يقع في حب عملية التَّعلُّم بعد. وعندما يُخفِق الطلاب في الحصول على تقديرات دراسية جيدة، فإنهم سرعان ما يُلقون باللوم على كل شخصٍ وكل شيء مِن حولهم، ما عدا أنفسهم.

ليس من الصعب سرد قائمة بكل ما يسوء الطلاب الجامعيِّين. وما يُمثِّل تحديًا أكبر وفائدة أكثر — رغم أنه أقل وضوحًا للعيان في الوقت الراهن — هو الإجابات والحلول التي يُقدِّمها طلابنا لمشكلات التدريس. ما الطريقة التي ينبغي للمعلمين اتباعها لتلبية الاحتياجات التعليمية الخاصة بالطلاب؟ ما الذي يُساعدهم على التَّعلُّم؟ كيف يمكن معالجة افتقارهم إلى المهارات؟ هل يمكن أن يُحَفَّزوا لإنجاز ما هو أكثر من مجرد بذل الجهد للحصول على الدرجات والتقديرات؟ كيف نجعلهم يضطلعون بدور نَشِط في الخبرات التعليمية الخاصة بهم؟ هل توجد أية طريقة تُمكننا من نقل عدوى حب التَّعلُّم الذي يُمثِّل لنا مصدرًا مُلهمًا للغاية؟ وهذه الأسئلة تقود إلى الموضوع الرئيسي الذي يَتناوله هذا الفصل، ألا وهو: الطلاب لا يتحمَّلون مسئولية التَّعلُّم؛ إذ إنهم لا يَعتبرون التَّعلُّم مهمَّة يُمكنهم أداؤها بأنفسهم. وبدلًا من ذلك، يريد الطلاب من المعلمين أن ينفِّذوا مهمة التَّعلُّم، ويا حبذا أن تُنَفَّذ هذه المهمة عن طريق إجراءات سَلِسة وغير مُؤلمة.

إن إقناع الطلاب بتحمُّل مسئولية التَّعلُّم يبدأ بجعل المعلمين يُلاحظون تلك الممارسات المهنية المتعلقة بطُرق التدريس التي تجعل الطلاب متعلِّمين اتكاليِّين ومقارنتها بالممارسات التي تخلق أجواءً دراسية باعثة على التَّعلُّم. ويقترح هذا الفصل مجموعة من المبادئ التي يستطيع المعلمون أن يستعينوا بها لإقامة علاقات تُشجِّع على التَّعلُّم، ثم يُقدِّم مجموعة كبيرة من الأنشطة التي تُوضِّح كيفية تطبيق هذه المبادئ على أرض الواقع، وتشتمل بعض هذه الأنشطة على إجراءات يتَّخذها المعلمون، والبعض الآخر يُشرك كلًّا من المعلمين والطلاب في أنشطة تُهَيِّئ أجواء قاعة الدراسة لتكون مكانًا يتحمَّل فيه الطلاب مسئوليات التَّعلُّم. وكما هي الحال مع الجوانب الأخرى الخاصة بالتدريس المُتمركِز حول المتعلم، توجد مشكلات التطبيق التي سنَستكشفُها في نهاية هذا الفصل.

(١) ما الذي يحتاج إلى التغيير ولم يتغير بعد؟

إذا كنتَ قد قرأت الفصول السابقة لهذا الفصل، فعلى الأرجح لن تُفاجَأ كثيرًا من أنني أومِن بأن طريقة استجابتنا لمشكلات التَّعلُّم التي يُواجهها الطلاب هي جزء من المشكلة في نهاية المطاف. إننا نستحقُّ بالفعل الكثير من المدح والإطراء على حسْن نوايانا، ومُعظمنا يدرك أنه إذا استمرت مشكلات كتلك المشكلات المذكورة في الفقرة الافتتاحية لهذا الفصل، فإن تحقيق استفادة كبرى من تعلم المواد التي نُدرِّسها، وتحقيق النجاح بالجامعة، وتحقيق النجاح في الحياة المهنية المستقبلية سيتأثَّر تأثرًا سلبيًّا على نحو بالغ. ولقد حثَّت مخاوفنا على إعادة توحيد الصفوف تدريجيًّا، ودون قصد عادةً، على مستوى السياسات والممارسات المهنية الخاصة بعملية التدريس.

أولًا: نحن نحاول تصحيح أوجه القصور لديهم كمُتعلِّمين؛ وذلك عن طريق توضيح الظروف المواتية للتَّعلُّم توضيحًا جليًّا ومفصَّلًا أكثر. وإذا كان الطلاب لا يعرفون أو لا يرغبون في اتخاذ القرارات الضرورية لتحقيق النجاح في المواد التي نُدرِّسها لهم، فإننا نتخذ تلك القرارات بالنيابة عنهم. وهكذا — وكما ناقشنا في الفصل الرابع بالفعل — فقد وضَعْنا سياسات تُحدِّد جميع أنواع التفاصيل المتعلقة بعملية التَّعلُّم؛ مثل: الحضور الإجباري، وعقوبات عدم الوفاء بمواعيد التسليم النهائية، والمشاركة الإلزامية، ومنع امتحانات الملاحق. إننا نُقسِّم الواجبات الدراسية ونُجزِّئ مواعيد التسليم لمنع المماطَلة والتسويف، وتخفيف حدة الآثار المُترتِّبة على سوء إدارة الوقت. كما أننا نمنع الحديث، والرسائل النصية، والأكل والشرب، والتأخُّر عن موعد المحاضرة، ومغادرة قاعة الدراسة قبل انتهاء موعد المحاضرة، وأي شيء قد نظنُّ أنه يُشتِّت الانتباه بعيدًا عن محتوى المادة الدراسية. أيضًا نحن نُحدِّد التفاصيل الخاصة بالواجبات الدراسية؛ مثل: طول الصفحة، وحجم الخط المُستخدم، وعرض الهوامش، وعدد المصادر ونَسَقها. ونستغلُّ الاستراتيجيات المفصلة لمنع الغش بين الطلاب. ويَبذل الكثير منا قصارى جهدهم لجعل الطلاب يُؤدُّون ما تستلزمه عملية التَّعلُّم.

أما ما لا يُمكن تحقيقه عن طريق السياسات والشروط الإجبارية، فنسعى إلى إنجازه عن طريق مجموعة كبيرة من وسائل التحفيز الخارجية. وهكذا، نستعين بالاختبارات القصيرة لإلزام الطلاب بقراءة المُحتوى، ونقدِّم درجات إضافية كمكافأة للطلاب إذا ما بحَثوا عن أحد المراجع، ونُكافئهم بدرجات إضافية إذا ما كانت جميع إجابات مسائل الواجب المنزلي صحيحةً، ونضع تقدير ممتاز بجوار كل مشاركة تتمُّ داخل قاعة الدراسة. لقد صارت قاعاتنا الدراسية أماكن نُطبِّق فيها أساليب الاقتصاد الرمزي لتعديل السلوك؛ حيث يحصل الطلاب على درجة مقابل كل تصرُّف مرغوب فيه، وتُخصَم منهم درجة مقابل كل سلوك غير مرغوب فيه. والأنظمة التي نتبعها لوضع التقديرات الدراسية تُوَزِّع الدرجات والنقاط على الواجبات الدراسية والأنشطة والسلوكيات المتَّبعة داخل قاعة الدراسة بالتفصيل الدقيق والواضح؛ ففي مادة الكيمياء التي دَرَّسْتُها، كانت التقارير المعملية تساوي ١٠ درجات فقط من إجمالي ٦٠٠ درجة مقرَّرة للمادة الدراسية. ومع ذلك، كانت كل درجة مقسمة إلى أعشار، مما يعني أنَّ كل تقرير معملي كان يُساوي بالأساس ١٠٠ درجة، وكان الطلاب لا يألون جهدًا ولا يترفَّعون عن الجدال بشغف على ٠٫٢ أو ٠٫٣ من الدرجة الإضافية.

تؤمن ديان بايك (٢٠١١) أن مثل هذه الأنظمة لتوزيع الدرجات «تُدرِّب الطلاب في نهاية المطاف على التركيز على الأمور الخطأ» (ص٤). فالطلاب يُفكِّرون في المهام الدراسية للمادة من ناحية الدرجات التي سيَحصلون عليها من هذه المادة، لا لأنهم يَعتبرون الواجبات الدراسية فُرَصًا لتعلم المادة العلمية المهمة. وهذه الأنظمة «تُشتِّت الطلاب عما يُفترَض أن يكون عليه العامل المُحفِّز لتعلمهم» (ص٤). وتصف ديان بايك المعتقَد الذي يَعتبر التقديرات الدراسية عاملًا مُحفِّزًا للتَّعلُّم بأنه «فكرة بائدة» في عرف مِهنة التدريس؛ فالتقديرات الدراسية تُحفِّز الحصول على الدرجات والتقديرات وحسب.

هل هذه الطرق للتعامل مع المتعلمين السلبيين والاتكاليين تؤتي ثمارَها؟ في نهاية المطاف، هل يتعلم الطلاب شيئًا في هذه البيئات المحكومة بقواعد صارمة؟ وهل يتعلمون شيئًا كنتيجة لوسائل التحفيز التي نُلوِّح بها كعصا للتهديد؟ أجل، يتعلمون إلى حدٍّ ما. إذا كان الطلاب يتوقَّعون الخضوع لاختبار قصير، فإنهم يُؤدُّون الواجب المنزلي الخاص بالقراءة. وإذا كان الحضور إجباريًّا ودرجات الطلاب على المحكِّ، تزداد نسبة حضورهم أكثر من المعتاد. ولكن هل هذه الانتصارات القصيرة المدى تقود إلى الهدف الأساسي؟ ما نوعية الطلاب الذين نراهم في الحلقات الدراسية المؤهَّلة للتخرُّج، أو في المواد الخاصة بمشروع التخرج؟ هل هم متعلمون يتمتَّعون بالنضج الفكري والقدرة على تحمل المسئولية، ويُؤدُّون ما ينبغي لهم أداؤه في ظل غياب الشروط الإجبارية وسياسات المادة الدراسية؟ هل يستطيعون ترتيب المهام التعليمية وتنفيذها بمفردهم؟ هل هم متعلمون فضوليُّون يتمتَّعون بالخيال الخصب، أولئك المتعلمون الذين يُشاركون بحماس في تجربة التَّعلُّم المستمر مدى الحياة؟

إنني أتساءل: لماذا لا نرى المشكلات المُستمرة المتعلقة بإدارة قاعة الدراسة — من بينها صفاقة الطلاب والسلوكيات الفوضوية، والكثير من السمات الشخصية السلبية التي يتَّصف بها طلاب الألفية في وقتنا الحالي — كعلامات تدلُّ على أن أساليب التدريس هذه ليست ذات فاعلية كبيرة. يتحمَّس أعضاء هيئات التدريس، الذين أتعامل معهم، للحديث عن إدارة حُجرة الدرس، طارحين أسئلةً على غرار: كم عدد السياسات والقواعد التي ينبغي لهم وضعُها؟ أيٌّ منها يؤتي ثماره؟ هل يعرف أحد طريقة لمنع الطلاب من كتابة الرسائل النصية أثناء المحاضرات؟ ولماذا لا يذهب الطلاب إلى الحمام قبل بدء المحاضرة؟ لا تدور هذه المناقشة حول الحد من القواعد والسياسات، كما أنها لا تُشكِّك في الفرضيات التي تتضمَّنها هذه السياسات والقواعد، وإنما تدور المناقشة حول إضافة المزيد من السياسات والقواعد، أو البحث عن السياسات التي تؤتي ثمارَها. ألا ينبغي أن يدلَّنا انشغالنا الدائم بمشكلات إدارة قاعة الدراسة على احتمالية وجود مشكلات في أسلوب التدريس الذي نتبعه؟

وسواء أكُنا نحاول منع السلوكيات الفوضوية، أم نُحفِّز التحضير والاستعداد الدراسي، أم نُرسِّخ فكرة النزاهة في الأذهان، فإنَّ ممارسة قدر أكبر من السيطرة ليس الحل الأمثل لهذه المشكلات؛ فهذا الأمر يجعل المعلمين والطلاب يَدورون في حلقات مفرغة: فكلما زادت القيود التي نَفرضها على بيئة التَّعلُّم زادت القيود التي يحتاج إليها الطلاب، وكلما زاد عدد القرارات التي نتَّخذُها بالنيابة عنهم قلَّت قدرتهم على اتخاذ القرارات، وكلما كانت وسيلة التحفيز خارجية قلَّ شعورهم الداخلي بالالتزام تجاه عملية التَّعلُّم، وكلما زاد عدد المهامِّ التي نؤدِّيها بالنيابة عنهم قلَّ احتمال تحمُّلهم لمسئولية التَّعلُّم، وكلما كان قدر السيطرة التي نُمارسها أكبر زاد إحكام السيطرة عليهم. ويَنتهي بنا المطاف إلى التدريس لطلاب يُبدون قدرًا قليلًا من الالتزام تجاه عملية التَّعلُّم ولا يمكنهم العمل في بيئات تعليمية لا تتمتَّع بالصرامة الكاملة.

غير أن الحلَّ لا يتمثَّل في التخلي فورًا عن السياسات أو القواعد أو وسائل التحفيز الخارجية، ومرة أخرى أُكرِّر أن الأمر كله متعلِّق باتباع طريقة مختلفة للتفكير، والاعتراف بأن القواعد والشروط الإلزامية قد تُسفر عن نتائج، ولكنها تُكلِّفنا وتُكلِّف المتعلمين الغالي والنفيس، فعلينا أن نعتمد عليها بقدر أقل، ونَستعين بها بمزيد من الحكمة والتروِّي. وينبغي أن نُحدِّد البدائل، تلك البدائل التي تُهيِّئ أجواءً تُشجِّع على التَّعلُّم العميق والدائم. «إن إعطاء الواجبات الدراسية المُمتعة الوثيقة الصلة بموضوع الدراسة، وتقديم التقييم في الوقت المناسب، وإتاحة التواصُل بين الطالب والمعلم، وإتاحة التواصُل بين الطلاب بعضهم مع بعض، والاستغلال الهادف للوقت؛ كلها أمور تُحفِّز التَّعلُّم» (بايك، ٢٠١١، ص٦). وأسلوب التدريس المُتمركِز حول المتعلم مَعْنِيٌّ بخلق أجواء تعليمية داخل قاعة الدراسة تُؤهِّل الطلاب لكي يكونوا متعلمين ناضجين، يتحمَّلون قدرًا أكبر من المسئولية تجاه عملية تعلمهم وعملية تعلم الآخرين.

(٢) المناخ الدراسي الذي يُشجِّع الطلاب على تحمُّل مسئولية التَّعلُّم

تبدأ طبيعة هذا التغيير باستكشاف المقصود بكلمة «المناخ» المناسب لعملية التَّعلُّم. ومع توافر الفهم لهذه الفكرة، يكون السؤال التالي هو: كيف يخلق المعلمون المناخ الذي يُحفِّز الطلاب على تحمل مسئولية التَّعلُّم، ويُطوِّر مُتعلمين يتسمون بالتوجيه الذاتي؟ وكيف يحافظ المعلمون على هذا المناخ ويُطوِّرونه؟ والمناخ الدراسي تشبيه مُثير للاهتمام؛ فهو يُعسِّر وييسر — في آنٍ واحد — فهمنا لتلك الظروف الدراسية التي تُشجِّع على التحلي بالاستقلالية أثناء التَّعلُّم.

(٢-١) المناخ الدراسي: التعريفات والمواصفات

عندما أتعاون مع أعضاء هيئات التدريس لإيجاد تعريف مناسب للمناخ الدراسي، أبدأ بمحاولة توضيح إلى أي مدًى يُشوِّش التشبيه على المعنى. على الرغم من أننا نتحدَّث باستمرار عن المناخ الدراسي — أو «بيئة» التَّعلُّم أو «الأجواء» الدراسية داخل الأقسام أو المنشآت التعليمية — فإننا لا نشير إلى ظاهرة خاصة بالأرصاد الجوية. وعندما أَلفت الانتباه إلى ذلك وأسأل عما يشير إليه هذا التشبيه، عادةً ما يُتبَع هذا السؤال بفترة صمت طويلة، وبعد ذلك يُخمِّن الحاضرون إجابات مختصرة، مثل: «الشعور بالراحة»، «مكان آمن»، «الاحترام»، «علاقات طيبة». وهذه الإجابات تصف خصائص المناخ الدراسي، ولكنها لا تُحدِّد ماهيته.

لحسن الحظ أن المناخ الدراسي خضع للدراسة التجريبية، أولًا على مستوى مرحلتي التعليم الابتدائي والثانوي، ثم على مستوى مرحلة التعليم ما بعد الثانوي أيضًا. وفي ظل غياب أكثر الأبحاث حداثة، لا زلت أعتمد على البحث الرائع الخاص بفريزر، حيث بدأ بحثه بافتراض أن المناخ الدراسي يتكون من مجموعة من العلاقات السيكولوجية المُعقَّدة بين المعلم والطلاب، كل على حدةٍ أو مجتمعين، وكذلك العلاقات الفردية والجماعية فيما بين الطلاب وبعضهم. ولقد ابتكر فريزر وتريجست ودينيس (١٩٨٦) قائمةً خاصة بالبيئة السائدة في قاعة الدراسة داخل الكليات والجامعات، تقيم وتقارن بين البيئات التعليمية المُفضَّلة والفعلية، وأثبتوا فاعليتها من الناحية التجريبية. وتَحتوي القائمة، المكوَّنة من تسعة وأربعين بندًا، على سبعة معايير فرعية يمكن اعتبارها إجابات عن سؤال يبدأ بصيغة: «ما هو/هي؟»

  • (١)

    ما هو عنصر التخصيص؟ وتعريفه: هو تخصيص فُرَص للتفاعل بين الأستاذ الجامعي والطلاب، ومقدار الاهتمام الذي يُوليه الأستاذ لكل طالب.

  • (٢)

    ما هي المشاركة؟ وتعريفها: هي حجم المشاركة النشطة للطلاب في جميع الأنشطة الدراسية داخل قاعة الدراسة.

  • (٣)

    ما هي درجة الاتساق والانسجام في تعاملات الطلاب؟ وتعني إلى أيِّ مدًى يعرف الطلاب بعضهم بعضًا، وإلى أي مدًى يتعاملون بودٍّ بعضهم مع بعض.

  • (٤)

    ما هو الشعور بالرضا؟ ويقصد به مدى استمتاع الطلاب بدراسة المادة.

  • (٥)

    ما هو التركيز على إنجاز المهمَّة؟ بمعنى إلى أيِّ مدًى تتسم الأنشطة الدراسية بكونها واضحة ومُنظَّمة على نحو جيد، وموجَّهة نحو إنجاز المهمة.

  • (٦)

    ما هو عنصر الابتكار؟ ويُقصد به إلى أيِّ مدًى يُخطِّط المُحاضِر لإجراء أنشطة دراسية جديدة وغير معتادة، ويستعين بأساليب تدريس جديدة، وواجبات دراسية مبتكَرة.

  • (٧)

    ما هي الاستقلالية؟ أو الحدُّ الذي يُسمح به للطلاب باتخاذ القرارات بأنفسهم، وإلى أي مدًى يتلقَّى هؤلاء الطلاب معاملةً تفاضُلية، وفقًا لاحتياجات التَّعلُّم الفردية الخاصة بهم.

والجدير بالذكر أن ونستون وآخرين (١٩٩٤) ابتكروا وسيلة معيارية مشابهة.

وبعد الانتهاء من قائمة فريزر، يُحدِّد الطلاب سمات قاعة الدراسة «المثالية» من وجهة نظرهم، ثم يُجْرون تقييمًا للبيئة المتوافرة لدراسة مادة معيَّنة. ويتَّضح أن الطلاب لا يُصنِّفون قاعات الدراسة — الشائع فيها حاليًّا التوجُّه الخاص بتطبيق القواعد الصارمة والمدفوعة نحو تطبيق الشروط الإلزامية والخاضعة لسيطرة المعلم — على أنها قاعات مثالية. وقد استخدم فريزر القائمة أيضًا لتقييم تصوُّرات أعضاء هيئات التدريس عن قاعة التدريس الخاصة بهم، ثم قارن هذه التصورات بتصورات الطلاب، وكانت النتيجة مقلقة إلى حد ما؛ حيث كتب يقول: «يميل المعلمون نحو وصف البيئة السائدة داخل قاعة الدراسة بأنها إيجابية أكثر مما يفعل طلابهم» (فريزر وتريجست ودينيس، ١٩٨٦، ص٤٥).

وتُشير الأبحاث التي أُجريت حول موضوع المناخ الدراسي إلى أن هذه العلاقات السيكولوجية تؤثر بشدة في نواتج التَّعلُّم، وعن هذا يكتب فريزر: «إنَّ الاستعانة بتصور الطلاب حول البيئة السائدة حاليًّا في قاعة الدراسة … رسخت علاقات متينة بين طبيعة البيئة السائدة في قاعة الدراسة ومجموعة متنوِّعة من المُحصَّلات المعرفية والعاطفية الخاصة بالطلاب» (١٩٨٦، ص٤٥). فعندما يدرس الطلاب في بيئة تعليمية يُفضِّلونها يزداد تحصيلهم الدراسي.

ويساعدنا التشبيه المجازي الخاص ﺑ «الطقس» على فهم السبب وراء ذلك؛ فالطقس يُؤثِّر في السلوك بطرق مُباشرة، فعندما يكون الطقس باردًا خارج المنزل، نرتدي السترات الصوفية والمعاطف والجوارب. هكذا تكون استجابتنا تلقائية. وعندما يأتي شهر أكتوبر في ولاية بنسلفانيا مثلًا، نُسارع بتخزين الشباشب المطاطية الخفيفة. وقد يَحظى نوع معين من «المناخ» الدراسي بالتأثير المباشر نفسه على عملية التَّعلُّم، بحيث لا يؤجل الطلاب تأدية مَهامِّهم. إنهم لا يبحثون عن الإجابة وحسْب، ويَرضون بأول إجابة يَعثرون عليها، ولا ينسخون عمل شخص آخر؛ فثمَّة شيء يَحتاجون إلى معرفته، فالأمر واضح للعيان، ويُمثِّل أهمية بالنسبة إليهم، وهم على استعداد للتَّعلُّم. هل يَبدو الأمر أشبه بالوصول إلى حالة مثالية حالمة فيما يخص العملية التعليمية؟ حسنًا، في معظم الأيام وفي أغلب القاعات الدراسية لا تكون درجة حرارة التَّعلُّم بهذا الدفء على الأرجح.

ويُوضِّح التشبيه المجازي أيضًا أنَّ «المناخ» الدراسي داخل قاعة الدراسة لا «يُساعد» على التَّعلُّم، مثلما لا يدفعنا الطقس البارد إلى الشعور بالدفء، وإنما يُحفِّزنا على اتخاذ الإجراءات؛ إذ إننا نَرتدي المعاطف والجوارب والقُبَّعات، والهدف هو تهيئة الظروف المناسبة داخل قاعة الدراسة لتحفيز الطلاب على اتخاذ الإجراءات، حيث يجب علينا أن نُهَيِّئ تلك الظروف التي تجعلهم يرغبون في بذل الجهد المطلوب للتَّعلُّم.

وعلى الرغم من حقيقة أن هذا التشبيه المَجازي جعل مَهمَّة تعريف المناخ الدراسي مَهمةً مُعقَّدةً، فإنه لا يزال يوفر المزيد من الأفكار المُلهمة والثرية، وسواء أكانت قاعة الدراسة واقعيةً أم افتراضية عبر الإنترنت، فإنَّ المناخ الدراسي والأجواء التعليمية لا تتوافَر من خلال الأقوال، وإنما عن طريق الأفعال، وإذا كنتَ تَرغب في توفير مناخٍ دراسي جيد داخل قاعة دراستك، فلن تُوفِّره عن طريق إدراج سطرَين في خطة المنهج الدراسي يَعِدَان بوجود مثل هذا المناخ، وإنما يَنشأ هذا المناخ من اتخاذ الإجراءات (وفي بعض الأحيان يَنشأ أيضًا من عدم اتخاذ بعض الإجراءات). فأنتَ — كمُعلِّم — تؤدِّي مَهمَّات من شأنها أن تُساعد في توفير هذا المناخ، وبمجرد أن يتوافر هذا المناخ، تُواصِل اتخاذ إجراءاتٍ تُساعد في الحفاظ عليه. وفي النهاية، وكما هي الحال مع معرفتنا عن المناخ والطقس الجويِّ بعالمنا الواقعي، فإننا نُشارك في تحمُّل المسئولية حيال هذا المناخ. يستطيع المعلمون توفير نموذج للقيادة، ولكن مَهمة توفير المناخ الدراسي المناسب يُشارك فيها الطلاب أيضًا، وفي مرحلة مبكرة من مشواري المهني، سمعتُ معلمًا حكيمًا يقول لإحدى الفِرَق الدراسية: «هذه ليست مادتي، وليست مادَّتكم، وإنما هي مادتنا، إنَّنا نتشارك معًا في تحمُّل المسئولية تجاه ما يحدث وما لا يحدث هنا داخل قاعة الدراسة.»

(٢-٢) المناخ الدراسي الذي يُحفِّز الطلاب على تحمل مسئولية التَّعلُّم

الهدف واضح؛ فنحن نريد من الطلاب أن يتصرَّفوا باعتبارهم متعلِّمين مسئولين. إننا نريد منهم أن يكونوا متعلِّمين يتمتَّعون بالاعتماد على النفس، والاستقلالية، والتوجيه الذاتي، والتنظيم الذاتي؛ وهذه هي السمات الشخصية التي يقول زيمرمان (١٩٩٠، ص٤) إنها تُميِّز المتعلمين الذين يتمتَّعون بالتنظيم الذاتي: «إنهم يتعاملون مع المهام التعليمية بثقة واجتهاد وسعة حيلة … فالمتعلمون المنظَّمون ذاتيًّا يدركون متى يستوعبون حقيقة أو يمتلكون مهارةً، ومتى يَفتقرون إليها … والطلاب المنظَّمون ذاتيًّا يسعون مسبقًا للبحث عن المعلومات التي يحتاجونها ويتَّخذون الخطوات لإتقانها؛ فعندما يواجهون العراقيل مثل الظروف غير المواتية للمذاكرة أو المعلمين المُرتبِكين أو الكتب الدراسية المُبهَمة، يَبحثون عن طريقة لتحقيق النجاح.» وفي الآونة الأخيرة، اقترح ماكاسكيل وتايلور (٢٠١٠) هذا التعريف الفعَّال: «يتحمَّل المتعلمون المستقلون مسئولية تعلمهم، ويتمتَّعون بالحافز نحو التَّعلُّم، ويَجدون المتعة في التَّعلُّم، ويتمتَّعون بذهن مُتفتِّح، ويُجيدون إدارة وقتهم، ويُخطِّطون بفاعلية، ويَفون بالمواعيد النهائية لتسليم العمل، ويَسعدون بالاعتماد على أنفسهم لإنجاز العمل، ويُبدون المثابَرة والإصرار عند مواجهة الصعوبات، وقلَّما يؤجلون شيئًا؛ خاصةً عندما يتعلق الأمر بعملهم» (ص٣٥٧). والمشكلة الوحيدة التي أراها في هذه الأوصاف أنها تنَطبق على عدد قليل جدًّا من الطلاب. ويَشتمل مقال ماكاسكيل وتايلور على استبيان موجز (يبدو مثل اختبارات القياس النفسي) يَقيس استقلالية المتعلم، ويُمكن الاستعانة به لإعطاء الطلاب فكرة عما يفعله المتعلمون المستقلون، ولإعطاء المعلمين نوعًا من التقييم لتحديد ما إذا كان طلابهم يتمتَّعون بالاستقلالية أم لا.

إذا كان المناخ الدراسي قائمًا على العلاقات (بين المعلمين والطلاب، وبين الطلاب وبعضهم مع بعض)، إذَن، فما نوعية العلاقات التي تحفِّز تنمية مهارات المتعلمين الذين يَنطبق عليهم هذه الأوصاف؟ دعني أقترح خمس سمات للعلاقات التي تشجِّع تنمية مهارات المتعلمين الذين يتحمَّلون المسئولية، ويُوفِّرون مناخًا دراسيًّا ذا طقس مناسب للتَّعلُّم:

العواقب المنطقية: علينا أن نسمح للطلاب أن يتحملوا عواقب القرارات التي يتَّخذونها حيال عملية التَّعلُّم. هل لديك طلاب يَدخلون المحاضرة دون تحضير؟ أو دون قراءة الجزء المطلوب، أو دون الانتهاء من حل مسائل الواجب المنزلي؟ هل توجد بخطة المنهج الدراسي عبارة شديدة اللهجة تأمُر الطلاب بالتحضير قبل حضور المحاضرة؟ وهل أكَّدت على تلك الرسالة بعبارة تتساوى في شدة لهجتها مع ما جاء في خطة المنهج الدراسي؟ ومع ذلك، لا يزال الطلاب يدخلون المحاضرة دون تحضير، والبعض منهم يدخل المحاضرة دون أدنى شعور بالخجل. ما السبب في ذلك؟

بالطبع، إنهم مشغولون، وبالطبع بعضهم كسالى، وبالطبع الكثيرون منهم يعملون بوظائف ويُعيلون أُسَرًا، ولكني لا أظنُّ أن هذه هي الأسباب الحقيقية؛ إنهم يدخلون المحاضرات دون تحضير؛ لأنَّ الكثير من المعلمين الآخَرين أخبروهم بالشيء نفسه، ولكن حين حضروا المحاضرة دون تحضير لم يكن هناك عواقب، فهم يجلسون في هدوء ويتجنَّبون لفْت الأنظار إليهم حين يطرح المعلم أسئلة، وفي معظم الأوقات لا يُجبرهم المعلم على الإجابة عن السؤال، وإن حدَث ذلك، يبدو عليهم الذُّعر أو الارتباك، ومِن ثم يتخطاهم المعلم. إنه نموذج إيضاحي صريح وواضح للمثَل المأثور القائل: «الأفعال أبلغ من الأقوال.» فالطلاب يتصرَّفون كردِّ فعل لما نفعله نحن، لا لما نقوله. ونحن لا نفعل شيئًا، ومِن ثَمَّ يُفلتون من العقاب على عدم التحضير للمحاضَرة.

والأمثلة كثيرة على الطريقة التي يُعفي بها المعلمون الطلاب من عواقب تصرُّفاتهم: لنفترض أنها محاضرة لإحدى الموادِّ التي اعتاد فيها الطلاب الوصول متأخِّرين عن موعد بدء المحاضرة. إنهم يَدلفون إلى قاعة الدراسة في لا مبالاة واضحة أثناء الدقائق الخمس أو العشر الأولى. هكذا يَمتنع المعلمون عن شرح أي شيء مهم في بداية المحاضرة. ويَستوعب الطلاب هذا الأمر؛ ومِن ثمَّ يُدركون أنه لا بأس من التأخر عن المحاضرة. هكذا يعزِّز المعلمون، دون أن يدركوا ذلك، السلوكيات التي تُقلِّل من تحمل الطلاب المسئولية تجاه ما يجب عليهم فعله كمُتعلِّمين. وتُقدِّم سارة كوفمان (٢٠٠٣) مثالًا آخر: «حتى أبسط الأمور، مثل إحضار أقلام الرصاص معك في فترة الامتحانات لكي يَستعيرها الطلاب تُعلِّمهم أنهم ليسوا بحاجة إلى تحمُّل مسئولية إحضار الأقلام معهم» (ص٣).

قارن هذه الأمثلة بمحاضرة في مادة الرياضيات حضرتُها ذات مرة بهدف رَصْد أسلوب التدريس المتبَع فيها. تفاجأتُ حين وصلت قاعة الدراسة قبل خمس دقائق من موعد بدء المحاضرة، حين وجدت أن معظم الطلاب موجودون داخل القاعة بالفعل. كذلك جاء المُحاضِر قبل موعد بدء المحاضرة، واستعرض إجابات الواجب المنزلي على جهاز العرض، وكان الواجب المنزلي يَشتمل على بعض المسائل غير الموجودة في الكتاب الدراسي، عرضها لبضع دقائق بعد بدء المحاضرة، ثم رفَعها من على جهاز العرض ولم يَعرضها ثانية قط. فإذا تأخرتَ على حضور تلك المحاضرة فاتك تصحيح الواجب المنزلي؛ ومِن ثم وقع على كاهلك مسئولية نقل الإجابات من طالب آخَر، أو الذهاب إلى المحاضر بعد انتهاء المحاضرة.

إن كل قرار يتَّخذه الطلاب بخصوص عملية التَّعلُّم له عواقب، ولكنَّنا لم نعد نجعلهم يتحملون عواقب معظم القرارات. إننا نتردَّد في هذا الصدد، وبلا أي أسباب وجيهة. من الذي يريد أن يُؤذي الطلاب أو يضعهم في موقفٍ دفاعيٍّ، أو حتى يُقلِّل من التزامهم بالدراسة الجامعية؟ إن طريقة تحمُّل الطلاب لعواقب قراراتهم هو أمر مهمٌّ، ويجب التفكير فيه بحرص. هل الإهانة على الملأ طريقة مبرَّرة للتعامل مع الطالب عند تأخُّره على المحاضرة؟ وكيف تؤثر هذه الطريقة على باقي الفِرقة الدراسية؟ تأكَّد من أنك إذا وبخت طالبًا على أي مخالفة، فستجد أن باقي الفرقة كلها آذان صاغية. هل يوجد فارق إذا ما كان الطلاب في بداية حياتهم الجامعية أم في نهايتها؟ وإذا ما كانت الفرقة كبيرة أم صغيرة؟ وإذا ما كنتَ تَعرف الطالب معرفة وثيقة أم لا تَعرفه على الإطلاق؟ وإذا ما كانت هذه المرة الأولى التي يتأخَّر فيها الطالب أم المرة الخامسة؟ إن اتخاذ المعلم القرارات بخصوص العواقب ليس أمرًا هينًا على الإطلاق، ومع ذلك ينبغي أن يتسبَّب القرار دومًا في جعل الطالب يشعر بعواقب أفعاله.

لا ينبغي للطالب الذي لم يُحضِّر الدرس أن يكون قادرًا على الجلوس في المحاضرة بكل أريحية؛ فعندما أطرح سؤالًا بخصوص قراءة الدرس، إذا لم أجد ردًّا، أُصرُّ على التواصل البصري مباشرةً مع هؤلاء الطلاب الذين يمكنني الاعتماد عليهم عادةً في الإجابة عن الأسئلة. وإذا استمر الصمت، أكتب السؤال على السبورة وأقترح أنه ربما يَرغب الطلاب أن يُدوِّنوا ملاحظاتهم، ثم أتساءل عن السبب وراء احتمالية أن يكون هذا السؤال ذا أهمية، وأُلمِّح إلى أنني قد استعنتُ بسؤال كهذا في الاختبار. وإذا لم يُولِّد هذا الأسلوب أي ردود، أترك السؤال بلا إجابة، وأقول لهم: «سنبدأ المحاضرة التالية بهذا السؤال، وأنتم تعرفون أنني سأعتمد عليكم للإجابة عنه.» في مثل هذه المناقَشات، أكون إيجابيةً وصبورةً، ولكنني أتمسَّك برأيي تمامًا، ولا أجيب عن الأسئلة التي أطرحها على الطلاب إلا في حالات نادرة فقط. فكِّر في الأمر من وجهة نظر الطلاب: ما عواقب عدم الإجابة عن الأسئلة التي يطرحُها المعلم؟ عادةً، لا تكون هناك أي عواقب، وفي بعض الأحيان إذا انتظر الطلاب لوقت أطول، فثمة مكافأة؛ فالمعلم يجيب عن الأسئلة ودائمًا ما تكون إجاباته «صحيحة».

مبدأ الاتساق: تُنمِّي علاقة الطالب والمعلم — التي يكون فيها لاتخاذ الإجراءات (وعدم اتخاذها) عواقب — متعلِّمين يتحمَّلون المسئولية، والأمر نفسه يَنطبق على العلاقات التي تتسم بالاتساق، فمن المهمِّ جدًّا أن يدعم المعلم ما يقوله بأفعاله. على سبيل المثال، توجد في خطة المنهج الدراسي عبارة تقول: «لن تُقبَل الواجبات المنزلية المتأخِّرة.» وفي المحاضرة تشير إلى هذا الأمر مُشدِّدًا عليه بقولك: «هذا يعني أن الأمر لن يحدث أبدًا، وتحت أي ظروف.» وبعد مرور بضعة أيام، يدنو منك أحد الطلاب في الوقت الذي تبدأ فيه المحاضرة، ومعه قائمة طويلة من الأعذار يُلخِّصها بهذا الالتماس قائلًا: «أتمنى أن تقبَل هذا الواجب المنزلي، أنا في حاجة ماسة إلى تقييمك.» فتقبل هذا الأمر مرةً واحدة فقط، ولكن تصرُّفك يشي بكل وضوح وبلا رجعة فيه، لهذا الطالب ولأي طالب آخر رأى هذا الموقف بعينه، بأنك تقبَل الواجبات المتأخِّرة. هكذا يمكن لتصرُّف واحد أن يضرب بمجموعة كاملة من التعليمات عرض الحائط. وقد أثبت بحثٌ أُجريَ في مجال التواصل اللفظي صحة المثل القائل: «الأفعال أبلغ من الأقوال» (ناب وهول، ١٩٩٢). فعندما يُناقض المُرسل الرسالة اللفظية — التي يبعَث بها إلى المُسْتَقْبِل — بتصرُّف غير لفظي، فإن المُسْتَقْبِل يُصدِّق الرسالة المتضمَّنة في ذلك التصرف غير اللفظي.

إن اتساق ما نقوله مع ما نفعله هو موضوع وثيق الصِّلة بالكثير من السياقات الدراسية، فإذا قُلنا إننا نرغب في المشاركة، ونُرحِّب بالأسئلة، ولا نمانع المقاطعات من جانب الطلاب، ولكننا نواصل تغطية المحتوى بسرعة بالغة وكأنَّنا في سباق للخيل، لنُنهي المحاضرة — بأنفاس متقطعة — بدعوةٍ لطرح الأسئلة ثم نظرة سريعة عبر قاعة الدراسة؛ فإنَّنا بذلك نبعث رسالة، ولكنها ليست الرسالة نفسها التي صرَّحنا بها في البداية. لقد أوضحنا توًّا وعلى نحوٍ جليٍّ أن أسئلة الطلاب ومقاطعتهم وتعليقاتهم ليست ذات أهمية إلا لفترة قصيرة من الوقت فقط، ثم نَختَتِم تلك الرسالة بقولنا: «حسنًا» حينما لا تُسفر دعوتنا لطرح الأسئلة عن أي سؤال.

الاتساق يعني أيضًا أن الطلاب يَستطيعون الاعتماد على طريقة تعامل المعلم معهم، فتصرُّفات المعلم يمكن توقُّعها، وجميع الطلاب يتم التعامل معهم وفقًا للمعايير نفسها؛ فهم يعرفون كيف ستكون بعض الإجابات التي سيردُّ بها المعلم، بغض النظر عمَّن مِنَ الطلاب يطرح السؤال. فالتوقعات الخاصة بالطلاب (والخاصة بالمعلم أيضًا) واضحة ولا مجال للشك فيها أو لتغييرها، وهذا يعني أن المعلم لا يمكن أن يكون إلا شخصًا لطيفًا ولَبِقًا في التعامل، ومع ذلك فتصرُّفاته تستند إلى أهداف تتخطى ما قد يظن الطلاب أنهم بحاجة إليه، أو تتخطى السبب الذي يجعلهم يَعتقدون أن المبادئ الراسخة لا تنطبق عليهم؛ فالمُعلم يتعامل مع كل طالب على حدة، ومع الفرقة بأكملها على نحوٍ موثوق به، ويُمكن توقعه، وهذا الاتساق يُمثِّل ما يتوقَّعه من الطلاب باعتبارهم متعلمين ناضِجين وقادرين على تحمُّل المسئولية.

مستوًى عالٍ من المعايير: كثيرًا ما يُثير المعارضون لأسلوب التدريس المُتمركِز حول المتعلم المخاوفَ بشأن المعايير؛ حيث إنهم يُشبِّهون هذا الأسلوب في التدريس بتدليل الطلاب، وكأنَّ المعلم يُلبي احتياجهم للدرجات، أو يعتبرهم عملاء يدفعون الأموال مقابل الحصول على منتج ما، وإنما العكس تمامًا هو الصحيح؛ حيث إنه أسلوب يُحفِّز الطلاب على تحمل المسئوليات باعتبارهم متعلمين. وفي القاعات الدراسية التي تتبع هذا الأسلوب في التدريس، يضع المعلمون معايير ذات مستوًى عالٍ، ويُؤمِنون بأن طلابهم يستطيعون الوصول إلى تلك المعايير؛ ومِن ثم يُلزمون أنفسهم بمساعدتهم على تحقيقٍ بذلك.

وقد يبدو أن الطلاب يروق لهم أن يُسهِّل المعلمون الأمور عليهم، فتجدهم يَبتهجون عندما تُلغى المحاضرات، ويبتسمون عندما لا يُضطرون إلى إدراج جزء خاص بالمراجع في الأبحاث التي يُقدِّمونها، أو عندما تُؤجَّل الاختبارات، أو عندما يُلغى فصل من المقرر الدراسي، يتشاوَر الطلاب فيما بينهم بخصوص مَنْ مِن المُعلِّمين يُدرِّس الأجزاء «السهلة» من المواد الدراسية. هل أعضاء هيئة التدريس مختلفون إلى هذا الحد؟ إننا — المعلمين — نتنفَّس الصعداء عندما يُلغى اجتماع إحدى اللجان، أو عندما يُمَد الموعد النهائي لتسليم العمل، أو عندما لا نُكلَّف بالانضمام إلى لجنة بحث أخرى. أليس هذا شكلًا موقرًا من أشكال المبدأ الخاص بالبحث عن اللذة في مُقابل تجنُّب الألم؟ ففي بعض الأحيان، يستحقُّ الطلاب درجات أكثر مما نمنحُهم؛ فهم يُدركون حقًّا أن المواد الدراسية السهلة والمعلمين ذوي المعايير المتدنية يضرُّون بقيمة الخبرات التعليمية، وقد يَبدو أن هذا ما يُفضِّلونه، ولكن الأبحاث تقول إنهم لا يَعرفون الفارق.

ومن واقع الأبحاث التجريبية التي أُجريت على تقييمات الطلاب للمعلمين، أدركنا أن التقييمات العالية ليست من نصيب المُعلِّمين الذين يدرسون المواد الدراسية السهلة، رغم أنَّ الكثير من أعضاء هيئات التدريس لا يزال يَعتقدون في ذلك. فبوجه عام، المواد الدراسية السهلة لا تَحظى بتقييم عالٍ مثل المواد الدراسية التي تتسم بالصرامة والمعايير عالية المستوى (من أجل الاطلاع على عدد أكبر من الأبحاث الشاملة، انظر مارش وروش، ٢٠٠٠، وسنترا، ٢٠٠٣، ومن أجل الاطلاع على أمثلة للأبحاث المستقلة، انظر يانسن وبروينسما، ٢٠٠٥، ديي، ٢٠٠٧، مارتن وهاندز ولانكستر وترايتن وميرفي، ٢٠٠٨). هذه النتائج أثبتتْها الأدبيات التربوية التي استعرضَت تطبيق الممارسات الخاصة بأسلوب التدريس المُتمركِز حول المتعلم، وسواء أكان الأمر مرتبطًا بتحديد السياسات المعمول بها في قاعة الدراسة، أو تحديد المواعيد النهائية لتسليم الواجبات الدراسية أو ابتكار أسئلة الاختبارات القصيرة، فإنَّ الطلاب سيتحمَّلون مسئولية ما يَقومون به. هكذا لا يستغلُّ الطلاب الموقف ويُفضِّلون اختيار البدائل السهلة؛ فالمعايير والتوقُّعات الخاصة بالمعلم تدعوهم إلى القيام بعمل أفضل، ولا سيما حين يُيَسِّر المعلم محاولات تعلمهم، كما ناقشْنا في الفصل الثالث.

يبدو أن عددًا كبيرًا جدًّا من أعضاء هيئات التدريس قد حادوا عن المسار الصحيح فيما يخص المعايير؛ حيث إنهم يُركزون على رفع مستوى المعايير بدلًا من وضع المعايير، ثم رفع مستوى الجهود التي يَبذلها الطلاب للوصول إلى تلك المعايير. لا تتَّضح دومًا ماهية المعايير التي يتمسَّكون بها، ولكنها معايير رفيعة المستوى، لا تتغير أبدًا، ومعظم الطلاب الجامعيِّين الحاليين لا يستطيعون الوفاء بها. غير أنها معايير يحرص المعلمون على تذكُّر هدف الوصول إليها، ويوجد عدد قليل من الطلاب، معظمهم من طلاب السنوات المُنْصَرِمة، بلغوا هذه المستويات فعلًا، ولكن في الوقت الحالي لا تُظهر هذه المعايير شيئًا سوى المستوى الفكري الضعيف جدًّا للطلاب الجامعيين.

يمكن أن تكون المعايير عالية المستوى، ولكنها لا ينبغي أن تكون تعجيزية وصعبة المنال؛ فالأهداف رفيعة المستوى على نحو تعجيزيٍّ لا تُحفِّز الطلاب على بذل المجهود، وإنما الأهداف رفيعة المستوى التي يُمكن تحقيقها هي ما تُحفِّز الطلاب على ذلك. وفي الأجواء الدراسية التي تُشجِّع على التَّعلُّم، لا تكون المعايير بمنزلة قوانين ثابتة غير قابلة للتغيير، بل إنها تتطور مع تغير المحتوى ومع تغير المعرفة والمهارات اللازمة لتحقيق النجاح في الحياة العملية بعد التخرج، والأهم من ذلك أن المعلم لا يتعامَل مع المعايير، وإنما مع الطلاب، وذلك بعد تحديد الأهداف الواقعية التي تُمثِّل تحديًا لهم. يتمسك المعلمون، الذين يتبعون أسلوب التدريس المُتمركِز حول المتعلم، بالمعايير العالية، ولكنهم يَثقون بشدة فيما يستطيع الطلاب تحقيقه. وعندما يرى الطلاب أن المعلمين يَقفون في صفِّهم ويُلزمون أنفسهم بمساعدتهم على تحقيق النجاح، فإنَّ هذا يُشجِّعهم ويُحفِّزهم على بذل الجهد؛ فعندما يؤمن المعلمون بالطلاب، يَشرع الطلاب في الإيمان بأنفسهم، ويبدءون في التصرف مثلما تتصرف نوعية المتعلمين الذين نريد من الطلاب أن يتحولوا إليهم.

التعبير عن الاهتمام: يجب أن يهتمَّ الأساتذة الجامعيون بالطلاب؛ إذ تشير الكثير من الأبحاث إلى السبب وراء ذلك. ويلخص مقال ممتاز كتبه مايرز (٢٠٠٩) هذه الأبحاث ويدمجها. ووجَد أحد الأبحاث، (ويلسون، ٢٠٠٦) التي يستشهد بها المقال، أنَّ تصورات الطلاب عن التوجهات الإيجابية التي يتبناها الأساتذة تجاههم (بمعنى أن الأساتذة كانوا مهتمين بطلابهم ويَرغبون في نجاحهم) شكَّلت ٥٨ بالمائة من عامل التباين الخاص بحافز الطلاب. ووجَد بنسون وكوهين وباسكيست (٢٠٠٥) أنه عندما توطَّدت العلاقة بين المعلم والطالب، زاد استمتاع الطلاب بالمحاضرة، وتحسَّنت نسبة حضورهم، وكذلك تحسَّن مستوى انتباههم خلال المحاضرة، وزاد معدل مذاكرتهم للدروس، وزاد احتمال تسجيلهم في مواد دراسية إضافية بالتخصص الدراسي. ويُلخِّص مايرز هذه الأبحاث ودراسات أخرى أيضًا على هذا النحو قائلًا: «على الرغم من حقيقة أن الطلاب يُدركون تمامًا ما إذا كان أساتذتهم يهتمُّون بأمرهم أم لا، فإنَّ الأساتذة لا يمنحون بالضرورة الأولوية لهذا الجانب من عملية التدريس مثلما يفعل الطلاب» (٢٠٠٩، ص٢٠٥). وعدد كبير ومثير للدهشة من المعلمين ينقلون رسائل يَعتبرها الطلاب إشارات تدل على عدم الاهتمام. وقد سأل هووك وليونز (٢٠٠٨) أكثر من ثلاثمائة طالب من طلاب ماجستير إدارة الأعمال إذا ما انتابهم من قبل شعورٌ بأن معلِّم إحدى المواد الدراسية قد «فقَد الثقة» فيهم وفي تعلُّمهم. كان رد أربعة وأربعين بالمائة من الطلاب عن هذا السؤال بالإيجاب.

يجد بعض أعضاء هيئات التدريس أن ضرورة التعبير عن الاهتمام بالطلاب هو أمر مُزعج؛ فمُهمَّتهم هي التدريس، لا تقديم الاهتمام. وينبغي للطلاب أن يكونوا قادرين على التَّعلُّم، سواء أكان المعلم يبدي الاهتمام أم لا. البعض الآخر يؤكد على أنهم مهتمُّون فعلًا، ويُبدون هذا الاهتمام عن طريق التحضير دومًا قبل إلقاء المحاضرة، وتحديث المادة العلمية بانتظام، وإمداد الطلاب بالتقييم في الوقت المناسب، ولكن طلابهم لا يُقدِّرون هذه الجهود أو لا يرونها تعبيرًا عن الاهتمام. ولا يزال عدد آخر من أعضاء هيئات التدريس يُساورهم القلق من أن يكون التعبير عن الاهتمام تعديًا على الحدود المهنية، مما يُورِّطهم في الحياة الشخصية الخاصة بطلابهم، أو يُؤثِّر في المعايير الأكاديمية وصرامة الأجواء الدراسية. ويُلقي مقال مايرز (٢٠٠٩) ومقال هووك وليونز (٢٠٠٨) الضوء على الأبحاث التي حدَّدت مجموعة متنوعة من السلوكيات المتعلقة كثيرًا بالتعبير عن الاهتمام. واشتمل المقالان على أمور مثل: الاستعانة بأمثلة ذات طابع شخصي، واستحضار روح الدعابة، ومخاطبة الطلاب بأسمائهم، والحديث معهم على نحو غير رسميٍّ قبل بدء المحاضرة أو بعدها، والابتسامة والتجول في أرجاء قاعة الدراسة. ومِن الصعب تخيُّل كيف يمكن أن تمسَّ تصرفات كهذه بالنزاهة الأكاديمية الخاصة بالمادة الدراسية، أو تتعدَّى الحدود المهنية، أو تفوق مؤهِّلات أعضاء هيئة التدريس.

وكما هي الحال مع الكثير من الجوانب الخاصة بعملية التدريس، يُمكن إبداء الاهتمام بالطلاب بطرق مختلفة، بل إن ثمة خيارات لمن لا يَتبعون أساليب التدريس القائمة على الدعم أو التشجيع بوجه خاص. ويمكن أن تكون هذه الخيارات بسيطة على صورة تعليق عابر لطيف، أو علبة حلوى موضوعة بجوار مقعد الطالب في مكتب المعلم، أو ردود تُظهر الاهتمام باستفسارات رسائل البريد الإلكتروني، ويجب أن تكون وسائل التعبير عن الاهتمام صادقة، إلا أنه يُمكن أن تكون متنوعة أيضًا وينبغي أن تتلاءم مع شخصيتك كمعلم على نحو مريح.

ويذكر مايرز (٢٠٠٩، ص٢٠٩) نقطة أخيرة تستحقُّ الإشارة إليها: «عادةً ما تنشأ حلقة تبادل، يردُّ فيها الطلاب الاهتمام الذي يَستقبلونه من أساتذتهم بطُرق تُجدِّد الهدف، وتمنَح المعلمين شعورًا بأنهم يُحدِثون فارقًا في حياة الطلاب بطرق مهمَّة.» وبعبارة أكثر بساطة، ليس الطلاب هم المُستفيدين الوحيدين من التعبير عن الاهتمام.

الالتزام بالتَّعلُّم: عندما يلتزم المعلمون بالتَّعلُّم ويُظهرون هذا الالتزام بصورة جلية للعيان، فإن هذا الأمر يُحفِّز الطلاب ويُغيِّر من توجُّههم نحو التَّعلُّم. ويُمكن إبراز الالتزام بالتَّعلُّم عن طريق عدة طرق، بدءًا بالاقتراح المقدَّم في الفصل الخامس، وأقصد تكرار طرح السؤال التعليمي بانتظام: «ماذا تتعلمون؟» من هذه المادة، ومن المواد الدراسية الأخرى التي تدرسونها، ومن أصدقائكم، وأثناء وجودكم في العمل، وفي أثناء وجودكم في البيت، وأثناء القراءة، وعبر شبكة الإنترنت؟

بالنسبة إلى معظم المعلمين، من السهل الاستعانة بالمحتوى الدراسي لإبراز الالتزام بالتَّعلُّم. إننا ننسى أحيانًا أن حبنا للمادة العلمية يمكن أن يُؤثِّر في الطلاب بشدة. كم واحد منا اتجه نحو هذا المجال؛ لأنه كان لديه معلم يحب المحتوى الذي يَدرسه بجنون؟ وربما نتردَّد قليلًا في إظهار هذا الارتباط العاطفي. لقد قضينا سنوات (وبالنسبة إلى بعضنا، سنوات «كثيرة») نَدرس ما يبدو للآخرين وكأنها مجالات معرفية شديدة التخصُّص، وعندما نُحاول شرح هذه المجالات التخصُّصية للآخرين، سرعان ما يتَّضح أنهم لا يفهمون شيئًا، ولا يريدون أن يفهموا، ولا يدركون كيف يمكن أن يكون هذا التخصص مثيرًا للاهتمام بالنسبة إلى شخص ما. يتفاعل الطلاب بهذا القدر نفسه من الحيرة والارتباك، بل إن استجابتهم أحيانًا ما تكون أشبه بالازدراء. لقد كتبتُ في موضع آخر عن زميل لي بجامعة ولاية بنسلفانيا كرَّس حياته لدراسة الخنافس المائية. وأجريتُ مقابلة شخصية مع أحد الطلاب المسجَّلين بمادته، والذي علق قائلًا: «تجد لديك رغبة في إخبار الرجل بأنه ينبغي أن يكون لديه حياة خاصة، ولكنَّك لا تستطيع قول ذلك؛ لأنه من الواضح أن هذه الخنافس هي حياته.»

وعلى الرغم من غرابة ما ندرسه، فإنَّ الشعور بالشغف حيال المادة العلمية يمكن أن يُحفِّز الطلاب، ويمكن التعبير عن هذا الشغف بعدة طرق متنوعة. ليس من الضروري أن يكون التعبير باستعراض مؤثر للحماسة أو باستعادة للذكريات الدرامية، أو بحركة تعبيرية متحمِّسة. ذات مرة حضرتُ محاضرة رياضيات، وكان أستاذ المادة يفعل ما هو معتاد فعله في مثل هذه المواد؛ إذ وقف يحلُّ إحدى المسائل الرياضية، شارحًا الخطوات ليملأ السبورة المقسمة إلى جزأين قبل أن يَصل في النهاية إلى الإجابة. ثم مسح يدَيه الملطخة بالطباشير في سرواله، وحاول بفتور أن يدسَّ قميصه داخل سرواله أكثر أثناء توجهه إلى الجهة الأخرى من القاعة. ومن موقعه ذاك، حدَّق في المسألة لبضع ثوانٍ، ثم قال للحاضرين: «هل تلاحظون التناسُق؟ إنه منظر جميل حقًّا، ولهذا السبب أحب الرياضيات.» لم ألاحظ التناسق الذي تحدَّث عنه، ولكن أظن أن بعض الطلاب لاحظوا الأمر، وفهمنا جميعًا الرسالة. بهذا القدر البسيط والحقيقي من المصداقية، تحدَّث هذا الأستاذ — الذي يميل إلى المظهر الرث أكثر منه إلى المظهر المُفعم بالنشاط والحيوية — عن سمة تَأسره في محتوى المادة.

كما أنَّ الطلاب يستفيدون أيضًا من رؤية أستاذ المادة يُبدي التزامًا عامًّا أكثر نحو التَّعلُّم، فإذا استطاع الأستاذ أن يتحدَّث عما يحاول تَعلُّمه في الوقت الحالي، أو إذا ما اتَّبع المعلم أسلوب التدريس الهادف لتنمية مهارات التَّعلُّم مباشرةً — سواء أتمثلت هذه المهارات في التفكير النقدي، أم حل المَسائل، أم تحليل الأدلة، أم نقل المعرفة — فإن الطلاب يَرون أن التَّعلُّم يُمثِّل أهمية، ويُصبِحون أكثر وعيًا بأنفسهم كمُتعلِّمين، ويَشرعون في إدراك أن الطريقة التي يذاكرون بها المادة تُحدث فارقًا على مستوى تقديراتهم الدراسية، بل وعلى مستوى أوسع نطاقًا أيضًا. هكذا تكون مهارات التَّعلُّم التي استَطاعوا اكتسابها في المرحلة الجامعية مفيدة، ومِن ثَمَّ قيمة. بالطبع، هذا لا يحدث دفعة واحدة، ولا يحدث لكل طالب. ولكن عندما يشتمل جزء من علاقة المعلم تجاه الطلاب وطريقة تعامله معهم على التزامٍ واضح للغاية بالتَّعلُّم، فسيكون لهذا أثرٌ على معظم الطلاب.

سيلاحظ بعض القُراء منكم أن كل سمة من سمات هذه العلاقة تصف المعلمين. ويُوضِّح مضمون الجزء الافتتاحي من هذا الفصل أن المناخ الدراسي ليس بشيء يُوفِّره المعلم وحده، وهذه السمات الخاصة بالمعلم لا تعارض تلك النقطة، وإنما تُوضِّح هذه السمات الدور القيادي الذي يُؤديه المعلمون الذين يتبعون أسلوب التدريس المُتمركِز حول المتعلم فيما يتعلق بتوفير الأجواء الدراسية، التي تُشجِّع عملية التَّعلُّم، والحفاظ على هذه الأجواء، كما تُوضِّح قائمة هيلسن الشاملة (٢٠٠٢، ص١٥٠–١٥٥) لمقترحات توفير مناخ دراسي إيجابي. يتطلع الطلاب إلى أعضاء هيئة التدريس بحثًا عن القيادة فيهم على مدار فترة دراسة المادة. وهم يتأثَّرون بالطرق التي يقترحها أعضاء هيئة التدريس لتحديد ماهية العلاقات التي تربطهم بالطلاب. النقطة الرئيسية في هذا القسم هي أنَّ تلك العلاقات يمكن تصميمها بطرق تُشجِّع الطلاب على تَحمُّل مسئولية التَّعلُّم. إنها علاقات تُعزِّز تنمية قدرات المتعلمين المستقلين الذين يتَّسمون بالتوجيه الذاتي، و«الجو الدافئ»، في مثل هذه القاعات الدراسية، يجعل الجميع أكثر إنتاجية.

(٣) إشراك الطلاب في المناخ الدراسي

بالإضافة إلى العلاقات التي تربط بين المعلم والطالب، والتي تشجِّع عملية التَّعلُّم، توجد أنشطة تُشرك الطلاب في خلق أجواء باعثة على التَّعلُّم والحفاظ على تلك الأجواء وتعزيزها. وكما هي الحال مع أعضاء هيئات التدريس، يستوعب الطلاب فكرة المناخ الدراسي على نحو أقرب لكونه أمرًا فطريًّا أكثر من كونه واضحًا وصريحًا. ويُمكن للأنشطة، التي تُجرى في مرحلة مبكِّرة من دراسة المادة، أن تزيد الوعي وتُحفِّز الإسهامات الإيجابية. والمساهمة المُنتظمة من جانب الطلاب يُمكن أن تساعد، بل وتعزِّز أكثر، تلك الظروف التي تَزيد من الالتزام بالتَّعلُّم. وتصف الأنشطة التالية كيف يُمكن إشراك الطلاب في تحقيق كل هدف من هذه الأهداف. بعض الأنشطة تُحقِّق أكثر من هدف واحد من هذه الأهداف، وجميع الأنشطة تَعتمِد بعضها على بعض. وكلما زاد الوقت الذي يُخصِّصه المعلم لإشراك الطلاب في مسائل متعلِّقة بالمناخ الدراسي، زاد شعورهم بالانتماء تجاه المادة الدراسية، وزاد قدر المسئولية التي يتحمَّلونها لجعل قاعة الدراسة مكانًا مناسبًا للتَّعلُّم.

(٣-١) إشراك الطلاب في خلق المناخ الدراسي

النشاط المفضَّل عندي لتقديم الطلاب لفكرة المناخ الدراسي هو نشاط بسيط يستغرق أقل مِن خمس عشرة دقيقة؛ حيث أُقسِّم السبورة إلى جزءَيْن، وفي جزء أكتب عنوانًا بخط كبير «أفضل مادة دَرَسْتُها في حياتي»، وأكتب في الجزء الآخر «أسوأ مادة دَرَسْتُها في حياتي» (في الواقع، نظرًا لأنني أعمل في إحدى المؤسسات التعليمية الحكومية، كثيرًا ما أكتب «مادة من الجحيم»). وتحت كل عنوان، أكتب عنوانَيْن فرعيَّيْن: «ما فعله المعلم» و«ما فعله الطلاب». وأُخبِر الطلاب بأنني سأقف في مواجهة السبورة وأكتب ما أسمعه منهم. إنني لا أريد أن أسمع اسم أية مادة أو اسم معلم بالتحديد. عادةً ما يَبدءون بأمثلة على الأشياء التي يفعلها المعلمون في محاضراتهم. وعندما تسود فترة صمت، أكتب سريعًا بضع نقاط تحت العنوان الفرعي: «ما فعله الطلاب» في أفضل وأسوأ مادة درَستُها. وفي غضون بضع دقائق، يكون لدينا صورتان مختلفتان تمامًا على السبورة. وأختتم هذا النشاط بالانتقال إلى الجزء المعنون ﺑ «أفضل مادة» وأشير إلى أن هذا هو السبب الذي من أجله أصبحت معلمةً. وأقول لهم: «أريد أن تكون المادة التي أدرسها لكم واحدةً من أفضل المواد، ولكن — كما تعلمون — لا أستطيع القيام بذلك من دونكم. هل يُمكننا التعاون معًا لجعل هذه المادة فرصة لتعلُّم الكثير والاستمتاع أثناء قيامنا بذلك؟»

تروق لي الطريقة التي يُؤدِّي بها هذا النشاطُ إلى توعية الطلاب بالمشكلات المرتبطة بالعلاقة بين الطالب والمعلم، والتي تؤثر على الأجواء الدراسية. وبخُصوص أسوأ المواد التي درَسها الطلاب، يتحدث الطلاب عن المعلمين الذين لم يبدوا الاهتمام، أولئك المعلمون الذين يجعلون قاعة الدراسة مكانًا يُحجم فيه الطلاب عن المشاركة أو الاشتراك في أي نشاط. وبخصوص أفضل المواد التي درَسوها، وصف الطلاب كيف ساعدهم المعلم على التَّعلُّم، وكيف حفَّزهم على العمل بكدٍّ، وكيف استمتعوا بحضور المحاضرات. ويُوضِّح النشاط أيضًا أن تصرفات الطلاب تُؤثِّر فيما يَحدث داخل قاعة الدراسة. إنه يقدم للطلاب فكرة أن المعلمين والطلاب يتشاركون في تحمُّل مسئولية الجو السائد في قاعة الدراسة. وعندما يَسمح الوقت، سنُناقش أيضًا هذه الفكرة.

تقترح باربرا جوزا (١٩٩٣) نشاطًا مشابهًا تُطلق عليه «جرافيتي تقييم الحاجات»؛ حيث تَكتب الجزء الاستهلالي لعشر جمل على رأس صفحة في حجم ورقة الصحُف (جملة واحدة في كل صفحة)، وتُعلِّقها على حوائط قاعة الدراسة. يتجوَّل الطلاب خلال الدقائق القليلة الأولى، ويَجتمع بعضهم مع بعض ليُكملوا نهايات هذه الجمل. وتَستعين باربارا جوزا بهذا التدريب لجمع المعلومات عن أهداف الطلاب من دراسة المادة، واكتشاف مستويات المعرفة الأساسية، وإثارة الاهتمام بأهداف المادة. ويُمكنك أن تستعين بالنشاط لهذا الغرض، أو يُمكنك أن تُعدِّله لفتح باب النقاش بخصوص المناخ الدراسي والظروف المناسبة للتَّعلُّم، أو تستعين به لإنجاز كلا الغرضَيْن. وإليك بعض الأمثلة على رءوس الجمل المرتبطة بموضوع المناخ الدراسي: «في أفضل مادة دَرَستُها في حياتي، كان الطلاب …»، «في أفضل مادة دَرَستُها في حياتي، كان المعلم …»، «أتعلم على نحو أفضل، عندما …»، «أشعر بثقة تامة كمُتعلِّم، عندما …»، «لا أتعلم جيدًّا في قاعة دراسية بها …»، «يُشجعني الزملاء على التَّعلُّم عندما …»

يُمكن الاستعانة ببحث أجراه أبلبي (١٩٩٠) لتصميم نوعية مختلفة جدًّا من نشاط تهيئة المناخ الدراسي. تُعد نتائج أبلبي قديمة نوعًا ما، ولكن الفكرة الأساسية ليست قديمةً؛ إذ استطلع أبلبي آراء مجموعة من الطلاب، وطلب منهم أن يُحدِّدوا أكثر السلوكيات التي «ضايقتْهم» من جانب أعضاء هيئة التدريس. كما استطلع أيضًا آراء أعضاء هيئة التدريس، وطلب منهم أن يسردوا قائمة بالسلوكيات التي ضايقتهم من جانب الطلاب. لا تزال بعض هذه السلوكيات مزعجة، مثل الطلاب الذين يتحدَّثون أثناء المحاضرة، ويَغلبهم النعاس، ويتأخَّرون عن موعد المحاضرة، ويُغادرون مبكرًا، ويتغيَّبون باستمرار، والذين يَبدو عليهم الملل أثناء المحاضرة، وأعضاء هيئة التدريس الذين يُواصِلون المحاضرة حتى وقت متأخِّر، والذين يُعاملون الطلاب مثل الأطفال، والذين يَعتقدون أنهم دائمًا على حق.

يُمكنك أن تقسم الطلاب إلى مجموعات، وتَضرب بعض الأمثلة على هذه السلوكيات، وتطلب من كل مجموعة أن تُحدِّد خمسة سلوكيات تَصدر من أعضاء هيئة التدريس وتُضايق الطلاب، أو سلوكيات تصدر من أعضاء هيئة التدريس وتُعرقل عملية التَّعلُّم. ويُمكن تجميع النتائج من كل مجموعة لابتكار قائمة بأكثر خمسة سلوكيات مُزعجة. ويُمكن مشاركة هذه السلوكيات مع الطلاب، بالإضافة إلى قائمة أعضاء هيئة التدريس بأكثر خمسة سلوكيات من جانب الطلاب تُزعج أو تُصعِّب عملية التدريس. الهدف هو جعل الطلاب يتجنَّبون هذه السلوكيات، أما ورقة الضغط فهي عبارة عن التزام أعضاء هيئة التدريس بتجنُّب السلوكيات التي تُضايق الطلاب وتُهدِّد الجهود التي يَبذلونها للتَّعلُّم. هذا النشاط يُجنِّبنا الحاجة لملء خطة المنهج بالتحذيرات والمَمنوعات. ستظلُّ هناك سلوكيات متعارضة مع القواعد، ولكن يتمُّ تحديدها عن طريق عملية تجعل كلًّا من المعلمين والطلاب عرضةً للمساءلة وتحمُّل المسئولية.

لقد تعلمنا من البحث الخاص بفريزر (١٩٨٦) أنَّ المناخ الدراسي يتأثَّر أيضًا بالعلاقات بين الطلاب بعضهم مع بعض سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، وهذه العلاقات يجب أن تلقى تشجيعًا، وبخاصة في القاعات الدراسية التي لا يعرف فيها الطلاب بعضهم بعضًا. والكثير من أعضاء هيئات التدريس يستعينون بوسائل لكسر الجمود داخل قاعة الدراسة من أجل بدء عملية التعارف بين الطلاب. ويُمكن العثور على مجموعة رائعة من الوسائل في كتاب باركلي بعنوان: «أساليب إشراك الطلاب» (٢٠١٠، ص١١٥–١٢٠). وتروق لي وسائل كسر الجمود المرتبطة بالمحتوى الدراسي؛ ففي نشاط التعارف السريع الذي ابتكرتْه كارين إيفلار، يجلس الطلاب في صفَّيْن متقابلَين. ويُمسك كل طالب في يَدَيْه نسخةً من خطة المنهج الدراسي، وتَطرح كارين إيفلار سؤالَيْن: واحدًا بخصوص شيء في المنهج الدراسي، والآخر سؤال شخصي. ويجب أن يردَّ كل طالب بسرعة على كِلا السؤالَيْن قبل أن يترك شريكه مكانه لطالب جديد في الصف نفسه، ويُجيب الشركاء الجدد على سؤالَيْن مختلفَيْن. نشاط كهذا لا يجعل الطلاب يتفاعَلون بعضهم مع بعض وحسب، بل هو طريقة أخرى للمعلمين لا تضطرُّهم إلى «استعراض» خطة المنهج الدراسي.

توجد أنشطة أخرى موضحة في فصول أخرى بهذا الكتاب، يمكن الاستعانة بها لتهيئة أجواء دراسية تُشجِّع على التَّعلُّم. إن السماح للطلاب كي يُحدِّدوا إحدى السياسات أو عدة سياسات داخل قاعة الدراسة، كما جاء في الفصل الرابع، أو منْح الطلاب دورًا في ابتكار خطة المنهج الدراسي يُرسِّخ بفاعلية المسئولية المشتركة عما يحدث داخل قاعة الدراسة.

(٣-٢) إشراك الطلاب في الحفاظ على المناخ الدراسي

أنشطة كتلك التي استعرضناها توًّا تُساعد فعلًا في توفير مناخ دراسي جيد داخل قاعة الدراسة، ولكن مثل الطقس، المناخ الدراسي يُمكن أن يتغيَّر، وأحيانًا على نحو سريع جدًّا. أحيانًا يتغيَّر المناخ الدراسي تدريجيًّا، مثلما تتحوَّل فصول السنة من فصل لآخر بالتدريج. وعلاوةً على ذلك، يَعيش الطلاب والمعلمون جوانب المناخ الدراسي على نحو مختلف؛ فالبعض أكثر حساسية تجاه «البرد»، بينما يكون البعض الآخر أكثر تناغمًا مع التغيير. ومن أجل الحفاظ على المناخ، يَحتاج المعلمون إلى مجموعة من الأنشطة التي تمكنهم من الحفاظ على خط سير البيئة التعليمية داخل قاعة الدراسة. ومِن الخطورة أن نفترض أن تصورات أعضاء هيئات التدريس وتصورات الطلاب عما يحدث داخل قاعة الدراسة هي تصورات متماثلة.

ما زلتُ أوصي أعضاء هيئات التدريس باستخدام القائمة الخاصة بالبيئة السائدة في قاعة الدراسة داخل الكليات والجامعات (فريزر وتريجست ودينيس، ١٩٨٦) التي ناقشْناها في موضع سابق من هذا الفصل. القائمة والتعليمات الخاصة بحساب مجموع النقاط فيها مُدرجة في المقالة البحثية، وبالإضافة إلى توفير التقييم فيما يخص المناخ الحقيقي السائد داخل قاعة الدراسة، فإن هذه القائمة تُنمِّي وعي الطلاب لما يشكل الأجواء الدراسية. كما ذكرنا في موضع سابق، طلب الباحثون من الطلاب أن يُجيبوا عن كل بند في القائمة مرتين: مرة لتقييم المناخ الدراسي المثالي، ومرة أخرى لتقييم المناخ السائد في هذه المادة تحديدًا. هذه المقارنات مفيدة، وتزداد قيمة هذا التقييم أيضًا عندما يُكمل أعضاء هيئات التدريس هذه القائمة. ويُمكنك أن تكملها بالطريقة نفسها التي يتبعها الطلاب، وذلك عن طريق الإشارة إلى المناخ الدراسي المثالي، ثم الإشارة إلى تجربتك بخصوص المناخ السائد أثناء دراسة هذه المادة. إنَّ مقارنة نتائجك بالنتائج المُجمَّعة من الفرقة الدراسية قد يُسفر عن مناقشة مُمتعة وتثقيفية (ويمكنك أن تُؤدِّي هذا النشاط عبر شبكة الإنترنت إذا كنتَ تُفضِّل عدم تخصيص وقت من المحاضرة لهذا الأمر). إذا كنتَ مهتمًّا بمعرفة مدى دقة إدراكك لتقييمات الطلاب فيما يتعلَّق بالمناخ السائد داخل قاعة الدراسة، يُمكنك أن تكمل القائمة لتتوقَّع إجابة الفرقة الدراسية قبل أن يتمَّ حساب درجاتها. وإذا ما أكمل الطلاب القائمة لأكثر من مرة واحدة، فإنه يُمكن تتبُّع تغيرات المناخ الدراسي عبر الزمن.

لقد جمعتُ تقييمات المناخ الدراسي باستخدام نسخة مُعدلة لأسلوب التقييم الذي اقترحه جارنر وإيمري (١٩٩٣)؛ حيث جعلا الطلاب يُقسمون ورقة حجمها ٢١٫٥٩ سنتيمترًا × ٢٧٫٩٤ سنتيمترًا إلى ثلاثة أعمدة. وصنَّفا الأعمدة تحت العناوين التالية: «ابدأ» و«توقف» و«استمر». وتحت عنوان «ابدأ»، جعَلا الطلاب يدوِّنون الأمور الغائبة عن البيئة السائدة في قاعة الدراسة الحالية، تلك الأمور التي إن وُجدت من شأنها تعزيز تعلمهم. وتحت عنوان «توقف»، يدوِّن الطلاب جوانب في المناخ الدراسي تَنتقص من قيمة تجارب التَّعلُّم الخاصة بهم. وتحت عنوان «استمر»، يدوِّن الطلاب الأمور التي نفعلها وتُسهم على نحو إيجابي وينبغي الحفاظ عليها.

وسواء أكنتَ تستعين بنوع من القوائم الخاصة بتقييم المناخ الدراسي أو وسيلة أخرى من وسائل التقييم المنهجي البنَّاء، فمِن الضروري أن تُطلع الطلاب على النتائج. هذا ليس تقييمًا مفيدًا للمُعلمين وحسب. فسواء أكان المناخ داخل قاعة الدراسة جيدًا أم سيئًا أم في موضع ما بين الاثنَيْن، فلقد ساهم الطلاب فيما صار الأمر عليه. إنَّ مشاركة المعلومات يُوفِّر فرصة مُمتازة لحث الطلاب على التفكير في إسهاماتهم؛ أي كيف تُعرقل بعض التصرُّفات الجهود التي يَبذلها الجميع للتَّعلُّم، وكيف يُمكن لتصرفات أخرى أن تجعل من قاعة الدراسة بيئة أفضل للتَّعلُّم.

(٣-٣) إشراك الطلاب في تعزيز المناخ الدراسي

بالإضافة إلى توفير المناخ المناسب للتَّعلُّم داخل قاعة الدراسة، واتخاذ الإجراءات التي تَضمن الحفاظ على هذا المناخ، من المُمكن أيضًا مواصلة تهيئة المناخ المناسب للتَّعلُّم؛ بحيث يكون أكثر تشجيعًا على التَّعلُّم. وبالاستعانة مرة أخرى بالتشبيه المجازي الخاص بالطقس، كلَّما كان مناخ التَّعلُّم «أكثر دفئًا» داخل قاعة الدراسة شعر الطلاب بمزيد من التحفيز، وأسفر ذلك عادةً عن مزيدٍ من التَّعلُّم.

يُقدِّم العمل الجماعي مثالًا مُحدَّدًا؛ فبينما يمضي الطلاب قدمًا في دراسة المادة، ويَكتسبون الخبرة من العمل في مجموعات، يمكن تشجيعهم أيضًا على تَحمُّل المزيد من المسئوليات تجاه ما يحدث داخل المجموعة. إنني أُشجِّع الطلاب على التفكير في المستقبل عند العمل مع الآخرين في سياق مِهَني لا يكون فيه المعلم على مقربة كي يحل مشكلات المجموعة. هل التوجه إلى مكتب المدير للشكوى من أن أعضاء المجموعة لا يُشاركون في العمل، أو لا يَستعدون لحضور الاجتماعات، أو لا يُنجزون عملًا ذا جودة عالية هو ما يتوقَّعه المدير من مهنيِّين ذوي مُؤهِّل جامعي؟

كيف يُمكن منْح المجموعات سلطة للتعامل مع هذه النوعية من المشكلات الخاصة بالتواصُل بين أفراد المجموعة الواحدة؟ الأمر يبدأ بفهم أنَّ لأعضاء المجموعة مسئوليات فردية، وأن للمجموعة ككل مسئوليات جماعية. وتنصُّ لائحة الحقوق والمسئوليات الخاصة بأفراد المجموعة، الموجودة في الملحق الثاني من هذا الكتاب، على ما يحقُّ للأفراد تَوقُّعه من المجموعة وما يحقُّ للمجموعة تَوقُّعه من الأفراد المستقلِّين. يمكن توزيع هذه الوثيقة على المجموعات في أول مقابلة لهم، وربما يُكلَّفون بمناقشة الوثيقة ومُراجعتها والتصديق عليها. أو يمكن تشجيع المجموعة على ابتكار وثيقة الحقوق والمسئوليات الخاصة بهم؛ فوجود وثيقة كهذه لا تضمَن أن أعضاء المجموعة — على مستوى الفرد أو الجماعة — سيتصرَّفون بناءً على الحقوق والمسئوليات المخوَّلة لهم، وإنما ستُحسِّن فرص حدوث ذلك، وإن لم يَحدث هذا، فإنها ستُسهِّل التعامل مع المشكلة على نحو أكبر.

في إحدى مواد السنوات النهائية التي تَستغرِق فيها المشروعات الجماعية وقتًا طويلًا وتتسم بالتعقيد، جعل أحد زملائي كل مجموعة تُشكِّل رابطةً لتيسير عملية التواصل. يجتمع أعضاء هذه الرابطة الميسِّرة لعملية التواصل مع المعلم مرة واحدة كل بضعة أسابيع. وتُناقش المجموعة عدة مشكلات متنوعة، مثل: الأعضاء الذين لا يُنجزون العمل المطلوب، والصعوبات التي قد تواجهها المجموعة بخصوص تسوية الخلافات، والأعضاء الذين يرغبون في إنجاز العمل كله بمفردهم، وأعضاء المجموعة الذين يُؤجِّلون العمل، ويُناقش الأعضاء المُيسِّرون لعملية التواصل — بمساعدة المعلم — الحلول في جلسة عصف ذهني؛ أي الخيارات التي قد تلجأ إليها المجموعة للتعامل مع هذه المشكلات. يعود الأعضاء المُيسِّرون لعملية التواصل إلى مجموعتهم الأساسية ليناقِشوا المشكلات والحلول، ويكون التحدي الماثل أمامهم هو تشجيع المجموعة على التعامل مع المشكلات. وعن طريق العمل الجماعي، يُعزَّز المناخ المناسب للتَّعلُّم عندما تصير المجموعات قادرةً على الاعتماد على أنفسها لأداء وظيفتها بفاعلية.

إن المناخ المناسب للتَّعلُّم داخل قاعة الدراسة يتحسَّن أيضًا عندما يتحمَّل الطلاب المُستقلُّون المسئوليات، وأفضل مثال على ذلك هو توقُّف الطلاب تلقائيًّا عن إلقاء اللوم على المعلمين أو مُستوى صعوبة الاختبار فيما يخصُّ ضعف مستوى أدائهم. ليس من السهل دومًا جعل الطلاب يَفهمون أنهم اتخذوا قرارات ساهمت في ضعف مستوى أدائهم في الاختبار، ولكن إليك بعض الأفكار. ادْعُ الطلاب أصحاب الأداء الضعيف لمُقابلتك أثناء ساعات العمل في مكتبك، إذا كان حجم الفِرقة الدراسية يَسمح بذلك. وَجِّهْ هذه الدعوة عبر البريد الإلكتروني أو عن طريق ملحوظة خاصة على الاختبار، وليس عن طريق إخبار الطالب أمام الفِرقة الدراسية بأكملها أن يأتي لمُقابلتك في مكتبك. وإذا كنتَ تريد الاستعانة بأسلوب ذي تأثير أقوى، احجُب درجة الاختبار حتى يأتيَ الطالب لمقابلتك، ربما يتعيَّن عليك حجْب بعض التقديرات الممتازة والمتوسِّطة أيضًا — وليست التقديرات الراسبة وحدها — وإلا سيفهم الطلاب النظام المتَّبع، وسيَأخذون حذرهم من الذهاب إلى مكتبك. إنَّ توجه الطلاب إلى مكتبك هي الخطوة الأولى نحو تَحمُّلهم للمسئولية تجاه التقدير الدراسي. لن يأتيك جميع الطلاب، وعلى المعلمين أن يكونوا واقعيِّين، أقصد أننا لا نستطيع مساعدة الطلاب الذين لا يُريدون المساعدة.

إن الحوار الذي لا تُريده هو ذلك الحوار الذي يُخبر فيه المعلم الطالب بما يتعيَّن عليه القيام به، وإنما يجب على المعلم في هذا الحوار أن يُثير تساؤلات مثل: كيف ذاكرتَ دروسك؟ ما الذي ذاكرته؟ في رأيك لماذا لم تنجح أساليبُكَ الخاصة؟ هل هناك بعض الأمور التي أنجزتها حقَّقتْ نتائج أفضل من أمور أخرى؟ يجب أن يكون الحوار متعلقًا بالمستقبل أيضًا: إذَن ما الذي يتعيَّن عليك فعله الآن لتستعدَّ على نحو أفضل للاختبار القادم؟ هل هذا يتضمَّن الذهاب إلى مركز من مراكز التَّعلُّم ورؤية أي نوع من المساعدات قد يكون متاحًا هناك؟ والنتيجة المرغوبة هي التوصُّل إلى خطة استراتيجية مدروسة تتضمَّن إجراءات ملموسة يستطيع الطالب اتخاذها. يمكن للمُعلم أن يقترح خيارات ويُقدِّم النصيحة، إلا أنه يتعيَّن على الطالب أن يضع الخطة الاستراتيجية المدروسة بنفسه.

باستخدام نموذج كهذا، أجرى ماكبراير (٢٠٠١) ٥٤٧ لقاءً مع الطلاب، وأفاد بأن درجات الاختبار التالي في مادة مقدمة إلى علم النفس، زادت بوجه عام بمقدار عشر درجات. أما الطلاب الذين كانوا بحاجة إلى تخصيص وقت لعقد مثل هذه اللقاءات ولكنهم لم يَفعلوا، فلم يُظهروا أي تَحسُّن ملموس في الاختبارات التالية. ولعلَّ من الممكن تحفيز المزيد من الطلاب، عن طريق اللقاءات التي تُعقد بعد الاختبارات، لو أنَّ المعلم جمع بيانات كهذه واستَطاع عرض متوسط زيادة درجات الطلاب الذين استفادوا من هذه الفرصة.

•••

كما تُوضِّح هذه الجزئية من هذا الفصل، يوجد الكثير من خيارات الأنشطة التي تُوفِّر مناخًا دراسيًّا بَنَّاءً وتحافظ عليه وتُعزِّزه. حتى الآن، لا تُقدِّم الأبحاث معلومات عن عدد أو طريقة دمج الأنشطة التي نحتاج إليها لصنع تلك الأجواء، حيث يتحمل فيها الطلاب مسئولية التَّعلُّم، وعلى المعلمين أن يَستكشِفوا آثار هذه الأنشطة بأنفسهم. يُمكن لعدد كبير منَّا — نحن المعلمين — أن يُصرِّحوا بأنهم غيَّروا المناخ بالفعل داخل قاعتهم الدراسية بطرق بنَّاءة، على نحو جدير بالملاحظة. إنها أنشطة تُشجِّع الطلاب على التصرف على نحو يبين تَحمُّلهم قدرًا أكبر من المسئولية حيال عملية تعلمهم وعملية تعلم الآخَرين أيضًا.

(٤) مشكلات التطبيق

أودُّ أن أُفكِّر مليًّا في بضعة أسئلة تَبرُز حين تُصبح قاعات الدراسة أماكن يتحمَّل فيها الطلاب قدرًا أكبر من المسئولية تجاه عملية تعلمهم. لهذه الأسئلة تشعُّبات فلسفية وعملية، وللأسف، لست متأكِّدة من أننا قد اقتربنا من الإجابات الآن أكثر مما كنا عليه حين نُشِرَ هذا الكتاب لأول مرة.

ومن واقع تجربتي العملية، اشتملتْ أولى الأسئلة المُثارة على عملية تَوقُّفي وتَوقُّف الطلاب تدريجيًّا عن الاعتماد بقوة على القواعد والسياسات ووسائل التحفيز الخارجية التي مثَّلت لفترة طويلة جزءًا من الخبرات التعليمية الخاصة بالطلاب، وجزءًا من أسلوبي في التدريس. لا يمكنُك أن تتخلَّى عن القواعد كلها دفعة واحدة، ولقد جاهدتُ لاستكشاف الأنشطة التعليمية والواجبات الدراسية والسياسات والأساليب التي تُهيئ الطلاب غير الناضجين، وغير المسئولين عادةً، لتَحمُّل مسئولية التَّعلُّم. ولقد جاهدت أيضًا لاتخاذ الإجراءات التي أجدها مريحة. وفي بعض الحالات كان هذا يعني التخلي عن إحدى السياسات ليَنتهي بي الحال لإعادة هذه السياسة مرة أخرى أثناء الفصل الدراسي التالي. وعلى وجه التحديد، الأسئلة كما يلي: هل الأمر متعلِّق بالتَّخلُّص من بعض القواعد، والحفاظ على البعض الآخر، ولكن بشرط التَّوصُّل إلى عدد أقل من القواعد في المجمل؟ كيف تُحدِّد القواعد التي تبقى والقواعد التي تُلغى؟ أم ينبغي لك أن تُعدِّل القواعد بحيث تتيح قدرًا أكبر من الحريات، وفي الوقت نفسه تجعل الطلاب يتحمَّلون المزيد من المسئوليات؟ أم أن الأمر ينطوي على قدر من المزج بين إلغاء بعض القواعد والحفاظ على بعضٍ منها وتعديل البعض الآخر؟ معظمنا يجيب عن تلك الأسئلة بنفسه، ويفعل ذلك عن طريق التجربة والخطأ.

المجموعة الثانية من الأسئلة متعلقة بالسماح للطلاب بتَحمُّل العواقب المنطقية للقرارات التي يتخذونها حيال التَّعلُّم. كم عدد العواقب التي يتعيَّن على الطلاب (لا سيما المبتدئين) تحمُّلها، وما نوعية العواقب المناسِبة؟ على سبيل المثال، إذا أدركتَ (بناءً على الدليل القاطع، وليس بناءً على انطباع عام) أن الحضور يُؤثِّر بشدة على مستوى الأداء في مادَّتك، فهل السماح للطلاب أن يُقرِّروا حضور المحاضرات أو التَّغيُّب عنها هو أمر ينمُّ عن تحمل المسئولية الأخلاقية؟ لقد رأى معظمنا عددًا كبيرًا جدًّا من الطلاب الذين يتَّخذون القرار الخطأ ويُقرِّرون أن الحضور غير مهم. هل ينبغي لنا أن نسمح للطلاب المبتدئين باتخاذ قرارات قد تَعني أنهم سيَحتاجون في نهاية المطاف إلى خمسة أعوام لإنهاء الدراسة الجامعية، أو قرارات تُعرِّض مستقبلهم الأكاديمي للخطر؟ من المغري أن ترفض هذا الأمر وتضع سياسةً صارمةً لمتابعة الحضور والغياب تجعل عددًا أكبر من الطلاب يَحضرون المحاضرات. ولكن هل يتعلم الطلاب الدروس الأهم من جراء اتباع سياسات صارمة لمتابعة الحضور والغياب؟ هل يَعرفون السبب الذي يجعل حضور المحاضرات يُحدث فارقًا؟ هل يَشرعون في حضور المحاضرات بانتظام بغضِّ النظر عن وجود سياسة لمتابعة الحضور والغياب؟ إليك الهدف: دَعِ الطلاب يتحمَّلون عددًا كافيًا من العواقب لكي يتعلَّموا الدرس المستفاد قبل أن يتسبَّب قرارهم السيئ في وقوع ضرر بالغ يتعذَّر إصلاحه.

في النهاية، ثمة سؤال فلسفي له نتائج عملية كثيرة: إذا كان الهدف الأساسي من وراء التدريس المُتمركِز حول المتعلم هو تمكين المتعلمين المستقلين من إدارة عملية تعلمهم، إذَن كيف يتسنى لمجموعة من الأفراد، بصِفَتهم يُشكِّلون فرقةً دراسية، أن يضعوا حدًّا أو يتجاوزوا مستوى الميول التعليمية الخاصة بالمتعلمين الفرديِّين أو بالأحرى التأثير عليها؟ على سبيل المثال، إذا كان أحد الطلاب يجيد العمل وفق مجموعة من المواعيد النهائية لتسليم العمل (وربما تكون هذه المواعيد النهائية يُوجِبها الطالب على نفسه)، بينما يجيد طالب آخر العمل على نحو أفضل من دون الضغوط التي تُوجبها المواعيد النهائية، فهل يُوجب المعلم مواعيدَ نهائية على بعض الطلاب ويُعفي البعض الآخر منها؟ وكيف يُؤثِّر ذلك على المفاهيم الخاصة بتوفير معاملة عادلة ومُنصفة لجميع الطلاب؟ لهذا السؤال بُعْد فلسفي؛ لأننا نسعى إلى فهم طريقة وضع الحقوق الفردية في إطار بيئة التَّعلُّم الجماعي، كما أن له بُعْدًا عمليًّا؛ لأننا نجاهد لتطبيق قواعد مختلفة على الطلاب المُسجلين لدراسة المادة نفسها.

•••

بدأ هذا الفصل بمواجهة رد الفعل المُعتاد لأعضاء هيئات التدريس تجاه الطلاب الجامعيين الذين يتَّسمون بعدم النضج أو عدم التحفيز أو عدم التركيز أو سوء الاستعداد. واقترح الفصل أنَّ القواعد والشروط والسياسات والممنوعات وكثرة وسائل التحفيز الخارجية تجعل الطلاب أكثر اتِّكالية على المعلمين؛ فهذه القيود تُمثِّل جزءًا من المشكلة، وليست حلًّا عمليًّا، فإذا كان الهدف هو جعل الطلاب يتحمَّلون قدرًا أكبر من المسئولية تجاه عملية تعلُّمهم، إذَن يجب أن يعمل المعلمون على توفير الظروف التي تُؤثِّر على توجهات الطلاب وتصرفاتهم. يجب أن تكون قاعات الدراسة أماكن تتوافَر فيها أجواء ذات ظروف مواتية للتَّعلُّم. هكذا لا يُفرَض التَّعلُّم في مثل هذه القاعات الدراسية، بل إنه يحدث نتيجة لاستجابة الطلاب للظروف التي تُشجِّع النمو والتَّعلُّم.

ينشأ المناخ الدراسي من العلاقات التي تربط بين المعلمين والطلاب والعلاقات التي تربط بين الطلاب، وهذه العلاقات تُحدِّدها تصرُّفات المعلم والطلاب، وقد ناقش هذا الفصل كِلا الأمرَيْن، إلا أن قدرًا كبيرًا من محتوى الفصل يصف الإجراءات التي يستطيع «المعلمون» اتخاذها لجعل قاعات الدراسة أماكن يكون فيها التَّعلُّم نتيجة مُرجَّحة من جراء الوجود بها. وفي مقال ممتاز، يشير رامزي وفيتزجيبونز (٢٠٠٥، ص٣٣٥) إلى أنه «في معظم الكتابات التي تتناول التدريس المُتمركِز حول المتعلم، يظل التركيز مُنصبًّا على المعلم.» وأتذكر أنني قرأتُ العبارة التالية واعتبرتُها نقدًا لهذا الكتاب ولهذا الفصل «في رأينا، مثل هذا التركيز يجعل التعامل مع الطلاب قائمًا على اعتبارهم أشياء وليسوا أشخاصًا، ويَعزل المعلمين عن الطلاب، ويُقلِّل من قيمة أهم عنصر داخل قاعة الدراسة؛ ألا وهو التَّعلُّم» (ص٣٣٥).

بعد مزيد من التفكير في الأمر، ولا سيما وأنا أُراجع هذا الفصل للطبعة الجديدة، لا أعتقد أنه توجد طريقة أخرى، إنها محاولة مشتركة، ولكن السؤال هو: من الذي يتولى القيادة، ويأخذ الخطوة الأولى، ويقترح علاقات تُغيِّر طريقة التفاعل بين المعلمين والطلاب؟ فالطلاب ليسوا في موضع يُتيح لهم توفير مناخ دراسي مُتمركز حول المتعلم؛ إذ إنهم يتطلَّعون إلى المعلمين بحثًا عن القيادة، وعندما يكون الهدف هو توفير مناخ دراسي مناسب للتَّعلُّم، فإنني أومِن بأن المسئولية تقع على كاهل المعلم؛ فنحن نتحمَّل مسئولية القيام بما هو في وسعنا لجعل قاعات الدراسة أماكن تُعظِّم قيمة التَّعلُّم وجهود المتعلمين، وعندما يتخذ المعلمون إجراءات كتلك التي أُلقيَ الضوء عليها في هذا الفصل، يَصير من الممكن توفير الأجواء المناسبة للتَّعلُّم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤