هيا بنا إلى الأرجنتين

إقلاع إلى صيف الأقاصي

بدأتُ هذه الرحلة مساء يوم الثلاثاء رابع (كانون الأول) ديسمبر من عام ٢٠١١م، غداة الانتهاء من حفلات أعياد الميلاد، التي تَعرف في كُبريات العواصم الغربية، وباريس خصوصًا، طقوسًا ومباهج وإسرافًا أكثر من أي بلد غيرها. بدأتُ السفر من باريس بالذات، حيث أُقيمُ، وجهتي الأُولى العاصمة الإسبانية مدريد على متن الخطوط الأيبيرية، تَنزِل في مدريد؛ ليتم التحويل منها، وهي معبَر أوروبي مركَزي لجُلِّ أبناء أمريكا الجنوبية، يقدِّم لهم طيرانها أسعارًا مجزية؛ قياسًا بسواها. مثل هؤلاء فعلتُ، وعلى الخطوط نفسها غادرتُ، إلى الرحلة القاصدة بوينس آيرس، عاصمة الأرجنتين.

أقلعَت طائرتي الأولى من مطار أورلي في السابعة والنصف مساءً، لتحُطَّ بمطار برخاس المدوِّخ بمبانيه فائقة التحديث، بعد مُضِي ساعة ونصف من الطيران. لم يَطل الانتظار من حُسن الحظ، وإلَّا لكنتُ ضعتُ في هذا المطار، تحسبه جُدِّد ليصبح بتقنيته العالية وممراته ومعابره السفلى متاهةً تحت الأرض قبل أن تُحلق روحك في أجواء السماء، وأنت تقبض على قلقك ورعشات الحياة. هي نصف ساعة، فقط، في الترانزيت، صرتُ من ركاب طائرة الإيرباس ٣٨٠ الضخمة، القاصدة العاصمةَ الأرجنتينية في رحلة تستغرق ثلاث عشرة ساعة، ما أطولها، وأتعبها، وأشوقها أيضًا، صفات لم يَعرف وقعها إلا من جرَّبوا واعتادوا المسافات الطويلة. كانت طائرتنا نصف ممتلئة، وركابها أغلبهم أرجنتينيون، مع قلةٍ من أجانب، بين إسبان وفرنسيين، والعربي الوحيد بينهم أنا، أيقنتُ من هذا بتأكيد مُضيفةٍ لطيفة راعَت طلباتي المهذَّبة. وبما أننا نحن أبناء الجنوب السُّمر متشابهون، فما كان لسحنتي أن تثير أي شُبهة، أو «حساسية» كما هو الشأن كلما اختلطتُ بالبيض، بأجناسهم المختلفة، عِلمًا بأن قسمًا كبيرًا من الأرجنتينيين بيض. في الوقت مُتسَع لتناول المرطبات والعشاء، وسماع الموسيقى، ومشاهدة الأفلام لمن رغب، ولِغفوات متناوبة، ومن حُسن حظي استطعتُ أن أمُد ساقَي مستفيدًا من مقعدٍ شاغر، وهو ما سمح لي بغفوات متقطعة نفعتني لمَّا حطَّت الطائرة في هبوطها النهائي بالوجهة المقصودة.

لا أُخفي كيف انتابني بعض قلق، دبَّ في مفاصلي منذ الصعود، واستشرى بُعيد التحليق، طفقتُ أتفحص ملامح الركاب متوجسًا فيها علامات ارتباك أو تحسُّب خوفٍ من رحلة طويلة ستعبر المحيط الأطلسي كله، وقد تحفُّها، لا قدر الله، مخاطر هي دائمًا غير متوقَّعة، فنحن في الجو، وليس تحتنا إلا الماء، وما كنت في الحقيقة إلا أُسقط مخاوفي الشخصية، تدق في رأسي وتكبر هولًا يعلو هولًا، كما تتابع الصور المفترَضة للذين راحوا ضحية طائرة إير فرانس، لدى سقوطها في البحر غيرَ بعيد عن سواحل البرازيل، بعد إقلاعها من ريو دي جانيرو وعلى متنها ٢١٦ راكبًا (٢٠٠١/٦/١م). ازدحم في مخيلتي شريط الجثث المتفحِّمة، والأطراف المبعثَرة تتناهشها الحيتان، أرى كأنما بأمِّ العين الأيدي تسبح والرءوس تتحطم على الصخور، وكل ويل وهول، وأنا بينها في البلاعم! في سنة ٢٠٠٦م كنت أَعبر المحيط نفسه، من باريس إلى ريو دي جانيرو في البرازيل، وكم تزاحمَت في ذهني إبَّانها صور هول غذاها خيالي، لولا أن الإجهاد تدخَّل لصالحي منقذًا. وسبق هذا الشعور أفزع منه، حين زرتُ كولومبيا سنة ١٩٨٦م، والطائرة تتهيأ للنزول، والربَّان يُشعرنا أننا على علو شاهق مثل المرتفعات التي تقع عليها العاصمة بوغوتا، وتُحدث ارتباكًا للمصابين بالضغط؛ حقيقةً أم توهُّمًا، مثلي، وما أكثر أوهامي وتطيري. تراني الآن في الرحلة الجديدة أستسلم للنوم، لحسن الحظ، من شدة إنهاك، ولا ألبث أعود إلى سابق وساوسي مع أخفِّ مطبٍّ هوائي، ليتضاعف هلعي. لم يفارقْني، إن فارَق، إلا لمَّا حطَّت الطائرة في مطار توجُّهها، فأخذتُ أستعيد مكاني من جديد في عِداد بني الإنسان، فوق الأرض لا في الهَيُولَى والفراغ بلا قرار، أو هو ربما فرط الامتلاء، سبع سماوات طِباقًا، وعليَّ أن أوقظ حِسي مثل إنذار إحساسي؛ لاستقبال عالَم جديد، ستطؤه قدماي للمرة الأولى، بعد طول شوق وجهد وتدبير، وانتظار.

وصول المشتاق

وصلنا إلى بوينس آيرس فجرًا، مع فارق خمس ساعات تباعد زمنية متأخرة عن فرنسا.

فاستقبلَنا فيه مع مطلع الصباح، ومِن محيَّاهُن الصبوح، والحازم أيضًا، التمسْنا أول خطوة إلى المدينة. أعنِيهن شُرطيات حدود المطار، اللَّواتي ملأْن وحدَهن شبابيك مراقبة الجوازات والتدقيق فيها طويلًا قبل الختم، حازمات، صارمات، وهُن مع ذلك غير مُسترجلات. ويَزدْن حتى لتحسبنَّ أنك تمرُّ بالصراط، يستوي في ذلك ابن البلد بالأجنبي، وهو ما لا تَفهم سببه إلا بعد حين، بعد أن تتعرف، إن كنت لم تُلِمَّ بمعلومات عامة عن الديار، أصلها وفصلها، من وصلَها هجرةً وانتقالًا، وتناسل فيها وشروطه، ومن قبيله، لا مناص منه لفهم طبيعة السكان، ونمط عيشهم وسلوكهم، وطراز المدنية التي يعيشون فيها، والتي نقول من الآن إنها غربية بإطلاق، وهذا عسف وتجنٍّ، على ما بين القارة الأمريكية اللاتينية والجنوبية من بُعد جغرافي شاسع عن أوروبا. وما اختصَّت وتتميز به من وجوه شتَّى، سيَظهر بعضُها في هذا التدوين، فيُفرز الفرْق. نساءٌ أخريات، جمركيات، ووصيفات، ومرشدات في المطار، وبائعات، ومتعهدات للسياحة، دعك من المسافرات، غاديات رائحات، وبينهن، أو وسطهن، قليل جدًّا من الرجال، أو الشرطة، أو السائقين، وهُن في الزحام والحديث المتواصل، وخفقُ الأقدام على باحات المطار الملساء، أو رخامات الأرصفة، يكفي أن تسمع دقتها لتميز أنوثتها، ولك، بعد ذلك، أن تحدس لون البشرة، والقوام، وحجم الصدر، ودرجة الحسن، فكيف بها النظرة والنبرة؟!

يصِل المسافر نحوَ أيَّة وجهةٍ قصَد دائمًا، قبل أن يصل. يكون قد بدأ في التعرُّف على مكان رحلته في الخرائط، وأدبيات الإرشادات السياحية، وأحيانًا بمشاهداتٍ متفرِّقةٍ في أفلام وتحقيقاتٍ مقروءة وبصرية، وأحيانًا بالسماع أيضًا، ممن سبقوه إلى وجهته، يُزيِّنون باذخِين في الوصف، ومسرفِين في الثناء. لكنْ مُخيِّلة المسافر أقوى من أي وصفٍ سابق أو دليل، وهي تجربتي، وعندي أنَّ أقوى البلدان إبهارًا وغنًى وإقناعًا، تلك التي تُعطيك ما لم تتخيلْه، وتُطلِعك من مَشاهِدِها الأُولى، عمرانًا، وطبيعةً، وبشرًا، طبعًا، على ما لم تتوقعْه، ولَعَمري إن الأرجنتين مفردُها وهي واسطةُ عِقدٍ.

كانت لهفتي وتبقَى دائمًا سبَّاقةً على خطوتي، وها هو العبور يَنفسح مُمتدًّا من محطة المطار الخارجية، تَصلك بالطريق السيَّار المتَّجه إلى العاصمة، يقودك (ني) سائق وكالة الأسفار التي اخترتُ من باريس، ووكيلها في أمريكا الجنوبية هو Viva Latina، إلى العاصمة، فتُرسل من عينيك إلى ما حولك وعن يمينك وشمالك لترى عيونًا تتوالد منها أعين، وكذلك سيصبح الحال أينما حللتَ، لترى المَشاهد الأولى للبلد، فعلى جانبَي الطريق، في المدخل إلى بوينس آيرس، الأحياءُ المحيطية منبسطةٌ كالحقول، ليست صفيحية، ولا مترهلة، نظير ما شاهدتَ وأنت تَدخل مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية، وإنما أغلبها من آجُر ولبِن، وإن ظهرت متواضعة، وخليط بناء في المواد والأشكال، وهذه عمومًا أحياء النازحين في كل مكان، وبلدان الجنوب والعرب بخاصة، بينما في أقطار آسيوية، مثل بنغلاديش وسريلانكا، وبومباي، تجدها غالبة، بل كاسحة. وتشملك المدينة وأنت تُقبل عليها من شمالها بنظرة الفَساحة، فهي واقعة، كما رأيت من علو في أرض بطحاء، وترى والسيارة تنزلق كما على حرير، في بسيطة وطيئة، تُريح النظر، وتَشرح الخاطر من جهة اليمين، لتمتلئ بلَون أزرق ممخوض بالبُني الغامق والأخضر الفاتح، لماء هائل الاتساع، تقرؤه بحرًا، وتحتاج إلى وقتٍ ويقينٍ صعب لتقتنع أنه نهر، وأي نهر، هو (ريو دي بلاتا Rio de la Plata) الذي تسند عليه العاصمة إحدى مرفقيها، ينزل على امتداد الجنوب الشرقي للأرجنتين بطول ٢٩٠كلم؛ نهر يَكبر ويتسع من أعلاه شرقًا بعرض ٤٨كلم، وحين يقترب من بحر الأرجنتين على المحيط الأطلسي بعرض بمسافة ٢١٩ كيلومترًا، ليختلط بالمحيط، وهو يصبُّ فيه، حتى لا تعرف أيهما بحر، وأيهما النهر، راسمًا أخيرًا الحدود الطبيعية بين الأرجنتين والأوروغواي.

كلُّ واصل إلى مدينةٍ جديدة، هو أسير لهفته، أولًا، راغبٌ في الإقبال على «الْتهام» ما حوله بصرًا قبل كل شي، مؤجِّلًا التخلص من وعثاء السفر إلى حين. كان المكتب السياحي بحي الأوبرا في باريس قد صَمَّمَ لي برنامجًا منظَّمًا ودقيقًا، ومفيدًا بالدرجة الأولى؛ للتعرف على مَعالم المدينة تاريخًا ومآثر وفنًّا ومطاعم … إلخ، لكني سأخلخل برنامج مرشدتي، مرافقتي، جُلَّهُ، لأجعلها تقتنع، وهي الثرثارة، المُحاجِجة، لا منطق في العالم يقنعها، بأن بُغيتي في كل رحلة هو أن أرى البشر بالدرجة الأولى، وهم هكذا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، كما يحدث في أي رَبْعٍ من الدنيا، وكأني سأرى آدميًّا للمرة الأولى، فذهلَت مما تسمع، ولولا وقوفي شاخصًا أمامها بقامَتي الفارعة وملامحي أتعمدها قُدَّت من صخر، بعد أن أسلستُ لها القيادَ ولم ينفع، لحسبَت أن بلاد العرب خلوٌ من البشر (!) لذا أجَّلتُ موعدي معها ساعتين؛ لأغنم وحدي ما أشاء، وقلتُ أتوكل على قدمي وشمِّي، وأضرِب في أول الأرض ككلب يبحث عن قُوته بعد أن تضوَّر جوعًا، سيجده لا محالة، سأبحث عن هذه المدينة التي طالما تمنيتُ زيارتها، مُستهوِلًا بُعدها وتكاليف الوصول إليها، منبهرًا بي، فها أنا ذا أخيرًا فيها، صدقًا لا تهويمًا، أجل!

في الشارع الأرجنتيني

حين تقول هنا إنك «في الشارع»، فاعلم أن الكلمة تملأ فمك حقًّا؛ تملؤه بالمساحة، والمسافة، والعمران، والتجارة، بالبشر الغادي على مد البصر، بالمدنية، منها الإحساس أنك موجود في المدينة حقًّا، ومع بشر المدينة.

الشارع خط ممتد، منسَّق في رسمه، على جانبيه رصيفان، رصيفان واسعان أقرب إلى باحتَين لا نهاية لهما، يُتيحان السير، والنزهة والتسكع للراغب فيه. وقبل ذلك هو باحات فسيحة أمام المحالِّ التجارية والشركات والبنوك والمقاهي والفنادق، ولمَ لا، أيضًا، لأكشاك تبيع ما لا حصر له من موادَّ استهلاكية مطلوبة ونافلة في آن.

الشارع فضاء المدينة الضروري، وعالَم حيويتها أو وحشتها، والدليل هو يوم الأحد: انظر إليه كيف يُمسي في هذا اليوم، إنه يكاد يختفي، لا يبقى له من معنًى؛ لأنه يفرغ مما يهَبُه معناه، من البشر، بالأحرى من الحضريِّين، من سَيرهم ولغطهم وكثافتهم النملية. تحس بهذا في المدُن الكبرى، في نيويورك، بيكين، القاهرة، وفي بوينس آيرس بالذات. مدينة الشوارع المديدة، العريضة، المنسَّقة، المتوازية، المتقاطعة فروعًا وأزقَّة، المصقولة نظافةً، تستطيع بمرانٍ بسيط أن تمشي فيها أعمى لتستدل على عناوينك ومرامِك، من غير أن تحس أبدًا بالتشابه أو التكرار. صحيح أن المدن الحديثة باتَت أقرب إلى النموذج الواحد، المنمَّط، بخاصة إن نُزعَت عنها المعالم، والأيقونات البارزة منها، أو إن كانت حديثة عهد جدًّا، شأنَ ما تعمُر به بلاد الخليج وبعض مناطق آسيا، لا يميزها، إن تميزَت، إلا ناطحات السحاب والأبراج المتغطرِسة. لكن هذه الحاضرة اللاتينو-أمريكية الهائلة تُشعرك وأنت تتنقل في رحابها، تطرقها شارعًا شارعًا، تتخلل فروعها، وأزقَّتها الداخلية، أن المدنية أصل لا طارئ، وأن المدينة منشأ في التكوين، لا بناء لاحق، ثقافتُها منها، وأخلاقها، وسلوكها مؤسَّسة فيها، فإن الْتحق بها غيرها ظهر الفرْق، وأحدثَ التنافُر، وهو ما لا تَقبله المدينة.

سبحتُ في الشارع الكبير، لأنك إذ تنظر إليه من علٍ أو عن بُعد معيَّن، تحسب الماشين يسبحون، منهم الطافي، فيهم الغواص، منهم المتعجِّل، وهم جميعًا كتلة تُشبه أول تجمُّع سينطلق في سباق، لكن أيُّ سباق؟! مِن غرفتي في فندق الإنتركونتيننتال، اسمه ٧٤٥؛ لأنه واقعٌ بهذا الرقم في شارع إيفا بيرون، ومن نافذة الغرفة بالطابق التاسع، كنت أرى وأستطيع التقدير أفضل: من كل رصيف تنبع مَوجة تتلو موجة، وفي الوسط بينهما أمواج السيارات. هو موج قصير الأكمام، بكل الألوان: الأصفر، الأزرق، البرتقالي، الأبيض أغلبها ما يصبغ القمصان قصيرة الأكمام لآلاف الفتيان، الشباب الشابات العابرات. بخطوة واثقة، لا سريعة ولا بطيئة، بين بين، لا تلكُّؤ ولا تعثُّر، لا أحد يرمي بُصاقَه في الهواء أو أرضًا، أو يصرخ في هاتف محمول كبائع مُتجول؛ كلٌّ إلى قَصده ذاهب. تَحسبهم خضعوا لتدريب، أو هم جنود كتيبة، على انضباط الصينيين والفيتناميين، لكنهم هادئون ومتمدِّنون، وهذا هو السر، لا علاقة لهذا بالفقر ولا الغِنى، وإنما مسألة تهذيب، بينما نَعتبر نحن، نعيش أحيانًا، صورةَ أن الشعب وسِخ وسُوقي، والأغنياء وحدَهم راقون، مهذَّبون. وإلا كيف يمكن أن تمشي طويلًا في شارع، ومنه تنتقل إلى آخر، فثالث، مسحوبًا في الموج، طافيًا وتغوص، لكنك لا تسمع لا صخَبًا ولا شتائم، وأبدًا لن تسمع نَفِير سيارة، تَستثني فقط صدى موسيقى منبعثة من مُنعطف، أو ناصية، حيث الْتأم عازفون هواة يُغنون ويعزفون، اجتمع حولهم فضوليون وعابرون، يَسمعون ويطربون ويَنفحونهم قبل الانصراف بِضع بيزوات (البيزو، العملة المحلية)، هكذا ترى الطرب يطفح تقريبًا من كل زاوية، ومن الراديو، من التلفاز تتجاوَب طوال النهار أغانٍ وتباريح (Corazon = الفؤاد)، فتسأل نفسك، تحب أن تسأل أهل البلاد، تظنهم لا يفعلون شيئًا في الوجود غير نشيد الغرام، بخاصة: لا فتاة أو فتى في الشارع أو أي مكان تراه يسير بمفرده، ذراعٌ يشبك ذراعًا، يطوق خصرًا أو عنقًا، نساء خصبات، ورجال بجوارهن أو خلفهن، فحُول كالثِّيران، ثم نساء، نساء، حيثما ولَّيتَ وجهك ثمة نساء، كنتَ تحسب أن أرض البرازيل مرتع الأنثى، وصولجان سلطتها، فإذا المرأة هنا في اقتدارها وسطوتها وبعض حُسن، يتأكد ذلك في كل أقاليم البلاد، ولو ببعض تفاوُت، ويَطغى حيث النساء من أصول غربية، وفي أوساط البيض، من غير السكان الأصليين أو الخلاسيين، وإن بقِين محتشمات، عفيفات، قياسًا بالفرنسيات النهِمات إلى التقبيل، حدَّ الابتذال في كل مكان وزمن، بموجِب وبدونه.

بصحبة إميلدا الوطنية!

وجدتُ مُرشدتي التي أخبرَتني بدلالٍ وبعض حسرة أنها عاشت سابقًا في باريس، كان لي زمني أيضًا في «مدينة النور»، أرسلَت عبارتها بحسرة؛ وجدتُها تنتظرني قلقةً بعد أن تأخرتُ عن مَوعدها، لأنفرد بنفسي كما أخبرتُكم إلى حدِّ أني كدتُ أقلب برنامجها، لأستبدله برغبة مواصلة التسكُّع في الشوارع، أتركُ للصدفة زمامي كما أحب، فهذا أفضَل السفر عندي، لا التخطيط الصارم، كما تحب النساء. إنما لم يكن بدٌّ لي من الإذعان لبرنامجها، الذي عندها التزام، فهي تقاضَت عنه سلفًا، تبغي الوفاء به رغم استعدادي للتنازل، قالت: هل تريد أن أغشك، أم تُراك تدفعني لأغش نفسي، حسنًا سنصل إلى وفاق، أي بين كل زيارتَين لمعْلم أو معرض، سآخذك إلى شارع غير مسبوق، تُطلق قدميك من رأسه، ونأخذك أنا والسائق عند نهايته، هل يُرضيك هذا أيها العربي المفرنَس (؟!)، وحذارِ أن تهرب مني، فأنا مسئولة عنك، نوعًا ما طبعًا. لم تكن هذه عبارات ولا مشاعر مما يدبِّجه عاطفيون ناشئون في كتابة «روائية»، بل أحسستُ بالفعل، أحسستُ أن إميلدا، وهي سيدة خمسينية، ربما أكثر بقليل، تعاملني أكثر من زبون سترشده وقتًا ويغادر إلى غير رَجعة، ومنه إلى آخر، وهكذا. تكون لدى إميلدا من كَثرة مُرافقة السياح خبرة بالبشر، ومعرفة بالتنوع الأجناسي والجغرافي؛ إذ حتى وهي فردٌ صارَت كائنًا مُتعددًا، ذا دِراية بالأمزجة والعقليات، وبالنفوس أيضًا. لذا وجدتُ فيها امرأة قوية، من غير عُنف طبعًا، ممتلئة بالتجربة، وبالخيبات والحسرات كذلك.

خسرانُ الحب أحدُها. طبيعي، فالحب يرافقنا هنا في كل مكان، لأني وقد سألتُها عن تباريح «الكوراسون»، التي ترافقنا حيثما حللنا ومتى سمعنا، أجدها تنتفض ضد السؤال، ضد الحالة، ثم لا تنفكُّ تتحدث عن رجلِ أمسِها الذي عاشت وإيَّاه سنوات في باريس، وبلا انتباه، أو به، يسرقها اللسان فتُشبِّهني به في زمنٍ من عمره، فأُناوشُها لتُسهب، أُجادلها وهي المُحاجِجة فتحتدُّ كالغضبَى؛ لتدافع عن صورة أرجنتين لها وحدها، إما عرفَتها، أو في مخيلتها، وهذا هو الأجدر؛ إذ من السذاجة فوق الثوابت العامة، الاعتقاد بوجود وطن واحد للجميع يحتاج إلى التقديس مطلَقًا، خصوصًا حين لا يكون فيه الناس يعيشون أحرارًا وبكرامة بما يكفي. وهي، كإنسان مجرِّب من حقها أن تصنع بمزاجها الوطن المُشتهى. بينما لا تكون لي رغبة بعيدًا عن هذا التهويم أسرع من التعرف على الآني، والعارض، ابن اللحظة ومعطاها، وكنت دائمًا ضد هيئة السائح المؤرِّخ والحفرياتي، يأتي إلى الموقع ليتثبت مما قرأه في الكتب والمصنَّفات المختصَّة؛ ليقارن المرئي في ضوء المقروء، يَدحض هذا بذاك، والحال أن الحي، المحسوس أمامه، عليه المعوَّل، إن كان مثلي طبعًا، ومن غير أن نبخس التاريخ فهو أصل، ولا نتجاهل الحاضر، هو الامتداد وسبيلنا نحو الغد. بذا جعلتُ المهمة تسهل أمام إميلدا، فهي بدورها لا تحب الخوض في التاريخ، اللهم إلا تاريخ واحد، الذي سادَت فيه البيرونية، نسبة إلى بيرون (١٨٩٥–١٩٧٤م) وزوجته إيفا بيرون (١٩١٩–١٩٥٢م) التي حكمَت البلاد عمليًّا، ولا تزال إلى اليوم، رغم رحيلها، تسكن قلوب الأرجنتينيين، تراهم يتوافدون على Plaza de Mayo الشهيرة قبالة القصر الوردي La Casa Rosa، مقر رئاسة الجمهورية، من إحدى شرفاته أطلَّت في ليلة ٢٧ (تموز) يوليو؛ لتُلقي نظرة الوداع على شعب جاء يُشيِّعها في ليلةٍ تمازجَت فيها الدموع المدرار بوابل المطر، ولا تزال تترقرق كلما جاء ذكر هذه المرأة الأسطورية على اللسان، الحنين إليها، على سطوتها، جاذبيتها، يكاد يكون بلا مثيل.
عند إميلدا نفسها التي تحاول أن توحي كلما عنت المناسبة بأنها تترفَّع عن الشعور الوطني الضيق، بحكم قوة شخصية تفرضها عَنوة على نفسها بإباء، لا يفتأ أن يخونها كلما ورد اسم Eva Duarte، الاسم الأصلي لإيفا بيرون، معبودة الجماهير، أو جاء ذكر اسم كارلوس منعم الذي حكم البلاد من ١٩٨٨ إلى ١٩٩٩م، وتعرضَت في حكمه لأزمة اقتصادية حادَّة أدَّت إلى إفلاس عدد كبير من البنوك، وتبخُّر أموال المدَّخرين، وسقوط مريع للعملة الوطنية البيزو، فإلى فضيحة مالية لشخص الرئيس. تقول عنه إميلدا بغضب: إنه «مَن ينبغي ألا يُسمَّى» وأنه «الشيطان بعينه»!

قد حدستُ أن السبب ليس بسبب ما جرَّ منعم من أهوال على مواطنيه، وأسرتُها إحدى ضحايا سياسته، بل إلى حدٍّ ما في كونه من أصل عربي سوري، وذَوُو الأصل السوري يُمثلون، كما في البرازيل، منافسةً حادَّةً مع المهاجرين الأوروبيين الأوائل، من ألمان، وطليان، وبولونيين، ممن عمَّروا البلاد، وأصبحوا ساكنيها وسادتها، برغم أنف السكان الهنود المساكين، وأنف الحكام الإسبان الذين طُردوا بدَورهم، وإن سادَت لُغتهم القشتالية كاملةً، وهي السائدة، والرسمية الموحدة للبلاد. أما حين وقفْنا أمام النصب التذكاري لشهداء جزيرة المالوين قبالة محطة القطار المركزية، من جانب، ونصب تذكاري مُهدًى من بريطانيا — يا للمفارقة — والجنود واقفون كالتماثيل في مهابة مُبجَّلة؛ في وقفتنا تلك فضحَتها دموعُها رغم صلفها، وصرامة ملامحها، وانهالَت بالشتائم على الإنجليز، مُحْتَلِّي الجزيرة، اشتعلَت فيها النعرة الوطنية سُعارًا، هي لعمري شديدة الالتهاب عند هذا الشعب، رغم تعدُّد أعراقه، واختلاط دمائه، وتفاوُت مُريع في أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية. لكنه محبٌّ لأرضه بتأليهٍ تقريبًا، وأعلى من مجرد الشوفينية الملحوظة عند الشعوب عمومًا.

في كل الأماكن والمعالم التي أخذَتني إليها مرافقتي، لم تك تَظهر مجرَّد شخص يؤدي وظيفته، بل تندمج في الدَّور حدَّ أنها تتحول بدَورها إلى مَعْلم؛ إذ بقي أن تتحول هي نفسها إلى نَصْب من كثرة تطوافنا بالنُّصُب، وإسهابها في التعريف والشرح، رغم أني أفهمتُها غير مرةٍ قلَّة صبري مع هذه المشاهدات، وامتناني لها كلما رسب التاريخ وطفا الواقع أعلى. هنا كانت تبذل أيضًا مجهودًا استثنائيًّا، وقد أدركَت أن حسِّي، هواي في العيش اللذيذ والجيد، روَّضتُها لكي تختار مِقياسي، وتَدخل في قالبي، واستجابَت سريعًا، بل ذهبَت طوعًا إلى الغاية، يُحفزها دائمًا الحس الوطني؛ إذ كلما استعذبتُ طعامًا، أو محفلًا، أو بجَّلتُ منظرًا وموقعًا، تحس هي بالعزة، بفخارِ مَن يؤدي واجبًا لوطنه، رغم أنها لا تَكف تُلهبه بسياط النقد والتجريح هنا وهناك. إلى درجة أنها شوَّشَت عليَّ الرؤية أحيانًا، فانتبهتُ أن خِطابها يستوعبني، وحماسها من ذا، غضبها على ذا يحجب عني طبيعة الأشياء، وأن عليَّ التخلص منها، من هذه العنجهية الوطنية التي تُضيِّق الآفاق؛ أنا المسافر ما جئتُ إلى هنا لأتورط في الضيق، قد تركتُ خلفي أوطانًا تختنق، يأكل سكانها بعضهم بعضًا، بعض حُكامها وأثريائها النهَّابين الجشعين، يصطدمون ببعضهم في مساحات محدودة من الأرض والأفكار، ولا خيال، والوطن سمسرةٌ وصفقات وغطرسة زائفة. قلتُ أتخلَّص منها، ثم إذ تغِيب مؤقَّتًا أستعيد في جنبيَّ حماسها وصدقَ مشاعرها الفائض على كل الوجوه التي أرى، في حركات ولمسات بسيطة، وأصوات مسموعة أو هامسة، فيها شكل اليومي وهلام الأزلي، تلادة التاريخ وفطرة الآني، والبسمة، والدُّربة، والكلمة الطيبة واللياقة مع حسن التهذيب، وانضباط الكائن في كينونته، وحس عالٍ بالكرامة، وكرامة في الإحساس، وتعالٍ عن الابتذال، في فقرٍ محتشم، وغنًى لا متهتِّك، وكدح هائل، كدٌّ وجدٌّ ومرحٌ بلا تهريج، والنصْب والاحتيال أيضًا، منظَّمان؛ وطن يسع الجميع، ما أوسعه، ما أغناه بشرًا، ما أفقرنا!

جماليات المكان

قلتُ: الشوارع مديدة في بوينس آيرس، وهي كذلك وأزيَد بعرضٍ لا يُضاهَى، وبينهما أوسعُ شارع ربما في العالم Avenida 9 julio، فيما يبقى الوجهُ الأبهر هو الساحات والميادين، الحدائق والمنتزهات. لم يخْفَ على إميلدا انبهاري بالطبيعة، بالعشب، الأشجار، الزهور، الماء من حيثما تدفق، كأني ما جئتُ إلى هنا إلا من أجل هذا، أنا القادم من بلدٍ مطرها غيثٌ صيفًا، ومدرارٌ شتاءً، أم تُراني قادمٌ من صحراء وقفار! كلَّا. وجدتُ حسنَ التنسيق، والحضورَ المُتخلل للطبيعة، باعتبارها جزءًا من المكان، مثلما كل عضو في الجسم موضوع حيث ينبغي، فتنة للناظرين، ولا ترى فرقًا بين حي الأغنياء والمتواضعين من هذه الناحية، إلا بتفاوُتٍ يسير، جمال الطبيعة ومنتزهاتها ميسَّرة للجميع. وجدتُ المدينة قد احتفلَت قُبَيل أعوام بمائة سنة على الاستقلال، فكان أن تلقَّت هدايا من دُول العالم قاطبةً، أرسلَت كل دولة نصبًا تذكاريًّا، أغلبها في شكل فرسان ونُصُب لقساوسة أو خيول مُجَنَّحَة، زادَت البلدية مجهودًا فرصَّعت الساحات، زرعَت فيها النافورات، والمِسلات، أما المنتزهات، فحدِّث … سأتبين بعد انتقالي إلى مناطق مختلفة أن الأرجنتين كلها، بلا استثناء، جنوبها بخاصة، ابتداءً من «ريو نيغرو» فما دونه، لَهِي إحدى جنان الله في الأرض، إن الخضرة والغابات فيها، وخصوبة الأرض، وغزارة الماء، من بين أغنى ما مُنح للإنسان على وجه البسيطة. ما يُحيِيني هو رؤية النضارة حاضرة، نديَّة في المدن وقد نهشها الأسمنت المُسلَّح، والصخَب، وتكاثُر السُّكان، فضلًا عن فداحة التلوُّث. لا شيء أحَب عندي من المدن، ويُضجرني البقاء طويلًا في سَكينة وثبات الطبيعة، نوعًا ما صنميتها، إلا أن مدينةً بلا شجر، ولا ماء فيَّاض، ولا طيور تُحلِّق، ولا تُوَيجات زهورٍ تتفتح بغتةً، ولا متنزهٍ لأطفال يمرحون بلا رقيب، ليست إلا طوطمًا، ومختبرًا للتناسُل والاستهلاك الفجِّ، حيث لا نكهة للورد، وبلا فضاءٍ لحُبٍّ طليق.

عجبًا، قالت إميلدا: يا لك من متناقض، أراك تُقبِل على الحياة بنهَم، وفي الوقت تُحب أن تَعُبَّ من الطبيعة كرومانسي! قالت هذا وقد تركَتني أمرح مثل طفلٍ عابث يَعصي أمَّه في حدائق المدينة العديدة، ويلعب الاستخباية بين التكوينات التشكيلية المنصوبة في الهواء الطلق، حضورًا وتزيينًا، حتى لا تحتاج إلى زيارة متاحف النحت، تُغنيك منحوتات خشبية ونُحاسية وبلاستيكية، بأشكال وتصاميم لا قِبَل للعين والذوق العام بها. لم أكن وحْدي مَن لا يتمالك نفسه، فالشباب «البوينسيريسي» يحملون أحضانهم وعناقهم، وقيلولتهم، وإطلاقَ سيقانهم، وتنفُّسَ رئاتهم، ولا شك، بوحَهم وتباريحَ الهوى، إلى الظلال الوارفة تحت الأغصان الطويلة المعشَّقة، متشابكةً تشابُك أذرُعهم، متداغِلةً كأجسادٍ خفيَّة وراء جذوعٍ هائلة ألفيَّة السنين، يا لها من أشجار سلخَت من العمر قرونًا. في يوم الأحد، كما عاينت، يتغطَّى العشب بالأجساد، وتُصبح لوحة إدوار ماني الشهيرة «الغَداء على العشب» مكسُوةً بالألوان المحليَّة، لا الألوان الفَرِحة، الانطباعية، كما عند كلود موني، هو ما يفترشه ساكنو المدينة، بُسطاؤها أساسًا، هؤلاء الذين تستطيع أن تَشهدهم في الساحات العمومية لكل المدن، التي هي عبارة عن حدائق مفتوحة، تتوزع فيها الكراسي، وتتخللها الأشجار صغيرةً والنخيل سامقًا، يجلسون وديعِين في ظلالها، إما يلتهمون سندوتشات، أو يقزقزون البزر، حولهم صبيانهم يتقافزون، والكلاب غادية رائحة، تتجول كما يحلو لها، تحسب الآدميين ضيوفًا عندها، وهذه حكايةٌ وصفُها أطوَل، نختصرها في وجود مهنة يتعيَّش بها فئة من الرجال، شُغلهم هو القيام بنزهة للكلاب والجراء، من فصائل مختلفة، وأحيانًا راقية جدًّا ونادرة، وعلى طرافةٍ وأناقة مُدهشة. يطوفون أولًا على البيوت المَعنيَّة في مواعيدَ محدَّدة، ليتسلموا زبائنهم، يجدونهم في الانتظار، تُسلمهم الخادمات، ويُمسكهم المُرافق، كلٌّ على حدَةٍ بحزام، فتَراه وسطهم أو على جانبهم، وهو دائمًا أقرب ما يكون آخرهم. يَعبر موكبُه الشوارع ويتوقف في عديد المتنزَّهات؛ لتقضي حاجتها، وتُحرك قوائمها، وتُعود بعد وقت، يطول أو يقصر، إلى بيوتها، لا جدال هي في مِلك طبقةٍ برجوازية، تسكن أفخم الأحياء، وهم مِن ذوي الأصول الألمانية والإيطالية، وفيهم بقايا أرستقراطية رفيعة، هي مالكة الرأسمال الصناعي الكبير، رغم أنهم تلقَّوا ضربةً قاضية إبَّان وجرَّاء الأزمة المالية الفادحة للأرجنتين، المُشار إليها سابقًا.

بالمقابل، في أكثر البلاد تجد الفقراء ينتشرون في الأرض، وقد ضاقَت بهم البيوت، والحجرات الصغيرة لا تَسَع أعدادهم، الخلاء والسماء المنتشرة وحدَهما ما يُسعفهم، والخلوة عندهم هي الامتلاء بالجماعة، والاحتفال وسطها، وهذا طابع عشرات الأسواق الشعبية التي قادَتني إليها إميلدا، فوجدتُ فيها الناس الخصوصيين ممثِّلي البلد على الفطرة، يبيعون أشياء لا قيمة لها تقريبًا، متلاشيات، وعليهم أسمالٌ نظيفة، والبسمة في وجوههم يانعة، فإذا اقتنيتَ منهم شيئًا انشرحَت أساريرهم كالجِنان، وسارَعوا لمبادلة بيزواتهم بجِعَةٍ فائضة أو فطيرة. الكدح سِمة مميَّزة، وقَلَّ أن تجد مَن يمدُّ يده سائلًا، بل معطوبًا ولا يَفعل، يتحجَّج ببَيع أيِّ نافل، سقطِ متاع، ولا يَسأل. ويَعاف ذُلَّ السؤال. رغم تواضُع الحال، بلا رثاثةٍ أبدًا، فلِلفقر أيضًا ستره، ليس على الوجوه ابتئاس، والعين لا تنحني، البائعات اللواتي يَعرضنَ بضاعتهُن في الجبال، من مناديلَ وصُوفٍ تقليدي، أو يتبرجنَ بأزيائهِن الفلكلورية للسياح، يبقَين شامخات، وهُن لعَمري شامخات فعلًا.

هُن أنفسُهن اللواتي يجلسنَ القرفصاء في الممرات، هي الأزقة المغلَقة، مخصَّصة للمشاة حتى يتبضَّعوا، ويتسكَّعوا أيضًا، على كيفهم، وهي كثيرة في كل الحواضر التي زرتُ في هذا البلد. يضَعنَ أمامهُن حطَّاتهِن من الثياب، الدُّمى، الكراكيب، حقائب وأحزمة ونعالٍ بلاستيكية، وكله مما يخفُّ حملُه ويقِل ثَمنُه، ومن العيب أن تُساوِمهن، أو تُساوِم بإطلاقٍ. العرب مساوِمون، والفرنسيون حين يحِلُّون بأي بلد من الجنوب يَنحطُّون في المساوَمة، مُلحِفون ومقتِّرون، يحسبون كل من سيشترون منه سيسرقهم، حتى ولو في مقابل برتقالة، يفعلون ذلك من باب التعالي وتبخيس الآخر، يأنفون في بُرج غطرستِهم أن يَغشهم، وهم عندئذٍ الغشاشون. قد تَبيع المرأةُ، قد تَكسَد بضاعتها، وفي حضنها طفل تُلقِمه ثديها، وحين تجوع تنزوي في رُكن وتأكل شيئًا مثل المعكرونة، حبة ذرة، وتَشبع بسرعة، تتظاهر، ولا تشكو، ووجهها مفتوحٌ ضاحك في الهواء، بينما وجهي مرفوع إلى السماء، يتعالى على صفوف البنايات التجارية المتراصَّة، ما أكثرها، ما أرحبها، ما أشد تنوعها، تُرتاد لا للتبضُّع وحدَه، وإلا فإن البضائع في كل مكان، بل وللتنزُّه؛ كي تسرح العين، وتحلم، وتُلعلع الأضواء، تتحرْبأ الألوان، يتهافت الشباب على المعجَّنات، والزوجات يستحلبنَ جيوب الأزواج، يُمنِّينهم لا شك بليل خصوبةٍ طويل، وحين تغادر هذا الفضاءَ تُحس أنك كأنما كنتَ مسحورًا، في كوكبٍ آخر، وها أنت؛ إذ تشمُّ الهواء الطبيعي، أو ما تبقَّى منه، تَنزل من الحلم إلى الأرضي، من الافتراضي إلى الواقعي الصِّرف؛ إن كنتَ قادرًا حقًّا على التمييز والفصل بينهما في هذا العالم. أما أنا فهي الصور تتوالى، تأخذني إلى بشرتها الساخنة، فأقبض كما على يد، أو خبزة حارَّة خرجَت توًّا من الفرن، وأدفع عيني، بعد أن استنفرتُ أنفاسي وإحساسي، وأُطلق منهما أجنحة الحلم مستعدَّةً دومًا للطيران.

هكذا وجدتُ كلَّ مَرْئي يَسحَر، يسحرني بالذات، ليس من الضروري أن يبهر، المتاح باهر إذا التقطَته العين، أو حدسَته في أوانه، ولأنك إذ تجهل المكان تَستهوِله وها هو لا نهائي، بلا حدود، مثل لغة تَستغلِق عليك أبجديتُها، وتتخفَّى من ثَم لك أسرارها، فتعمد إلى تأليفها منك. من لم يُدرك هذا ليس في حاجة إلى السفر، ومن الغباء أن يَصرف وقتَه وماله في التنقُّل بأرض الله، فكل شيء متاح تقريبًا في الكتب والتقارير والتحقيقات المصوَّرة، تُقربُك أحيانًا إلى الحقيقة أكثر مما أنت فيها، لكن العدسة لا تحلم، القلم المقرر لا يشط، الوصَّافون لا يُبْدعون أكثر مما تمنحه الطبيعة والأماكن في ذاتها، الكتب السياحية تستغبيك وهي تسجنك فيما رآه غيرك، مثل هؤلاء الأمريكيين واليابانيين، يظلُّون حبيسِي ما تعطيهم، ولا يذهبون إلَّا حيث يُشار لهم بالزيارة، ولذلك يمشون على عيونهم غشاوة، يرَون كما يأكلون ما يُقدَّم إليهم ودَفعُوا ثَمنَه مُسبقًا، لا يحتجُّون، والأخطر: لا يحلمون، لا يرَون شيئًا أو يكاد؛ لأنهم لا يتوقَّفون عن الْتقاط الصور، التي سيُظهِّرونها ويُرتِّبونها في ألبومات مجنَّدة، وحين سيطعنون في السنِّ، إن طعنوا، سيستخرجونها مع أحفادهم؛ ليتطلعوا إلى الزمن الذي مضى، بينما يكون قد مضى، وعيونهم غشاها شبه العمى، والأحفاد لا وقت لهم للعيش مع الشيخوخة، وغدًا سيرافقونهم إلى مثواهم الأخير، وتبقى الألبومات يلفُّها الغبار، إن لم يبيعوها لأول تاجر خرداوات!

رحلة الضرورة

تَراهم يمشون زرافاتٍ ووحدانا، هادئين وواثقين من مقصدهم، كل واحد في رأسه شيء، وكل واحد عارفٌ كذلك أنه جزءٌ من المكان الذي هو فيه، فيشغله بجسده، بحضوره، بحركته، وبالاحتفال فيه، وهذا ما لا تنفكُّ تعاينه في الشوارع، والمقاهي، والمطاعم، والمَتاجر، من مَطلَع النهار إلى انتشار العتمات، وما خلْفها من أنوارٍ وأسرار، ومباهج. ولقد شُغفتُ بمحلات المئونة هنا، غنية، متنوعة، متيسرة في جميع الأوقات، مبذولة حسب الجيوب، نظيفة، أنيقة التأثيث على بساطة، نظيفة كلها، حتى في الأقاصي، حسنة الإضاءة. تنقلتُ ببلاد الأرجنتين بين خمس مدنٍ كبرى، بوينس آيرس المذكورة في الوسط، و«قرطبة» وسطها غربًا، و«سالتا» في أقصى الشمال الغربي، و«سان خوان» دونها، وأخيرًا «باريلوتشي» جنوبًا على الحدود مع تشيلي. في هذه العناوين كلها، مثلما في ضواحيها، وبين سهولٍ وجبالٍ وجزرٍ أيضًا. تَشهدُ فيها مجتمعةً الاحتفاء بالمكان واندماج الإنسان فيه، بغناه وفقره، تليده وطريفه. أجل، ففي هذه الدنيا، فوق هذا الكوكب لكلٍّ مكانُه، موقعُه الخاص به، لا توجد المساواة، هل وُجدَت في أي يوم، واهمٌ مَن يتصور ذلك، وما كل سعادة، وكل رفاهية بعضٍ إلا من استنزاف كل الباقين. الترف حيثما يُرى ويوجَد فاحش، والفقر والعوَز يَستفزان، هما مقرفان، لكنك حين تتجاوز شعور الشفقة، الذي هو جرح ينكأ القلب دائمًا، ترى أمامك بشرًا قويًّا، مستمرًّا كالطبيعة لا يستسلم، اللهم إلا أن يُجرَف كالطبيعة أيضًا، بقوةٍ عاتية أكبر منه.

في هذه القارة الأمريكية الجنوبية، الأرجنتين بين أقوى بلدانها، ومن أغناها، طبيعةً وتقاليدَ، وثقافة، يرتبط الكائن بالأرض في نقطة كأنه يحفرها بإصبعه؛ لتصبح عينًا تنبع منه، وهو الذي جعل منها حَلمةً رضع منها من قبلُ، ويعودُ يسقيها من بعدُ، ودائمًا. وحين يحضن ابنه، أو يشبك ذراع زوجته أو صاحبته، أو يقبض على كوز ذُرة، أو أي رغيف ساخن، شُربة باردة، فكأنما يعود نطفةً إلى الرحم، وهو مبتهج، منتعش، ومنتفض بالخلق الأول، وكله قد عُجن بالتراب، وذاب في زُرقة السماء، وسال في الماء، انتشر هواءً في الهواء، وبين هذا وذاك، ما كان، فات، وحاضرٌ مختزَن في الذاكرة، وينزُّ بعدُ في الفؤاد، وأفواهٌ قليلة الكلام، هنا، بليغة التعبير في وجوهها، وتقاسيم وتجاعيد تُغنِي عن الكلام، تَرى المكان في الإنسان، في التاريخ، هذا في ذاك يتداخلان، كل واحدٍ مُشترَط بالثاني، أو ينعدم، وهذا ما يتسمَّى عندك بضرورة المكان، وأهمية هذا الإنسان، ويقنعك بأن رحلتك هذه رحلة الضرورة.

كلَّا، ليست الأرجنتين جنة الله على الأرض، رغم ما تزخر به من جِنان، وحُور عين، فكم سُفِح في تاريخها وكُتِب بحِبر الدماء، بل إن إباداتٍ جماعيةً تمَّت فيه؛ لكي تئول لما هي عليه اليوم. هو تاريخ الرجل الأبيض الحديث، جاء غازيًا، ثم طَرَد الفاتحين الأُوَل، وتهافَت إليها المهاجرون البِيض من أوروبا، من إيطاليا وألمانيا خاصة، وقلة من العرب أيضًا. وإنك لَتجول في عديدِ مناطقَ فلا تكاد تلتقي، إن التقيتَ، بمَن يُسمَّون بسكان الأرض الأصليين، كما لا تكاد تعثُر على أثر أو مضرب من مضاربهم القديمة، حتى لَتظن أحيانًا أنهم ما وُجدوا هنا قط. ثم، فجأةً، كمَن يتفجَّر أمامه نبع ماء في صحراءَ مقفرة، تيْنع وجوهُهم وتتشكَّل حركاتهم، وإن بدَت أقرب إلى تاريخٍ بادَ. تراوحتُ كثيرًا في تنقُّلي، وسياحَتي بالمكان بين الحضور شبه الكلِّي، للإنسان الأبيض، وبين الظهور شبه الخفي للإنسان القديم، لو جاز لي أن أُسميه هكذا.

في بوينس آيرس العاصمة، أولًا، المقسَّمة في الحقيقة إلى مدن، هي حاضرة مُترامية الأطراف، تظُن في كل مرةٍ أنك ستغادرها، أو ولجتَ ضاحيةً منها، وما أنت إلَّا انتقلتَ إلى طرفٍ آخَر منها لامتداد شوارعها، وازدهار الحدائق، والمساحات الخضراء التي تَفصل بينها كأنها جزرٌ متباعدة، تحتاج غالبًا إلى الانتقال إلى الأطراف؛ لِتلتقي بالسكان الأصليين، أو بالمهاجرين الجُدد من القارة، فأما الأحياء المركزية للعاصمة فهي للمهاجرين الأوروبيين القدامى، وهم أصحاب متاجرها، ورُواد مطاعمها ومقاصفها الفخمة. وإنك لَترى بين الأحياء فُروقًا في حُسن التصميم وأناقة البناء وفخامة المداخل والواجهات، ما يَصعب تخيُّله أحيانًا، وأنت في النهاية لن تتحدث عن فوارقَ طبقية، كما يتم التصنيف من المَنظور الطبقي، وإنما عن اختلافٍ جذري في العيش. والشيء ذاتُه يقفز إلى العين في مدينة قرطبة في الوسط الغربي. هنا، وحين تُنهي جولة المدينة، من أي ناحيةٍ، وفي مَرافقَ مختلفة، وتَصِل إلى بعض أطرافها الخلَّابة، ثم تختلط في أحيائها بناسها، نهارًا في الأسواق، وليلًا في المتاجر الكبرى والمطاعم والملاهي والمقاهي، لا بد تسأل نفسك شبهَ مُتحيِّر: هل أنت في الأرجنتين أم في زيورخ أو ميلانو، حيث تتهادَى الشقراوات المتبرجات، ويرمح الأوروبيون المصقَولون، وكل مظاهر الترَف والتمدُّن.

مُدهِشة قرطبة هذه، لسانها وحدَه ينتمي إلى حيث توجد، بينما هي مسكونة بشرًا وأحلامًا ومطامحَ بالغرب الأوروبي. مدينة جامعية بامتيازٍ، حيث الجامعة ومَرافقها التربوية والسكنية والرياضية تُمثِّل مدينةً مستقلَّة، ولا تكفي؛ إذ يُقْبِل عليها الطلاب من نواحي البلاد كلها، ومن خارج الأرجنتين لسُمعتها الحسنة، ولِتوفُّر مساعدات مالية للطلاب الوافدين عليها. وهي مدينة الحسناوات، سواء طرقتها ليلًا أو نهارًا تساءلتَ: هل ضيَّعتَ السبيل إلى ما قصدتَ؟ فكأنك بين الإيطاليات أو النمساويات، وفي مرافق ومسالك مدنية إليها أشبه. وما أنت مُخطئ ولا ضالٌّ، بل الطليان إلى هنا وفَدوا بكثرة، حتى صارت مرتعَهم الأول، أعادوا فيه غَرس جذورهم، وجدَّدوها، وأضافوا إليها من نسغ البيئة المحلية، إلا اللغة، وإن لم يتركوها نهائيًّا، إلا أنهم اكتسبوا الإسبانية، لسان جميع السكان، ومخزن ثقافتهم وعقيدتهم، وهم فعلًا متدينون بلُطف وأناقة، ولهم مع معتقداتهم وشعائرهم سماويةٌ وطقوسية سحرية، تاريخٌ عجيب هو ما يمكن الْتماسه في روايات كبار كُتَّاب الأرجنتين، وبوَّأ روايتهم القدح المُعلَّى.

دليلي شرَح لي وبدَّد بعضَ الْتباسي وأوهامي، وأحزنني أيضًا، من حُسن الحظ أنه نوَّرني، نبَّهني، وقبلَه دليلتي السابقة في العاصمة، بأن المهاجرين البِيض جعلوا أوروبا الغربية نموذجَهم، مَثلَهم الأعلى، واقتدوه في كل ما يُجسده، ومنه تعلُّم اللغات، مثلًا، في الأوساط الميسورة، وفن العمارة، والهندام، وأسلوب العيش، زادوا عليها خصائص محلية. عندما سألتُه، وفي بالي المقارنة مع البرازيل، حيث التعدد العرقي واللوني واضح، والسُّود بالذات: إننا لم نر السُّود في أي مكان في بلادكم، أم هم معزولون — وأنا أمزح — في مخيماتٍ مَقصِية؟! أجاب دليلي بعد إطراقٍ بهدوء: كلَّا، لقد بادُوا، خلال الحرب الأهلية كانوا يُرسَلون وحدَهم إلى الصفوف الأمامية، فتحصدهم المدافع، لذا لم يَبقَ منهم إلا مَن رحم ربك (!). ولم أشَأ الإلحاح لأسألَ: أين الهنود الأصليين، لأنك تراهم قِلةً، بل شبه مُنعدمِين في الأحياء الراقية، وإن شئتَ فالْتمِسهم في الضواحي، والأحياء العُمالية، وعند مواقف الباصات عائدِين مثل كائناتٍ سرِّية إلى مساكنهم البعيدة، بعد يوم عملٍ مُضنٍ في وسط العاصمة، في أعمالٍ مختلفة. أذهبُ إليهم، أختلطُ بهم، لستُ سائحًا، لكني حيثما حللتُ أُحب التملِّي في سحنات البشر، هم من يعيِّن المكان ويُعطيه هُويته الحقيقية، هم من يقود خطواتي، ويؤشِّر لمراحل رحلتي، وليس المآثر، ولا المتاحف، ولا المناظر والمواقع الطبيعية، ومثله مما يتهافَت عليه السُّيَّاح عادةً، وتراهم يعمون عن رؤية الناس الذين حولهم، ولن تُتاح لهم فرصة التعرف عليهم من بُعد، وغالبًا ما تتمُّ الاستهانة بهم، أو النظر إليهم باعتبارهم ينبغي أن يشبهوننا.

في مقهَى Tortoni

خارِجُ إسقاطاتنا، فسُكان الأرجنتين، لا يشبهوننا، لهم من الغربيين تهذيبهم، وهدوءهم، وانضباطهم، ونظافتهم، بينما هم مختلفون بحميميَّتهم الدافئة، وباحتفاليَّاتهم الجميلة والبسيطة، حتى بفَقرهم المستور، بحُبهم لأكلاتٍ متواضعة، ومشروباتٍ غازية، لا تخلو منها مائدة، بالانتشار في الشوارع والمنتزَهات، كجيوش سُرِّحَت للتو من الخدمة، وبالاستعداد للوقوف بصبر المؤمنين طوابيرَ لا تنتهي، من أجْل شرب شاي، عصير، كبوتشينو، وفطيرة، مفردًا أو عائليًّا في مكانٍ اشتُهر أو يشتهر، أما إذا كان المكان ذا رصيدٍ تاريخي، ثقافي، فهُم يملكون معه صبرَ أيوب، كأنهم صفُّ حجيجٍ، يشهد الله أني لا أُبالغ: في بوينس آيرس يأتون من كل مكان للوقوف وقتًا غير محدودٍ، وعلى مدار أيام السنة، من العاشرة صباحًا إلى ما بعد منتصف الليل، لِوُلوج مقهًى، والجلوس فيه وقتًا أو وُقَيتًا، من أجل قهوة، شاي، كعكة، ودردشة، ولهم فيه مآربُ أخرى.

المَقهى حياةٌ ثانية هنا، حيِّز نظيف، أنيق، حَسَن الإضاءة، كما يُحب همنغواي بالضبط، الخدمة ممتازة، وأنت تأخذ مَجلسك حين تفرغ طاولة، فلا تَدافُع. لكي تعيش تجربة المقهى، اذهب إلى الرقم ٨٢٥ من Avenida de Mayo؛ لتتناول في المقهى الشهير Tortoni بعضَ المرطبات. لا أضمن لك متى سَتلِجُه، فهناك دائمًا طابورٌ في أي وقت، ولن تَرى متعجِّلًا أو مَلولًا. مَن يقرأ صحيفة، مَن يستمع إلى موسيقاه، مَن يدردش مع رفيق أو صاحبة، مَن لا يفعل شيئًا سوى انتظار دَوره، فالقوم قدِموا من مُدن وبلدات بعيدة وعنوان هذا المقهى في جيوبهم، ليس صدفة ينتظرون؛ لذلك هم من الصابرين، ولن يسأل أحد مثل المتنبي، وهو في الطريق إلى حلب، مستعمِلًا صيغته فقط: أطويلٌ طريقُنا أم يَطول؟! حين سيصِل المنتظِر إلى المَدخل ويفسح له مُشرِف مُنتصب بالباب، يَعرف الحيِّز المتوفر ويسمح بالدخول حسب ما يفرغ من طاولات؛ تجنُّبًا للاكتظاظ، ولِينال كل ذي حقٍّ حقَّه، فالمقهى فضاءُ استجمام ومتعة، وموطن حوار، فكيف إذا كان المكان هو (تورتوني)؟! فلْيدخل، أو لِيدخلا، لِيدخلوا، بعدد الطاولات التي شغرت، سيعتبر نفسَه محظوظًا، فتأخذ مقعدك مثل تلميذٍ مهذَّب، ولن تَضجر، حضر النادل أو تأخر؛ إذ سيسلبك المكان بفخامة ديكوره، وأخشابه الثمينة، وبأثاثه العريق، فأنت هنا في أحد مواقع العراقة الفنية والثقافية في بوينس آيرس، في أحد العناوين التي اشتُهرت للفنانين والكُتاب والشعراء، وهؤلاء مرموقون ورموز، الأموات منهم والأحياء، الذين عاشوا المَنافي خلال الدكتاتورية، أو مَن بقُوا وتعذبوا، وعبَّروا كلهم بأقوى ما يكون بإسبانيةٍ بليغة، بوَّأتْهم مكانة الأستاذية والتجديد في الأدب الروائي الأمريكي اللاتيني، والسرد الحكائي عامةً.
ولا بُدَّ بعد الانتهاء من تناوُل الفطيرة والقهوة، ربما قبل ذلك، أن تقوم لتستكشف زوايا تضم منحوتاتٍ وتماثيلَ تُصور مشاهير، في قلبهم الأبُ الروحي للأدب الأرجنتيني الحديث: خورخي لويس بورخيس (١٨٩٩–١٩٨٦م)، يقدِّسه مواطنوه ويَؤمُّون المكان لاسمه، سواء عرفوا حكاياته، أو جهلوه، ونادرًا أن يجهلوه، فأنت هنا في بلاد الحكاية (الكوينتا)؛ لذلك لا غرابة أن جاء فن بورخيس من طينة الثقافة الحكائية لبلده، وذاعَت شهرته، زيادةً عن عبقريته في آفاق شتَّى. تمامًا كما لو أنك في لشبونة، وصعدتَ إلى تلالها العليا، اسأل أي عابر، أو بيدك الخريطة لتقع على مقهى Brasileira do Chiado في حد ذاتها، وفي باحتها حيث نصب تمثال برونزي لشاعر البرتغال الكبير فرناندو بيسوا (١٨٨٨–١٩٣٥م)، كل مَن قطَن لشبونة، أو حضر إليها، أو مرَّ بها لا بُدَّ يأتي ليشرب ويتصور مع تمثال بيسوا، من غير أن يكون قد قرأ له بيتَ شعر واحدًا بالضرورة؛ إذ الأدباء في هذه البلدان المؤمنة جدًّا هم تقريبًا في مقام الأنبياء والأولياء، تكبر بهم شعوبهم، وتتقدس.

لا تعجَب، إذن، وأنت في مقهى تورتوني أن ترى مُرتاديه يتمسحون بالجدران، ويتحسسون بأيديهم أحيانًا المقاعد التي حُفظت جانبًا، هي ورفوف الكتب والطاولات، حيث جلس وتحدَّث أدباء في الماضي، يشعرون بالمهابة، ويخرجون في النهاية إلى الشارع، كأنهم انتهوا من طقس كنَسي، خاشعين وراضين عن أنفسهم، مُتبتلين. يتعزَّز عندك هذا الشعور، وأنت ترى المكتبات تَشغل مساحات وواجهات في شوارع فسيحة. مبانٍ أنيقة فعلًا، تتفوق بكثير على ما في أوروبا الغربية، بمعمارها، وتنسيقها الداخلي، ووفرة الكتب، وكمِّ المُترجَم من لغاتٍ أجنبية. ولطيف أن تجد فيها ركنًا للاستراحة تتناول فيه قهوة، وأنت تتصفح كتابًا، أو تناقشه بهمس؛ إذ لن تسمع أي ضجيج؛ لأن المكتبة تُشبه محرابًا، والكتاب مقدس، الثقافة، الفن، بضاعة مختلفة، ولذلك فأماكنها مزارات متميزة، والكتاب أيقونات، صادفتُ مسارح وقاعات سينما بارَت بضاعتها لأسبابٍ فجرى تحويلها إلى مكتبات، المهم هو الحفاظ هنا على حضور الثقافة ورمزيتها رغم المدِّ الكاسح لنزعةٍ استهلاكية سطحية، على كلٍّ هذا بعض قيمة الشعوب. كيف بالأرجنتين التي أنجبَت، ولا تزال، عباقرة الرواية والشعر الحديث، ولن نفتح القائمة فهي طويلة، ومُفحَمة من أي ناحية، تقع في قلب أدب أمريكا اللاتينية خصوصًا، والأدب العالمي عمومًا. يبقى من المهم معرفةُ أن الغناء والشعر، مثل الحب، جزء من حياة الإنسان، لا يذهب إليه، بل يعيش فيه، وبه تتمُّ كينونته، كأنه مفطور عليه، وهو كذلك، لذا العاطفة هنا جارفة، واللسان سحر!

أستعرضُ حديثي عن مقهى تورتوني، وله نظائر، وفي بالي، من باب المقارَنة الحاضرة دومًا، عناوين محدَّدةً في عواصم عربية، ارتبطَت بأسماء كُتَّاب، ويقصدها الزوار لهذا السبب، أو كانوا، أشهرها في القاهرة «مقهى الفيشاوي» عند مدخل خان الخليلي، التي كانت من مقاهي الروائي العربي الكبير نجيب محفوظ، قبل أن ينتقل إلى مقاهٍ أخرى قرب النيل. «مقهى ريش» في مُحيط طلعت حرب، بالقاهرة دائمًا، مرَّت به أجيال من كُتَّاب مصر. وأذكر «مقهى حسن عجمي» في بغداد، و«الروضة» بدمشق، وغيرها. أما في باريس فلَديك مقهى «لوفلور» Le Flore ومقهى «لي دو ماغو» Les Deux Magots بشارع سان جيرمان، حيث كان يلتمُّ مثقفو وأدباء وفنانو باريس إبَّان الحرب العالمية الثانية وما بعدها، لكن هذه الأماكن كلها ذهبَ ريحها تقريبًا، تبالَت، وخفتَ حسُّ الأدب فيها، تذكُرُها فلكلوريًّا، اغترابيًّا أكثر من أي شيء، وعلى كلٍّ فهذا أفضل من ألَّا يوجَد أو يتذكر أحد شيئًا أو موقعًا، شأن الحال البئيس في أغلب الأوطان العربية.

جميلةٌ، سالتا البسيطة

يُسمُّونها Salta la Linda (سالتا الجميلة)، الواقعة في الشمال الغربي، وجوهرته، حيث المرتفعات (١٢٠٠م)، والغابات، والمآثر الاستعمارية الإسبانية، ومرتع الفلكلور الوطني، وبوابة أساس على حضارة الإنكا. هذه مدينةٌ بُنيت في نهاية القرن التاسع عشر، تقع في سهلٍ فسيح، وإلى جانب معمارها الاستعماري، تلفتُ نظرك ببساطتها، مِن غير إفراطٍ في بنائها، وحداثتها متقشِّفة، وسكانها كذلك. جميع مدن الأرجنتين أَرسى فيها الإسبان الفاتحون، الأُول، نموذجَ بِنائهم، وطريقةَ توزيع مَرافقهم، الدينية والإدارية، والاقتصادية. ستجدُ الساحة تتوسطها نافورة تحيط بها أشجار، توزعَت بينها كراسٍ. يتكون محيط الساحة الظليلة الفسيحة من مبنى البلدية، والكنيسة، والبنك، أو أي مرفق مالي. زِيدَ على هذا مقاهٍ تُشرف على الساحة بباحات. وخلفها، أو تتفرع عنها، أزقَّة هي السوق التجاري، وجُلُّها ممنوعة على السيارات، وهذا ما تلحظه في كل المدن، تستطيع أن تتجول، وتتبضع، وتتسكع، وتغازل إن طاب لك، لا خوف من سيارة تدهس، أو عوادم تخنق، أو دجَّال يُحلِّل ويُحرِّم، والوقار عامٌّ.

يملك السكان هنا ربما كثيرًا من الوقت، أم تُراهم يتوزعون على الأوقات، فإذا استثنيتَ ساعة القيلولة فهم منتشرون، من الشروق إلى بعد منتصف الليل؛ مدنٌ لا تنام، وغافية، وتصحو لك متى تشاء، وأحيانًا لا تصحو لأنها ببساطة لا تنام؛ لذلك تراهم يتوزعون الساحات والمنتزَّهات، عدا المنشغلين بين بيع وشراء، وهؤلاء بدَورهم في حال انشراح شبه دائم، تستغرب من أين لهم سعة الخاطر، وهم بالكاد يُرزقون. في سالتا الساحة هي قلب المدينة، هي مَشاع، للفقراء بخاصة، لا شك للمتقاعدين، والعاطلين، والعابرين، للعجزة المسنين، نساءً ورجالًا، لأطفال يستريحون هنيهة قبل أن يستأنفوا التجول ببضاعةٍ نافلة على زبائن المقاهي، لكنهم لا يتسوَّلون. هؤلاء يستظلون أشجارًا عالية، وبعضهم يقضم ما يجد، أو علبة مشروبٍ غازي، أو ينظر حوله في الفراغ، ولا شك أن فراغه ممتلئ بذكرياته وأحلامه وأوهامه وحرمانه، أو بكل ما يطمح إليه ولا يجده، وفي الانتظار ها هو يستدرجه إلى فراغه في هذه الساحة التي كلما جالستَها أحببتَ البقاء فيها أبدًا. الساحة ليست مِلكًا للبشر وحدَهم، معهم شركاء، وهم أقوياء، ربما كانوا أقوى وأشد سطوةً. هم الكلاب، كلاب الساحة، كلاب المدينة، كلاب الأرجنتين كلها، وهي تستحق وقفةً خاصة.

سالتا البسيطة تستيقظ متأخرة، وتنام متأخرة أيضًا. أنت في الصباح لا تكاد تلحظها، وهي لا تلفتُ النظر إليها؛ إذ الصباح انشغالٌ شخصي، واستيقاظٌ متثاقِل، لمدينة مبسوطة ككف اليد، أول من ينتشر في أزقَّتها ومكاتبها فتيةٌ وفتيات يَبكُرنَ للرزق، وعيونهم لا تزال متلألئةً بأحلام البارحة، فيها نومٌ ناقص، كما تمضي، وإن بقناعة وصبر، في طريق عيشٍ ناقص، غير أنه ليس شَقيًّا إطلاقًا. لا ترى أحدًا يُشهِر شقاءه، أو يتاجر به. هنا في سالتا ترى قِسمًا كبيرًا من السكان الأصليين، مَن بقي منهم. ملامحهم ناتئة داخل مَتاجر صغيرة، وفي ثنايا أزقَّة وهم يبيعون بعض الأشياء، وفي الكنائس يستدرُّون رحمة العذراء والروح القدُس، وجباههم خطَّتها التجاعيد. ما أطيب أن ترى البشر، حتى وهم محرومون ومعوزون، يتوادُّون؛ لأن الحاجة لا تُبقي عادةً فرصة للمودة. أذكُر أني وأنا في كرتخينا شمال كولومبيا شاهدتُ في رحلة لي منتصف الثمانينيات مليشيا أطفال يقتتلون من أجل دجاجة، وزعيمًا مراهقًا يؤدبهم بندب سكِّين على كل هفوة أو ليُثبت زعامته. نعم! والأطفال هم من يرافقونك بأمان، بمقابلٍ إذا أردتَ الوصول إلى مَن جئتَ تبحث عنه زائرًا في أعالي بوغوتا الخطرة.

مع هذا، فالمدن الصغيرة تُبقي للإنسان فيها مكانًا، حيِّزًا للعيش، يمد فيه قامَتَه، ويحاور فيه الواحد آخَر أو آخَره، يمتلك طمأنينته، وهو يُروِّض رغبته؛ لأنه هو من يسود المدينة لا هي. المدن الكبرى مثل بوينس آيرس، أو قرطبة، ما دام حديثنا مُركزًا الآن على الأرجنتين، ليست لأحد. بناها الإنسان وأفلتَت من رِقابته، ثم يقضي حياته عبثًا يُلاحقها، ولن يطول أبدًا حدود غوايتها وهدرِها له؛ لأنها لا تتوقف عن الامتداد وفُحش التحدِّي. مع سالتا تشعر أن البساطة حالةٌ مادية، وإحساسٌ شِعري في آنٍ، خصوصًا حين تكون قد أُتخمت من المدن الكبرى، وصرتَ تكشطها من جلدك مثل زعنف، فتُحب أن تمشي فيما تتيحه من فراغ، ومن عطالة، وشيئًا فشيئًا، وببطءٍ كسول، مستلذ، تشرع حواسك تتفتح، خلسة منك، تفتُّح البُرعم، وها هي ذي الشمس التي كانت تصعد، وهي تشعُّ وحدَها في غفلة عمن ابتلعتهم إداراتهم، ومتاجرهم وبطالتهم كذلك، قد توهَّجت، فغطَّت الأسفلت، والأسطح، وأعالي البنايات، كلها لا تتجاوز ثلاث طبقات، منسجمة، تعزف هندستُها إيقاع العفة، ولا بُد أن تستحي وأنت تمرُّ بها؛ لأن الزمن ترك بصماته ونقَش وشمه، وحيث ترى اللون كالحًا، كنائس تتنافس في التلادة واحتضان النفوس القلقة، وممرات خلفية شاحبة، تنزُّ بالوحشة، بالزمن الزخم الراقد هنا، فتزداد إطراقًا من حياء ورهبة، لا تخَف فالموت حي، والحي ميت، وها أنت هنا في سالتا تقبض على الاثنين معًا، في فرصة نادرة، فتفطَّن، وتفكَّر!

إنما، صعقة الزمن الكبرى، ما يُعيدك إلى قاع الأبدية، هي ما تقف عليه في المتحف الأركيولوجي Museo de Arqueologia de Alta Montana، لتتفرَّج أولًا على بقايا الحضارة المحلية (الإنكا)، من حُلي، وأنسجة، وأوانٍ طينية، وتماثيل آلهة أو سادة. بينما الأخطر هو حين تقف عند ما يقدِّمه المتحف، الصَّبِيَّان المحنَّطان، في السادسة من العمر، اللذان قُدِّما قُربانًا للآلهة في أعالي جبال هوماهواكا، شمال غربي سالتا، حيث امتدَّت إمبراطورية الإنكيين. إنك ستصعد إلى هناك، وفي الطريق قبل ذلك، وحينئذٍ كذلك، ترى الجبال تتوهج بالألوان، متعددها، أصفر، بنفسجي، وردي فاتح، وردي غامق، بُني كثيف، وقِمَم بتجاويف بركانية، وبراكين همدَت، وتراك إذ تتنقل في أعلى المرتفعات تُحيط بك أعمدة الصبَّار بأشكالٍ بهلوانية، خرقاء، بعُمر قرون، تُصبح كأنك تجوس في شغاف روحك، تنتقل بين أطلال بيوت الإنكيين، أشبه بحُفَر، وأقبِيَة، باردة من الداخل، والحر ينغرس سَيفه في قُنَّة الرأس في الخارج، حتى إذا بلغتَ المذبح تمثَّل لك ما كان يحدث قبل أربعة قرون، والعام خصب، فيحتاج ساكنة هذه الجبال إلى شُكر آلهتهم، وماذا أغلى من فلذات الكبد، والمتمتِّعين بالمَلاحة، وذوي الحسَب، قُربانًا للآلهة شكرًا وعرفانًا، يُنتقَون، وفي أوج الاحتفالات بين طعام وشراب، يُسقَون سائلًا مخدِّرًا، ويُترَكون بطعامهم ولُعبهم الصغيرة في مكانٍ كالجُحر، هنا؛ ليموتوا وثيابهم على أجسامهم الغضة، وكذلك عُثر عليهم، محنَّطين.

وإنك لتراهم الآن أقوى مما ترى ملوك الفراعنة في المتحف المصري بالقاهرة، جالسِين معروضين داخل العلبة الزجاجية الخاضعة لتكييفٍ دقيق بما يَقيهم من التلَف، وتُنبهك لوحةٌ ملصقة عند مدخل القاعة إلى الحذر من مغبة اجتراح تأثُّرٍ وانفعالات غير متوقَّعة، ومن جهتي، أظن معي غيري، أنك بقدر ما تشعر برعبٍ مما ترى، واستنكار، وتعجُّب، وحيرة، واستهوالٍ لما يمكن أن يُقدِم عليه الإنسان بفعل الوعي أو الخيال؛ ليُلبي حقيقةً أو وهمًا، ولِيحقق ديمومة الطمأنينة بطقوسٍ دينية معينة؛ بقدر هذا كله تبقى ملتصقًا بالمشهد تريد أن تغادر القاعة، وأنت في لحظةٍ ما تتصورك بصباك قد اغتُصبتَ، صرتَ قربانًا لمعتقَدٍ ما، وكُتلتُك، هي ذي أمامك، وتظن أنك حي، العالم حولك حي، لستَ ميتًا، ولن تموت، وإنما شُبِّه لهم، ربما أنت منسي لبعض الوقت هنا، والسيارة الذين وضعوا يوسف في غيابة الجُب سيعودون ليلتقطوه.

حين تخرج إلى ساحة ٩ مايو في وسط سالتا، تكون قد غادرتَ الجغرافية المقدَّسة، وتفهم زيادة كيف أن القارة اللاتينو-أمريكية يتعايش فيها الواقع بالخيال، المحسوس بالسحري، ولماذا هي تمتلك أدبًا خاصًّا بها، وأن الواقعية السحرية، كما حلا للغربيين أن يرفعوها وقتًا إلى مستوى الشعار أو الموضة، خصوصًا بعد اشتهار رواية «مائة عامٍ من العُزلة» لغابرييل غارسيا ماركيز، لا يمكن تقليدها، اللهم إلا بمسخ وإسفاف، فلكل شعبٍ خصوصيته الثقافية، منها يستلهم وجوهًا من تعبيره، زيادةً على ما يُبدعه الخيال البشري.

تغادر هذه الجغرافية، ورغم الإعجاب، تتنفس الصعداء. فأنت تُقْبِل على المساء، ثم بعده على الليل، والليل الأرجنتيني، حيثما كنت، فتنةٌ والْتذاذ. حياةٌ أخرى تبدأ في الليل، وليست امتدادًا للنهار. من الجائز أن هناك خلائق لكل وقت، وثمة أيضًا كائنات لكل الأوقات. أنا خفاش، وهذا البلد يواتيني، ويفتح أماكنه كلها للعيش؛ لتتحقق من إنسانيتك، تُستهلَك في النهار، وتُستعاد وقد أضاءت المصابيح، فليس أبدًا من ظلام، اللهم إلا في النفوس التي غاب عنها النور ولن تدركه. وحياة الليل تتغذَّى هنا بالمطاعم، وترتع حياتها في الحانات والملاهي، لكنها تأهُل أكثرَ في الهواء الطلق، أجل، تحت النجوم أو الغيم، لا فرق، التمشِّي في الممرات، من أجْل لا هدف، في الساحات، قُبالة الكنائس، مَثنى، مَثنى، غالبًا رجل وامرأة، شبابٌ جُلهم، يقعون على أشكالهم مبكِّرًا، يتزوجون صغار السن، ويعشقون كثيرًا، والدليل: الفضاءُ يصدح الوقت كله بأغاني الكوراسون (القلب، والحب)، وجميع الأركان للمحبين، بأيدٍ متشابكة، من غير أن ترى فيهم الاستعراء الأوروبي، الفرنسي بخاصة، حتى والليل ستر، فلا قبلات صارخة أمام الملأ، ولا سُكْر طافح، ولا صخب مهول. لن تسمع الصخب في أي سوق ولا ملهًى، تظن المتسوقين والملتهين يبلعون أصواتهم، وما هي إلا تربية وتهذيب، أية طريقة عيش تختلف عنا نحن العرب الذين لا نُحسِن الصمت إطلاقًا، والضجيج جزء من عيشنا، مثلما هو تعبير صاعق لنا، والدليل: كم يدعونا ديننا الحنيف إلى الإنصات.

ليل الأرجنتين، أماسيه، هو موسيقى التانغو، رقصُه، طقسُه، فضاؤه، حزُنه الدفين وبهجتُه. لن تجد أحدًا يُعَرِّفُ لك ما هو التانغو، كما لو سألتَ مسلمًا أو مسيحيًّا عن صلاته، وأنت تخطئ الطريق مثلي إذا سعيتَ، أو اكتفيتَ بمشاهدته فقط، مثل فُرجة. صحيح أنه فُرجة، والصلاة أداء، لكنه شأن آخر، أداء تكون فيه، لا خارجَه؛ لأنه بقدر ما هو جسدي هو تعبير مُتسامٍ، ينخرط الجسد فيه ضمن ما يصنعه لحظته، بكلماته المكتوبة بأبجديةٍ جسديةٍ خالصة، رغم أن نظرات الراقصين متضامَّة، ناطقة متحاورة بحبٍ يتفانى في التعبير صمتًا، وبصمته تسمعه مدوِّيًا، ولدويِّه مساحات وألوان، وكل مَن يراه له أن يُسقط عليه ما يشاء من حزنه، أو فرحه، أو جوعه إلى الحب، لكنه يمكن أن يكون شيئًا آخر بتاتًا، أحسبه آخر، إلا إذا عشتَه، كنتَ فيه.

للتانغو حزنٌ دفين، ينبع من الأرض، ويخرج من المسام، وهو قريب من الفادو البرتغالي، المولَّد والمُنسجِم مع ما يسمِّيه البرتغاليون «سوداد»، إيقاعه وكلماته وحدَها قادرة على تعريفها، حتى لو سمَّيتَها الحزن أو الاكتئاب، أظن أن الكلمات مهما دقت وصعدت في المجاز لا تستطيع قول المشاعر، قصارَى جهد القائل رسمُها من خارج، والخارج تعبيرٌ جزئي في النهاية لا كلِّي. فأنت لما ترى شعبًا كاملًا مُنخرطًا في رقصة، ويذهب إلى فضاءاتها، كما يؤم المصلُّون إلى المساجد أو الكنائس، فاعلم أن الحياة لا تكتمل عنده بغيرها، التانغو. وحين يسدل الليل أستاره، وحين تظن الشوارع أقفرت في الخارج، وحين تحسب الناس كلهم نيام، تكون بوينس آيرس قد اتخذَت زينتها الكاملة، وتبرجَت بأحلى بناتها، وأملح فتيانها، ولِمَ لا عجائزها أحيانًا، يراقص الذراع ذراعًا والساق ساقًا، أية أناقة، أية رشاقة، أي ارتفاع عن الأرض، عشق شامخ!

سُمَّار الزمان

في عشرينيات القرن المنصرم أمضى الروائي والقاصُّ الشهير إرنست همنغواي وقتًا في باريس، بين العيش ومحاولة الكتابة، وخرج من هذه التجربة بكتابٍ لطيف، ما زال إلى الآن أحدَ العناوين الدالة على المدينة المعشوقة عالميًّا، سمَّاه A Moveable Feast (عيد متنقل). وهو ما أُحِب أن أستعيره؛ لأضعه بحقٍّ صفةً على الحياة اليومية في الأرجنتين، فكيف بأيام العطل والأعياد. أعني أن الحياة وهي تتخذ كل أشكال الكدح والسعي اليومي الحثيث والصعب للكسب قليلًا أو كثيرًا، تُعاش نوعًا ما بطريقة احتفالية، في الشوارع، والأسواق، والساحات، المقاهي، والمطاعم، محطات القطار، والمطارات، وطوابير الانتظار، دعك من بهجة الألوان، متناغمة بين الحقول والجبال خارج المدن، والملصقات والصور على جُدران المدن، والنوع المثير الذي تتيحه الطبيعة بين اليابسة والماء، الأرض والسماء. التناغم سِمة أخرى لفن المهرجانية، حيث تزدوج الألوان، وتتقاطع أو تتداخل في تركيبٍ غير مألوف، عند واجهة، أو جدارية أو تصميم الشرفات، وأشكال الأبواب ومداخل العمارات، والنصُب الموزَّعة بسخاءٍ في الميادين العامة، وباحات الجامعات، فكيف بانشراح المسافات الخضراء! وإذا كان للثراء مظهر مثير، مستفِز أحيانًا، فإنه هنا يحتفظ بأسراره مخفيةً بعض الشيء، في الأحياء الخلفية، والمنتجعات، تاركًا لنقائضه مساحات. منها ما تحتاج أن تنتقل إليه، فتجده فيما يُسَمَّى بالأحياء الشعبية، تارةً، وأخرى في الأحياء العتيقة، شبه المهجورة للمدينة/المدن. عندئذٍ ستفهم، تحس أن الشعب، الفقراء، الناس المتواضعين عيشًا هم الذين يحتفظون بروح المرح، ويستنشقون الهواء عميقًا، وهم على قِلة يد، لكن غير تُعساء، أو يكابرون. لا أُحِب الشعبوية، وأنفر من الابتئاس، ولا أرى الفقر قدَرًا، وهو حالة مؤسية، ولكن، حيث يوجَد، ويوجَد أشخاص وجماعات تحت نيره، تظنهم اعتادوا عليه، أقف مذهولًا إزاء قوة تَحمُّلهم، وبداهة تآلفهم مع وضعهم كأنه هو الحياة الطبيعية، فيما هو الحياة المُمكِنة بالنسبة إليهم، فلِمَ الشقاء، في انتظار انفراج الغُمَّة، ومن ثَمَّ الأمل يُشرق في العيون، والابتهالات تهدهدها أركان ومحارب الكنائس، وتباريح الكوراسون على اللسان، والله في القلب والسماء!

المدن الكبيرة منفِّرة، رغم أنني أُحبها، والأقاصي سهولًا ومرتفعاتٍ جذابةٌ وخلابةٌ في هذه البلاد، رغم أني عاجز عن البقاء فيها، وحين تلتقي بناسٍ لم يغادروها تفغر فاكَ إعجابًا، فهؤلاء أقوياء، وهم أكبر مِنَّا؛ لأن فيهم من أجسادنا، وبعض خصالنا، وفيهم ما لن نطوله أبدًا، أعني الطبيعة الخام، الفطرة، مثل الشروق، والغروب، الفجر، جدول الماء، هزيم الرعد، عمامات الثلج فوق رءوس الجبال، غابات لا تُحَدُّ، وأخضر بعشرات الألوان، وتضاريس الأرض على جباههم ووجوههم محفورة خطوطًا وأخاديد، نحن الوقت العابر، وهم الزمن الأبدي. عند هؤلاء في الشمال الغربي للأرجنتين، أعلى سالتا، في هوماهواكا، وكفايات، وفي الطرقات الجبلية المتشعبة، تلتقي في وقفات الاستراحة الكثيرة، يتعمدها جميع سُوَّاق السياحة لترويج بضاعتها، وتلقِّي عمولة، تلتقي رجالًا ونساءً، وأطفالًا أيضًا، كأنهم آتون من عهودٍ أخرى، يَعرضون للبيع منسوجاتٍ بسيطة، وأطعمةً محلية، تُحيط بهم دوابُّهم، يَعرضونها للتصوير بمقابلٍ لنا، نحن الحضريين البَطِرين، ننظر إليهم ضمن الطبيعة بوصفهم طرافات، نتهافت بعدساتنا عليهم لنُري صورهم غدًا إلى محيطنا متفاخرين أننا شاهَدنا خلقًا وعوالم عجيبة، والدليل: انظروا! نتهافت في الحقيقة على ما بِتْنا نفتقده في حياتنا اليومية، الذين يعيشون في المدن الغربية بخاصة، حيث كل حركة وفعل مقنَّنان، وضرورة الانضباط نادرًا ما تَترك نسمةً للعفوية.

في بلدة Purmamarca بعد أن أكملتُ زيارة مرتفعات Humahuaca العامرة بالآثار الإنكية، نزلتُ مع دليلي إليها، ببيوتها السفلية، المتلاصقة، وأزقَّتها الحجرية المتشابهة، تظنُّها لا تُغري، وإذ هي مقصد السياح الأوروبيين، الشباب منهم بخاصة، يقضون فيها أيامًا يتفرغون فيها للفراغ والصمت، وولجْنا، وقد تغوَّل جوعُنا، دارةً تُشْبه في مَدخلها ديْرًا، وإذا هي قاعةٌ فسيحة توزَّعت عليها الطاولات، مديدة ومستديرة، وفي قعرها منصة، وعلى اليمين ممر يُفضي إلى المطبخ، منه يقدِّم نادل لا يتوقف عن إحضار الصحون، صغيرة وكبيرة، مُلبِّيًا طلبات جماعة سياحٍ فرنسيين لجوجين، ورائحة طعام شهي تضرب البطون والأنوف معًا. في مثل هذه الأماكن يتحول الأكل إلى طقس، والمطعم إلى فضاء احتفالٍ، واقعًا لا مجازًا، ومن غير حجزٍ ولا إعلان. قبل هذا المطعم، عرفتُ مطعمًا في العاصمة المغربية الرباط، صاحبه يهودي (ميشيل)، يقدِّم أشهى الأكلات اليهودية المغربية، اسم المكان «الزردة» بِدارِجَتِنا تعني الوليمة، وقد اشتُهر لهذا السبب، ولسبب آخر، وَجِيهٍ عند البعض، ممن يُحبون تسويغ المائدة بالغناء والموسيقى، والصخب، أحيانًا. من هذه الناحية يشبعك ميشال حتى التخمة. فإنه، وقد لاحظ قاعة الطعام تمتلئ، يعمد إلى دُف، أو عُود، أو أية آلةٍ أخرى، ويرفع عقيرته بالغناء، أهازيج شعبية، ومحفوظات مستحَبة، وهو لا يظن أحدًا يملك حنجرةً أقوى ولا صوتًا أعذب منه (!) … لا ينجو أي طارق لمطعمه من أداء «نمرته» التي اشتُهر بها، والتصقَت بسُمعة المحل، تُضفي عليه، رغم كل شيء، رونقًا وبهجة، إن قارنتَه بمطاعم الرباط الكئيبة، شديدة التقتير.

على العكس منه مطعمنا في بورماماركا. مشروباته تُطفئ الغلة، ومقبِّلاتُه تفتح في الشهية شهوات، من أكلات البلد. إنما ألطف ما فيه مهرجانيته التي يتولى إعدادها، وإخراجها، وتنفيذ القسم الرئيس منها صاحبُ المطعم نفسُه، وبهيئةٍ لا يمكن لأحدٍ أن يتوقعها للمرة الأولى، حين يراه. مثل ميشيل الرباطي، وقد انتصف تناولُ الزبائن لوجبتهم، وهو يعرف متى؛ لأنه مَن يعد الطلبات، صَعد إلى المنصة عازفان، وثالث وسطهم طفق يؤدي أغاني عاطفيةً، بدليل ورود كلمة «الكوراسون» فيها بإلحاح. وبعده مباشرةً، من حيث لا يتوقع زبائنه، يدخل إلى القاعة شخص كان قبل هنيهةٍ يُشرف على حُسن الخدمة ووصول الطلبات، ربُّ المطعم وقد عاد هذه المرة يرتدي لباسًا تقليديًّا شبيهًا باللباس التقليدي المكسيكي، وعلى رأسه الصنبريرو. رجال المنصة في مكانهم، وهو تحتها يتوسط القاعة، ووجهه إلينا … وها هو يفتتح الجلسة ليُعرِّفنا بنفسه، بطريقةٍ مختلفة، سأختصر فأقول: إنه كان مُعلِّمًا مُتنقلًا في الجبال المحيطة، هناك، وهو ينظر إلى أعلى حيث تنزل ثلوجٌ تقطع الطرق واللحم، يتنقل فيها على دابته، من قرية إلى قرية؛ ليعلم أطفالها، وهناك، دائمًا، في تلك المناطق التي يعيش بها السكان الأصليون، ويتكلمون لغتهم، لا القشتالية السائدة اليوم، بها يتحاكون ويغنون، ومنهم استمِع إلى حكاياتٍ لا حدَّ لها، ومعهم تعلَّم لغة الطبيعة والأنواء والغيب والغرابة، عاش في العهود القديمة، متنقلًا في كل الحكايات المَروية والأخيلة، إلى أن تقاعَد من مهنة التعليم، واهتدى إلى مشروع المطعم الذي غدا كما ترون، يؤمه السياح من العالم أجمع؛ ليستمعوا إلي غنائه هو، وقبل ذلك إلى شِعره، فصاحبنا شاعرٌ أولًا، ينظِم باللغة الأصلية، ومقاطع من شِعره موزَّعة علينا مترجَمة إلى القشتالية، وأما غناؤه وعزفه فسيبدآن: يَسحب من ركنٍ آلةً نحاسية بطول مِترين، كالمنقار، تنتهي بفوهةٍ دائريةٍ مجوفة، ويُصدر منها نفخًا يُرسِل نفيرًا حادًّا، على إيقاعٍ محسوب، سيُعلمنا أنه نفير يتبادله سكان الجبال لغةً للتخاطب حين تنقطع الطرق في فصل الشتاء ويتطابق الثلج مع الغيم. وفيما هو ينفخ، ويغنِّي، ثم يترك آلتَه مُنتقلًا إلى الرواية، نكون، نحن الجالسين إلى مائدة الطعام، قد مسحنا صحوننا، وتحلَّب ريقنا وخيالنا لمزيدٍ، طعامًا وحكاية، وحين وصلْنا إلى المَخرَج صاحَبَنا العازفون، هو يتقدمهم، وحسبتُ أنه سيستدعي عربةً من ريحٍ بخيْلٍ هو سائسُها، وإلى جباله نصعد، ولن نعود إلى مدينة سالسا، ولا إلى أي مكان ستنظر فيه إلى الساعة لتضبط الوقت، وتتناول وجباتٍ محددة، وتمشي بحذر على الأرصفة، وأنت تفكر بقلق وشكٍّ في المستقبل، بينما الحياة، وهي هنا على كفِّ الفراغ والغرابة، متاحة وجميلة كحُلم، ولا تهرب من اليد.

مارادونا، أولًا، أخيرًا!

لنَعد إلى السهل، ولْنمرح فيما تتيحه لك العاصمة الأرجنتينية من انشراح، في بهجة أحيائها، ومرافقها، بعضها موصوف للسياح، وبعضها الآخر مخصوص بأهلها، يقودك إليه الفضول، الأول: حي لابوكا La Boca يُعطيك رأسًا مهرجانًا من الألوان، بيوته الخشبية القديمة، التي قطنها مهاجرو القرن التاسع عشر، وطبعًا باتَت متروكةً اليوم، تحوَّلَت إلى مطاعم ومحلات بيع للصناعة التقليدية، وبعض خزعبلات تروق للأجانب. لا بُدَّ ستبهرك بتنافر ألوانها حدًّا بعيدًا؛ لذا أصبحَت مصدر إلهام للرسامين، أشهرهم الرسام الأرجنتيني الشهير بنيتو كنكيلا مارتان. ألوان مبهِجة، ومتنافرة، تكسر عادةً الانسجام المعهود في التركيب اللوني، كما تَربَّى عليه البصر، تناغُمه يأتي بالذات من فطرته، هي صباغة ناسٍ غير محترفين، لا يحفلون بالمدارس البلاستيكية، ولم يسمعوا بها. تستطيع أن تُشبِّهه برسوم الأطفال؛ إذ تضع أمامهم أقلامًا ملونة وأوراقًا، وحين تعود إليهم يفاجئونك بكل عجيبٍ غريبٍ مصوَّر. تستطيع أن تُشبِّهه بالحقول التي تشتعل فيها الزهور، مجنونة ذات فصل ربيعٍ خصب في حقولٍ مديدة، لم يتعهدها أحد إلا المطر والشمس وتُربتها، وهي ما أُبصره كل مرةٍ في لوحات كلود مونيه، بزيادة دقةٍ وصفاء كبيرَين، فهذا الفنان الفرنسي سيفتح باب الانطباعية على مصراعيه.
في لابوكا، ستجد الفنانين والمهرجين والنصَّابين أيضًا، وفي الليل يُحذرونك ألا تطرقها؛ لمخاطرها. لكنك، وقبل الْتزام الحذر ستكون قد رفعتَ بصرك تخطفك الشرفات الناتئة، هي ما يُطل على الخارج متداخلة الأشكال، وما هي إلا إيحاء شرفات، مرسومة على الجدران صُورًا معلَّقة. حتى إذا جئتَ إلى منعطفٍ أوسع، زقاق في حارة الصعاليك هذه، تكون قد وقفتَ عند أهم ما في الأرجنتين طُرًّا. أجل، ومَن أشهر وأقوى فيها مِن مارادونا Diego Maradona حتى وقد أفلَ نجمه. ماردونا هنا شِبه مُؤلَّه، ولا يضاهيه سُمعةً وشهرةً غير إفيتا بيرون سيدة الأرجنتين الأولى، وقدِّيستها تقريبًا، رغم تاريخها المتقلِّب، إلى حد أن بعض الكنائس صارت موقوفةً على اسمه، وعُلِّق داخلها نصبٌ وصورٌ كبيرة له. واحدة من هذه الصور يمكنك مشاهدتها في نادٍ بحي لابوكا، عدا عشرات التذكارات الحاملة صورته، بين قمصان، و«تيشيرت»، وحمَّالة مفاتيح، مفكِّرات، أقلام، ولَّاعات … إلخ. إن شئتَ التقرُّب إلى أرجنتيني ازْجَل المديحَ له، أو اشتم الإنجليز الذين اغتصبوا جُزر المالوين! لا يُحصى عددُ مُتشبِّهِيه به، لا يخلو بيت من صورته، أيقونةٌ وطنية بامتياز، لم يُنقص منه ما حلَّ من آفات.

حين انتهَت إقامتي ببوينس آيرس، سألَتني دليلتي عن رأيي، وهل استمتعتُ وإن لم ينقصني شيء، وإن كانت قصَّرَت في شيء، ومن قَبِيله. بعد أن نفحْتُها ورقةً مالية، اصطنعتُ النُّفور، مُشيحًا بوجهي عكْس وجهها، مما لم يَفُتها الانتباه إليه، وقد حسبَتني السيدة الطيبة، التي لم تكن تبخل بمديح فرنسا والمغرب على السواء ابتغاء مرضاتي، ما الذي يضايقني، فزدتُ أصطنع الكآبة وأنا أقول لها، بأني كررتُ عليها مراتٍ رغبتي في مقابلة مارادونا، وهي لم تفعل شيئًا، فرفعَت عينيها إلى السماء، كأنما تطلب منها النجدة، كأنها تقول لي: السماء وحدَها يمكنها أن تسعفك، ثم فاجأَتني بأن هناك سُيَّاحًا، برازيليين خصوصًا، على استعدادٍ لدَفع أي مبلغٍ من أجل أن يحظوا بلقاءٍ عابر مع معبود الأرجنتين، ولم يفلحوا، فقلت لها: لا تستغربي، إن المغاربة باتوا اليوم بعد الله، أظن، يعبدون ميسي وفريقه برشلونة، وأن صديقي الفتى التهامي بن جلون، وهو جاري العزيز، يناكدني بنَصره المؤزَّر، نكايةً بفريق ريال مدريد الذي أُناصره؛ تضامُنًا مع صديقي ياسين التنقوبي، نجل الصديق الأكبر الناقد الأدبي الألمعي عبد الحميد عقار، وهكذا دواليك. وعُدنا نتضاحك في لحظة الوداع بمتعةٍ وبدفءٍ لا يقدِر عليه إلا الأرجنتينيون.

المهرجان الآخَر، وهو نهاري، لا ينبغي أن يفوتك تشهده قائمًا، بخاصة يوم الأحد في المدينة العتيقة، في حي San Telmo سان تلمو، من أعرق أحياء بوينس القديمة، يتفرع جنوب ساحة مايو الشهيرة، كان مرتعَ البرجوازية المحلية، قبل ظهور الحُمَّى الصفراء فيه سنة ١٨٧١م، تحوَّل بعدها إلى سوق كبيرة لباعة التُّحف، وللفنانين. إذا لم تكن من هؤلاء الهواة، فإنك واجدٌ متعتك في Plaza Dorrego. هنا في هذه الساحة يمكن أن تعثر على ما لا يخطر بالبال، خرداوات ونفائس في آن. وألطف منه جوُّ الاحتفال بالموسيقى الصادحة، منبعِثة من فونوغرافات عتيقة في المقاهي المحيطة بالساحة، يرتخي في كراسيها المُحِبُّون، والعائلات، وتتناول فيها أطايب طعام أمريكا اللاتينية مجتمعةً، وقد تتيح لك الصدفة، ربما فرصةً للغَزَل، رغم أنه من النادر أن تُصادف امرأةً منفردة، أو شابًّا أعزب، فكل واحدة شبكت ذراعها بذراع، والعكس أيضًا، وإنك لَتراهم في أعمار الفتيان، لكنهم مُشتبكون، ويتزوجون فتيانًا. الحاصل، قد تتاح لك فرصة أخرى، كأن تكون مثلي جالسًا قبالة الساحة، وأنت مُتعطِّل يوم الأحد وبدونه، تكتفي بالنظر، وهذه متعة وحدَها لا تعدلها عندي متعة، دون التفكير إلَّا في الفراغ. الفراغ الذي يدخل فيه المتسوقون، والباعة، ونادل المقهى، وضجيج السوق، وهو، هو في لحظة انقطاع النظر يدخل إلى مشهد الفراغ، يملؤه هو فجأةً، وتراه أمامك ملء الشاشة: رجل في العمر الثالث، كما يسميه الفرنسيون، تجاوَز السبعين، أنيق الهندام، متواضعُه حقًّا، يضع طربوشًا على رأسه سمةَ وقارٍ. وبيده يحمل إدبارة. وقف بين طاولتين، وكان إلى جانبي جارٌ وزوجته يشربان عصير طماطم، ويَنْقُبان من الفطيرة الشعبية أنبانيدا، والزوج سارح ببصره أبعد من زوجته التي بلا شك طلعت له في الرأس، من طول وسأم عشرة. قطع على الرجل ذي الطربوش سرحانَه، وهكذا سمعت المُهندم يتوجَّه إلينا جميعًا بالحديث، وفي كل مرةٍ يميل إلى طرف، وقد التقطتُ كلماته الإسبانية على ما فهمتُ كالتالي: قال لا فُضَّ فُوهُ، إنه ينتمي إلى جمعيةٍ للكُتَّاب والشعراء في بوينس آيرس، وهو يسعى مع زملائه لجَمع تبرعات من أجل ترميم مقر الجمعية المتداعي، الذي لم تساعد البلدية في مجهوده، ويُعَوِّلُ على متذوِّقي الشعر ومُحبِّي الأدب في عملية الإنقاذ. وفتَح إدبارته وأخرج منها أوراقًا فرَدَها أمامنا، وانتقل مباشرةً إلى القراءة. ظهَر على جاري التأفُّف، فيما اصطنعتُ الاهتمام بالقراءة، مُشفقًا على الشاعر المسكين، الذي لم أكن أفهم إلا كُلَيمات من قريضه، وأهتم أكثر بالعَرق المتصبِّب على جبينه ووجهه، مُتقطِّرًا إلى ياقة قميصه المتآكل، والإدبارة ترتجف في يده، أمْ يدُه هي التي كانت ترتجف طول الوقت! وصوته يخفت أخيرًا بتراجُع، بعد أن ترنَّح جسده أكثر من مرةٍ بين عبور النادل يُلبي الطلبات، وهو يكاد يتهاوى، ينظر إلينا صامتًا ومُكديًا في صمته، يمدُّ لنا أخيرًا ورقةً لكل واحد، عبارة عن قصيدة، يهمس معها ادفعوا أي شيء مقابل هذا الذي بلا ثمن، أو بلا شيء، إنه الشعر، وفيما كنت سأنفحُه قطعةً نقدية شعرتُ بالحرج، كم سأعطيه، وهل للشعر ثمن، وهل لهذا الوضع الذي فيه هذا الكائن ما يمكن أن يعوضه أصلًا؟ وبينما أشاح عنه جاري بتأفُّفٍ بادٍ، وزوجته البطَّة تَلعق بقايا عصير طماطمها، وفي اللحظة التي كنت سأضع في يده ورقةً سمعتُه كمَن يناشدنا، أن … كأس جعةٍ … لإطفاء عطشه … قد يكفي … مقابل قصيدة!

«بلاد الكلاب»!

حتى إذا غُلِّقَت الأبواب، ولم يبقَ حانٌ مفتوحٌ، ولا شارعٌ مأهولٌ، وكل كائنٍ آوى إلى بيته، وطائرٍ لوَكْنه، وتسربلتَ بفائض حنينك لِما يظل يتهيج من أشواق، ولا أحضان ترتمي إليها ولا عناق، ولمَّا لم يبقَ لك صاحبٌ ولا رفيق إلا ثُمالة ليل، خرجَت إليك من ظلام الليل ظلالٌ، تناسَل منها رفاق. أوَللظلمة ظلٌّ، تسأل؟ بلى لها أيضًا غرباء. هم من غير نَسلِك، لكنهم أحياء، بل إنْ آنَستَهم، وآلَفتَهم صيَّرتَهم أصدقاء، وسترى عندئذ، وهي تجربتي، لا أخلصَ منهم في المحبة والوفاء. وهنا، في الأرجنتين، هم سادة كل الأوقات، من الصباح إلى المساء. هم سادة المدن، حيثما تذهب تلتقي بهم. ولن تجد حيًّا واحدًا خلوًا منهم، مستثنًى من حضورهم. يتنقلون كما يشاءون. يعيشون كيف يستطيعون. يُقيمون ويسكنون كما يَقدرون. أنت تحتاج إلى الحَيطة والحذر لتعبر، إلى توافُق معيَّن لكي تتعامل، تخضع لقانونٍ أو منطقٍ معيَّن ولا شك؛ لتدبير شئونك، وقضاء حاجاتك، في المدينة. أنت، لا شك، تحسب لأقل شأنٍ حسابًا، لا أظن أنهم هم يحسبون، أو ربما أكثر مني ومنك؛ لأنهم أشد مسئوليةً عن أنفسهم، وبالتالي فهم الأقوى، ولِمَ لا الأجدر بالاحترام.

لا تحسبوني أُبالغ في هذه الأقوال. لا تظنوا أن قلمي يجرُّني، كما يفعل بالواهمين والمتساهلين مع الكلمات، إلى الشطط. أعرف أني عاجز في هذا الموضوع، لو سمَّيناه موضوعًا، عن تجنُّب طغيان الشعور. فقد عشت زمنًا وهذا الحيوان/الكائن الذي اسمه الكلب، مثلما أن اسمي ووضعي أنا إنسان، عشيري وصديقي أليفي، لم يبقَ شيء ممكن ومعقول وعاطفي لم يجمعني به، عاش معي كلبي تانغو خمسة عشر عامًا، وأزيَد منها أخته الكلبة فاني، لم تُطق الحياة طويلًا بعده، وزوجتي وأنا لم نبق على ما يرام نفسيًّا وعاطفيًّا منذ رحيلهما، واليوم أعتبر كلبي الجديد غاتسبي من خير أُلَّافي وأصدقائي، يحمل اسم بطل رواية سكوت فيتسجيرالد الشهيرة، إن غِبتُ حَزِن وانسدَّت شهيَّته، وحين أعود فيا لسعادته. كما أنني أعيش في باريس منذ عقود، تُعتبَر الكلاب شريكًا يوميًّا في حياتنا نحن الباريسيين، بل كل الفرنسيين حيثما حلُّوا وارتحلوا، حتى إن الكلب فَردٌ عضوٌ في العائلة، ولا تستغربوا إن سمعتُم أن ميزانيته قد تفُوق ما يُصرَف على آدميٍّ منها، طعامًا، وعنايةً، وتطبيبًا. وليس مثل الكلب دلالًا، ولا لسطوته في البيت نظير، لكن محبته وإخلاصه جارفان … علاقتي ومعرفتي بالكلاب، إذن، قوية، لا طارئة، بل أصبحَت بعد موت كلبي للنفس جارحةً؛ ولذا، وحين وصلتُ إلى الأرجنتين راعني، أقول أدهشني، ما رأيتُ من وضع هذا الحيوان، مما لم أعرفه ولا شاهدتُه في أي مكان، حتى في فرنسا التي قلت إن عَيشَه فيها يتعدَّى الكريم. وإن أي زائر لن يكون قد عرف هذا البلد حق المعرفة، ولا شاهده على ما ينبغي، من زاوية الاكتمال إلا إذا وقف على هذه الصورة ولو مجرد الوقوف، فهي لَعمري إذ تبدو هناك من باب المألوف، لَتعد حقًّا فوق المألوف. واسمحوا لي، بعد توطئةٍ طالَت، إسناد البيان بالمثال:
  • يتوفر الأرجنتينيون الميسورون جميعًا على كلب أو أكثر، لكل بيت. ويحرصون على أن تكون في مِلكيتهم أجودَ الأصول، وهي باهظة الثمن، تفُوق قيمة إنسان، أحيانًا، لو كان يُباع! لهذه السلالات الجيدة مَن يرعاها، داخل البيوت وخارجها. ومما هو معروف في هذه الأرض، معلوم عليها بخاصة، وجودُ أشخاصٍ مهمتهم، أي: عملُهم يُرزقون به، تَعهُّدُهم القيام بتجوالها في الحدائق العامة، والإشراف عليها وهي تقضي حاجتها (يُطلَق عليهم اسم Paseadores) يَجمع الواحد منهم قرابة ٢٥ كلبًا، يطوف بهم أربع ساعات، يمسك بحزامٍ يحيط برقبة كل كلب على حدة، فهو مَنظر فريد تصادفه في الحياة الراقية غالبًا، قرب المنتزَّهات والمساحات الخضراء، عابرًا بهم شوارع ومساراتٍ محدَّدة، عائدًا بهم يوزعهم تباعًا على بيوتهم لدى انتهاء الجولة؛ ليرتموا فرِحين في أحضان مُلَّاكهم، وسيداتهم خصوصًا.
  • في بوينس آيرس، يمشي الكلب مُفردًا. يمشيان مَثنى، ثُلاث، رُباع، جماعةً. يسيرون مهلًا على الرصيف، وهم من المشاة، وفيهم، ويمرون أمامهم، وبينهم، كأنهم قاصدون عنوانًا، ماضون لموعدٍ. كلابٌ تعرف طريقها جيدًا، أي لا تمشي على غير هدًى، كبعض البشر. عند نواصي الشوارع، وحيث علامات المرور تراها تتوقف مثل سائر المارَّة تنتظر إنارة العلامة الخضراء للعبور، مثل البشر وأفضل.

    أين يعيشون؟ كيف؟ مَصدر رزقهم؟ وغيره من الأسئلة، لا يطرحها إلا السياح مثلي. فيما لا تخطر على أهل البلد. إنهم يعيشون في كل مكان. حيث يشاءون. ستجد مَن يقول لك، بلا مبالاة: «لا تكترث، إنهم يتدبرون أمرهم.» كيف؟ «لا تهتم، هم أدرى بأمرهم.» وبالفعل، فالشوارع في الليل تخلو منهم، مثل الأناسيِّ تمامًا يبحث المتشردون منهم عن رُكنٍ للمبيت، أو الاضطجاع في انتظار صباحٍ آخر. وأكلهم؟ يأتيك الجواب: «لا تهتم، إنهم يعرفون كيف يعثرون على زادهم.» ستنظر حولك، وتراهم ينبشون في صفائح قمامة وأكياس عن بقايا، ينافسهم في ذلك آدميُّون منافَسةً شديدة. فثمة مشهدٌ مثير حقًّا تراه في المدن الكبرى، هنا، في بوينس آيرس بخاصة؛ ما إن يبدأ المساء، وتخفُّ الحركة في الشوارع والأزقَّة الخلفية، حيث مقارُّ الشركات والمكاتب، وتتجمَّع أكوام من صناديق وعلبٍ وأكياس متعددة المحتويات، مباشرةً يتصدَّى لها أفراد شِبه عُراةٍ، بأيديهم مكانس وعِصيٌّ كالحِراب، يغرسونها داخلها، ويَشرعون في استخراج محتوياتها كما لو أنها أحشاء، ثم يفرزون كل مادةٍ على حدة، وإذا هي أكوامٌ صغيرة، فمتوسِّطة، فأكبر … بجوارهم منافسون، هم أصدقاؤنا الكلاب يبحثون بدَورهم عن ضالَّتهم من بقايا طعام، في أكياس وعلب محفوظات، يبحثون في بقايا البقايا، متنقِّلين واحدًا، أو مَثنى، أو ثُلاث، وأحيانًا هي فِرقة تتنقَّل من حيٍّ لحي، مُنقادةً بفطرتها، بجوعها، تتبع حاستها، وتعرف، فعلًا، كيف تجد ضالتها، وأنت لن تتبعها؛ لأنها ستواصل … في كل اتجاه.

  • ولقد تأتَّى لك أن تراقبها عن كثب في مدينة قرطبة (الأرجنتينية، لا الإسبانية) بالذات، وفي سالتا أيضًا، حيث الكلاب سيدة الشوارع والساحات، لا يؤذيها أو يتحرش بها أحد، بل يفسح لها الطريق لدى عبورها، تظن لها مكانة البقر المقدَّس لدى الهندوس، وهي لها أصدقاء؛ لأني رأيت بينها مَن يقصد ناسًا بعَينهم للتحية والمداعَبة، ويتلقَّى غالبًا أُعطيةً ما وينصرف. في قرطبة، طرحتُ سؤالي السياحي عن مصدر رزقها حين رأيتُ منها أعدادًا بلا حصرٍ، من سُلالاتٍ مختلفة، وأشفقتُ عليها من جوع وعطش وهي تتعثر في يوم كان قائظًا، فوجدتُ مَن يتطوَّع، وبلا مبالاةٍ دائمًا، ألَّا تقلق، فالسكان يُطعِمون الكلاب. مساءَ يومي هذا جلستُ في باحة مقهًى بساحةٍ مركزية، هي مُلتقَى شوارع، ذات حركة شديدةٍ بشرًا وسيارات. قبالتي عَبَر رجالٌ، نساءٌ، وعَبَر كلبٌ أيضًا. في الباحة عدَّة طاولات حولها زبائن، شربوا وأكلوا، اقترب منهم صاحبُنا، وتوقَّف قليلًا أمامهم وهو ينظر إليهم، ولما رأى أنهم أهملوه، انتقل إلى الطاولة المجاورة، تتناول فيها سيدتان فطيرة بيتزا، فأشفقَتا عليه وذوَّقَتاه، وكذلك فَعَل جليس طاولةٍ أخرى. جاء صاحبٌ آخر، وطاف بالباحة ولم يكن محظوظًا، ثم عاد وانصرف إلى الجهة الأخرى من الساحة؛ لعلَّه يُصيب فيها طعامًا. لم أر من ينهر كلبًا، ولا يصدُّه، رغم أن جماعة كلابٍ تتصدى بالنباح للسيارات، والحافلات بخاصة، تعتبر الساحة مِلكًا لها. ورغم هذا التعايُش الواضح، والتسامح مع هذه المخلوقات، كنتُ أتألَّم لرؤيتهم تائهين، بلا مأوى، ولا زادٍ، وأظن أن هذا أخفى عني رؤية وجوهٍ من البؤس البشري، وهي كثيرة من غير شك، لكني لا أفرِّق في البؤس بين أصناف المخلوقات، بخاصة العاجزة منها، البكماء والأليفة.

Evita Duarte – Eva

إذا جئتَ الأرجنتين، فأنت في بلادٍ تتمجَّد فيها المرأة، وهي كما أسلفتُ، سيدةٌ في كل موقع، ذات قرارٍ نافذ. لم يتوفر لي الوقت، ولا الاستعداد للبحث عن أسباب هذا النفوذ، شأنٌ عام في أمريكا اللاتينية، رغم السطوة الذكورية المعروفة، القريبة من الفحولة العربية المزعومة. إنما يكفي فيه التعرف على امرأةٍ واحدة، وحيدة، لا بُدَّ أن تقع في رأس قائمة نساء العالم لو عُددنَ. تمجيدُها هنا يبلغ حدًّا أسطوريًّا، وحضورها الروحي تلْقاه حيثما حللتَ، تسكن أرواح الأرجنتينيين، بمن فيهم خصوم زمانها السياسي، ورغم تبدُّل الأحوال. تنطق اسم إيفيتا، ومصغَّرًا إفيتا، فيحدث ارتباك بين المتكلم والسامع، حالةٌ بين صعقة كهرباء ورعشة حب، ورجفة برد، وإشارة حذر وانتباه. حتى إن اسمها، بعد أن غطَّى تقريبًا على اسم زوجها صانعها الأول، وبدونه ما بلغَت ذُرى شُهرتها، غدا يُختصَر تاريخ البلد بأكمله، في الماضي القريب، والحاضر الممتد أيضًا. لستُ هنا لسرد التاريخ، فالطريق إلى معرفته ممهَّد، وإنما لالتقاط الإشارات الدالة على قوة شخصيةٍ ونفوذٍ طاغيَين حدًّا مذهِلًا. ولا بأس من التنويه في عجالة بأنها وُلدَت سنة ١٩١٩م، من عائلةٍ متواضعة جدًّا، والْتحقَت بالعاصمة لتصبح ممثلةً. واقترنَت برئيس الجمهورية خوان دومينغو بيرون. تولَّت إلى جانبه الدفاعَ عن المحرومين، ووجَّهَته لمساندة الفئات الدنيا من الشعب. من هنا أنشأَت مؤسساتٍ لتوزيع المساعدات المالية على المحتاجين، واستثمرَت سياسيًّا في بناء المدارس والمستشفيات، بما جعل منها محورًا ورمزًا وطنيًّا فخمًا، فمثَّل موتُها تحت وطأة المرض سنة ١٩٥٢م فاجعةً وطنية ودولية كبرى. لهذه السيدة التي يعتبرونها أسطورة الأرجنتين، متاحفُ ومعالم باسمها، وتماثيلُ ونُصُب، وصورُها وحدَها تُجاور أو تُنافِس صورة مارادونا، أسطورة كرة القدم عندهم ودينهم الآخر.

إن جئتَ الأرجنتين، ورأيت الناس غادين، رائحين، على الأغلب مبتهجين ورصينين، فلا تحسبن أنهم بالضرورة سعداء، خلوٌ من أي هَمٍّ، منصرفون إلى حاضرهم وكسْبهم فقط. أنت مع شعب شحَذه الزمن على مُدية الموت، وتقلَّب في مواجع القتل والعسف والاضطهاد والاختطاف، وباختصارٍ شديد عانى ويلات إحدى أشنع الدكتاتوريات العسكرية في تاريخه الخاص، وفي العصر الحديث. من سنة ١٩٧٦ إلى ١٩٨٣م. ستتجول وتستمتع بإقامتك حيث تشاء، ولا بُدَّ يقودك خطوك إلى ساحة ٩ مايو، فأنت كزائر لن تفوتك رؤية «الدار الوردية» (La casa Rosada) مقر القصر الرئاسي. من شُرفتها أطلَّت إيفا دوارتي ليلةَ رحيلها على آلاف جاءوا يودِّعونها ودموعهم بغزارة مطر تلك الليلة وتدفق «ريو بلاتا» الهائل. أمضَوا ليلتهم قبالة القصر إلى حين إعلان النعي، وبكَوها مدرارًا، ولم تجفَّ الدموع إلا حينًا لتستأنف. عاشوا تقلبات مرحلة الحكم البيرونية، الوطنية، تبادلوا معها الإخلاص، إلى أن انقض الجيش على السلطة، فانتقلَت الأرجنتين لِتعيش زمنًا حالكًا، أُلغيَت فيه جميع الحريات، وصُفِّيَت الزعامات، ولم تَكْفِ السجون والمعتقَلات، فاستُخدمَت الملاعب للحشر، أخطرها مدرسة الميكانيكا للبحرية، في بوينس آيرس قرب ملعب كرة القدم الضخم River Plate، ولا تسَل عن المختطَفات والمختطَفين بالآلاف (أزيَد من ثلاثين ألفًا). هؤلاء هم من يتجمع أهلُوهم، الأمهات بخاصة، في ساحة التاسع من مايو الكبرى قبالة (الكاسا روسادا) كل يوم خميس، حتى تَسمَّينَ وبهن الساحة Madres de la plaza de Mayo يواصِلن احتجاجَهن ومُطالَبتهن بالكشف عن مصير الأبناء. وإنك لترى هذه المُطالَبة وشعاراتها، وأشعارها، وأعلامها، مرسومةً، ومخطَّطة، ومُعلَّاة في جنبات الساحة كل يوم، حتى إذا حلَّ يوم الخميس فاض الخاطر، وتكاثفَت الجموع، وأصبَحنا في مهرجانٍ سياسي ضخم، تختلط فيه المطالَبة بالدموع، والأمل بالصبر، لأمهاتٍ رأيتهن قد وَهَنَ منهن العظم، لكنهن لم ييأسن من غدٍ آخر.

في قرطبة الأرجنتينية، يأخذ الاختطاف شكلَ حضورٍ مُثير يواجهك في مبنًى كامل، تذكاري، كان سجنًا للنساء، وجرى تحويله إلى نادٍ ومنتجَع للشباب، نُصبت حوله أعمدةٌ عالية غُطيت كلها بصور النساء اللواتي اختُطفن في العهد الدكتاتوري، شابات ونساء وأمهات وحوامل وطالبات وتلميذات، مجهولات المصير، وجوههن مشرقة، سُرقن من الحياة في أزهى مراحل أعمارهن. هنا، شعب يتغذى بذاكرته، ويحفظها من المحْو، وكل مَن ينظر إلى الصور عليه أن يعلم أن حريته جاءت بثمنٍ باهظ، منه هذه الوجوه التي سَرق ضياءها عسكرٌ مستبد؛ لذا فأنت حيثما تنقلتَ تجذبك صورٌ تُحيل إلى الماضي القريب. في سالتا الشمالية، وفي قلب مبنى المحافظة، يقودك الدليل ليدخل بك مبنًى خلفيًّا كان مخصَّصًا لتعذيب السياسيين، والتنكيل بالمختطَفين. آلات التعذيب ما زالت شاهدةً، هي والأقبية السفلية في المبنى، مغارات رُبطَت فيها قيودٌ وسلاسل تنتمي إلى عهدٍ سحيقٍ غامض. وإذ تحس بالاختناق وأنت تحاول التسلل بين قضبانها، تحني رأسك، وتضم جسمك كي تنفذ وتصعد بين الدرجات، بل يضيق نفَسُك، وتنقبض روحُك لمجرد النظر، فتسأل متعجِّبًا كيف بمَن قضوا هنا شهورًا في ظلمةٍ حالكة، بلا زاد تقريبًا، ونادرًا، كما روَت شهادات، ما خرج من هنا حي، فترى الزوار المتتابعين، مواطنين كُثرًا يخشعون مصلين، مترحِّمين وهم يمرُّون مطرقين أمام أجداث وفظاعة الماضي، التي فتحت لهم طريق الحرية. هنا لا بُدَّ أن تتعلم، وتتيقَّن بأن للحرية، وللديمقراطية، ثمنًا دفعَته الشعوب، وكل مَن يمشي، جادًّا أو مختالًا على قدميه، يعيش، أو ينعم في هذه الأرض، هو مَدِينٌ لمن دفعوا حياتهم ليحيا الوطن، وتكون هذه الأرجنتين التي، وهي على علَّاتها، بين ماضٍ وحاضر، تسعى لتنهض من وهدةٍ اقتصادية ومالية اجتاحتها في مطلع القرن الواحد والعشرين، أفقرَت وأفلسَت طبقاتٍ وأقوامًا، وإذ تراها حاليًا تحسُّ بها تتعافى، تتلاحق فيها الأجيال، وهي تُعطي لبلدها، ومن خلاله لأمريكا اللاتينية صورةً خصوصية، مزيجًا من غربٍ أوروبي (ألا يقال عن الأرجنتينين بأنهم، بعبارة مفارِقة، نزلوا من الباخرة، أي أنهم مهاجرون وافدون؟!) ومن سكانٍ أصليين، باتوا قليلين، لكن موجودون، وبين هؤلاء وأولئك صار الكل، البيض والهنود، خلاسيًّا ومهجَّنًا، ضِمن ثقافةٍ متعددة الروافد، لكن بأمةٍ واحدة. وهذه الأمة تعشق نفسها، وتفتتن بكل ما ينتسب إليها، وتبقى وفيَّةً له، حتى غيفارا، ابنها الأصلي لا تنساه، رغم أنه خاض حلمه الثوري بعيدًا عنها، يواصل الأرجنتينيون زيارة مرابع طفولته، وحيث عاش وتنقَّل، وهم لن يفهموا حتمًا شيئًا لو قلت لهم: إن هناك شبابًا حملوا في مظاهرات «الربيع العربي» صورًا لغيفارا في مسيراتهم الاحتجاجية بين شوارع الرباط، وتونس، وميدان التحرير في القاهرة، وحتى صنعاء وتعز باليمن، لبُهتوا، متعجِّبين كيف أنَّ ما بات عندهم فلكلورًا وطنيًّا أضحى عند غيرهم قدوةً ثورية، عِلمًا بأنهم يحملون كما يحضنون في جُنوبهم دائمًا وأبدًا صورةَ فتاهم الثوري تشي، وأمهم الوطنية الأولى: إيفا بيرون!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤