العبور إلى تشيلي

توأمَة الماء بين بلدين

بعد أسبوعين من التنقُّل بين الشمال والوسط، قررتُ النزول إلى الجنوب، أو مدخله، أسفل «ريو نيغرو» (Rio negro)، قاصدًا باريلوتشي، المدينة الجميلة، في موقعها المتفرد بين الجبال والبحيرات، والشلالات الهادرة، وهي إحدى أبهى المنتجعات السياحية جنوبًا، يُعزِّزها وجود عدد من المحميَّات الطبيعية بآلاف الهكتارات، وهي ظاهرة مُلفِتة في القارة الأمريكية اللاتينية برمَّتها، حيث يتم الحفاظ على الأشجار والنباتات، وفصائل من الطيور، وزيارة هذه المحميات مُنظَّم، وبمقابل. وتَعُدُّ مدينة «سان كارلوس دي باريلوتشي» باريلوتشي اختصارًا، بالإضافة لما سبق، بوابة لمنطقةٍ في الجنوب الشرقي تمتد في أعاليها وتنكفئ قرًى جبلية بشاليهات فخمة، هي بمثابة معازل تقريبًا لعائلاتٍ ألمانية نزحَت إليها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وقبل، عقب بداية اندحار النازية، حيث وجدتُ في الأرجنتين، التي كانت محكومةً بقيادةٍ فاشستية، ملجأً، وقد علمتُ أن بينها نازيين كبارًا فرُّوا بثرواتٍ باهظة. وأنت إذ تزور هذه المنتجعات تحسبك في الطبيعة السويسرية، بُسُطًا ومرتفعات وخُضرة ومعمارًا أيضًا، وكذلك تبهرك المائدة هنا طعامًا وشرابًا، وخدمة، وأسلوب عيش، محصَّنًا بالأمن والنظام، وكلها خدمة فائقة للسياحة ومغرية لمن يبحث عن السكينة، ويريد الإفلات من ضجيج المدن وتلوثها، ولم أكن من هؤلاء حقًّا، ولكني تركت نفسي تستسلم بعض الوقت لجمالٍ خلَّاب، قبل أن أشد الرحيل لما تروم أكثر.

الحق أني قصدت باريلوتشي، رغبةً في مزيد تعرُّف على ثقافة وعيش إقليم باتاغونيا، ولكي تقودني إلى جمهورية تشيلي، من مدخلها الجنوبي البحري. وهو مدخل منصوحٌ به، إن كنت تريد اكتشاف الأرجنتين في وجهٍ من الطبيعة مثير وباذخ، ولكي ترى كيف يتَّصل بلَدان وينفصلان في آن. ولهذا الغرض تركب سفينةً تعبُر بحيرات، ثم تنزل لتركب حافلات صغيرةً تتجه غربًا، وهي تعبُر غابات ومسالك وعرةً في قلب المحمية «ناهويل هوابي»، إلى أن تصِل مع مجموعة العابرين، سُياحًا ومواطنين من البلدين، إلى الحدود على الجانبين، في قلب مساحةٍ غابوية كثيفة، ذات أشجار عريقة، مساحات مُقفرة حينًا، ومأهولة حينًا آخر، وتنتهي بك الرحلة بالوصول إلى مرفأ مدينة «بويرتو فاراس» التشيلية.

تكون الرحلة قد استغرقَت يومًا كاملًا، حافلًا حقًّا بالمشاهدات، والإثارات، بين الماء والغاب، والمرتفعات الشاهقة والوهاد والأدغال، يُبهرك منظرها، خاصة حين تنظر من داخلها، فترى أمامك شاهق الجبال تمتد في توازٍ مع خط الرحلة البحرية، أو اختراق الحافلات ولهاثها في أعلى القمم ذات الالتواءات الثعبانية، قبالتها تنهمر سيلًا عَرِمًا شلالاتٌ صاخبة مُزبِدة، وهو ما يتصل في كيلومترات تحسبها لا نهائية، يجمد خلالها الزمن، وتثبت عليها العيون وعدسات التصوير تلتقط جمالًا أخَّاذًا. أغلب الحدود الجغرافية لبُلدان أمريكا الجنوبية تتميز بوجود حدودٍ صنعَتها الطبيعة نفسُها، قبل أن يتبلور مفهوم السيادة الذي بموجبه ترسم الدول بدقةٍ متناهيةٍ خطوطَ اتصالها وانفصالها عن جيرانها.

هنا في النهر الهادر كالبحر خطٌّ فاصل بين الأرجنتين وتشيلي، تمامًا مثلما بين الأرجنتين في الشمال الشرقي منها حدٌّ طبيعيٌّ فاتن، هو شلالات إغواسو التي تقتسمها مع جنوب البرازيل. هنا وهناك، في مُدهش هذه الطبيعة يغرق المصورون، كأنهم وقعوا في غيبوبة. في جميع الرحلات السياحية، وحيثما تذهب إلى المآثر، ترى الزُّوار يلتهمون ويتهافتون بتشغيل عدساتهم وآلات الفيديو يصورون كل شيء، وأنفسَهم وزوجاتهم وأبناءهم ضمن الأماكن والأشياء، لا أعرف كيف يفعلون، ولا ماذا يرون، وأي شيءٍ يختزنون، لأي يومٍ سيعودون؛ لأنهم يصورون بوَهمِ تأبيد هذه اللحظة، وللعودة إليها؛ ليرَوا فيها أبديتهم، ومعهم آخرون، أمامهم يتباهون، لكنهم إما ينسون أو يغفلون، أنهم في العمق لا ينظرون إلى ما هم فيه، وتضيع منهم لحظة الرؤية الحقيقية في الإبَّان، ولن يمكنهم أن يستعيدوا مما فات شيئًا؛ لأن التمتُّع واستذكار ما فات هو شيء آخر غدًا، ولا حاجة لمجاراة الفيلسوف اليوناني في قوله: «إنك لا تسبح في النهر مرتَين؛ لأن مياهًا أخرى مرت به.»

رفاق رحلتي هم من هذا الصنف أيضًا. واحدٌ منهم بعد أن انتهى من حصْد الصور، وأظن تعِب، الْتفتَ إليَّ، كما لو أنه يبرر تفانيه في الالتقاط، وقال كالمعتذِر والمبرِّر: «والله لو أمكنني لبقيتُ هنا، أنظر، وأكرر، إلى ما لا نهاية.» ثم زاد مُنشدًا طربًا: «يا للجمال! يا ﻟﻠ… يا …» لم أُعلِّق، فزاد يستفزني: «يا ﻟﻠ…» وعندها قلت باستسلام: «أوافقك … هذه طبيعة خلَّابة.» لأستدرك: «إنما، ألا ترى أن هذا كله سيصبح مضجِرًا، ثم هذه أوضاعٌ ثابتة، واعذرني فأنا أحب الحركة، ولن أطيق البقاء هنا.» وبدا كمَن تلقَّى صدمة، أو هو أمام كائن غير طبيعي، فحرص على الابتعاد عني ما أمكنه، وحرصتُ من جانبي على الابتعاد ما أمكن من مسافرين لم يتوقفوا عن بلع السندوتشات، وشُرب الغازيات، كأننا نعبر الصحراء، بينما نداوة البحر، والهواء الطري يبلِّلنا ويُنعشنا، وظلَّ إلى أن وصلْنا إلى مرفأ بويرتو فاراس، في الأرض التشيلية؛ لتبدأ عندي رحلة أخرى، هي امتدادٌ لسابقتها، وتختلف حتمًا، وبيانه سيَلي.

جنوب البداية

لم أندَم بتاتًا على هذا الاختيار: أني بدأتُ دخولي إلى تشيلي من جنوبه، بالأحرى من شمال جنوبه، حيث تنتصف البلاد إلا قليلًا، ودونها باتغونيا الدنيا، وصقيع منطقة ماجلان للجبال الثلجية انتهاءً ببونتا أريناس. أيُّ جنوب هو جَذْر البلاد ومِهادُها، حيث تجِد دائمًا سُكانًا أصليين، وتقاليد ثابتة، ومعيشًا بسيطًا ووقُورًا، وأناسُها لا يبضِّعونك، ولم تُفسدهم المدنيةُ وأخلاقُها التجارية، أو لم تتمكن منهم حدَّ التلَف. بويرتو فاراس بلدةٌ صغيرة، سياحية بامتياز: بالمارينا، والفنادق والكازينو، والعمارات المبنية فوق التلال المُطلة على الساحل، ذات الشُّرفات المُشرَئبَّة إلى الشاطئ وأضواء الفوانيس المُنيرة على طُوله، بينما تتلألأ خلفها الباحات المعلَّقة للمطاعم والمشارب، حيث تتغذَّى ويُقدَّم أطيب النبيذ، الذي تشتهر به تشيلي، وتنافس به الجارة الأرجنتين، زيادةً على نبيذ كاليفورنيا وجنوب إفريقيا، وما بالك بالفرنسي! وإذا شبَّهْنا تشيلي بثعبان، وهو تشبيهٌ مقبولٌ جدًّا، فسنكون هنا في ذنَبه، وفي الخاصرة السُّفلى من القارة، نشرف مباشرةً على جنوب المحيط الهادئ، هذا المحيط هو العالَم الشاسع الذي تنفتح عليه الأرض هنا غربًا، وتبدو كأنها تدير ظهرها إلى شرقها وجيرانها الذين تتاخمهم: البيرو شمالًا، وبوليفيا، في الشمال الشرقي، والأرجنتين على طول الحدود الشرقية، ولا يمضي الجوار الأخير بسلامٍ دائمًا؛ إذ تكاد المودَّة تنعدم فيه، ويَطغى فيه الصراع العرقي، والتنافُس الاقتصادي بحدَّة، فضلًا عن تصعيد النعرة الشوفينية، هنا وهناك، وهي عمومًا من الخصائص البارزة والفادحة لهذه القارة، حدَّ أن الأرجنتينيين يتهمون جيرانهم بأنهم يقضمون من ترابهم، الفسيح جدًّا مقابل ضيق مساحة أرضهم، وهو ادِّعاء يزيدهم فخرًا واعتدادًا!

ليس بوسع أي سائح، مُتنقِّل، أن يضع حِسه دفعةً واحدة على مكانٍ وصَل إليه، فيسمع نبضه، أو يتذوق طعمه بما يناسب، ولا يشط في الفهم والتقدير، وأسوأ ما يمكن أن يحصل له، وهو ما يحدث غالبًا، وقوعُه بسهولةٍ فريسةً للمقارنة، بين بلد الزيارة ووطنه، أو بلدٍ آخر، مما يَحرمه من النظر إلى الكائنات والأشياء على حقيقتها، خصوصًا من الْتماس الجديد والمختلِف فيما هو متاحٌ نظرًا وحسًّا وذوقًا، وإن تحلَّى بالصبر والهدوء وقدرة التأمل فله نصيبٌ كبير. والحق أني وجدتُني مرتبكًا من هذه الناحية، بخاصة أن جَمالًا يُسلمني إلى مثله، بل أقوى منه، وفي كل مرةٍ أنا مغمور بما شاهدتُ، أبقى مشدودًا إلى إعجابٍ لا يبرحني، مُنتقلًا إلى فتنةٍ غالبة، وهكذا، كيف لي مع هذا الحال، بالإحساس المتقلِّب معه، النجاةُ بنفسي من زلة المقارَنة، أو أن أمسك لساني عن التعبير عمَّا يجول في الخاطر؛ كي أكون مهذَّبًا ولا أجرح خاطرًا. إذا كنتَ عابرًا للقارات فخُذ ما تُعطى، وما تظنن أنك تراه وتحس به وتَعِيه، من غير شططٍ، وبلا ابتهاج أو تقويمٍ مسرفَين، أو ستُضيع سفرك وتشقى برحلتك، وتندم بعد فوات أوانٍ، ولات ساعة مَندَم! وحتى لا أندم، حضنتُ الهدوء الفائض المتاح أمامي في بويرتو فاراس، متصالحًا مع سَكينةٍ أفتقدها غالبًا في المدن الكبرى، حيث يحلو لي العيش والتنقُّل، أعود أتعلم كيف الحياة تتوالى في ساعات وأيام، إن شئت، بطيئة، تظنها رتيبة، ولِمَ لا، فيما هي رائقة، وتتقبَّلها، تتكيف معها باعتبارها حياتك أنت، مع من تساكنهم، ولغيرك الحياة التي يقدر عليها، أو يهوى، وربما لا تشغل نفسك إلا قليلًا بالجانب المالي رغم ضرورته؛ لأنك ترى بأم عينك بشرًا يحيا ببساطة مذهِلة، زادُه كله في البحر، وفي قرارة النفس والخيال، زادُه الأحلام.

تُولَد هذه المشاعر بداخلي وأنا أركب الباخرة من ميناء بويرتو مونت قاصدًا جزيرة Chiloé، تشقُّ عباب المحيط الهادئ، الهادئ حقًّا، والأسماك والدلافين ترقص وتتلاعب عن بُعد، والماء والسماء طبقةٌ واحدة من الأزرق المفضَّض، والفضة المُزرَورقة. تُواصِل الباخرة الناقلة، هي بالأحرى عبَّارة كبيرة بداخلها حافلات وسيارات، يستخدمها السياح وكثيرٌ من العُمال والسكان بين يابسةٍ القارة والجزيرة. كنت قد استأجرتُ سيارةً واتخذتُ مُرافقًا، وذاك ما سأفعله في محطاتٍ أخرى من الرحلة؛ اختصارًا للوقت، وكسبًا لمزيد تعرُّفٍ من «أهل مكة» فانطلقْنا من الساحل مقتحمين أعماق الجزيرة في أرضٍ تمتد إلى كل الجهات، كل ساكنٍ يملك ما يشاء، وحوله مزرعته وقطِيعُه، يعيش مكتفيًا في ضربٍ من الحياة القروية الرعوية، والعصرية المدينية، بحدود، كلما دعَت الحاجة، وحاجتُه الأساس هي وجودُه فوق هذه الأرض بالذات، وحُلم مَن لا يُقيم فيها دائمًا، شأن دليلي ابن المَنطقة، العودة للاستقرار نهائيًّا، هو وزوجته، حين يحلُّ عمر التقاعد. في الانتظار يواصل الذهاب والإياب بأفواج السياح ليزوروا جزيرة أجداده، وهو يريد أن يصبح بدَوره جدًّا هنا مثل أهله وأصدقائه فيها، حيثما مررْنا تُوجَّه التحية لبيدرو وهو يحيي الجميع، فهم أهله، بأُلفةٍ وحرارة.

كم كان محِقًّا حين قادَني بعد انتهاء زيارة السطح إلى سوق البلدة، مركز الجزيرة، والتجول في الأزقَّة الفرعية المحيطة بالسوق. فماذا هنا؟ رِزقٌ قليل وكثير في آن. قد لا تصدِّق في البداية وأنت تنظر إلى دكاكين السوق ورفوف البضاعة، نشَرها رجالٌ ونساء قرويُّو الأصول، ظاهرو القناعة والتواضع، وغير جشعين أو متهافتين على الزبون المحتمَل. وصلْنا عندهم في وقت الغداء، فوجدْنا أغلبهم منصرِفًا إلى صحنٍ ينال منه أو يغمس خبزًا، ما أظن طعامًا ذا بال، وإنما لسدِّ الرمق. المعروض سلع المنطقة، بين خضر وسلطات وثمار يابسة، وقديد، وأسماكٍ جافة، وهناك أيضًا مصنوع يَدَوي تقليدي، وثيابٌ مستعملة، وبعض متلاشيات، وهذا كله في فضاءٍ نظيف لا رائحة إلا للمواد المعروضة، ومع الظهيرة خمولٌ يُخيم، ونظرات ناعسة أو خفيفة الرجاء تحوم غير مركزة على شخص أو شيء محدَّد. تحس بالخجَل وأنت تنظر إليهم، ولا تملك إلا أن تتساءل خِفية كيف يعيشون، أعني هل يكسبون حقًّا ما به يقدرون على العيش، ولا يُخفف عليك من مضاضة السؤال إلا شرْح الدليل بأن أغلب هؤلاء يبيعون ما يفيض عن حاجتهم من إنتاج الأرض، وأن سكان الجزيرة أنفسهم تُجارها، يحملون بضاعتهم إلى السوق ويبادلونها في شِبه مقايَضة بما يحتاجون إليه مما لا ينتجون هم مباشرةً. ويمتد طابع البساطة والفقر المحتشم وراء السوق في أزقَّة البلدة القديمة، عبْر دكاكين ومحلات أطعمةٍ شعبية، بها أفواهٌ منهمكة وعيونٌ غير فضولية، اللهم إلا تحيات متقطعة توجَّه لبيدرو، الذي يُعرَف ويحيِّي ويتلقَّى التحية بحفاوةٍ ومرَح.

على أن ألطَف وأجمَل المرح ما تمنحه لك بيوت البلدة، بالطابع السائد في جزيرة كيلوا، وسَتراه بعد ذلك في بلدات ومدنٍ أخرى أعرق، طَريفٌ وتختص به بلاد تشيلي عن غيرها طُرًّا، يتمثل في شكل المعمار، والبناء، وألوان الصباغة بخاصة. هنا في الجزيرة بيوتٌ بُنيت بالصفيح والخشب، بيوتٌ فردية، متجاورة، ومتقاربة، بنوافذ وشُرفات، متشابهة المعمار، ولكي تَشُقَّ تشابهها، وكأنما لتلفت النظر إليها، كل واحدةٍ على حدَة، يحرص مالِكُوها على طِلائها بألوانٍ فاقعة، متميزة عن بعضها، تصدم تلقِّيك الذوقي الأول، ما أنت معتادٌ عليه من تناسُقٍ تقليدي بين الألوان، وإذا بك أمام تناغمٍ مستجَدٍّ فِطري: أزرق مع الأصفر، وبرتقالي إلى جوار الأسود، وأخضر يخترقه الوردي، وتنسيقات سواها غير متوقَّعة، تستوقف النظر بحدَّة، وكلُّها بلا استثناءٍ توحي بأن هذه الدارات هي هنا ديكورات، إقاماتٌ للرقص والغناء. حقًّا هي مبهجة وتبعث في النفس الانشراح، وهذا هو السكن الإنساني، لا العلب الضخمة التي ينحشر فيها البشر في المدن الكبرى، ويفتقدون فيها إلى العلاقة والأُلفة الاجتماعية. ذكَر لي بيدرو أنه يملك قطعة الأرض، ويحتاج فقط إلى الوقت ليُقيم عليها بيته، الذي يقول إنه لن يشبه أي بيتٍ هنا، وسينسجم في آنٍ مع كل البيوت؛ لأن لهذه الجزيرة ثقافتَها وإيقاعها، وهو حريصٌ مع مُواطنيه على دَيمومته، ديمومة الجمال والبساطة والمرَح المنفتح على البحر.

تَقوَّى عندي الإحساس بإيمان هؤلاء الناس ببلادهم، وامتلاكهم لطابعٍ خصوصيٍّ أصيل، عندما عُدنا إلى يابسة القارة، وقصدنا في اليوم التالي مدينة بويرتو مونت Puerto Montte وهي الميناء الأكبر والموقع التجاري المركزي في المنطقة، ومنها تَعبُر الطريق القارية التي تخترق أمريكا اللاتينية كلها صعودًا نحو أمريكا الشمالية La Panaméricaine. هذا الموقع الاستراتيجي، البرِّي والبحري، يُخفف من المظهر الصناعي الفظِّ أحيانًا، كما يخفف منه انتقالك إلى أسواق المنتوجات التقليدية، خصوصًا إلى سوق السمك غيرَ بعيدٍ عن الميناء، فترى عجبًا. الحقيقة أنك، وبعد أن تدلف من بابه، وتتجاوز محلات العرض الأولى لأصناف ما يعرضه الصيادون من كل بحرياتٍ طريَّة، ستُفضي بك إلى جناحٍ تجاورَت فيه وتزاحمَت دكاكين هي مُطَيعماتٌ غاصَّة بالآكلين، في الداخل والخارج، ولا موقف لقدمٍ تقريبًا، والروائح المُشهِّية الفاغمة تملأ الجو. كنت قد أفطرتُ متأخرًا، ونحن في الحادية عشرة والنصف، وهذا المَحار الفوَّار أمامي، والغضارف والقراديس، وأنواعٌ من فواكه البحر، فغلبَتني شهيَّتي رغم تمسُّكي بنظامٍ وتوقيتٍ دقيقَين في التغذية. اندفعتُ ورفيقي، وهنا افتقدتُ صديقي الناقد الألمعي عبد الحميد عقار، الذي يتلذَّذ بأكل القريدسات أيَّما تلذُّذ، ويتفنَّن في تَخيُّرِها طازجة، جزءًا من صبيحة كل سبتٍ بالسوق المركزي للرباط، يقصده مَزهوًّا بقفيفةٍ مخصَّصة لهذا الغرض، فطوبى له، وجلسْنا إلى جانب راهبةٍ غاطسة في صحنها تتمتع بشهوة الدنيا، وطفقْنا نطلب الصحن تلو الصحن، ولم نقُم إلا وقد أُتخِمْنا، وغيرُنا ينتظر بالباب، بأبواب دكاكين أخرى، نوبتَه، وغير الجنسيات على ما لاحظتُ، مُنبهرين بالمشهد والمأكل، فقلت: هذا بلد عنده ما يمنحه للسائح، وهذا الموقع، مثل هذه التغذية لن تجدها في مكانٍ آخر، كما لن تجد غير مكسيكو لتعطيك صحونها اللذيذة الحادَّة في أسواقها الشعبية، رخيصة الثمن، شأن حساء العامة والخاصة في الهواء الطلق بين بوغوتا، وبانكوك، ومانيلا. أنت لا تتغذى وحسب، بل تستمع إلى الأصوات غناءً بلا صخَب، وثمة إيقاعٌ يسري في المعروض والمسموع والمرئي، مُتخِذًا تارةً لونًا، تارةً صوتًا، وحين تغادر المكان يتملكك الإحساس بأنك عشتَ لحظةً خاصة في حياتك، وازددتَ غنًى كإنسان.

الصعود إلى سانتياغو

تقول في نفْسك، وقد أمضيتَ يومين في بويرتو فاراس، عقِب ختام زيارة الجزيرة تلك، تقول إن السياحة ممتعة جدًّا، والاستمتاع بها شيء مبهِج، إنما لذتُها في قِصَرها، معرفة الاكتفاء منها، أو كما يقول المثل المغربي: «حد الحلاوة زبيبة»، أو تصبح مضجِرة، ألذ منها مزيدُ الاكتشاف، والإقدام، ووتيرة الحركة المتصاعدة. لم أقصد هذه الأصقاع البعيدة لأخلُد للنوم، ولا كي أستسلم للراحة، ثم إن بي ما يُحرِّضني دومًا على التنقُّل، كأني أريد أن أثبت لنفسي حيوية شبابٍ دائم، رغم أن زمامه أفلت مني، وصار في حُكم الغيب، أمس.

كنت قد رسمتُ سلفًا خريطة رحلتي، تاركًا التغيير للمزاج وغير المتوقع، وهو من حلاوة السفر، وعليَّ إذن الصعود نحو الشمال، انطلاقًا من الساحل الجنوبي لتشيلي. لم يكن بوسعي ولا في حسابي أن أذرع هذا البلد طولًا وعرضًا، ولا أنا مسَّاح أراضٍ؛ ذلك أن ٤٣٠٠ كيلومتر طولًا، وشريطًا ساحليًّا، تحتاج، وبخُطَى المتسابق، إلى شهرٍ على الأقل، لا أملك منه سوى عشرة أيام، وعيني بالدرجة الأولى على العاصمة، أريد الوصول إلى سانتياغو في أقرب وقت، لذا الأسرع هو الطائرة، ففي هذه القارة المتباعدة، شاسعة الأطراف، يلعب الطيران الداخلي في كل بلدٍ على حدَةٍ دَورًا أساسًا في التنقُّل بين المدن، لا فرق بين المُوسرين ومحدودِي الدخل. كانت لهفتي على أشُدِّها قبل، قُبَيل بلوغ العاصمة التاريخية التي شدَّت أنظار العالم إليها طيلة عقد السبعينيات الماضية، بسبب الانقلاب العسكري الرهيب الذي قاده الجنرال بينوشي، وأطاح بالحكم الوطني الديمقراطي المنتخَب للرئيس سالفادور أليندي (١١ سبتمبر ١٩٧٣م). رأسي يغلي بالأحداث، بصُورٍ سبق أن شاهدتُها موثَّقة في زمنٍ آخر، أي عاشها جيلي الموتور بالخبر والصورة، وانفعل معها، كأنها جزءٌ من خسارته، نظيرَ وعلى امتداد التحامه بالنضال الثوري الذي عرفَته أمريكا اللاتينية، وارتبط محوريًّا بتشي غيفارا، الذي كان زعيمًا لنا نحن جميعًا أبناء العالم الثالث، والبلدان الرازحة تحت أنظمة الاستبداد. اصطفَّت وتراصَّت، إذن، في ذاكرتي ووجداني أحداثٌ جِسام، واشتعلَت من جديدٍ صورٌ ملتهِبة، حتى وقد غطَّاها رماد زمنٍ جديد. لقد كنت متوجِّهًا، بمعنًى ما، إلى تاريخي، الذي اعتبرتُ أني خسرتُ فيه روحًا وجسدًا رهان ثورةٍ اغتصبَتها العسكرية الفاشستية، أيَّما اغتصاب.

من وجهٍ آخر، مزيجٍ من وجدانيٍّ وموضوعي، يتصل بشخصٍ محدَّد، مُقيم اليوم في سانتياغو، وكنت أخبرتُه بقدومي، فهلَّل ورحَّب، ومنذ وطئت قدماي الأراضي التشيلية وهو ينتظر وصولي بشوقٍ متبادَل. أعني الصديق الكاتب والروائي عبد القادر الشاوي، وأضيفُ سعادة السفير، بما أنه يُمثل المملكة المغربية هنا، وأحسن تمثيل. نحن أصدقاؤه لا نُسمِّيه باسم الحالة المدنية، بل نُطلق عليه عدة ألقاب، تبنيْنا أخيرًا أشهرَها، وأقربَها وصْلًا بنفوسنا وقلوبنا أيضًا، لقَب «القطب»، لا غرو نعتٌ روحي، لكنه ذو دلالةٍ أبعَد؛ لأن الرجُل، إنسانًا ومناضلًا، سلخ قُرابة عقدَين من عمره في الزنازن، وخرج منها قويًّا، عاد إلينا رقيقًا، عذْبًا، كما عهدْناه منذ معرفتنا به خلال نهاية الستينيات الغابرة في «ظهر المهراز» (حيث كانت كلية الآداب والحي الجامعي لمدينة فاس) تلك، لم يُعجم لها عود. وقد تعددَت مساراتنا، لتختلف وتتشعب، دون أن تتضارب أبدًا حول حُب المغرب، وإصلاح فاسده، من أجل مستقبلٍ مشرق، وفي الجوهر ثمَّة محبةٌ هي ذوْب احتراق الرفاق والإخوان في كل زمان ومكان، وهذه لا تُشرَح ولا تُفرَك، هي جمرة جهادٍ ومكابَدة.

وصلتُ إلى سانتياغو ظهيرة يوم ٢٣ يناير (كانون الثاني)، والفصل هنا صيف، إنما الطقس غير حار، طقسٌ معتدل، هكذا إحساسي. كان المطار غاصًّا بالوافدين على العاصمة، أو المغادرين منها نحو المنتجعات، وهم أكثرية؛ إذ هو زمن العطلة: المدارس والجامعات، وأغلب الإدارات المركزية، والمؤسَّسات السياسية والتشريعية، لكن الحياة قائمة على أشُدِّها، كما سأعيش وأعاين، فلم أندم، وزيارة هذا البلد، عندي، في هذا الموسم خير من القدوم إليها في صيفنا الاعتيادي، بالمغرب، مثلًا، حيث تكون هي في شتائها، يَخُزُّ العظام، وعظامي ما تزال موخوزةً بصقيع باريس. من ساعتي الأولى وقد انتقلتُ إلى فندقي بوسط المدينة شعرتُ أن الحر محتمل، الأبهاء والغرفة مكيَّفة جدًّا، الصيف هنا أخفُّ من حر بوينس آيرس، أو قرطبة الأرجنتينية، وأول ليلة موهوبة على مائدة القطب الكريمة، أولًا، وسخاء سماءٍ تمطر بالأنوار مطرَّزة بنجومٍ كالعقيق.

رغم اشتياقي للتعرُّف على سانتياغو، كما هي، لا المتجمِّعة من ذاكرتي وبقايا خسران وحسرة، فإني لم أسابق الصباح في نهوضه، صنيعَ السياح الذين يستيقظون مع الضوء، وينطلقون كالجنود للوقوف باكرًا على الآثار والمَعالم التاريخية، يعبدونها كطوطم، ولا يعودون إلا نهاية النهار كالمحكومين بالأشغال الشاقَّة. من الطابق العاشر في غرفتي بفندق ريتز كارلتون (الواقع ﺑ ١١ El Alcalde) رأيت السيدات والموظفين غادين إلى عملهم، حركة السيارات بطيئة أولًا، ومتسارعة تاليًا، تمرُق في الشارع الفسيح تحتي، وهم يمشون بخطًى متزنة، وفي مسارٍ منظَّم. عندي دائمًا أن طريقة مشْي الناس، والشعوب، خاصية من سلوكهم وتربيتهم، وإحدى مظاهر حياتهم، تعرف فيها الخفَّة من الرصانة، والحيوية من الكسل. حين تركتُ الفندق، والسياح الأمريكيون والبرازيليون، ما زالوا بعدُ متمهِّلين في فطورٍ شهي من طازج الفواكه ومعسَّل الفطائر بأنواع، وانخرطتُ في الشارع العام، بدوتُ مختلفًا رغم حرصي ألَّا أشذ عن البشر في بلدانهم.

سرتُ في البداية على مهل، بخطوة المتسكِّع، فقد جئتُ للمشاهَدة لا للسباق، كما هي خطوتي في باريس حيث لا يعرف زواري من المغاربة أن يلتحقوا بي، ولا هم يفهمون أن حياتنا في المتروبول تقتضي ذلك، ولا تستوي بدونه، بينما هم يريدون أن يكونوا هنا هو هناك، دائمًا؛ ولذلك لا ينفكُّون يقارنون مستهولين ثمَن فنجان القهوة، مثلًا، بين الأورو والدرهم، بل والريال أحيانًا، وطورًا بتلك الفرنكات القديمة. ثم ما لبثتُ أن استأنفتُ طبيعتي، في رأسي الخريطة مرسومة جيدًا، وها أنا ذا أخوض في الشوارع، وأخترق الميادين، أبتهج، أولًا، بكل ما هو فسيح، وهي ما أفسحها، تُقنعك بتخطيطها الحسَن من أول نظرة، في امتداداتها، وتقاطعاتها، والفروع تصب فيها جداول، ونظام سيرٍ محكوم بعلاماتٍ ومواقف ومنعطفات، تُذكرك في كل مرةٍ أنك في حاضرةٍ عريقة، ومدينةٍ أصيلة، لا طارئة، وأن هؤلاء السكان وأنت تحتكُّ، ستحتكُّ بهم تدريجيًّا، تمشي معهم حذوَك النعل بالنعل، وتُجاورهم، تتعامل معهم في متاجرهم وبعض محافلهم، مما يَسَّر لك وقتك واهتمامك وُلوجه، هم من صُلْب ترابهم، بِيضًا وهنودًا، وإن لم يخْل مكانٌ من حثالة ومشرَّدين وهائمين على وجوههم، لكنهم ليسوا شحاذين، أو محترفيها. فلا شيء يُتلِف المدن ويُذلها مثل الطارئ الدخيل، مما ليس من نسيجها، ويعجز عن استلهام نظامها ومسلكها، وإذا كنا نقول إن ظاهرتَي «التبتلر والترييف» تُفسدان، في وجهٍ معَين، المدينة الحديثة، فما لنا لا نقول، من وجهٍ آخر، بأن المُشكِل الحقيقي كامِن في هشاشة وضحالة تركيب وروح المدنية في هذه الحواضر.

في زمن «لَمونيدا»

تركتُ خطوي يقودني أرى بعينَي وشمِّي، من الشوارع إلى المنتزهات والمساحات الخضراء، وهي تُفضي لبعضها، والعمارات بناؤها قائم في الوسط أو بينها كأصص أزهارٍ في مشتَل. فإذا ضاقت المساحة، أو الْتصق البناء، وجدتَه يأخذ شكل اتساقٍ يصنع نسقه في حدِّ ذاته، أي خاضعًا لهندسةٍ معمارية تنسحب على شارع أو زقاقٍ كامل، مما يُعَدُّ مظهر نظامٍ عام ينسحب على الحياة بأكملها في وجوهها الأخرى، معجبًا، منبهرًا بحسن تنسيق وهندسة العمارات، متوسطة هي أو شاهقة، تعلو منتصبةً بأنَفةٍ كالمنحوتات، وتتخللها فعلًا تماثيل ومنحوتات، وبينها ممرات فسيحة؛ إذ الأصل في الأشياء أن الإنسان حيوانٌ مشَّاء، ويحتاج أن يجد مساحاتٍ يمشي فيها، مثل الأطفال حاجتهم إلى جنائن بمراجيح ليلعبوا وينقزوا فيها.

في هذه المدينة تحتاج إلى أيامٍ وأنت تمشي، لا عن غير هدى، ولكن وأنت تتنزه، متنقِّلًا بين محطات مترو هي أثرٌ بذاتها، فمحطة قطارٍ حُوِّلت إلى مركزٍ ثقافي Estacion Mapocho، أو تصل إلى «ساحة السلاح» تحيط بها الكاتدرائية متروبوليتانا، من وجه، والبريد المركزي، من وجهٍ ثان. ثم تَعبُر جهة مبنى الكونغرس القديم ذي الأسلوب النيو كلاسيكي، قبالته البناية العتيدة لمحكمة سانتياغو بلوْنها الرمادي. فإن أضفتَ إلى الصورة انضباطَ هؤلاء المُشاة، وحرصَهم على نظافة مدينتهم، كأنها بيت كل واحدٍ منهم، وأكثر، فما رأيتُ أحدًا رمى نفايةً ولا بصَق في عرض الطريق، كما لم أتبيَّن مَن ليس في غير موقعه، موظَّفًا، أو مستخدِمًا، عاملًا؛ ولذا تحسب النُّدُل والنادلات في المطاعم والمقاهي مضيفات طائرات، جودةَ خدمة، ولُطفَ معاملة، وأناقةَ أداء، فضلًا عن حُسن سمْتٍ، ورشاقة قوام. وما هو إلا غيض من فيض وإلا سأسترسل في هذا النهج، سبيله طويل، ومساره محمودٌ جليل. لكني أكتفي، فلا يتهمني أحد بإفراطٍ ساذج، وانبهارٍ متعجَّل، أو يعترض عليَّ بأني، وقد نبهتُ سابقًا إلى آفة المقارنة لدى المسافر، أقع بدَوري في محظورها، وما أنا استثناء لهذا المسافر، ولا قادر لحظةً أن أتجرد من أرومةٍ ثابتة، مع هويةٍ متحركة، يُشقيني حِلِّي، وأغتَني بترحالي، بينهما العالم حولي ينمو ويزدهي، والشعوب تتقدَّم وتتحرَّر، متخلِّصةً من أغلال الاستعباد، منعتقةً من ربقة التخلف، وكذلك هذا البلد الذي وطئتُ، وأحاول وصْفه.
وصلتُ قُبَيل حلول الظهيرة، وحرارةُ الشمس بدأَت تحتَد، واقيًا رأسي بقبعة، إلى العنوان المرغوب. تلكَّأتُ قبل بلوغه عَمدًا، بينما كنت شديد الشغف لأحل به بدءًا. كنت قد تصورتُ له عشرات الصور، وبعض من عرفتُ من تشيليين في منفاهم الباريسي زمنًا رسموا لي المكان، وحكَوا لي عما جرى فيه ببعض التفصيل، بين من عاشه منهم. يتلهَّف قاصد الحج أول شيء إلى دخول الحرم ورؤية الكعبة، والطواف بها، والقادم مثلي، من جيلي، بأشواقه وأوزاره، يحِن هنا، أولًا وأخيرًا، بدءًا ومنتهًى، فيا لشقائه؛ ليصل إلى ساحة الدستور «Plaza de la Constitucion»، فتكون على خطوات من قصر «المونيدا» (Palacio de la Moneda)، وهنا «طاح الريال» (أي يقع الرهان)، وهنا لعِب عليه عسكر بينوشي في تلك الملحمة الانقلابية الدموية، التي اندلع أوارها من صبيحة يوم حادي عشر يناير من سنة ١٩٧٣م، وانتهت بتدمير واجهة قصر الرئاسة حيث ظل الرئيس الشرعي للبلاد سالفادور أليندي صامدًا هو ومَن والاه، إلى أن حصدهم الرصاص، أو انتحر هو، في رواياتٍ لا تزال متضاربة، وفُتح أخيرًا تحقيقٌ جديد بناءً على روايةٍ مختلفة، مفادها أن طُغْمة بينوشي زعيم الانقلاب، ربما هو من قتل أليندي، وليس الرئيس الاشتراكي الذي رفض أن يستسلم، متمترسًا في مكتبه، تحت قصف الطائرات، تدكُّ أركان المونيدا دكًّا؛ لتُجهض حُلم أعظم ثورةٍ في أمريكا الجنوبية!
كان صباحًا عاديًّا في حساب أليندي وحكومته، التي لا تغفل أن الأخطار تحيق بها، بعد إقدام جبهة قوى اليسار، المنتصرة في انتخابات ١٩٧٠م على تأميم الأراضي الزراعية الإقطاعية، ومناجم النحاس، العائدة فوائدها إلى فئةٍ محدودة من الأثرياء ووسطاء الشركات الأمريكية، وتحرش هذه القوى ببرنامج الإصلاحات الشامل والحكومة الاشتراكية القائدة له، تعلم أن مشروعها بدَّل موازين القوى تمامًا، وقلَب حساباتٍ داخلية وخارجية كبرى، وأغضب واشنطن التي لم تنظر بعين الرضا للتحول السياسي في سانتياغو، بل فاجأها، مما أشعل غضب نيكسون ضد المخابرات المركزية، وجعل هذه الأخيرة تتجند في الخفاء متحرِّشة بالنظام الجديد. لكنه لم يكن صباحًا عاديًّا البتة يوم الثلاثاء (١١ / ٩ / ١٩٧٣م) لدى قيادات الجيش الثلاث، بزعامة رئيس الأركان أوغوستو بينوشي، قاد في هذا اليوم الانقلاب الثاني (حصل الانقلاب الأول في يونيو (حزيران) ١٩٧٣م) ونجح، بعد يومٍ كامل من حصار المونيدا، تلاه مباشرةً مسلسلٌ رهيب من القمع يمثل مرحلةً سوداء في تاريخ تشيلي الحديث، يمكن اختزاله ابتسارًا في فرض حالة الطوارئ، وأُوقِف العمل بالدستور، وحَلِّ الأحزاب والنقابات، وحصْد عشرات الآلاف في المعتقَلات (قرابة ١٥٠ ألفًا رُموا وعُذِّبوا في الملاعب والغياهب)، وآلاف المختطَفين والمغيَّبين إلى الآن، وعشرات الآلاف ممن تبعثروا وتشرَّدوا في المنافي. في هذا المناخ القَمعي فرَض بينوشي حكمَ الطُّغمة العسكرية Junta Militar de Gobierno استمر إلى سنة ١٩٩٠م أُطيح فيها بالدكتاتورية، وبعودةٍ تدريجية للديمقراطية.

لا تتوقَّف حركة الوافدين على الساحة، ومنها لِوُلوج أماكن محدَّدةٍ من القصر الرئاسي، وفي المَدخل ضابطان شابَّان في منتهى القيافة العسكرية والثبات، تقديرًا لمُهمتهما ووقوفهما في موقعٍ يدركان جيدًا مكانته في ذاكرة الشعب التشيلي، ترى أبناءه، من كل الأجيال، يتعاقبون على الزيارة، بأيديهم دفاتر، أو يقودهم مُعلِّم أو مُرشد يشرَح لهم ويُبين ما حدث في هذه الغرَف والقاعات التي أَعبُر، وأشمُّ فيها، كما يقول العرب «عبَق التاريخ» نصرًا وهوْلًا، مجدًا ورُعبًا، لعل أفزعَه نزولك إلى مخافر كانت مخصَّصةً للتعذيب والحشر، ثم الوجود في المكتب ذاته الذي فاضَت فيه روح أليندي، وأن تُطلَّ من نافذته، فترى بعين خيالك مستحضِرًا أمس كيف طوَّق عساكر بينوشي المونيدا منذ التاسعة صباحًا، وبدأ إطلاق النار، وحُوصرَت كل المداخل المؤدِّية، ثم ارتفع الدخان من الجنبات، وحُوصرَت المداخل المؤدِّية إليه، إلى أن حسَم الطيران المعركة لصالح انقلاب الطُّغمة. تنظُر إلى التشيليين اليوم، أمرُّ بهم في الشارع، والأسواق، وهم في الحركة الدائبة، بِيضًا من الأصل المهاجر، أو السكان الأصليين، فلا تكاد تميز عندهم تأثُّرًا ظاهرًا، أو انفعالًا فائضًا على الأقل، فالرصانة طبيعتهم، وهم قومٌ هادئون، ومنظَّمون، وأنيقون قبل كل شيء، وطبعًا مهذَّبون. وقد تجد من يُعْلِمك، من باب المفارَقة، أن لسنوات حكم دكتاتورية بينوشي دورًا فيما ترى من انضباط الشعب والتزامه القانون في كل ميدان، يقولون عنها إنها ضبطَت دواليب الدولة والاقتصاد، وأقرَّت مشاريع لقيَت أيَّما استحسان، لكن من غير حنينٍ إلى عهدٍ مُظلِم ولَّى إلى غير رجعة، وإن لم تتحقق فيه العدالة الاجتماعية المنشودة كلها، والفوارق الطبقية متسعة، والتعليم والتطبيب مُكلفان، والحركة الثقافية والفنية تتقلص موارد عمَلِها ودعمها، وثقافةٌ هجينة هي ما يسود؛ انسجامًا مع هيمنةٍ رأسمالية استعادَت سيطرتها على مناجم النحاس، وتُرسي اليوم مفهومها وتدبيرها الخصوصيَّين للديمقراطية، باسم ليبراليةٍ متجددة.

خريطة الحُلو والمُر

لكن لليبرالية طعمَها الأنكَهَ في الحياة اليومية، في صخب العمل والنشاط التجاري الدءوب، وحركة العاملين، النساء أوْفر عددًا وأجمل دائمًا، مثل الأرجنتين وأكثر، فهي قارة المرأة، إذن، وقارة الكلاب الأليفة قليلًا أيضًا، هي لجميع الطبقات. مبهجةٌ حقًّا ساحات سانتياغو، الحدائق والميادين هي بمثابة إقاماتٍ ثانية للسكان، في أوقات الغداء، والعصر، للعُشاق، والمتقاعدين، والعاطلين، وللعابرين مثلي، يتفحَّصون الوجوه ويقرءون فيها تاريخها وحظَّها، وبمَ تختلف عنَّا، والحزن الصامت فيها لا يبوح بكَرب، ولا سعادة مفرطة تتبرج، والتبرج ذاته فنٌّ يليق بأصحابه، أي ليس ثمة من سلوك مفتعَل، هذا شعبٌ موضوع في قالبه الذي يواتيه، وكل لحظةٍ يعطيها ما تستحقه من العناية. خذ مثلًا، العمل بجد، والعبادة بتقوى وعَجَلٍ في الكنيسة، وتناوُل غذاءٍ سريع وقهوة لاستئناف العمل، وأُنسٌ لطيف لتذوُّق الحياة مساءً في ممرات وأزقَّة حي بلافيستا بخاصة، يعجُّ بمقاهٍ تؤمُّها المِلَاح والحسناوات، ومقاهٍ ومطاعم نظيفة، حسنة الإضاءة، بعبارة همنغواي الأثيرة دائمًا، ومنتزَهات يرتادها الباحثون عن الظل، ومحِبون يتبادلون المشاعر في الهواء الطلق، وها هي الحافلات والسيارات يوم العطلة تصعد إلى المرتفعات وسلسلة الجبال الحاضنة للعاصمة كأمٍّ رءوم، تُنزل أبناءها لكي ينظروا إلى مدينتهم من عِلٍ، ونهر مابوتشو يشقُّها من الغرب إلى مُنتصَفها في شبه قلادة تُحيط بنحرٍ أعلاه شارع الكاردينال خوسي ماريا كارو، ووسطه شارع سانتا ماريا المديد، كما يليق بكل بلدٍ إسبانوفوني كاثوليكي، يجعلك ترتمي في المساحات الخضراء اليانعة والشاسعة للبارك متروبوليتانو، تُضاهي بوينس آيرس. وإذا كان لهذه بحرها، فلسانتياغو نهرها، وعندي ألَّا مدينة بلا بحر أو نهر، وإلا فهي قفر أو واحة في أفضل حال.

وإن أردتَ معرفة كيف يفتتن الشعب، عامته، ووسطه، بيوم عطلته، فلا يفوتنك الذهاب إلى اﻟ Mercado Central أخذتُ إليه مترو بوينتي كال إي كانتو، النظيف جدًّا والسريع، فخرجتُ في شارع ٢١ مايو تاركًا أنفي يقودني، الشم أضحى حاستي الأولى، فقد سمعتُ عن هذا السوق حدًّا استنفر شهيتي منذ الصباح، ومن حُسن حظي أن قابلتُ أحد معارفي عمل ردحًا من الزمن في منظمة اليونسكو بباريس، وهو كوستاريكي، فوجدتُ شَمَّه، وطبعًا شهيَّته أقوى مني، فقادنا إلى السوق، وكارلوس يمشي يتيه، بين ممرات البائعين عارضين أصناف السمك، مما لا رأت عيني ولا خطر عليَّ، ويزداد عجبي، وهو يشرَح لي أنواع اللحوم وأصناف الطيور، وفصائل الغضارف والقرادس والمحارات، إلى أن تحلَّب ريقُنا حدًّا لا يُطاق، وجدْنا المطاعم تتجاذبنا بنداءات الأفضل والأشهى، ونحن في زحمة الوافدين والطاعمين، أفرادًا وأسَرًا كاملة، مهرجانٌ للطعام الجيد، ولذاذات البحر معروضةٌ موزَّعة في صحونٍ صغيرة، تتصاعد منها أبخرةٌ عالية تكاد تُغطِّي مَن وما حولها، اختفَينا وقتًا تحتها، وهذا كله بعنايةٍ مفرطة، ونظافةٍ بالغة، وبأسعارٍ مقبولة، أنت واحدٌ ككل الناس، لن تُنهَب لأن لك سِيما السائح، أو لهجتك غير. إنك تفهمني يا قارئي العزيز، ووحدَك قارن.

فإن لم تكن من محِبي الالتذاذ بالبحريات والأطعمة عمومًا، فلك أن تتخيَّر ما يناسب ثقافتك وذوقك من المتاحف، ما أكثر عطاءها وتنوُّعها، لم أُفلت منها متحف الفنون الجميلة، والمتحف الاستعماري، بخاصة متحف الحضارة ما قبل الكولومبية، كنت خصَّصتُ لها يومًا، مع خيبة أملٍ بسبب أبواب المكتبة الوطنية المغلَقة في شهر العطلة. ولا أعرف كيف طاوعتُ كارلوس ذا اللحية المشعَّثة، وهو الموظف الدولي، والبوهيمي في آن، فغالبتُ نعاسي وتبعتُه في إتمام مشروع يوم الأحد، وقد انتهينا من المائدة في الثالثة والنصف بعد الزوال مُتخَمين ولم نشرب من شدة الحر إلا ماءً قراحًا، مؤجِّلين للمساء احتساء قهوة راوُوقها خَضِل.

وكارلوس، هذا، باختصار، ثَوري حتى النخاع، ومصابٌ بلوثة النحس، تتبعه ثورته حيثما حل، وما زال مُصِرًّا على تغيير العالم بالثقافة والعمل الدبلوماسي، فأصَر أن يأخذني حيث قال إنه لا ينبغي أن يُضيِّع مني رؤية المكان دون أن يخبرني، سامحه الله، باسمه وموضوعه. أخذَتنا إلى وجهتنا سيارة أجرة، لننزل في شارعٍ شِبه مقفر، تتوسطه بنايةٌ ذات طرازٍ معماريٍّ مختلف عن كل ما حولها، واجِهَتها في شكل جدارٍ مرتفع، يتحدَّد أملس منحنيًا صانعًا في تشكُّله مُثلثًا، وفي محيطه الماء يندلق من كل جهة. تبدلَت سحنة كارلوس ونحن نتقدَّم إلى المدخل، ويده تجس مقبضًا أسمنتيًّا، ونحن ننحدر نزولًا هابطين دَرَجًا ينفسح على ردهةٍ تحتيَّةٍ واسعةٍ ومعتمة، وعندئذٍ نبسَت شفتاه: «سنلِج الآن متحف الذاكرة.»

كان يعني بعد ما رأيت وسمعت في المحصِّلة ذاكرة سنوات دكتاتورية الطغمة العسكرية في تشيلي (١٩٧٣–١٩٩٩م)، إن شئتم ما نسميه نحن ﺑ «سنوات الرصاص»، مع الفارق طبعًا. اسمه: Museo de la Memoria y de los Derechos humanos، وقد دشَّنَته الرئيسة التشيلية بتاريخ ١٣ / ١ / ٢٠١٠م، مُهدًى لضحايا الفترة البينوشية الحالكة، ولا عجب أن يُنقَش في جداريةٍ ضخمة على مدخله نَص الميثاق العالمي لحقوق الإنسان. اجتزْنا مُضيفاتٍ يُرحبن بالزوَّار بامتنان، وطفقْنا نصعد دَرَجًا من بدئه يعلو جدرانه المتقابلة صور وخطوط وخربشات، وقائمات أسماء، أسماء، أسماء أخرى، وفي القاعة الأولى مديدة، مستطيلة، صورٌ لوجوهٍ هاربة، شباب، خصلات على الجبين على جباهٍ مُدماة، وأجسام نساءٍ ورجالٍ مثقوبة بالرصاص، صور دبابات تقصف المونيدا ودخان النار سحابةٌ سوداء تخنق عنقَ Plaza de la constitucion. في أقصى القاعة اقتعَد زُوَّارٌ كراسي طويلةً قبالة شاشةٍ تبُث شريطًا تسجيليًّا حيًّا ليوم انقلاب بينوشي، ونرى الرئيس أليندي من خلف نافذة مكتبه مع رفقته يقاومون حتى الموت، والجنود يطلقون الرصاص، وها هي الطائرات تأتي من قاعدةٍ عسكرية في الخلف لتقصف، ومقاومون يواجهون النيران بأجسادهم الهشة، كل هذه الصور بالأبيض والأسود، بأصوات الأزيز والطلقات المتتالية، والانفجارات المُدَوِّية كأنك فيها، وكأنك وأنت حي تموت، وأكوامٌ بالآلاف بعد ذلك صُوَرهم مرسومة، مسجَّلةٌ، في الملاعب التي اقتِيدوا إليها بعشرات الآلاف مكبَّلين، معصوبي العيون، وبقوا فيها، نُسوا، إلى أن ماتوا، لكل واحدٍ قصة حياةٍ كانت، أم، أب، أبناء، إخوة، أخوات، حبيبة، سيدة إلى جانبي عيناها المغرورقتان غارقتان في صورة شابٍّ قبالتنا يقتاده جنديان ويستعدَّان لرميه في شاحنة، بدَت كومةَ لحمٍ بشري.

اختفى رفيقي فجأةً، لعله أدرك ورطته معي، كيف قادني إلى هذه الفاجعة بعد ذلك الغذاء المثير. انتقلتُ إلى غرفةٍ أخرى فيها تجسيدٌ حقيقي لآلات التعذيب الكهربائية وغيرها، فإلى إثباتاتٍ أكثر حجةً وإشهادًا عن شراسة الدكتاتورية التي عانى منها شعب تشيلي، وصوَّرها بقوةٍ روائيوه كما عبَّر عنها شعراؤه. هذا متحف حقوق الإنسان، وينبغي أن يكون حق الذاكرة مصونًا؛ لكي تعرف الأجيال، وحتى لا تتكرر المأساة. تساءلتُ وأنا أغادر المكان مُدمى القلب، شاكرًا رغم كل شيء لكارلوس: متى سنبني بدَورنا متحفًا ﻟ «سنوات الرصاص؟» متذكِّرًا أن مشروعًا قريبًا من هذا تم تصوُّره لسجن لعلو بالرباط، ولم يُنجَز إلى الآن، وقدَّرتُ أن ثمة مصاعب في طريقه، لا شك من بينها خوف أشباح الماضي الدموي للمغرب من بقاء الذاكرة حيَّةً تُعذبهم، وتُحذر في الآن من تكرار المأساة، وهذه مناسَبةٌ لأقول جهارًا بأن المال لا يعوِّض وحدَه ما أُزهِق من أرواح وتفسَّخ من أجساد، وأُهين من كرامة الإنسان!

زلزال في الأرض، وآخَر في الرأس!

أمضيتُ مسائي حزينًا، ومعاتبًا نفسي، فما جئت إلى أقصى الأرض لأُتخَم غمًّا، ولم يكن لليلة الأحد أية بهجة كي أعوِّض عن حزني، ولا أنا راغب في ذلك. بعد ربع ساعة وجيزةٍ قضيتها في مقصف فندق الريتز كارلتون حيث عزفٌ جيِّد لموسيقى الجاز، وإنارةٌ متموجة بالألوان تتيح الحميمية وتريح الأعصاب، صعدتُ إلى غرفتي قلت سأتسلَّى بالتليفزيون، ومنه أتعرف على بعض ما يجري في الدنيا خارج هذا البلد.

عدا النشرة الورقية التي يوزعها علينا الفندق كل صباحٍ لا سبيل تقريبًا لمعرفة أخبار الخارج، فالإعلام هنا، كما هو الشأن في الأرجنتين، مكتفٍ على الأغلب بأحوال البلاد، شئونها الداخلية والخصوصية جدًّا. وإذا كان التشيليون، كشعوبٍ أخرى من المنطقة، يمتُّون بأواصر قوية إلى العالم الغربي من حيث قدوم جُلِّهم، وبه يتشبهون، وإلى نموذجه يطمحون في السياسة والاقتصاد وأسلوب العيش، فإنهم، مع ذلك، ينكفئون هنا على أنفسهم، يصوغون حياةً خاصة لهم، في قارةٍ قادرة على الاكتفاء بذاتها بزراعتها، وصناعتها، ونمُوها الاقتصادي المتسارع، وثقافة تكوَّنَت وتبلورَت فنونًا وآدابًا بأساليب مميزة مطلقًا، حتى إنها فاضت عن حدودها، لتُصبح محطَّ تأثيرٍ بدلَ التأثُّر والاتباع المشروطَين بالغرب. بل لعل تشيلي البلد الأبعد، وهو الأرقى كما لن تخطئه العين في تمدُّنه، والمدنية هاجسٌ نتتبعه في مسار هذه الرحلة، وبه ننشغل، وهو علامةٌ فارقة، زيادةً على التقليد الموروث يكون أكثرها انحيازًا إلى محيطه، وشوفينيةً قياسًا بجيرانه، وما أكثرها المناوشات اللفظية والحساسيات الثقافية بين أبناء تشيلي والأرجنتين، والبيرو، كذلك، مما هو نعرةٌ عندهم. حدَث أن تبادلتُ كلامًا مع سائق تاكسي عن السياسة والحكام، وأخبرته بأنني قادم من عالم بدأ يتخلص من حُكامه المستبدين، وعنيت له رئيس تونس، فالتفتَ إليَّ لا يفهم، وأنه ما سمع عن تونس هذه، ولا ما هو موقعها في الخريطة، دعك من رئيسها الهارب! ولا جُناح عليهم أبناء هذه القارة؛ إذ قَلَّما يولِي الإعلام الغربي اهتمامًا لشعوبٍ خارج قارته وثقافته، أو هيمنته، أو يحس بوجودها، أو هي للتسلي والعجب!

وبينما ينغلق جفناي على مشهدٍ من تحقيق تبثه قناة CNN عن تونس بالذات، شعرتُ بمثل اهتزاز، لا أذكر تحت سريري، أم في السقف، أم حولي، أم أن ما تململ في الحمام. دام ذلك ثواني، لكنها كانت كافية لأفتح باب غرفتي فألتقي برءوس تُطلُّ من أبوابها، مستفسرةً أو قلقة، ثم تلا تململٌ ثانٍ، خفيف، أطللتُ معه من النافذة الواسعة على الشارع، حيث رمقتُ سيارات راكضة، ولا أحد. فكرتُ فيما أخبرني به القطب بسرعةٍ في لقائنا الأول، وقلت: ها هو يوم لم ينقصْه إلا أن تميد الأرض من تحت الأقدام، بعد أن مادَت في رأسي للمرة الأولى عندما أصدرتُ مجموعتي القصصية الأولى «العنف في الدماغ» (١٩٧١م)، وعشية اليوم في متحف الذاكرة، وبينهما تاريخٌ من الهزَّات عِشتها ووقفتُ عليها بين العواصم والقارات، وكم في القلب من جِراحٍ نزْفُها نجيع.

كنت نسيتُ أو تناسيتُ أنني حللت بأرضٍ الزلزال بها في نشاطٍ دائب، وسكانها يتعايشون معه قدْرَ ما هم في شهيقٍ وزفير، منذ أول زلزالٍ مدمِّر عرفَته البلاد سنة ١٩٣٩م خلَّف ثلاثين ألف ضحية، تلاه زلزال فالديفيا في ٢٢ مايو (أيار) سنة ١٩٦٠م في الجنوب، بلغ درجةً قياسية (٩٫٥ على مقياس ريختر) أودى بحياة ٣٠٠٠ ساكنٍ وشرَّد مليونين، ضرَب طيلة يومين، من شمال البلاد إلى جنوبها. في المقصف حيث اجتمعْنا بعض النزلاء لنتخفف من هوْلنا، ضحك النادل من فزعِنا قائلًا، إن كل هزَّةٍ تُدغدغه، إن هو شعر بها، وإلا فهو يغطُّ في نومٍ عميق، بخاصة إذا كانت بجواره خليلته إسمرالدا تدفئ فِراشه. وأضاف بنبرة العارف، وهو يعلن أن إدارة الفندق هي مَن يتبرع بالمشروب: «يتم عندنا تسجيل ٥٥٠ هزَّة سنويًّا منها سبع هزاتٍ قوية، وزلزالٌ مدمِّرٌ كل ثلاثين سنة!» ولم يبقَ إلا أن يضيف: «فتفكَّروا يا أولي الألباب.» بينما بقي صديقنا سعادة السفير عبد القادر الشاوي لوديي متلفعًا بصَمتِه، ثاويًا في ابتسامته الهادئة، المعهودة، قبل أن ينفجر بضحكةٍ مرحة، حين سألتُه، وقد تقابلْنا في الغداة، إن كان أحَس بشيء ليلة البارحة، وهل أرِقَ مثلي مخافة أن تتزلزل الأرض ونموت في آخر الدنيا، أوَيُعقل هكذا يا قطب، أن نموت بلا شهادة ولا دعاء؟!

قصَّ عليَّ، هو المُبتلَى والمُمتحَن من الدهر، كيف في العام الماضي، اهتزَّت الأرض حقًّا، وانقلبَت عليه غرفة النوم في دارته بسانتياغو، ورأى الجدران ترقص رقصًا، ولم يعرف كيف ارتمى خارجها ليجد السيدة العاملة بالبيت، والحارس، هي القادمة من المغرب تبكي تندب حظها العاثر الذي حملها من سلا المتاخِمة للرباط، إلى هذه «الأرض الخراب»، والحارس ذاهلًا عن نفسه، وسعادة السفير يواسيهما، ويسعف، إلى أن أمر الله بالصباح والفرَج، على غرار بلْواه وصبره في روايته الفريدة «الساحة الشرفية». وحين سألتُه كيف يعيش أو يتعايش السكان مع خطرٍ محدق في كل وقت، وهو اليوم منهم، أجاب بشبه قدَرية، بأنهم يعيشون وكفى. وفهمتُ أنهم يعيشون وللموت أن يحل في حينه، وفى الانتظار هم يحيَون، ويعتادون، منشغلون بحاضرهم ولا وقت لديهم للخوف والتفكير في الغيب. كان القطب بدَوره أبعدَ ما يكون عن القلق، منصرفًا إلى مهمته الدبلوماسية بجديةٍ وحماسٍ شديدَين. وفيما كنا نظن نحن أصدقاؤه ومريدوه أنه سيجد في بُعده الوقت الكافي للقراءة والكتابة الروائية وتعويض الزمن الفاني بين القضبان، رأيتُه لا يتوقف طيلة مُقامي بالقرب منه عن الاجتماعات ولقاء النواب والمثقفين للتعريف بالمغرب، وبتدبير شئون الجالية، ومواصلة حشْد الدعم لقضية الوحدة الترابية، ويُقوِّي الأواصر، وغيره كثيرٌ، مما هو من صُلب المهام الدبلوماسية، لا يكاد يجد ساعةً لنفسه، فسرَّني ذلك كثيرًا، حتى وقد افتقدتُ الجلوس إليه طويلًا كما أحببتُ، وفكرتُ كم هي حاجة المغرب ماسَّةٌ إلى دبلوماسيين مثقفين ومبدعين لحمْل اسمه، ورفْع رايته. ولم أملك إلا الاستغراب كيف أنَّ سِلْكَنا الدبلوماسي في مشارق الأرض ومغاربها لم يعرف من الكُتَّاب السفراء سوى اثنين في تاريخه المديد، هما المرحوم محمد التازي في القاهرة، مع المفكِّر علي أومليل، وصديقنا اليوم بسانتياغو، بينما تتسابق الدول المُتمدِّنة على وضع أدبائها النجُب في أرفعِ تمثيلياتها بالخارج … فواحسرتاه!

في ضفاف نيرودا

تذكرتُ للتو الشاعر التشيلي العظيم، بابلو نيرودا (١٩٠٤–١٩٧٣م) الذي قضى جزءًا من حياته في التمثيل الدبلوماسي، في عواصم هامة، منها مدريد، كلكوتا، بوينس آيرس. وأنت لا تكون قد زرتَ أي بلد في أمريكا الجنوبية إن لم تتعرف على أدبائها، وتطرق مرابعهم، والمشتهرين منهم بخاصة. فالكاتب في هذه القارة رمز، وأيقونة أكبر من السياسي، وأبقى. وحيثما تنقلتَ ستجد أسماء شوارع وأزقَّةً تحمل أسماءهم، ومراكز ثقافيَّةً هي عنوانهم، وبيوتُ المشاهير من شعراء وروائيين، حُوِّلَت إلى متاحف تحوي أوراقهم وصُورهم، وأثاثَ غُرفهم القديمة، أما مخطوطاتهم فمحفوظة بعناية في المكتبات الوطنية؛ لأن الأدب في هذه البلدان، والغناء، يتنفسهما الناس كالهواء، هما والتعبُّد في الكنائس غذاء الروح وترياقها. وقد حزَّ في نفْسي كثيرًا ألَّا أزور متحف نيرودا في سانتياغو بسبب أعمال ترميمٍ جارية، وهو عند القوم هنا مُبجَّل، تُضاهي سمعتُه صيتَ بورخيس في الأرجنتين، ولم يبقَ لي إلا التوجُّه إلى المكان الثاني الذي اختاره إقامةً صيفيةً وملاذًا أيضًا، وقتًا من حياته: مدينة Valparaiso.
تقع Valpo، كما يُطلِق عليها أهلُها اختصارًا، شمال العاصمة بقرابة ١٢٠ كيلومترًا، وهي من أكبر موانئ البلاد، وخلْفها، وأعلاها شريطٌ ساحلي سياحي فخم، يُضاهي ما يُوجَد في الساحل اللازوردي الفرنسي، مثلًا. وهي إلى جانب هذه الأهمية تُعَدُّ العاصمة الثانية للبلاد، إن لم تتقاسم مع العاصمة سانتياغو بعض اختصاصاتها، حيث هي مقر الكونغرس، والقيادة البحرية، والجمارك، والمجلس الوطني للثقافة والفنون، وهي بعد هذا وذاك حاضرةٌ تاريخية، فريدةٌ من نوعها حقًّا، في موقعها، ومعمارها، وجمال فضائها الداخلي، وما يحيط بها خارجًا، مما جعل اليونسكو تُصنِّفها ضمن قائمة التراث العالمي للإنسانية. وإن كنتَ من هُواة الحقول والكروم، فالطريق السيَّار الذي يقودك إليها، ناعمًا كأنه بساط الريح، يُتيح لك مناظر خلابةً فعلًا، في سلسلة الجبال الممتدَّة على شرق الطريق، تنحسر عن حقولٍ ومزارع نموذجية، بخاصة عن معاصر الكروم التي تشتهر بها تشيلي، وتُنافس بها الأرجنتين، في أصناف النبيذ وجَودتها، هي محلاتٌ للزيارة، وللتذوُّق لمن شاء، تُجاورها، وتمتد بعدها منتجعات للسياحة، مآوٍ وإقامات و«لاسياندات» من طرازٍ خاص، فالأرض هنا خارج المدن ليست قفرًا، وكل شبرٍ يحسن استغلاله، بما يهَبك الأرض في صورة الطبيعة البديعة والمناظر المنسَّقة.

حتى إذا بلغتَ المدينة، يصِل إليها الطريق السيَّار لتضِيق تدريجيًّا في خطٍّ أنبوبي يَسري بين الأشجار والأحراش، وأنت تنزل من علٍ، تهبط السيارة رويدًا رويدًا، لترى عن بُعد، أولًا، البحر فسيحًا بلا نهاية، بين الأخضر والأزرق، متلاعبًا بينهما، وكلما اقتربتَ راح يزْرورق ليستقر على زُرقةٍ نهائية هي لونه النهائي، وقد غدا ماء ميناءٍ طويل اصطفَّت بواخر هائلة على أرصفته الضخمة، وتدافعَت الحركة سياراتٍ وشاحناتٍ وراجلِين، يعبُرون ساحة المحافظة، وهي هنا حركةٌ دائبة، تحت شمس صيفٍ صاعقة، لموسم البلاد. هذا القسم السفلي من فالبو للتجارة بالدرجة الأولى، وليس للسكن، وهو لا يُمثِّل وجهها الأبرز الذي به اشتُهرَت، وتُواصل حضورها السياحي والرمزي، أعني: موقعها في المرتفعات يمثل حضنًا متفاوت العلو، لولبيًّا، وفي أعاليه، وثناياه، ونتوءاته توزعَت أحياء المدينة القديمة، متجاوِرة، أو متقابِلة، أو متفرِّقة، أو يعلو بعضها بعضًا في طبقات تتنافس ألوانًا ونسقَ بناء.

حسبتُني متلهِّفًا للوصول هنا من أجل نيرودا، لزيارة بيته الشهير فيها، وإذا بي مأخوذٌ كُلًّا بمعمار وشكل فالبارايسو الفَرِيد. ليس بِناءً معقَّدًا، بل قِسمٌ كبير منه أُنجِز بقِطَع الصفيح، على غرار ما رأيتُ في جزيرة كيلوا، حيث كانت البواخر تنقل الحاويات، وتُبقيها بعد أن حدث كسادٌ تجاري، فواتَت الفكرة بعض أذكياء البلد باستغلال هذه الحاويات، وهكذا فككوها واتخذوها جدرانًا وأسقفًا، وصارت مع الزمن هيئة سكن، يواتي الجزيرة تمامًا، ويُضفي عليها طابعًا متميزًا، لا سيما والأرض متاحة، ولا حاجة لتراكُم السكان في العمارات كالمدن الكبرى.

فالو شامخة بأحيائها العليا، وألوان مبانيها تشعشع أقوى من نور الشمس الفيَّاض في النهار، فهي ألوانٌ احتفالية، لوحاتٌ تشكيليةٌ مدهشة، مدرسة رسم متنقلة من بيت إلى بيت، تحسب وأنت تنقل البصر من دار إلى دار، أنك تحضر مباراةً بين أهل صباغة، مع معضلة أن لجنة التحكيم في هذه المباراة ستعجز في الفصل بين المتبارين؛ لأن كل نموذج هو نسيجُ وحْدِه. تمنحك بعض البلدات السياحية في البحر المتوسط، مثلًا، ألوانًا بهية، منسجمة مع محيطها وهندسة أزقَّتها ومساكنها، تُبهج العين، وتُجمِّل الفضاء، كما نرى في الجزر اليونانية، أو تونس، وأصيلا، العروس الأطلسية، وشفشاون، الجبلية البهية، غير أن فالو تزيد على هذا بكونها مبنيةً كلها ومزينةً على هذا النسق، الذي ليس ديكورًا، بل هو طابع المدينة وهويتها الجمالية. تتأكد من ذلك، وأنت تمشي في أزقَّتها ودروبها لتجدها غاصَّةً ببيوت الفنانين ومحترفاتهم، كما كان حي مونمارتر الباريسي في زمن فات، وبمطاعم واحتفالات على الهواء، خصوصًا بجدرانها المصطبغة بالألوان، أشكالًا وخطوطًا على نسق التاغ، فتوقِن أنك في المكان الوحيد من العالم الذي لا يوجَد إلَّا هنا، وتُدرك بأن أية مدينة لا تستحق اسمها إلا إذا انفردَت إيجابًا بما يؤهلها ويميزها، أو هي عمارات وشوارع وضجيج، وتلوث، ومقاهٍ، كأغلب مدننا. ولا تكاد تلُمُّ أنفاسك من قوة السحر، حتى يُرْدِيك البحر الذي أمامك حتى الأفق، وإذ ذاك تفهم، تكاد تفهم فقط، لماذا اختار نيرودا أن يجعل من هذه الأرض أحد منابع شعره.

في الرقم ٦٩٢ من زقاق فراري، المتفرع عن شارع ألمانيا ألتورا، وفي أحد أعلى التلال المُطلة على أسفل المدينة فوق ربوةٍ صخرية، ترتفع Casa Museo La Sebastiana، التابعة لمؤسسة بابلو نيرودا، وهي البيت الذي بناه في فالبارايسو في المدينة، يتكون من أربعة طوابق، بعد المدخل الأرضي هو حديقة غَنَّاء، بزهور وتماثيل وأشجارٍ باسقة، وهي اليومَ للاستقبال وأخْذ التذاكر لِوُلُوج البيت، فكل مأثر ومَعلم تؤدي ثمَن وُلُوجه، إلا فيما ندر. وقد انتظرتُ ساعةً ودقائق ليحلَّ دور الفوج الذي أنا فيه للدخول؛ إذ المكان لا يتسع للطوابير الطويلة المنتظرة، أغلبها عائلاتٌ تشيلية متعطشة للمعرفة، وليس السياح بالضرورة.

الطابق الأول صالةٌ مربعة للاستقبال، بها أريكةٌ طويلة وبضع كراسٍ، ومدفأة ومنضدة، تُحيل جانبًا على كونتوار صُفَّ خلفه رفٌّ حمَل قناني لمشروباتٍ وطنية وأجنبية، مع كئوس وأقداحٍ ملوَّنة، لا شك كان نيرودا يستخدم الزاوية هاته يسقي ضيوفه، ولتناول فاتح للشهية قبل الصعود عبْر الدرَج الملتوي إلى الطابق الثاني، حيث قاعة الطعام تؤثثها طاولةٌ كبيرة بكراسٍ مريحة، وفوتيهات صغيرة، ومدفأة فحم، مع منضدة عليها مشروبات، تُجاوِرها صالة للراحة والتدخين بعد الطعام. عُلِّقَت على جميع الجدران لوحات، وقد كان شاعر «أحجار السماء» مَن اعترف أنه «عاش حقًّا» وكذلك عاش، مالك مجموعةٍ مهمة من اللوحات المقتناة والمهداة، توزعَتها بيوته الثلاثة في تشيلي، ومدريد، وباريس. من صالة الطعام نصعد إلى الطابق الرابع، حيث غرفة النوم لا تزال على حالها، كلاسيكية الطراز سريرًا وحمَّامًا ومغسلة، وجدرانها بالزليج الأزرق، والمنمنمات البرتقالية، بنافذة على الخارج مغطَّاة بستارةٍ سميكة، تحتها سجادٌ عتيق بلَونٍ فاتح، تقول: هنا، إذن، كان ينام الشاعر العظيم، وتُداعبه الأحلام الخلاقة، ورنين الأبيات الصاخبة والمترقرقة، معًا، وإنك لتتساءل: هل غرفة بهذا السرير المتوسط اتَّسعَت حقًّا لمَن صَنع عالمًا شديد الرحابة، غنيَّ الاستعارات.

يأتيك بعض الجواب بعد أن تُواصِل صعود الدرَج الخشبي الملتوي لترقى إلى الطابق الخامس والأخير، هنا مربط الفرس، مكتب الشاعر، غرفةٌ مستطيلة تحوي منضدة العمل. فوقها آلته الكاتبة ما زال عليها شريطها، وقصاصات، وأوراق بخربشات. على الحائط خزانة كتب، بين دواوينه الشخصية ودواوين شعراء قُدامى ومن جيله، وروايات، ودراسات … إلخ. وفي الركن أريكةٌ طويلة للاسترخاء، ذات مُتَّكأ مرتفع، مصنوعة من صوف وكتان، بقاعدةٍ خشبية متينة. يقول الرواة إن نيرودا كان يقضي أطول وقتٍ في هذه الغرفة، التي يمكن أن يُلهم موقعُها البغال، فكيف بنوابغ الشعراء. ذات «فراندا» زجاجيةٍ طويلة وواسعة، تُشْرِفُ من علوها السامق على أوسع منظر يمكن اقتناصه لفالبارايسو، تُصبح وتُمسي على البحر، وإن دخلتَها لا تريد أن تبرحها من جمال ما تُتيحه، وقوة ما توحي به، لاحظتُ أن أغلب الزوَّار يطيلون بها المكث، وأعترف أني نسيتُ نفسي بها، لولا تنبيه فتاةٍ مداوِمةٍ تراقب معروضات المكتب، يُمنَع لمسها منعًا باتًّا، أو تختلس من فضول وتعلق لا غير، وهذا دليل تقديرٍ إضافي لمبدعٍ كبيرٍ أصبح من تراث الأمة، وهي له لمن الحافظين، لا من العابثين، السالين مثلنا، لا نحفل بنُبغائنا، ولا يعني أحدًا أن يُقيم لهم متحفًا، أو يضم أعمالهم وأشياءهم في بيت، من الخليج إلى المحيط، بلا استثناءٍ تقريبًا، اللهم إلا ما نجحَت فيه الهمجية الجديدة في العراق، حين تم حرق البيت التحفة للروائي والفنان جبرا إبراهيم جبرا، وتشريد عشرات الأدباء الذين باعوا خزاناتهم خشيةَ إملاق!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤