برسم الختام

في كتابه، سيرته الذاتية الجميلة Confieso que he vivido «أعترف أنني عشتُ» (١٩٧٤م) التي صدرَت بعد رحيله (٢٣ سبتمبر (أيلول) ١٩٧٣م)، كتَب نيرودا:
«أريد أن أعيش في بلدٍ لا يُوجَد فيه مُكفِّرُون.
أريد أن أعيش في بلدٍ يكون فيه البشر أناسِيَّ فقط، بلا أية صفةٍ أخرى غير هذه.
من دون أن يكونوا مهووسين بأية قاعدة، أو أية كلمة، أو أي نعت.
أريد أن يُتاح الدخول إلى كل الكنائس والمطابع (لا استثناء).
أريد ألَّا نترصَّد أحدًا أمام مدخل محافظَة، لاعتقاله أو طرْده.
أريد أن يدخل الجميع إلى المحافظة، ويخرج، بوجهٍ مبتسم.
لا أريد أن يهرب أحد بعدُ في مركب، أو تطارده درَّاجةٌ نارية.
أريد للغالبية العظمى، الأغلبية وحدها، للجميع، أن يستطيع الكلام،
القراءة، السماع، والانشراح.»

لِتسْمح لي أيها القارئ الكريم الذي تتبَّعتَ معي أطوار هذه الرحلة أن أنهيها بهذا المقطع، فلا أرى أبْلَغ منه للتعبير عمَّا يجيش في خاطري من مشاعر، مما جال في النفس طيلة شهرٍ من هذه الرحلة إلى بلدان هي من جِنان الله وبديع خلقِه. تضامنَت فيها قدرته مع إرادة الإنسان على صُنع الحياة من صُلب الطبيعة، وإخصاب رَحِمها بقوة عمله ومتقَن تصميمه، وباذخ خياله، وتجلَّت فيها على الخصوص رغبة التغيير وتجديد الحياة وركوب المغامَرة، بكل أخطارها وعواقبها. جاءت على سفين الرحلة بالانتقال من أرضٍ إلى أراضٍ، فيها الغزو بتبعاته، نعم، ولكن فيها كذلك نزعة اختراق الآفاق بالاكتشاف والبناء ونشر المدنية، في إحدى تجلياتها بعالمٍ بعيدٍ عنا، ونحن يرانا أيضًا، بعيدين عنه، ولكن المعرفة والإنسانية مجالنا المشترَك. لكَمْ شكَّلَت الرحلة من شعوبٍ وأنتجَت من حضارات، وخلقَت من ثقافاتٍ تلقَّحَت وتفاعلَت ببعضها، يقع في قلب حوافزه، من جهتي شخصيًّا، رغبةٌ دائمةٌ لمعرفة الإنسان، وشوقٌ عارمٌ لملاقاة ذاتٍ في ذوات، أو مطْلقات، وما لا يتجلَّى حتى يتجلَّى في حينه، أو يبقى مُمعِنًا في الغياب، يدفعك لمزيد بحثٍ لرحلاتٍ العمرُ الذي نعيش إحداها وأقصرها.

ولقد توخيتُ في هذا التدوين أن يأتي شمُوليًّا ما أمكن، في التعريف والوصف والتمثيل، لزيارةٍ قلتُ إنها دامَت شهرًا للأرجنتين وتشيلي، وإني لمُدركٌ تقصيري، ولا أدَّعي إحاطةً ولا تبليغًا تامَّين، فهو محالٌ؛ لأن كل رحَّالة، إذا ما جلس للتدوين إنما ينقل ما رآه، ما أحَبَّ أن يراه، ويغفل عن سواه، وما تميل إليه نفسه، ويجنح إليه ذوقه وهواه. لذلك نعتبر كتابة الرحلة، حتى وهي تعتمد التحقيق والنقل المُحقق، والرصد المُعاين، سِفْرًا أدبيًّا لوجود نسْغِه في ذات كاتبه المتفاعلة حتمًا مع واقع، ولأنها، ثانيًا، تتلاعب بها الخواطر، عُمدتُها الذاكرة مهادًا، والعبارة وعاءً وصورة، وهذان مهما محضناهما من ثقةٍ غير مُنَزَّهِين عن «الخيانة» فيما قصدُه الوفاء، وإلَّا بربكم كيف يمكن للمُحب أن يُعبِّر عن مكابداته … بالكلمات، لا سيما في وصف بلدان، إحدى خصائصها الجمالُ الفاتن والسحر الفتَّان، تراه في الوجه الصبوح، ويمشي على قدمَين، وأي وعدٍ ودلال.

ثم إذ أركبُ الطائرة في الرابع من فبراير (شباط)، أُمضي أربع عشرة ساعة في الطيران، وأنزل في مطار رواسي شارل ديغول، ومنه إلى بيتي في باريس المُشتية، أعود أتلفَّع بمعطفي، ضامًّا ياقته حول عنقي، مستمِدًّا حرارة جسدي من مخزون شمس قارةٍ غادرتُها أمس، وشمسها، بياضها الحليبي، وسُمرتها المذهَّبة، شمس في عيني وعسل أتلمظه، أقول كيف سأقضي بقية الشتاء، وهل في العمر بقيةٌ أجمل، ومتى تكفُّ عن الرحيل يا هذا، بحثًا عن وَهْمٍ أم محال، عن معنًى كيف تجده فيما لا يوجَد، أو حُبٍّ لم يُولَد، وسبحانه يهدي إلى سبيله من يشاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤