مقدمة المترجم

تدور أفكار هذا الكتاب كلها حول العبارة التي اتخذ المؤلف منها عنوانًا، وهي «وحدة الإنسان». وعلى الرغم من أن المؤلف قد استخدم عبارة يُمكن ترجمتها على نحو أفضل بقولنا «هوية الإنسان» The Identity of Man فإن المقصود حقيقة من هذا العنوان، ومن جميع الدراسات التي يضمها هذا الكتاب، هو أن من الممكن تحقيق وحدة منسجمة متآلفة للإنسان، على الرغم من كل عوامل الانقسام والانفصام التي تهدده، فالكتاب في أساسه محاولة مفصَّلة لبناء وحدة الإنسان من وراء كل تعدُّد تتشتت فيه فاعليته، ولإثبات أن الإنسان واحد في كل ما يقوم به من أوجه نشاط، سواء أكانت أوجه النشاط هذه علمًا أم فنًّا، وسواء تأملنا الإنسان على أنه آلة أو على أنه ذات.

على أن الأمر الذي لم يقُله المؤلف، وإن كان كل سطر من الكتاب يدفع القارئ دفعًا إلى استخلاصه، هو أن «وحدة الإنسان»، ليس هو العنوان المعبِّر عن مضمون الكتاب فحسب، بل إنه ليعبر أيضًا، وبصورة أوضح، عن شخصية كاتبه … فالنتيجة التي ينبغي أن يخرج بها كلُّ مَن يقرأ هذا الكتاب قراءةً فاحصةً، هي أنه كان من المستحيل أن يكتب، وكان من المستحيل أن يحقِّق هدفه، لو لم يكُن المؤلف ذاته يمثِّل تجسيدًا حيًّا لتلك الوحدة التي تجمع بين السعي إلى الحقيقة والتحليق في آفاق الخيال، وبين المعرفة العلمية المتعمقة والحساسية الشعرية المرهفة. وهكذا يبدو أن المؤلف عندما حقَّق في شخصه تلك الوحدة الإنسانية الحقَّة سعى بعد ذلك إلى أن يجعل منها سِمة شاملة للإنسان الحديث.

هذا الشمول الذي تتسم به معارف المؤلف يجعل من أصعب الأمور تصنيف كتابه وتحديد الفئة التي ينتمي إليها، والحق أنني أجد صعوبة كبيرة في تحديد طبيعة هذا الكتاب: أهو كتاب في الفلسفة؟ أم في العلم؟ أم في فلسفة العلم؟ أم في فلسفة الفن؟ أم في حكمة الحياة؟ قد يكون الكتاب كل هذا في آنٍ واحد؛ لأن مؤلِّفه مُلِم إلمامًا واسعًا بهذه الميادين جميعًا. وإن مَن يقرأ تلك الحقائق العلمية المعقَّدة، التي يعرِّفها المؤلف بأسلوب مُبسَّط، يدل على متابعة متعمِّقة لأحدَث تطورات العلم، لا يشك لحظةً في أن هذا المؤلف عالِم بالمعنى الصحيح، ولكن حسه الأدبي المرهف يذهب بك إلى الاعتقاد بأنه لا بدَّ أن يكون شاعرًا، ومع ذلك فإن ما يقوله عن طبيعة الاستقراء عند هيوم، ونقده للوضعية المنطقية، والدراسة الأخيرة التي تضمَّنَت معلومات حديثة في المنطق الرياضي، تُقنعك بأنه لا بد أن يكون فيلسوفًا، أو عالِمًا مُتفلسفًا.

ولكن ربما كانت أهم صفات الكاتب، وكذلك أهم صفات الكِتاب بعد هذا كله، هي نزعته الإنسانية. هذه النزعة تشيع في جميع صفحات الكتاب، وهي تتمثل في الهدف الذي حدَّده المؤلف منذ البداية وهو تأكيد وحدة الإنسان. على أن الأمر الذي يلفت النظر حقًّا، هو أن النزعة الإنسانية — وخاصة في عصرنا الحاضر — كثيرًا ما تتجه إلى فصم وحدة الإنسان، في الوقت الذي تتصور فيه أنها تجعل منه قيمة عُليا وغاية قصوى، فكثيرٌ من أنصار النزعة الإنسانية المعاصِرين يقفون موقفًا مُعاديًا للعلم والتكنولوجيا؟ إذ يتصوَّرون أنهما يُهدِّدان كيان الإنسان وحريته، ولمَّا كان العلم والتكنولوجيا جزءًا لا يتجزَّأ من حياة الإنسان الحديث، وكان من المستحيل عليه، حتى لو شاء، أن يتخلَّص من تأثيرهما، فإن هذا النوع من النزعة الإنسانية يؤدِّي حتمًا إلى حدوث انفصام داخل الإنسان، بين القيم المعنوية المضادة للعلم، وبين تأثير العلم، الذي لا يمكن الهروب منه. ومن هنا كان من المستحيل أن تكون أمثال هذه النزعات الإنسانية متكاملة، أو أن تحقق وحدة فعلية للإنسان.

أما عند برونوفسكي، فإن النزعة الإنسانية تتضمَّن العلم بوصفه جزءًا لا يتجزَّأ من العناصر المكونة لوحدة الإنسان؛ فالعلم والفن في نظره طريقتان متكاملتان يُعبِّر بهما الإنسان الحديث عن نفسه، وعن وحدته. وليس العلم مجرَّد معلومات آلية لا شخصية، بل إن للعلم، إلى جانب القيم التي ينفرد بها كالنزاهة والموضوعية وحب الحق، قِيَمًا أخرى يقترب بها من المجال الشخصي الذي يختصُّ به الفن، كالاحترام والتسامح. كما أن الفن، من جانبه، ليس مجرَّد ممارسة ذاتية خلَّاقة تنبعث من الفنان وحده ولا تؤثِّر إلا فيه، وإنما هو يتجاوز الفرد إذ يقدِّم إلينا معرفة من نوع خاص، هي «معرفة الذات». والمقصود بمعرفة الذات هو أن يعرف الإنسان نفسه من خلال ما يعرضه العمل الفني أو الأدبي من نماذج، ويتوحَّد مع المعاني أو المشاعر التي يتضمَّنها العمل، لكي يفهم نفسه ويفهم الإنسانية كلها على نحو أفضل، وهكذا يتخطَّى الفن حاجز الفردية لكي يقيم جسورًا بيننا وبين الذوات الأخرى، شأنه في ذلك شأن العلم.

على أن أهم عناصر تحقيق الوحدة بين العلم والفن هو في نظر المؤلِّف عنصر الخيال، فعلى خلاف الكثيرين — ممَّن يُقلِّلون إلى أدنى حدٍّ من دور الخيال في العلم — يؤكِّد برونوفسكي في مواضع شتى من كتابه أن العالِم لا يقل عن الفنان احتياجًا إلى الخيال والْتجاءً إليه. وعلى خلاف هؤلاء أيضًا يؤكِّد المؤلف أن لغة العلم ليست كاملة الوضوح والدقة إلى الحد الذي تُصوَّر به عادةً، بل إن في هذه اللغة قدرًا من الإبهام يستغله الخيال لكي يكتشف مجالات جديدة للمعنى في المفهومات العلمية التي يشيع استخدامها بمعانٍ ضيِّقة. وهكذا يعمل الخيال على توسيع نطاق اللغة العلمية على الدوام، وإضافة معانٍ جديدة إلى مفهوماتها المتداولة، حتى ليُمكن القول إن الاكتشافات الكبرى في العلم إنما هي إضافات جديدة إلى معاني المفهومات العلمية، على نحو يجعلها منطبقة على ظواهر أوسَع نطاقًا، ويزيد معناها رحابة واتساعًا. وهذه هي في الأساس مهمة الخيال في مجال العلم. ولولا أنَّ في لغة العلم قدرًا من الغموض والإبهام لَمَا كان فيها مجال لكشف جديد، ولَمَا استطاع الخيال أن يوسِّع هذه اللغة ويساعدها على اكتشاف مجالات جديدة تنطبق عليها.

على أن الهدف النهائي لكل كشف جديد في العلم هو تخفيف الغموض والإبهام. صحيح أن القضاء التام على هذا الإبهام مستحيل، ولكن كل تقدم علمي يمثِّل خطوة أخرى في سبيل زيادة اللغة العلمية تجددًا، وتضييق مجال الخلط والغموض فيها، وهنا يكمن الفارق الأساسي بين وظيفة الخيال في العلم ووظيفته في الفن والأدب؛ فالأدب يعمل على الاحتفاظ بهذا الغموض في لغته، بل ويستمد منه قوته، وبفضل احتفاظه بهذا التوتر يساعدنا الخيال الأدبي والفني على معرفة أنفسنا من خلال معرفتنا للآخَرين. وإذا جاز لنا أن نستخدم تعبيرًا هيجليًّا مشهورًا، فان الفن يقدِّم إلينا معرفة «توسطية» بأنفسنا: إذ لا نندمج في أنفسنا مباشرة، عن طريق نوع من الاستبطان، بل نعود إليها ونعرفها معرفة أعمق من خلال النماذج الأدبية والفنية التي تقوم بدور الوسيط، والتي لا نرى فيها — آخِر الأمر — سوى أنفسنا.

وهكذا تتحقَّق وحدة الإنسان عندما يُدرك أنه ليس جهازًا آليًّا فحسب، بل هو أيضًا «ذات». وليس ثمة صعوبة على الإطلاق في أن يكون الإنسان آلةً وذاتًا في الآن نفسه؛ فالإنسان لا يمكن أن يكون آلة فحسب، حتى بالمعنى الحديث المعقَّد لهذه الكلمة، وهو المعنى الذي أصبحنا نألفه من خلال تحليلنا لعمل العقول الإلكترونية. والسبب الذي لا يكون الإنسان من أجله مجرد آلة على الرغم من وجود عناصر آلية كثيرة في تكوينه، هو وجود ذلك النوع الآخَر من المعرفة الذي يجعل الإنسان ذاتًا، وأعني به معرفة الذات التي لا يمكن تدوينها في صيغة شكلية، أو تقديمها على شكل تعليمات إلى حاسب إلكتروني. هذه المعرفة المتعلقة بالذات تنصب أساسًا على مجال القيم والتقديرات، وهو المجال الذي لا تستطيع أية آلة نعرفها أو نتصورها حتى الآن أن تحل محل الإنسان فيه.

إن الإنسان، في نظر المؤلف، وحدة واحدة وثيقة تجمع بين طبيعة الآلة وطبيعة الذات الفريدة التي لا تتكرر، وتشتمل فاعليتها على نشاط علمي ونشاط فني وأدبي، يستخدم كلٌّ منهما الخيال استخدامًا خاصًّا، وعلى أساس هذه الفلسفة الإنسانية المتكاملة يشيد برونوفسكي هذا البناء الفكري المُحكَم الذي يظل يرتفع أمامنا، طابقًا فوق طابق، طوال قراءتنا لهذا الكتاب الشائق.

فؤاد زكريا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤