الدراسة الثالثة: معرفة الذات

١

في ٢٦ مايو من عام ١٧٧٧م كتب المستر ج. سكوت إلى القس ويسون Whisson من كلية ترينيتي في كمبردج خطابًا نُشر فيما بعد في «دورية الأعمال الفلسفية» للجمعية الملكية في لندن. وسوف أقتبس فيما يلي جزءًا من هذا الخطاب:

«لست أعرفُ أيَّ لون أخضر في الدنيا، كما أن اللون الوردي والأزرق الفاتح هما في نظري سواء. والأحمر الداكن، وكذلك الأخضر الداكن، يتساويان عندي، حتى إنني كثيرًا ما حسبتهما متكاملين. أما الأصفر بدرجاته الخفيفة والثقيلة والمتوسطة. وكل درجات الأزرق ما عدا الدرجة الفاتحة جدًّا، التي تُسمى عادةً بالسماوي، فإني أعرفها حق المعرفة، وأستطيع تمييز أي عيب في أيٍّ من هذه الألوان بقدرٍ كبيرٍ من الدقة، وإن كان القرمزي الداكن والأزرق الغامق يختلطان عندي أحيانًا، ولقد حدث منذ بضع سنوات أن زوَّجت ابنتي لرجل محترم ذي مكانة، وفي اليوم السابق للزواج حضر إلى بيتي مرتديًا حلة جديدة من قماش ممتاز، فساءني كثيرًا أن يأتي مرتديًا حلة سوداء (كما اعتقدت)، وطلبت إليه أن يعود لكي يغير ملابسه بأخرى من لون آخر، غير أن ابنتي قالت إن اللون لائق إلى أبعد حد، وأن عيني هما اللتان خدعتاني. ولقد كان اللون الذي ارتداه هذا السيد وهو من رجال القانون أرجوانيًّا جميلًا، ولكنه كان في عيني أشد الألوان كلها سوادًا.»

هذا الكلام يعد واحدًا من أول الأوصاف في التاريخ البشري لذلك العيب الشائع إلى حدٍّ بعيد، وهو عمى الألوان المشترك بين الأحمر والأخضر. ولقد كان ما عجل بظهوره رواية متعلقة بحالة أشد حدة من حالات عمى الألوان، رويت قبل بضعة شهور خلال العام نفسه، أما الخطاب الذي تحدث عنه فهو أول وثيقة مؤكدة نملكها في هذا الموضوع. وفي ذلك القرن نفسه، ولكن في وقت لاحق، قدم العالم الكيميائي الكبير جون دالتون وصفًا مفصلًا للخلط الذي يعانيه هو ذاته بين الأحمر والأخضر، وأصبح العيب الذي يعاني منه (والذي كان مماثلًا للعيب الذي عانى منه المستر سكوب، إذ لم يكن يرى «فارقًا كبيرًا في اللون بين عصا رفيعة من شمع الختم الأحمر وبين نصل من النجيل») يُسمى باسمه، وبقدر ما نعلم فإن أحدًا لم ينتبه إلى هذه العيوب الملحوظة التي تقلِّل إلى حد بعيد من مدى التجربة البصرية، قبل القرن الثامن عشر.

تلك بلا شك حالة تسترعي النظر؛ لأن ذلك الخلط بين الأحمر والأخضر ربما كان في بعض أشكاله، أكثر عيوب الذكور شيوعًا. وقد تبين في الحالات التي بحث فيها عن وجود هذا العيب، أن ما يتراوح بين ستة وثمانية في المائة من الرجال يعانون منه، أي حوالي رجل واحد من بين كل خمسة عشر رجلًا. والمعلومات التي نعرفها عن طريقة وراثته، وهي ذاتها طريفة، توحي بأن هذه النسبة المئوية ظلت ثابتة على مر العصور، أي إن واحدًا من كل خمسة عشر رجلًا كان غير حساس بدرجة أو بأخرى، للفرق بين الأحمر والأخضر طوال العصور التي كان الأدب فيها يكتب عن جمال الطبيعة وروعة قوس قزح والغروب، والألوان البديعة للأزهار والأطيار. فالألوان في قطع الفسيفساء القديمة، والأصباغ البديعة التي استخلصها صناع البحر المتوسط من نباتات وحيوانات بعيدة عنها كل البعد لكي يزينوا بها الملابس التي يؤدون بها الشعائر، والأحجار الكريمة على صدور كبار الكهنة في أورشليم، كل هذه قد اختيرت من أجل — وأحيانًا على يد — أناس كان الكثيرون منهم، على حد تعبير المستر سكوت المليء بالحيوية، يرون الأحمر الداكن والأخضر الداكن سواء، حتى إنهم كثيرًا ما حسبوهما متكاملين. وربما لم يكن السبب الذي وصف من أجله هوميروس البحر بأنه «في لون النبيذ الغامق» هو رغبته في تنويع الألوان، بل كونه مصابًا بعمى الألوان وقد قال شكسبير على لسان ماكبث قبل أقل من مائتي عام من كلام المستر سكوت:

«أيقدر محيط نبتون العظيم، بأسره على أن يغسل هذا الدم من يدي؟ كلا، إن يدي هذه هي التي ستخضب البحار الواسعة وتحيل أخضرها أحمر قانيًا.»

ومع ذلك فإن واحدًا من كل خمسة عشر من الرجال الذين سمعوا هذه الأبيات كانوا دائمًا عاجزين عن التمييز بين الأخضر والأحمر.

هذا العجز لم يكن راجعًا إلى أي جهل عام بالعلم. فقد أجريت ملاحظات واسعة وتجارب دقيقة قبل أيام المستر سكوت بوقت طويل، وشيدت على أساس هذه الملاحظات والتجارب نظريات عميقة. فالأعمال العظيمة التي قام بها، في ميدان الميكانيكا، جاليليو، ويوهان كيلر، وإسحق نيوتن، قد تمت في القرن السابع عشر، وكان وليام جلبرت قد ألَّف كتابه عن المغناطيس قبل ذلك بوقت طويل، وأخذ يفكر في الكهرباء، بل إن بنجامين فرانكلين كان قد جعل طائرته الورقية تحلق في عاصفة كهربية قبل عام ١٧٧٧م.

بل إن كشوف هؤلاء العلماء لم تقتصر على العلوم الطبيعية. فقبل التاريخ المذكور بحوالي مائتي عام كان جاليليو قد أمسك بنبضه وضبط عليه توقيت بندول، وكان وليام هارفي قد تتبع الدورة الدموية، بل لقد كان من الشائع أن يبدأ العالم في تلك القرون حياته مشتغلًا بالطب، يلاحظ الناس ويجري تجاربه عليهم قبل إجراء التجارب على الطبيعة. فالرجال المتميزون بالنشاط والبحث عن المعرفة كانوا دائمًا يحولون حب استطلاعهم إلى أنفسهم، وعمى الألوان عيب خاص بالرجال وحدهم، فهو نادر بين النساء.

ولقد كان من المستحيل قطعًا أن يظل عمى الألوان دون أن يلاحظه أحد طوال ألوف السنين لو كان يسبب لمَن يعانونه متاعب كتلك التي يسبِّبها وجع الأسنان والاستسقاء. ولكنه في الواقع لا يسبِّب آلامًا كهذه، فهو ليس علة ثقيلة تصرخ مطالبة بالعلاج. ذلك لأن الإحساس باللون يكمل تجربتنا بطريقة أكثر تواضعًا، فهو ينسج علاقة بيننا وبين العالم لا تثقلها أوامر تدعو إلى الفعل، مثلما يحدث في حالة الإحساسات الأخرى. وبطبيعة الحال فنحن لا نحب أن نحيا في عالم الأبيض والأسود كالصورة الفوتوغرافية، ولكننا كنا نستطيع أن نفعل ذلك كما تفعل معظم الحيوانات بالفعل، وكما تفعل الآلات قطعًا.

إن اللون ينتمي إلى ذلك الميدان من الخبرات الذي يستكشفه الفن والشعر. ففي أواخر القرن السابع عشر كان للدراسة العلمية التي قام بها روبرت هوك عن الألوان المشعة في أجنحة الحشرات والطيور وتحليل نيوتن الرائع للطَّيف، كان لهذه الدراسات تأثيرها العميق في الشعراء، بحيث جعلتهم يستخدمون المزيد من الكلمات المتعلقة بالألوان. ولكنها لم تجعل الشعراء وقراءهم يلاحظون الحالات الشاذة في خبرة الرؤية لأن هذه ليست هي الطريقة التي يشغل بها الشعر خبرتنا. وهكذا ظل عمى الألوان دون أن يلاحظه أحد؛ لا لأن الشعراء عاجزون عن الملاحظة، بل لأن الأسئلة التي يطرحونها عن الخبرة أو التجربة مختلفة في النوع عن تلك التي يطرحها العلماء.

٢

وقد نستنتج من ذلك أن الشعراء لا يهتمون كثيرًا بحقائق الخبرة البشرية، ولكن مثل هذا الاستنتاج خطأ بالغ. فلنعد إلى الأبيات التي اقتبستها من شكسبير. إنها مقتبسة من منظر الرعب المكتوم الذي كان ماكبث قد فرغ فيه لتوِّه من أول جريمة قتل ارتكبها وجاء مضطربًا إلى زوجته وفي يديه الخنجران الداميان، فتأخذ هي الخنجرين منه، وفي فترة السكون يعلو فجأة صوت طرق على الباب. وقد كتب دي كويني De Quiney دراسة عن القوة الدرامية لطرق الباب، الذي يؤرق منام الليدي ماكبث في جزء لاحق في المسرحية. أما في الجزء الذي نتحدث عنه فإن ماكبث نفسه هو الذي يجفل:
من أين هذا الطَّرق؟
ماذا يكون حالي إن كانت كل ضجة ترعبني؟
ما هاتان اليدان؟ آه، إنهما تقتلعان عيني.
أيقدر محيط نبتون العظيم، بأسره، على
أن يغسل هذا الدم من يدي؟ كلَّا، إن يدي هذه
هي التي ستخضب البحار الواسعة وتحيل
أخضرها أحمر قانيًا …

هنا نجد الإحساس بالهستيريا قويًّا محكمًا. وفي كل موضع من المسرحية يشيع ذلك الرعب الطاغي، المتصاعد، الذي يغرق في النهاية ماكبث وزوجته. لقد فهم شكسبير شخصيتهما فهمًا تامًّا. فهما أشبه بسجينين في قفص التدبير التي أحكمته الزوجة، وحين تنهار أعصابهما، ينقلب القفص عليهما.

وتأتي سخرية القدر الأخيرة قرب نهاية المسرحية، حين تدور الأحداث، دورة كاملة، ويسمع ماكبث، وهو في حالة الحصار النفسي الخانق، صوتًا آخر مفاجئًا:

ماكبث : أي صوت هذا؟
سيتون : إنها صرخة نساء يا سيدي الكريم.
ماكبث :
لقد كدت أن أفقد الإحساس بطعم المخاوف،
لقد كنت فيما مضى أرتعد فرقًا
حين أسمع صراخًا في الليل، وكان شعر رأسي
يقف عندما أسمع حكاية مقبضة، ويهتز،
كأن الحياة تنبض فيه، أما الآن فقد ارتويت من الفظائع،
ولم تعُد الكوارث التي ألفتها أفكاري القاتلة
تحدث فيَّ أي رعب، لماذا إذن هذه الصرخة؟!
سيتون : إن الملكة يا سيدي قد ماتت.
ماكبث : كان يجب أن تموت فيما بعد، فعندئذٍ قد يكون هناك أوانٌ لكلمة كهذه.

تلك هي أكثر أقوال المسرحية إثارة للحزن: إنها شاهد القبر الكابي للزوجة التي حركت سلسلة الحوادث الدامية المتدرجة. تلك الحوادث التي حطمت آخر الأمر اللحم والعظم والتفكير والإحساس.

وفيما بين الضجة الأولى والأخيرة، بدل الزوج والزوجة موضعيهما وأخذا ببطء يتبادلان شخصيتيهما. وفي المسرحية نقطة انتقال أو عبور يوجه فيها ماكبث سؤالًا إليهما معًا:

ألا يمكنك أن ترعى نفسًا مريضة؟
وتقتلع من الذاكرة حزنًا متأصلًا؟
وتمحو ما سطر على المخ من متاعب؟
وتطهِّر بترياق النسيان العذب
الصدر المثقل من ذلك الحمل الفادح
الذي يرين على القلب؟

أهذا سؤال عملي؟ أجل؛ إنه معقول وذو دلالة عميقة، إنه نوع السؤال الذي يوجهه زوج المريضة إلى الطبيب هامسًا، وهو يغادر حجرة كل طبيب من ألوف الأطباء الذين يستشيرهم. ومن الطبيعي أن يرد عليه الطبيب ردًّا جافًّا، فيقول إنه ليس محللًا:

ها هنا لا مفر للمريض
من أن يرعى نفسه.

غير أننا نعلم حق العلم أن هذا ليس جوهر سؤال ماكبث، وأن الجواب ليس جوابًا طبيًّا علميًّا يُقال فيه إن ذلك غير ممكن. فالحقيقة هي أن ماكبث يسأل سؤالًا تستحيل الإجابة عنه، وهو سؤال لا يتعلق بزوجته، بل بنفسه، وهو لا يوجهه إلى الطبيب، بل إلى نفسه، فكيف وصل إلى حيث هو الآن؟ أكان ذلك مكتوبًا على جبينه، وكأنه قدرٌ لا يُرد؟ وأية مؤامرة أغرته من خداع للناس أو للذات إلى خداع آخر؟ إن ماكبث يعرف بنفس الوضوح الذي تعرف به زوجته في نومها أن من المستحيل الرجوع في أية خطوة، وأن كل خطوة كانت من صنع الأقدار، وأنه لا يوجد الآن ولم يكن هناك في أي وقت طريق آخر يمكنه السير فيه. هذا هو جوهر سؤال ماكبث، وهذا ما يمزقه. ولقد كان جوابه على حكمة الطبيب المهنية المتزمتة يتسم بالبرود واللامبالاة والعناد، ولكنه كان مع ذلك يتسم باليأس:

ألقِ بالطب إلى الكلاب، فليس بي حاجة إلى شيء منه.
هيَّا؛ وضعْ على درعي.

وربما كنا ميالين إلى الاعتقاد بأن هذا خيال مسرف، غير أننا قد رأينا بأنفسنا هتلر وهو يسلك هذا الطريق المؤدي إلى الدمار، دون أن يتلفَّت حوله وكأنه يسير في أثناء النوم، حتى احترقت برلين على رأسه.

لذلك ينبغي أن نستنتج من هذا شيئًا آخر؛ هو أن التصوير الشائق للشعر هو الأداة الصالحة للكشف عن أحاسيس الخوف والطموح والهستيريا واليأس، وللتعبير عنها، ولكنه مع ذلك أداة غير صالحة للكشف عن أحاسيس اللون وتوصيلها إلى الآخرين. وسوف أقتبس فيما يلي حديثًا آخر لماكبث تشيع فيه الصور المتعلقة بالألوان:

أقبل، أيُّها الليل الحاجب،
وانشر غطاءك على العين الناعسة للنهار العليل،
وبيدك المخضبة الخفية،
انزع ومزِّق ذلك الميثاق العظيم،
الذي يبقي على خوفي وشحوبي، إن الضوء يزداد عتمة،
والغراب يطير على الشجرة التي تئويه،
وأشياء النهار الجميلة أخذت تميل وتنعكس،
في حين تنهض وحوش الليل السوداء لتنقضَّ على فرائسها.

إن ما يجيد ماكبث الحديث عنه، حتى أدق التفاصيل، هو الأيدي الملطخة وألوان الخوف. وهنا كان شكسبير متوحدًا مع أبطاله، وكان يعرف أن ما يدور في رأسه يدور أيضًا في رءوسهم. غير أن ما لم يكن يعرفه هو أنه من بين هذه الرءوس، كان واحد في كل خمسة عشر عاجزًا عن أن يُكوِّن لنفسه صورة كاملة للشكل الذي يتبدى عليه البحر حين يمتلئ بالدماء.

٣

إن نوع المعرفة الذي بدأتُ أتتبعه في «ماكبث» هو النوع المميز للأدب، وسوف أقوم ببحثه في هذه الدراسة، وفي اعتقادي أن نفس النوع من المعرفة، الذي سأطلق عليه اسم معرفة الذات. يكمن من وراء كل الفنون، ومع ذلك فسوف أقتصر في الأمثلة التي أقدمها على الأدب، وعلى الشعر بالذات في معظم الأحيان. والسبب الذي يدفعني إلى ذلك ذو طابع عملي: فالأدب يقبل المناقشة، ويكشف عن معانيه بطريقة أكثر شفافية من التصوير والموسيقى مثلًا، ومن المؤكد أنني أستطيع الكلام عما يقوله الأدب لي بطريقة أوضح مما أستطيعه في أي فنٍّ آخر.

والأدب، بوجه خاص، يُكتب بلغة قريبة من لغة العلم، ومن ثَم كانت المقارنة بينهما مباشرة وحاسمة. وإني لأعتقد أن أي شيءٍ يتضح لنا في هذه المقارنة أنه مميز للأدب، سيكون أيضًا مميزًا للفنون الأخرى.

ولكن حتى لو كنت على خطأ، وكان الأدب أكثر خصوصية مما ذكرت، فليس هذا بالأمر الهام. ذلك لأن غرضي في هذه الدراسة هو أن أعرض نوعًا من المعرفة يُستخدم فيه الخيال بقدر ما يُستخدم في العلم، وإن كان مع ذلك نوعًا مختلفًا: فهو ليس معرفة بشيء آخر فحسب، بل هو معرفة تتم بطريقة مختلفة. وبالنسبة للهدف الذي أضعه في ذهني، يكفيني أن أجد نوعًا آخر من المعرفة في فنٍّ واحد، وليكن الشعر.

فلنتأمل إذن قصيدة واحدة متكاملة، من تأليف روبرت فروست وهو شاعر لا نجد فيه حدة الانفعالات التي نجدها عند شكسبير فلا توجد في القصيدة صور موحية برَّاقة حزينة، ولكنها في الوقت ذاته ليست من تلك القصائد الباردة غير المنفعلة التي كان فروست يرتد إليها في كثير من الأحيان. إنها قصيدة قوية، نفاذة، غير عادية، واسمها أمِّني نفسك، أمِّني نفسك Provide, Provide.
الساحرة العجوز التي أتت (شمطاء عجفاء)١
لتمسح السلم بالخرقة والماء،
كانت يومًا ما «أبيشاج» الحسناء
فخر السينما في هوليوود!
إن أولئك الذين يهوون من قمة العظمة
كثيرون إلى حدٍّ لا يصدق.
فلتموتي مبكِّرة لتتجنبي المصير!
أو إن كان مقدرًا لكِ أن تموتي متأخرة،
فليستقر عزمك على الموت في مركز لائق.
اجعلي بورصة الأوراق المالية كلها ملكك!
وإذا لزم الأمر اجلسي على عرش
لا يستطيع أحد فيه أن يسميك عجوزًا حيزبونًا.
لقد اعتمد البعض على ما كان يعرف،
والبعض الآخر على صدقه فحسب،
وربما حدث لكِ بدورك ما حدث لهم.
إن ذكراك عند الناس كنجمة آفلة
لن تُكفِّر عن تجاهلهم لكِ فيما بعد،
أو تمنع النهاية من أن تكون أليمة.
فلئن هبطتِ السلم محتفظة بوقارك،
وإلى جانبك صداقة مشتراة،
لهو خير من لا شيء على الإطلاق،
أمِّني نفسك، أمِّني نفسك!

إن الصور المستخدمة في هذه القصيدة تنتمي إلى صميم عصرنا. فهي تستخدم تعبير «نجمة آفلة»، لا لإحداث تأثير شعري، ولكن لكي تصف فقط ما يحدث لإحدى المشهورات في هوليوود. وفي مواضع أخرى تستخدم عبارات مباشرة تنتمي إلى عالم اليوم، كالأمر الذي توجهه بأن تجعل بورصة الأوراق المالية كلها ملكها. أي إن القصيدة قد صيغت بطريقة متعمدة ترمي إلى الاستعانة بمجالات للتجربة نشعر بأنها ذات تأثير في حياتنا الراهنة، وتقوم بدور فيها.

كذلك فإن القصة التي تحكيها القصيدة واضحة، ومعاصرة فالشاعر يقابل امرأة كانت نجمة في ماضيها، وأصبحت الآن لا شيء. مثل هذه القصص لم تكن تحتاج، ولا تحتاج، إلى اختراع. ففي الوقت الذي أكتب فيه هذه الدراسة أعلن عن موت «كارولين أوتيرو» في نيس، وكانت كارولين هذه آخر نجمة من نجوم الرقص في التسعينيات من القرن الماضي، وقد صورها «تولوز لوتريك» في لوحة إعلان ما زالت تطبع منها نسخ إلى الآن، وكانت باريس تحتفل بها وتعبدها وتغدق عليها الأموال، ثم نسيتها بمُضيِّ الزمن. وقد عاشت حتى سن السادسة والتسعين، فقيرة فقرًا مدقعًا، ويُشاع أنه لم يتبقَ لها في النهاية شيء سوى حزمة مخزونة من السندات الروسية القيصرية التي لا تساوي شيئًا. فإن كانت هذه الشائعة صحيحة، فإنها تلخص قصتها في سخرية أكثر مرارة من قصة فروست.

لقد طاف بتفكير فروست، واقعيًّا، أن الناس يخافون مما يصيبهم في شيخوختهم من تدهور، ويواجهونه على أنحاء شتى، ومثل هذا الخوف يمكن تجنبه بالموت مبكرًا، ولكن إن كان يتحتم أن نصل إلى الشيخوخة، فخير لنا أن نضمن احتفاظنا بكرامتنا بأي ثمن، حتى لو كان علينا أن نشتريها، وهكذا يكون الدرس المستخلص (إن كان ثمة درس) هو: لا تصبح نجمًا آفلًا: أمِّن نفسك في شيخوختك، أيًّا كان الثمن، بأية وسيلة، حتى لو كانت تجارية، أو وضيعة، أو مظهرية.

ولكن أنعتقد حقًّا أن القصيدة ترمي إلى أن تلقننا درسًا؟ هل تعرف في أي جانب نحن، أو في أي جانب كان فروست؟ وهل نؤمن حقًّا بأن فروست يقصد وضع قاعدة مفادها أن تأمين المرء لشيخوخته بشراء الأصدقاء أفضل من أن يعيش بذكرى الشهرة التي كان فيها نجمًا؟ كلا بالطبع، فالشاعر لا يقدم هذه النصيحة، كما أنه لا يقدم النصيحة المضادة، فذروة القصيدة ليست تلك المصافحة الساخرة اللاذعة التي هي أشبه برسالة إلى رجل متوسط العمر يتجه غربًا، والتي تتضمنها الأبيات الأخيرة.

فلئن هبطتِ السلم محتفظة بوقارك،
وإلى جانبك صداقة مشتراة،
لهو خير من لا شيء على الإطلاق،
أمِّني نفسك! أمِّني نفسك!

بل إن الذروة أتت قبل ذلك ببيتين حين عرض بموضوعية أزمة الإنسان وخبرته، دون ادعاء بأنها يمكن أن تحل بواسطة أية قاعدة ذات طابع أخلاقي.

لقد اعتمد البعض على ما كان يعرف،
والبعض الآخر على صدقه فحسب،
وربما حدث لكِ بدورك ما حدث لهم،
إن ذكراكِ عند الناس كنجمة آفلة
لن تكفِّر عن تجاهلهم لكِ فيما بعد،
أو تمنع النهاية من أن تكون أليمة.

إن الشاعر لا يُسدي نصحًا على الإطلاق، وهو لا يطلب إلينا أن نقبل عبرة أخلاقية، ولا يطلب إلينا حتى أن نستخلص هذه العبرة لأنفسنا؛ ذلك لأن عالم الفن عالم يوجد فيه إرجاء أو تعليق للقرارات، أعني ما أسماه صمويل تيلور كولريدج بالإرجاء الإرادي لعدم التصديق: إرجاء ملكة الحكم.

فليس ثمة دروس أخلاقية في أية قصيدة، وليس ثمة دروس أخلاقية في أيِّ عملٍ فني، وليست هناك عِبر محدودة يمكن استخلاصها، أو نصيحة ينبغي اتباعها، بل إن القصيدة تحوي متضمنات متعددة تثري خبرتنا في الحياة، غير أنها خبرة متعددة الجوانب، والشاعر لا يطلب منا أن ننحاز إلى هذا الجانب أو ذاك. إن روبرت فروست، بروح الدعابة المقبضة، يلخِّص طبيعة الفن؛ إذ يدَّعي أنه يعلمنا درسًا لا يريدنا أن نتعلمه. ففي الفن يستطلع الخيال مختلف بدائل السلوك البشري دون أن يتخذ أبدًا أيَّ قرارٍ في صف هذا البديل أو ذاك، وبهذا التردد المتوتر الموفق، وبه وحده، يختلف العمل الفني عن العمل العلمي.

٤

هذه هي المسألة الجوهرية فيما يتعلق بالخبرة التي تكتسبها من العمل الفني، فنحن لا نتلقى في نهاية هذا العمل «وصفة» ترشدنا في أفعالنا. فمسرحية ماكبث وقصيدة روبرت فروست، لا تعلماننا العزوف عن الطموح، كما أنهما لا تعلماننا الجري وراءه. بل إن القصيدة تزودنا بخبرة لا نتمسك في نهايتها بأن أحد اتجاهات السلوك قد ثبت صوابه والآخر قد ثبت خطؤه، وإنما هي خبرة مستثارة غير تلقائية، وغيَّرنا فيها اتجاهنا المعتاد لكي نمارسها، باختيارنا ولأغراضنا الخاصة، وبهذا المعنى الهام تكون تلك أشبه بالتجربة العلمية experiment فنحن نعيد فيها تنظيم الطبيعة من أجل تجربتنا، تمامًا كما يحدث في العلم، غير أن الغرض من التجربة مختلف في العلم عنه في الفن؛ ذلك لأن الهدف من التجربة العلمية هو الاختيار بين فروض بديلة واتخاذ قرار بأن أحد السبل صحيح والآخر ليس صحيحًا. والتجربة العلمية تستهدف توجيهًا إلى فعل أحادي القيمة، أما التجربة في الفن فليس لها مثل هذا الهدف.

ويظهر ذلك بمزيد من الوضوح في العلوم المنطقية، فإذا أكد المنطق القضية س، فإنه بذلك ينكر القضية لا-س. فالمنطق يعطينا الحرية في أن نقول إن الحب بسيط، أو إنه نعمة، أو إنه جسدي، إن كنا نعتقد أن ذلك صحيح، ولكنا لا نستطيع، منطقيًّا، أن نقول بعد ذلك عن هذا الحب نفسه إنه معقد، أو إنه نقمة، أو روحاني، وحتى لو كان لدينا منطق أكثر رحابة، يوجد فيه بديل ثالث إلى جانب س ولا-س، فإن هذا البديل يؤكد أن الجمع بينهما لا معنى له. أما في الشعر فإن تأكيد س ولا-س معًا ليس أمرًا لا معنى له. فليس مما لا معنى فيه أن نقول إن الحب عادي وغير عادي في الآن نفسه. بل إن الشعر على عكس ذلك، يعطي نفسه فضل التعبير عن المعنى الباطن لخبرة الحياة ذاتها.

وفضلًا عن ذلك فإن القصيدة التي تؤكد أقل من ذلك، تصبح قصيدة تافهة مهما تكن تبدو صارمة أو مرحة. فهي ليست قصيدة جادة بل إنها تخدعنا. والرسالة التي تنقلها إلينا يمكن حفظها، ولكنها ليست بالشيء الذي لا يُنسى. فلنتأمل مثالًا مرحًا لإحدى «الأقاصيص الشعرية» Ballads الشعبية التي جمعها توماس دورفي Thomas d’Urfey في كتابه «المرح والدعابة» أو «أقراص للتطهير من الحزن» في عام ١٧١٩م. فقد قابل أحد الفرسان سيدة:
وقال لها: ما رأيك يا سيدتي
في أن نستلقي أنا وأنت على العشب؟
وسوف أكون حريصًا كل الحرص
حتى لا يتكرمش فستانك.٢
فترد السيدة بكلمات فيها رنة الدعوة:
لو جئت معي يا سيدي
إلى بيت أبي
فسوف تستمتع برأسي الرشيق،
وبضيعتي وبكل شيء يا سيدي.

ولكن عندما يصلان إلى بيت أبيها، تغلق الباب في وجهه، وتنصرف عنه برشاقة، وتقدم إليه نصيحة عملية:

إذا رأيت سيدة شقراء
وأنت مارٌّ بالمدينة القادمة يا سيدي
فنصيحتي ألا تخاف من ندى العشب،
ولا كرمشة فستانها،
وإذا رأيت سيدة مرحة،
وأنت تمرُّ عبر التل يا سيدي
فلتفعل حين يكون ذلك ممكنًا.
وإلا فلن تفعل حين تكون راغبًا يا سيدي.

هذه القطعة ساحرة إذا نظرنا إليها على أنها أقصوصة شعرية لمغنٍّ جوال. أما بوصفها قصيدة، فإنها لا تقل سطحية عن قانون السلوك الذي تدعو إليه: فكلاهما يفتقر إلى التفاعل والتوتر الذي تتسم به الحياة البشرية. فهي تؤكد س، وعنصر التهكم فيها (على خلاف ما نجده في قصيدة فروست) لا يتضمن إلا السخرية؛ إذ إنه يضيف نتيجة تقول إن كل مَن يؤمنون بعكس س مغفلون.

٥

وعلى العكس من ذلك فإن القصيدة العميقة ليست تدريبًا على كيفية التصميم واتخاذ القرار الفوري ولا تعلمنا أن ننحاز إلى نوع معين من الفعل بدلًا من نوع آخر. والمعرفة التي نكتسبها منها لا تخبرنا كيف نسلك، بل كيف نكون، فالقصيدة تخبرنا كيف نكون إنسانيين. إذ توحد بيننا وبين الآخرين، وأن نهتدي من جديد في أنفسنا إلى المشكلات التي تحيرهم. فما نتعلمه منها هو معرفة الذات.

ولست أعني بذلك معرفة ضيقة بعيوبنا فحسب، بل إن الذات التي نكتشفها في هذا الضرب من المعرفة هي كل ذات وهي شاملة أعني الذات الإنسانية. أو بتعبير أفضل، فإن كلًّا منا يكتشف الخطوط العامة لذاته داخل الكل الإنساني الشامل. ونحن نتعرف أنفسنا في الآخرين، كما نتعرف شخصية الآخرين في أنفسنا. إننا نقارن أنفسنا بالآخرين، وتكشف لنا المقارنة عن كنهها، كما تكشف في الوقت ذاته عن كُنه الإنسان، في عمومه وخصوصيته.

هذا التحليل يتصل بمعضلة غريبة في نظرية المعرفة فمن السهل عليَّ وعليك أن نتبادل المعرفة عن الطبيعة، لأننا نحن الاثنين نلاحظها من مواقع متشابهة: أنت من حيث تقف، وأنا من حيث أقف، ولكن هل يمكننا أن نتبادل معرفة عن ذهن واحد منا؟ إنني ألاحظ ذهني من الداخل، وأنت تلاحظه من الخارج، وأنا على وعي بأفكاري ومشاعري في ذاتي، أما أنت فتستدل عليها من سلوكي. ولقد عبر أ. ج. آير A. J. Ayer عن هذه الصعوبة في نهاية كتابه «مشكلة المعرفة» على هذا النحو:

«لو سألني شخص إن كنت أشعر بألم وأجبته بالإيجاب. فإن ردِّي، كما أفهمه ليس إجابة عن سؤاله. ذلك لأنني أحكي حدوث شعور معين، على حين أن سؤاله لم يكن من الممكن إلا أن يكون سؤالًا عن حالتي الصحية. وكذلك فإن قال هو إن ردِّي كان باطلًا، فإنه لا يناقضني بالمعنى الصحيح؛ إذ إن كل ما ينكره في هذه الحالة هو إظهاري لعلامات الألم المميزة، على حين أن هذا ليس ما قلته، إنه ما فهم أنني قلته، ولكنه ليس ما فهمته أنا ذاتي.»

والمُسلَّمة التي يرتكز عليها هذا الرأي هي أنك ينبغي أن تدرس ذهني كما تدرس ذهن مخلوق من المريخ. أو كما تدرس آلة صنعَها مخلوق من المريخ؛ وهذه مسلَّمة لا أقبلها. بل إنني لأرى أن هناك أدلة مقنعة في تركيب مخي وسلوك جسمي تثبت أن ذهني (أعني ذهني بأكمله بالمعنى الذي تحدث عنه جلبرت رايل Gilbert Ryle) من أبناء عمومة ذهنك. وإذا كان كذلك، وكان قريبًا من ذهنك إلى هذا الحد، فالأرجح أنه يعمل مثلما يعمل ذهنك: هذه هي المُسلَّمة الأقرب إلى المعقولية التي ينبغي أن نبدأ منها إلى أن يثبت العكس. وهذا أيضًا يقترب من الرد الذي أتى به «آير» ذاته لهذه الصعوبة.

من هذه النقطة تنطلق وجهة النظر التي أودُّ أن أعبِّر عنها في هذه الدراسة. فالحل الذي أتينا به للصعوبة السابقة يتحول إلى مبدأ يُسترشد به في العمل. ذلك لأنه إن كان ذهنك يعمل مثل ذهني فعندئذٍ لن يكون الأمر مقتصرًا على تصديقك لما أقول إنني أشعر به، بل إنك تتعلم منه، فعن طريق توحيد نفسك معي، تستطيع أن تتعلم أشياء جديدة عن الذات الإنسانية، وعن نفسك، لا بوصفك شخصًا، بل بوصفك مثلًا واحدًا للإنسان. وأنك لتتعمق على نحو أكمل في ذهنك الخاص عن طريق تعمقك من خلالي في الذهن البشري. وبطبيعة الحال فأنت لن تكتسب هذه المعرفة من نصيحتي الفلسفية العميقة، لأن هذه النصيحة لن تُنبئك إلا بالطريقة التي تسلك وتفكر بها. أما المصدر الذي ستكتسب منه هذه المعرفة بحق فهو الشعر الذي أقدمه، إن كان جيدًا.

٦

إن ما أؤكده هو أن القصيدة الشعرية تقدِّم إلينا معلومات بضربٍ من المعرفة يتميز بأنه متعدد القيم، على حين أن البحث العلمي يقدم إلينا معلومات بضربٍ من المعرفة يتميز بأنه أحادي القيمة، وهذا رأي يختلف كل الاختلاف عن الرأي التقليدي (الذي أحياه ألدوس هكسلي) القائل إن لغة الشعر فيها غموض والتباس، وأنها لغة شخصية مشحونة بالانفعالات، على حين أن لغة العلم دقيقة، لا شخصية، عامة. فليس من الصحيح (كما قلت من قبل) أن العلم بوصفه لغة للفكر، متحرر من الغموض والالتباس. فلو كان كذلك، لما كان فيه مجال للخيال، ولكان مغلقًا وجامدًا. ففي كل اللغات الحية، يتلاعب الذهن البشرى بالالتباسات التي تكمن مستترة في كل فكرة عامة، أي في كل لفظ، ويستطلع هذه الالتباسات. والواقع أن الفارق ينحصر في شيء آخر، هو اختلاف الهدف بين العلم والأدب. فالتجربة العلمية تخطِّط لكي تكون فاصلة، بحيث تصبح لدينا أسس لتفضيل مسلك على آخَر. أما التجربة الأدبية فتعرض أمامنا بدائلها بحيث ننغمس نحن فيها، ونتعلم معرفة أنفسنا والآخرين في الآن نفسه.

ومع ذلك فان اختلاف الهدف بين العلم والأدب يتمثل في اختلاف استخدامهما للغة. فلدى العلم في أي وقت لغة جاهزة يعرض بواسطتها ما هو معروف عندئذٍ، كأنه شيء نهائي. أما الأدب فليست لديه لغة كهذه، إذ لا يمكن تقديم عرض كهذا، حتى لو كان ذلك عرضًا مؤقتًا. ففي الأدب يكون الفكر هو واللغة التي تُعبِّر عنه شيئًا واحدًا، إذ يعمل الفكر في الآن نفسه على تشكيل العبارة وإضفاء معنًى عليها، وهذا عين ما يفعله معنا بدورنا.

فعلى سبيل المثال، لا توجد في العرض الذي يقدمه العلم نكات أو سخرية أو «قافيات»٣ لفظية (بوجه خاص). وقد يبدو من غير المألوف أن نشير إلى ملاحظة كهذه. ولكن لهذه الملاحظة دلالتها الهامة؛ لأن الفكرة في «القافية» لا يمكن أن تنفصل عن الألفاظ. فهي لا تقول شيئًا سوى ما تقوله بالضبط. وسأقتبس فيما يلي قافية من القوافي التاريخية التي نُسبت في كتاب «نكات جو ميلر أو المرشد في الدعابة» Joe Miller’s Jests or the Wit’s Vade-Mecum. المؤلَّف في ١٧٣٩م، إلى دانيل بيرسل المشهور: Daniel Purcel.
«حدث مرة لنفس الرجل (يعني دانيل بيرسل)، الذي كان من البارعين في فن «القافية» أن طلب إليه في إحدى الأمسيات بصحبة سيد آخَر أن يصنع قافية مرتجلة، فسأل دانيل: في أي موضوع؛ فأجاب الآخر: في موضوع الملك. فقال دانيل: الملك يا سيدي ليس موضوعًا (ليس رعية).»٤
هذه حكاية قد تكون مضحكة، ولكنها تبدو تافهة. ومع ذلك فهي تعكس تأثير الدعابة، وتوتر السخرية، في كل أنواع الأدب فالملك كان موضوعًا جيدًا لا لشيء إلا لأنه لم يكن موضوعًا (لم يكن رعية). وهذا المعنى المزدوج يسري في مأساة «الملك لير»، وفيما يوجه إليه من سخرية؛ إذ إن هذا الملك قد تنازل عن نصفي مملكته وجعل نفسه رعية subject وموضوعًا للازدراء subject for scorn تاجي البيضة.
لير : أيها الأحمق (fool) المر (bitter).٥
فول : أو تعرف الفارق بين الأحمق المر والأحمق الحلو؟
لير : كلا يا فتى، علمني!
فول : أعطني يا عمي بيضة وسوف أعطيك تاجين.٦
لير : أي تاجين سيكونان؟
فول : بعد أن أقطع البيضة في منتصفها وآكل اللحم، سأعطيك تاجي تاجي البيضة.

هذا الكلام لم يعُد مضحكًا لأنه مرير أكثر مما ينبغي، ولكنه يتضمن الجوهر الساخر للدعابة، الذي يكمن في التلاعب بمعنيين متضادين، لا يقصد من أي منهما أن يستبعد الآخر، حتى لو كانا متعارضين، كما هي الحال هنا. فالأمر في هذه الحالة يبدو كما لو كنا نجمع بين أزواج من الحِكم الشعبية، فنقول مثلًا: «رأسان خير من رأس واحد»، ثم نقول: «المركب الذي به رئيسان يغرق» أو نقول: «قدِّر لرجلك قبل الخطو موضعها»، ثم نقول «من تردَّد ضاع». وبطبيعة الحال فليس المقصود أن نتلقى تعليمات من هذا أو ذاك، تمامًا كما أنه ليس المقصود أن نتلقاها من لير أو من «الأحمق المر» الذي يخاطبه.

٧

إن مسرحية الملك لير تضم شخصيتين تعبران عن نظرتين متضادتين إلى العالم مألوفتين في الفلسفة كما في الأدب، هاتان الشخصيتان هما ابنا جلوستر: إدموند، الابن غير الشرعي، وإدجار، الابن الشرعي الذي ينبغي — وفقًا لنظام الطبيعة — أن يكون هو وريث العرش. وتُعد العلاقة بينهما والخلفية التي ترتكز عليها المسرحية، نوعًا من «القافية»، التي تظل دائمًا غير مستقرة، والتي يقف فيها المعنيان المتضادان للطبيعة كلٌّ في مقابل الآخر. فإدموند يُعبر عن الطبيعة الأبيقورية، أي عن الحركة العشوائية للذرات التي لا يسودها قانون سوى بقاء الأصلح. فأولى الكلمات التي يقولها هي:

أنتِ إلهتي أيتها الطبيعة، وإلى قانونك أقدِّم صلواتي.

وبطبيعة الحال فإن هذه الطبيعة التي يؤمن بها اللقيط (والتي هي مشئومة مثل طريقة ظهوره إلى الدنيا) تقف في الطرف المضاد لذلك التنظيم الرواقي الكامل الذي يكون فيه لكل شيء مكان طبيعي؛ أعني مكانًا تفرضه طبيعته، والطبيعة كلها. وهكذا تتعاقب الحوادث غير الطبيعية؛ فالملك لير يتخلى عن مكانه لبناته، وإدجار يُخدع ويضطر إلى الهرب من موقعه، وإدموند يتسلق إلى أعلى (إلى فراش الفتيات الشرهات) ويفقد جلوستر بصره بطريقة وحشية.

إن الأصغر ينهض حين يسقط الأكبر.

وفي دوامة العقوق بين الآباء والأبناء وبين الأبناء والآباء، يُصاب لير بالجنون، ويصيح في وجه العاصفة:

أيها الرعد الذي يهز كل شيء،
اضرب كرة الأرض السميكة حتى تسطحها،
واكسر قوالب الطبيعة، واسكب كل البذور
التي تجعل الإنسان عقوقًا.

ولقد استمد شكسبير هذين الرأيين عن الطبيعة، الأبيقوري والرواقي، من أقاويل كانت سارية في زمانه؛ إذ كان مفهوم الطبيعة مفهومًا يشيع تداوله والجدل حوله عندئذٍ، بل إن تعبير «الابن الطبيعي» قد تغير معناه تغيرًا أساسيًّا خلال حياة شكسبير، فكان يعني ابنًا وُلد لزوجين شرعيين، وقبل وفاته كان يعني لقيطًا أو ابنًا غير شرعي. ولقد كانت الطبيعة — كما عُرفت في عصر النهضة الأوروبية — متنافرة مع تراث النظام والترتيب الطبيعي الموجود في ذهنه. وفي الوقت الذي كان يكتب فيه «الملك لير» عام ١٦٠٦م كانت نسمات من العلم الإيطالي تهب على إنجلترا. وإذا كان من غير المحتمل أن يكون شكسبير قد سمع عندئذٍ عن جاليليو، فمن المؤكد أنه سمع عن وجوردانو برونو، الذي أثار ضجة كبرى في أكسفورد، عندما حاضَرَ عن علم كوبرنيق الجديد في عام ١٥٨٣م، وأحدثَ صدمة في أوروبا عندما أحرقته محاكم التفتيش في عام ١٦٠٠م.

والواقع أن مفهومَي الطبيعة هذين، أي اختلال النظام على المستوى الأصغر وسيادة النظام على المستوى الأكبر وما بينهما من تأثير إحصائي متبادل، هذان المفهومان هما لب العلم الحديث. ولكن من الضروري في العلم أن يحل التناقض بينهما، وما الجدل بين الموجات والجسيمات في فيزياء الكم إلا جزء من هذا الحل. فنحن لا نعلم إن كانت الطبيعة تتألف من موجات أو من جسيمات، ونحن لا نعلم في الواقع ما هي المادة الأساسية التي تتألف منها، ولو عرفناها فلن نستطيع فَهْمها إلا على سبيل التشبيه والتمثيل، غير أننا في العلم نقرِّر بعزمٍ في وجه هذه المعلومات غير المستقرة، ونكوِّن نظريات ترفع الصراع بين هذين المفهومين على المستوى المحلي ومن أجل أغراض محددة.

على أن أهم ما تتميز به مسرحية: «الملك لير» وكل أدب بوجه عام، سواء أكان مأساويًّا أم هزليًّا، هو أنه لا يوجد رفع للصراع على هذا النحو. فدراما «الملك لير» ليست مشروعًا تخطيطيًّا أو كتابًا أوليًّا في الهندسة، وهي لا تتضمن فكرة رائعة كتلك التي اهتدى إليها جالوا Galois، وأعني بها استحالة تقسيم زاوية إلى ثلاثة أقسام، بل إنها لا تتضمن مجرد القول إن من السياسة غير الحكيمة أن تقسم مملكة إلى ثلاثة أقسام. فلم يكن المقصود من القصة التي تدور حولها المسرحية تحذيرنا من ذلك التصرف العنيد الذي قام به لير، حتى ولو بصورة عرضية. بل إننا نتعلم كيف نندمج في الموقف الإنساني. فنحن نتوحد مع شخصيات المسرحية، لأن هذه الشخصيات حية، وهي تشبهنا، وتشبه كل الرجال والنساء، وحين نتغلغل في داخلها، نفهم على نحو أفضل كيف نحيا داخل أنفسنا، ونمد جلد العزلة الذي يعيش كلٌّ منا داخله. ولكن ليس من الواضح على الإطلاق أننا نتعلم كيف نسلك على نحو أفضل في أي موقف محدد.

٨

إن الاختيار الذي يظل بدون حلٍّ بين اتجاهين للفعل، وهذه بعينها هي محنة الإنسان، يكمن وراء كل عمل أدبي. وهو يظل قائمًا حتى عندما توجد شخصية يبدو أنها صُوِّرت كأنها شريرة كلها. فإدموند في «الملك لير» يجتذب تعاطفنا (وما أعنيه هو أنه يوقع هذا التعاطف في شراكه) حتى عندما نفضل مصاحبة أخيه إدجار. وعندما تسير الليدي ماكبث في أثناء نومها، فإننا لا نقول باعتدادٍ إنها كان ينبغي أن تعرف أنها تدفع بنفسها إلى انهيار عصبي. ونحن لا نفكر في جرائمها، بل فيها هي ذاتها؛ إذ نرى أنها أصبحت ضحية جرائمها هذه، وضحية نفسها، كما أننا نفكر في أنفسنا من خلالها، ونقول ما قاله طبيبها: فليسامحنا الله!

وما دمت قد اقتبست قصيدة لروبرت فروست، فلأحول زيادة النقطة التي أريد الكلام عنها تأكيدًا، عن طريق اقتباس قصيدة قاسية عن فروست، كتبها شاعر أصغر منه سنًّا اسمه جون بريمان John Berryman وهذه القصيدة واحدة من ثلاث قصائد كتبها، حسب تعبيره «عن السيد العجوز».
كان خبثه ندبة في أسفل وجهه الطيب الكبير،
بعينيه الماكرتين، ولا بدَّ أن أكون آسفًا؛
لأن المستر فروست تركنا،
وهذا أمر لا أحبه بقدر ما لا أستطيع أن أفهمه،
إنه لم يكُن يُحسن السماع أو الرؤية،
ولكن هذه قصة قبيحة.
لقد كانت لديه قصص جميلة، وكان رجلًا آخَر
في حياته الخاصة، دائمًا صعب،
مجامل في حياته الخاصة،
وهو يعتذر لهنري من آنٍ لآخَر
عن قريتين ظالمتين، وكان هذا منه عملًا طيبًا.
لا أدري كيف قام به!
لقد غادر المسرح بسرعة الآن، بلا رحمة،
ولذا لا أستطيع التعبير عما في نفسي، فليبارك فروست
أي إله شادٍ حولنا …
لقد كان لدينا ها هنا وقتًا ما
إنسان غير عادي.

قد نعتقد أن هذه الصورة المحرجة لا يمكن أن تُثير صدًى من التعاطف في أي واحد منا، فالعيوب المنسوبة إلى فروست ليست حتى عيوبًا بطولية وإنما هي عيوب تدل على تفاهة. على أننا لو اعتقدنا ذلك لكنا على خطأ. فالصورة على عكس ذلك، إنسانية، وهي تجعلنا نشعر بأننا نحن بدورنا نعاني من نفس العيوب، ونستسلم لنفس الإغراءات، إن هذه الرذائل، وهذه الرذائل بالذات، هي جزء من إنسانيتنا بقدر ما هي جزء من إنسانية روبرت فروست. وفي نهاية القصيدة يتحدث الشاعر بلهجة ساخرة أكثر منها قاسية، حين يداعب فروست بأنه ليس وحشًا ولا إنسانًا من نوع أعلى من البشر، وإنما هو «إنسان غير عادي» يتسم بنفس الشخصية العادية.

ولكن علينا ألا نتوقف عند الليدي ماكبث وروبرت فروست. فمشاعرنا المتعاطفة لا تكون قد جفَّت بعد أن نكون قد أشفقنا عليها وتسامحنا معه. ذلك لأن الأدب يغوص إلى منابع للمشاعر والفهم أعمق وأشد غموضًا، ففي النهاية تهتز أعماقنا بالشفقة على ماكبث في نكبته المحتومة التي لا تقبل تراجعًا، إلى حدٍّ يفوق إشفاقنا على زوجته المحطمة. ويمكننا أن نحس بنفس الإشفاق ونتعرف في هلع أنفسنا على نفس النحو، في شخصيات كانت كراهية مؤلفيها لها واضحة. فقد كان جون درايدن Dryden يشعر بكراهية عميقة عندما صور أيرل شافتسبري الأول في قصيدته المشهورة، «أبثالوم وأخيطوفل» عام ١٦٨١م:٧
كان أول هؤلاء هو أخيطوفل المخادع،
وهو اسمٌ لعنَتْه كل العصور اللاحقة،
إنه يصلح للتدابير المكتومة والنصائح الملتوية،
وهو ذكي، جريء متقلب العقل،
متردد، لا يثبت على مبدأ أو يستقر في مكان،
لا يكفيه القوة، ولا يصبر على العار،
كان روحًا نارية تسعى إلى شَقِّ طريقها،
فتبلي بذلك الجسم القزم حتى يتآكل،
وتبني لنفسها بيتًا من الطين الهش،
إنه مرشد وقائد جريء بتطرف،
يطرب للخطر، وحين تعلو الأمواج،
كان يسعى وراء العواصف، أما الهدوء فلا يصلح له.
وهو على استعداد لأن يبحر بقرب الرمال إلى حدِّ الخطر لكي يفخر بمواهبه.
والحق أن المواهب الكبرى تقرب من الجنون،
ولا تفصل بين حدوده وحدودها إلا حواجز واهية،
وإلا فلماذا وهو الذي حظي بالثروة وبالمجد
أبى على حياته ساعات الراحة الضرورية؟
ولماذا عاقب جسمًا لم يستطع أن يمتعه،
وأفلس في حياته برغم وفرة الدعة والترف؟
وفي النهاية ترك كل ما كسبه بعنائه وكدِّه
لكائن ذي رجلين، بلا جناحين هو الابن.

في هذه الأبيات نشعر بصراع الحرب بين ازدراء الشاعر وإعجابه الحسود، وينتهي بنا الأمر إلى تجاهل الازدراء لأنه شخصي؛ إذ كان درايدن يبغض الرجل، ولكن ما كان يبغضه في الرجل ليس تلك الصورة، وليس في أساسه تلك الشخصية التي يجعلنا نراها فيه؛ ذلك لأن رذائل الشخصية تطغى على الجسم القزم وتتحول إلى وحش ضخم، وفي هذا الوحش الضخم نتعرف سماتنا الخاصة مكبرة إلى أقصى الحدود.

هذه النقطة أساسية؛ ذلك لأن أشد التجارب الأدبية تأثيرًا في نفوسنا هي تلك التي تجعلنا على وعي بأننا بدورنا، تجتاحنا أمواج الشهوة والتخريب التي تطغى على غيرنا من الناس. ونحن بدورنا نذوق في العذاب الباطن طعم القسوة المريرة الذي نسميه شيئًا لا إنسانيًّا، وإن كان في واقع الأمر إنسانيًّا إلى أبعد حد. إن في داخلنا ما يدفعنا إلى أن نكون قتلة، ونصابين، ومنحرفين، وحثالة الخلق. وقد كان تشارلس ديكنز عندما يقرأ على الملأ يعرب دائمًا عن رغبته في أن يقوم بدور بيل سايكس Bill Sikes ويقتل نانسي، كما أن كوردليا في «الملك لير»، على الرغم من أنها هي البطلة، يشلها اغتراب وجدانها مثلما يشل أي جانح حديث في روايات ألبرتو مورافا. إن كريون عند سوفوكليس وجان أنوي هو نحن، وكاليجولا في التاريخ وعند كامو هو نحن، إنه، لولا رعاية الله، نحن. فالأدب ليس معرضًا أنيقًا للقِطع الثمينة، بل إنه في الأغلب كومة قبيحة من اللصوص والساقطات، من الدكتور فاوست ومدام بوفاري، من فولستاف والسيدة بلوم، لأن توحدنا معهم يحتاج إلى أن يُثار إلى أقصى حد في الانفعال والشفقة وإنا لنجد عطيل وياجو وديدمونة شخصيات تراجيدية، لأنها كلها مليئة بالأخطاء، التي هي أخطاؤنا.
على أنه ليس من الممكن أن يُصاغ الإحساس بالمشاركة الذي هو لب التجربة الشعرية صياغة كلية، إذ لا نستطيع في أيه حالة أن نضع هذا الإحساس على شريط آلي، بل إنه لا يمكن أن يصبح تجربة حيوانية إذا أخذنا في اعتبارنا رأي ديكارت القائل إن الحيوانات تفتقر إلى نوعي الخيال معًا؛ فهي — كما هو واضح — تفتقر إلى الخيال العلمي الذي يُمَكِّنها، مثلًا، من اختراع التيار الكهربي. غير أنها تفتقر أيضًا إلى الخيال الشعري، أي إلى القدرة على الدخول في مشاعر الآخرين من الباطن، تلك القدرة التي تبعث في أوصالنا الرعدة، ومع ذلك تمنعنا بإعطائنا صدمة كهربية، سواء على سبيل الدعابة أو في غرفة التعذيب. إن الحيوانات لا تصنع معسكرات الاعتقال، لأنها تفتقر إلى الذكاء اللازم لذلك بطبيعة الحال. ولكن ينبغي أن نذكر أيضًا أنها لا تشرف عليها. فليس من الصحيح أن هذه المعسكرات كان يديرها وحوش، بل إن الذين كانوا يديرونها بشر. فاللذة شيء ينفرد به الإنسان، شأنها شأن الاختراع، والحيوانات ليست قتلة، وليست قاسية، ولا تدفعها حقارة المركيز دي ساد، وجان جينيه. ولقد كانت هذه هي الفكرة المريرة التي جعلت جوناثان سويفت، الذي كان كل ما يتوق إليه هو أن يكون معقولًا، يفضل جماعة «الهوينم» Houyhnms٨ على جماعة الياهو Yahoos.

٩

لقد لاحظ فلاسفة آخرون، من قبلي، أن الإنسان يفهم الناس الآخرين بصورة أقرب إلى الطابع المباشر مما يفهم نفسه. وقد استحدثوا في أوائل هذا القرن لفظ الانعطاف empathy وعلى الرغم من أن هذا اللفظ قد تبين أنه أعم مما ينبغي، فإنه ينطوي على المعنى الذي أقصده. وفي ذات الوقت على وجه التقريب استخدم ماكس فيبر اللفظ الألماني verstehen (الفهم) للتعبير عن الطريقة التي نفهم بها دوافع الآخرين، ولكن معناه (ومعنى دلتي Dilthey من قبل، وياسبرز Jaspers منذ ذلك الحين) ليس هو المعنى الذي أقصده، لأنه يظل ينظر إلى طريقة الفهم هذه على أنها طريقة علمية، فهو يبحث عن قواعد من أجل الكشف عن مجرى التاريخ الاجتماعي والشخصي مثلما نحاول الكشف عن مجرى الطبيعة.
ولهذا السبب نفسه، لا أستطيع الوقوف عند حد التحليل الذي قام به فريدرش هايك F. Hayek ومن بعده ميخائيل بولانيي M. Polanyi، والذي يذهب إلى أن البشر يفهمون ويطيعون قواعد كثيرة لا يستطيعون التعبير عنها تعبيرًا تامًّا. ذلك لأن هذا التحليل، بالرغم من براعته، ينطبق على العلم بقدر ما ينطبق على السلوك، ومن ثَم فهو لا يقول إلا ما قلته في مقالتي الثانية، وأعني به أن جميع أوصافنا للطبيعة كلها تتضمن هامشًا من انعدام اليقين، فحين نحاول صياغة قاعدة صياغة شكلية، نبحث عن الحقيقة، غير أن ما نهتدي إليه هو المعرفة، وما تحقق في الاهتداء إليه هو اليقين. فهذا التحديد ليست له علاقة خاصة بمعرفة الذات.

إن المعنى الذي نقصده مختلف عن ذلك، ففي رأيي أن لكل إنسانٍ ذاتًا وأنه يوسع ذاته بخبراته، أي إنه يتعلم من الخبرة؛ من خبرات الآخرين، مثلما يتعلم من خبراته الخاصة، ومن خبراتهم الداخلية مثلما يتعلم من خبراتهم الخارجية ولكنه لا يستطيع أن يتعلم من خبراتهم الداخلية إلا بالتغلغل فيها، وهذا أمر لا يمكن القيام به بمجرد قراءة سجل مكتوب عنها، فلا بدَّ أن تكون لدينا الموهبة التي تتيح لنا أن نوحد أنفسنا مع الآخرين وأن نعيش خبرتهم من جديد.

ونشعر بأن ما فيها من صراعات هي صراعاتنا الخاصة. والواقع أن الصراعات هي جوهر الخبرة، فنحن نكتسب معرفة بأنفسنا عن طريق توحيد أنفسنا مع الآخرين، ولكن هذا غير كاف، إذ إن كل ما يؤدي إليه ذلك هو أن يعطينا تخيلات الجنس وأوهام القوة وحماقات أحلام اليقظة التي تقدمها إلينا الأفلام البوليسية وروايات المغامرات. والواقع أن من واجبنا أن نتغلغل في الآخرين لكي نشارك في صراعاتهم، ولا بدَّ أن يتبين لنا وجود صراعات خطيرة في داخلهم، لكي نحس في حياتهم بما نعرفه في حياتنا، وأعني به المعضلة الإنسانية المحيرة، فمعرفة الذات لا يمكن أن تُصاغ صياغة شكلية، لأنها لا يمكن أن تكون مقفلة ومنتهية ولو بصورة مؤقتة، إنها مفتوحة على الدوام، لأن المعضلة المحيرة تظل دوامًا بلا حل.

لهذا السبب كان الشعر دائمًا حافلًا بالأسئلة وهذه الأسئلة ليست بلاغية بقدر ما هي أسئلة يستحيل الإجابة عنها، فسواء تساءل الشاعر:

ماذا عسى أن تكون علتك أيها الفارس المغوار؟

أو:

من هي سلفيا؟ وما هي؟

وسواء تساءل:

من الذي سيكسو رجلي الجميلة بحذاء؟

أو:

ألا تستطيع أن ترعى ذهنًا معتلًّا؟

فسنجد أن الآفاق التي يمتد إليها السؤال عندما نتتبعها آفاق لا قرار لها. ذلك لأن الأسئلة في الشعر لا تطرح بشأن أفعال محددة ولا يمكن البت فيها بنصيحة محددة. ومعرفة الذات التي نتعلمها منها هي مجرد طرح السؤال، الذي لا يكون قد خطر ببالنا في معظم الأحيان … فليس ما يدعو إلى الدهشة هو صورة السؤال، بل كونه سؤالًا، وهذا أمر لا يمكن مواجهته بأي ردٍّ شكلي، فعندما تساءل وليم وردزورث:

أيها العندليب هل أسمِّيك طيرًا؟
أم صوتًا جوابًا؟

لم يكن سؤاله الحائر شديد العمق، وكان يستحق سخرية الدعابة التي تقول:

اذكر البديل الذي تفضله،
مع بيان أسباب اختيارك.
ولكن ما تكشف عند الدعابة الساخرة (التي يرجع مصدرها إلى مجلة «بانش Punch» لا إلى هوسمان  A. E. Housman كما قال البعض) هو أن أسئلة الشعر لا يمكن الإجابة عنها بصيغ أسئلة الامتحانات.

١٠

إن نوع الأدب الذي يتمثل فيه ما أقوله بوضوح كامل هو الدراما، ولهذا السبب اقتبست منها كل هذه الاقتباسات في الدراسة الحالية، فلم تكن المصادفات هي التي جعلت الناس يجدون على خشبة المسرح مغامراتها الضائعة واليائسة في اليونان القديمة، أو التي تجعلنا لا نزال نشعر إزاءها وكأننا نغرق. إن الدراما تدعونا صراحةً إلى أن نتغلغل في حياة الآخرين، وأن نتوحد، لا مع شخصية واحدة، بل مع كل الشخصيات، وأن نشعر في ذاتنا المنفردة بالصراعات التي تفرِّق بينهم وتطغى عليهم. إننا نقوم حتى بتمثيل الأطفال، ونمثل دور أشخاص آخرين، وهو ما تختلف فيه الحيوانات، ذلك لأن الحيوانات أقرب بكثير إلى الطابع المباشر من أن تفعل ذلك، فهي لا تمثل أي دور سوى أنفسها، سواء في اللعب وفي الجد، إنها لا تحاكي بوعيٍ حيوانًا مختلفًا في النوع ولا تستطيع أن تتخيل ما نوع الإحساس الذي تحس به إذا تغلغلت فيه.

هذا هو البُعد الإنساني الباطن الذي تفتقر إليه طقوس الحيوانات، فالحيوانات تسلك فعلًا بطرق غير عملية وشعائرية، فالطائر الغطاس ذو العرف الكبير يدعو وليفته إلى التعاون بأن يقدِّم إليها (كما تقدم هي إليه) قطعًا من العشب، كما أن السرطان الطنان يقوم بعملية تمثيل صامت يضرب فيها مخلب خصمه بمخلبه المزخرف، ويختبئ أيامًا إذا شعر بأنه انهزم. وأيًّا كان الهدف العملي الذي كان لهذه الحركات من قبل، فلا بدَّ أنه اختفى منذ وقت طويل، وأصبح تأثيرها الحالي رمزيًّا؛ أي إنها تضفي ما يمكن أن يُعد تماسكًا نفسيًّا على مجموعة من الحيوانات، وبذلك تجعل من هذه المجموعة مجتمعًا. ومع ذلك فليس في هذه الأفعال الشعائرية ما يجعلها مشابهة للمسرح اليوناني، فبرغم غرابتها وسحرها، تظل مع ذلك وسيلة شكلية للاتصال. وهي إشارة تعبر عن قصد حيوان بالنسبة إلى حيوان آخر، وتتضمن دعوة إلى الموافقة، ولكنها لا تتضمن دعوة إلى التوحد.

أما الدراما، من حيث هي شعائر إنسانية فتكسر نطاق هذا التحديد. ذلك بأن الممثل شخص ينبغي أن يضع نفسه في جلد شخص آخر، حتى لو كان الشخص الآخر امرأة شابة، كما هو الحال في المسرح الإليزابيثي. وليس يكفي أن يحاكي حركات الشخص الآخر ويتحرك جسميًّا مثلها، فمثل هذه البراعة الآلية يمكن تعويد آلة عليها، كما أنها تتمثل في ألعاب صغار الحيوانات. فالقط الصغير الذي يدفع بمخلبه كرة من الصوف، والجرو الذي يصارع جروًا آخر، يجربان القيام بحركات لم يتحكما فيها بعد. وعن طريق هذه المحاولات يكتسبان بالتدريج مهارتهما المقبلة: فهما يتطلعان إلى مرحلة النضج. وإنَّا لنجد في حركات الطفل الذي يقوم بالتمثيل بعض الشبه بهذه الحركات البديعة غير المتقنة، ففيها الدافع الذي يحفز القط الصغير إلى أن يصبح قطًّا ناضجًا. والإحساس المضحك بالعجز عن المحاكاة الدقيقة. غير أن هذا ليس إلا نصف ما يقوم به الطفل وهو يلعب. والنصف الثاني هو أنه يندمج بفكره وبإحساسه في الرجل، وإذا أخفق في إقناعنا بذلك، فإن إخفاقه لا يكون إلا في هذا الإقناع.

إن الممثلة الشابة قد تمثل جميع حركات سيدة عجوز، ومع ذلك فإنها تخفق في تمثيل دور العجوز، لأنها لا تستطيع أن تندمج بتفكيرها في هذه التجربة، ما دامت لا تتصور المواقف التي تمر بها عجوز، وعلى العكس من ذلك فإن «سارا برنار»، قامت في شيخوختها بتمثيل دور فتاة صغيرة مدلهة بالحب، ويقال إنها مثلت الدور بطريقة مؤثرة إلى أبعد حد. ومن الجائز أن تمثيلها كان أفضل مما تستطيع فتاة صغيرة أن تقوم به، وبعاطفة مفرطة لا تلائم الدور، ولكنها كانت ملائمة في نظر المشاهدين؛ لأنهم بدورهم كان لديهم في وقتٍ ما آمال في الحب تتجاوز ما تحقق بالفعل.

إن الآلات لا تمثل مسرحيات، والحيوانات لا تزعم أنها حيوانات أخرى، فهي لا تعرف كيف تكون كذلك. فالشيء الذي لا تستطيع أية وسيلة يمكننا حتى الآن التنبؤ بها، أن تصبغه بالصبغة الآلية، حتى من حيث المبدأ هو قدرتنا على توحيد أنفسنا بالعالم الباطن للآخرين. إننا نعرف ما يشعر به الإنسان حين يكون غاضبًا، لأننا كنا نحن أنفسنا غاضبين، وكذلك نعرف الإحساس بالرقة، والخوف، وحب الاستطلاع والقسوة، والمتعة. ولقد عرف شكسبير كيف تشعر الزوجة بالهستيريا على الرغم من أنه لم يعرف كيف يرى الإنسان الألوان. وعرف تشارلس دارون كيف تشعر زوجته لو أحرجها. وإذا لم يكن الشعور بالارتياح مَلَكة كالإبصار، فإن الشعور بالحرج ليس عيبًا كعمى الألوان، بل هو أقرب إلى الهستيريا. وليذكر القارئ ما قلته في الدراسة الأولى عن المنديل، وعن الحرج الذي تشعر به زوجتي من طريقة استعماله: ففي هذا المثل كنت أثير في أذهاننا صورة المشاعر المتصارعة فيها، وقد أصبح ذلك أمرًا مفهومًا في نظرنا لأننا قد شاركنا جميعًا في مشاعرها المتصارعة هذه.

هذا الضرب من المعرفة لا يمكن إخضاعه لصياغة شكلية، فليس في وسعنا أن نصنع شريطًا من هذه التجربة، يحمل معه في الوقت ذاته إحساسنا بأننا نعرف نوع التجربة. أما في العلم، فإن وصف ملاحظة علمية — أعني حركة لكوكب الزهرة مثلًا — يمكن أن يحل محل التجربة فالوصف — المسجل على شريط — هو ذات التجربة، وذلك في حدود هامش من الاختلاف متفق عليه، سواء بالنسبة إلى الكاتب أم إلى القارئ. وبطبيعة الحال فأنا لا أعني بالتجربة هنا، تجربة الكشف، إذ إن لحظة الخلق هذه لا يمكن أن تُصاغ شكليًّا بأية لغة، وإنما أعني تجربة ملاحظة الطبيعة، غير أننا لا نستطيع أن نلاحظ الناس ونقدِّم وصفًا لملاحظتنا مثلما نفعل في حالة ملاحظتنا للطبيعة. ذلك لأن القصيدة والمسرحية لا تصبح هي التجربة إلا بقدر ما نوحد أنفسنا بها ونشعر بمذاقها، والأمر المميز للأدب هو أنه لا يمكن أن يُفهم إلا إذا فهمنا معنى كون المرء إنسانًا.

١١

ولا شك أنني سأكون قد انحرفت بفكرتي عن طريقها لو أنني أنهيت هذه الدراسة باللهجة الظافرة لعالم بيولوجي اكتشف الفرق بين الرجال والنساء، فالرجال والنساء يختلفون حقًّا، ولكن التشابه بينهما أقوى بكثير من الاختلاف، ذلك لأن ما يجعلهما مختلفين هو التعبير عنهما في الفعل العلمي. أما ما يجعلهما متشابهين فهو الأصل الذي يرجعان إليه في الخيال، وليس الاتفاق في أصلهما بالأمر العرضي، ذلك لأن العلم والأدب، والعلم والفن، يرتبطان بوصفهما أنصافًا متوافقة يتألف منها ما هو فريد في التجربة البشرية.

ولقد أطلقت على المَلَكة الفريدة التي يبدآن معًا بها اسم الخيال، أي تلك المَلَكة الإنسانية التي تجعل الذهن يتعامل مع صور للأشياء ليست ماثلة للحواس. وفي اللغة يوجد أكبر حشد من الصور التي نخلقها، وأقوى طريقة نملكها لاستخدام هذه الصور. ذلك لأن اللغة البشرية ليست مقتصرة على الاتصال، كما هي الحال في لغة الحيوانات فلغة الحيوانات قوامها إشارات قد يصل إلى أربعين صوتًا وحركةً لتوجيه الفعل أو الانتباه (بما في ذلك الانتباه لانفعالات من تصدر عنه الإشارة) أما موهبة الإنسان فتكمن في أنه يملك لغةً ثانيةً يتخاطب فيها الإنسان مع ذاته.

بهذه اللغة الفكرية نتناقش ونزن الأمور، وننقب في أذهاننا ونجد في رءوسنا التشبيهات التي تُضفي حياة على نظرتنا إلى الطبيعة وإلى أنفسنا. وحين يُخلق إنسان جديد، فإن جزءًا كبيرًا من مخه يُخصَّص لتخزين المفهومات في هذه اللغة وتداولها. ولقد تحدث «وايلدر بنفلد Wilder Penfield» عن نفاد صبر رجل وضع في مخه قطب كهربي (إلكترود)، ووجد أنه يمنعه من قول كلمة «فراشة» حين كانت تُعرض عليه فراشة. فأخذ يطرقع بأصابعه يأسًا وعندما قطع التيار شرح السبب فقد حاول أن يقول: «حشرة طائرة» على سبيل الخروج من المأزق، ولكنه لم يستطع الاهتداء إلى هذه الكلمة بدورها. والواقع أن بحثنا داخل أنفسنا عن أمثال هذه التشابهات هو الموهبة الخلاقة التي يتحكم بواسطتها الإنسان في القوى الكامنة في الطبيعة وفي نفسه.

وفي رأيي أن هذه العمليات التخيلية هي قوام تلك الحالة العامة التي نسميها بالوعي. وحين أقول ذلك، فإني أُنكر وجود وعي كامل لدى أي حيوان آخَر عدا الإنسان. ويبدو لي أنني في هذا على حق، إذ لا يوجد حيوان آخر قادر على أن يرسم حدًّا واضحًا بينه وبين بيئته. فذاكرة الحيوان أقصر، وعاداته أقوى من أن تجعله يميز على نحو قاطع بين ما يفعله وما يحدث له. وبهذا المعنى يكون هناك أساس للقول إن الإنسان وحده هو الذي يملك وعيًا كاملًا بذاته.

إن الوعي ليس إحساسًا بالذات فحسب، بل إنه يقتضي أيضًا أن نعرف أين ننتهي نحن وأين تبدأ البيئة المحيطة، ولهذا السبب كان الوعي هو منبع فهمنا للطبيعة مثلما هو منبع فهمنا لأنفسنا. بل إننا نكتسب أوضح جوانب معرفتنا لأنفسنا من فهم تجارب الناس الآخرين، الذين هم جزءٌ من البيئة المحيطة بنا، وليسوا جزءًا من أنفسنا. وربما قيل إنه لو لم يكن هناك أناس آخرون، وكانت تجربة الإنسان تنمو من خلال اتصاله بالأحجار والنجوم فحسب (دون عمل حساب الصبار والجمل) فربما ظل الإنسان آلة، ولا يكون له وعي. غير أن هذا تخيل لا جدوى منه، فالبيئة التي تحيط بنا منذ الطفولة تشمل بالفعل أناسًا آخرين، وحيث لا تشتمل عليهم يكون وعينا هزيلًا بحق.

كذلك لا يكفي أن يقتصر الوعي على الحاضر. بل إن ما يجعل الحيوانات تصطبغ بالطابع اللاشخصي هو أنها لا تستطيع أن تعود أية مسافة إلى الوراء في ماضيها، فليس لديها العادة لتقوم بعمل الذاكرة، أما الإنسان، فلكي يكون على وعي بما هو عليه الآن، ينبغي أن يحمل في ذهنه ما كان عليه في الماضي، وبالتالي ينبغي أن يتذكر أيضًا ما لم يكن عليه؛ أي ما كانت عليه بيئته. وينبغي أن يكون قادرًا على تذكر ما لا يعود يراه، وتلك هي الخطورة الحاسمة التي يتخذها الرضيع، ويتحول بها — إن جاز التعبير — من جرو صغير إلى طفل. ففي حوالي الشهر السادس من العمر، يتجاوز التحدد الذي يتصف به الحيوان، وأعني به: «ما غاب عن العين غاب عن العقل.»

ويهتدي إلى صيغة الذاكرة البشرية: الغياب يزيد القلب هيامًا.

فالذاكرة هي التي تعطينا القدرة على التطلع إلى المستقبل، وذلك إذ نُدفع إلى المستقبل بتلك الصور التي كوَّناها في الماضي. لذلك فإن الوعي الكامل ينظر في الاتجاهين، وفي رأيي أن أهم النظرتين هي تلك التي تتطلع إلى المستقبل. صحيح أن كل العمليات البيولوجية موجَّهة إلى المستقبل، غير أن الإنسان يتميز بأن توجهه واعٍ، وبأن وعيه يشتمل على المستقبل.

إنني أسلِّم بأن هذه ليست هي النظرة المألوفة إلى الوعي ومع ذلك فهي تبدو لي نظرة لا مفرَّ منها، فالإنسان على وعي بأنه مختلف عن بيئته، ولكن الأهم من ذلك وعيه بأنه حي، وهذا الشعور ينقله من الماضي إلى المستقبل. ووعي الإنسان يعني أنه يعرف ويتخيل في آنٍ واحد. ومن هذا المنبع العميق تنبثق إنسانيتنا، فعندما نتخيل الطبيعة خارج أنفسنا ممتدة في المستقبل؛ نخلق ذلك الضرب من المعرفة المسمَّى بالعلم. وعندما نتخيل أنفسنا ونحن نعيش في المستقبل نخلق ضربًا أخَر من المعرفة، هو معرفة الذات، وهذان هما النصفان المتلازمان اللذان تقرر بهما وحدة الإنسان.

١  يُلاحظ أن القصيدة في أصلها الإنجليزي لا تتضمن التأنيث بل إن صيغة الأمر في اللغة الإنجليزية يمكن أن تكون موجهة إلى المذكر أو المؤنث على حدٍّ سواء. وهذا يساعد الشاعر لأنه يعطي القصيدة طابعًا عامًّا، ويجعل كلامه موجهًا إلى القارئ مثلما هو موجه إلى النجمة السابقة التي قابلها، غير أننا اضطررنا في ترجمتها إلى استخدام صيغة المؤنث لأن القصيدة تتعلق بنجمة كانت مشهورة في الماضي وأخنى عليها الدهر. (المترجم)
٢  لا بأس من استخدام بعض التعبيرات العامية في مقطوعة هزلية كهذه. (المترجم)
٣  المقصود هنا هو «القافية pun» بالمعنى العامي المصري، وهي شكل مألوف من أشكال النكتة الساخرة المعتمدة على اللفظ. (المترجم)
٤  العبارة الأصلية هي The king is no subject والتلاعب بالألفاظ هنا على كلمة subject التي تعني «رعية» أو مواطنًا عاديًّا، كما تعني «موضوعًا». (المترجم)
٥  يلاحظ التلاعب اللفظي بين كلمتي fool واسم الشخص الذي يخاطبه الملك fool وبين كلمة bitter بمعنى مرير الطعم ومتهور.
٦  يلاحظ تعدد معاني كلمة crown وتعني التاج، وعملة إنجليزية، وقشرة البيضة.
٧  في العهد القديم كان أبشالوم ثالث أبناء داود، قد قتل أخاه أمنون، ثم عفا عنه أبوه ولكن طموحه لم يقف عند حد؛ فأخذ يدبِّر لثورة ضد أبيه. ووطد مركزه في الخليل، حتى اضطر أبوه إلى الهرب مؤقتًا، وكان أخيطوفل يساعده في التدبير، غير أن صديقًا لداود أغرى أبشالوم بتجاهل زميله أخيطوفل، وعندما عرف هذا الأخير أن نصيحته ذهبت أدراج الرياح شنق نفسه. وقد هُزم أبشالوم بعد ذلك وقُتل، وعُلقت جثته من شعره على الأشجار، وقد رثاه أبوه رثاءً مشهورًا. (المترجم)
٨  في الجزء الأخير من أسفار جليفر Gulliver’s Travels يتحدث سويفت عن أرض الهوينم، وهم فصيلة من الخيل لا يحكمها إلَّا العقل، وفي هذا الجزء حملة شعواء على الإنسان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤