الأديب يركب زورقًا في الجنة

حدَّث الأديب الثقة قال:

ثم أجلت بصري حواليَّ فوجدت في أقرب النهرين إلينا زورقًا جميلًا ألَّاقًا يتلألأ تلألؤ النجم الساطع، والكوكب اللامع، وقد قام على جاليه الولدان المخلدون،١ وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون،٢ فسمتَ نبي الله الخضر سمته، فتبعته، ثم نزل فنزلت، فتلقانا الولدان باشين بنا هاشين، فرحين مستبشرين، وما كدنا نضع أقدامنا في الزورق حتى أقلع وتقاذف بنا في النهر وانساب انسياب الحباب، ومضى مضي العقاب، وصار يطوي النهر طي السجل للكتاب:٣
تَرَى الحَرَكَاتِ مِنْهُ بِلَا سُكُونٍ
فَتَحْسَبُهَا «لِسُرْعَتِهِ» سُكُونَا
كَسَيرِ «الأَرْضِ» لَيْسَ بِمُسْتَقِرٍّ
وَلَيْسَ بِمُمْكِنٍ أَنْ يَسْتَبِينَا
أما الزورق فمن الذهب الوهاج الضحيان،٤ المسمر بالماس والياقوت والمرجان، أما شراعه فمن الخز الأدكن،٥ وحبالها من الدمقس المفتل،٦ وأما دوقله فمن اللجين،٧ وسكانه فمن الذهب العين،٨ وما أجمل المُردي في يد النوتي،٩ وقد فرش الزورق بزرابي مبثوثة من إستبرق، ونمارق مصفوفة من سندس أخضر وديباج أزرق.١٠
بُسْطٌ أَجَادَ الرَّسْمَ صَانِعُهَا
وَزَهَا عَلَيْهَا النَّقْشُ وَالشَّكْلُ
فَيَكَادُ يُقْطفُ مِنْ أَزَاهِرِهَا
وَيَكَادُ يَسْقُطُ فَوْقَهَا النَّحْلُ
وأنت فإذا أنعمت فيه النظر، وهو يشق طائرًا عباب النهر، وحواليه زوارق أخرى تسابقه، ولكنها لا تكاد تلحقه، حسبت طواويس أبرزت رقابها، ونشرت أجنحتها وأذنابها، وكأنها إذا جدت في اللحاق، وتنافست في السباق نوافر نعام، أو حوافل أنعام، وويلي من الولدان وهم يجدفون بمجاديف من الجمان، رءوسها من العقيان،١١ كأنها طير تنفض خوافيها،١٢ أو حبائب تعانق حبائب بأيديها، في ماء جاش آذيه١٣ وهو أصفى من البلور، وأبيض من الفضة، وأحلى من الشهد:
هُوَ الجَوُّ مِنْ رِقَّةٍ غَيْرَ أَنَّ
مَكَانَ الطُّيُورِ يَطِيرُ السَّمَكْ
طينه المسك الأذفر،١٤ ورضراضه الدر الأبيض والياقوت الأحمر،١٥ وحفافاه قباب اللؤلؤ المجوف المقمر،١٦ تطل عليه القصور المشيدة المبنية من صنوف الجوهر، تحفها الرياض الضواحك التي تستوقف فيها حدقُ الأزاهر، حدقَ النواظر:
الأَنْفُ وَالطَّرْفُ فِيهَا يَسْرَحَانِ مَعًا
فِي مَبْسَمٍ أَرِجٍ أَوْ مَنْظَرٍ قَشِبِ

•••

وَالمَاءُ يَفْصِلُ بَيْنَ زَهْرِ الرَّوْ
ضِ فِي الشَّطَّيْنِ فَصْلَا
كَبِسَاطِ وَشْيٍ جَرَّدَتْ
أَيْدِي القِيَانِ عَلَيْه نَصْلَا

وأفانين الطير بالنهر محدقة، وغرائبها بالغصون معلقة، متغايرة الألوان والصفات، متنوعة الأصوات واللغات:

وُرْقٌ تُغَنَّى عَلَى خُضْرٍ مُهَدَّلَةٍ
تَسْمُو بِهَا وَتَمَسُّ الأَرْضَ أَحْيَانَا
تَخَالُ طَائِرَهَا نَشْوَانَ مِنْ طَرَبٍ
وَالغُصْنَ مِنْ هَزِّهِ عِطْفَيْهِ نَشْوَانَا

وتنظر فترى أسراب الإوز والبط، منثورة في الماء والشط:

وَكَأَنَّ الطُّيُورَ إِذْ وَرَدَتْهُ
مِنْ صَفَاءٍ بِهِ تَزُقُّ فِرَاخَا١٧

وأقاطيع الظباء والبقر، تطفو وترتع على حفافي النهر:

مَا إِنْ يَزَالُ عَلَيْهِ ظَبْيٌ كَارِعٌ
كَتَطَلُّعِ الحَسْنَاءِ فِي المِرْآةِ
والسمك يعوم بعضه في الماء، وبعضه ينزو١٨ في الفضاء:
يَعُمْنَ فِيهِ بِأَوْسَاطٍ مُجَنَّحَةٍ
كَالطَّيْرِ تَنْفُضُ فِي جَوٍّ خَوَافِيهَا

وما زلت في هذه النزهة الفردوسية التي يقصر عنها وصف الواصف حتى رسا بنا الزورق على قصر منيف بهيج، في روض مغنٍّ ضاحك عبق الأريج، يختال حسنًا ونضارة، ويُزهى رواء وغضارة:

أَتَاكَ الرَّبِيعُ الطَّلْقُ يَخْتَالُ ضَاحِكًا
مِنَ الحُسْنِ حَتَّى كَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَا

فنظر إليَّ نبي الله الخضر باسمًا، وقال: أتدري لمن هذا القصر؟ هذا قصر أحب الناس إليك، هذا قصر أستاذك في الدنيا «الشيخ محمد عبده»، وإني آنس منك التوق إلى لقائه، فهلم وسأفارقك إلى حين.

•••

حدَّث الأديب الثقة قال:

وما كدت أزايل الزورق وأضع قدمي في الشاطئ حتى تلقاني الولدان المخلدون، يترقرق في وجوههم ماء النعيم النضر، وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، يختلن في ثياب من سندس خضر، ثم أطافوا بي كما يطيف ولدان أهل الدنيا بالحميم يقدم من غيبته، ثم مشوا بي على رود ومهل١٩ في بستان مشرق مونق تزدهر أزهاره، وتشتجر أشجاره، وتستأسد نجومه،٢٠ ويُجنُّ جميمه،٢١ وتغرد أطياره، وتجري أنهاره، ثم استشرفت فآنست — على غلوة سهم منا وفي بهرة البستان٢٢ — خيمة من اللؤلؤ المجوف أطنابها من الزبرجد، وأوتادها من الياقوت الأحمر، حتى إذا وصل الولدان إلى الخيمة أشاروا إليَّ بالدخول، فرميت ببصري فرأيت ثلة من خيرة المصريين٢٣ جالسين كجُمَّاع الثريا على سرر متقابلين:٢٤
بِيضُ الوُجُوهِ كَرِيمَةٌ أَحْسَابُهُمْ
شُمُّ الأُنُوفِ مِنَ الطِّرَازِ الأَوَّلِ

وممن عرفت منهم: الشيخ محمد عبده، والشيخ حسن الطويل، ومصطفى كامل، ومحمد فريد، وقاسم أمين، وأحمد فتحي زغلول، ومحمود سامي البارودي، وإسماعيل صبري، وإبراهيم المويلحي، وحفني ناصف، وحسن جلال، وحمزة فتح الله، وملك ناصف (باحثة البادية)، وعبده الحامولي، وسلامة حجازي، وإمام العبد، فسلمت فردوا عليَّ السلام، وكأني بهم وقد عرفوني، فأقبلوا عليَّ يصافحونني ويعانقونني أحر عناق، وأشرقت وجوههم على إشراقها أيما إشراق، ونظرت فرأيت الملائكة يدخلون عليهم من كل باب: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، كلوا واشربوا هنيئًا بما كنتم تعملون …

وبعد أن اطمأن بنا المجلس دخل علينا سرب من الحور العين، يحمل بعضهن أطباقًا من الذهب فيها من فاكهة الجنة ألوان، وبعض يحملن الورود والرياحين، وأخريات يشتلن ألوانًا من الكئوس والأباريق والدنان.٢٥
وَشَرَابًا أَلَذَّ مِنْ نَظَرِ المَعْـ
ـشُوقِ فِي وَجْهِ العَاشِقِ بِابْتِسَام
لَا غَلِيظًا تَنْبُو الطَّبِيعَةُ عَنْهُ
نَبْوَةَ السَّمْعِ عَنْ شَنِيعِ الكَلَام

•••

مِنْ سُلَافٍ كَأَنَّهَا كُلُّ شَيْءٍ
يَتَمَنَّى مُخَيَّرٌ أَنْ يَكُونَا
أَكَلَ الدَّهْرُ مَا تَجَسَّمَ مِنْهَا
وَتَبَقَّى لُبَابُهَا المَكْنُونَا
فَإِذَا مَا لَمَسْتَهَا فَهَبَاءٌ
تَمْنَعُ اللَّمْسَ مَا تُبِيحُ العُيُونَا
فِي كئُوسٍ كَأَنَّهُنَّ نُجُومٌ
جَارِيَاتٌ بُرُوجُهَا أَيْدِينَا

•••

تُعَاطِيكَهَا كَفٌّ كَأَنَّ بَنَانَهَا
إِذَا اعْتَرَضَتْهَا العَيْنُ كَفُّ مَدَارِ

•••

حَوْرَاءَ إِنْ نَظَرَتْ إِلَيْـ
ـكَ سَقَتْكَ بِالعَيْنَيْنِ خَمْرَا

•••

فِي مَجْلِسٍ ضَحِكَ السُّرُرُ بِهِ
عَنْ نَاجِذَيْهِ وَحَلَّتِ الخَمْرُ
فتفكهنا جميعًا بفاكهة الجنة، وتشممنا الورود والأزاهر والرياحين، ثم طِيف علينا بالراح، وأُديرت بيننا الكئوس وكلنا عُرض عليه الشراب، وكلنا شرب ما عدا إمام العبد، فانتهزت فرصة تشاغل الإخوان بالتفكه والشراب، وحرمان إمام من العُقار،٢٦ فاختلست الحديث إليه اختلاس النسيم لنفحة الأزهار، واستلبته استلاب الشمس لرضاب طل الأسحار،٢٧ وألقمته أذني فصب فيها حديثًا لم نشعر معه بوقت؛ إذ كان أوحى٢٨ من ومضة برق، وقد مر دون أن يلتفت إليه الإخوان؛ إذ كل شيء في دار السلام غيره في دار الأحزان، قلت له بصوت خافت أريد مداعبته: لعل السبب يا إمام، من حرمانك المدام، أنك كنت في الدنيا من السودان، لا من البيضان، وهل يستوي الليل والنهار، أم هل تستوي الظلمات والأنوار؟! فافتر إمام وأومض٢٩ حتى تبدت نواجذه، ثم ضحك ضحكته العالية، المعروفة عنه في الدار الفانية، وكانت وحدها لتفجير ينابيع الضحك في صدور جلاسه كافية، ثم قال: لقد أدمنت يا أخي شرب الخمر في الحياة الدنيا، وما زلت أعاقرها حتى صرعتني وأثأرت مني، فهل تشرئب أطماعي إلى أن أحظى بها في الآجلة، بعد أن نلت منها هذا النيل في العاجلة؟ أما يكفيني أني دخلت الجنة التي أُعدت للمتقين، وأني أستمتع الآن بمائة حوراء؛ لأن سوادي في الدنيا حال بيني وبين كل بيضاء، وأنا القائل لذلك فيها:
أَنَا لَيْلٌ وَكُلُّ حَسْنَاءَ شَمْسٌ
فَاجْتِمَاعِي بِهَا مِنَ المُسْتَحِيلِ

والقائل:

وَسَوْدَاءَ كَاللَّيْلِ البَهِيمِ عَشِقْتُهَا
لِأَجْمَعَ بَيْنَ الحَظِّ وَاللَّيْلِ فِي عَيْنِي
إِذَا ضَمَّنَا لَيْلٌ تَبَسَّمَ ثَغْرُهَا
فَلَوْلَا سَنَاهَا بِتُّ فِي جُنْحِ لَيْلَيْنِ٣٠

قلت له: وبماذا دخلت الجنة يا إمام؟ قال: بإضحاكي في الدنيا الأنام. قلت: وهل الضحك يُدخل صاحبه جنة النعيم؟! قال: وهل الضحك إلا آية حسن الظن بالله الغفور الرحيم، ولقد غفر الله لأبي نواس — وهو مَن تعلم — إذ أحسن ظنه بربه، فقال:

تَبَسَّطْنَا عَلَى الآثَامِ لَمَّا
رَأَيْنَا العَفْوَ مِنْ ثَمَرِ الذُّنُوبِ

ويقول:

تَكَثَّرْ مَا اسْتَطَعْتَ مِنَ الخَطَايَا
فَإِنَّكَ بَالِغٌ رَبًّا غَفُورَا
سَتُبْصِرُ إِنْ وَرَدْتَ عَلَيْهِ عَفْوًا
وَتَلْقَى سَيِّدًا مَلِكًا كَبِيرَا
تَعَضُّ نَدَامَةً كَفَّيْكَ مِمَّا
تَرَكْتَ مَخَافَةَ النَّارِ السُّرُورَا
ثم قال إمام: ولقد كنت أنا الآخر حسن الظن بالله؛ إذ كنت في الدنيا كما تعلم رجلًا مفلوكًا محدودًا محَارفًا جدب المعيشة مقتَّرًا عليَّ في الرزق،٣١ أُرمِّق العيشَ على بَرْض، حتى لكأني كنت أستقطره من أَخْرات الإبر،٣٢ وكأن القضاء أحرق سفائني دون الغنى والثراء، ولقد قلت وأنا في دار الهموم:
خُلِقْتُ بَيْنَ أُنَاسٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ
فَبَاعَنِي الدِّينُ لِلدُّنْيَا بِلَا ثَمَنِ
لَوْلَا بَقِيَّةُ دِينٍ أَمْسَكَتْ قَلَمِي
لَقُلْتُ إِنَّ إِلَهَ الخَلْقِ لَمْ يَرَنِي٣٣

وأنت تعلم:

أَنَّ الثَّرَاءَ هُوَ الخُلُودُ وَأَنَّ
المَرْءَ يَكْرُبُ يَوْمَهُ العُدْمُ

ولكني على ذلك كنت عند قول شاعر الدنيا شوقي:

فَإِنَّ السَّعَادَةَ غَيْرُ الظُّهُورِ
وَغَيْرُ الثَّرَاءِ وَغَيْرُ التَّرَفْ
وَلَكِنَّهَا فِي نَوَاحِي الضَّمِيرِ
إِذَا هُوَ بِاللُّؤْمِ لَمْ يُكْتَنفْ
وكنت لا أهلع ولا أستوهل٣٤ لأي مكروه دعاني الله به ونزل بساحتي، وكنت كلما مسني الضر وهر عليَّ الزمان٣٥ ازددت تيهًا على الدهر، وسخرًا من الأيام، فكان لسان حالي ما يقول ابن دريد:
لَا تَحْسَبَنْ يَا دَهْرُ أَنِّي ضَارِعٌ
لِنَكْبَةٍ تَعْرُقُنِي عَرْقَ المُدَى٣٦
مَارَسَتَ مَنْ لَوْ هَوَتِ الأَفْلَاكُ مِنْ
جَوَانِبِ الجَوِّ عَلَيْهِ مَا شَكَا
هذا إلى أني نظرت فرأيت أنه ما من إنسان، في دار الأحزان، إلا وهو آخذ من لأوائها بنصيب،٣٧ فكل مَن فيها لذلك بحاجة، أي حاجة، إلى مَن يروح عنه ويهون عليه … وكأن الأقدار الرحيمة التي أبت لحكمة بالغة إلا أن تجعل بجانب الخير شرًّا، والنفع ضرًّا، والحلو مرًّا، أنشأت أمثالي ليقوموا بمداواة النفوس، وتخفيف ما يئودها من هم وبوس،٣٨ ولا دواء إلا الدعابة والمجون والضحك.
إِنَّمَا لِلنَّاسِ مِنَّا
حُسْنُ خُلْقٍ وَمِزَاحْ
وَلَنَا مَا كَانَ فِينَا
مِنْ فَسَادٍ وَصَلَاحْ
قال إمام: على أن في الضحك معنى غريبًا من غير هذه البابة٣٩ وقفت في الدنيا على مستسرة،٤٠ ذلك أن الضحك سر من الأسرار الكبار، التي تبعث على الإجلال والإكبار، فقد كنت في الدنيا متى أحسست من أناس شموخًا وكبرياء وإزراء بي وإعراضًا عني، فانبعثتُ ضاحكًا كأنني أُنكرهم ولا أكترث لهم ولا أعبأ بهم، كأن لم يكونوا شيئًا، لا يلبثون أن تستقيم أخادعهم،٤١ ويطأطئوا من كبريائهم … وكنت كلما استغربت في الضحك واستغرقت — على شريطة أن أكون صادقًا لا يُرى عليَّ أدنى تعمُّل — تحاقرت إليهم نفوسهم، وامتلأت بي عيونهم، وانبسطوا إليَّ، وأقبلوا بنشاطهم عليَّ، وهلم حتى أطولهم وأركب يافوخهم وأستولي على الأمد … فعليك في دار النفاق بالضحك؛ فإنه أمضى سلاح تنتضيه كلما أنست ممن حولك شيئًا من الزهو والعجرفة … ولذلك سبب: هو أن الضحك عنوان الهناءة والسعادة، فإذا ضحكت بكل قلبك كان هذا الضحك منبهة للناس على جليل خطرك ورفعة شأنك، فتراهم بعد أن كانوا يرحمونك، يحسدونك، وبعد أن كانوا يحقرونك، يكبرونك:
إِذَا شِئْتَ أَنْ تَلَقَى الأنَامَ مُعَظَّمًا
فَلَا تَلْقَهُمْ إِلَّا وَأَنْتَ سَعِيدُ

وسبب آخر: هو أن الضحك دليل الثقة بالنفس والاعتداد بها والإدلال بقيمتها، فإذا ضحكت فإنما ذلك لأنك بنفسك وثقت، ولا شيء يبعث على تعظيم قدرك مثل ثقتك بنفسك، وعلى العكس من ذلك كله: الإطراق والاكتئاب.

قال الأديب: وكذلك كان إمام، فقد كان دائمًا طلق المحيا، ضاحك السن، ظريف المحاضرة، بديع النادرة، فكه الأخلاق، خفة روح الزمان، تَرَاح له القلوب، ويمازج الأرواح، وتشربه الضمائر. وإذا صح أن للضحك أمة، فقد كان إمام نبي أمة الضحك، وكانت معجزته أنه ما من إنسان، كان ما كان، من الخشونة والوقار، والعبوس والاكفهرار، والإطراق والانقباض، والحزن والارتماض، ثم رأى إمامًا، قبل أن يتدفق كلامًا، إلا سَرى عنه الهم، وتبسم قلبه قبل الفم، ناهيك بعد ذلك بمجونه وطرفه، ونوادره ومُلحه، التي كانت تفعل بسامعيها فعل الراح بشاربيها، وإنها لنعمة من نعم الله الكبرى أن وُجد في عصرنا مثل إمام …

أَبُو عَلِيٍّ أَخْلَاقُهُ زَهْرٌ
غِبَّ سَمَاءٍ وَرُوحُهُ قُدْسُ
يَشْتَاقُهُ مِنْ جَمَالِهِ غَدُهُ
وَيُكْثِرُ الوَجْدَ نَحْوَهُ الأَمْسُ
أَيَّامُنَا فِي ظِلَالِهِ أَبَدًا
فَصْلُ رَبِيعٍ وَدَهْرُنَا عُرْسُ
لَا كَأُنَاسٍ قَدْ أَصْبَحُوا صَدَأَ الـ
ـعَيْشِ كَأَنَّ الدَّهْرَ بِهِمْ حَبْسُ

ثم قال إمام: أما السواد الذي حسبته عابًا، وساء مآبًا، فأين أنت من قول الله جل شأنه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، ومما ورد في الأثر: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم»، وبديع ما قال ابن عمي سحيم:

إِنْ كُنْتُ عَبْدًا فَنَفْسِي حُرَّةٌ كَرَمًا
أَوْ أَسْوَدَ اللَّوْنِ إِنِّي أَبْيَضُ الخُلُقِ

وأبو الطيب إذ يقول:

إِنَّمَا الجِلْدُ مَلْبَسٌ وَابْيضَاضُ الخُلْـ
ـقِ خَيْرٌ مِنِ ابْيِضَاضِ القَبَاءِ

وأظنك لا تجهل قصيدة رياح بن سنيح الزنجي، مولى بني ناجية التي ذكر فيها أكثر من ولدته الزنج من أشراف العرب، يجيب بها جريرًا حين قال جرير:

لَا تَطْلُبَنَّ خُئُولَةً فِي تَغْلِبٍ
فَالزِّنْجُ أَكْرَمُ مِنْهُمُ أَخْوَالَا

فتحرك رياح وقال هذه القصيدة، وفيها يقول:

وَالزِّنْجُ لَوْ لَاقَيْتَهُمْ فِي صَفِّهِمْ
لَاقَيْتَ ثَمَّ جَحَاجِحًا أَبْطَالَا٤٢

ولقد أشاد الشعراء في الدنيا بالسواد، وشببوا القصائد بالسوداوات، حتى فضلوهن على البيضاوات، وحسبك ما يقول ابن قلاقس السكندري:

رُبَّ سَوْدَاءَ وَهْيَ بَيْضَاءَ مَعْنًى
نَافَسَ المِسْكَ عِنْدَهَا الكَافُورُ
مِثْلَ حَبِّ العُيُونِ يَحْسَبُهُ النَّا
سُ سَوَادًا وَإِنَّمَا هُوَ نُورُ

وصُرَّدُر إذ يقول:

عُلِّقْتُهَا سَوْدَاءَ مَصْقُولَةً
سَوَادُ قَلْبِي صِفَةٌ فِيهَا
مَا انْكَسَفَ البَدْرُ عَلَى تِمِّهِ
وَنُورُهُ إِلَّا لِيَحْكِيهَا
لِأَجْلِهَا الأَزْمَانُ أَوْقَاتُهَا
مُؤَرَّخَاتٌ بِلَيَالِيهَا
ولقد أتى ابن الرومي في هذا الباب بالعجب العجاب، فكان كما قيل: جرى الوادي فطمَّ على القَرى٤٣ … قال من أبيات يصف جارية سوداء لعبد الملك بن صالح:
سَوْدَاءُ لَمْ تَنْتَسِبْ إِلَى بَرَصِ الشُّقْـ
ـرِ وَلَا كُلْفَةٍ وَلَا بَهَقِ٤٤
لَيْسَتْ مِنَ العُبْسِ الأَكُفِّ وَلَا الفُلْـ
ـحِ الشِّفَاهِ الخَبَائِثِ العَرَقِ٤٥
فِي لِينِ سَمُّورَةٍ تَخَيَّرَهَا الفَرَّا
ءُ أَوْ لِينِ جِيدِ الدُّلَقِ٤٦
تُذْكِرُكَ المِسْكَ وَالغَوَالِي وَالسُّـ
ـكَّ ذَوَاتَ النَّسِيمِ وَالعَبَقِ٤٧
أَكْسَبَهَا الحُبُّ أَنَّهَا صُبِغَتْ
صِبْغَةَ حَبِّ القُلُوبِ وَالحَدَقِ
فَانْصَرَفَتْ نَحْوَهَا الضَّمَائِرُ وَالأَبْصَـ
ـارُ يُعْنِقْنَ أَيَّمَا عَنَقِ٤٨
يَفْتَرُّ ذَاكَ السَّوَادُ عَنْ يَقِقٍ
مِنْ ثَغْرِهَا كَاللَّآلِئِ النَّسَقِ٤٩
كَأَنَّهَا وَالمِزَاحُ يُضْحِكُهَا
لَيْلٌ تَفَرَّى دُجَاهُ عَنْ فَلَقِ٥٠
وَبَعْضُ مَا فُضِّلَ السَّوَادُ بِهِ
وَالحَقُّ ذُو سُلَّمٍ وَذُو نَفَقِ
أَلَّا يَعِيبَ السَّوَادَ حُلْكَتُهُ
وَقَدْ يُعَابُ البَيَاضُ بِالبَهَقِ٥١

قلت له: إني يا إمام أعابثك كما كنت أعابثك في العاجلة؛ إذ كنت أحاول بذلك استثارة دفائنك، واستخراج كنوزك ونوادرك، وإذ كنت أحبك كل الحب هناك، فهل كنت تحبني كما كنت أحبك يا إمام؟ قال إمام: وهل تظن كما يظن العامة، وكثير من الخاصة، أن من أحب إنسانًا أحبه المحبوب، وتشابكت القلوب والقلوب؟! وأين أنت إذن من قول ذلك الشاعر الجاهلي، وقد أصاب مقطع الحق:

جُنِنَّا عَلَى لَيْلَى وَجُنَّتْ بِغَيْرِنَا
وَأُخْرَى بِنَا مَجْنُونَةٌ لَا نُرِيدُهَا
وَكَيفَ يَوَدُّ القَلْبُ مَنْ لَا يَوَدُّهُ
بَلَى قَدْ تُرِيدُ النَّفْسُ مَنْ لَا يُرِيدُهَا

فضحكت وضحك إمام … ثم قلت له: وأين نزلك يا إمام؟ قال: في مكان قصي حيث ينزل أشعب وجحا والجماز والغاضري وأبو دلامة وأبو الشمقمق والشيخ علي الليثي، وكثير من أعيان المُجَّان في الإسلام، وكلما تاقت نفسي إلى رؤية معاصريَّ في الدنيا من أهل مصر جئت إلى حيث هؤلاء الأئمة الأعلام، ولعلك زائري بعد هذه الزورة، حيث تلاقي كل مسرة.

حدَّث الأديب الثقة قال:

وإني لفي حوار مع إمام؛ إذ أقبل عليَّ الإخوان جميعًا يستنبئونني عن حال مصر، ويستطلعون طلعها، كلٌّ من الجانب الذي كان يعنيه في العاجلة: أما الشيخ محمد عبده فكان تَسآله عن الدين وما ألم به، والأزهر وما نزل بساحته، وكان سؤال الشيخ حسن الطويل عن العلم والفلسفة، وقاسم أمين وملك ناصف فكان سؤالهما عن المرأة المصرية، وفتحي زغلول عن الحالة الأخلاقية والاجتماعية، ومصطفى كامل ومحمد فريد فكانا سَئوليْن عن الحالة السياسية، وكان سؤال البارودي وإسماعيل صبري عن الشعر، والمويلحي وحفني ناصف عن الكتابة والأدب، وحمزة فتح الله عن اللغة، وحسن جلال عن القضاء، وعبده الحامولي عن الغناء والموسيقى، والشيخ سلامة عن التمثيل … فوقعت في حيص بيص،٥٢ وحاولت التملص والانفلات، والإقالة من هذه العثرات … قلت: وما تسآلكم عن أشياء إن تبد لكم عسى أن تسوءكم، ولقد أراحكم الله من الخاسرة وأباطيلها، وأم دفر وأفاعيلها،٥٣ وأصاركم إلى ما أنتم فيه من نضرة النعيم والترفيه! على أن أكثر ما سألتموني عنه لست من ليله ولا سمره،٥٤ فلقد كنت في العاجلة أمقت السياسة كل المقت وأجتوي الاشتغال بها وبأهلها، وكنت أراها ضربًا من التبطل واللهو٥٥ وعمل مَن لا عمل له … ولقد كان الجدل — وبخاصة في السياسة والدين — من أبغض الأشياء إليَّ وأبعدها في رأيي عن اليقين:
لِذَوِي الجِدَالِ إَذَا غَدَوْا لِجِدَالِهِمْ
حُجَجٌ تَضِلُّ عَنِ الهُدَى وَتَجُورُ
وُهْنٌ كَآنِيَةِ الزُّجَاجِ تَصَادَمَتْ
فَهَوَتْ وَكُلٌّ كَاسِرٌ مَكْسُورُ
وكنت في الحياة الدنيا لا أدريًّا،٥٦ وكنت أرى أن كل شيء ثمة فيه عنصر من الحق وعنصر من الباطل، وجانب من الخير وجانب من الشر، ومسحة من جمال الصدق وشية من قبح الكذب،٥٧ ورأيت العالم شرقًا بالشرور جياشًا بالآثام٥٨ مذ هبط أبونا آدم من الجنة، وقتل قابيلُ هابيلَ، إلى هذا الحين، ولم تصلح على مر الزمان حاله، وربما زاد فسادًا وجُن ضلاله، ولم يُفلح فيه إرشاد الأنبياء ولا حكمة الحكماء ولا وعظ الواعظين ولا نصح الناصحين:
كَمْ وَعَظَ الوَاعِظُونَ مِنَّا
وَقَامَ فِي الأَرْضِ أَنْبِياءُ
فَانْصَرَفُوا وَالبَلَاءُ بَاقٍ
وَلَمْ يَزُلْ دَاؤُنَا العَيَاءُ٥٩
حُكْمٌ جَرَى لِلْمَلِيكِ فِينَا
وَنَحْنُ فِي الأَصْلِ أَغْبِيَاءُ

•••

إِذَا كَانَ عِلْمُ النَّاسِ لَيْسَ بِنَافِعٍ
وَلَا دَافِعٍ فَالخُسْرُ لِلعُلَمَاءِ
قَضَى اللهُ فِينَا بِالَّذِي هُوَ كَائِنٌ
فَتَمَّ وَضَاعَتْ حِكْمَةُ الحُكَمَاءِ

ومن جراء ذلك كله كانت خطتي في العاجلة إنما هو غدو لمعاد، أو إصلاح لمعاش، أو فكر أقف به على ما يصلحني مما يفسدني، أو لذة أستعين بها على الحالات الثلاث، وكنت أشبه بما وصف به ابن المعتز نفسه، إذ يقول:

قَلِيلُ هُمُومِ القَلْبِ إِلَّا لِلذَّةٍ
يُنَعِّمُ نَفْسًا آذَنَتْ بِالتَّنَقُّلِ
فَإِنْ تَطَّلِبْهُ تَقْتَنِصْهُ بِحَانَةٍ
وَإِلَّا بِبُسْتَانٍ وَكَرْمٍ مُظَلَّلِ
وَلَسْتَ تَرَاهُ سَائِلًا عَنْ خَلِيفَةٍ
وَلَا قَائِلًا: مَنْ يَعْزِلُونَ وَمَنْ يَلِي
وَلَا صَائِحًا كَالعَيرِ٦٠ فِي يَوْمِ لَذَّةٍ
يُنَاظِرُ فِي تَفْضِيلِ عُثْمَانَ أَوْ عَلِي
وَلَكِنَّهُ فِيمَا عَنَاهُ وَسَرَّهُ
وَعَنْ غَيْرِ مَا يَعْنِيهِ فَهْوُ بِمَعْزَلِ
ثم قلت: ولكني سائلكم بادئ ذي بدء٦١ عن هذا الوئام، الذي أرى بين مصطفى كامل والأستاذ الإمام، بعد أن يبس الثرى بينهما في دار المحنة،٦٢ قال الأستاذ الإمام: ألا تعلم أنه متى يدخل أهل الجنةِ الجنةَ يمسح الله ما بهم بعضهم من بعض، فلا يبقى في صدر أحد حسيكة على أحد ولا ضغن ولا إحن،٦٣ ويعود ما بينهم مشرقًا مثريًّا مونقًا، وهل نسيت قول الله جل شأنه يصف أهل الجنة: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ؟ قلت — والشيء يذكر بالشيء — ولماذا مُني العالم في العاجلة بالخلاف والشقاق، وعلام كل هاتيكم الأحقاد والحزازات، والشرور والإساءات، والمصائب والآفات. قال الأستاذ: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ قال عبده الحامولي: ولم لا يكون الاختلاف في الحياة الدنيا بين الأفراد والجماعات إنما يقصد به إلى معنى نبيل حلو جميل، ما منه بدٌّ! ألسنا قد نشئنا كأنغام الموسيقى، هي وإن اختلفت غير أن مجموعها يؤلف من هذا الاختلاف نغمًا موسيقيًّا منسجمًا بديعًا يطرب السمع ويملك على المرء مشاعره؟ قال الشيخ حسن الطويل: هذا الخلاف يرجع إلى الحكمة البالغة في إيجاد الخير والشر. قال أحمد فتحي زغلول: ويرجع إلى طبيعة البشر. قال محمود سامي البارودي: تلك الطبيعة التي خلقها الله من صلصال من حمأ مسنون،٦٤ ولله عليُّ بنُ العباس إذ يقول:
اعْلَمْ بِأَنَّ النَّاسَ مِنْ طِينَةٍ
يَصْدُقُ فِي الثَّلْبِ لَهَا الثَّالِبُ٦٥
لَوْلَا عِلَاجُ النَّاسِ أَخْلَافَهُمْ
إِذَنْ لَفَاحَ الحَمَأُ اللَّازِبُ٦٦
وقال إبراهيم المويلحي: أما مرجع كل المصائب والآلام التي يعانيها العالم في الدنيا فهو تلك الفعلة البارحة٦٧ التي فعل أبونا آدم في الجنة بعد أن خدعه إبليس خدعة الصبي عن اللبن، وهنا قال إمام العبد وهو يضحك كما كان في الدنيا: كله من أكلة التين!٦٨
فَيَا لَكِ أَكلَةً مَا زَالَ مِنْهَا
عَلَيْنَا نِقْمَةٌ وَعَلَيْهِ عَارُ٦٩
واستمر المويلحي في حديثه قال: فكأن ما يكابده الناس في دار الهموم والأحزان تكفير لتلك الفعلة، وكأن الدنيا لذلك بيمارستان مجرمين٧٠ … قال الأستاذ الإمام: وماذا كانت تكون الحياة لو أن كل شيء فيها كان طيبًا وكانت خالصة لا يشوبها شوب من الأكدار! إنها تكون في هذه الحالة أشبه بحلبة السباق والمتسابقون واحد ليس معه مَن يسابقه، وإنها لحكمة بالغة تلك الشدائد والأهوال التي يلاقيها الناس في الخاسرة، إذ لولاها لما كان للحياة معنى، وكما أنه لولا ضغط الهواء على جسم الإنسان لانصدع وتمزق، كذلك الحال لو يعرى الناس من الشدائد، ويصبحون موفقين في كل ما يعالجون، لا جرم أنهم يصيرون إلى الخرق والطيش والحماقة، وقد يعروهم الخبال والجنون، وحالهم في ذلك تشبه سفينة تسير في خضم عجاج، مغتلم الأمواج دون أن يكون بها صابورة،٧١ أو ما يغني غناءها، لا غرو أن يُجن جنونها خفة وطيشًا … قال حفني ناصف: وبضدها تتميز الأشياء، فلو لم يكن ثمة ألم وترح، لما طَعِم بنو الدنيا اللذاذة والفرح:
وَالحَادِثَاتُ وَإِنْ أَصَابَكَ بُؤْسُهَا
فَهْوَ الَّذِي أَنْبَاكَ كَيْفَ نَعِيمُهَا
على أن للأحزان أثرًا صالحًا مُحسًّا في صقل النفوس وجلاء صدائها، وإشباع العقول ورجحانها، وتهذيب الأخلاق واتزانها، مثلها في ذلك مثل بوتقة الصائغ وكيره، يبقيان على الذهب المحض، وينفيان الخبث والرنق،٧٢ وألم تر إلى الفحم متى ضُغط صار ماسًا، وإلى الصفر المجهود كيف يئول ذهبًا زلالًا بعد إذ كان نحاسًا:٧٣
لَقَدْ هَذَّبَتْكَ الحَادِثَاتُ وَرُبَّمَا
صَفَا الذَّهَبُ الإِبْرِيزُ قَبْلَكَ بِالسَّبْكِ

على أن ثمة من الفضائل ما لا يثير دفائنه، ويظهر مضمره، وينثر كنائنه، سوى النوازل والآلام، كالنار يوريها القدح، والطيب يذيعه السحق، ومن هنا كانت هذه الآية العبقرية الحكيمة الخالدة: إن الله لا يحب الفرحين، ومثلها توأمتها كلمة السيد المسيح: طوبى للمحزونين.

حدَّث الأديب الثقة قال:

وهنا أمكنتني الفرصة، فما كذبت أن اهتبلتها،٧٤ فقلت: أما والأمر كما تقولون، والشر والخصام لا مندوحة عنهما في الخاسرة، والخير والسلام لا يكونان إلا في الآخرة، فقد تركت الخلاف السياسي بين المصريين٧٥ وقد بلغ أشده، وجاوز حده، فقد تفرقت كلمة القوم بعد أن نزغ الشيطان بينهم،٧٦ وتمشت فيهم حُميَّا الضغائن والإحن،٧٧ وذهب الخُلف بينهم كل مذهب، حتى كادت ريحهم تذهب،٧٨ فتهانف بهم الغاصب،٧٩ واتخذهم سُخريًّا، وفغر فاه طماعية فيهم، ونشر أُذنيه بعد أن ضرب على أيديهم،٨٠ والقوم ماضون على غلوائهم،٨١ متدفقون في طغيانهم، وأنت تعلم أن الإحن،٨٢ تجر المحن، ومن ثم رفع البلد، في كبد،٨٣ ودِيس برلمانه، وسُلخ منه سودانه، وعُطلت المرافق، واعوجت الخلائق، والتأث٨٤ على القوم الأمر، وانتشر الرأي وابذعر، وبقيت الأمة في داهية إده،٨٥ ولقيت من هذا الأمر كل شدة، وبالحَرَى التوت الحال وتصعبت، بعد أن لانت وتسهلت، وبعد أن ذللت غصونها، وتدانت قطوفها، ولمَّا٨٦ وكأنْ قد … بفضل تلك الثورة المباركة والاتحاد المقدس، الذي تم بين رجالات مصر …٨٧ أولئك الزعماء الذين حفت بهم ملائكة الخير، وطُردت من ساحات صدورهم شياطين الشر، واصطُلمت من أحشائهم جراثيم الشقاق،٨٨ فأصبحت سُوحهم فراديس تغص بالملائكة، لا يصدر عنها إلا كل ما هو خير، وكل ما هو جميل:
صَوْتُ الشُّعُوبِ مِنَ الزَّئِيرِ مُجَمَّعًا
فَإِذَا تَفَرَّقَ كَانَ صَوْتَ نُبَاحِ

ولما انتهيت إلى هذا الموضع، قال مصطفى كامل: هلَّا فصَّلت ما أجملتَ! فما كان مني إلا أن فصلت وأكملت، وشرحت أطوار المسألة المصرية، وموقف المصريين حيالها في ثماني سنوات تبتدئ من سنة ١٩١٩ وتنتهي سنة ١٩٢٧ لميلاد السيد المسيح صلوات الله عليه، فدُهش الجماعة أيما دهش، وأطرقوا أسفًا واكتئابًا يشبه اكتئاب أهل الدنيا وليس به، والوصف يقصر عنه:

لَحَاهَا اللهُ أَنْبَاءً تَوَالَتْ
عَلَى سَمْعِ الوَلِيِّ بِمَا يَشُقُّ
تَكَادُ لِرَوْعَةِ الأَحْدَاثِ فِيهَا
تُخَالُ مِنَ الخُرَافَةِ وَهْيَ صِدْقُ

وألا دريت أن مَن استأثر الله بهم، وانتقلوا إلى جوار ربهم، يسرون ويساءون بكل ما يعمل أهل الدنيا ممن يمت إليهم بسبب واصل؟ فإذا كان لك صديق، أو شقيق، أو أب شفيق، أو أم رءوم، أو ابن بار، أو مواطن تثنيه عليك عاطفة الجوار، ثم سبقوك إلى الباقية، وأنت لا تزال ترتع في الفانية، فلتعلمن أن سيرتك تؤثر فيهم، وسلوكك يرد عليهم: إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، فلا تخزوا أيها الناس موتاكم، بقبح ما يأتيهم من مأتاكم …

قال الأديب: وبعد أن سكت الجماعة شيئًا، سكوت سخط، لا سكوت رضا، قال الشيخ محمد عبده: أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن معنى السياسة، ومن كل حرف يُلفظ من كلمة السياسة، ومن كل خيال يخطر ببالي من السياسة، ومن كل أرض تذكر فيها السياسة، ومن كل شخص يتكلم أو يتعلم أو يُجن أو يعقل في السياسة، ومن ساس ويسوس، وسائس ومسوس.

مصطفى كامل: وأعوذ بالله من الرئاسة، وحب الرئاسة، فهي أصل البلاء، في عالم الفناء:

بَلَاءُ النَّاسِ مُذْ كَانُوا
إِلَى أَنْ تَنْهَضُ السَّاعَه
طِلَابُ الأَمْرِ وَالنَّهْي
وَحُبُّ السَّمْعِ وَالطَّاعَه
محمد فريد: نعم، وكل ما تلقاه الشعوب، من الآلاقي٨٩ والكروب، فمأتاته٩٠ ذوو الرئاسة والسلطان ومن لف لفهم،٩١ وبخاصة في الشرق وبالأخص في مصر، فهم — كما يُرى — يغمطون الشعوب،٩٢ ويستهزئون بها، ولا يقدرونها حق قدرها، برغم أنهم ليسوا إلا خدامها، أقامتهم لإنفاذ مشيئتها، والقومة على مصالحها وخفارتها، فإذا هم قصروا وانحرفوا عن الجادة كانوا غير أهل لما أُسند إليهم، وبالتالي استحقوا الطرد والتنكيل بهم والتمرد عليهم. على أن الشعوب قد تملي للظلمة من حكامها، وترخي لهم الطِّوَل،٩٣ ولكنها إذا قالت رددت قالها الأقدار، وإذا استُغضبت كان غضبها الحديد والنار:
إِنْ مَلَكْتَ النُّفُوسَ فَابْغِ رِضَاهَا
فَلَهَا ثَوْرَةٌ وَفِيهَا مَضَاءُ
يَسْكُنُ الوَحْشُ للوُثُوبِ مِنَ الأَسْـ
ـرِ فَكَيْفَ الخَلَائِقُ العُقَلَاءُ

•••

ظَلَمُوا الرَّعِيَّةَ وَاسْتَجَازُوا كَيْدَهَا
وَعَدَوْا مَصَالِحَهَا وَهُمْ أُجَرَاؤُهَا

•••

تَخِذْتِكُمُ دِرْعًا وَتُرْسًا لِتَدْفَعُوا
نِبَالَ العِدَا عَنِّي فَكُنْتُمْ نِصَالَهَا

•••

كَمُتَّقٍ لَفْحَ نَارٍ يَسْتَعِدُّ لَهُ
بِالجَهْلِ دِرْعَيْنِ مِنْ قَارٍ وَكَبْرِيت
إبراهيم المويلحي: إن الرياسة في الأعم الأغلب، تحيل طباع الناس، وإنها لمفسدة للأخلاق أي مفسدة، فبينا ترى الرجل قبل الرياسة نبيل النفس، سري الأخلاق، محمود الشمائل، عفيف الإزار، خفيفًا من الأوزار،٩٤ مؤدَمًا مبشَرًا إدام قومه،٩٥ قد تتسعر جوانبه حماسة وطنية، وتطير برأسه نُعرةٌ قوميةٌ،٩٦ إذا به بعد أن تأتيه الرئاسة وقد انقلب سوء منقلب، فنضا عنه ثوب التقى ولبس لقومه جلد النمر، وقلب لهم — كما يقولون — ظهر المجن،٩٧ وأجدب قلبه،٩٨ وصلدت أخلاقه،٩٩ وبلد إحساسه،١٠٠ وبردت عواطفه، ولبس أذنيه،١٠١ وأخذ يعثر في سيره عثرات يدمى منها الأظل،١٠٢ ويدحض دحضات تخرجه إلى سبيل مَن ضل،١٠٣ فكأن الرئاسة «معمودية» إبليس،١٠٤ من عُمد بها فصار رئيسًا، انقلب شيطانًا نجيسًا، وآض صِلًّا في مسلاخ إنسان،١٠٥ وحرباء ذا أشكال وألوان.١٠٦
كَأَبِي بَرَاقِشَ كُلَّ لَوْ
نٍ لَوْنُهُ يَتَخَيَّلُ١٠٧
كان عبد الملك بن مروان يُسمى حمامة المسجد، للزومه المسجد الحرام، فلما أتاه الخبر بخلافته كان المصحف في حجره فوضعه، وقال: «هذا فراق بيني وبينك.» وقد قال يومًا: «إني كنت أتحرج أن أطأ أنملة، والآن يكتب الحجاج إلي في قتل فئام١٠٨ من الناس فما أحفل بذلك.» وقال له الزهري يومًا: بلغني أنك شربت الطلاء،١٠٩ فقال: إي — والله — والدماء. ومما يُؤثر عنه قوله: عجبت للسلطان كيف يحسن، وإذا أساء وجد من يزكيه ويمدحه! … وإن في ذلك لعبرة لمن اعتبر.
أحمد فتحي زغلول: ومما ابتُليت به مصر على الخصوص في رؤسائها أن أكثرهم ليس بينهم وبين المصريين آصرة وطن، فجلهم دخيل يَنمي إلى أصل غير مصري، فمنهم عبيثة من الأقوام ولويثة، ما يُعرف لهم مضرب عسلة،١١٠ ومنهم مَن قد ضربت فيهم نساؤهم بعرق ذي أشب،١١١ فإذا هم تولوا أمر مصر تداركتهم أعراق سوء، ونزت قلوبهم إلى إيذائها وكانوا حربًا للمصريين١١٢ وعونًا للغاصب عليهم. ولقد خالطتُ في العاجلة كل جالة من الجالات١١٣ في مصر على تنوعهم وتعددهم فوجدتهم جميعًا، حتى المسلمين منهم، حتى أحط الطوائف — إلا من طاب غرسه، وكرمت نفسه — يحملون الحقد والاحتقار معًا للمصريين، برغم أنهم يتقلبون في نعمائهم، وهذا من غريب طبائع البشر؛ إذ لست أدري لذلك سببًا سوى كرم المصريين، وأن الكرام مشاغل السفهاء:
وَأنِّي شَقِيٌّ بِاللِّئَامِ وَلَا تَرَى
شَقِيًّا بِهِمْ إِلَّا كَرِيمَ الشَّمَائِلِ
حفني ناصف: نعم، ومساكينُ هم الأخيار، وويل لهم من الأشرار، فالأشرار لا يعجبون إلا بالأشرار ولا يحفلون بالأخيار، بلى! وتراهم مع ذلك مولعين بهم وبإيذائهم، والأصل في هذا أن حال الأخيار الكرام أهل الوفاء والمروءة والشهامة ناصعة نيرة واضحة وضوح النهار المستطير في رونق الضحى، أما الأشرار اللئام فشأنهم الغموض واللبسة١١٤ والإبهام، شأن الليل ذي الظلم والدجى، والمجهول أبدًا مخوف مهوب مرهوب، ومن ثم نرى الناس لا يخافون إلا مَن كان هذا شأنه، فضلًا أنهم يُكبرونه ويبقون على وده، ولا جرم أن الشر لا يدفعه إلا الشر، والحديد بالحديد يفلح،١١٥ والشهرة بالملاينة والخير شر من الاشتهار بالغلظة والشر؛ لأن مَن عُرف بأخي الشر اجترأ عليه الناس، ومن عُرف بأخي الخير هابه الناس وتجنبوه،١١٦ ورحمة الله على الفاروق إذ قيل له: فلان لا يعرف الشر … فقال: ذاك أوقع له فيه … أو ما هذا معناه، وبعد: فإن أكثر هذا الناس لئيم قد طُبع على ضرائب من اللؤم، ومن ثم كان جديرًا بالمرء يهمه الاحتفاظ بنفسه وبعرضه١١٧ ودينه وماله وبلاده أن يمزج كرمه باللؤم، وخيره بالشر، وعقله بالجهل، ويضع كل شيء موضعه، ويقر الأمور في نصابها، وإلا استأسد عليه الناس وتذاءبوا، وطمعوا فيه وتكالبوا:
مَنْ ظَلَمَ النَّاسَ تَحَامَوْا ظُلْمَهُ
وَعَزَّ عَنْهُمْ جَانِبَاهُ وَاحْتَمَى
وَهُمْ لِمَنْ لَانَ لَهُمْ جَانِبُهْ
أَظْلَمُ مِنْ حَيَّاتِ أَنْبَاثِ السَّفَا١١٨
قال الأديب: فقلت: ومن العجب العجاب أن الكلمة الآن هي كلمة الشعوب، فقد أصبحت حكومات العالم كلها أو جلها شورى، وصار لها مجالس نيابية بيدها الحل والعقد والهيمنة على الملوك والحاكمين، وجاء دور مصر بأَخَرَةٍ فأصبح لها «برلمان» لم يظفر به المصريون إلا بعد أن خُضبت أيديهم بالدماء، وبذلوا في سبيله حر المال والذماء،١١٩ وعلى الرغم من ذلك ومن أن المصريين، وهم في الروابي من الشعوب١٢٠ وأعرقهم في الحضارة وأسبقهم إلى المجد والسؤدد، وأرسخهم قدمًا في العلم والعرفان، ودينهم دين الحرية الصريحة، والمدنية الصحيحة:
قَوْمِي اسْتَوْلَوْا عَلَى الدَّهْرِ فَتًى
وَمَشَوْا فَوْقَ رُؤْسِ الحِقَبِ
عَمَّمُوا بِالشَّمْسِ هَامَاتِهِمُو
وَبَنَوْا أَبْيَاتَهُمْ بِالشُّهْبِ
قَدْ قَبَسْنَا المُلْكَ عَنْ خَيْرِ أَبٍ
وَقَبَسْنَا الدِّينَ عَنْ خَيْرِ نَبِي
فكانوا لذلك أحق من غيرهم بالبرلمانات، وبما هو أكثر من البرلمانات، ولكن على الرغم من ذلك كله، ومن أن برلمانهم لم يترعرع بعد، ولم يشب عن الطوق، مال عليه هؤلاء الرؤساء، أو هؤلاء الأعداء، وعبثوا به عبث النكباء بالعود،١٢١ وتمادوا في طغيانهم يعمهون، فانعكست بذلك الآية، وأسلمتنا البداءة للنهاية، وانقلب المهيمِن مهيمَنًا عليه، وكأن البرلمان لعبة يُلعب بها لا حَكم يُحتكم إليه، ولا ذنب للبرلمان في هذا سوى أنه أوشك أن يقوم بمهمته خير قيام، وأن يُحَاسِب الحساب العسير هؤلاء الحكام:
إِذَا مَحَاسِنِيَ اللَّائِي أُدِلُّ بِهَا
كَانَتْ ذُنُوبِي فَقُلْ لِي كَيْفَ أَعْتَذِرُ؟

إبراهيم المويلحي: إذن لا بد من أن الغاصب يعضد هؤلاء الرؤساء، ويحوطهم ويغريهم بهذه الأمة السيئة الحظ:

وَكَيْفَ يَخْشَى صَوْلَةَ الذِّئْبِ مَنْ
قَدْ جَعَلَ السَّبْعَ لَهُ عُدَّة
محمد فريد: بيد أن هؤلاء الرؤساء لو كانوا من الطراز الأول ذوي الشرف والنبل والإباء، والعزة القعساء،١٢٢ والعيص الأشب، والفعال الموروث والمكتسب،١٢٣ لا تلين قناتهم لغامز،١٢٤ ولا تتهضم نفوسهم لظالم،١٢٥ ولا تتعاظمهم جبورة محتل،١٢٦ أو كانوا على الأقل ممن يُكرِمون أنفسهم ويتجافَون بها عن مواطن الهوان، أو كانوا مخلصين لهذه الأمة آبهين لها، لَمَا بالوا — وربك — بالغاصب، ولَمَضَوا قدمًا فيما فيه صلاح بلادهم مهما لاقوا في هذا السبيل، ولو أن كل رئيس كان هكذا لرجع الغاصب أدراجه، وتأخر أخرًا في سبيل طماعيته، ولكن أكثر الرؤساء في مصر — إلا من هدى ربك — سواسية كأسنان الحمار، أو كحماري العِبادي، وقد قيل له: أي حماريك شر؟ فقال: هذا ثم هذا:١٢٧
خِلَقٌ إِذَا حَدَّثْتَ عَنْ أَخْلَاقِهَا
فَكَأَنَّمَا كَشَّفْتَ عَنْ سَوْآتِهَا
مُتَرَاهِنِينَ عَلَى الدَّنِيَّةِ أَحْرَزُوا
غَايَاتِهَا وَتَنَاهَبُوا حَلَبَاتِهَا
وَرِثَتْ نُفُوسُهُمُ خَبَائِثَ أَصْلِهَا
لُؤْمًا وَزَادَتْ دِقَّةً مِنْ ذَاتِهَا
وَمُلَثَّمِينَ عَلَى النِّفَاقِ بِأَوْجِهٍ
صُمٍّ يَصِيحُ اللُّؤْمُ فِي جَنَبَاتِهَا

ومن هنا كان طمع الغاصب في هذه الأمة، وتهالكه عليها.

•••

قال الأديب: وهنا قال الشيخ محمد عبده: وثمة شيء آخر يكشف لك سرًّا من أسرار فشل هذه الأمة وذهاب ريحها؛ إذ تنزو إلى الخلاف والنزاع والشقاق، ذلك أن جمهرة الشرقيين وخصيصى المسلمين منهم، حديدو العواطف مشبوبو المشاعر، فإذا ما أحبوا أغرقوا في الحب حتى يبلغوا النهاية، وإذا ما أبغضوا أوفوا في البغض على الغاية، لا يلوذون في تصاريفهم إلى ركن من الحجا ركين، ولا يعتصمون لدى الحفيظة بعاصم من الخلق والدين، ليسوا إذا عد الدهاة في العير ولا في النفير،١٢٨ فكأن حلومهم نفخت فيها الأعاصير، يعوزهم ضبط النفس إذا صرح الشر، وترك الهوى إذا أمكن الأمر، بينما الأغيار وخصيه الشعوب الآرية، ولا سيما القادة وذوو الرئاسة وأولو الأمر منهم والمتصدون لسياسة الأمم، يحكمون عقولهم على قلوبهم، ويؤثرون مرافقهم على أهوائهم، ذوو رأي وتدبير وبصر بأعقاب الأمور، وأناة لا يطير الجهل في جنباتها، ولا ينزل الطيش بساحة من ساحاتها، وبذا بذوا الشرقيين، وأضحى هؤلاء لهم مسودين، ولو شاء الشرقيون أن يداركوا أمورهم، لداووا بكل الأشافي ألبابهم:
لَوْلَا العُقُولُ لَكَانَ أَدْنَى ضَيْغَمٍ
أَدْنَى إِلَى شَرَفٍ مِنَ الإِنْسَانِ

•••

وَإِذَا الرِّيَاسَةُ لَمْ تُعَنْ بِسِيَاسَةٍ
عَقْلِيَّةٍ خَطِئَ الصَّوَابَ السَّائِسُ
ثم قال الشيخ محمد عبده: وهذا على الرغم من أن الإسلام الذي يدينون به، ويزعمون أنهم مستمسكون بأدبه، كثيرًا ما نهى عن اتباع الهوى، وحض على الاستمساك بالعقل والنُّهى، فقد اكتظ كتاب الله وأحاديث المصطفى — صلوات الله عليه — وما أُثر عن السلف الصالح، من التنويه بالعقل والإشادة بذكره، والحض على اللجوء إليه، والاعتماد في سائر الأمور عليه، والكياسة، وحسن السياسة، والاعتصام بالتقوى، بما لا يُعد ولا يُحصى، وحسبهم قول الله جل شأنه: وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، والهوى كل ما تهواه النفس وتصبو إليه مما لا يتفق والعقل والنُّهى … وقال — ولله المثل الأعلى — يعيِّر قومًا ويشنِّع عليهم ويسفههم ويُصغي إناءهم:١٢٩إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ ويقول سبحانه في مواضع من كتابه الكريم: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وقال: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ. إلى كثير من هذه الآيات الكريمة التي يزخر بها كتاب الله … وكان المصطفى — صلوات الله عليه — إذا بلغه عن إنسان عبادة قال: كيف عقله؟ فإن قالوا عاقل، قال: ما أخلقه أن يبلغ، وإن قالوا: ليس بعاقل قال: ما أخلقه أن لا يبلغ. وقال: مَن لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه كان حتفه في أغلب خصال الخير عليه … وقال: اعص هواك والنساء وأطع من شئت. وقال عليه السلام: ألا أخبركم بأحبكم إليَّ وأقربكم مني مجالس يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقًا، الموطئون أكنافًا،١٣٠ الذين يألفون ويؤلفون، ألا أخبركم بأبغضكم إليَّ وأبعدكم مني مجالس يوم القيامة: الثرثارون المتفيهقون … وقال في معنى القصد في الأمر، وأن لا يغلو المرء في الحب والبغض: أحبب حبيبك هونًا ما عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما عسى أن يكون حبيبك يومًا ما.

ولم لا يقول هذا والكثير الكثير من أمثاله مَن أدَّبه ربُّه فأحسن تأديبه؟ ويقول له وهو أصدق القائلين: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ.

ولو أن المسلمين تدارسوا سيرة الرسول ووقفوا على شمائله الكريمة وأخذوا إخذه، وحذوا حذوه، واهتدوا بهدايته، وفطنوا إلى مرامي سياسته، لكان منهم أكبر ساسة، ولسادوا العالم وناسه، كما كان من خريجيه وتلاميذه الصديق والفاروق وذي النورين وأبي تراب، وابن أبي سفيان١٣١ وسائر صحابته، وتابعيهم من المستنين بسنته، أولئك الذين أنعم الله عليهم، ونشئوا في حضانة صفيه وخيرته من خلقه، رضوان الله عليهم أجمعين.

•••

قال الأديب الثقة: ولقد أنبهتك غير مرة إلى أن لغة أهل الجنة، غير لغة دار المحنة، ومن ثم كان كل ما أعزوه في هذا الحديث من القول إلى قائليه من أهل دار السلام أشبه بالمنقول من لغة إلى لغة، ولكن لا كالحسناء وخيالها في المرآة، لا، ولا من قبيل المترجَم من لغة إلى لغة تضارعها أو تقاربها رفعة وسناء، أو أن المترجِم يداني القائل الأصلي بلاغة وأداء، ولكن إذا كان لا بد من التشبيه فأشبه شيء بذلك — وللجنة ومن فيها المثل الأعلى — أن تعمد إلى رجل من العامة صلد الذهن، أغلف القلب، ران عليه الغباء١٣٢ فتسمعه إحدى أوابد شوقي١٣٣ وتقِفَه على مراميها، ثم تستعيده ما سمع وانظر ما أنت سامع … ولقد أذكرني هذا التشبيه ما كان بين المعتمد بن عباد، أحد ملوك الطوائف بالأندلس، وبين يوسف بن تاشفين البربري ملك مراكش، وذلك أن ابن عباد أرسل إلى ابن تاشفين رسالة تمثل فيها ببيتي ابن زيدون:
بِنْتُمْ وبِنَا فَمَا ابْتَلَّتْ جَوَانِحُنَا
شَوْقًا إِلَيْكُمْ وَلَا جَفَّتْ مَآقِينَا
حَالَتْ لِفَقْدِكُمُ أَيَّامُنَا فَغَدَتْ
سُودًا وَكَانَتْ بِكُمْ بِيضًا لَيَالِينَا
فلما قُرئ عليه هذان البيتان قال للقارئ: يطلب منا جواري سودًا وبيضًا! قال القارئ: لا يا مولاي، ما أراد إلا أن ليله كان بقرب أمير المسلمين نهارًا؛ لأن ليالي السرور بيض، فعاد نهاره ببعده ليلًا؛ لأن ليالي الحزن ليالٍ سودة … فقال: والله جيد، اكتب له في جوابه: إن دموعنا تجري عليه ورءوسنا توجعنا من بَعده … وكذلك شأني في وصف الجنة وكلام أهليها، بعد هبوطي إلى الدنيا وتمرغي فيها، وما حيلتي وقد كانت مرآة ذهني وأنا في الجنة، أسمع كلام أولئك الجلة، كأنها الوذيلة المستوية صفاء وصدقًا وبلاغًا،١٣٤ فلما غادرتها وظننت أني سأقص لذلك عليك أحسن القصص، وأروي لك ما سمعت كما هو دون أن أخرم منه حرفًا، أو أن أحيف عليه حيفًا،١٣٥ رأيت هذه المرآة وقد آضت مقعرة حدباء، فأنى لك بعد هذا إلا أن تسمع هذه الأحاديث محرفة شوهاء، ولا غرو فليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء، أما المسميات فبينها من التفاوت ما بين الأرض والسماء! بيد أنه — كما قلنا — إن لم يكن صداء١٣٦ فماء، وإن لم يكن خمر فخل، وإن لم يصبها وابل فطل، ومن لم يجد ماء تيممًا، فتفطن دائمًا لذلك ولا تخله قط من بالك.

هوامش

(١) جالاه: جانباه.
(٢) عين: جمع عيناء، واسعة العين عظيمة سوادها، ومنه قيل لبقر الوحش: عين، صفة غالبة. ولؤلؤ مكنون: مصون مستور من الشمس وغيرها.
(٣) الحباب: الحية. والعقاب: طائر من الجوارح معروف. والسجل هنا: الكاتب، أو الرجل، بلغة الحبش.
(٤) الضحيان: البراق المضيء.
(٥) الخز: الحرير. والأدكن: المائل لونه إلى السواد.
(٦) الدمقس: الحرير الأبيض والديباج.
(٧) الدوقل: خشبة طويلة تشد في وسط السفينة يمد عليها الشراع، وتسميه البحرية: الصاري، واللجين: الفضة.
(٨) السكان: الدفة.
(٩) المردي: خشبة تدفع بها السفينة. والنوتي: الملاح.
(١٠) قال بعض المفسرين في قوله تعالى: وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ، الزرابي: النبت إذا اصفر واحمر وفيه خضرة، فلما رأوا الألوان في البسط والفرش شبهوها بزرابي النبت، وكذلك العبقري من الثياب والفرش، والزرابي: جمع زريبة، والمراد هنا البسط ذو الخمل. والإستبرق: الديباج الغليظ. والنمارق جمع نمرقة: الوسادة يُتكأ عليها.
(١١) الجمان هنا: الفضة. والعقيان: الذهب.
(١٢) الخوافي: ريشات إذا ضم الطائر جناحيه خفيت، وخوافيها هنا تُقرأ بسكون الياء للسجع.
(١٣) آذيه: موجه. وجاش: ارتفع.
(١٤) الأذفر: الذكي الريح.
(١٥) الرضراض: الحصى الصغار.
(١٦) حفافاه: جانباه.
(١٧) زق الطائر الفرخ يزقه: أطعمه بفيه.
(١٨) ينزو: يثب.
(١٩) مهل: عطف تفسير لرود، تقول منه: أرود في السير: أي أرفق.
(٢٠) النجم من النبات: كل ما نبت على وجه الأرض ونجم على غير ساق. واستأسد النبت: بلغ والتف وقوى.
(٢١) الجميم: النبت الكثير. وجنونه: بلوغه مداه.
(٢٢) استشرف: رفع رأسه وعينيه. وآنست: رأيت. والغلوة: قدر رمية سهم على أبعد مدى. والبهرة: الوسط.
(٢٣) الثلة بالضم: الجماعة من الناس، وفي التنزيل: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ.
(٢٤) جماع الثريا: مجتمعها.
(٢٥) يشتلن: يرفعن. واشتال: بمعنى رفع، قال الراجز:
حَتَّى اشْتَالَ سُهَيْلٌ فِي السَّحَر
(٢٦) العقار: الخمر.
(٢٧) الرضاب: الريق. ورضاب الطل والندى: ما تقطع منه على الشجر. والرضاب: البرد. والطل: المطر الضعيف.
(٢٨) أوحى: أسرع.
(٢٩) يراد: ابتسم.
(٣٠) جنح الليل — بضم الجيم وكسرها — لغتان: جانبه، وهذان البيتان والذي قبلهما لإمام العبد — رحمة الله عليه.
(٣١) مفلوكًا ومحدودًا ومحارفًا: كلها بمعنى المحروم البائس المقتَّر عليه في الرزق.
(٣٢) العيش المرمق: الدون اليسير. وعيش رمق: أي يمسك الرمق. والبرض: الشيء القليل. والتبرض: التبلغ بالقليل من العيش. وأخرات الإبر: ثقوبها.
(٣٣) البيتان لإمام العبد.
(٣٤) الهلع: الجزع. ووهل واستوهل: ضعف وفزع وجبن.
(٣٥) هر الزمان، من هر الكلب: نبح وكشر عن أنيابه.
(٣٦) ضرع إليه: خضع وذل. وعرق العظم: أكل ما عليه من اللحم. وعرقته الخطوب: أخذت منه ونالت. قال:
أَجَارَتَنا كلُّ امرئٍ ستُصيبه
حوادثُ إلا تَبتُر العظمَ تَعرُقِ
(٣٧) اللأواء: الشدة.
(٣٨) يئودها: يكرثها ويجهدها ويشق عليها. وبوس: مخفف «بؤس»: الفقر وشدة الحاجة والضر وما إليها.
(٣٩) البابة: الوجه.
(٤٠) مستسرة: ما استسر وخفي.
(٤١) الأخادع: جمع أخدع، وهما أخدعان: عرقان في جانبي العنق قد خفيا وبطنا. واستقامة الأخادع: عبارة عن الإقلاع عن الكبر.
(٤٢) جحاجح: جمع جحجاح، وهو السيد الكريم.
(٤٣) طم: علا، وغمر. والقرى: مدفع الماء من الربوة إلى الروضة، ومثل هذا المثل: جاء السيل فطم الركى. والركى: الآبار.
(٤٤) الكلفة: حمرة كدرة تعلو الوجه، أو النمش. والبرص والبهق: معروفان.
(٤٥) من عيوب السودان أن أكفهم عابسة متشققة، وأطرافهم ليست بناعمة لينة، وكذلك لا يزال الفلح في شفاههم — وهي الشقوق الموجودة في أوساط الشفاه — وكذلك ترى السود متهمة بخبث العرق، فنفى ابن الرومي هذه الصفات عن هذه السوداء.
(٤٦) السمور: حيوان بري يشبه ابن عرس وأكبر منه، ولونه أحمر مائل إلى السواد، يُتخذ من جلده فراء ثمينة، وربما أُطلق السمور على جلده. والفراء: بائع الفراء. والدلق: حيوان يقرب من السنور في الحجم، وهو أصفر اللون، بطنه وعنقه مائلان إلى البياض.
(٤٧) الغوالي: جمع غالية: أخلاط من الطيب. والسك ضرب من الطيب يُركب من مسك ورامك.
(٤٨) العنق: ضرب من السير وهو اسم من أعنق: أي أسرع.
(٤٩) اليقق: الشديد البياض. والنسق: المنسق، يُقال در نسق وكلام نسق وثغر نسق: أي منتظم.
(٥٠) الفلق: الصبح. وتفرى: انشق.
(٥١) الحق ذو سلم وذو نفق: أراد أن الحق يتصرف في جهات، وضرب الصعود والنزول لذلك مثلًا. وحلكته: سواده.
(٥٢) يُقال: وقع القوم في حيص بيص: أي في اختلاط من أمر لا مخرج لهم منه، قال الجوهري: وحيص بيص: اسمان جُعلا واحدًا وبُنيا على الفتح، مثل جاري بيت بيت، وقيل: إنهما اسمان من حيص وبوص جُعلا واحدًا، وأُخرج البوص على لفظ الحيص ليزدوجا. والحيص الرواغ والتخلف. والبوص: السبق والفرار، ومعناه: كل أمر يتخلف عنه ويفر.
(٥٣) أم دفر: هي الدنيا، وأصل الدفر: النتن خاصة، ويقال: دفرًا دافرًا لما يجيء به فلان: على المبالغة؛ أي نتنًا. ويقال للرجل إذا قبحت أمره: دفرًا دفرً؛ أي نتنًا.
(٥٤) لست منه في شيء ولا أميل إليه.
(٥٥) التبطل: فعل البطالة، وهو اتباع اللهو والجهالة.
(٥٦) اللاأدريون: فرقة من الفلاسفة يتوقفون في الحكم على الأشياء ويكثرون من قول «لا أدري»، وهم تابعون في فلسفتهم للفيلسوف اليوناني «بيرون» المولود في «أليس» من يونان سنة ٣٨٤ قبل الميلاد، وأساس فلسفته هو: أن الإنسان متى خرج من ظلمة العدم إلى نور الوجود، وأراد أن يسبر غور خفايا الأشياء المحيطة به من كل جانب، فإنه لا يخلو حاله من أحد أمرين: فإما أن يصدق كل ما يراه ويستنتجه ويعده حقائق غير قابلة للنقض، وإما أن ينكر كل ذلك ويدعي أن ليس هناك شيء، ولا يخفى أن كلا هذين الأمرين يخرج بنا عن طبيعة الإنسان ويباين فطرته الأصلية. إذن فليس للإنسان إلا خطة الاعتدال، التي من مقتضاها الإحجام عن الحكم على الأشياء (راجع فلسفته في دوائر المعارف والرد عليه في كتب العقائد الإسلامية المطولة).
(٥٧) يُقال: عليه مسحة من جمال ومسحة عتق وكرم: أي شيء منه، ولا يُقال ذلك إلا في المدح، فلا يُقال: عليه مسحة قبح، وقال ذو الرمة:
عَلَى وَجْهِ مَي مَسْحَةٌ مِنْ مَلَاحَةٍ
وَتَحْتَ الثِّيَابِ الخِزْيُ لَوْ كَانَ بَادِيَا
والشية: من الوشي، يقال وشى الكذب والحديث: صوَّره، ووشى كلامه: كذب، ثم استُعملت الشية في كل لون يخالف معظم اللون، قال تعالى: لا شية فيها، أي ليس فيها لون يخالف سائر لونها.
(٥٨) يُقال شرق الموضع بأهله: امتلأ فضاق.
(٥٩) يزل: يزول، مضارع زال من الزوال. والداء العياء: الداء الذي لا دواء له.
(٦٠) الحمار.
(٦١) أي قبل كل شيء.
(٦٢) يبس الثرى بينك وبين فلان: إذا تقاطعتما، قال جرير:
فَلَا تَوْبِسُوا بَيْنِي وَبَيْنَكُمُ الثَّرَى
فَإِنَّ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمُ مُثْرِي
ومن ذا قولهم: ما بيني وبين فلان مثر: أي أنه لم ينقطع.
(٦٣) يُقال في الدعاء للمريض: مسح الله عنك ما بك: أي أذهبه، والحسيكة: الضغن والحقد، والإحن: جمع إحنة، وهي الضغينة والعداوة.
(٦٤) الصلصال: الطين اليابس. والحمأ: الطين الأسود. والمسنون: المتغير المنتن.
(٦٥) ثلبه ثلبًا: عابه وتنقصه.
(٦٦) الحمأ: الطين الأسود. وطين لازب: يلزق باليد لاشتداده.
(٦٧) البارحة: الشديدة المؤذية.
(٦٨) قيل: إن الشجرة التي نُهي آدم عن أن يقربها هي شجرة التين، وقيل: الحنطة، وقيل: الكرمة.
(٦٩) من كلمة حكيمة للحكيم الفيلسوف الأديب ابن الشبل البغدادي المتوفى ببغداد سنة ٤٧٤ هجرية، وإليك هذه الكلمة الجيدة البارعة برقتها:
بِرَبِّكَ أَيُّهَا الفَلَكُ المُدَارُ
أَقَصْدٌ ذَا المَسِيرُ أَمِ اضْطَرِارُ
مَدَارُكَ قُلْ لَنَا فِي أَيِّ شَيْءٍ
فَفِي أَفْهَامِنَا مِنْكَ انْبِهَارُ
انبهار: تحير.
وَفِيكَ نَرَى الفَضَاءَ وَهَلْ فَضَاءٌ
سِوَى هَذَا الفَضَاءِ بِهِ تُدَارُ؟
وَعِنْدَكَ تُرْفَعُ الأَرْوَاحُ أَمْ هَلْ
مَعَ الأَجْسَادِ يُدْرِكُهَا البَوَارُ
البوار: الهلاك.
وَمَوْجٌ ذِي المَجَرَّةُ أَمْ فِرِنْدٌ
عَلَى لُجَجِ الدُّرُوعِ لَهُ أَوَارُ
المجرة: هي ما يُرى كأنه بياض معترض في السماء، والفرند: يقال للسيف ولمائه الذي يجري فيه وطرائقه. والأوار: وهج النار وشدة حر الشمس.
وَفِيكَ الشَّمْسُ رَافِعَةً شُعَاعًا
بِأَجْنِحَةٍ قَوَادِمُهَا قِصَارُ
القوادم: أربع ريشات في مقدم الجناح.
وَطَوْقٌ فِي النُّجُومِ مِنَ اللَّيَالِي
هِلَالُكَ أَمْ يَدٌ فِيهَا سُوَارُ
الطوق: حلي يُجعل في العنق وكل شيء استدار، والسوار — بكسر السين وضمها — جمع أسورة، وهو ما تتحلى به المرأة في يدها من ذهب وفضة.
وَشُهْبٌ ذِي الخَوَاطِفُ أَمْ ذُبَالٌ
عَلَيْهَا المَرْخُ يُقْدَحُ وَالعَفَارُ
الشهب: النجوم السبعة المعروفة بالدراري والتي تنقض بالليل، جمع شهاب، وفي الأصل الشعلة من النار. والخواطف: جمع خاطف، وسُميت خواطف من خطف البرق البصر: ذهب به، أو لأنها تخطف الشياطين الذين كانوا يسترقُّون السمع. والذبال: جمع ذبالة، وهي الفتيلة التي يصبح بها السراج. والمرخ: شجر كثير الورى سريعه، ومنه يكون الزناد الذي يُقتدح به، وكذلك العفار.
وَتَرْصِيعٌ نٌجٌومٌكَ أَمْ حَبَابٌ
تُؤَلِّفُ بَيْنَهُ اللُّجَجُ الغِزَارُ
الترصيع: التركيب، يقال: تاج مرصع بالجواهر، ورصع العقد بالجوهر: نظمه فيه وضم بعضه إلى بعض. وحباب الماء: نفاخاته وفقاقيعه التي تطفو فوقه، أو الطرائق التي في الماء كأنها الوشى.
تُمَدُّ رُقُومُهَا لَيْلًا وَتُطْوَى
نَهَارًا مِثْلَ مَا طُوِيَ الإِزَارُ
الرقم في الأصل: الوشي والنقش، والضمير في «رقومها» للنجوم.
تَبَارَى ثُمَّ تَخْنُسُ رَاجِعَاتٍ
وَتَكْنِسُ مِثْلَ مَا كَنَسَ الصُّوَارُ
تباري — بحذف إحدى التاءين — أي تتبارى، والمباراة: المجاراة والمسابقة. والصوار — بضم الصاد وكسرها: القطيع من البقر. وتخنس: تغيب وتختفي. وكنست البقرة: دخلت في كناسها إذا اشتد الحر. قال تعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ قال الإمام الزمخشري: الخنس: الرواجع بينا ترى النجم في آخر البرج إذ كرَّ راجعًا إلى أوله. والجواري: السيارة. والكنس: الغيب، قيل: هي الدراري الخمسة: بهرام وزحل وعطارد والزهرة والمشتري، تجري مع الشمس والقمر وترجع حتى تختفي تحت ضوء الشمس، فخنوسها رجوعها، وكنوسها اختفاؤها تحت ضوء الشمس، وقيل: هي جميع الكواكب تخنس بالنهار فتغيب عن العيون وتكنس بالليل، أي تطلع في أماكنها كالوحش من كنسها.
فَبَيْنَا الشَّرْقُ يَقْدُمُهَا صُعُودًا
تَلَقَّاهَا مِنَ الغَرْبِ انْحِدَارُ
الشرق هنا: الشمس. ويقدمها: يتقدمها، أو تقول: الشرق: المشرق، ويقدمها: يقدمها.
عَلَى ذَا مَا مَضَى وَعَلَيْهِ يَمْضِي
طُوَالُ مُنًى وَآجَالٌ قِصَارُ
وَأَيَّامٌ تُعَرِّقُنَا مُدَاها
لَهَا أَنْفَاسُنَا أَبَدًا شِفَارُ
المدى: جمع مدية، الشفرة الكبيرة، وعرقته وتعرقته: أخذت اللحم عنه. والشفار: جمع شفرة، السكين أيضًا وحد السيف.
وَدَهْرٌ يَنْثُرُ الأَعْمَارَ نَثْرًا
كَمَا لِلغُصْنِ بِالوَرْدِ انْتِثَارُ
وَدُنْيَا كُلَّمَا وَضَعَتْ جَنِينًا
غَذَاهُ مِنْ نَوَائِبِهَا ظُؤَارُ
الظؤار: جمع ظئر، وهي المرضع.
هِيَ العَشْوَاءُ مَا خَبَطَتْ هَشِيمٌ
هِيَ العَجْمَاءُ مَا جَرَحَتْ جُبَارُ
العشراء: الناقة لا تبصر ما أمامها، ومنه: هو يخبط خبط العشواء. وخبطت: وطئت. وهشيم: مهشوم. والعجماء: البهيمة. وجبار: هدر، يقال: ذهب دمه جبارًا: أي لم يُؤخذ بثأره.
فَمِنْ يَوْمٍ بِلَا أَمْسِ لِيَوْمٍ
بِغَيْرِ غَدٍ إِلَيْهِ بِنَا يُسَارُ
وَمِنْ نَفْسَيْنِ فِي أَخْذٍ وَرَدٍّ
لِرُوحِ المَرْءِ فِي الجِسْمِ انْتِشَارُ
وَكَمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَلِفَتْ نُفُوسٌ
جُسُومًا عَنْ مَجَاثِمِهَا تُطَارُ
مجاثمها: أماكن جثومها.
أَلَمْ تَكُ بِالجَوَارِحِ آنِسَاتٍ
فَكَمْ بِالقُرْبِ عَادَ لَهَا نِفَارُ
فَإِنْ يَكُ آدَمٌ أَشْقَى بَنِيهِ
بِذَنْبٍ مَا لَهُ مِنْهُ اعْتِذَارُ
وَلَمْ يَنْفَعْهُ بِالأَسْمَاءِ عِلْمٌ
وَمَا نَفَعَ السُّجُودُ وَلَا الحِوَارُ
يشير بقوله ولم ينفعه بالأسماء علم … إلخ، إلى قوله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ إلى آخر الآيات.
فَأُخْرِجَ ثُمَّ أُهْبِطَ ثُمَّ أَوْدَى
فَتُرْبُ السَّافِيَاتِ لَهُ شِعَارُ
أودى: مات. والسافيات: الريح تسفي التراب، أي تذروه.
فَأَدْرَكَهُ بِعِلْمِ اللهِ فِيهِ
مِنَ الكَلِمَاتِ للذَّنْبِ اغْتِفَارُ
وَلَكِنْ بَعْدَ غُفْرَانٍ وَعَفْوٍ
يُعَيَّرُ مَا تَلَا لَيْلًا نَهَارُ
لَقَدْ بَلَغَ العَدُوُّ بِنَا مُنَاهُ
وَحَلَّ بِآدَمٍ وَبِنَا الصَّغَارُ
الصغار: الهوان.
وَتِهْنَا ضَائِعِينَ كَقَوْمِ مُوسَى
وَلَا عِجْلٌ أَضَلَّ وَلَا خُوَارُ
الخوار: صوت البقر.
فَيَا لَكِ أَكْلَةً … …
… … … …
… البيت
نُعَاقَبُ فِي الظُّهُورِ وَمَا وُلِدْنَا
وَيُذْبَحُ فِي حَشَا الأُمِّ الحِوَارُ
الحوار: ولد الناقة قبل أن يُفصل عنها.
وَنَنْتَظِرُ الرَّزَايَا وَالبَلَايَا
وَبَعْدُ فَبِالوَعِيدِ لَنَا انْتِظَارُ
وَنَخْرُجُ كَارِهِينَ كَمَا دَخَلْنَا
خُرُوجَ الضَّبِّ أَحْوَجَهُ الوَجَارُ
الوجار: الحجر.
فَمَاذَا الامْتِنَانُ عَلَى وُجُودٍ
لِغَيْرِ المُوجَدِينَ بِهِ الخِيَارُ
وَكَانَتْ أَنْعُمًا لَوْ أَنَّ كَوْنًا
نُخَيَّرُ قَبْلَهُ أَوْ نُسْتَشَارُ
أَهَذَا الدَّاءُ لَيْسَ لَهُ دَوَاءٌ
وَهَذَا الكَسْرُ لَيْسَ لَهُ انْجِبَارُ
تَحَيَّرَ فِيهِ كُلُّ دَقِيقِ فَهْمٍ
وَلَيْسَ لِعُمْقِ جَرْحِهِمُ انْسِبَارُ
سبر الجرح: نظر مقداره وقاسه ليعرف غوره.
إِذَا التَّكْوِيرُ غَالَ الشَّمْسَ عَنَّا
وَغَالَ كَوَاكِبَ اللَّيْلِ انْتِشَارُ
كورت الشمس: غورت أو اضمحلت وذهبت، أو جمع ضوؤها ولُف كما تُلف العمامة. وغاله الشيء: أهلكه.
وَبُدِّلْنَا بِهَذِي الأَرْضِ أَرْضًا
وَطَوَّحَ بِالسَّمَاوَاتِ انْفِطَارُ
أصل الفطر: الشق، قال تعالى: إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ، أي: انشقت، وقال الشاعر:
شَقَقْتِ القَلْبَ ثُمَّ ذَرَرْتِ فِيهِ
هَوَاكِ فَلِيمَ فَالْتَامَ الفُطُورَ
وطوح به: ذهب به ههنا وههنا، يريد بهذا وبما بعده: يوم البعث.
وَأُذْهِلتِ المَرَاضِعِ عَنْ بَنِيهَا
لِحَيْرَتِهَا وَعُطِّلَتِ العِشَارُ
العشار من الأبل: التي قد أتى على حملها عشرة أشهر، قال تعالى: وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ قال الفراء: لقح الأبل: عطلها أهلها لاشتغالهم بأنفسهم ولا يعطلها أهلها إلا في حال القيامة.
وَغَشَّى البَدْرَ مِنْ فَرَقٍ وَذُعْرٍ
خُسُوفٌ لِلتَّوَعُّدِ لَا سِرَارُ
السرار: الليلة التي يستسر فيها القمر؛ أي يختفي.
وَسُيِّرَتِ الجِبَالُ فَكُنَّ كُثْبًا
مَهِيلَاتٍ وَسُجِّرَتِ البِحَارُ
سيرت: أي على وجه الأرض. والكثب: جمع كثيب، قال تعالى: وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا الكثيب: الرمل. والمهيل: المنثور بعضه فوق بعض. وسُجرت قيل: فجر بعضها إلى بعض حتى تعود بحرًا واحدًا، وقيل: مُلئت نيرانًا تضطرم لتعذيب أهل النار، وقيل: ذهب ماؤها حتى لا يبقى فيها قطرة.
فَأَيْنَ ثَبَاتُ ذِي الأَلْبَابِ مِنَّا
وَأَيْنَ مَعَ الرُّجُومِ لَنَا اصْطِبَارُ
وَأَيْنَ عُقُولُ ذِي الأَفْهَامِ مِمَّا
يُرَادُ بِنَا وَأَيْنَ الاعْتِبَارُ
وَأَيْنَ يَغِيبُ لُبٌّ كَانَ فِينَا
ضِيَاؤُكَ مِنْ سَنَاهُ مُسْتَعَارُ
وَمَا أَرْضٌ عَصَتْهُ وَلَا سَمَاءٌ
فَفِيمَ يَغُولُ أَنْجُمُهَا انْكِدَارُ
وَقَدْ وَافَتْهُ طَائِعَةً وَكَانَتْ
دُخَانًا مَا لِقَاتِرِهِ شَرَارُ
يشير إلى قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ الآية.
قَضَاهَا سَبْعَةً وَالأَرْضَ مَهْدًا
دَحَاهَا فَهْيَ لِلأَمْوَاتِ دَارُ
دحاها: بسطها أو أوسعها.
فَمَا لِسُمُوِّ مَا أَعْلَا انْتِهاءٌ
وَلَا لِسُمُوِّكِ مَا أَرْسَى قَرَارُ
سمك الشيء: رفعه.
وَلَكِنْ كُلُّ ذَا التَّهْوِيلِ فِيهِ
لِذِي الأَلْبَابِ وَعْظٌ وَازْدِجَارُ
(٧٠) البيمارستان: المستشفى.
(٧١) الصابورة: ما يوضع في باطن المركب من الثقل ليثقل ولا يميل إلى جانبيه.
(٧٢) البوتقة: الوعاء الذي يذيب الصائغ فيه المعدن. والكير: الزق الذي يُنفخ فيه، والخبث من الذهب والحديد ونحوهما: ما نفاه الكير من غش وزيف وما لا خير فيه. والرنق: مثله.
(٧٣) الصفر: النحاس الجيد. والزلال: الخالص.
(٧٤) اهتبلتها: اغتنمتها.
(٧٥) يلاحظ أن هذا وصف لما كانت عليه الحال سنة ١٩٢٥م، أي عقب حادث السردار (المأسوف عليه سيرلي ستاك) المشئومة.
(٧٦) نزغ الشيطان بينهم: أفسد بينهم بالحث على الشر.
(٧٧) حميا كل شيء: شدته.
(٧٨) ذهبت ريحهم: ذهبت دولتهم.
(٧٩) التهانف: الضحك بسخرية.
(٨٠) جاء فلان ناشرًا أذنيه: طامعًا.
(٨١) غلوائهم: من غلواء الشباب، شرته وسرعته.
(٨٢) الإحن: الضغائن.
(٨٣) كبد: شدة.
(٨٤) التأث: اختلط والتبس.
(٨٥) إدة: فظيعة.
(٨٦) ولما: أي ولم تقطف بعد. وكأن قد: وكأنها قد قطفت.
(٨٧) يشير إلى الثورة المصرية سنتي ١٩١٨-١٩١٩، وإلى الاتحاد الذي كان في سنة ١٩٢٧ بين المغفور لهم: سعد زغلول، وحسين رشدي، وعدلي يكن، وعبد الخالق ثروت.
(٨٨) اصطلمت: استؤصلت.
(٨٩) الآلاقي: الشدائد.
(٩٠) مأتاته: المكان الذي يأتي من ناحيته ومصدره.
(٩١) لف لفهم: من عُد فيهم وانتمى إليهم.
(٩٢) غمطه: احتقره وازدراه.
(٩٣) أملى الله للظالم: أمهله. والطول: الحبل الذي يطول للدابة فترعى فيه، والطول أيضًا: التمادي في الأمر والتراخي، والمعنى ظاهر.
(٩٤) الأوزار: جمع وزر، الإثم والحمل الثقيل.
(٩٥) يقال: فلان مؤدم مبشر: إذا كان كاملًا من الرجال. وقال الأصمعي: هو الذي قد جمع لينًا وشدة مع المعرفة بالأمور، قال: وأصله من أدمة الجلد وبشرته، فالبشرة ظاهره وهو منبت الشعر، والأدمة باطنه وهو الذي يلي اللحم، قال: والذي يراد منه أنه قد جمع لين الأدمة وخشونة البشرة وجرب الأمور، وفي المثل: إنما يُعاتب الأديم ذو البشرة: أي يعاد في الدباغ، ومعناه: إنما يُعاتب مَن يُرجى وفيه مسكة وقوة، ويُراجع مَن فيه مراجع … ويقال: فلان إدام قومه وأدم بني أبيه لثمالهم — غياثهم — وقوامهم ومن يصلح أمورهم.
(٩٦) أصل النعرة: الذباب الأزرق يتولع بالبعير ويدخل في أنفه فيركب رأسه، ثم استُعيرت للنخوة والأنفة والكبر، فيقال لكل مَن ركب رأسه: فيه نعرة، وفي رأسه نعرة.
(٩٧) نضا: نزع. والمجن: الترس وكل ما وقى من السلاح. ولبس جلد النمر، وقلب ظهر المجن: تحول عن الصداقة إلى العداوة وأسقط الحياء وفعل ما شاء.
(٩٨) الجدب: القحط وما قابل الخصب، وعن الحسن البصري في وصف ناس: أجدب قلوب وأخصب ألسنة.
(٩٩) صلدت: صارت صلدة لا تبض ولا تورى، ومن ذا يقال للبخيل: صلدت زناده.
(١٠٠) يقال: بلد فلان بعد نشاط: إذا فتر ونكس، قال الشاعر:
جَرَى طَلْقًا حَتَّى إِذَا قِيلَ سَابِقٌ
تَدَارَكَهُ أَعْرَاقُ سُوءٍ فَبَلَّدَا
(١٠١) يقال: لبست على كذا أذني، إذا سكت عنه ولم تتكلم وتصاممت عنه، قال ابن مفرغ:
فَلَبِسْتُ سَمْعَكَ ثُمَّ قُلْتُ أَرَى العِدَى
كَثُرُوا وَأَخْلَفَ مَوْعِدِي أَشْيَاعِي
(١٠٢) الأظل من الإبل: باطن المنسم — المنسم للبعير كالظفر للإنسان — ومن الإنسان بطن الإصبع، وفي المثل: إن يدم أظلك فقد نقب خفي، قال أبو عبيدة: يقال هذا إذا أراد المشكو إليه أنه في نحو مما فيه صاحبه الشاكي، أي إنني في مثل حالك.
(١٠٣) دحضت رجله: زلقت.
(١٠٤) المعمودية: اصطلاح مسيحي، وهي غسل الصبي وغيره بالماء باسم الأب والابن وروح القدس، قال صاحب المنجد: وهي أول أسرار الدين المسيحي وباب النصرانية.
(١٠٥) آض يئيض: صار. والصل: الحية الخبيثة جدًّا. والمسلاخ: الإهاب وقشر الحية الذي تنسلخ منه.
(١٠٦) الحرباء: دويبة على شكل سام أبرص، ذات قوائم أربع، دقيقة الرأس مخططة الظهر، يستقبل الشمس برأسه ويكون معها كيف دارت، يقال: إنما يفعل ذلك ليقي جسده برأسه، ويتلون ألوانًا بحر الشمس، والأنثى: الحرباءة.
(١٠٧) أبو براقش: طائر يتلون ألوانًا، شبيه بالقنفذ، أعلى ريشه أغبر، وأوسطه أحمر وأسفله أسود، فإذا انتفش تغير لونه ألوانًا شتى، قال الشاعر:
إِنْ يَبْخَلُوا أَوْ يَجْبُنُوا
أَوْ يَغْدِرُوا لَا يَحْفَلُوا
يَغْدُوا عَلَيْكَ مُرَجَّلِـ
ـينَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا
كَأَبِى بَرَاقِشَ كُلُّ لَوْ
نٍ لَوْنُهُ يَتَخَيَّلُ
وصف هذا الشاعر قومًا مشهورين بالمقابح، لا يستحون ولا يحتفلون بمن رآهم على ذلك، وقوله يغدوا: بدل من قوله لا يحفلوا؛ لأن غدوهم مرجلين دليل على أنهم لم يحفلوا. والترجيل: مشط الشعر وإرساله.
(١٠٨) فئام: جماعات.
(١٠٩) الطلاء: الخمر.
(١١٠) عبيثة ولويثة: ليسوا من أب واحد تهبشوا من أماكن شتى، ويقال لمن ليس له نسب معروف أو لا أصل ولا قوم ولا أب ولا شرف: ما يُعرف لهم مضرب عسلة.
(١١١) أي عرقت فيهم عرق سوء. وذو أشب: أي ذو اختلاط.
(١١٢) يقال: فلان حرب لي: أي عدو وإن لم يكن محاربًا.
(١١٣) الجالة والجالية: الذين جلوا عن أوطانهم.
(١١٤) اللبسة: الالتباس وعدم الوضوح.
(١١٥) الفلح: الشق والقطع.
(١١٦) أخو الشر: هو الخير، وأخو الخير: هو الشر.
(١١٧) العرض: موضع المدح والذم من الإنسان، سواء كان في نفسه أو سلفه أو مَن يلزمه أمره، وقيل: هو جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه ويُحامى عنه أن يُنتقص ويُثلب، وقال أبو العباس ثعلب: إذا ذُكر عرض فلان فمعناه أموره التي يرتفع أو يسقط بذكرها من جهتها بحمد أو ذم، فيجوز أن تكون أمورًا يوصف هو بها دون أسلافه، ويجوز أن تذكر أسلافه لتلحقه النقيصة بعيبهم.
(١١٨) تحاموا ظلمه: تباعدوا عنه. وعز عنه: امتنع عنهم. والعزة: القوة والشدة. وجانباه: ناحيتاه. واحتمى: امتنع. ولان: ضعف وسهل. والأنباث: التراب المستخرج من البئر، يقال: نبث ينبث: إذ حفر. والسفا هنا: التراب، وهو ما تسفيه الريح، أي تحمله وترمي به، وقيل: السفا تراب القبر، والسفا في غير هذا: شوك البهمي (البهمي: نبات يشبه الشعير).
(١١٩) الحر من كل شيء: خياره وطيبه. والذماء هنا: الروح، يقال: أطول ذماء من الضب. والذماء في الأصل: بقية الروح، يقال: ما بقي منه إلا ذماء يتردد في خيال.
(١٢٠) يقال: فلان في رباوة قومه، وفي الروابي منهم: أي في أشرافهم وسرواتهم.
(١٢١) النكباء: الريح تنحرف عن مهاب الرياح وتقع بين ريحين.
(١٢٢) القعساء: الثابتة.
(١٢٣) أصل العيص: منبت خيار الشجر، قال جرير:
فَمَا شَجَرَاتُ عِيصِكَ فِي قُرَيْشٍ
بِعِشَّاتِ الفُرُوعِ وَلَا ضَوَاحِي
وفلان في عيص أشب: أي في عز ومنعة في قومه، والأشب في الأصل: الشجر الملتف، ثم قالوا منه في أمثالهم، في استعطاف الرجل صاحبه على أقربائه وإن كانوا له غير مستأهلين: عيصك منك وإن كان أَشِبًا؛ أي وإن كان ذا شوك داخلًا بعضه في بعض، وهذا ذم، وقد يريدون المدح في مثل قول الشاعر:
وَلِعَبْدِ القَيْسِ عِيصٌ أَشَبُّ
لأنه يريد المنفعة والكثرة والعز والمنعة … والفَعال — بفتح الفاء — المراد به هنا الكرم — ضد اللؤم — أما أهل اللغة فقد اختلفوا، فقال الليث: الفعال: اسم للفعل الحسن من الجود والكرم ونحوه، قال هدبة:
ضَرُوبٌ بِلِحْيَيْهِ عَلَى عَظْمِ زَورِهِ
إِذَا القَوْمُ هَشُّوا لِلْفَعَالِ تَقَنَّعَا
وقال ابن الأعرابي والأزهري والمبرد: الفَعال يكون في المدح والذم، يقال: فلان كريم الفعال، وفلان لئيم الفعال.
(١٢٤) القناة: الرمح، والقناة أيضًا: القامة، يقال: فلان صلب القناة. والغمز: العصر باليد، قال الشاعر:
كَانَتْ قَنَاتِي لَا تَلِينُ لِغَامِزٍ
فَأَلَانَهَا الإِصْبَاحُ وَالإِمْسَاءُ
وهذا مثل يريد أنه كان صلب العود شديد القوة على مَن يشتده ويجترئ عليه، والمراد هنا كذلك أنهم من القوة بحيث لا يؤثر فيهم مؤثر.
(١٢٥) تهضمه: ظلمه، وتهضمت نفسي له: إذا رضيت منه بدون النصفة والمعدلة.
(١٢٦) الجبورة: كالجبروت، الكبر الذي لا يرى صاحبه لأحد عليه حقًّا، قال:
فَإِنَّكَ إِنْ عَادَيْتَنِي غَضَبَ الحَصَى
عَلَيْكَ وَذُو الجُبُورَةِ المُتَغَطْرِفُ
يقول هذا الشاعر: إن عاديتني غضب عليك الخليفة، وما هو في العدد كالحصى، والمتغطرف: المتكبر.
(١٢٧) يقال: هم سواسية: إذا استووا في اللؤم والخسة والشر، قال الفراء: يقال هم سواسية: أي يستوون في الشر، قال: ولا أقول في الخير. هذا ومن أمثالهم: سواسية كأسنان الحمار، وهو من أشد الهجاء؛ وذلك لأن أسنان الحمار مستوية، وهذا مثل ما رُوي في الحديث: «لا يزال الناس بخير ما تفاضلوا، فإذا تساووا هلكوا.» وأصل هذا أن الخير في النادر من الناس، فإذا استوى الناس في الشر ولم يكن فيهم ذو خير كانوا من الهلكى. وقيل: أراد بالتساوي: التحزب والتفرق، وأن لا يجتمعوا في إمام، ويدعي كل واحد منهم الحق لنفسه فينفرد برأيه … والعبادي: أي الرجل المنسوب إلى عباد، وهم قوم من قبائل شتى من بطون العرب، اجتمعوا على النصرانية فأنفوا أن يتسموا بالعبيد، وقالوا: نحن العباد، نزلوا الحيرة، ومنهم عدي بن زيد العبادي الشاعر.
(١٢٨) يقال لمن لا يصلح لخير ولا لشر ولا يُحفل به: لا في العير ولا في النفير. والعير: هي عير قريش — أي قافلتها وميرتها، والإبل التي تحمل تجارتها — التي أقبل بها أبو سفيان من الشام فنهد إليها المسلمون من المدينة وكانت غزوة بدر، وأما النفير فمن نفر من قريش ليدفع عن العير فجاءوا، وكانت وقعة بدر كما قلنا. وقد جاء هذا المثل في حديث طريف نورده هنا لروعته وجماله: رُوي أن عبد الله بن يزيد بن معاوية أتى أخاه خالدًا — وكان هذا خالد من رجالات قريش عقلًا وعلمًا وفصاحة — فقال: يا أخي لقد هممت اليوم أن أفتك بالوليد بن عبد الملك، فقال له خالد: بئس والله ما هممت به في ابن أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين، فقال: إن خيلي مرت به فعبث بها وأصغرني، فقال له خالد: أنا أكفيك، فدخل خالد على عبد الملك بن مروان والوليد عنده، فقال: يا أمير المؤمنين، الوليد ابن أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين مرت به خيل ابن عمه عبد الله بن يزيد فعبث بها وأصغره — وعبد الملك مطرق — فرفع رأسه وقال: إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وكذلك يفعلون، فقال خالد: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرًا، فقال عبد الملك: أفي عبد الله تكلمني؟ والله لقد دخل علي فما أقام لسانه لحنًا، فقال له خالد: أفعلى الوليد تعول؟ فقال عبد الملك: إن كان الوليد يلحن فإن أخاه سليمان! فقال خالد: وإن كان عبد الله يلحن فإن أخاه خالد؟ فقال له الوليد: اسكت يا خالد، فوالله ما قعد في العير ولا في النفير، فقال خالد: اسمع يا أمير المؤمنين، ثم أقبل على الوليد وقال: ويحك فمن العير والنفير غيري؟! جدي أبو سفيان صاحب العير، وجدي عتبة بن أبي ربيعة صاحب النفير، ولكن لو قلت: غنيمات وحبيلات والطائف ورحم الله عثمان، لقلنا: صدقت … «قوله غنيمات وحبيلات: يعني أن رسول الله لما أطرد الحكم بن أبي العاص بن أمية — وهو جد عبد الملك بن مروان — لجأ إلى الطائف، فكان يرعى غنيمات ويأوي إلى حبيلة، وهي الكرمة، وقوله رحم الله عثمان: أي لرده إياه.»
(١٢٩) يقال فلان يصغي إناء فلان: إذا نقصه ووقع فيه، قال:
فَإْنَّ ابْنَ أَخُتِ القَوْمِ مُصْغَى إِنَاؤُهُ
إِذَا لَمْ يُمَارِسْ خَالَهُ بَأَبٍ جَلدِ
(١٣٠) الموطئون أكنافًا: يريد وصفهم بدماثة الخلق ولين الجانب، والثرثارون: يعني الذين يكثرون الكلام تكلفًا وتجاوزًا وخروجًا عن الحق، من قولهم: عين ثرة، أي كثيرة الماء. والمتفيهقون: من قولهم فهق الغدير: إذا امتلأ ماء، يريد أنهم يوسعون أشداقهم ويملأونها بالكلام.
(١٣١) ذو النورين: عثمان بن عفان. وأبو تراب: علي بن أبي طالب. وابن أبي سفيان: معاوية.
(١٣٢) ران عليه: غلب عليه.
(١٣٣) إحدى قصائده الخالدات.
(١٣٤) الوذيلة: المرآة.
(١٣٥) خرمه: نقصه. وأحيف: أجور.
(١٣٦) صداء: ركية — بئر — ليس عند العرب ماء أعذب من مائها، وفي المثل: ماء ولا كصداء، ومرعى ولا كالسعدان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤