سادسًا: حضارة العرب

ويُقارن البيروني كتُب ماني مع النصرانية واليهودية بالرغم من ضَياعها. ويُبيِّن فضل الإسلام؛ فالقرآن ناطق في الأشياء الضرورية، وأحكامه غير مُتشابهة على عكس اليهودية والزنادقة وأصحاب ماني. والسُّريان نصارى وليسوا كلدانيين. يسجدون لله شكرًا بعد العلاج، لا فرْق بين العِلم والإيمان. والبدَن الصحيح العافي من العِلَل بحمد الله، والله لا يُضيِّع من يبذل نفسه في طاعته. ويورد ابن فاتك أقوال غريغوريوس المُتكلم على اللاهوت. ويُوصي بجعل الله بدء الأمر والكمال.١
ويقارن البيروني بين الحلول والاتحاد عند الصوفية المسلمين والنصرانية وإطلاق اسم الأبوَّة والبنوَّة على الله عند اليهود والنصارى. فالمسافة بين الحلول الهندي والنصراني ليستْ بعيدة. كما يُقارن بين الصور في الهندوكية والنصرانية. واليهودية أيضًا دين من ديانات العرَب. وإليها ينتسِب لُقمان الحكيم المذكور في القرآن العظيم. حِكَمه كثيرة مثل: لا خير في الكلام إلَّا بذكر الله، أخذ الحال بأمانة الله، الصبر عن محارم الله، الأمر بالمعروف والنهى عن المُنكر، الصبر على المصائب، الإكثار من ذكر الله عز وجل فإنَّ الله يذكُر من يذكُره، الفرار بالذنوب إلى الله، تسبيح الله، أعلم الناس بالله أشدُّهم له خشية، ما يُقرِّب إلى الله، الحُب في الله والبُغض في الله، والتقرُّب إلى الله. الله يُحيى القلوب بتقوى الله. وكلها مُستقاة من وصايا لقمان لابنه في القرآن وفي الحديث.٢
وتعطي صورةً للقمان من خلال أقواله بعد وصْف مكان دعوته. فقد نزل بين الرَّملة وبيت المقدس كي لا يختلط بالناس حتى لحِق بالله عز وجل. وتعتمِد على نمَط الأسلوب القرآني ووصايا لقمان لابنه. تقوم على ذِكر الله. فإذا أكثر الإنسان من ذكر الله يذكره الله، فالله ذاكِر من يذكُره. والله يُحيي القلوب بذِكر الحكمة كما تحيا الأرض بوابل السماء. ويجلس الذاكر مع الذاكرين لله عز وجل واطلاع الله عز وجل عليهم برحمته تنالُهم، ولا يجلس مع من لا يذكُر اسم الله. وفضل ذِكر الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه، والذِّكر لا يخلو من الفم. وهمَّة الإنسان فيما يُقرِّبه إلى الله، الحبُّ في الله والبُغض في الله، والتقرُّب إلى الله عن طريق محبَّة أوليائه. ويستحي بقدْر قُربه من الله. فالله أحقُّ أن يُستحى منه، وذلك عن طريق تطهير النفس من أحاديث السُّوء ورضا الخالق بسُخط المخلوق، وألا تأخذ الإنسان لَومة لائم. الديك يصرُخ بتسبيح الله، والإنسان يستعيذ بالله من شرِّ النساء، ويتقي الله عز وجل. ولا يخشى الناس كخشية الله عز وجل حتى يُكرمه الناس. وتقوى الله حظ للإنسان وحقٌّ عليه. والاتكال على الله أروح، والقُرب من الناس يجعل الإنسان سهلًا لأنَّ الله يُحب كل سهلٍ طلْق. وطاعة الله واجبة، فإن من أطاع الله كفاه ما أهمَّه وعصَمَه من خلقه. وما خلق الله خلقًا أهونَ عليه من الدُّنيا. نِعمتُها ثوابٌ للمُطيعين، وبلاؤها عقوبةٌ للعاصِين. يفرُّ الإنسان من الذنوب إلى الله، ويتَّخِذ مع الله تجارةً تأتيه بالأرباح. ويؤدي الصلاة المفروضة. والطريق إلى ذلك كله العِلم والحكمة. فأعلَمُ الناس بالله أشدُّهم له خشية. وهذا هو الانتفاع بما علَّم الله للناس. وأحقُّ الناس بالتواضُع أعلمُهم بالله وأحسنُهم له عملًا. إكرام حكمة الله واجب، ولا تُقدَّم إلى من تهُون عليه، ولا يُبخَل بها عن من يريد حفظها. كل ذلك في لازمة قرآنية: يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ.٣
ويرى صاعد أنَّ الصابئة هنود مع أنهم عراقيون آشوريون، وكأنَّ الهوية تنبع من الفكر وليس من التاريخ. هم مُوحِّدون بالله، ولكن الخلاف في النبوَّة والبعْث. العالَم أزلي ومعلول بذاتِ الله. وكانوا يقولون بالقُدَماء الخمسة: الباري، إبليس، الهيولى، الزمان، المكان.٤
وتتمُّ قراءة الفِرَق بقواعد العقائد الإسلامية، التوحيد والعدل، الخلق والبعث. فاليهود تُنكر النسخ. والربَّانيُّون كالمُعتزلة في خلق الأفعال، والقراءون كالمُجبِرة. والفِرَق اليهودية والمسيحية هي الفِرَق العربية وليست الغربية كما نفعل نحن هذه الأيام. العنانية أسَّسها عنان بن داود، والعيسوية نِسبة إلى أبي عيسى بن إسحاق، والبوذعانية نِسبة إلى رجل من همدان اسمُه يهودا، والموشكانية أصحاب موشكا. وقد تكون النِّسبة من المنطقة مثل السامرة نسبة إلى فلسطين. كذلك تُراجَع الفِرَق المسيحية من خلال تاريخ المسيحية العربية، وينقل إلى العقائد المسيحية من خلال العقائد الإسلامية، التثليث في مُقابل التوحيد اعتمادًا على القرآن، وأهمية الطهارة والشهادة كمقياس للعبادات الصحيحة. والصابئة في مُقابل الحنيفية أي الخروج على أحدِهما، كلاهما عين الفطرة، دين الوحي ودين الطبيعة ودين العقل بالرغم من الجدل بينهما. الصابئة من عذيمون وهرمس، والحنفاء من وحي الأنبياء. وكانت الصابئة تُسَمِّي الكواكب أرباب آلهة، والله تعالى هو رب الأرباب وإله الآلهة. وكانوا يعبدونها لتُقرِّبهم إلى الله زُلفى. وقد ناظرَها الخليل بالعقل والتجربة عندما كسر الأصنام وتحدَّاها بالرد. ومنهم من يقول بالتناسُخ، وأنَّ الله أجلُّ من أن يخلُقَ الشرور.٥
والكلدان ليسوا جزيرةً منعزلة بل في صِلة مع فارس وبابل، إبراهيم ونمرود، ونبختنصر وإسرائيل حتى ظهر عليهم الفرس. وأحيانًا يختلط الكلدان مع الحرانيِّين والصابئة ومذهب الثنوية والمنانية، وتُوصف عقائدهم وشعائرهم مثل الصلاة والإمامة. أحيانًا يُظهِر رؤساء فِرَقهم الإسلام ويُبطِنون غيره. والسريان كانوا يكتُبون بالعبرية. كما يُقارن البيروني بين العبرية والسُّريانية.٦
وكل عبدَة الأوثان من العرب موحِّدة. عبادة الأصنام ما هي إلا وسائل لتُقرِّبهم إلى الله: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى. ولكن الخلاف في النبوَّة والبعْث. صحيح أنَّ عبادة الأوثان والكواكب لا تتَّفِق مع العقل، ولكن العرَب قبل الإسلام أقرُّوا بالتوحيد والربوبية، والتزموا بالشريعة، وآمنوا بنهاية العالم والبعث والنشور، وأقاموا العبادات من صلاة وصيام وحج.٧ وقد أتَتْ عبادة الأصنام من الشام، من اليونان والرومان والنصارى، وليستْ من الجزيرة العربية بطبيعتها.٨ ويقارن البيروني علوم الهند وشرائعهم بعلوم العرب وشرائعهم قبل الإسلام، فالأنا الحضاري مُتَّصل قبل الإسلام وبعدَه. ويقارن علوم اللغة والشِّعر في الحضارتَين. وكذلك تتم مقارنة الفلَك والعلوم الرياضية والطبيعية في الحضارتَين. وتتمُّ مقارنة أنواع النكاح في الهند وأنواعها في الجاهلية، الاجتماع على امرأةٍ واحدة إذا كانوا إخوة، الاستبضاع، التبادُل، زواج الابن الكبير. وتبدأ العرَب بالكتابة من اليمين إلى اليسار، وهو أقرَب إلى الطبيعة من البداية من اليسار إلى اليمين كما تفعل الهند. والعرب أُمِّيُّون لا يكتبون ولا يحسُبون، وإنما يُعوِّلون على العدد والعيان.٩
بل تتعدَّى القراءة إلى النظم السياسية. إذ يُسَمِّي صاعد الدولة العباسية بالهاشمية. ربما تعاطَفَ معها وهو الأندلسي الذي تدين الأندلس بفتحِها للأُمويِّين. والعرَب أصناف: مُعطلة ومحصلة. ومن المُعطلة من تُنكِر الخالق والبعث والإعادة، وقالوا بالطبع المُحيي والدهر المُفني اعتمادًا على الطبائع المحسوسة. وقد أشار إليهم القرآن في آية: نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ. وآخرون أقرُّوا بالخالق، والبعض يعتقد بالتناسُخ، وفريق يُنكِر بعثة الرسول.١٠
ولقد استمرَّت الوثنية بعد الإسلام في المُمارسات الشعبية. ولو وجدت العامَّة أو النساء صورة النبي أو الكعبة لقبَّلوها وعفَّروا خدودهم بها، وكما يفعلون في مناسِك الحج والعُمرة. وهو نفس دافع إيجاد الأصنام وتسميتِها بأسماء الأشخاص المُعظَّمة من الأنبياء والعُلماء والحُكماء لتذكير الناس بأمرهم عند الغيبة أو بعدَ الموت. وبتقادُم الأزمان نسِيَ الناس بدايتها وحوَّلوها إلى أصنام. فكأنَّ الناس في البداية وفي النهاية كانت على عبادة الأوثان. فهي العُنصر الثابت في الدين على مرِّ الزمان.١١
١  البيروني، ص٢٧–٣١، ٢١٩؛ ابن أبي أصيبعة، ص١٩٤–١٩٦، ١٦١؛ المُبشِّر بن فاتك، ص٢٨٦.
٢  البيروني، ص٥-٦، ٢٨، ٤٧٤؛ الشهرزوري، ص٤٤٢–٤٦١.
٣  ابن فاتك، ص٢٦٢–٢٧٦.
٤  صاعد، ص٤١–٦٢، ١٢–١٧.
٥  الشهرستاني، ج٣، ص١٤–١٥، ٢٠–٢٤، ٢٦، ٤٠–٤٦، ٨٨–٩٠، ١٤٠–١٤٢، ج٤، ص١٢-١٣، ٢٢-٢٣.
٦  ابن النديم، ص٤٧٩، ٤٣٣، ٤٤٢–٤٤٥، ٤٤٧–٤٥٣، ٤٧٣؛ البيروني، ص٢٧.
٧  صاعد، ص٤١–٦٢، بيان منازل القمر عند العرب؛ البيروني، ص٤١١.
٨  البيروني، ص٩٤-٩٥.
٩  في ذكر كتُبهم في النحو والشِّعر (البيروني، ص١٠٤–١١٧). في ذكر معارف خطوطهم وحسابهم وغيره وشيء مما يُستبدع من رسولهم (ص١٣٢–١٤٨، ٢٤٢). نكاح العرب في جاهليتها (ص٨٣). فأمَّا هذه الفضائح في الأنكحة فوجد منها الآن وفي مواطن الجاهلية (ص٨٣، ٤١٢). العدد الذي عند العرب (ص٤١١).
١٠  الشهرستاني، ج٥، ص١٥٢–١٥٧.
١١  «إنك لو أبديتَ صورة النبي أو مكة والكعبة لعامِّي وامرأة لوجدتَ من نتيجة الاستبشار فيه دواعي التقبيل وتعفير الخدَّين والتمرُّغ كأنه شاهد المُصوَّر، وقضى بذلك مناسك الحج والعمرة. وهذا هو السبب الباعِث على إيجاد الأصنام بأسماء الأصنام المُعظمة من الأنبياء والعلماء والملائكة مُذكِّرةً أمرهم عند الغيبة والموت مُبغِية آثار تعظيمهم في القلوب لدى الغَوث إلى أنْ طال العهد بعامليها ودارت القرون والأحقاب عليها ونُسِيَت أسبابها ودواعيها وصارت رسمًا وسُنَّةً مُستعملةً. ثم داخلهم أصحاب النواميس من بابها؛ إذ كان ذلك أشدَّ انطباعًا فيهم فأوجَبوه عليهم. وهكذا وردَتِ الأخبار فيمن تقدَّم عهدَ الطوفان وفيمن تأخَّر عنه وحتى قيل إنَّ كون الناس قبل بعثة الرُّسل أمَّة واحدة هي على عبادة الأوثان» (البيروني، ص٨٤-٨٥).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤