تمهيد

الزمن لا يتوقف، والدائرة صورة الخلود، والخلود في الأرض وهم، ولكننا ندور في دوائر، ونستقي من الدائرة معنى الاستمرار، فعندما يعود الربيع يُشرق الأمل من جديد في كل نفس، وعندما يُصبح الصباح يصحو الأمل، ونتطلع إلى تباشير النور في الشرق فنَشهد ميلاد الغد الذي أصبح يومًا جديدًا، ولكنَّنا لا نطرح مع الأمس الذاهب أثقاله، ولا نتحرر من قيود الزمن أبدًا، بل نُواجه المستقبل بقلب الماضي وروحه، فما يكاد الإنسان ينتبه من غفوته ويُصلِّي لله شكرًا على نعمة الحياة واستقبال يوم جديد حتى يُواجه الماضي من حوله وفي نفسه، وهو الماضي الذي يحمل صورة ما كنا عليه وما نرغب أن نظلَّ عليه، غير واعين بأننا قد تغيَّرنا، بدنًا ونفسًا، فنحن نريد الاستمرار، مدفوعين بطاقة لا نَدري كنهها، فنقاوم التغيير في كل ما حولنا وفي نفوسنا، ونُحاول وَصْلَ ما انقطع، وما أندر من يدركون أن ذلك محال؛ إذ تصبح طاقة النفس أكبر من طاقة البدن، ويصعب على المرء أن يقبل ما صار إليه من ضعف ووهن، فيذكر ما فات ومات، ويتأسَّى على ما مضى وانقضى، ويحسد الشباب على ما أوتوه من قوة، وقد يسترجع البعض صورًا من الماضي يتسرَّى بها ويتلهَّى، وقد يجد في الأجيال الجديدة صورًا لما كانه يومًا ما، وقد يندم أحدهم على ما أنفق في حياة أصبحت خاوية على عروشها، وقد يتمنَّى غيره أن يرجع فيعمل صالحًا، وقد يجد أن نفسه تتنازعها قوى الماضي والحاضر، وبعضها قوى وهمية أو صور زائفة، تغيرت في ذاته على مرِّ الزمن، وإن ظل بعضها واضح المعالم جليَّ القسمات، بارز الخطوط حافلًا بأدق اللمحات، وقد تقتضي زيارة هذه الواحات الزمنية بذل جهد لا يقوى عليه الكثيرون؛ إذ ما أكثر ما تتغيَّر صورها وتتبدل داخل النفس، وما أكثر ما يَعتورُها من نقص وما يضاف إليها من معانٍ، ولكن الزيارة تُؤكِّد لمن أشرف على نهاية المضمار وطال الشوط الذي قطعه أن الزمن واحد وأن القطار لا يتوقَّف عن المسير مطلقًا وأبدًا، فكأنما يسير في دائرة هي السرمد أو الخلود.

وكنتُ حاولت في زياراتي السابقة لواحات العمر في مصر أولًا وفي الغربة ثانيًا ثم في مصر أخيرًا أن أنقل إلى القارئ هذا الإحساس بالاستمرار، مُهتديًا بقول القائل إن صورة الإنسان لنفسه محض ذكرى — أو كما قال الشاعر وردزورث:
(Yet each man is a memory to himself)
(The Prelude, 1805, iii, 189)
فوجدت أن ذكرياتي هي ذكريات جيل كامل من الأساتذة الذين أعقبوا جيل الرواد في دراسة الآداب والفنون، وتهيَّأ لهم ما لم يتهيَّأ لأسلافهم من معارف جديدة، وعلوم وفنون حديثة، مع التوسع هنا في معنى الجيل بحيث لا يَقتصِر على الحدود الزمنية، فبعض أفرادِه ولدوا في الثلاثينيات والبعض في الأربعينيات من القرن العشرين، والجيل الذي سبَقَنا ولد بعض أفراده في العقد الثاني والبعض في العقد الثالث، وأما الرواد فكلُّهم ممَّن ولدوا في القرن التاسع عشر. كما رأيت أن ما رويته قد مسَّ عصبًا عاريًا — كما يقولون — في نفوس بعض أبناء جيلي، وتقبله أبناء الجيل الجديد (مع التوسُّع في معنى هذا الجيل أيضًا) بقَبول حسن، وأحسست مما كتبتْه الصحف عن الأجزاء الأولى أن السيرة الأدبية التي قصدت إليها قد تحوَّلت في عيون الكثيرين إلى صورة أدبية لسيرة ذاتية، والفرق واضح بين النوعين الأدبيين، وقد يكون النقاد على حق، واحتمال الاختلاط قائم، وغدا البعض يَسألني كيف تتجاهَل رواية كذا وكذا في عام كذا وشهر كذا، وهي من الأحداث المهمة لك ولجيلك، أو كيف تُهمل الإشارة إلى ما يهمُّ الجيل الجديد من دروس في حرفة الأدب التي فضلتها مثلًا على تعاطي الطب وهي مِهنة أبناء أسرتك وأصهارها (الجارم وبدر الدين)؟ بل إن أقرب أصدقائي إلى قلبي لم يجدوا في السيرة الأدبية بعض الواحات التي نعموا فيها أو شقوا بالعيش معي، ولامَني البعض على التوقُّف عند سن التقاعد (المعاش) الذي وصفته بأنه نهاية «العمر الرسمي» في مصر، فوجدتني بعد أن توقفت أرجع إلى تلك المسيرة الطويلة الحافلة، ووجدتُني أعود لزيارة واحات هجرتها فيما هجرتُ من سوالف الأيام، والتطلُّع إلى «واحات» ما تزال نابضة الحياة، بعضها قصص اكتملت وبعدها قصص ناقصة، ولكنها لوحات أجد فيها التأسِّي لما أنا فيه، ولما نحن فيه، بعد أن تغيَّر العالم حتى ما نكاد نعرفه — نحن أبناء هذا الجيل — بل ونكاد نُنكره.
ولن أتقيَّد في رسم هذه اللوحات الحية أبدًا — أو في حكاية هذه الحكايات — بسياق زمني، بل سأتنقَّل بحرية بين الماضي والحاضر، ضاربًا في دروب الزمن ما شاء الله لي أن أضرب، مُهتديًا بالصور التي لا تزال تعيش في وجداني ووجدان الكثيرين من أبناء جيلي، ساردًا لأحداث تَغيَّر معناها أو تأكَّد على مرِّ السنين، ولكنها لوحات مُعاصِرة لأنها تحيا في الوعي، وقد يُظنُّ هنا أنني من أتباع هوسرل (Husserl) الفيلسوف الألماني الذي يجعل الوعي مسرحًا لكلِّ شيء، وكل ما يظهر فيه هو الحقيقة؛ ومن ثمَّ أطلق على مذهبه اسم الظاهراتية (Phenomenology) (وهي عكس الظاهرية) (Phenomenalism) ولكنني لا أنشد إلا الزمن وما يَفعله الزمن بالإنسان، فذلك مدار حديثي بالأمس واليوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤