الفصل الأول

١

أستأنفُ الحديث الذي توقَّف في واحات العمر، فأقول إنَّ الغربة التي أحسَستُها بعد تجاوز خط «العمر الرسمي» داخل مقرِّ عملي كشفت لي عن طبيعة منطق القوة الذي يسود تفكير قطاع كبير من أبناء مصر، وخصوصًا مَن يعملون في مؤسسات الدولة أو الحكومة، والقوة هنا قد تَعني السُّلطة بأيِّ شكلٍ من أشكالها وخصوصًا قدرة المرء على التحكُّم في غيره من البشر، وهو ما نجده هنا في صورة الرئيس والمرءوس، أكثر مما نَجده في أي صورة أخرى من صور القوة المعروفة في العالم المتقدم، مادية كانت أم معنوية، خصوصًا قوى العلم والخبرة أو الحكمة أو الرأي وحتى المكانة الأدبية بل والاجتماعية، فموظَّف الحكومة في مصر يؤمن بما نُسمِّيه «الكرسي» إيمانه بالحياة، فإذا فقد «الكرسي» تحوَّل إلى شبح يتحرَّك بين الناس فلا يراه أحد، وقد تَلمح في عينيه نظرات حزن دفين أو دهشة خبيئة من تحول مواقف أقرانه ورؤسائه ومَرءوسيه، فلقد أنشأنا نظامًا للإدارة الحكومية (civil service) نكاد نتفرَّد به بين دول العالم، والحمد لله أننا تنبَّهنا أخيرًا لمخاطره، بعد أن تحوَّل جميع المتعلِّمين يومًا ما إلى موظَّفين في تلك الإدارة، حتى الفنانين والصحفيين والعاملين في قطاعات الإنتاج الزراعي والصناعي، فإذا بلَغ أحد منهم سنَّ التقاعُد خرج من الوظيفة فتنكر له الجميع، وربما وجد في نفسه طاقات جديدة أو لم يجد، وهو ما صوَّره نجيب محفوظ تصويرًا بديعًا في إحدى قصصه القصار، وما فسَّره يوسف إدريس — رحمه الله — تفسيرًا مُقنعًا في ضوء التاريخ المصري الذي طالما تعرض فيه أبناء مصر للقهر، فالقهر يولِّد في النفس نزوعًا إلى ممارسة قهر مُماثل مع آخرين، كالفعل ورد الفعل الطبيعي، أو كالحلقات في السلسلة التي يأخذ بعضها برقاب بعض، فتجد الخانع لرئيسه قاهرًا لمرءوسيه، في سلَّم مُنتظِم يهبط بالقهر من القمة إلى القاعدة ويصعد بالخنوع من القاعدة إلى القمة، وإذا لم يجد المرءوس من يليه في مَراتب السلطة حتى يقهره مارس قهرَه على أفراد أسرته فولَّد في نفوسِهم منذ الطفولة الإحساس نفسه، وقد يكون لذلك تفسيره الجغرافي الذي أبدعه جمال حمدان؛ أي إن مركزية المكان ولَّدت مركزية السلطة التي تمثَّلت في الفرعون الذي يقدسه أبناء الشعب، بل قد يكون له تفسيرات أخرى أو تفسيرات تجمع بين هذه العوامل المختلفة بدرجات مُتفاوتة، ولكن خبرتي الشخصية أكَّدت لي أنه حتى في الجامعة محراب العلم والتعليم لا نجد المصري الذي يَتقاضى راتبه من الدولة (والدولة تُرادف الحكومة عندنا) إلا مُوظَّفًا يخاف الرئيس ويقهر المرءوس، ولقد ساعَدَني على اجتياز تلك المحنة اضطراري للتغيُّب أسابيع مُتواصِلة عن الجامعة بسبب جراحة العين التي أجريتها في أواخر عام ١٩٩٩م، وكان يُبلغني بعض تلاميذي المخلصين ممن أصبحوا أساتذة بما يحدث في غيابي، وحتى عندما كنت أحضر جلسات مجلس القسم، وهو المجلس الوحيد الذي كنت أحضر جلساته بعد انقضاء فترة رئاستي، كنت أجد من لم يكن يجرؤ على «الإفتاء» في العلم وقد أصبح عالي الصوت زاعق النبرة، بغضِّ النظر عن إحاطته بالموضوع أو علاقة ما يقوله بما هو مطروح، كأنما هو طفل يُحاول بصوته أن يُثبت وجوده في الأسرة، أو مُراهِق يُحاول بالمعارضة تأكيد تخطيه للطفولة ودخوله «عملية التفرد»، وهو تعبير عالم النفس كارل جوستاف يونج؛ أي individuation process، وهي «العملية» التي يمر بها اليافع قبل بلوغ الشباب!

لكنني وجدت تفسيرًا آخر فيما قالته لي الدكتورة هدى وصفي ذات يوم، الأستاذة التي تَشغل مركزًا أدبيًّا مرموقًا، كما تتولى الآن (٢٠٠٢م) رئاسة تحرير مجلة فصول — مجلة النقد الأدبي — وكنتُ معها ذات يوم من شتاء عام ١٩٨٤م في غرفة عميد المعهد العالي للفنون المسرحية حين تناقشنا في مهمة التدريس ووظيفة المعلم؛ إذ قالت بصراحتها المعهودة: «المُعلِّم في قاعة الدرس ملك متوج! فهو يقول ما يريد ويتمتع بسُلطته العلمية كاملة لا ينازعه فيها أحد!» قالت ذلك بتلقائية وبساطة كأنها تدلي بملاحظة عن الجو أو حالة المرور! ولكن عمق تلك الملاحظة دفعني إلى التفكير في طبيعة عملنا بالتدريس وما يترتَّب على تلك السُّلطة المطلقة من الآثار في نفس (أو في «نفسية») المعلِّم! فقديمًا قال اللورد أكتون: إنَّ السلطة فساد، والسُّلطة المطلقة فساد مطلق؛ أي:

Power corrupts: absolute power corrupts absolutely

وها نحن نجد السلطة وقد أصبحت مُطلَقة، وزاد من ذلك تلك العزلة التي يستشعرُها أساتذة اللغات الأجنبية في جامعاتنا؛ فقد يقول المعلم كلامًا يختلف الطالب معه، ولكنه لا يستطيع مُحاجَّته لضعف آلته اللغوية، الأمر الذي قد يشجع المعلم على التمادي في إضفاء صورة العلم على «الرأي» (أو وجهة «النظر») فيتحوَّل ما يراه إلى حقيقة، وأما إذا كان الطالب قادرًا على مُقارعة الحجة بالحجة ولديه من البراهين ما يُثبت به خطل رأي المعلم، خصوصًا في مجال العلوم الإنسانية، والأدب بصفة خاصة، فإنَّ «هيبة» الأستاذ قد تَصدُّه وقد «تقهره»! بل قد يَقعد به خوفٌ أدنى منزلةً في مجال المعرفة الإنسانية، وهو الخوف من اتهام الأستاذ إياه بالغباء أو الجهل أو بهما معًا! والعُزلة التي يعيش فيها أساتذة اللغات الأجنبية تتعمق في كل يوم بانقطاعهم عن مسايرة حركة المجتمع الأدبية والنقدية، إما لجهلهم بها أو لتعاليهم عليها أو للسببَين معًا، كما أن بعضَهم قد يحتمي بسياج من الكلمات الأجنبية التي تضمن له انقطاع التواصُل مع تلك الحركة، بل ومع المجتمع نفسه، فيظن من حوله ممن لا يفهمون ما يقول أنه يَحمل في عقله جِماعَ الحكمة وعلوم الغرب المتقدم، وما هو إلا دارس عادي، بل قد يكون حظه من العلم أقل كثيرًا من حظ غيره!

وقد فتحت لي ملاحظة الدكتورة هدى وصفي بابًا واسعًا لتأمُّل وضع مدرس اللغة الأجنبية ودارس الأدب الأجنبي في بلادنا، وتأمُّل ما ينبغي أن تكون عليه مهمَّته في إقامة الجسور بين آداب العربية والآداب العالمية، كما أتاحت لي نظرة جديدة إلى ما يتَّصف به المعلم من «دوجماطيقية»؛ أي من تصلُّب مذهبي، وهو التصلب الذي ينبع من كثرة ترديد آراء قد يكون استقاها من غيره، وقد يكون قد اهتدى إليها بنفسه، ولكن كثرة ترديدِها أمام الطلاب وتصديقهم إيَّاها يكسبها ثوب الحقائق الثابتة التي لا تَقبل الجدال! من هذه مثلًا — وأقولها من باب الطرافة لا غير — ما ذكرته معلِّمة للدراما في عام ٢٠٠١م عن شخصية هاملت، في المسرحية الشيكسبيرية الشهيرة التي تحمل اسم البطل، من أنه يعتبر «مسيحًا» من نوعٍ ما (والتعبير هو a kind of Messiah) فحفظ الطلاب ذلك القول، ولما حان موعد لقاءاتي الدراسية مع الطلاب المُمتازين في الفصل الدراسي الثاني في مطلع عام ٢٠٠٢م، ووجدتهم يُردِّدون هذه المقولة بثقة مطلقة سألتهم عن معناها وعن الروابط التي تربط هاملت بالمسيح أو بأي نبيٍّ أو رسول لم يجدوا (أو لم يجدن — فالجميع إناث) غير البيتين (أو السطرين) الشهيرين:
The time is out of joint! O cursed spite
That ever I was born to set it right!
(I. v. 189)

أي:

انْفَصَمَتْ عُرى الزمانْ! ويا لَهَا من نِقْمَةٍ لعينةٍ قَضَتْ
بمَولدي حتى أُعيدَ وَصْلَ ما انفرطْ!

والمعروف أن هاملت يقول هذين البيتين عندما يعرف أن عمه قد قَتَل أباه وأن الانتقام لمَقتل أبيه أصبح لزامًا عليه؛ أي إنه أصبح مُطالبًا بالأخذ بالثأر وأنه لا بد أن يقتص من القاتل وهو عمه! والواضح أن شيكسبير هنا يصور مأساة فردٍ مُطالَبٍ بأن يَفعل أكثر من طاقته؛ فالبطل — هاملت — طالب في الجامعة؛ أي إنه مثقَّف ومن العسير أن يقبل راضيًا قتل أحد، وشيكسبير يجعله «رجل فكر»؛ فهو مُتردِّد مُتخوِّف يتأمَّل ما وضعه القدر فيه فيُجفل، ويُفكر في الانتحار ثم يعدله عنه، بمعنى أن ساحة الصراع في المسرحية هي نفس البطل لا الزمان، أي أحوال العالم (ونحن نُفرِّق في العربية بين الزمن بمعنى الوقت وبين الزمان بمعنى الحياة الدنيا والناس)؛ ومن ثم صبَّ نُقاد العالم دراساتهم على مسرح الحدث الداخلي في نفس البطل، خصوصًا وشيكسبير يجعله ينطق بروائع الشعر، وفي لحظة غضب يقوم هاملت بقتل الوزير (أو رئيس الوزراء) الذي كان مُختبئًا خلف الستارة ليشهد عتاب البطل لوالدته على زواجها من عمِّه (والشك في مشاركتها في الجريمة) ويتسبَّب موقف هاملت المتردِّد الخائر، وإدانته للنساء جميعًا بسبب ارتيابه في خيانة والدته، في مَقتل أوفيليا حبيبته، ابنة الوزير؛ إذ تُصاب بالجنون وتنتحر، وفي مقتل اثنين من المأجورين أيضًا، وفي النهاية في مقتل أخي أوفيليا في مبارزة، ومقتل أمه وعمِّه ثم مقتله هو نفسه! والخلاصة أن مأساة هاملت فردية، ذهب المُفسِّرون في تفسيرها ألْف مذهب، وزعم البعض أن لها دلالات اجتماعية أو سياسية أو أنها مسرحية قضية، ولكن مثل هذا البطل لا يُمكن أن يصور في صورة مسيح يحمل رسالة الحب والسلام للبشرية كلها، أو في صورة نبيٍّ يهدي الناس إلى طريق الرشاد، وبعد أن قضيت ساعة أو بعض ساعة أناقش الطالبات في المسرحية وأسمح لهنَّ فيها بالحديث بالعربية حتى أزيل حاجز اللغة، اكتشفت أنهن يُكررن فحسب ما سمعنَه من الأستاذة، وأنهن وقعن أسيرات في حب ذلك البطل وأفرغن في ذلك عاطفة المراهقة المتأجِّجة! وقلت في نفسي: لو قرأت تلك الطالبات نص المسرحية أولًا، ثم تُركت لهن الحرية في التوصُّل إلى فهمٍ خاص لها، وفي الاستعانة بدراسات النقاد وآرائهم المختلفة، ما تصوَّرن أن ذلك البطل الذي قتَل الوزير بيده، وتسبَّب في مقتل العديد قبل أن يُقتل هو أيضًا، يمكن أن يكون مسيحًا!

ولقد ذكرت هذه الحادثة «الأكاديمية» من باب الطرافة كما قلت، ولكن وراءها «ملاحظة» الدكتورة هدى وصفي؛ فالمدرس يقول ما يريد، ويكثر من ترديده حتى يُؤمن به فيُصبح «حقيقة» علمية ثابتة في ذهنه، فإذا تأتَّى لك أن تواجهه بغير ذلك فما أسرع ما يَبرز لديه رد الفعل المتوقَّع من أيِّ مُعلم وهو اتهامك بالجهل أو بعدم التخصُّص! وكثيرًا ما كنت أذكر مُحاوراتي مع طلابي الإنجليز، بل ومع أساتذتي الإنجليز، في جامعة رِدِنْج؛ إذ كنا نتطارح الآراء في حرية ونَقبل نقضَها إن بدا أن هناك ما يبرر النقض؛ فالتدريس، خصوصًا في مجال الأدب والنقد الأدبي، ليس تلقينًا بل هو مناقشة لما نقرؤه وتمحيص للآراء النقدية في هذا المجال الذي يتطلَّب الابتعاد عن «الصلابة المذهبية».

كنت أُواجه بعد بلوغ «العمر الرسمي» مُجتمعًا مُغلقًا يستمدُّ أصحابه القوة منه، وقد انقطعت بهم معظم الروابط التي من المفترض أن تربطه بالمجتمع العِلمي في مصر أو في العالم العربي أو في العالم الخارجي، فأما تلميذاتي النابهات فقد كبرنَ وتميَّزن وحقَّقن ذواتهن في نشاط علمي ومجتمعي خارج أسوار الجامعة، ووصلنَ إلى مرحلة النضج الفكري، بل وأصبحت لهنَّ تلميذات نابهات أيضًا، وقليلًا ما كُنَّ يحضرن مجالس القسم أو يشاركن في التيار الجديد الذي اشتدَّ ساعده وقوي، وكان هدفه الواضح هدم بعض ما بَنيت، وكنتُ أنا وماهر شفيق فريد نشعر بمزيد من الاقتراب من بعضنا البعض، وبالمزيد من الابتعاد عن هذا التيار الجديد، وشاركنا عبد العزيز حمودة، وكان ثلاثتنا ممن يشغلون أنفسهم حقًّا بقضايا الثقافة والأدب بين اللغتين العربية والإنجليزية، وكان لكلٍّ منَّا مجاله أو فرعه الذي يحبُّه، لكن أواصر الحب توثقت بيننا وازدادت متانتها ونحن نرقب ما يحدث في إعداد لائحة لكلية الدراسات العليا، المزمع إنشاؤها، خصوصًا مُجاهرة الأعضاء بالعداء لدراسات الترجمة، وهي التي أصبحت تحتل مكانة بارزة في الدراسات الأكاديمية في جامعات العالم، وكانت المعارضة تقوم ظاهريًّا على أُسس «إدارية» وتقوم في الواقع على أساس ضعف الإلمام بالعربية؛ ومن ثم بالترجمة وأهميتها في بلادنا، وكنت أشهد ذلك أحيانًا فأحزن وأنسبه إلى الأقدار! والحمد لله الذي آتاني القدرة على تأمُّل الأحداث والناس بعين الكاتب، وانتهَيت إلى أنه مِن الأسلم لي (ولما أريد أن أفعله) أن أتركهم (أو أتركهن) وأن أشرع أنا في فعل ما أريد!

وليس أدلَّ على العزلة التي أحسستها آنَذاك في مقرِّ عملي من رد فعل الزملاء عندما عُرِضَت مسرحيتي الدرويش والغازية في مسرح السلام في مطلع عام ٢٠٠٠م واستمر عرضها ثلاثة أشهر! كان ردُّ الفعل صفرًا! إذ لم يكدْ أحد يذكرها، ناهيك بأن يُحاول مشاهدتها! لكنني لم أعجب ولم أدهش، وعندما سافرت إلى الخارج بعدها أعددت ترجمة لديوان من الشعر العربي، وكتابًا يضم مختارات من أشعار الشباب المصريين التي ترجمتها إلى الإنجليزية، وطُبع في أمريكا بعنوان أصوات غاضبة، وكتبت مقدمة طويلة لكلٍّ من هذين الديوانين أو الكتابين، كما أعددت كتابين في فنِّ الترجمة نُشرا في أواخر ذلك العام؛ أولهما بالعربية عن التحوُّلات الدلالية بين اللغتين العربية والإنجليزية نشرتْه شركة لونجمان بعنوان مُرشد المترجم، والثاني بالإنجليزية عن ترجمة اللغة العربية إلى الإنجليزية بعنوان مدخل ثقافي إلى الترجمة عن اللغة العربية
On Translating Arabic: A Cultural Approach

وسوف أتوقَّف هنا عن السرد لأُفصِّل القول فيما أجملته إجمالًا في آخر صفحة من واحات مصرية.

٢

كان لقائي مع «حسن» [المخرج] في عام ٢٠٠٠م لقاءً مُطوَّلًا؛ إذ جمعتنا عدة جلسات في مقهًى بفندق كبير كان ينزل فيه عند زيارته للقاهرة، إما هربًا من معارفه القُدامى أو نشدانًا للسرية، أو تحاشيًا لزوجته السابقة، وكان يقصُّ عليَّ في كل جلسة طرفًا من أحواله بعد أن اطمأنَّ إلى حفاظي على أسراره (وهذا هو السبب الذي يدفعني إلى عدم الإفصاح عن اسمه الحقيقي صراحةً في هذه الأوراق)، وبعد أن وجد في «تحليلاتي» لما يُكابده بعض العزاء والسلوان.

قال لي «حسن» في أول لقاء بعد الغيبة: «لعلك تذكر البيتين اللذين ذكرتهما لي للشاعر الإنجليزي — صديقك — وليم وردزورث! دعني أردِّدهما لك فهما يصفان حالتي في أمريكا:

We poets in our youth begin in gladness
But thereof come in the end despondency and madness!

[أي:

ويحَنا يا معشر الشعراء إنَّا نستهلُّ العمر بالفرح فتونا،
ثم نَجني ذاك من بعدُ اكتئابًا وجنونا!]

وقال حسن إنك لو أبدلت هناك صفة الشُّعراء بأي صفة مشتركة بيننا نحن الأدباء والفنانين اتَّضح لك حالي، بل وحال الكثيرين ممن توسَّلوا بالفنِّ لاكتساب المال والشهرة ثم انتهى بهم الأمر إلى التيه والحيرة؛ فالفنَّان يجعل من ذاته مركزًا للكون ويتصور أن كثرة تردد اسمه في أجهزة الإعلام قد كفلت له العظمة والخلود، وكلَّما صعد على خشبة المسرح وصفَّق له الجمهور ليلة بعد ليلة ترسخ في نفسه ذلك الإحساس، فإذا سار في الطريق فأشارت إليه الأصابع وابتسمت له الشفاه، تأكَّد أنه قد «وصل»! ولكن …»

وقلت له إنني أفهم ما يَرمي إليه، وأضفتُ أنه لن يلقى المصير الذي كنت أحدسه لأنه ليس مُمثلًا فحسب بل هو مخرج ومؤلف، فإذا به يفضي إليَّ بما لم أكن أتوقعه قائلًا:

«أنا أقصد زوجتي! فلقد وقفتُ إلى جوارها ودفعتها دفعًا إلى مصاف الكواكب أو النجوم، وإن لم تكن من النجوم الساطعة — وقالها بالإنجليزية (of the first magnitude) — وجنَّدت لها من يَكتب عن عبقريتها فهي ذات موهبة لا شك فيها، وهو ما كلَّفني جهدًا ومالًا، فإذا بها تُطالبني بما ليس في طاقتي وهو أن أكرِّس حياتي لإبراز تلك الموهبة و«بَرْوَزَتها» (من برواز أي إطار المعربة عن الفرنسية) و«تلميع» اسمها! لم يكن ذلك في طاقتي لسببٍ غريب وهو أنني تركت نفسي للحياة تجرفني، فلم أجد غضاضة في التحوُّل من الاشتراكية إلى موجة المد الإسلامية، وكنت في الحالتين مؤمنًا بالمبادئ السامية هنا وهناك، ولكنَّني رجل عمل لا رجل فكر، فاستطعت أن أجنيَ ثمار هذه وتلك دون تعمُّق، وما حاجتي للتعمُّق؟ كنت أسأل نفسي قبل الإقدام على أي مشروع: هل سيعود عليَّ بالنفع ماديًّا ومعنويًّا؟ وتدريجيًّا وجدت أن الشق الأول قد غلب، وأصبح المال أو قُل أصبح اكتساب المال بأي طريق هدفًا أسمى، وكانت زوجتي تعرف ذلك وتقبله، ولكنها كانت تريد ما هو أكثر!»

فقلت أخفِّف عنه: «ولكنَّك وقفت إلى جوارها في مرضها حتى شُفيت … ولولا المال ما تمكَّنت من ذلك!»

فقال: «وهل تَعرف يا صديقي ما كان ذلك المرض؟ إنه مرض النفس الذي أودى ويُودي بحياة الكثيرين من الفنانين! وما الإدمان إلا صورة من صور الهروب التي تُلازم ذلك المرض! وتفسيري البسيط له — بل والساذج، فأنا لا أعرف الكثير في علم النفس أو الطب النفسي — هو أنه طريق هروب إلى عالَمٍ وهمي تَنقطع فيه صلة المرء بالواقع، فيُدمن الخيالات والتهاويل، ويسعد لحظات قد تطول وقد تقصر، فإذا أفاق لم يستطع تحمل الواقع، خصوصًا حين يَجد الفنان أن الزمن يجري به جريًا لاهثًا، وأن الصغار قد احتلُّوا مكانه أو كادوا، فيتحوَّل عداؤه للواقع إلى عداء للزمن!»

وقلت له إنَّ ذلك قد يكون تفلسُفًا مبالغًا فيه، لكنه لم يَلبث أن قال:

«فلنَقُل إنها فلسفة مُغالية، ولكنها مستمدة من خبرتي الشخصية لا من الكتب التي أدمنتَها أنت! إنها الواقع الذي عشت فيه سنوات طويلة، وأكاد أقول يعيش فيه مئات الفنَّانين ممَّن شُغلوا بأنفسِهم وفُتنوا بصورة ذاتهم، فأصرُّوا على استكمال الصورة أو ترسيخها في الخيال. ولهذا كان لا بدَّ لي أن أعالج الأمر بما يُشبه الصدمة (قالها بالإنجليزية shock treatment) فطلقتها بعد أن دفعت إليها أموالًا طائلة، ولم أشأ أن أتزوَّج غيرها خوفًا على مصير ابنتي. ولأُصارحك القول بأنَّ رحيلي من مصر إلى البلاد العربية أولًا ثمَّ إلى أمريكا الآن رحيل من يُريد أن يفرَّ من واقع مرير فلا يستطيع! لقد أصبحت زاهدًا في الشهرة عازفًا عن أجهزة الإعلام وأتحداك أن تجد بين الشباب مَن يعرف اسمي، فلقد انطفأت جذوة الفرحة الأولى التي قال عنها الشاعر وردزورث، وحلَّت محلها سحابات كآبة ولحظات جنون لا يُخفف من وقعها في النفس إلا ذكر الآخرة! لطالما استمعت إلى نصائحك فتحملت راضيًا ما يأتي به القدر، بل وأقلعت عن طيش الشباب حين ولَّى الشباب، والآن لا أستطيع أن أُغيِّر شيئًا في حياتي، وسوف أحدثك في المرة القادمة عن طبيعة عملي في أمريكا — لأن لدي موعدًا لا أستطيع أن أخلفه.»

ودهشت حين وصل إلى مائدتنا ضيف عربي يرتدي الملابس الإفرنكية، كما يقولون، فسلَّم وجلس، ولكن أدركت أن ذلك هو «الموعد» الذي تحدث عنه، فانصرفت.

وأفصح لي «حسن» في اللقاء التالي عن حقيقة مرض زوجته، ولكنَّني لن أفصح عنه هنا حتى لا يتعرَّف عليهما أحد القراء، ثم قص عليَّ ما يفعل في أمريكا، وهو باختصارٍ ترجمة العناوين والحوارات القصيرة في إعلانات الدعاية القصيرة عن المنتجات الأمريكية المصدَّرة إلى الوطن العربي، وقال إنه يُشارك بالرأي فيما يُناسب العرب من أقوال أو أفعال في تلك الإعلانات ويتقاضى عنها مبالغ كبيرة، كما يعمل مندوبًا لبعض الشركات التي تصدر هذه المنتجات، فيقابل المستوردين العرب ويتفاهم معهم بالعربية ثم يعود إلى أمريكا لإبرام الصفقات. وسألته ضاحكًا إن كان بين هؤلاء يهود أو كانوا يتعاملون مع إسرائيل، فقال دون مبالاة ما معناه إنه أغمض عينه على القذى وقَبِلَ الحياة في منطقة الظل، أو في شبه الظل، بين الشرق والغرب، وقال إنَّ عمله قد أتاح له أن يعرف كثيرًا من المُحتالين من ذوي الأصول العربية الذين يعيشون في أمريكا ويخدعون الناس والدنيا، ولكنه — على الأقل — يكسب رزقه بجهده ويحس أنه يعمل عملًا شريفًا.

وقابلت «حسن» عدة مرات بعد ذلك بناءً على طلبه، وخرجت من لقاءاتنا بأنه كان يجدُ راحة «اعترافية» في سرد أخباره وقص قصصه، وكنتُ ألحُّ عليه في كل مرة أن يعود إلى مصر، فالموت في الغربة قاسٍ مرير، ولكنه كان يُردد في كل مرة أيضًا أنه مؤمن بالآية وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ (لقمان: ٣٤)، وفي لحظة مرارة قال لي: «وما يَضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟!» ولم أضحك، ولم أعلِّق، وساد الصمت آنئذ كأثقل ما يكون الصمت. ثم افترقنا.

وانقطعت أخبار حسن شهورًا حتى ساورني القلق عليه، لكنه ما لبث أن فاجأني بالظهور في القاهرة ومعه جعبة جديدة من القصص.

٣

قلت إنني أحمد الله الذي آتاني القدرة على تأمُّل الناس والأحداث بعين الكاتب، ولا أظنُّ أن ذلك التعبير واضح كل الوضوح، ولذلك سوف أجمل ما أعنيه في تفسير مُوجز أُتبعه بنموذج يُمثل ما أقصد إليه. فأما التفسير فهو أنَّ عين الكاتب تُقيم مسافة بينه وبين ما يرى، وقد تبلغ هذه المسافة من الطول حدًّا يجعله يتأمل ما يراه كأنه يشاهد عملًا مسرحيًّا أو يقرأ رواية خيالية، وحتى يظلَّ — ولو شارك في الأحداث — بعيدًا عنها، إذ يستطيع أن يدرك بعض أبعادها التي قد تَختفي على المشاركين فيها، وأن ينظر إليهم باعتبارهم بشرًا لكل منهم حياته الخاصة ودوافعه الخاصة، وأن يتجرَّد من أية دوافع شخصية قد تجعله يجور على هذا أو ذاك وقد تمنعُه من التفهُّم الصحيح لأحوال كل منهم، ولكن هذه «الموضوعية» تختلف عن موضوعية العالم (عالم النفس أو عالم الاجتماع) في أنَّ عين الكاتب لا تقتصر على التحليل وفصل العوامل ورصد الظواهر وإقامة العلاقات وما إلى ذلك مما يفعله الباحث، بل تتجاوَز ذلك إلى ملء الفجوات في الصورة بما يتوافَر لديه من خبرات شخصية، بحيث تَكتمِل صورة كل منهم وصورة كل حدث، والاكتمال هو أول أو أهم عنصر من عناصر الجمال، فإذا بكلِّ شيء يكتسي من الجمال ما يجعله عملًا فنيًّا حيًّا، وإذا بالمشاعر التي يستقرئها الكاتب فيما يرى ويَستكمِل ما نقص منها من منابع ذاته، وقد أضفت على الناس والأحداث حياة خاصة ممتعة، قد تخرج بها عن سياقها الزمني، وقد تصعد بها إلى مصاف الأعمال الفنية الجميلة.

ولقد تعلمت جانبًا من هذه النظرة من أعز أصدقاء عمري — المستشار أحمد السودة والدكتور سمير سرحان، على اختلافهما اختلافًا بَيِّنًا، فالأول قارئ نهم يتأنَّى في القراءة حتى يستوعب كل معنى ثم لا ينسى أبدًا ما استوعب، والثاني قارئ سريع يصل إلى ما يُهمه وحسب، ثم يلقي بما لا يهمه في غياهب النسيان، ولكن كلًّا منهما يَتعاطَف مع ما يرى ومن يرى محافظًا على المسافة التي تتميز بها عين الكاتب، وكل منهما تشغله الحياة والناس دون تخطِّي المسافة التي ذكرتها، وأنا أختلف عنهما جميعًا بأنني أحيانًا ما أتخطَّى عمَليًّا وماديًّا تلك المسافة التي أحافظ عليها نفسيًّا وذهنيًّا، إذ أترك نفسي للاختلاط والامتزاج بالناس من شتى «الأشكال والألوان» كما يقولون، وأستمع كثيرًا إلى ما يحكُون ويَروُون، وأحيانًا ما أرقب مسار كلامهم بين الصدق والكذب والأقنعة (personae) التي يرتدونها أو ينزعونها من حين إلى حين، وأطرب لتأمل خلجات النفس البشرية في لحظات الضعف ولحظات القوة، وأعيش في قلوبهم — كما يقول أحمد رامي — لحظات معينة (مثلَما يفعل كاتب المسرح) ثم أعود إلى حياتي العملية بعد انتهاء فصل من فصول الدراما اليومية التي لا تتوقف أبدًا.

تمكَّنت بفضل عين الكاتب — كما ذكرت — من تخطِّي عقبة انتهاء «العمر الرسمي»، وتمكنت بفضل عين الكاتب من التغلب على محنة المرض، ومحنة الاستماع إلى السؤال الذي كان يُزعجني ثم أصبح مصدر تسلية وهو «إزَّي صحتك؟ ربنا يطمنَّا عليك!» فالبعض يجعله يُخفي نصًّا باطنًا هو «أنت مريضٌ واحمد الله على أنك ما زلتَ في قيد الحياة!» والبعض يُضمر نصًّا آخر هو «أعرف أنك مريضٌ وأُشفِقُ عليك!» والبعض الآخر يُوحي بنصٍّ مختلف هو «لم تَعُدْ شيئًا بعد أن وقعت في قبضة المرض … فانظر إلينا نحن الأصحاء!» والله يعلم أنني ما حسدت أيًّا من هؤلاء يومًا ما، كلا ولا حزنت للدلالات الخفية لأسئلتهم؛ ففي الغابة التي نعيش فيها ونُسمِّيها دنيا الأدب والفن، لا مكان لغير القوة، والقوة في عالم وسائل الإعلام المرئية والمسموعة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بارتفاع الصوت وجهارته، وبكثرة الظهور في أجهزة الإعلام وفي الندوات والمَحافل، ومن لا يُمارس هذه القوة يُعتبر عائشًا في الظل، ولكن الظل جميل بليل، لأنه يُتيح إنتاج أعمال قد يُكتب لها البقاء بعد زوال الصوت والصورة، وكلما اجتمعت بزميلي وصديقي عبد الوهاب المسيري ازداد إيماني بجدوى الظل، فلقد نذر نفسه للبحث العلمي في مجال شاق عسير هو مجال الفكر السياسي والاجتماعي فأنجز موسوعة لم يكن ليُنجزها لو شغل نفسه بارتياد المُنتديات والمحافل، أو بالظهور الأجوف على مدى السنوات العشرين الماضية، فالعمل هو الذي يكفل العطاء الحقيقي، وعمل الكاتب يقتضي الموازنة بين الظل والقيظ!

وكان من أهم ما كشف لي عنه تجاوز «العمر الرسمي» ذلك التنوع الرائع في ألوان ما أسميتُه بالظلِّ الجميل البليل؛ إذ يستطيع الإنسان أن يهنأ فيه ويستشعر ما لم يكن يحلم به من تعاطُف مع البشر؛ ومن ثم من الرؤية الصادقة لحاله دون أقنعة (وسوف أعود إلى القناع فأجعله موضوع هذا الفصل)؛ وذلك عندما خرجت من القاهرة في زيارات متعددة للجامعات الإقليمية. كانت المرة الأولى يوم الأربعاء ٥ يوليو ٢٠٠٠م حين ذهبت في وفد يضم الدكتور عبد الوهاب الجوهري — مستشار جامعة المنيا، وأمين لجنة الآداب والعلوم الإنسانية بالمجلس الأعلى للجامعات، وأستاذ علم الاجتماع المعروف — والدكتور حسنين ربيع أستاذ التاريخ، الذي كان نائبًا لرئيس جامعة القاهرة وعميدًا لكلية الآداب قبل ذلك، والدكتور مصطفى السعدني، الذي كان عميدًا لآداب بنها، وحلَّ محل الدكتور محمود فهمي حجازي الذي اعتذر عن اللحاق بالوفد، إلى أسوان للتحقُّق من إمكان (أو «جدوى» feasibility) افتتاح كلية للآداب تابعة لجامعة جنوب الوادي في أسوان، ابتداءً بأقسام التاريخ واللغتين العربية والإنجليزية، فقضينا يومًا كاملًا في اجتماعات وزيارات ميدانية لمباني الكليات الجامعية هناك، والاطِّلاع على الأحوال «على الطبيعة» كما يقولون، وهمس لي الدكتور ربيع قائلًا: إنَّ الجامعة سوف تُعطينا مكافأة مادية على هذا الجهد، ولكن خاب ظنُّه وظني، وإن كنت خرجت بانطباعات أثمن كثيرًا مما تدفعه الجامعة عادةً وتحقَّق صدق انطباعاتي عندما انتدبني عميد الكلية الجديدة، الدكتور عمر صابر، الأستاذ في قسم اللغات الشرقية لدينا، للتدريس في أسوان، وهو رجل فاضل يتميَّز بدماثة خلق نادرة، وكنت قرأت له كتابًا عن ديوان يوحنا النقيوسي، ترجمه وقدَّم له وشفعه بتعليقات وافية، فبهرني علمه، ويوحنا المذكور كاهن قبطي شهد فتح العرب لمصر، وكان من المصادر التي اعتمد عليها المؤرخ البريطاني ألفريد ج بطلر في كتابه فتح العرب لمصر الذي ترجمه محمد فريد أبو حديد ترجمة تُضارع الأصل جمالًا إن لم تتفوَّق عليه.

شاهدت في أسوان طلابًا فقراء يُريدون حقًّا أن يتعلموا، وكانوا يستعيضون عما يتمتع به أهل القاهرة والإسكندرية من تدليل «مدارس اللغات» بالجهد والدأب والمثابرة، وكنتُ أشعر أن قضاء يوم في التدريس لهم يُمثل درجة عالية من درجات الخير (فالخير درجات كما سوف أبين في الفصل الثاني) وكان يحضر معي المحاضرات أو الدروس أعضاء هيئة التدريس الثلاثة في قسم اللغة الإنجليزية، الدكاترة محمد سعيد وعاطف وعادل، وعادةً ما كانوا يدعونني للغداء معهم، وشاركتهم في إعداد الكتب اللازمة للسنة الأولى، وهي التي تولَّت الجامعة طباعتها وتوزيعها على الطلاب، وأحسست — على الرغم من المسافة الكبيرة التي تفصل أهل شمال مصر عن أهل جنوبها — بوجود تلك الرابطة الإنسانية العميقة التي تشدُّ الناس في مصر بعضهم إلى بعض، فكنت أشتاق إلى رحلة أسوان كل شهر تقريبًا، وأتطلَّع إلى اللقاء مع الطلاب والأساتذة، خصوصًا وأن الدكتور عبد الحكيم راضي، أستاذ اللغة العربية وآدابها، كان كثيرًا ما يصاحبني في الرحلة فنتناقش في أمور اللغة وأحوالها.

واتَّضح لي مدى العناء الذي يكابده هؤلاء الأساتذة الشبان، فمعظمهم مُنتدبون من كلية الآداب في قنا، وهم يسافرون لا إلى أسوان فحسب بل إلى الغردقة أيضًا للتدريس في معهد ما هناك، والرحلة إلى الغردقة تستغرق ثماني ساعات، كما أنهم يدرسون في كلية التربية أيضًا، وذلك كله يستغرق وقتًا طويلًا بل يستهلك كل طاقاتهم، ولا يكاد يُتيح لهم فرصة القراءة والبحث، وكنت أقدم لهم ما أستطيع من العون في هذا المجال، ولكن المكتبات في جنوب الوادي ما تزال في طور الإنشاء ولا تهتم دور النشر بإهدائها نسخًا مما تطبع، فدور النشر مؤسسات تجارية ولا تهدي النُّسخ إلا للأماكن التي تبشر بالبيع والكسب المادي. واتَّضح لي أيضًا مدى مُكابدة الطلاب أنفسهم في الوصول إلى مقر الجامعة، فوسائل المواصلات شاقَّة والمسافات طويلة، وكانت الدراسة في ذاتها تُمثل جهدًا يتطلب العزيمة والإصرار ومجالدة تلك الظروف القاسية، فنشأ في قلبي ونما حبٌّ عميق للجميع، وتمنَّيت لو أنني استطعت أن أفعل المزيد من أجلهم، ولكن جراحتَي العين اللتَين أجريتهما في آخر ١٩٩٩م وآخر ٢٠٠٠م وضعتا حدودًا لما أستطيعه.

وكان التناقض بين هذه الأحوال وأحوال قسمنا في القاهرة يزيد من جمال صفاء النفوس الذي كنتُ أستشفُّه في كلِّ زيارة لأسوان، وهو ما أعاد لي ثقتي بالطبيعة البشرية ووطَّدها بعدما كادت أن تتزعزع، وتأكدت هذه الثقة من جديد عندما توطَّدت علاقتي بالدكتور شبل الكومي، مثال الصفاء الخالص، فهو عالم مُتواضِع، يُواجه صعابه الخاصة بإيمان عميق واطمئنانٍ لما تقضي به الأقدار، وهو يقرأ كثيرًا ولا يفصح عن سعة اطلاعه إلا فيما ندر، ويتميز عن الآخرين بأنه لا يكاد يعترف بالأقنعة، وربما اقتنع في صباه بأنه لا حاجة له بها، وتأكد له هذا الاقتناع عند النضج، وقد بدأ توطُّد العلاقة بيننا عندما شاركني التدريس لطلاب الدراسات العليا بكلية الآداب جامعة المنوفية، اعتبارًا من خريف عام ٢٠٠٠م، فكنا نذهب معًا في سيارته، وكنا نناقش كل شيء أثناء الرحلة، وربما توقَّفنا في الطريق بمقهى ريفي، فتناولنا القهوة والشاي، وجلسنا نتأمل الطبيعة، وكنت أجد أن الرحلة فسحة (بالمعنى الفصيح والمعنى الدارج) فهي تفسح لي أن أنسى الضغوط التي أتعرض لها في القاهرة، والأقنعة الكثيرة التي تُواجهني في حياة العاصمة، سواء كان ذلك في مقر عملي أو فيما يسمى بدنيا الأدب والثقافة، وكنتُ أحسُّ أن الخروج من القاهرة في ذاته شيء جميل، فهو يتيح لي الوقت لتأمل أنماط أخرى من الحياة، ومد حبال التواصل مع البشر دون أقنعة، أو دون أقنعة كثيفة؛ فالناس خارج المدينة الكبيرة لا يتعرَّضون للضغوط الشديدة التي تضطرُّهم إلى ارتداء الأقنعة، وإذا ارتدوا أقنعة فهي لطيفة أو شفافة، ولذلك كنتُ أجد في التواصُل راحة من مُواجهة الأقنعة الكثيفة في معاملاتي بالقاهرة، فأتيح لعين الكاتب أن ترى الإنسان وهو أقرب إلى الصدق مع ذاته، ولقد استعنت بعين الكاتب كثيرًا في الشباب والكهولة، فهي العين التي تقيم المسافات أو تلغيها (كما سبق أن أوضحت) وهي العين التي تُمثل الطاقة الكامنة لدى كل إنسان وإن لم يكن واعيًا بها، فقد تمكنت بفضلها أن أستمتع برحلات إلى خارج القاهرة، مثلما استعنت بها في التغلب على غلظة أقنعة أهل القاهرة وتعقيداتها.

وبفضل عين الكاتب تمكَّنت أيضًا من اختزان «المادة الإنسانية» التي لا غنى عنها لكاتب المسرح؛ فهي مَعينُه الأول (بفَتح الميم) ومنهله الذي لا يَنضب، وما أعمق نفس الإنسان وما أعجب ما تُخفيه في أغوارها، ولسوف أضرب أمثلة من بعض ما شهدته وبعض ما أتابعه عن كثب، وأولى تلك اللوحات وأقربها ما يحدث في المنزل الذي نُقيم فيه، فله بواب اشتهر باسم عبد المنعم حتى إن البعض يُناديه باسم «الدلع» [التدليل؟] عبده، واسمه الحقيقي محروس عصعوص، وله من الأبناء تسعة، الكبرى (كوثر) من زوجة سابقة، تزوجت من سائس جراج يدعى «محمد» أصيب بمرض عضال ولم يلبث أن تُوفي رحمه الله بعد أن أنجب عدة أطفال، والثمانية الباقون هم بالترتيب (تقريبًا) صباح، ومحمد، وليلى، وهشام، وهويدا، وهدى، وأحمد، وهبة، ولما كانت الأسرة أصلًا من قرية من قرى الصعيد، فقد أصبح وجودها في القاهرة الكبرى يُمثل أهمية بالغة لأبناء القرية، فهم يُرسلون إليها بعض أقاربهم ممن ضاقت بهم سبل العيش في الريف، وعبد المنعم يمارس شهامة أهل الريف فيطلب من السكان المعاونة بما لهم من نفوذ في تحقيق أحلامهم في الحصول على عقود عمل بالبلاد العربية البترولية، وكان يُقدم كُلًّا منهم باسم «وِلْد عمِّي»، وقد نجح الكثيرون فعلًا في الرحيل، فاختفى البعض وعاد الآخرون بأيدٍ خاوية، مثل «محمد» ابن البواب نفسه!

أما نفوس هذه الأسرة التي تكاد تُشاركنا الحياة اليومية فلا تَنفتِح مغاليقها إلا لمن هو على استعداد لأنَّ يستمع إليهم ويُنصت ويختزن في ذاكرته ما استمع إليه ويُضيف إلى ذلك ما يراه من سلوكهم، وذلك كله — بالطبع — في إطار معرفته الوثيقة بأحوال تلك الأسرة و«البيئة» التي تعيش في كنفها. وكان همِّي الأول، ولا يزال، أن أطَّلع على ما يدور في نفس رئيسها الذي قضى معنا أكثر من ربع قرن دون أن تبدو عليه دلائل الشيخوخة إلا أخيرًا، باستثناء جراحة «المياه البيضاء» في إحدى العينين، وقد أجراها له أحد الأطباء في أحد المُستشفيات العامة ولم يتقاضَ عنها أجرًا، وباستثناء «أدوار البرد» التي تُصيب الصغير قبل الكبير ولو أنَّني حزنت كثيرًا عندما قال لي أخيرًا إنه أصيب «بالسكر» وفعلت ما قدَّرني الله عليه في هذا السبيل.

وقد وجدت «المفتاح» إلى أعماق تلك النفس فيما درجنا على تسميته بالصفات الأساسية للفلاح المصري على مر التاريخ، وأهمها حُب الأرض وامتلاكها، والمكر والتحايل إزاء عالم عابس لا يحفل به، ومن هاتين الصفتين تتفرَّع عدة ملامح سلوكية يسهل على الراصد إدراكها، منها اقتناء بعض القراريط في موطنه الأصلي وتأجيرها لبعض أقاربه، والتكتُّم على ذلك والتستر على كل ما يتَّصل بذلك الموضوع، ومنها احتراف «الخيال»؛ إذ يُعتبر هنا سلاحًا ماضيًا من أسلحة المكر والدهاء، يَستعين به المستضعَف في مواجهة عالم غير ودود، ولا يرى غضاضة في العدول عن أقوال قالها أو تعديلها بما يتَّفق وتحقيق أهدافه وأهمها هدف البقاء المتمثل في إضافة قيراط آخر إلى قراريطه. وهو في غضون ذلك يدَّخر كل نقود تدخل جيبه، ويحضُّ أبناءه الذكور على كسب الرزق، ويُهيئ بناته ذهنيًّا للزواج باعتباره الغاية العليا للفتاة، فالزواج يُلقي بعبء إعالتها على كاهل رجل آخر، بغض النظر عمَّن يكون وما يكون؛ فابنته الكبرى صباح تزوَّجت من رجل قصير غليظ الجسم مجتمع الخلق ضاحك السن، يكبرها كثيرًا وله أسرة ريفية في «نزلة السمان» بالقرب من أهرام الجيزة، وسرعان ما جعلها تتكيف مع حياة الريف الجديدة عليها بعد أن نسيَتْها الأسرة في المدينة، أما هي ففتاةٌ ملامحها نصف زنجية — مثل ملامح بعض النساء اللائي صوَّرهن الرسام محمود سعيد — شديدة السُّمرة واسعة الفم مفلطحة الأنف، أنجبت لزوجها سبعة أبناء، كبر بعضهم وأصبح مُراهقًا، وقد رأيت اثنين منهم يعملان أحيانًا في نطاق أسرة والدته حين تكفهرُّ مداخل الرزق، كأنْ يطردهما صاحب العمل، أو يدخل أبوهما السجن.

وكثيرًا ما كنت أسأل نفسي حين أتأمل رب الأسرة (الذي يخشاه الجميع) وهو جالس مع بعض أصدقائه من الريف على الدكة الخشبية في مداخل الجراج: ترى ماذا يدور في ذهنه؟ من عساه يَنتقي من بين السكان (ومنهم أطباء ومهندسون وضباط وأساتذة في الجامعة) للممارسة «خياله» معه؟ وماذا يَعتمل في هذه النفس التي لا تفتح أبوابها للطارق قط، ولا تكاد تعرف ما يدفُّ بين جوانحها إلا في لحظات الغضب؛ إذ تَنطلِق الحمم من فم صاحبها كأنها حمم من فُوَّهة بركان، وكنت ولا أزال أحب أن أشهد تلك الانطلاقات التي قد تكشف لي عن بعض ما يُخفيه الوجه الثابت الجامد الملامح كأنه قناع، وأحب أن أسمعه وهو يتحدث عن الشرف، فهو ينحصر في نظره في عفاف المرأة، فذلك في رأيه مناط الأخلاق الفاضلة، بل والدين نفسه والتُّقى والورع. وكان ذلك يتجلى أكثر ما يتجلَّى في رمضان — شهر الخير الذي يجود فيه السكان بطعام الإفطار الفاخر كل يوم على أسرة صاحبنا — إذ يأمر جميع الإناث حتى في مرحلة الطفولة بارتداء الطرحة (التي تُسمى الحجاب في مجتمعنا) وكانت إحدى حفيداته واسمها آية، وهي التي لفظتها أمها (صباح) ونقلت رعايتها إلى الجدين، ولم تتجاوز العاشرة، ترتدي طرحة كبيرة تخفي بها شعرها الأجعد.

ومن أخلاق الريف التي ورثها الابن الأكبر محمد من أبيه صفة الاقتصاص بنفسِه ممَّن يُسيء إليه أو كما يُسميها «أخذ حقه بيده»، ومحمد لم يعد صغيرًا؛ فهو يُناهز الأربعين، وهو أميٌّ، مصاب بالصَّرع، وقد تأتيه النوبة في أي مكان فيقع ويصاب إصابة قد تبلغ حد الخطر، وهو يعمل لحسن الحظ فراشًا في مُستشفى الصفا القريبة من المنزل، ولا أنسى يوم أن وجدته جالسًا على الدكة في مدخل الجراج لا يكاد يقوى على النهوض، فسألته: ما الخبر؟ فقال: إنه طُرد من العمل، ولما ألححتُ عليه في السؤال؛ قال: إنَّ أحد الأطباء أهانه «فأخذت حقي»، وأدركت على الفور أنه أوسع الطبيب ضربًا وأحس بالرضا لاسترداد كرامته، وعرف القصة بعض الأطباء من أصدقاء السكان فتوسَّطوا له حتى عاد إلى العمل، ولم أتمكن من الإلمام بالتفاصيل في غمرة الزهو الذي كان محمد يشعر به بعد أن اقتصَّ لنفسه من الطبيب.

وسبيلي إلى داخل هذه النفوس الحافلة بالألغاز هو الاستماع بتركيز وبصبر لا ينفد، كما قلت، فإذا قص البوَّاب عليَّ قصة بعض معارفه في القرية أو أقربائه تعمدتُ الإنصات، و«الحفظ» حتى تكشف لي روايته عن مُثُله وقيمه، فهو يَعمد دائمًا إلى «الإسقاط» أي نسبة كل شيء إلى الآخرين، كأنه كاتبٌ يُصوِّر من خلال شخصياته أفكاره ومشاعره، وأحيانًا ما تكون قصصه موجهة لطلب المال، وقد يقصها عليك إجمالًا أول الأمر متوقعًا منك أن تلمح ما يرمي إليه من قصته، وقد يفشل السرد في تحقيق مأربه فيلجأ إلى الأسلوب المباشر طالبًا النقود حتى دون وجه حق. وكان أحدث نموذج لذلك زواج ابنه؛ إذ أتى يقول: إنه سوف يشتري «الشبكة» لابنه و(النص الباطن هو: «أريد مساهمة في النفقات») والكل يعلم أنه لن يشتري شيئًا لأحد؛ فابنه «الميكانيكي» يصارحني بكل شيء، وزوجته «أم محمد» تقول لي ما يفعله زوجها بالمال [في البلد] فلمَّا تظاهرتُ بأنني لم أفهم مرماه، عاد يقول: إن فلانًا ساهم بكذا وفلانًا بكذا، ولما أصررتُ على التغابي جاء يقول: إنه يُريد كذا لاستكمال الثمن، وربما يكون ذلك ثمن البيت الذي سمعت أنه أمر ببنائه في أرضه.

٤

من معاني «عين الكاتب»، القدرة على تحويل الأشخاص إلى شخصيات مسرحية أو روائية، وليس معنى هذا أن نسلبَها كيانها الإنساني الكامل المتفرِّد، ولكن معناه أن نُقيم مسافة ما — كما قلت — بين ما نرى ونسمع وبين ما نشعر به ونفكر فيه، ومعناه أيضًا أن نتعاطف مع من لا نحب بل وما لا نحب في الناس؛ إذ استطعنا أن نُقصيه ولو إقصاءً محدودًا عن حياتنا الشخصية واهتماماتنا المباشرة، فالكذب صفة كريهة ولكنه يُصبح صفة طريفة إن أبعدتها عن حياتك ونظرت إليها في إطار حياة الكاذب نفسه، وحياتنا في مصر قد تستدعي الكذب؛ لأن الكثيرين لم يصلُوا إلى النضج النفسي الذي يسمح بالصدق دون غيره، فإذا طلب أحد منك طلبًا ولم تكن تستطيع تلبيته وقلت له ذلك؛ غضب منك وربما ناصَبَك العداء، بل إن بعض طلاب الحاجات يتوقعون إجابة مُرْضِية، ولو كانت كاذبة، كأن تقول إن شاء الله، أو ربنا يسهل، ثم تَعمِد إلى المماطلة والكلام المعسول، و«ربنا يفتح الأبواب»، ثم تأتي بذرائع للتعطل وأخيرًا لعدم القدرة على المعاونة! وقد يعاود أحدهم المحاولة من جديد وتعود الدائرة المُضنية وأنت في حيرة من أمرك، فقد ينفد صبرك فلا تملك إلا أن تواجهه بالحقيقة فيزيد إلحاحُه وربما انتهى الأمر بك إلى انفعال غير مقصود فيكون نصيبك الاتهام بانعدام الذوق أو المروءة والشهامة!

والأمثلة على ذلك تتفاوت بين طلب التوسط لدى المسئولين بغية توظيف أحدهم في الحكومة، وبين طلب ترجمة شيء ما أو مراجعته دون أجر (أو بأجر رغم أنفك!)، وبين المساعدة في نشر شيء لا يستحق النشر، أو كتابة مقدمة لشيء لا يستحق التقديم، أو المشاركة في ندوة نقدية لإعلاء شأن الكاتب!

ومن الصور الحاضرة في ذهني (أو اللوحات الحية في عيني) صورة حسن عبد النعيم، وهو من معارف أو أقرباء عبد المنعم، بواب عمارتنا الذي أشرتُ إليه، وهو خطيب ابنته هبة التي وصلتَ إلى سن الزواج، وهي الوحيدة التي لم تتزوج من الفتيات. فهو خريج قسم الإعلام بكلية الآداب بجامعة أسيوط بتقدير مقبول، ويبدو من مظهره وسلوكه أنه يعمل في القاهرة الآن عملًا يدويًّا، وما فتئ عبد المنعم يطالبني بالعمل على تعيينه في الإذاعة مذيعًا أو محررًا، أو صحفيًّا بإحدى دور الصحف الكبرى، وأنا لا أعرف شيئًا عن قُدرات حسن المذكور، ولكن عبد المنعم يأتيني بين الحين والحين بورقة تُفيد أنه سيُعقد له امتحان في الإذاعة بناءً على توصية من عضو في مجلس الشعب، ويطالبني بأن أوصي عليه المسئولين، فهو يَراني في التليفزيون ويظنُّ أنني أتمتع بسلطان عريض، وكنت أجيبه الإجابة التي يرجوها («ربنا يسهل» أو «إن شاء الله خيرًا») دون أن أشرح له استحالة التدخل في نتيجة الامتحان، والواقع أنني خاطبت حمدي الكنيسي رئيس الإذاعة آنذاك (١٩٩٩م) فهو زميلي القديم في قسم اللغة الإنجليزية — وقد أكَّد لي أنه لن يستطيع مساعدته إلا إذا نجح في الامتحان، ولكن عبد المنعم يعتقد أن الامتحان صوري وأن الكوسة (أي المحاباة) هي قاعدة التعيين، وذكرتُ ما قالته ضحى (وهي تلميذة سابقة حصلت على دبلوم الترجمة من قسمنا) من أن «أولاد الأكابر» و«الواصلين» قد يعفون من الامتحان أصلًا، وأن هناك طابورًا طويلًا من العاملين بعُقودٍ في الإذاعة يدخلون ذلك الامتحان حتى يحصُلوا على وظائف ثابتة حتى ولو لم تكن النتيجة في صالحهم. وكان إلحاح عبد المنعم يتخذ صورة التنغيص والمضايقة، فهو يقبع لدى الباب وكلما شاهدني ذكَّرني بخطيب ابنته وأن الزواج يتوقف على نجاحه، لكنه لما رسب للمرة الثانية تحوَّل إلى محاولة العمل بالصحافة، وانتهز فرصة إهدائي بعض المفكِّرات وروزنامات العام الجديد من جريدتي الأهرام والأخبار ليطالبني بتعيينه في إحدى هاتين الصحيفتين، وعندما صدقت ما وعدته به وخاطبت من أعرف في الصحف، قيل لي: إن أبواب التعيين مغلقة من مدة، وإن خريجي كلية الإعلام بجامعة القاهرة ينتظرون التعيين منذ أمدٍ بعيدٍ وبعضهم (حتى من الحاصلين على تقدير جيد بل وجيد جدًّا) لا يزال يتدرب دون أن يلمح فرصة التعيين.

المشكلة هي أنني لا أستطيع أن أزكِّي حسنًا لأنني لا أعرف قدراته، ولا أستطيع أن أقول لأحد معارفي أو أصدقائي إنني سوف أبعث إليه «بمشروع صحفي» نابه أو «مشروع مذيع» ناجح، وكل ما أستطيعه، دون أن أفقد مصداقيتي ناهيك بأمانة الكلمة، هو أن أوصي بالاهتمام به بصفته خطيب بنت بواب عمارتنا، كما أنني لا أستطيع في الوقت نفسه أن أواجه البواب بحقائق الموقف، فهو لن يفهمها حتى لو سمعها، بل سيفهم أنني أتقاعس عن تقديم «خدمة» عادية، وذلك «التقاعس» في نسق قيَمِه مرذول ممجوج، ينمُّ عن تخاذل أو عما هو أسوأ، وأنا لا أريده أن يفهم هذا أو ذاك، وأُحاول بشتى الطرق الممكنة أن أقنعه بصعوبة تحقيق الأمل الذي يطمح إليه خطيب ابنته، فهو يُريد أن يُلحق بأسرته رجلًا جامعيًّا، ويتصوَّر أنه لو قدر لحسن أن يحصل على وظيفة في الإذاعة أو في إحدى الصحف؛ فسوف يجري المال بين يديه أنهارًا، ويُصبح ذا نفوذ وسلطان، وقد يظهر في التليفزيون كل يوم.

وأذكر أن أحد الطامحين في ممارسة الكتابة والنشر زارني في مكتبي بمجلة المسرح في هيئة الكتاب في أواخر الثمانينيات، أثناء فحص المادة، وأطلعني على ما كتب، ولم يكن يزيد عن خواطر مراهق بعضه شعر موزون ومعظمُه غير موزون، والعامية مختلطة بالفصحى، بل وبعضه منقول من كتابات آخرين، وأثارني ذلك الخليط العجيب ولكنني ثابرت حتى استطعت قراءة شطر كبير منه، وصارحته برأيي وأوضحت له أن نشره بحالته الراهنة عسير، وإن كان يُنبئ عن موهبة تتطلب الصقل بالقراءة والدربة والممارسة، وأوصيته بقراءة عدة كتب، فبدا عليه الذهول وقال لي: «ولكن هذا شعر يبدأ من حيث انتهى الآخرون؛ فأنتم العلماء ونحن الأدباء، ونحن الذين نكتب ونُبدع، وأنت الآن تحول دون إطلاع الجمهور على ثمار عبقريتي!» وقلت له إنني صارحته برأيي وحسب، لكنه إن شاء قدم هذا الإنتاج إلى دار من دور النشر فإذا قبلته نشرته، وإنني لست مُلزَمًا بشيء، لا بنقده ولا بنشره، وله أن يعرضه على غيري إن شاء حتى يتأكد من صدق مشورتي! لكنه أصرَّ على نشره في هيئة الكتاب، فقلت له قدم هذا الشعر إذن إلى رئيس الهيئة رسميًّا وسوف تعرضه الهيئة على لجنة من المتخصِّصين فإذا وافقت على النشر نُشر! فبدا عليه الارتياح وهدأ ثائره وقال إذن إنني أقدمه إليك وأرجوك أن تتولى أنت التوصية بنشرِه، لكنني أصررت على أن يقدمه رسميًّا إلى المسئولين في إدارة النشر، فنهض مُغضبًا ومضى، ولم تمضِ أسابيع حتى عاد إليَّ في مكتب مجلة المسرح بالهيئة ومعه ذلك «الشعر» وقد أرفق به خطابًا من الوزير موجهًا إلى رئيس الهيئة يُوصي «بالنظر» في الموضوع، ويحمل تأشيرة من رئيس الهيئة توصي ببحث الموضوع، وابتسمت له هذه المرة بسمة عريضة وقلت له «الحمد لله! خرج الموضوع من يدي! قدِّمه إلى الأستاذ لمعي المطيعي — المشرف العام — وسوف يتولى هو كل شيء.» كان يجلس معي في المكتب حازم شحاتة وأمير سلامة وعمر نجم، وبعض العاملين المساعدين في المجلة مثل صلاح الوسيمي وعنايات السكرتيرة، ففرحت بوجود «شهود» وشرحت له بهدوء الخطوات الإجرائية المطلوبة، وحاولت قدر طاقتي أن أتصرَّف تصرف الموظفين الملتزمين، فلم أُبْدِ ما يدل على أنني قرأت «شعر» ذلك الشاب، وأرسلت معه عنايات إلى مكتب الأستاذ لمعي وظننت أن الموضوع قد انتهى عند هذا الحد، بل إنني نسيت الموضوع تمامًا في الشهور التالية، حتى جاء يوم أُرغِمتُ فيه على تذكُّره.

لم يكن يبدو في البداية أن هناك أي علاقة بين حملة الهجوم على الهيئة في إحدى الصحف الصُّغرى «المغمورة» (شبه الحزبية) وبين تأخر نشر ما كتبه ذلك الشاب، أو عدم نشره؛ إذ كانت سلسلة المقالات التي لم أطلع على أولاها مثيرة بذيئة حادة اللهجة، وكانت المقالة الثانية تتَّهم الهيئة بالمحاباة و«الشللية» وما إلى ذلك من أوصاف حفظناها عن ظهر قلب، كما تتضمن اتهامات أخرى تقول إن الهيئة تنشر كتابات فاضحة لليساريين، وإنها تتعمد معارضة نشر ثمار قرائح المبدعين من الشباب المؤمنين حتى لا يُنافسوا الكبار من الشعراء المجيدين الذين ترضى الدولة عنهم! ولم أكن أدرك وجود علاقة بين هذا الشاب وهذه الحملة لأنني — كما قلت — كنت قد نسيته تمامًا، وكان سمير سرحان لا يزال رسميًّا «منتدبًا» للعمل في الهيئة؛ أي لم ينتقل نهائيًّا من وزارة التعليم العالي إلى وزارة الثقافة، ولم يكن يحبُّ مثل هذه «الشوشرة»، فطلب مني كتابة رد موضوعي على تلك المقالات، فأتاني المكتب الإعلامي بالمقالات، وأتيت بقائمة منشورات الهيئة، وأعددت الرد الذي رأيته مقنعًا بل ومُفحمًا؛ لأن الهيئة تُعنى حقًّا بكتابات الشباب وقد خصَّصتْ لها سلسلة كاملة بعنوان «إشراقات» تُباع بأسعار زهيدة لتشجيع الناس على اقتنائها وتشجيع أصحابها على الاستمرار، وشرحت في الرد إجراءات فحص الأعمال المنشورة وإجراءات نشرها ومكافأة أصحابها وما إلى ذلك، وأطلعته على الرد فأرسل به إلى الصحيفة فنُشر، وإلى جانبه «عمود» يُقدِّم فيه صاحبه ما أسماه الدليل على صدق ما جاء في المقالات؛ ألا وهو عدم نشر «شعر» صاحبنا!

وكان لا بدَّ من إعداد رد جديد يكتبه لمعي المطيعي — المشرف على النشر — فتم ذلك، وأُرسل إلى الصحيفة، ولكنَّه لم ينشر! واتصل سمير سرحان تليفونيًّا برئيس التحرير وسأله عن ذلك فقال رئيس التحرير إنه سوف يَنشرُه عملًا بحرية النشر ولكنه ينتظر عودة صاحبنا من قريته حتى يردَّ على الرد! ثم انطلق يتحدَّث بنبرات ودودة — حسبما حكى لي سمير — طالبًا منه أن يُوفر على نفسه كل هذا الجهد وأن ينشر «المجموعة الشعرية» لصاحبنا ولو في سلسلة «إشراقات» (وخلاص!) ولكن سمير سرحان قال له: إن لجان الفحص هي التي تَقضي بالنشر أو عدم النشر، (وكان محمود العزب هو الذي يشرف على السلسلة، يُعاونه عبد العال الحمامصي ولفيف من كبار النقاد) وأنه لا يتدخل في تحديد ما يُنشر وما لا يُنشر، وإن عليه إن أراد الحقائق كلها أن يتصل بالأستاذ سعد درويش — مدير عام النشر — أو بالأستاذ لمعي المطيعي — المشرف العام — حتى يعرف ما حدث بالتفصيل. ويبدو أن رئيس التحرير فعل ذلك لأن الصحيفة لاذت بالصمت التام إزاء الموضوع بعد ذلك، وبدأت تنشد الإثارة في مجالات أخرى أهمها السياسة والدين.

ولقد تعلمت من هذه الحادثة الكثير، ولكنني اجتزت هذه المحنة وأمثالها مما تكرر بعد ذلك بفضل عين الكاتب، فكنت أحافظ على المسافة التي تفصل بيني وبين ما يحدث، إذ تحوَّل الشاب الطامح في نظري إلى شخصية لها جميع المقومات الإنسانية التي تضعها في رواية أو مسرحية، واستعنت بما أعرفه عنه وما قرأته له — على قِلَّته — في رسم صورة تقريبية له، وتكرَّر ظهور هذه الصورة في حالات الشبان والشابات ممن كثر ظهورهم في الحياة الأدبية بسبب وفرة وسائل النشر، سواء في الصحف والمجلات التي كثرت كثرةً مَرَضِيَّة، أو في سلاسل الكتب التي تنشرها شتى الهيئات بجانب هيئة الكتاب حتى كاد دور الهيئة أن ينكمش، بل وأن يتوارى في خِضمِّ ما تنشره كل هيئة، والملامح الأساسية للصورة هي اندفاع الشباب وحماسه، وتصوره العجيب أن وقدة العاطفة وحدها كفيلة بصنع الأديب، وضعف الأداة — ضعف اللغة الفصحى (فلنَكتب بالعامية) وضعف آلة الشعر وعدم القدرة على النظم (فلنكتب نثرًا ولنُسمِّه شعرًا) وضآلة الخبرة الإنسانية أو ضحالتها، وأخيرًا وليس آخرًا، الهجوم على الكبار والتطاول على من أفنوا العمر في الدرس والتحصيل والقراءة والكتابة!

وتختلف الصورة في التفاصيل، وتتفاوت — بطبيعة الحال — فيما يحيط بها من ملابسات، ولكنها ذات جوهر ثابت، فالشاب يريد بعد نشر ديوانه الأول أو مجموعة الشعر الأولى — أيًّا كانت جهة النشر ومهما يكن مدى تقبل الجمهور والنقاد لها أن يُصبح في مصاف الأدباء وأكاد أقول كبار الأدباء، وأظنُّ أن المناخ العام يساعده هو وأمثاله على ذلك؛ فهم يرون الكثيرين يُثرون دون مجهود، ويرون كيف ينالون ما لا يستحقون بوسائل ملتوية أو بأساليب الغش والخداع، وهو ما تشجع عليه وتُنمِّيه أجهزة الإعلام التي تذيع أعمالًا فنية ترسخ هذه الصور، حتى مع إدانتها، وهي الصور التي تُولِّدها وتنمِّيها الرأسمالية الفاسدة، بعد أن أصبح التليفزيون (لا الكتاب) المصدر الأول للعلم والمعرفة وبث القيم وترسيخ مناهج الأخلاق، وبعد أن أصبح دور القراءة محصورًا في «المقرر» الدراسي الذي يُقبِل عليه معظم الطلاب ساخطين كارهين مُرغمين فما أيسر على الإنسان أن يشاهد أو يسمع، وما أشق عليه أن يقرأ ويدرس!

وتحتلُّ هذه الصورة بأشكالها المتعدِّدة مكانها في ذهني، وهي صورة تتلوَّن كما قلت بما يحيط بها من ملابسات، فهي صورة حية متحركة أو دينامية كما يقولون، قد تتجسد في شخص شاعر أعرفه تخطى مرحلة الشباب وكان يعمل في الهيئة ويكتب النَّظم ويتصور أنه عبقري العباقرة وسيدهم، أو في صورة سيدة أعرفها وكانت في أواسط العمر تكتب الشعر المنثور والمنظوم أحيانًا وتُردِّد آي الذكر الحكيم لترهبك وتخوِّفك، أو في صورة فتاة متحررة تكتب نثرًا جميلًا وتقول إنه شعر، بل وفي صورة أستاذ جامعي حظه من الموهبة الإبداعية محدود، كتب مسرحية أو رواية وظنَّها كفيلة بوضعه بين كبار الأدباء، ولا شك أن لهؤلاء نظائر بين من لا أعرفهم.

٥

بين الحياة العملية والحياة الذهنية تناقض صارخ، ولكن الجمع بينهما لازم لكل أديب وخصوصًا لكاتب المسرح، وحتى لو كان الكاتب متفرغًا للكتابة؛ أي لا يمتهن مهنة سواها، فهو يحتاج إلى الحياة العمَلية «لتسويق» ما يكتب، وكلمة «تسويق» قد تبدو مرذولة، نظرًا لما يُحيط بها من دلالات الكسب المادي أو الربح ولو كان حلالًا، ولكن المقصود بها هنا هو إشاعة ما يكتبه الكاتب بين الناس ولفت نظرهم إليه أو حثهم على قراءته؛ فالناس — القراء أو المُشاهدون — هم الضلع الثالث اللازم لاكتمال «دائرة الإبداع» التي تحدث عنها شكري عياد فأوفاها حقها، فإذا كان الكاتب يأخذ من الناس مادته التي تتحوَّل إلى عمل أدبي جميل، فعليه أن يُوصِّلها إليهم في صورتها الجديدة، وعليه أن يرى ويسمع ما يقولون عنها في هذه الصورة، وخصوصًا ما يقوله النقاد والأدباء، ففي ذلك عون له على تلافي النقائص ومواصلة التجويد؛ أي إنه ملزم بالارتباط بالناس ارتباطًا حميمًا قبل الإبداع وبعده، مثلما هو مُلزم بالارتباط بالتراث الأدبي الذي يُحدِّد له الشكل الجمالي الذي يختاره لعمله.

ولكن تُرى مَن يكون هؤلاء الناس؟ إنهم نحن جميعًا، و«نحن» آلاف الأنواع، والكُتَّاب من بيننا نوع واحد، وهو نوع يتفرَّد بالجمع بين عين البصر وعين البصيرة، عين البصر التي لا تُغادر صغيرة ولا كبيرة إلا رصدتها، وعين البصيرة التي تنفذ من خلال هذه وتلك إلى النفس الإنسانية التي تمنح كل شيء معناه، وهو نوع كتب عليه أن يختار وأن يتمهَّل في اختياره، مُهتديًا لا بمُقتضيات الشكل «الجمالي» وحده (فهذا يتغيَّر من فن إلى فن ومن عصر إلى عصر ومن لغة إلى لغة) بل أيضًا بمُقتضيات الجمهور الذي يخاطبه، أو القارئ الذي يتوقَّع أن يقرأ ما كتب، أو المشاهد الذي يتوقَّع أن يُشاهد عمله المسرحي، وقد يبدأ بالعام والأساسي الذي لا خلاف عليه، مُسترشدًا بتقاليد الفن الذي يمارسه، ثم يُطوِّر بعضًا منها أو يُحوِّلها تحويلًا رفيقًا أي تحويلًا لا يمسُّ الأساسيات، وقد يختار أن يبدأ بالتطوير مُتوجهًا إلى شريحة معينة من القرَّاء أو المشاهدين أو «المتلقين»، شريحة يَثق في تقبُّلها لتطويره وإقبالها عليه، آملًا أن يزداد عدد أفراد هذه الشريحة، مثلما فعل الرواد في القرن العشرين، ولكنه في كل حال يعمل حسابًا للقارئ ويضعه نصب عينه، فهو حين يكتب فإنما يخاطب شخصًا ما، واعيًا أو دون وعي، وما الكتابة إلا سجلُّ الكلام، وأنا الآن أخاطب قارئًا تتوافر فيه صفات قد لا تتوافر في جمهور المسرح، فالأرجح أنه يحب القراءة، وربما كان يحب الكتابة أيضًا؛ أي إنه قد تلقى قدرًا لا بأس به من التعليم وصل به إلى مرحلة النضج، وهو يحب اللغة العربية، وأنا أقصد الفُصحى لا العامية، بل وأتصور أنه ممن يقرءون الصحف، وربما كان من بين القراء مَن قرأ بعض كتبي المنشورة على امتداد أربعين عامًا، وقد لا يتوافر هذا أيضًا في جميع مُشاهدي المسرح، فإذا تفاءلت قلت إن كتابي قد يقرؤه مئات القراء، ولكنني لا أتفاءل حين أتوقع أن يشاهد مسرحيتي آلاف المشاهدين، والواجب على كاتب المسرح إذن أن يحدد لنفسه ملامح جمهور مجهول يضم شتى درجات التعليم والوعي والخبرة، وشتى المشارب والأذواق، ناهيك بشتى الاتجاهات المذهبية في عصر تكاثرت فيه المذاهب واختلطت، وتشابكت فتعقَّدت!

ولذلك لا بدَّ لكاتب المسرح من الحياة العملية في المسرح! لا بد له من ذلك حتى يعرف طريقه الحق إلى قلوب الجمهور، ولقد سبق لي الحديث في واحات مصرية عن «الموضوعات» التي تمثل القواسم المشتركة بين الجماهير، تفسيرًا لا تبريرًا للفشل الجماهيري الذي صادفتْه مسرحيتي الغربان، فعوامل الفشل لا تقتصر على الموضوع، أو على أسلوب التقديم والإخراج، أو على المُمثلين ومدى شعبيتهم، أو على مكان العرض وموعده، بل هي تتضمَّن هذه العوالم مُجتمعة، وإلى جانبها بل على رأسها — القُدرة على التواصُل مع الجمهور، مما يقضي بضرورة التفرُّغ لذلك إذا كان يُريد النجاح الجماهيري حقًّا، مثلما فعل لينين الرملي في المسرح، ومثلما فعل محفوظ عبد الرحمن في التليفزيون، ومصطفى محرم في السينما وأخيرًا في التليفزيون، فالاختيار الذي واجهناه — وأقصد بالجمع سمير سرحان وفوزي فهمي وعبد العزيز حمودة وأنا — لم يكن اختيارًا سهلًا؛ فإما أن نتفرَّغ لكتابة المسرح ونُضحي في سبيل ذلك بالكثير من نشاطنا الأكاديمي (كل في مجاله) أو نُواصل كتابة المسرح ونتوقَّع أن يأتي يوم يكتشف أحد فيه ما تركناه من نصوص فيقدمها! وأما علامة التعجُّب فمعناها أن هذا محال؛ لأنَّ الدنيا تغيرت وتتغير بصورة تجعل القياس على الماضي مستحيلًا، فلم تشهد البشرية على امتداد تاريخها الطويل شاشة تعرض صورًا متحركة داخل البيوت وبالألوان، تُغني الشخص عن الخروج في زحام المواصلات، وإنفاق الأموال التي يحتاجها أولاده، ولم تَشهد مصر قبل هذه الأيام هذا المستوى من الكد والعناء في سبيل الرزق، وهو الذي يجعل العائد إلى منزله آخر اليوم يتمنَّى ألا يغادره حتى صباح اليوم التالي!
ومع ذلك فجمهور المسرح كبير؛ لأن أهل مصر «أهل لهو وطرب وسرور» كما قال ابن بطوطة، وفي ظنِّي أن هذه خصيصة مصرية قديمة، لم تفلح جهامة التاريخ في طمسها، وكثيرًا ما أعجب وأنا أقرأ تاريخ مصر، وخصوصًا بدائع الزهور في وقائع الدهور لابن إياس والنجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لجمال الدين أبي المحاسن (وهو ابن تغري بردي الأتابكي) أو كتب المقريزي مثل الخطط وإغاثة الأمة، أو الكامل في التاريخ لابن الأثير (وقد نَشَرْتُ مختارات كثيرة منها جميعًا في مكتبة الأسرة في التسعينيات من القرن العشرين)، أقول إنني كثيرًا ما أعجب لما كابده هذا الشعب وما مرَّ به من بلايا ومِحَن وأرزاء، وما تعرض له من غزوات وحروب ومجاعات، ثم لم يفقد قوته، لا بل ولم يَفقد إقباله على الحياة وحبه لها، بسبب تلك الخصيصة المصرية القديمة المرتبطة بفن المسرح؛ فالمصري الصميم رجل أقنعة، يُؤمن بأن الحياة الدنيا «لهو ولعب» وبأنَّنا نقوم بأدوارنا المرسومة لنا (والمكتوب علينا أن «نلعبها») ونحن ندري أنها أدوار، وأن وراءها حياة أخرى «خير وأبقى»، وأنَّ اجتياز هذا المعبر الدنيوي يتطلَّب الصبر على الشدائد بروح تعرف معنى «اللهو واللعب»، فالذهن اللمَّاح يلتقط التناقضات ويَضحك منها، ويرى في مفارقات الدنيا دليلًا على أنها عابرة كاذبة مثل أدوار المسرح، والمصري الصميم يرتدي قناع الحزن في المأتم، وتُولوِلُ النادبات الكاذبات، ويَجتمع الناس في تمثيليات العزاء، ثم ينفضُّ الجميع ويعودون لتمثيل أدوار أخرى، مثل أدوار الخنوع أو القهر، وفي أعماق كلٍّ منهم إحساس بزيف هذا وذاك، وأذكر أن أحد أصدقائي الخُلَصاء ذهب إلى «البلد» لتقديم العزاء في وفاة ابن أخيه، ولما انتهت المراسم بعد صلاة العصر، وجد أن الوقت قد تأخَّر فقرر قضاء الليلة في منزل أسرته، وعندما ذهب إلى المسجد ليُصلي المغرب وينتظر العشاء، جريًا على عادتنا في البلد، إذا بمن يدعوه إلى حضور زفاف أحد معارفه المقربين، فلم يتردَّد بل ذهب بعد صلاة العشاء إلى حفل الزفاف، وعندما لامَهُ أحد أفراد الأسرة على ذلك قائلًا إنه جاء للعزاء والتعبير عن حزنه فكيف يُشارك في الزفاف الذي هو فرح وسرور، كان ردُّه «هذا واجب وذاك واجب.» وعندما علمتُ بما حدث وجدتني أترجم هذه العبارة إلى صيغة أخرى هي «هذا قناع وذاك قناع»، وفي ظني أن الرجل لم يجد تناقضًا بين الحزن والفرح، وربما لم يكن في أعماقه يَصْدُقُ في هذا أو ذاك؛ فهو يلعب دورًا هنا ودورًا هناك، وقد يكون إحساسه الصادق هو أنَّ الموت رحمة وأن الفرح (الزفاف) بداية عذاب، أو قُل إن الحزن والفرح قناعان يتداولهما الإنسان ويستبدل الواحد بالآخر في كل لحظة من لحظات حياته، فلا معنى للغضب من أن يلبس أحدهما في الظهيرة ويَلبس الآخر في المساء، وهي نظرة أقرب عندي للروح المصرية الصميمة.

وإدراك هذه الروح كفيل بالاقتراب من طبيعة الجمهور التي أعيت الباحثين، وجذورها التاريخية أوضح من أن تُذكر؛ فالبعض ينشدون التسرية في المسرح التجاري — في الكوميديات أو الهزليات — ثم لا ينفرون من المسرحيات الجادة أو المأساويات لأن مطلبهم لا يقتصر على الضحك بل يتضمَّن تبديل الأقنعة أو تبادُلها أو المشاركة في ذلك، وهو ما يُهيئ للمُشاهد متعة الوعي بتمثيلية الحياة، بل وتعميق هذا الوعي، كما أن إدراك المفارقات والضحك منها دليل على الصحة النفسية أو هو سبيل إليها؛ فالوعي مثل الضحك خصيصة إنسانية، ولقد تعلَّم المصري عبر تاريخه الطويل فنَّ استبدال الأقنعة، وحذق فنَّ التمثيل في حياته، ووجد في التمثيل منجاة من بطش حكام أجانب لا يُقيمون للفرد العادي وزنًا، فسخر منهم وضحك، وتجلَّى ذلك في لغته الدارجة التي ابتعدت كلَّ البُعد عن الفُصحى بمظاهر جدِّها ووقارها، فأصبحت الدارجة لغة حياة حافلة بدلائل وعيه وعمق استيعابه لتاريخه الأليم؛ فالبعض يراوغ ويخاتل ويضحك ممَّن يظلمونه، وقد ينتهي به الأمر إلى أن يرى في «الفهلوة» أو «الفتاكة» أو «الفكاكة» امتيازًا نادرًا، والطالب قد يظنُّ أنه أذكى من المعلِّم ويتحايل للنجاح دون علمٍ أو بأقل مجهود، والعامل قد «يلكْلِكْ» إذا استطاع ذلك في غيبة الرقابة، وقد «يعُكُّ» وقد «يُلبِّخ» إن ضمن الإفلات من المساءلة، لأنه لا يأخذ شيئًا مأخذ الجد؛ فالظالمون غير جديرين بالإخلاص لهم في شيء، وحتى بعد أن تغيرت الأوضاع بعد الثورة، أصبح «الخرِّيجون» يُريدون التوظُّف في «تكيَّة» الحكومة حتى ينعموا بالكسل فيتقاضوا رواتب دون عمل يذكر، وهذه العيوب مثالب ولا شك تعوق «بناء الوطن»، ولكنَّها من وجهة نظر أخرى تُفصح عن مدى تغلغل الأقنعة المسرحية في حياتنا، وفي لغتنا، ويكفي أن تتأمَّل الألفاظ العامية التي أوردتها عامدًا في هذه الفقرة!

ولست أزعم أنني أول من يتحدَّث عن هذه الأقنعة أو أنني أدقُّ مَن وصَفها، ولكنَّني أحاول فحسب أن أُبين أهميتها لكاتب المسرح من حيث كونها المدخل لفهم الجمهور الذي يتوجَّه إليه بالخطاب؛ فالوعي بالقناع هو الذي يُحدد ما نسميه «بالنغمة» (tone) أي رنة الصدق في الحديث أو الكذب أو السخرية وما إلى ذلك بسبيل، سواء أكان ذلك من جانب المتكلِّم أم السامع، فإذا كان على الممثل أن يرتدي قناعًا وأن يُقنع الجمهور بأنه تَوحَّد مع صاحب ذلك القناع بالحركة الجسدية ونبرات الصوت ارتفاعًا وانخفاضًا وحدَّةً وخُفوتًا، وإذا كان على المخرج المسرحي أن يَستعين بالسينوغرافي ليضع له من المناظر ما يوحي للجمهور بصدق تصوير المكان أي بإعداد قناع بصَري مُقنِع، فإنَّ عمل الكاتب لا يتوقَّف عند كتابة الكلمات التي ترسم أقنعة كل شخصية، بل عليه أن يذكر أنه يوجه هذه الأقنعة إلى جمهور يَرتدي معظم أفراده أقنعة اجتماعية، وأن يُحاول عن طريق الحدث المسرحي إسقاط هذه الأقنعة أو خلخلتها وهزها على الأقل، ولو إبان فترة العرض المسرحي فقط؛ وذلك بإقامة علائق بين الأقنعة المسرحية وما تخفيه أقنعة الجمهور، فهو يشبه في هذا الطبيب النفسي الذي يعمل على اكتساب ثقة المريض بطرائقه الخاصة فإذا نجح في ذلك تمكَّن من تجريد المريض تدريجيًّا من أقنعته أي من دروعه التي يَتحصَّن خلفها حتى يكشف لعين الطبيب الفاحصة عن العلَّة، وربما كتب له الشفاء بعد ذلك. أما العلائق التي يُقيمها الكاتب المسرحي فتتمثَّل في مدِّ حبال العناصر الأولية والعالَمية (primes & universals) أي تلك العناصر البشَرية التي يشترك فيها الناس جميعًا وتتخفَّى خلف الأقنعة، وهي العناصر الكفيلة بأن تشد الجمهور شدًّا إلى الأقنعة المسرحية، وتُهيئ لأفراده درجة معقولة من التصديق أو تعمُّد عدم التكذيب مؤقتًا — وهو ما يسميه كولريدج: (the wilful suspension of disbelief) أي «تجميد التكذيب عمدًا» فإذا نجح في ذلك يكون قد اكتسب ثقة الجمهور ودفع أفراده إلى المشاركة الوجدانية (في المأساة) أو الذهنية (في الملهاة) طيلة العرض أو في معظم فتراته، ويُصبح بإمكانه أن ينفذ إلى ما تخفيه الأقنعة التي يضعها أفراد الجمهور، بحيث يصل في النهاية إلى خلخلتها أو إسقاطها إن توافرت لديه البراعة الكافية، ولو لفترة زمنية محدودة.

وإذا كانت هذه هي القاعدة العامة أي القاعدة التي تَنطبق على كلِّ عمل مسرحي ناجح وتصدق على الجمهور في كل زمان ومكان، فإنها ذات طابع خاص في مصر، بسبب أقنعتنا الخاصة، وفي هذه الأيام تحديدًا بسبب ما أوجدته ثقافة نهاية القرن العشرين من أقنعة التقوى والورع وأقنعة النصوص المقدسة، وتجلِّياتها التي تتبدَّى في أبسط صورها في قشور السلوك «الديني» [— ألو! — سلامو عليكم!] ومظاهر الحشمة (الطرحة والتوربان للمرأة، والجلباب الأبيض والزبيبة للرجل)، ولذلك فإن كاتب المسرح يجد أن الأقنعة التي يواجهها تشبه الدروع الصُّلبة أو القلاع الحصينة، فهي لا تَقتصر على الزرود النفسية، بل تتضمَّن آليات دفاع عن النفس تُقاوم مُحاولته لاكتساب الثقة، ولا مَناص له إن أراد النفاذ منها من استعمال أسلحة من نفس النوع حتى تستطيع الاختراق برفق ورقة.

والنموذج القريب على ما أقول هو المسلسل التليفزيوني عائلة الحاج متولي (٢٠٠١م) الذي قدمه الكاتب المبدع، مصطفى محرم، خرِّيج قسم اللغة الإنجليزية، الذي أراد بما قدَّمه إثارة قضية بالغة الأهمية وهي تعدُّد الزوجات في مجتمع مُنقسم على نفسه؛ إذ انبرى المُتحرِّرون يشتمون المسلسل لأن بطله متزوج بأربعة نساء، وتفنَّنوا في إدانته، وانبرى عدد محدود لتبيان مُوافقة ذلك للشريعة، وقال فريق ثالث إنَّ المسلسل يضع النقط على الحروف — كما يقال — فهو يكشف عن حالة التناقض والبلبلة التي تعيشها المرأة التي ترتدي قناع الإسلام (الطرحة) ثم تَرفُض أن تعيش في عصور الإسلام الأولى، وقالوا إن الطرحة سلوك ظاهري مثل مراسيم الزواج والطلاق، وإن كان أقل كثيرًا في دلالاتها، فهي زيٌّ عربي قديم أُمرت الحرائر أن يضربن به على جيوبهن (أي أن يغطين به صدورهن) تمييزًا لهن عن الإماء، حتى يُعرَفن فلا يؤذين، وليست من شرائط العقيدة أو أركان الإسلام الخمسة، وليس على تاركها حدٌّ، فتركها ليس من الكبائر، وارتداؤها قديم وشائع، ولكنَّ الفتاة تكتفي بها وترفض بقية ما جاء في تراث الملابس أو الاختلاط بالرجال وما ينصُّ عليه الإسلام من الطاعة للزوج وولي الأمر في كل شيء (إلا الشرك بالله) كما تَرفض أن تعود إلى عصر الحريم التركي أو عصر الإماء العربي، بل وتصرُّ على المساواة الكاملة مع الرجل ومُزاحمته في كل مكان. أما أنا فكنت أرى في المسلسل نغمة تورية ساخرة (irony) يقصد بها الكاتب عكس ما يقوله في المسلسل برنَّة تحدٍّ ساخرة (tongue in the cheek) حتى يثير الناس ويُنفِّرهم من مثل هذا الاستغراق في الملاذ الجسَدية ولو كان حلالًا، ولقد صارحت المؤلِّف برأيي ووافقني عليه، ولكن الهجوم على المسلسل أثبت أن أقنعة اليوم العجيبة استعصت على الانتزاع، وكشف عن صلابة الهيكل العام، على هشاشته الظاهرة، فكأنَّما أصبح على كاتب المسرح أو كاتب الدراما أن يُواجه فيه تناقُضات ثقافة حائرة ممزَّقة الأوصال!
ولقد صادفت أنا هذا القناع العجيب عندما كَتَبْتُ مسرحية كيلو بودرة التي استغرقت مني وقتًا أطول مما ينبغي بسبب تعقيدات «أقنعتها»؛ فالبطلة فتحية هي نفسها الغازية في مسرحيتي الدرويش والغازية بعد أن تقدم بها العمر واكتسبت صفات أم ياسين التي تحدَّثتُ عنها بإسهاب في واحات مصرية، فهي تُمثِّل جماع قواعد الخلق الجديدة (mores) ولديها سند متين من شخصيتها المهيمنة، ومن الغريب أنها عندما اكتسبت أبعاد «أم ياسين» أصبحت ترتدي قناعًا شفافًا يكشف عن شخصيتها الجديدة — تلك التي تؤمن بالصراحة التامة، ولا تعترف بالمحظورات الاجتماعية (taboos) ما دامت قد تسلحت بالنصوص المقدَّسة، ولا يجرؤ أحد على الاعتراض على كلامها ولو مال إلى البذاءة وفقًا لتعريف الطبقة المتوسطة خشية أن تناله بلسانها فلا يسلم من سخرية الساخرين! وأنا الآن في حيرة من أمري: هل يمكن تقديم هذه الشخصية على المسرح في مصر — كما هو ودون تشذيب وتهذيب وتنقيح؟

٦

ولكن ألا نستطيع أن نَتساءل — بالمنطق نفسه — إن كان الفنان قادرًا على تقديم أي شخص حقيقي يعرفه في صورة «شخصية» درامية دون تعديل وتبديل؟ إنَّ للسيرة الأدبية مزية كبيرة هي الصدق، فالكاتب يستعيض فيها بصدق التاريخ عن الصدق الفني — بمعنى أن الأمانة في النقل عن الحياة تُعفيه من أمانة الالتزام بقواعد فنه، فقد تقتضي هذه القواعد انتقاء خصائص دون خصائص، أو ابتداع أحداث معيَّنة تتجلى فيها الخصائص التي يريد الفنان التركيز عليها، أو إقامة علائق لم تَقُم في الواقع بين الشخصية المصورة وغيرها من الشخصيات، أو بينها وبين الراوي، وفي هذا وذاك جور على الأمانة التاريخية؛ فالراوي في السيرة الأدبية مؤرِّخ لحياته وحياة الآخرين، ودور الفن عنده يقتصر على الاختيار والتفسير والتنظيم، ومع ذلك فإن هذه العوامل الثلاثة نفسها عوامل يشترك فيها المؤرخ مع الكاتب (أي مع مؤلف القصص الخيالية) مهما يكن من تحرِّي الأول للصدق الموضوعي ومن حرية الأخير الظاهرة في ابتداع الأحداث وإقامة العلاقات؛ فكلٌّ منهما يَختار ما يكتب عنه من بين أكداس من المادة الحياتية (الحيوية) المُتوافِرة، وليس في استطاعة المؤرِّخ مهما يَبلغ حرصه على الإحاطة والشمول أن يذكر كل شيء، فإذا كان مُعاصرًا لما يُؤرخ له فقد تفوته أهمية حادث شهده، وقد يفُوته العلم بوقوعه أصلًا، وقد يسمع بوقوعه فيشك في صدق ما سمع فلا يثبته، وكل منهما يفسر ما يراه في ضوء مفاهيمه وفكر عصره؛ فالتفسير يخضع لفكر المؤرخ ومنطق العصر معًا، ولذلك تتعدَّد صور «الحقيقة» في أعين المؤرخين وفي كتاباتهم، بل قد تتفاوت تفاوتًا كبيرًا من عصر إلى عصر، وكل من المؤرِّخ والكاتب «يُنظِّم» المادة الحياتية وفقًا لمنهجِه في تحليل ما يحدث، فقد يأتي بما يراه أسبابًا قبل ذكر الحادثة التي لا خلاف عليها، فتتَّخذ صورتها شكلًا جديدًا، بل قد تَختلف تمامًا عما نعرفه أو عما جرى العرف عليه، فالقتْل بصورته المُطلقة جريمة، لكنه قد يُصبح قصاصًا، أو ثأرًا من قاتل أو ظالم، أو يُصبح إزالة لرأس الفساد، بل قد يكون مَفخرة في الحرب، وباستطاعة المؤرِّخ عن طريق التنظيم أن يتحكَّم في التفسير وأن يتحكَّم مِن ثم في تصوير الوقائع؛ وبالتالي في رصد «الحقائق» التي قد تبدو وكأنما لا خلاف عليها.

وهكذا فإذا قلنا إن كاتب السيرة الأدبية مؤرِّخ موضوعي لم نكن نُعفيه من التدخُّل فيما يَرصده من مادة، وإذا قلنا إن الفنان مُبدع يتناول مادة خيالية لم نكن نُنكر الأصول الواقعية والحياتية لإبداعاته، وعندما ذكرت خصال البواب في بداية هذا الفصل، ومهَّدت لإشارتي إلى إدمانه الكذب بأن تحدَّثت عن عين الكاتب وقدرتها على إقامة المسافات بينه وبين ما يرى ومن يرى بحيث يَستطيع أن يرى الكذب من وجهة نظر الكاذب نفسه وقد أصبح صفة «محبَّبة»، كنت في الواقع أُلمح إلى أن نقيصة الكذب قد تُصبح فضيلة الخيال حين ننظر إلى الكاذب باعتباره مبدعًا، فأعذب الشعر أكذبه، ومؤلف القصص الخيالية لا يزعم أنه يَروي قصصًا حدثت، فهو «كاذب» في كل شيء يَرويه وصادق في فنه وفكره كل الصدق مع نفسه، ولقد سبق أن ألمحت إلى أنَّ الخيال عنصر أساسي من عناصر حياة المصري الصميم، فلقد استعاض به على مرِّ تاريخه الطويل عن واقع مُرٍّ أليم، فأبدع حكايات ألف ليلة وليلة التي تسودها اللهجة المصرية وسُجِّلَتْ أي دُوِّنَتْ في مصر إبان القرن السادس عشر، واستعان به في فكاهاته التي اشتُهر بها بين الشعوب العربية بل وفي العالم كله، كما استفاد به في صنع الأقنعة التي تُعتبر دروعًا تحميه من غوائل الحياة، ولقد أَفَضْتُ في دور الخيال في الشخصية المصرية في مُقدمتين بالإنجليزية الأولى لترجمة رواية وقائع حارة الزعفراني لجمال الغيطاني، والثانية لترجمة السماء السوداء وهي المجموعة القصصية التي أبدعها محمود السعدني، ولن أضيفَ هنا إلَّا كلمات محدودة عن دور الخيال في صنع الأقنعة المصرية التي يُواجهها كاتب المسرح.
كان رشاد رشدي — رحمه الله — يقول: إنَّ كل إنسان يتكوَّن من أربعة صور: أنا الذي أعرفه وأنا الذي أجهله، وأنا الذي يَعرفه الناس وأنا الذي يجهله الناس! ولكن هذه الصور متداخلة إلى حدٍّ بعيد فالذي أجهله قد يجهله الناس أيضًا، وقد يكون أنا الذي أعرفه هو ما يعرفونه بفضل القناع الذي أضعه على وجهي طول الوقت، وكثيرًا ما أنظر إلى السابلة في الطريق فأرى ما وصفه الشاعر وردزورث عندما زار لندن لأول مرة بأنه (volumes of mystery) أي «مجلدات من الأسرار» ويقصد بالتعبير أن كل وجه كتابٌ مغلقٌ على ما فيه من أسرار! لكنني كنت أجد في مصر أقنعة ليس من العسير أن تعرف ما تحتها إن بذلت الجهد اللازم لإدراك دور الخيال في حياة الفرد، ولنَقُل على سبيل التبسيط إن الخيال سوف يصنع للفرد الصورة التي يريد أن يرضى عنها وأن يعرفها الناس عنه، حتى ولو كان يتمتَّع بقدر كبير من الوعي يُمكِّنه من إدراك زيف هذه الصورة، وإذا صحَّ أن المقارنة أقدر إيضاحًا للصورة من التحليل (فبضدِّها تتبيَّن الأشياء كما يقول المتنبي) فلنا أن نُحاول ذلك بأن نضع صورة المصري بجوار صورة الإنجليزي مثلًا، فلكم شهدت من أبناء إنجلترا من هم على استعداد للاعتراف بجَهلِهم أو بضآلة ذكائهم، وأذكر أنني في أول عهدي بالعمل في إنجلترا انخرطت في مناقشة مع سكرتيرة تعمل في قسم الترجمة، ولما زادت المناقشة عن العبارات العامة وجدتها تَصمُت فجأة وتقول ما معناه إنها تأسَف لعدم مجاراتي في النقاش وأردفت قائلة I’m sorry! I’m not brainy! (أي إنني محدودة الذكاء) وأما المصري فما أندر أن تصدر عنه عبارة مُماثلة، وما أندر أن يَعترِف بجهله بالموضوع — أي موضوع — فهو على استعداد في معظم الأحوال لإبداء الرأي والإفتاء فيما يعرف وما لا يعرف! وكلُّنا يعرف رد الفعل المصري المألوف عند طرح سؤال ما، مهما يكن، بل حتى عندما تذكر ولو بصورة عابرة أنك مريض — إذ لن تعدم من يتطوع للإجابة أو لوصف الدواء الكفيل بشفائك، وقد دفعني ذلك إلى التفكير في علاقة ذلك بالقناع والخيال!
ولنَنظر أولًا إلى المثل الشعبي الشهير «أكبر منك بيوم يعرف عنك بسنة» أي إن التقدم في العمر يَزيد الخبرة أي يجعل الإنسان خبيرًا (بماذا؟) والله تعالى يقول: وما ينبئك مثل خبير، وإذن فإنَّ التقادم هو سبيل المعرفة، والتقادم الذي أعنيه هو «كر الغداة ومر العشي» (الذي «أشاب الصغير وأفنى الكبير» كما يقول أبو العلاء المعري) لا المصطلح القانوني أي (statute of limitation) فهو يأتي في نظر المصري بالحكمة و«اسأل مجرب ولا تسأل طبيب» وربما كان في هذا أصل نزوع بعض المِصريين إلى التظاهُر بالمعرفة أو — على الأقل — بالذكاء الذي قد يُغني عن استقاء المعرفة من الكتب. والحق أن المصري ذكي، بل قد يفوق ذكاؤه مُتوسِّط الذكاء عند شعوب كثيرة، ولكن التاريخ جعله يستعيض بخياله «الذكي» عن افتقاره إلى المعلومات الموثوق بها، فهو إما لا يجد السبيل إليها بسبب حرمانه من التعليم، أو أنها ممنوعة عنه لأسباب سياسية أو اجتماعية، وليس له إلا أن يُعمل خياله ويسرف في ذلك وليس له من سندٍ فيما يَرسمه من صور سوى شذرات أحاديث سمعها من الناس، أو نتف من المعلومات غير المؤكَّدة التي تلقاها من أجهزة الإعلام، ولكنه ينسج منها نسيجًا كاملًا متجانسًا وينقله إلى غيره، ثم تدور القصة دورتها على الأفواه، وقد يسمعها مُنْشِئُها من جديد باعتبارها حقيقة مؤكدة أدلى إليه بها مَن هو مُطَّلِعٌ على بواطن الأمور! وعندها قد يقول القولة المألوفة «مانا عارف» التي تعني بالعامية المصرية «أَعْرفُ ذلك» أو قد تَصيح في أعماقه صيحة هاملت «يا لقُدرة رُوحي على التنبؤ!» [“Oh my prophetic soul!”].

وأما الجديد في هذا القناع القديم فهو ما أشاعه ما يُسمى بالخطاب الديني من يُسر حصول المؤمن على العلم اللدُني، وهو العلم الذي يتنزَّل على المرء دون قراءة، بل يأتي بالصلاة والصوم وطاعة الله وقد أحبَّ بعض المصريِّين هذه الفكرة وترسخت لديهم وخصوصًا بعدما انتشر «الدعاة» الذين لم يتخصَّصوا في الفقه ولا في أصول الدين بل يكتفون بترديد آي الذكر الحكيم مُنتزَعًا من سياقه وبعض ما يَسمعُونه من المتخصِّصين، وارتداء قناع الهداة الصالحين، وازدادت عناصر هذا القناع صلابةً عندما أقام هؤلاء القياس بين اليقين الذي يهبه الإيمان الديني، وهو يقينٌ مطلق ثابت دائم؛ لأنه قائم على منطق الروح وهو منطق الفطرة الإنسانية السليمة في كل زمان ومكان، وبين سائر أنواع اليقين، سواء ذلك الذي يقوم على العلم التجريبي، الذي يكتشف الإنسان به قوانين الطبيعة التي خلقها الله، أم ذلك الذي نستمدُّه من دراسات العلوم الإنسانية، ومن بينها اللغات، وهو يقين نسبي لأنه يتفاوت من دارس إلى دارس ومن منهج إلى منهج، إذ أصبح اليقين في كل شيء عنصرًا ثابتًا من عناصر القناع الجديد.

كيف يخاطب كاتب المسرح جمهورًا يرتدي كل هذه الأقنعة المركبة؟ إن من أشراط فن المسرح الذي نعرفه، أي الذي استوردناه من الغرب، مخاطبة جمهور على استعدادٍ لتلقِّي العمل المسرحي بذهن خالٍ من الأحكام المسبقة (with an open mind) لمدة ساعتَين أو ثلاثًا؛ أي جمهور ينزع أقنعته مؤقتًا حتى يُتيح لنفسه أن يتفاعل ذهنيًّا وشعوريًّا مع ما يشاهد وما يسمع، ونحن ننجح في ذلك في مصر حين نقدم مسرحيات أجنبية لأن المتفرِّج يعلِّق أو يجمد (suspends) أحكامه بسبب المسافة الثقافية التي تفصل بينه وبين ما يرى، وننجح حين نقدم أعمالًا تاريخية؛ لأنَّ المسافة الزمنية المفترضة لا تتطلب أي مساس بالأقنعة، سواء أكانت الأحداث تاريخية مباشرة (أو قل مُستوحاة من أحداث التاريخ) أم مستقاة من ألف ليلة وليلة وتراث الأدب الشعبي، حتى لو كان العمل يتضمن «إسقاطات» على الحاضر، وننجح في الهزليات التي تُقيم مسافة ذهنية وشعورية مؤكدة بين العرض والجمهور بحيث تسمح ببقاء الأقنعة في أماكنها، وأما ما كنت أطمح إليه في مسرحياتي التي تستقي مادتها من حياتنا المعاصرة مثل المجاذيب والدرويش والغازية ثم كيلو بودرة (بخلاف الغربان وجاسوس في قصر السلطان) فلقد واجه مشكلة لا تكمن في تجميد الأقنعة، ناهيك بنزعها أو الوصول إلى ما تحتها، بل في التصدي لعناصر الأقنعة نفسها؛ فلقد كانت مواجهة هذه الأقنعة المركبة — ولا تزال — شغلي الشاغل.
ولا بدَّ لي الآن من إيضاح ما أعنيه بالتصدي لعناصر الأقنعة. سوف أفترض بدايةً أن معظم الأقنعة التي أواجهها في المسرح — أي في الصالة — تتكوَّن من أفكار رسخت في الأذهان حتى وصلت إلى حدِّ الاقتناع الكامل بها (وهي التي يُطلق عليها أهل الشام «القناعات» convictions) بعضها عام وشائع (مثل المعتقدات الدينية والاجتماعية الخاصة بالتمييز بين الجنسين مثلًا) وبعضها خاص يتعلق بتطبيق هذه الأفكار وتفسيرها من وجهة نظر كل فرد على حدة. ولأفترض ثانيًا أن معظم هذه الأقنعة «مُرَكَّبٌ» تتداخَل فيه الأفكار العامة مع الأفكار الخاصة بحيث يصعب على الكاتب أن يواجه الخاص دون التعرض للعام، وقد يكون هذا طبيعيًّا بل قد يكون القانون الذي يحكم صنعة أي كاتب مسرحي، ولكنَّ هذين الافتراضين يكتسبان أهمية بالغة عندما يتعرَّض الكاتب لمحاولة نزع الأقنعة عن طريق تفتيت بعض عناصرها حتى يصل إلى النفس العارية لإحداث ما يريد من تأثير، فقد يجد نفسه مُضطرًّا إلى «تكييف» نغمته في البداية لتتَّفق مع الأقنعة العامة، قبل أن يقدم على الدس في ثنايا تشكيله للمادة وتصويره لها بما قد يثير التساؤلات عن صحة بعض العناصر أو طرح الشكوك في بعضها، مع الإبقاء على إمكان ثباتها وصحَّتها في التحاور الدائب المتصاعد بين أطراف الصراع، وكلما تعمق التجاذب والتحاور (وهذا غير الحوار) بين الأطراف ازداد انغماس المشاهد فيما يشاهد ويسمح وربما نجح العمل في الوصول إلى نفس المشاهد من وراء القناع، وذلك أقصى ما يتمنَّاه الكاتب حتى إذا كان واثقًا من أن المشاهد سوف يعيد وضع القناع على وجهه والتدرع به بقوة بعد إسدال الستار! والواضح أن الكاتب ذا الرؤية الخاصة يواجه عملًا شاقًّا في «التعامُل» مع هذه الأقنعة، فإذا كان عليه أن يواجه الجمهور في عرض حي في المسرح تضاعفت مشقَّة عمله، بسبب تضافر عوالم أخرى في تقديم كلامه (أي مادته الفنية) إلى الجمهور، مثل المُمثلين وعناصر الإخراج من حركة ومناظر وموسيقى، وهي العوامل التي قد تُضعف من عمله أو تدعمه، وربما وجد السلامة في نشر النص أو هجر المسرح إلى فن يستطيع فيه أن «يتعامل» مع الأقنعة دون ضغط الآنية المسرحية، قانعًا مثل الشاعر أو الروائي بمئات بدلًا من آلاف القراء، وآملًا أن يزداد عدد قرائه على مر الزمن، وهو الأمل الذي كثيرًا ما يكون في حقيقتِه سرابًا خادعًا، فالقراءة عادة منقرضة في بلادنا، والفصحى مغتربة بين أهلها، ويزداد اغترابها يومًا بعد يوم، ولكن الكاتب يُواصل الكتابة مهما يكن مصير ما يكتب، وما هذه الملاحظات إلا ثمار تأمل الماضي الذي لا يتكرَّر أبدًا! وأذكر أنني عندما قرأت كتب أحمد أمين في مُنتصَف الثمانينيات قلت في نفسي لو عاش هذا الرجل في بلد آخر لأقاموا له تمثالًا أو لأطلقوا اسمه على مآثرهم الخالدة، ولكن الأقنعة أوجدت من يهاجمه، وبرز من الأراذل من يطعنون في عبقريته، حتى أصبح الصمت عن ذكره فضيلة، ولم تعد صورته تنشر إلى جوار طه حسين والعقاد وغيرهما، وكاد أن يبتلعه بحر النسيان، بسبب طغيان الأقنعة الجديدة.

٧

وإذا كان حديثي عن الأقنعة يبدو غامضًا؛ لأنه يُعمِّم ولا يُخصص، فسوف أركز في هذا الجزء على أقنعة معينة لأشخاص عرفتهم على امتداد عشرات السنين، واقتربت من بعضهم اقترابًا شديدًا، إما بسبب «الظروف» التي جمعتني بهم في العمل أو في غير العمل، وإما لرغبتي في استكناه ما تُخفيه الأقنعة وطلبي معرفة تلك الخبايا، وبعض هذه الأقنعة رقيق أو هو شبه شفاف، وبعضها غليظ مُصمت مُركَّبٌ معقَّد، وسوف أتناول هنا النوعين جميعًا، دون أن أنتهج منهج الباحث العِلمي في التصنيف والتبويب، بل سأرصد الصور التي تلُوح لي وتلحُّ على ذهني رغم افتراقي عن أصحابها وما يَفصلنا من مسافات، وهي التي أطلقت عليها صفة «اللوحات»، أو الحكايات وفقًا لقانون التداعي الحر المعروف، ولقد سمحت لنفسي بابتسار الأسماء أو حذفها دون التفاصيل، فأصحابها يعيشون بيننا وقد يتأذَّون من هذا الحديث الصريح — وأخشى ما أخشاه أن تُفصح التفاصيل عما أخفيته بإخفاء الأسماء الحقيقية.

القناع الأول تَرتديه فتاة تتلمذت على يدي يومًا ما، ثم عملت بالتدريس فترة بعد التخرج، ثم ساقها طموحها إلى إعداد رسالتي الماجستير والدكتوراه في نهاية المطاف، وكانت تستعيض عن تواضُع مستوى ذكائها وفطنتها بالقراءة وتجميع المعلومات، ولو أن مستواها في ذلك المسعى كان مُتواضعًا هو الآخر، ولكنها تسلَّحت بالصبر فدأبت على مخالطة الأكاديميين تَلتقِط من أفواههم الأفكار، وتختزن في ذاكرتها ما يُمكن أن يفيدها في دراستها العالية، وكانت في السادسة والعشرين عندما التحقت بالدراسات العليا المؤهلة للماجستير، وكنت أنا قد عدت لتَوِّي من إنجلترا أقضي ساعات طويلة مع طلابي ولا أَضِنُّ عليهم بالشرح وإعادة الشرح، وكنت ألاحظ أنها تكتب كل كلمة أقولها، بل وتُسجِّل أسئلة الطلاب لي وإجاباتي عليها، فتوسَّمت فيها خيرًا ثم انقطعت أخبارها إلى أن عدت لمشاهدتها والحديث معها عرضًا في الثمانينيات، ثمَّ توثقت علاقتنا بعد الجراحة التي غيَّرت من مظهري، وأخيرًا وبعد عشرين سنة ونيِّف من الصبر والمثابرة حصلت على الدكتوراه، وما لبثت — وقد ناهزت الخمسين — أن عُيِّنَت مدرِّسَة في إحدى الكليات بجامعة إقليمية.

وكان سبب توثيق العلاقة حاجتها إلى المراجع والمشورة العِلمية، فكانت تزورني أو تُحدِّثني تليفونيًّا وكان الحديث يتشعب ويتفرَّع، فالحديث ذو شجون كما يقولون — حتى استطعت أن أرسم صورة هي أقرب ما تكون إلى ما هي عليه في الواقع، وأن أتبين بوضوح ملامح القناع الذي ترتديه، فهي في الواقع «متوسِّطة» (mediocre) في كل شيء، في الطاقات الذهنية (الفِكرية والإبداعية واللغوية) والنفسية (رحابة الصدر وسعة الأفق) وفي الجمال والمظهر فهي غير ذات حُسْنٍ، عظيمة الجرم ذات طول فارع، وأما قناعها (persona) فكان يضمُّ ضروبًا منوعة من الصفات التي تتناقَض مع الواقع، ولقد شهدت بعض مراحل تكوين هذا القناع، فلم يكن في البداية إلا صورة مؤقتة لطموحها ولما تتمنَّى أن تكونه؛ إذ كان يقول إنني جميلة ومُجتهدة وذكية وأُبَشِّر بالخير وعندي بعض المواهب، وبعد خطبة غير موفقة، أي لم تؤدِّ إلى الزواج، أصبح القناع يقول — إلى جانب ذلك — إنني عروس مثالية أتمتَّع بأسمى الأخلاق وأفضلها، وكانت تُسِرُّ إليَّ برغبتها في أن تَقترن بشاب لم يسبق له الزواج، وكنت أتعاطَف مع رغبتها المشروعة، لكنَّها ما إن حَصَلَتْ على الدكتوراه حتى أصبحت الصورة المؤقتة صورة دائمة ثابتة لا تتغير بتغير الأحوال ولا بتقدمها في السن، ولم أكن أستطيع أن أبين لها صعوبة الإصرار على الاقتران بشابٍّ يصغرها بسنوات كثيرة؛ إذ كان قناعها يُؤكد لها إمكان حدوث ذلك، بل كانت كثيرًا ما تقصُّ عليَّ أقاصيص من «تقدم» لخطبتِها فرفضته لأنها اكتشفت أنه سبق له الزواج، وكانت تصف هؤلاء بأنهم أزواج «سكند هاند» (second hand) أي «نصف عمر» وهو تعبيرٌ مَمجوج فالإنسان ليس سيارة، ثم حدث ما يشبه المعجزة حين تردَّدت أنباء خطبتها إلى شاب يصغرها ولم يسبق له الزواج ولا حاجة به إلى الأطفال، فحمدتُ الله وهنَّأتُها مع مَن هنَّأها من الأصدقاء.

ولم تمضِ شهور حتى تدخل القناع! إذ كلَّمتني بالتليفون لتقول لي إنها فسخت الخطبة؛ لأنها اكتشفت أن خطيبها يطمع في شقتها، أي يريد أن يُقيم معها، فهي تعيش بمُفردها في شقة الوالدَين اللذَين تُوفِّيا، وإنها لا تَقبل إلا من يُريدها لنفسها لا للشقة، ثم عَدَّدتْ مناقبها (عناصر القناع) وكانت في شبه ثورة، فانطلقت تهاجم الغش والخداع، وكيف أن خطيبها كان يتحدَّث عن الحب والإعجاب وهو يُمنِّي نفسه بالشقة، وقلت لها بعد أن أفرغت شحنة الغضب فهدأت: «وما العيب في أن تعيشا معًا في شقتك؟ ألم يَسمح المجتمع بالمساواة بين الرجل والمرأة فأتاح لك جميع مزايا الرجل القديمة من التعليم والعمل والاختلاط؟ لماذا لا تسمحين إذن بالتعاون معه على مواجهة تكاليف العيش؟» ولكنها عندما ردَّت عليَّ كان القناع هو الذي يتكلَّم؛ إذ قالت: «أفلا يحمد الله أنني قبلتُ الزواج منه وأنا الدكتورة فلانة؟ أفلا يُقدِّر قبولي أن أظهر معه في المجتمع؟ ثم إنه ليس وسيمًا ولا جذابًا … بل هو أقصر مني وأنحف! لقد قدمتُ تنازلات كثيرة، وكان عليه قبل أن يطمح في الاقتران بي أن يُعد لنا عش الزوجية اللائق حتى نبدأ حياتنا معًا». وكدتُ أضحك من تعبير «العش» وما أعقبه من أمل في البداية الجديدة بعد الخمسين، ولكنَّني تمالكت نفسي وأصررت على أن أنصحها بالتروِّي مع إدراكي لصلابة القناع، وهو قناع شفاف كما قلت، قناع رقيق لا يَصعُب على العين أن ترى الواقع من تحته، ومع ذلك فلقد انتصر، وما زالت صاحبتنا تبحث عن شاب تَجتمع فيه كل الصفات «المطلوبة» لإرضاء القناع العجيب، بعد أن أضافت مطلبًا جديدًا يتَّفق مع «الطرحة» التي أصبحت تُرتديها، وكانت قد جرَّبتها من قبل ثم عدلت عنها، ولكن إضافتها مطلب «الاستقامة» هذه المرة أكَّد لي أنها لن تتراجَع الآن أبدًا، وقالت لي حين قابلتها مصادفةً (بعد ارتدائها القناع الجديد) برنةَّ تفاؤل وبسمة صافية «ما أكثر الشبان من ذوي الاستقامة الذين يَبحثُون عن الأخلاق … والأخلاق فقط!» ووافقتها بسرعة وإن همس في خاطري هامِس خبيث أضاف «ولا يملكون ثمن شقة أو إيجارها!»

وأما القناع الثاني فيَنتمي لرجل تنبَّه لوجوده بعد الخمسين فنزعه وألقاه وقرَّر الحياة في الواقع، بعد أن ذاق منه الأمرَّين، وكان صاحبنا قد بدأ حياته عاملًا يدويًّا؛ إذ فاته قطار التعليم، ولكنه كان ينتمي إلى الطبقة المتوسِّطة فعزَّ عليه أن يقنع بذلك، ولم تكن الفرصة مُتاحة في الستينيات للعمل الحر أي للتجارة أو ما كان يُسمى بنُظُم «الرأسمالية الوطنية»، وبعد سنوات من العمل اليدوي لاحت له فرصة الانخراط في العمل الحزبي، وكان الحزب الوحيد المتاح هو «الاتحاد الاشتراكي»، فانضمَّ إليه بناءً على نصيحة قدمها له كاتب مرموق يَعطِف على طموحه، ولما كان تمثيل العمال واجبًا في الوحدات الصغيرة لذلك الحزب فقد اختاره رئيس الوحدة لتمثيل العمال لما رأى فيه من الجد والاجتهاد، وسرعان ما أثبت جدارته بالعمل الحزبي فارتقى في سلَّم المناصب الحزبية بعد أن دعَّم علاقته بالمسئولين «الواصلين»، فأصبح الموظَّفون في الهيئة التي يعمل بها يخشون جانبه، بل إنهم نقلوه إلى وظيفة كتابية اسمية، أنقذتْه من العمل اليدوي، وأتاحت له حرية الحركة ومراقبة العاملين والإبلاغ عن أي تقصير منهم، أو أي انحراف عن الخط السياسي القويم، وذاع صيتُه في الوحدة، وساعدتْه الظروف من جديد حين ترقى رئيس الوحدة فأصبح عضوًا في اللجنة المركزية؛ ومن ثم عيَّنه نائبًا لرئيس الوحدة «المثقف»، وأوصاه بأن يكون العين التي يبصر بها كل ما يدور في تلك الهيئة الكبيرة ذات الحساسية السياسية، ونفَّذ صاحبنا ما طُلِبَ منه وهو راضٍ قرير العين، فلبس قناع الاشتراكية المتين، وكان — والحق يقال — صادقًا مع نفسه؛ إذ كان يؤمن بكل ما يقال، ولكن الإحساس بالقوة لديه ازداد فكان يستطيع أن يَقتحِم غرفة رئيس مجلس الإدارة ضاربًا الباب بقدمه (كما قال لي) فيقوم الرئيس مُهَلِّلًا مُرَحِّبًا، وكان يحضر اجتماعات مجلس الإدارة وتَلتقِط أذنه كل صغيرة وكبيرة مما يدور من مناقشات، وأصبحت لديه مفكرة يدوِّن فيها ملاحظاته، واكتشف آنذاك قدرته على الكتابة، وعَشِقَ ذلك الفن الذي كان جديدًا عليه، وبدأ يعرف لونًا آخر من ألوان الطموح؛ ألا وهو طموح الشهرة وذيوع الصيت، لمَ لا وكل من يقرأ لهم لا يقولون أكثر مما يعرفه خير المعرفة؛ إذ عكف على الكتب الأساسية في المذهب الاشتراكي وروافده فكاد يَستظهرها، بل إن صوته بدأ يعلو على صوت رئيسه في «الوحدة» الحزبية، وغدا يجد آذانًا صاغية لكل ما يقول، و«أعجبته اللعبة» (على حد تعبيره) ولم يجد في الطموح السياسي ما يتناقض مع مبادئه فخروشوف كان فلاحًا، والعبرة بالمبادئ لا بالتعليم، وآن الأوان — قال في نفسه — للتغلُّب على عقدة الشهادات.

وكانت نكسة ١٩٦٧م على مرارتها خيرًا وبركة عليه؛ إذ ألقت على كاهله وعلى كاهل كوادر الحزب من الشباب الطامح مهمَّة إعداد الشعب «لإزالة آثار العدوان»، وكان قد حصل على الثانوية العامة «من منازلهم» وانتسب إلى إحدى الكليات النظرية التي لا تتطلب الحضور إلا لأداء الامتحان، وشجعه نجاحه في الدراسة على مواصَلة الجد والاجتهاد، وتشعَّبت علاقاته بمنظمات الشباب التي أنشأها الزعيم الخالد فأحسَّ بأنه على مشارف عهد جديد يُؤذن بتحقيق أحلامه التي لا حدود لها. ولم يكن ينظر إلى الإجازة الجامعية التي يعمل في سبيلها إلا باعتبارها وسيلة لتدعيم موقعه في الحزب؛ إذ ربما نقلته من تمثيل العمال إلى تمثيل المثقفين، ومن يدري، لعلَّها تأتي بمنصب أكبر من كل أحلامه!

وقال لي في لحظة صدق ذات يوم «أنت لم تكن معنا في تلك الأيام، فاسمح لي أن أنقل لك إحساسي وإحساس الكثيرين الذين تأكَّدوا أن الهزيمة العسكرية في موقعة واحدة لم تكن هزيمة بالمعنى المفهوم لأننا لم نُحارب [وقد تأكَّدت من صدق ذلك وأنا في لندن] وأنه آن لنا أن نأخذ زمام المبادرة حتى نحارب العدو في الوقت الذي نختاره وبالأسلوب الذي نُحدده! وعندما حصلت على البكالوريوس لم أفرح به فرحتي بإعداد الشباب ذهنيًّا ونفسيًّا للمعركة! لقد كانت أيام عمل مجيدة» وهكذا بدا أن كل شيء يسير وفق مراميه، فتزوج من فتاة تصغره بنحو سبع سنوات أو ثمان، واستأجَرا شقة في موقع جميل، ثم توفي الزعيم الخالد.

كانت الصدمة أكبر مما يُحتمل، وكان التغيير الذي طرأ على الحياة العامة في مصر سريعًا ومفاجئًا، فتعرض لأهوال متعاقبة، وكانت السِّهام التي يتصدَّى لها تهزُّ قناعه هزًّا بل وتخلخله، فقرر الانحناء أمام العاصفة والتنازل عن بعض عناصر القناع، وكانت مساءلة النفس تستغرق منه وقتًا طويلًا؛ فالمستقبل غامض مبهم، وكل شيء في مهبِّ الريح، وشعوره بالوحشة يزداد في كل يوم. وعندما انفتح باب السفر إلى البلاد الأجنبية في مطلع السبعينيات، وانطلق المصريون إلى الخارج دون قيود — إلى أوروبا وأمريكا وكندا مهاجرين، وإلى البلاد العربية عاملين بعقود أو معارين — قرر أن يسافر هو الآخر وظل يترقب الفرصة المواتية حتى لاحت، فاصطحب زوجته إلى بلد عربي شقيق، ووجد لها عملًا حيث يعمل، وهناك عكف على عناصر قناعه يُعيد ترتيبها، بل وطرح بعضها للنقاش من جديد، وكان أشق عمل يواجهه هو محاولة التخلي عن حلم القوة، أو تعديل مفهوم القوة حتى يستبدل بقوة السلطة قوة المال، وبلذَّة المكانة الاجتماعية مُتعة الهناء العائلي، فهو زوج مُخلِص ولديه طفل جميل، ويكفي أنه ابتعد الآن عن الجو القديم وفيه ولا شك من يريدون «الانتقام».

وقد يطول بنا الحديث إذا تابعنا مصير صاحبنا، وأخشى أن يتعرف على نفسه إن أنا واصلت الحديث، أو أن يتعرف عليه أحد، ولذلك فسوف أركز على معركته الأخيرة مع قناعه في أواخر السبعينيات. كنا في أكتوبر ١٩٧٨م حين زارني في المنزل لأول مرة مع زوجته، واتفقنا على اللقاء يوم الجمعة، وكان يقضي في مصر عطلة قصيرة، فخرجنا إلى مقهى على شاطئ النيل، وشعرت باطمئنان شديد إلى لهجته الهادئة في الحديث وفرحت برغبته في الإفضاء، ففتحت أذني وقلبي، وجعلت أعبُّ كلامه عبًّا، وأُحاول استيعاب كل حرف يقوله، كأنما عثرت على كنز ثمين من «المادة الإنسانية»، وهاك مُوجز ما رواه على امتداد ساعات طويلة.

قال إنه أحسَّ في البداية بالغُربة على شتى مُستوياتها، فلم يكن من السهل عليه أن يتحوَّل إلى مواطن عادي لا سلطان له ولا علاقة ﻟ — قطعًا — بالحياة السياسية في البلد، فهو ضيف يُؤدي عملًا محددًا وعليه ألا يتجاوَز حدوده، وكانت «أمجاد» الماضي تلوح له فتُدمي قلبه، وكانت الأيام تجري به لاهثة دون أمان وأحلام فأحسَّ كأنه يركب قطارًا يسرع به إلى نهاية مثل نهاية كل فرد لم يَجتهد ويكافح، فعقد العزم على أن يكسر طوق العزلة، وأن يقهر الحصار المفروض عليه، وساقت إليه المصادفة فرصة نادِرة؛ إذ اكتشف أن رئيسه في العمل يعيش في محنة لأنَّ الرؤساء الكبار يرون أنه ينحدر من قبيلة خاملة الذكر؛ ومن ثم لم يكونوا يرونه أهلًا لشغل منصب أعلى، ناهيك بالاحتفاظ بمنصبه، وكان شُغله الشاغل آنذاك أن يدحض ذلك الرأي، وأن يُثبت أنه ذو حسب ونسب، وكان المال يتدفَّق بين يديه، وكل ما يعوزه هو الباحث في الأنساب القادر على إثبات انتمائه إلى «بيت عز ومجد»، وهكذا قرر صاحبنا أن يُصبح هذا الباحث.

لم تكن المهمَّة يسيرة؛ إذ كان عليه أن يستعين بباحث حقيقي، فطرق أبوابًا كثيرة، وسلك دروبًا مُتعدِّدة، حتى ساق إليه الحظ أستاذًا في التاريخ من بلد عربي آخر، كان يَحضر مؤتمرًا عن تاريخ المنطقة ويطمح في أن يحصل على عمل في ذلك البلد، وله دراية لا بأس بها بأنساب القبائل، فوثَّق علاقته به إبان أيام المؤتمر، وحصل له على العمل الذي يتمنَّاه شريطة أن يساعده في بحث قال إنه يقوم به في الآثار، ولم تلبث الأحداث أن أتت بما لم يكن يتوقع. قال: «أعددنا مشروعًا للبحث في آثار منطقة صحراوية صخرية مهجورة، وكان المعروف في تلك البلد أن بها نقوشًا كثيرة، وربما تكون بها مخطوطات دفينة أيضًا، ولم يبخَل المسئولون علينا بالمال؛ إذ كانوا ينفقون بسخاء على العلم والتعليم، خصوصًا فيما يتعلَّق بتاريخ بلادهم، واستمرت بعثة البحث في التنقيب شهورًا، وتوليت أنا تسريب الأنباء إلى الصحف المحلية عن نشاطها، والإيحاء بأنَّ البعثة قاب قوسين أو أدنى من اكتشاف مُثير، وسمع بعض الخبراء الأجانب بعملنا فجاءوا لزيارة الموقع، ونشر بعضهم في صحف بلاده أنباء عنه، فبدأ اسمي يلمع في مقر عملي وبين الرؤساء باعتباري مدير المشروع، ولكنَّني كنتُ أوجس خيفة منهم، فربما فطنَّ أحدهم إلى سري الدفين، ولم أكن بُحْتُ به لأحد، حتى للأستاذ الذي كان قد أصبح ساعدي الأيمن، فآثرت الكتمان في كل شيء، وكنت أرتدي قناع الباحث طول الوقت وأحرص على عدم الزج باسم رئيسي في الموضوع حتى لا يتطرَّق الشك إلى نفس أحد، وكنت في غضون ذلك أستقي العلم بالبحث الأثري من الأستاذ الذي يعمل معي، متحصنًا بالكتمان الشديد، حتى انقضى نحو عام كامل، ولكن اليأس لم يتطرق إلى قلبي قط؛ إذ كنت أُومن إيمان المصري القديم بالعمل، كما اكتشفت شغفي بالتاريخ العربي والإسلامي، وبدأ اسمي يظهر في الصحف المحلية، وهو ما عوضني بعض الشيء عن الغربة، وإن كنت أخشى أن تذهب جهودي عبثًا فأفقد عملي وأعود إلى مصر خاوي الوفاض، وكانت تعتريني حالات ضيق وبرم؛ إذ أذكر الماضي ويجرفني الحنين إليه، وأتأمل الحاضر فأتساءل عن المصير الغامض لهذه «المغامرة»، فأبيت مهمومًا أطوي السر بين جوانحي وأطلب النوم فيستعصي عليَّ.

وفي ليلة زاد الهم فيها واشتدَّ، قررت أن أعود إلى مصر، وناقشت الأمر مع زوجتي، فأبدت الموافقة أولًا، ثم اعترضت برفق وساقت بعض الحُجَج التي رأيتها مقنعة؛ فنحن لم ندخر ما يكفي من المال لإنشاء مشروع خاص بنا، وابننا ما زال صغيرًا يحتاج إلى تأمين مستقبله، وعندما طال النقاش أفرغتُ ما في صدري، وأشركتها في أمري، فما كان منها إلا أن قبَّلتني في جبيني مثلما تُقبِّل طفلها وقالت لي: «إذن يفتح الله عليك ولا يُضيع الله عمل عامل!» باغتتني هذه العبارة، فلم يكن للإيمان الديني وجودٌ كبير في حياتنا، وهزت رنة الصدق جوانحي هزًّا، ووجدت الدموع تنساب من عيني رغم أنفي، ولم أدرِ إن كانت دموع فرحة بالإيمان الذي أشرق فجأة فأنار جوانب نفسي، أو دموع امتنان لهذا الحب الصادق، أم دموع حزن على حالي وما أنا فيه، فلقد اختلطت في نفسي المشاعر وامتزجت، فخرجت إلى الشرفة رغم الحر اللافح حتى بالليل، وجعلت أرقب السماء والنجوم حتى غلبني النعاس.

وعندما عُدنا بعد عطلة نهاية الأسبوع إلى العمل في الموقع، وحان موعد الشاي في نحو العاشرة صباحًا، قال لي مساعدي — أستاذ التاريخ — في غمار الحديث عن قيظ الصيف ولهيبه: «سمعت أنك تبحث في أصول قبيلة (…).» ونظرتُ إليه مشدوهًا، وحدست على الفور أن زوجتي أخبرته أو أخبرت زوجته، فأُرتِج عليَّ وتلعثمت، وقبل أن أرتب أفكاري لإعداد الرد «المناسب» أردف قائلًا وهو يَرشف الشاي دون انفعال «لماذا لم تسألْني قبل الآن؟» وبعد لحظات قلتُ له إنني كنت أتمنى أن يؤدي البحث الأثري إلى اكتشافٍ عِلمي يؤكد عراقتها، فضحك وقال «وهل هذا في حاجة إلى دليل؟» ودارت بي الأرض وأحسستُ أن كل شيء يهتز في ناظري، وتراقصَت صور التلال التي تلوح على البُعد في السراب؛ إذ كنا في شهر يوليو وكنا نبدأ العمل مع تباشير الفجر وننتهي عند صلاة الظهر، وأمسكت رأسي بيدي محاولًا مواجهة الموقف بما أستطيعه من ثبات، وقبل أن أتكلم قال لي إن لديه الأدلة الدامغة على عراقة تلك القبيلة وجذورها الموغلة في القدم، وإن البحث الذي نقوم به لا بد أن يُسفر عن بعض آثار تلك القبيلة وغيرها من القبائل العريقة، بل إن الجدران التي كشفت الحفريات عنها تحمل نقوشًا باللغة القديمة التي كانت تلك القبائل تتكلَّمها! وسألته إن كانت اللغة عربية، فقال إنها عربية ولكنَّها مُتأثِّرة ببعض لهجات الشعوب المجاورة التي ترجع أصولها إلى عصور ما قبل الميلاد! وأضاف قائلًا إنَّ ذلك معروف ومسجل، ولذلك فلم يُوله اهتمامًا كبيرًا فإنه يبحث عن آثار أقدم ودلائل على الهجرات العربية المتوالية في تلك المنطقة!

وسألتُه في قلق إن كان يمكنني أن أنشر ذلك على الملأ — في الصحف مثلًا — أو في مجلة علمية أجنبية فأكَّد لي إمكان ذلك، ثم أضاف ضاحكًا: «وهل ستنشره باسمك وحدك؟» وقلت بسرعة إنني يمكن أن أنشر دراسة باسمَينا معًا إن كان يريد ذلك، ولو أنَّ ذلك غير مألوف في الوطن العربي، فقهقه وربَّت بيده على كتفي قائلًا إنه يُداعبني فقط ولي أن أفعل ما أريد بالمعلومات التي أحطت بها؛ فالكشف ليس اكتشافًا، والمعلومات مُتوافرة في المراجع، العربية منها قبل الأجنبية، ولن يضيف أكاليل غار إلى قامته العِلمية، وتوقَّف الحوار هنا، ولم أُضِعْ أنا الفرصة فكتبت مقالًا ضمنته ما انتهينا إليه من «نتائج»، وأشدت بذكر صديقي ومكانته العِلمية لأوفيه حقه وأمنح «البحث» مصداقية علمية، وأرسلته إلى الصحف فرحبت به، وأرسل رؤساء التحرير بعض المصورين إلى الموقع لالتقاط الصور اللازمة، وتطوع البعض للكتابة عن تاريخ العرب القديم وتضخيم أهمية الاكتشاف — كعادتنا نحن العرب — والتهليل له، ولم تمضِ أيام حتى استدعاني رئيسي هاشًّا باشًّا وسلَّمني خطابين، الأول يتضمن قرار الرؤساء بمد عمل البعثة وصرف مكافآت مجزية لأعضاء الفريق العامل من كل الدرجات، ويتضمن الثاني قرارًا بترقيتي وزيادة مرتبي زيادة لم أكن أحلم بها.»

وتوقف صديقي، وأرجو ألا أكون قد أغفلت أية تفاصيل مهمة في هذا الملخَّص المقتضب، وعندما عاد بعد العطلة القصيرة مع زوجته إلى عمله، كان قد ارتدى قناعًا جديدًا، ولكنه كان على وعي كامل بعناصر هذا القناع، يعرف شرائط الدور الذي يفرضه عليه ويلتزم بها، وعندما بدأت المقاطعة العربية لمصر في الثمانينيات بسبب معاهدة السلام مع إسرائيل، وتصاعدت النزعات الإقليمية في أقطار الوطن العربي، لم يجرفه التيار، ولم يُهاجم «النظام المصري» في حديث عام أو خاص، بل تعلَّم التكتُّم وأجاده، وأصبح — كما يقول — «يمشي إلى جوار الحائط»، قانعًا بعمله الإداري، ووجد نفسه وقد أصبح مهتمًّا برصيده في البنك، طامحًا في ثراء عريض، ويحلم بعودة مظفرة إلى مصر ينتقل فيها من حياة «الفكر» القديم إلى حياة الحسابات والاستثمار، مع اهتمام لم يعهده في نفسه بالدين، وكان يراجع نفسه من حين إلى حين، وكلما ظن أن القناع الذي يرتديه يتضمن عناصر «زيف» أو ابتعاد ولو طفيف عن الواقع بذل جهدًا صادقًا لتعديله، فكان يعيش في حالة مساءلة للنفس تُشبه ما مرَّ به قبل سنوات طويلة عندما فُجِعَ وفُجِعَت الأمة العربية في فقد الزعيم الخالد، فكان حين يزور مصر ويرى حالات الفقر المُدقع ويسمع من رفقاء الاشتراكية القدماء عن ضرورة تدخل الدولة لضمان عدالة توزيع الثروة، يرتجف رغمًا عنه خوفًا على ثروته، ثم يفزع من ذلك كأنه يُنكر تنكُّره لمبادئه القديمة، وحينما تأكد أن الدولة لن تتدخَّل في شيء ولن تمس ثروات الأثرياء، وكان قد ملَّ قناع خدمة الرؤساء في الخارج، عاد إلى مصر، وقرر أن يعيش بعيدًا عن أي مجال للعمل العام، بل وبعيدًا عن عيون الجميع بعد أن اشترى قطعة أرض من هيئة استصلاح الأراضي، فاستصلحها وأنفق عليها الكثير، وأصبح يقضي معظم وقته في المزرعة، ولم يتَّضح لي مدى نجاحه في التخلُّص من قناعه القديم إلا عندما التقينا يوم جمعة، اليوم الذي اعتدتُ أن أقابل فيه صديق عمري المستشار أحمد السودة، وكان معنا في هذه المرة على مائدة الغداء في مطعم فلفلة بوسط البلد، في يوليو عام ١٩٩٣م بعد أن عدت من فرنسا ومنَّ الله عليَّ بالشفاء من المرض اللعين؛ إذ لم يكن يتحدَّث إلا عن الزراعة وتسويق الحاصلات الزراعية.

لا يزال ذلك اليوم ماثلًا بكل تفاصيله في ذاكرتي، فلقد كنت سعيدًا بعودتي إلى الحياة، وكنتُ فَرِحًا لأنني استعدت القدرة على تناول الطعام ولو كان في صورة سائلة أو مهروسة، ولأن كلامي أصبح مفهومًا إلى حدٍّ ما، وكنت أعجب أثناء حديثه كيف استطاع أن يطوي صفحة الماضي بل صفحاته بهذه السهولة، وأن يتحوَّل بإرادته إلى مُزارع (ما أصل البناء الصرفي لهذه الكلمة؟) وكنتُ أرتشف نبراته الهادئة وهو يتحدث عن زراعة حاصلاتٍ بعينِها ويستعين بمهارة أبناء العريش الذين يُجيدون الفلاحة بالخبرة أي دون تعليم رسمي، وكان الأستاذ أحمد السودة يشاركني الدهشة والإعجاب؛ فكلانا من ذوي الجذور الريفية، وكان صاحبنا يتحدَّث حديث الواثق المتمكن من أصول صنعته، كأنما لم يرتدِ قناع السياسة وقناع البحث العِلمي يومًا ما، وكان يشاركني التفاؤل بالمستقبل والتخطيط له، وفي هذا ما فيه من أدلة على المرونة التي يتحلَّى بها المصري، وعلى قدرة التكيُّف التي تكفل البقاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤