الفصل الثالث

١

قلت في التمهيد إن الدائرة صورة الخلود؛ فالعلماء يصفونها بأنها الشكل الكامل؛ إذ لا بداية لها ولا نهاية، وهي من الأنماط الفطرية (archetypes) وهو المصطلح الذي أتى به يونج (Jung) ويعني — كما يقول المعجم المتخصص:
any of several innate ideas or patterns in the psyche expressed in dreams, art etc. As certain basic symbols or images (my emphasis)

أي:

إحدى الأفكار أو الأنساق الفطرية المتعدِّدة في نفس الإنسان، والتي يُعبر عنها في الأحلام أو في الفن وما إلى هذا السبيل، باعتبارها رموزًا أو صورًا أساسية.
والواضح أنني ترجمت المعنى الأساسي للمُصطَلح وضحيت بمعانٍ أخرى ثانوية أهمها صفة القِدم، واحتلال هذه الأنماط مركزًا رئيسيًّا بين شتى الرموز والصور التي تزخر بها نفس الإنسان، فأما صفة القدم فيُوحي بها المقطع الأول (arche) الذي قد يكون مُشتقًّا من الصفة اليونانية archaios ومعناه قديم والاسم منها arche ويعني البداية، والاسم archos ويعني الأول أو الحاكم، والفعل archein بمعنى يبدأ أو يحكم، وأشهر نماذج الكلمات التي تدخل عليها هذه البادئة في الإنجليزية كلمة (archaeology) أي علم الآثار القديمة وكلمة archaic بمعنى قديم (أو مهجور — في اللغة مثلًا)، وتتصل بهذا المعنى دلالة الرئاسة؛ فالحاكم رئيس، وهو الأول في المرتبة بين الناس، ولهذا دخلت اللغة الإنجليزية كلمات مثل الملاك الأكبر archangel ورئيس الأساقفة (archbishop) وغيرها، كما استخدم أهل الإنجليزية البادئة المذكورة في تكوين كلمات أخرى على غرارها للإشارة إلى معنى الرئاسة، وربما كان هذا هو السبب الذي جعل آخرين يُترجمون المصطلح بتعبير النماذج العليا أو النماذج القديمة، ولكن الواضح أن هذَين الخيارين قد يَنطبقان على ما ليس بفطري، وقد يكون النموذج القديم للطائرة مثلًا، مجرَّد نموذج مبدئي أو بدائي (prototype or primitive model) وأنا أُفضِّل ترجمة المعنى على أي حال، وألتزم هنا بالتفريق بين النمط (type) والنسق (pattern) والنموذج (model) ومِن ثم أَشَعْتُ في الستينيات مصطلح «الأنماط الفطرية»، وإن لم يثبت المصطلح حتى الآن، وأرجو أن تتَّضح في غضون مناقشتي للدائرة أسباب استمساكي به فيما قرأته، وفيما خبرته من الأحداث.
يقول علماء النفس: إنَّ الإنسان يولد ولديه إدراك فطري لصورة الدائرة، أي إنه ليس في حاجة إلى أن يتعلم إدراك هذا الشكل، وقد ذهب الفلاسفة في تفسير ذلك مذاهب كثيرة، بل إن علماء الفيزياء أدلوا بدولهم في هذا الدلاء، فنسبوا الإدراك الفطري (أي غير المكتسب) للشكل إلى خصائص مغناطيسية أو قل إنها كهرومغناطيسية ما دُمنا نُترجم (أو ما دام بعضنا قد ترجم) الإلكترون بالكهرب في كيان الإنسان بحيث تربطُه بصور الحركة الدائرية للأجرام السماوية، وأهمها حركة الأرض الكروية حيث يتحكَّم دورانه وجاذبيتها في أشكال الحياة على سطحها، وانتهى الباحثون في القرن العشرين إلى أنَّ نظرية «الطاقة الكروية» أو الدائرية قادرة على تفسير كل شيء بمعنى أن أصل كل شيء من أشكال الوجود هو الشكل الدائري، سواء كانت دائرة كاملة أم ناقصة، وجميع أنواع الحركة مساراتها مقوسة ولو بدت للعين مستقيمة، لأن الأرض في حركة دائمة وما تراه يسير مستقيمًا عليها أو يسقط مُستقيمًا فوقها يسير في الواقع معها في سيرها أي في مسار مقوس، كما أنه إذا سار شيء في الفضاء في خط ظاهر الاستقامة حول الأرض، أو سقط شيء من السماء وبدا أنه يهبط في خط مُستقيم مارًّا بطبقة شبه الفراغ وطبقات الهواء المخلخل ثم الغلاف الجوي الذي يتحرَّك مع الأرض، فإنه يتحرك في الحالين إزاء شيء دائري يدور دائمًا، مما يغير من مسار حركته وسكونه بالنسبة إليه، فيُحوِّل الخط المستقيم إلى قوس، وإذا كان الأمر كذلك بالنِّسبة للأرض فهو يصدق بدرجة أكبر إذا رأيناه بالنسبة لسائر كواكب المجموعة الشمسية، وهي جميعًا تتحرَّك، بل إن المجموعة الشمسية نفسها تتحرك داخل المجرة الخاصة بنا (galaxy) والمجرَّة نفسها تتحرَّك، وقد طبق ألبرت أينشتاين ذلك على كل شيء (فكلُّ شيء وفق نظريته طاقةٌ، وإن اختلفت صورها وتفاوتت في عيون البشر) حتى الضوء نفسه، وانتهى من نظريته النِّسبية العامة، القائمة على أخذ قوانين الحركة في الحسبان، إلى إدراج بُعْدٍ رابع هو الزمن إلى الأبعاد الثلاثة المعروفة وهي الطول والعرض والارتفاع في حساباته للكون وحالات الوجود الكبير من حولنا، ولم يكتشف العلماء صدق ما ذهب إليه أينشتاين إلا في السنوات الأخيرة من القرن العشرين بفضل التطور المذهل في الكمبيوتر أو الحاسوب، وهو الذي مكَّن ستيفن هوكنجز (Hawkings) من إعداد حسابات لم يكن في مقدور أبناء جيل أينشتاين أن يُنجزوها. ويطبق العلماء نظرية الدائرة على الذرَّة التي تعتبر في معظمها فراغًا كرويًّا، ولا تشغل فيه الشحنات الكهربية (أي الطاقة ونسميها النواة والإلكترونات) التي تمثل الوجود أو الكيان الذي يمكن للإنسان أن يدركه أي أن يستدل ذهنيًّا على وجوده (وإن لم يشاهده أو يسمعه) إلا حيزًا بالغ الضآلة إلى الحد الذي يسمح بتجاهله في حساباته الأخرى للوجود والعدم القائمة على المعايير المادية. وهذه الشحنات تدور في دوائر دائمة دائبة، ولو لم تكن هذه الحركة لما أمكن للعلماء إدراك وجودها أصلًا، وهكذا أقرَّ العلماء أخيرًا فكرة الدوران أو الدائرة في تفسيرهم أو محاولة تفسيرهم للظواهر التي أعيَت الأسلاف في الطبيعة والكون.

وأما الشعراء وأصحاب البصائر النافذة فقد سبقُوا العلماء «الطبيعيين» في التوصُّل عن طريق الحدس والشفافية إلى فكرة الدائرة أو صورة الدَّورة الدائمة، وأشد ما اجتذبني في هذه النظرة التي تصدق مهما تكن الزاوية التي تنظر إليها منها هو الدوام فالدَّوام معناه الخلود، وهذا ما وَضَعْتُهُ نُصْبَ عيني وأنا أتابع حلقات البرنامج العلمي الذي قدمته محطة بي بي سي بعنوان عالم ستيفن هوكنجز (عام ٢٠٠١م)، وعجبتُ من تفكير كاتب البرنامج الذي يحاول اجتذاب المشاهد بأن يسأل في كل لحظة عن نظرية البداية — كيف بدأ الكون؟ — ونظرية النهاية — كيف سيَنتهي؟

وعندما شاهدت الحلقات مرةً ثانية، وكنت قد حرصت على تسجيلها جميعًا، بدا لي أنه — أي الكاتب — يخطئ الخطأ الذي حذر منه وتجنشتاين (Wittgenstein) وغيره ألا وهو تطبيق قانون مُستقًى من حياة الإنسان (المحدود الفاني)، ومن حواسِّه الضئيلة المقيَّدة، على كونٍ يختلف اختلافًا شاسعًا عن الإنسان وعن دنياه! فافتراض البداية وافتراض النهاية افتراضان مستقان من مولد الإنسان وموته، ومن نشوء النبات وذبوله! وإذا سمحنا لهذين الافتراضين أن يسودا تفكيرنا أو أن يجعلانا نتوقَّع لكل شيء بداية ونهاية فسوف نكون قد نقضنا حقيقة الدائرة وحقيقة الديمومة وهما حقيقتان مُتداخلتان اهتدى إليهما الإنسان ببصيرته قبل أن يؤكدهما العلم الطبيعي وما اكتشفه في ختام القرن العشرين! صحيح أن فكرة الأزل (اللابداية) عسيرة مثل فكرة الأبد (اللانهاية) وأن الإنسان يَنفر من العسير ويهوى اليسير، ولكن الدائرة تُرغمنا إرغامًا على قبول العسير، ولعلنا واجدون فيما اهتدى إليه علماء النفس من نظريات الأنماط الفِطرية عونًا على تقبُّل ذلك العسير!
وإذا كان وتجنشتاين وغيره قد اعتمدوا على ما أشرت إليه من قبل باسم العقل الخالص، دون أن أُشير إلى أنَّ هذا المصطلَح من وضع الفيلسوف الألماني إيمانويل كانْط (Kant)، فإنَّ غيره من علماء فلسفة اللغة (linguistic philosophy) أو ما اصطلح على تسميتِه بفلسفة التحليل اللغوي بالعربية، قد اكتشفوا مثالب أعماق في هذا القياس الخاطئ (false analogy) لأن الاستدلال (deduction) هنا يتجاهَل طبيعة العدد، وهي طبيعة لا نهائية، ولكن هؤلاء لا يقولون بما قاله فيثاغورس من أن العدد هو أصل الأشياء جميعًا، بل يقولون — ابتداءً من برتراند راسل (Russell) — إن النظام العددي هو النظام التجريدي الوحيد القادر على ربط العدم بالوجود عن طريق الإحالة دائمًا إلى موجود، فأنت حين تقول «ناقص واحد» أي حين تُعبر عن قيمة سلبية، فإنك تفترض وجود زائد واحد أي وجود قيمة إيجابية، فكلامُك عن «غياب الواحد» يَفترض وجوده، سواء كان وجوده حقيقة ذهنية خالصة أو حقيقة مادية، وكذلك حين تقول «صفر»، وهو التعبير الذي نعبر به عن نقيض الوجود أي العدم، فإنك بذلك تعبر عن افتراض وجود شيء ما، وهكذا فإن جلبرت رايل (Ryle) يُرجِع أخطاء التفكير في هذا الباب إلى عدم دقة التعريفات التي درجنا عليها، ويُقيم الحجة في كتابه مفهوم العقل The Concept of Mind (وهو كتاب لم يلقَ حظه من الاهتمام في الوطن العربي، ولا أعرف إذا كان قد ترجم إلى العربية أم لا) أقول إنه يُقيم الحُجة على أن عدم دقة المفاهيم واختلاطها هما السبب في أخطاء تفكيرنا، ويَضرب عشرات الأمثلة بأسلوب متَّئد ومنطق متمهِّل لا يلبث أن يقنعك بدعواه، فما نُسمِّيه البداية لا يعدو أن يكون نقطة مُفترضة أو مُصطلحًا عليها على محور الدوام (continuum) وهو خطٌّ دائري مُستمرٌّ لا يُمكن تحديد بداية مطلقة له، وكذلك ما نُسميه نهاية، ولكننا نُغيِّر على الدوام من تعريفاتنا ومن أوصافنا المضمرة (implicit definitions and qualifications) لهذه النقاط التي لا بد أن تنسب إلى غيرها أي أنَّ تُرى في علاقتها بغيرها، وإلا ما عادت بداية ولا نهاية؛ فبداية السباق في حلبة ما تتضمَّن إضمار مفهوم للمضمار، مفترض أو متفق عليه، وكذا نهايته، وفي ظني أن الكتاب المذكور قد أثر تأثيرًا كبيرًا في تفكير أصحاب الذين يَدرُسون علم الدلالة، وهما فئتان؛ فالفئة الأولى تختص بعلم الدلالة الصوري (formal semantics) القريب من علم المنطق الصوري (formal logic) والفئة الثانية تختص بعلم الدلالة اللغوي، ويشار إليها أحيانًا باسم (informal semantics) أو باسم قريب المأخذ هو (linguistic semantics) وقد برع من الفئة الأولى جاكندوف (Jackendoff) الذي كتب كتابًا بعنوان علم الدلالة والمعرفة (Semantics and Cognition) عام ١٩٨٣م، ومن الثانية جون ليونز (Lyons) الذي كتب كتابًا بعنوان (Linguistic Semantics) عام ١٩٩٥م يُطوِّر فيه آراءه القديمة، وقد تأثَّرت أنا كثيرًا بكتاب أصدره إيمون باك Emmon Bach عام ١٩٨٩م بعنوان:
Informal Lectures on Formal Semantics

قبل أن أنتقل إلى كتابات جاكندو وغيره من الفئة الأولى ثم إلى ليونز (١٩٩٥م) وغيره من الفئة الثانية، في غضون انشغالي بعِلم الدلالة بفرعَيه، وبأهميته لدارس اللغة وللمترجم، وهو ما أفادني كثيرًا في تناول ما أعدتُ قراءته من كتب فلاسفة التحليل اللغوي، فوجدتني أزداد قدرة على تفهُّمها واقترابًا من إدراك مراميها، ووجدت إجلالي يزداد للمعلم العظيم زكي نجيب محمود، الذي اعتمد تلك الفلسفة منهجًا نجح في تطبيقه في دراسته للثقافة العربية.

أقول إنني دُهشتُ لوقوع كاتب البرنامج المذكور في خطأ تصور بداية ونهاية، لكنني عندما أنعمت النظر فيما قيل وجدتُ أن الخطأ يرجع إلى أنني لم أُفرِّق بين الكون والوجود (أي The Universe and Existence) إذ وازيت بينهما بالعربية فكل منهما مصدر لفعل يفيد الكينونة أي الوجود؛ فالفعل كان من الأفعال الناقصة بالعربية (أي an auxiliary) لكنه قد يأتي كاملًا إذا كان يعني الوجود، كما في قوله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (يس: ٨٢) وفَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (غافر: ٦٨) وأمثال هاتين الآيتين في سورة البقرة (١١٧) وآل عمران (٤٧) و(٥٩) والأنعام (٧٣) والنحل (٤٠) ومريم (٣٥)، وفي كلٍّ منها يعني الفعل الأمر بالوجود فالوجود ويماثله فعل الكينونة في اللغات الأوروبية وفي الكتاب المقدَّس بطبيعة الحال، وإن كان فعل الكينونة لا يستعمل فعلًا للدلالة على الوجود إلا في سياقات محدودة، ولذلك فإن اللغويين المحدثين يسمونه فعل الوجود أو الفعل الوجودي (existential verb) ونقرأ في سفر التكوين (١/ ٤): (God said, “Let there be light”, and there was light) وهكذا وجدت أنني أخطأت؛ لأن المقصود بكلمة الكون الإنجليزية (universe) يختلف عن المقصود بالوجود (existence)، فكلمة الكون هنا تعني النجوم والكواكب وما عليها وما بينها، والمقصود بالبداية هو تَشكُّل هذه الأجرام السماوية في الصورة التي نعرفها اليوم، لا الوجود (Being) الذي هو نقيض العدم (nothingness)؛ ومن ثم فلنا أن نعتبر تلك البداية نقطة على مسار دائرة الوجود، الذي قد لا تكون له بداية، فقد يكون أزليًّا، وقد لا تكون له نهاية، فقد يكون أبديًّا ومن ثم لا يكون كاتب البرنامج قد أخطأ!

ولا شك أن تجربة المرض الذي كدت أرى الهلاك فيه رأي العين كانت من وراء انشغالي بصورة الدائرة وتجلياتها في الفكر والأدب، فالصورة عسيرة؛ لأنها توحي للأذهان التي لم تعتدِ التفكير النظري بالعودة إلى نقطة البداية أو إلى نقطة من نقط البداية، وذلك — كما هو واضح — محال، فالدائرة تعني الحركة مثلما تعني التغير، والحركة والتغير هما أساس الدوام الذي أشرت إليه في البداية، وتفكيرنا المستمد من الفِطرة السليمة يقبل الحركة والتغير والدوام، لكن منطق الحياة الواقعية قد لا يقبل ذلك؛ فكما ذكرت في التمهيد كثيرًا ما يقلق الإنسان من التغيير لظنِّه أنه يناقض الدوام أو ينفيه، فهو يحس فطريًّا بمعنى الديمومة ويخشى أن يقبل التغيُّر (الصيرورة) فيفسد هذا المعنى أو ينقضه، والإنسان يحسُّ فطريًّا بالحركة، فجيَشان الدم في جسده أكبر دليل عليه، ونشاط ذهنه، مهما يكن من خمول بدنه، دليل عليه، وحركة الكون من حوله في الأرض وفي السماء تشهد به، ولكنه يخشى أن تؤدِّي الحركة إلى سكون أو خمود وهمود فيفزع، فهو دون أن يشعر يطبق فكرة البداية والنهاية، أما إذا تأمل معنى الدائرة الحقيقي فسوف يجد أن الدوران يعني أن الدائرة تفضي إلى دائرة أخرى تختلف معانيها ومبادئ صيرورتها عن الدائرة الأولى، لكنها تشترك معها في جوهر الحركة الدائرية الدائمة؛ أي إنه يخشى الدائرة لأنها قد تعني له العودة إلى ما كان عليه أو انتهاء ما هو فيه، ولذلك يقصي التفكير في موضوع الحركة الذي يوحي له بالنهاية، ولكن الدائرة قد تتغيَّر في حركتها وقد تفضي إلى دوائر أخرى دون أن تتوقَّف أبدًا.

أقول إن تجربة المرض أفادتْني في هذا الباب؛ لأن العزلة التي فرضها القدر عليَّ في المستشفى خمسة أشهر كاملة أتاحت لي أن أقرأ على مهَل وأن أتأمَّل ما أقرأ ليلة بعد ليلة، كما أن ظلال المجهول كانت تُواجهني في ظلام ليل الشتاء الطويل في باريس فتشحذ في نفسي القدرة على نوع جديد من الحدس، وأنا أصفه بالجدة لأنني لم أكن خبرته من قبل، وإن كنت عرفت فيما بعد أنه مألوف لكل من استغرق في التأمُّل حتى غاب عنه «وعي اليقظة» بما حوله، وما أكثر هؤلاء بين الشعراء والفنانين والمتصوِّفة، وبين الكثيرين ممَّن يُخلصون في عبادتهم لله حتى تشفَّ أرواحهم وتصفو نفوسهم فيعرفوا معنى السكينة الحقة، ولو كان مظهرهم لا يدلُّ على وجود مثل هذه القدرة على الحدس، ووجدتني أستعيد لحظات بعد بها الزمن حتى كاد العقل الواعي أن يَلفظها أو ينكرها، ولكنها كانت لحظات صفاء مؤكَّد أتاحت لي هذا الحدس نفسه على امتداد حياتي كلها، ووجدتني — مثل الشاعر وردزورث — أرجع إلى الماضي لأشهد من جديد هذه اللحظات، وهي التي يُسميها (Spots of time)؛ أي بقاعًا زمنية، ويقول إن ارتيادها يهبه طاقة نفسية ترسخ إيمانه وتُتيح له رؤًى قشيبة، وكان ارتيادي هذه اللحظات أول الأمر في الأحلام أو — إن شئت الدقة — فيما بين النوم واليقظة، خصوصًا قبيل الصحو حين تدب الحركة في أطراف المستشفى، أو تَعصِف ريح الشتاء الباردة بذوائب الشجر العاري خارج النافذة في المساء، أو تهطل شآبيب الربيع في غسق الصبح فتُحدِث هديرًا خافتًا يتردَّد صداه في أذني فأسمع ما يشبه صوت والدي وهو يُلقي الشعر العربي (وكان جميل الإلقاء) وأرى كأنما يسير معي في حديقتنا في رشيد، وكأنما نسمع أصوات طيور الشمال المهاجرة، وكأنما أرى ضوءًا خافتًا ينبعث من مسكن الحاج غضبان شعير حارس الحديقة المقيم فيها، فأتصور أن الوقت مساءً وأنه أوقد الكانون لزوجته «أم سميح» لإعداد العشاء، بل وأكاد أشم رائحة اشتعال الوقود الريفي، وكانت تلك الرؤيا تتكرَّر فأجد أن بعض عناصرها قد اختلط بعناصر معاصرة فلا أعجب أو أدهش، كأن أرى أحد أصدقاء القاهرة معي في رشيد، أو أرى المشهد وقد أصبح يضم غرفة مكتبي في منزلنا في «داربي رود» في إنجلترا، فأكاد أفرح لوجود كتبي معي، وكنت حين أصحو على ضجيج الممرضات أو زيارة الطبيب أحس بنشوة عميقة تحيل مشهد الصحو حلمًا والحلم حقيقة لا تقبل النقض!

ودائمًا ما كنتُ أعود إلى تلك «البقاع الزمنية» (وهي التي أسمِّيها «الواحات» الآن) في كلِّ عزلة، وكنتُ أسعد فيها بالإحساس بالزمن؛ ففيها وُلِدَتْ صورة الدائرة بل الدوائر، فكنتُ إذا أحسست بالعزلة في أيِّ مكان، في مصر أو خارجها، أشعر بتداخل لحظات الزمن، ويعتادني الحدس الذي تولَّد أولًا في باريس، فأرى الشارع الغريب وقد أصبح مألوفًا كأنما تُوجد صورته في أعماق النفس، أو أرى الشارع المألوف وقد اكتسى شكل شارعٍ آخر رأيته فيما يرى النائم، فأدرك دورات الزمن، وأذكر أنني كنت في زامبيا ذات يوم للعمل في مؤتمر تابع لمنظمة الوحدة الإفريقية، وخرجت ذات يوم لشراء بعض الهدايا للأصدقاء من دكان تديره أسرة إنجليزية، وعندما طال بنا الوقوف أدرت رأسي لأنظر مصدر صوت سمعته فشاهدت ما بدا كأنه حديقة مدرسة سعيد الأول في حي محرم بك بالإسكندرية، واستغرقتْني الرؤيا حتى غفلت عن البائعة، ولم أتبين أن دوري قد جاء إلا حينما كررت نداءها لي عدة مرات.

أعرف ما يقوله العلماء عن هذه اللحظات، ولكنَّ ما مررت به لم يكن «ذكريات» أو ما يمكن إدراجه في عداد لحظات التجلِّي المعروفة، فلقد عرفت هذه وتلك، ولهذه صفاته ولتلك صفاتها، أما ما أعنيه هنا فهو لحظات الإدراك التي تتجاوَز الذكريات وتتجاوَز التجلي في كونها ذهنية ونفسية معًا؛ فكنت عندما أخبرها أحس بيقظة ذهنية تربطني بأمكنة وأزمنة وأشخاص ممَّن أعرف ولا أعرف، وتستعصي عليَّ الكلمات حتى يتوقَّف الصوت الداخلي ويتملَّك نفسي إحساسٌ بالتداخل والحركة معًا، فهذا يشتبك مع ذاك، ويتحرَّك الجميع في عدة اتجاهات معًا وفي نفس الوقت، وكان التداخل والحركة معًا يُمثلان الدافع الأول لي على استكناه معنى الدائرة، ويقيني آخر الأمر بفكرة الدورة، وأذكر أن هذه الفكرة رسخت في أعماقي حتى أثَّرت فيما أكتب بل فيما أترجم، بل إنها بدأت تتسرب إلى أسلوبي نفسه، وقد انتبهت إلى ذلك عندما اعترض الأستاذ عبد الناصر عيسوي على تعبير «دار الزمن» في أثناء مراجعته لترجمةٍ قمتُ بها، وظننتُ أن التعبير خطأ، فسمحت له بتغييره، ولكن الدكتور عبد اللطيف عبد الحليم (الشاعر أبو همَّام) أكَّد لي فيما بعد أنه صحيح، والأقرب إلى المنطق أن يكون صحيحًا؛ لأنَّ آباءنا خبروا الحياة مثلما خبرناها، وربما بأعماق ممَّا خبرناها، فكان التعبير مألوفًا لديهم.

٢

وإذا كان الإحساس بالزمن هو أهم سمة من سمات تأمُّل الدائرة، ولا أقول ثمرة من ثمار تأملها؛ إذ ربما يكون الإحساس بالزمن هو الذي يدفع بصورة الدائرة إلى بؤرة الوعي، فإنَّ الحياة التي تتدفق أنهارها حولنا تَزخر بما يُعمِّق هذا الإحساس ويُؤكِّد صورة الدائرة في الوقت نفسه، وأنا أرى في بعض الأحداث التي شهدتها نماذج على دوائر تشبه دوائر القدر، وهي جديرة بقلم نجيب محفوظ حقًّا؛ فالإنسان يشترك في صنعها مع قُوى لا أظنُّني أخطأت حين نسبتها إلى الأقدار، وفي داخل هذه الأحداث نفسها تبرز «بقاع زمنية» يزداد جمالها، ولو كانت غاصة بالآلام، كلما ابتعد بها العهد وطوتها الأيام، فإذا رأيت نظائر لهذه الأحداث من حولي أدركت أن دائرة جديدة قد بدأت، وأن أحداث الأيام تأبى إلا أن تفضي دائرة إلى أخرى، وأن الماء الذي يصبُّه النهر في البحر فيَختلِط بمائه الملح لا يَلبث أن يحمله الهواء سحائب تعود لتغذو منابع النهر حتى يصبها في البحر من جديد. إن دورة الزمن التي تتبدَّى في أحداث الزمن تأكيد للدورات الكونية، وكنت ولا أزال أرى فيها النماذج المادية لدَورات الروح البشرية، أو قل إنني كنت ولا أزال أستقرئ فيها فِكرة الدائرة التي تتخطَّى حدود الحياة الملموسة. وليأذن لي القارئ بإخفاء أسماء بعض الأشخاص فيما سأرويه؛ لأنهم لا يزالون بقيد الحياة، حتى لا يتضرَّر أحد منهم من نشر قصته على الملأ، وإن كان من المحتوم أن يتعرَّف أحدهم على نفسه، وأنا لا أجد في ذلك بأسًا ما دام هو الذي روى لي القصة وما دمت قد التزمت في روايتها بما رواه لي.

كان إبراهيم (…) زميلًا لي في المدرسة الثانوية في رشيد، وكان يَكبرني بنحو ثلاثة أعوام، وكان من «قادة الطلبة»، وهو الوصف الذي أطلقه عليه ناظر المدرسة أحمد السعيد جاد، فكان يقود المظاهَرات المعادية للملك، ويشتهر بصوته الجهوري، وكان على ضآلة جرمه ذا شخصية جذابة تَستميل الآذان والقلوب، فكان فصيحًا يقرأ الصحف ويلقي الخطب ويُنافس فوزي أبو العلا — الخطيب المفلق — في زعامة السنة الثانية الثانوية (الإعدادية) بل وزعامة المدرسة كلها، وكان جريئًا يجاهر بمُيوله الاشتراكية، ويردِّد ما يقوله الأستاذ ونيس، مدرس الجغرافيا، عن حتمية الثورة، وكان الوحيد الذي يحصل على مجلة روزاليوسف ليلة الأحد أي قبل صدورها بساعات وقبل أن يُصادرها الرقيب أو يحذف منها ما يمس الأسرة الملَكية أو يُغالي في انتقاد الحكومة، فكان يَنفرِد بأقاصيصِه عن القصر وعن أسرة زينب الوكيل، زوجة النحاس باشا، وعبود باشا، واللواء النجومي باشا (مدير حديقة الحيوان) وآخرين كثيرين، وكنا نستمع إليه في دهشة وإعجاب وهو يسرد نماذج للفساد الذي يضرب أطنابه في الحكومة، وعن الإقطاعيِّين وما يفعلونه بالبسطاء، فإذا حدث ما يراه جديرًا بالتظاهر أمر بمُقاطَعة الدروس والإضراب، ثمَّ صاح بالطلاب أن هُبُّوا فإذا هم يهبون في مظاهرة تطوف بشوارع البَلدة مُردِّدة الهتافات، وكنا نحن — الصغار — نُهرع خائفين إلى منازلنا، وكان مُدرِّس التاريخ الأستاذ عبد المنعم درويش (زوج ابنة عمي كوثر) يُساند هذا «الزعيم» معنويًّا وينحاز إلى صفه حين تغضب عليه إدارة المدرسة، وأذكر مرة استدعينا للشهادة أنا ومصطفى النقيب (وكان من إدكو ويجلس إلى جواري في الفصل ودارت الأيام فتزوج ابنة عمتي) وكانت التُّهمة الموجهة إلى إبراهيم هي التعدي على الذات الملَكية بما لا يليق من ألفاظ، وكان الناظر قد استدعى للحكم في الشكوى الأستاذ هندي مدرس أول اللغة العربية، الذي كان — كما علمت فيما بعد — مُدرِّسًا لوالدي وللدكتور عبد العزيز كامل رحمهما الله في الفريدية الثانوية بالقاهرة — وأسر إلينا الأستاذ عبد المنعم درويش ألا نقول شيئًا لأن التُّهمة يُعاقب عليها بالفصل النهائي. وعندما سئلنا التزمنا الصمت، ولم نقل ما يثبت أو ينفي، وصاح الأستاذ هندي: «ولا تكتموا الشهادة يا عناني! ولا تكتموا الشهادة يا نقيب!» ولكن صيحاته ذهبت عبثًا ونجا إبراهيم وساد المدرسة فرح غامر، وسرعان ما أرسل إبراهيم رسالة سرية إلى جميع الطلاب يَنصحُهم فيها بالامتناع عن الحضور في اليوم التالي احتفالًا بالنصر، ويحذرهم من المجيء، ولكنني لم أستطع بطبيعة الحال أن أمتنع عن الذهاب، وعندما وصلت وجدت الباب موصدًا، وعم سليمان الفراش واقفًا على غير عادته، وسرعان ما وصل الأساتذة الذين يأتون بالقطار من الإسكندرية، وسألنا الأستاذ صليب — مدرس الرياضيات — عن الخبر فلم نعرف ماذا نقول، وبعد دقائق خلناها دهرًا انصرفنا في حيرة، فلا مظاهرة ولا دراسة — بل ولا لعب!

وعندما قامت الثورة — في العام التالي — كان إبراهيم يرى نفسه مُمثِّل حكومة الثورة في المدرسة، وكان الوحيد — تقريبًا — الذي يُعارض «شلة» الإخوان المسلمين، وهي «الشلة» التي تحدثت عنها في واحات العمر (ج١)، وقلت إن أفرادها كانوا يتصوَّرون أنهم وزراء المستقبل، وكان إبراهيم يجاهر بهذا العداء، وكان أنصاره يَحملونه على أكتافهم في مظاهرات التأييد للثورة، ولا أعرف مَن الذي ألَّف بيت الشعر الحلمنتيشي الذي كانوا يُردِّدون شطرًا منه تأييدًا لإبراهيم وهو «أنت الزعيمُ وكُلُّهمْ رَكَشُ!» وقد يكون أحدهم قد قرأه في إحدى المجلات، وربما يكون له مؤلف مجهول من بين الطلاب، لكنَّني أذكر أن إبراهيم سألني عن الشطر الثاني فلم أعرف فطلب منِّي استكمال البيت، فطلبت منه أن يُمهلني حتى «آخر النهار»؛ أي إلى ما بعد انتهاء الدروس فوافَق، فجهدت نفسي طيلة الحصتين الأخيرتين حتى كتبت له شطرًا حلمنتيشيًّا آخر لا يبرح خيالي أبدًا وهو «الحقُّ جاءَ ورَوَّحَ البَكَشُ!» فلدهشتي الشديدة وجدته يَصيح صيحة الظفر كأنما عثر على شعار الثورة!

وانقطعت أخبار إبراهيم عني سنوات طويلة، ثم قابلته ذات يوم من عام ١٩٦٢م في مقهى الأزهار بباب اللوق، وكان يجلس وحده وهو يدخن بشراهة وبجانبِه حقيبة أدركت على الفور أنها حقيبة معلم، فأقبلت عليه مرحبًا فإذا هو كالعهد به يتقد حماسًا، غير أنه ازداد نحولًا كأنما صغر حجمُه، وعرفت منه أنه كان يُحاول الانتهاء مِن إجراءات السفر إلى الجزائر (التي كانت قد حصلت لتوِّها على استقلالها) لتدريس اللغة العربية والمشاركة في حملة التعريب التي قادَها بن بيلا وواصلها بومدين، وجعل يتكلَّم عن مشروعات المستقبل، وعلمت أنه حصل على دبلوم المعلِّمين وهي شهادة متوسِّطة، وأنه يَطمح إلى استكمال تعليمه بالجامعة عندما يعود من الجزائر، وأخذ يقصُّ عليَّ طرفًا من أخباره وأخبار زملائنا بعد أن فرقتنا الأيام، وأنا أنهل من حديثه كأنه الشهد الرضاب، ولم أشأ أن أفارقَه حتى بعد أن وصل فاروق خورشيد وعبد الغني أبو العينين (من مركز الفنون الشعبية)، وكنتُ أنتظرهما لتسليم ترجمة مقال، فقدمتُه إليهما بسرعة وأنهيت المقابلة وعدت إلى مائدتنا حتى تأخر الوقت، فأعربَت له عن أطيب الأماني وودعته.

وعرفت باقي قصة إبراهيم من بعض أصدقائنا بعد عودتي من إنجلترا عام ١٩٧٥م، فلقد قضى سنوات لا أعرف عددها في الجزائر وعاد إلى مصر فاستقرَّ في مدرسة في الإسكندرية، ويبدو أنه تخلَّى عن حلم استكمال تعليمه، ويبدو أن حماسه الثوري قد فتر أيضًا؛ إذ اشترى عمارة في حي شعبي (لا أعرف تحديدًا مكانها) وأصبح له دخل يُعينه على الزواج، ولم يكن يُريد الاقتران بأيِّ فتاة من رشيد فهو الآن «أفندي» محترم وجدير بأحسن المتعلمات من بنات الإسكندرية.

وقال الصديق الذي قص عليَّ القصة: «كانت العمارة جديدة، وإيجار الشقة لا يقلُّ عن ١٢ جنيهًا في الشهر، وقد حجز لنفسه شقة فيها، وإبراهيم — كما تعرفه — يحب الشعارات [يقصد المبادئ والمثل العليا]، ويبدو أن إحدى الساكنات في الشقة المقابلة لشقتِه، وكانت طالبة في السنة النهائية بمدرسة الحكيمات (التي أصبحت المعهد العالي للتمريض) أدركتْ ذلك، وكانت أصغر أخواتها وتعيش وحدها مع والديها المسنَّين، فجعلت تختلق الفرص لترديد الأفكار الثورية التي تَستهويه كلما قابلته بالمصادفة أو لدفع الإيجار أو في المناسبات الاجتماعية المصرية، ويبدو أنها فعلت كل ما تستطيع الأنثى بفطرتها أن تفعله لاجتذاب نظره، وانتهزت فرصة زيارة بعض أفراد أسرته (والدته وأخته) من رشيد فوطدت علاقتها بالأسرة، وعندما مرضَت الوالدة لم تكن «الحكيمة» تبارح موقعها بجوار فراشها حتى شفاها الله، ولم تكن تضن بالأدوية التي تحصل عليها من عيِّنات الصيدلية في مدرستها، وكان ذلك كفيلًا بإثارة اهتمام إبراهيم، خصوصًا عندما كانت تتحدث عن تطوعها للعمل بالقوات البحرية بالإسكندرية في حرب ١٩٦٧م، وكانت تطَّلع الأم على تفاصيل عملها ونشاطها في الرعاية الطبية، مع أنها لم تكن قد تخرجت بعد، وتدريجيًّا بدأت الفتاة تكتسب في عيون الأسرة صورة الفتاة المصرية الجديدة، المتحررة، صاحبة المبادئ والمؤمنة بالعمل إيمانها بالحياة، فكانت أخت إبراهيم تغار منها ولا ترحب بها، وكثيرًا ما كانت تتشاجَر مع والدتها بسبب إعجابها بتلك الفتاة الإسكندرانية وتتهمها بأنها تفضلها عليها، ولكن الأم كانت قد قررت أمرًا وعقدت عليه العزم، فما إن انتهت «الحكيمة» بعد شهور من دراستها وأصبحت تَحمل لقب الدكتورة حتى أمرت ابنها بالزواج منها! تصور يا أخي [قال صديقي] إلى أي مدى يبلغ مكر النساء! والواقع أن إبراهيم لم يكن بحاجة إلى «أمر» فالفتاة تشغل خياله و«تملأ» حياته فعلًا! وسرعان ما تمَّ الزفاف، ولم تعد أسرة إبراهيم تزوره إلا في المناسبات، خصوصًا بعد أن أنجب وتمكن منه حب زوجته إلى الحد الذي جعله ينقل إلى ابنه مِلكية العمارة، بعد أن أفهمته زوجته أن ذلك أمان للولد، فهو الذي سوف يرث المبنى في آخر الأمر، وتدريجيًّا تقطعت علاقة إبراهيم بأسرته في رشيد، وكنت عندما أزوره أراه ناحلًا هزيلًا لا يتوقف عن التدخين، وكان أحيانًا يشرد ببصره فلا أعرف إن كان يسمع ما أقول أم لا.»

وقال لي الصديق إنه كان دائمًا يستريب بالحكيمة وبأسرتها بسبب جشعهم وحبهم للدنيا، وكان يُتابع أخبار الأسرة بانتظام فهو لا ينسى أصدقاء الصبا، ودلَّل على ذلك بزيارته لي في القاهرة قائلًا إنه يَغتنم كل فرصة لتجديد العلاقة معهم، فلا شيء أثمن من صداقة الطفولة والصبا، وكان كثيرًا ما يتردَّد على القاهرة للانتهاء من بعض الأوراق الخاصة بعمله في الجمرك، وكنت ما زلت أسعد سعادة بالغة بلقائه والاستماع إلى اللهجة الرشيدية الصادقة بعد أن كدت أنساها. وكانت قصة إبراهيم قصة واحدة من عشرات القصص التي كنت أختزنها وأحيانًا ما أرويها أو أناقش تفاصيلها مع أحد أخويَّ الأصغرين حسن أو مصطفى، فهما يُتابعان بعض هذه القصص خيرًا مني، ولهما من الأصدقاء مَن قد يملأ بعض الفجوات فيها.

وفي أغسطس ١٩٩١م كنت أزور الإسكندرية لإلقاء محاضرة في قصر ثقافة الشاطبي، وكان قد أُعلنَ عن المحاضرة في باقي قصور الثقافة، فسعى إلى الشاطبي بعض مَعارفي وأصدقائي القدامى وكنت أتوقَّع أن أرى إبراهيم بينهم، ولكنَّني قابلت الصديق الذي روى لي قصة زواجه، وكان واجمًا مكتئبًا، فسألته ما الخبر فقال لي إن إبراهيم قد تُوفي في العام السابق، ولم يَعرف أحد سبب وفاته، وقال إنه يَظن أن زوجته هي التي قتلته، فقلتُ له أن يُحسن الظن بالناس وألا يتَّهم أحدًا دون دليل، وسألته عن الولد فقال لي: «هذه مُصيبة أخرى!» وفاجأتني كلماته فخرجت معه إلى طريق الكورنيش نَستروِح نسمات المساء، فقد كان اليوم حارًّا رطبًا ولم تُخفِّف كلماته من الحرارة أو الرطوبة! فحثثتُه على الحديث فانطلق:

«عندما عُدنا إلى الله في السبعينيات كانت زوجة إبراهيم أول من ارتدى الحجاب بين أترابها، وأنشأت ابنها تنشئة دينية قويمة، فلم يكتفِ بالشعائر الدينية بل أصبح واعيًا بالحلال والحرام، وأصبح يتردَّد بانتظام على المسجد، مما أثلَج صدورنا جميعًا، وتدريجيًّا أصبحت والدته تتكلَّم باسم الإسلام وتتحكم في حياة أسرتها الصغيرة (زوجها وولدها) وأسرتها الكبيرة التي تُقيم في الشقة المقابلة، وأصبحت مرهوبة الجانب، ويبدو أنها تعرف الكثير عن الطب؛ إذ كانت تقوم بمهام الأطباء لدى الأسر التي تَستنكِف نساؤها استدعاء أطباء من الرجال، أو لا تثق نساؤها في الطبيبات السافرات، وعلى مرِّ الأيام تحول «تديُّن» الولد — واسمه خليل إلى «دروشة» فهجر التعليم، وطلب من والدته مَبلغًا من المال (فهي التي تتحكَّم وحدها في دخل الأسرة) وذلك للقيام بمشروع تجاري يُبعده عن فساد الجامعة (بسبب اختلاط الجنسين فيها) فوافقت، وباعت إحدى الشقتَين اللتين كانت قد أمرت ببنائهما فوق أدوار العمارة الأربعة (دون تركيب مصعد) وأعطته ما يريد، وساعدتُه أنا شخصيًّا عدة مرات في تخليص ما يريد من الجمرك، وكان قد أطلق لحيته وارتدى الجلباب الأبيض، فساعده مَن بهَرَهم ورعه واجتذبتهم تقواه، على صغر سنِّه، فلم تلبث تجارته أن ازدهرت، وأصبح يقضي حياته ما بين العمل والمسجد والبيت، فكان مثالًا للشباب المؤمن العامل المجتهد، بل إنه أشرك في العمل عددًا من «المؤمنين» فأصبح المحلُّ كعبة الجمهور والناس كلهم لا في الحي وحده بل في الإسكندرية كلها.»

ولم أجد في ذلك كله مُصيبة فعدت أسأله الإيضاح، فقال: «بداية «المصيبة» هي أنه سجَّل العمل باسم والدته، وأما والده فقد كان قد انسحب آنذاك من الساحة انسحابًا كاملًا، وكان مهملًا في مظهره، وازداد نحوله وعزوفه عن الطعام، ولا بدَّ أن ذلك كان بسبب أسرار لا نحيط بها عن علاقته بزوجته المسيطرة، ولو كان له شأن بما يجري لَما قَبِلَ تسجيل العمل باسم الزوجة، فكان يمكن تسجيله باسمه هو مثلًا، وذلك حتى يبلغ خليل سن الرشد، وعلى أي حال، فنحن الآن نواجه المصيبة الحقيقية؛ ألا وهي أن خليل قد تزوج من ابنة أخت الزوجة (أي من بنت خالته) التي تَكبُره بخمسة عشر عامًا أو أكثر، فهي تخطو نحو الأربعين إن لم تكن بَلغتْها — وهي على ما سمعت لا تتميز بأي ملاحة، ومن الصعب التيقن من أي شيء عنها فهي منقَّبة ومُفرطة السمنة، لا تكاد تغادر المنزل أبدًا، ولا يبدو أن أحدًا تقدم لخطبتها قبل خليل.»

وسألت صديقي مُخلصًا عن سبب معارضته لهذا الزواج، فقال إنه يظن أن والدة خليل هي التي فرضتْه عليه، فليس من المعقول أن ينتهي الأمر بهذا الشاب «المثالي» إلى هذه الزيجة غير المتكافئة، فأوضحت له أن أساس الزواج هو التناغم والتوافق، وما داما متناغمين متوافقين فليسعدا وليهنآ، وقلت له إن ما يحزنني حقًّا هو ما حدث لإبراهيم؛ فهو صديق أعرفه ويُدهشني أن تتحول حياته هذا التحول، فأنا أذكر شخصيته القوية، وأستبعد أن يكون قد استسلم بسهولة لزوجته ولا بد أن أمرًا قاهرًا هو الذي جعله «ينسحب» كما تقول من «الساحة». واستمر نقاشنا ونحن نسير الهوينى في اتجاه محطة الرمل، وكانت أضواء المساء مضاءة وتتلألأ على صفحة البحر، وعلى البُعد يلوح مسجد أبي العباس المرسي فيثير حنيني لأيام الصبا، وكان صديقي لا يكف عن رمي زوجة إبراهيم بصفات قاسية، فقلت له إنه لا ينبغي أن يدين طرفًا واحدًا في أي علاقة بين اثنين (أو بين مجموعة)؛ فالإنسان مخيرٌ في علاقاته، ولا بد أن عدة عوامل (لا عاملًا واحدًا) هو الذي دفع إبراهيم إلى الاكتئاب، وربما يكون قد حزن بسبب انهيار الاشتراكية — مثله الأعلى — أو بسبب انهيار بعض أحلامه الفردية، فهو لم يكمل تعليمه، وكذلك لم يُكمل ابنه تعليمه، وربما يكون قد مرَّ بتجارب معينة في الجزائر لم يفصح عنها لأحد فشعر بالإحباط، وكنا قد وصلنا إلى الفندق الذي أنزل فيه فدعوته لشرب الشاب معي لكنه اعتذر لتأخر الوقت، فقلت له قبل أن نفترق ألا يُغالي في الهجوم على المرأة، لكنه قال بلهجة تنم عن الألم، إن خليلًا قد أصبح يقضي في المنزل من الوقت أكثر مما يقضيه في العمل، وإنه يَنسب ذلك كله إلى مصيبة زواجه من تلك الفتاة. وافترقنا.

ولم أجد في القصة ما يُبرِّر وصفها بالمصيبة، بل رأيت فيها ما يشبه الدائرة! لقد افتتن إبراهيم بزوجتِه بسبب تحرُّرها وأفكارها (التي يسميها صديقي «الشعارات») وافتتن خليل ابنه بابنة خالته بسبب نقابها وربما بسبب غياب الأفكار أو «الشعارات»! وهكذا دارت الحياة دورتها وتغير المجتمع، وربما تكرر في حالة خليل ما حدث في حالة أبيه إبراهيم، وقد يكون قد أنجب ولدًا يواجه موقفًا مشابهًا (إن لم يكن مُماثلًا) مع إحدى قريباتِه من سليلات الأسرة العجيبة! وكم كنت أتمنَّى أن أُتابع أحداث هذه الأسرة، فروايتها قد تصنع «رواية» فنية محبوكة، إذا توافرت للكاتب الإحاطة الكافية بدقائق حياة كل شخصية من الشخصيات، ولكنَّني لست روائيًّا بل أضع نفسي في موقع قارئ رواية الحياة، وأحاول أن أجد فيما أقرؤه بعض المعاني، وفي ظني أن هذا جوهر كل سيرة ذاتية أدبية، ولما كان معنى ما حدث لهذه الأسرة قد برز كواحة من واحات الزمن الذي ما فتئ يدور، ويظل يدور حتى قيام الساعة، فقد أثبتُّ أحداثها — كما سمعتها وكما شهدت بعضها ولو من مسافة ما — لأنها أحداث تؤكد ما ذهبت إليه من الدوران! إن وفاة إبراهيم لم تكن نهاية؛ لأن ابنه واصل مسيرة قوس الدائرة، لا في المضمون ولكن في الشكل، أو قل — إن شئت — لا في مواد البناء بل في شكل المبنى! أو قل — إن شئت — لا في التفاصيل بل في الصورة، فنحن إذن نواجه دائرتين؛ الأولى تُفضي إلى الثانية، ومَن يدري ما تكون الثالثة؟ وفي جوهر الدوران نفسه يَكمُن جمال قول المتنبي:

صَحب الناس قبلنا ذا الزمانا
عناهم مِن شأنه ما عنانا

وقول شوقي:

سنون تُعاد ودهر يُعيد
لعَمرُك ما في الليالي جديد!

٣

لم يُكتب لي أن أتابع تفاصيل قصة خليل، إذ شُغلتُ في العام التالي بالمرض ورحلة العلاج، وشغلت بعد العودة بمُحاولة الرجوع إلى نشاطي السابق، وعندما أتيحت لي في منتصف التسعينيات فرصة استئجار شقة في عمارات الأوقاف بالشاطبي لم أتردَّد ودفعت المبلغ المطلوب لمستأجرها القديم اللواء محمد رأفت ولهيئة الأوقاف المصرية، وكانت تُصور في ذهني أقرب مكان إلى مَراتع الطفولة والصبا في رشيد والإسكندرية، وأقرب مكان تستطيع فيه والدتي في أعوامها الأخيرة — رحمها الله — أن تستمتِع فيه بصُحبة أبناء الأسرة المقيمين في الإسكندرية والتواصُل مع أهل رشيد أيضًا، وكان موقع الشقة مُغريًا فهي تقع تمامًا تحت الشقة التي تُقيم فيها خالتي الحاجة لطيفة بدر الدين، مدَّ الله في عمرها؛ فهي أصغر خالاتي وأخوالي — وكانت والدتي رحمها الله تحب صُحبتها، وكان يزور والدتي الأقارب جميعًا، خصوصًا خالي الدكتور مصطفى كمال بدر الدين وأبناءه، وكان قضاء شطر من الصيف فيها يهيئ لنا جميعًا اللقاء مع أفراد الأسرة الكبيرة، وكنت كلما ذهبت إلى الإسكندرية سألت عن صديقي الذي حكى لي قصة خليل فلم أوفَّق في العثور على عنوان له، وسألت الشاعر عبد المنعم الأنصاري — رحمه الله — كما سألت الشاعر مهدي بندق، وتردَّدت كثيرًا على قصر ثقافة الشاطبي، ولكن جهودي جميعًا باءت بالفشل. وعندما يئست من العثور على ذلك الصديق قرَّرت أن أزور المحلَّ التجاري الذي أنشأه خليل في حي الجمرك، فاصطحبت ابنتي سارة فيما يُشبه النزهة بالسيارة، وذهبنا إلى مقرِّ المحل الذي كان صديقي قد أعطاني عنوانه فوجدته مُغلقًا. أوقفت السيارة ونزلت فسألت أصحاب المحلَّات المُجاورة فجاءتني إجابة واحدة لا تتغيَّر، وهي أن صاحبه صادف مشاكل مع الضرائب فأغلق المحلَّ وسافر. وكنت أعود كل عام فأمرُّ على المحلِّ بالسيارة فأجده لا يزال مغلقًا، فأيقنت أن المشاكل لم تحل، وإن كان ولا يزال من الصعب عليَّ أن أقتنع بأنه «سافر» كما يَزعُمون، وقلت في نفسي لعله قد فضَّل الاختفاء هربًا من مشاكله، ولعلَّ هؤلاء التجار يقولون ذلك تضامنًا معه وخوفًا من أن أكون جاسوسًا حكوميًّا.

كنت أريد أن أعرف باقي القصة لأرى كيف سارت دائرة الحياة به (وبأبنائه؟) فأنا مشدود إلى تلك الدوائر التي يبدو أن القدر يحكم رسمها، وفي ذهني الآن قصص تؤكِّد مسار تلك الدوائر، ومسارنا فيها إلى غايات لا يعلمُها إلا الله سبحانه وتعالى، وأنا أصف هذه القصص أو الأحداث بأنه «قدرية» لأنَّ الدائرة صورة قَدرية محتومة، فنحن ندور فيها مدفوعين بما رُكِّبَ فيها من صفات، يفسرها العلماء اليوم بأنها «الجينوم البشري» أو الخصائص الوراثية الفطرية التي تميز كل فرد عن سواه، فكأنما هي «المكتوب» بلغة الحياة الجينية (the language of life) فهي لغة لا تَقتصِر على الصفات الجسَدية بل تتعدى ذلك إلى الصفات النفسية والذهنية، وما زلت مفتونًا بهذا «المكتوب» في أعماق خلايا أجسادنا منذ الولادة، وما زلت أتساءل عن مدى حرية الاختيار المتاحة للإنسان و«المكتوب» مكتوب! هل قُدِّرَ علينا إن أردنا الاختيار حقًّا أن نكافح ما لا نُحبه من «المكتوب» فنغيره أو نُعدِّلَه؟ إنه لسؤال يظل بلا إجابة، حتى يكشف لنا الله عن بعض أسرار هذا الكائن الذي كنا نظنُّ أننا قادرُون عليه.
لقد قلت لصديقي في عام ١٩٩١م إننا نتمتَّع بحرية الاختيار في علاقاتنا، وهو قول لن يعارضني فيه إلا القليل؛ فنحن نحب أن نتصور أننا أحرار، وربما يقول أحد القراء: إن إبراهيم كان بإمكانه ألا يتزوج تلك الفتاة، ولو قدر لها أن تقرأ رواية صديقي لقصة زواجه فربما عارضتها وقالت: «ما حدِّش ضربه على إيده.» وقد يقول قارئ آخر إنه أخطأ حين أسلس لها قياده بعد الزواج، فله شخصية يقر الجميع بجاذبيتها، وقد يعارض ذلك قارئ آخر استنادًا إلى التفريق بين الشخصية الجذابة والشخصية القوية وهو ما نستخدم له في العامية الإنجليزية تعبير charming personality وتعبير strong character، ويقول علماء النفس: إن الشخصية الجذابة هي الشخصية القادرة على اجتذاب الأسماع والأنظار وإمتاع القلوب والعقول حتى دون أن تترك فيها أثرًا باقيًا، فهي شخصية ناجحة اجتماعيًّا وإن كان من المحتمل أن تخفي نقطة ضعف أو نقاط ضعف، وأما الشخصية القوية فهي القادرة على التأثير في الناس أولًا بالقُدوة؛ بسبب استمساك صاحبها بالمبادئ مهما تكن تلك المبادئ، وقدرته على التحكُّم في نفسه بقوة إرادة مؤكدة، ومن ثم فهي شخصية قيادية. وربما كان إبراهيم صديق الصبا يَنتمي إلى الفئة الأولى، وربما كانت زوجته تَنتمي إلى الفئة الثانية، وغني عن القول أن هذا التفريق ليس من قبيل الأبيض والأسود؛ فلكلِّ إنسان حظه من إحدى الفئتين، بل قد تجتمع الفئتان كثيرًا في بعض الأشخاص، خصوصًا في الزعماء، وإن كان المألوف أن تغلب سمات إحدى الفئتين على سمات الأخرى. وكان لإبراهيم حظه من الفئة الثانية، بدليل قيادته للطلاب في المدرسة الثانوية، ولكن صفاته القيادية كانت في رأيي مُستمَدة من عوامل خارجية لا من قوة داخلية، ولم تَعُد جاذبية شخصيته قادرة على القيادة بعد أن تولت الثورة قيادة الجماهير، فسلبتْه القوة التي كان يستمدُّها من معارَضة النظام القديم. أقول إن هذا محتمَل، وقد أكون مخطئًا، ولكنَّني أرى في تسليمه لزوجته بما تريد دليلًا عليه، وأرى الآن — على بُعد المسافة — أن إحساسه بالإحباط يُشبه إحساس الكثيرين الذين غلبتهم قوى الأحداث العامة، ﻓ «انسحبوا» — كما يقول صديقي — إلى داخل ذواتهم فلم يجدوا القوة الكافية، فأصابهم الاكتئاب وهزلت أجسامهم مثلما هزلت نفوسهم. وربما كان الوقت الذي قضاه في الجزائر مُعلِّمًا لمبادئ اللغة العربية عاملًا من عوامل الإحباط؛ فالثورة قوة ما دُمْتَ تشارك فيها بقُوَّتِكَ، وأما إذا رأيت أن تعمل على جمع المال وقرَّرت تأجيل أحلامك ولو لفترة معينة، فقد تذوي هذه القوة وتضمحلُّ، وقد تتراجع الأحلام أو تتلاشى، وقد يكون انهيار المثَل الأعلى للاشتراكية عاملًا من عوامل هذا الاضمحلال، على نحو ما ذكرت لصديقي، ولكن المجهول سيظل دائمًا قائمًا في العلاقة الحميمة بين الزوج وزوجته، سواء في حالة إبراهيم أو في حالة ابنه خليل، وهيهات أن نَنجح في النفاذ إلى الأصقاع الخبيئة في نفس أي منهما، أو نطَّلع على حقائق ارتباط كلٍّ منهما بزوجته، وما دمنا لن ننجح في ذلك أبدًا فمن التعسف أن نصدر الحكم الذي أصدره صديقي والذي يقضي بإدانة الزوجة وتحميلها المسئولية الكاملة عما حدث لإبراهيم — وربما عما يحدث الآن لخليل.
وقد يكون هذا المنهج في التفسير — الذي يعتمد على تحليل العوامل البشرية وحدها — مستمدًّا من مناهج الأدب، أو مناهج الدراما بصفة أخص، فالنقاد يجعلون مجال دراستهم — منذ عصر النهضة — نفس الإنسان، ويستخفُّون بالأعمال الأدبية (وخصوصًا الدرامية) التي تَتناول الأقدار فيما تتناول، فتتيح للمصادفة أن تلعب دورًا في الأحداث أو تفسح مجالًا أكبر مما ينبغي للظروف أي الأحوال الخارجية المحيطة بالإنسان؛ فالنقد الحديث يهتمُّ بما يُسمى عناصر الشخصية (traits of character) التي تتحكَّم في الإرادة قوةً وضعفًا، ولو أن نظريات «ما بعد الحداثة» تنكر وجود الشخصية أصلًا وتعتبر نفس الإنسان موقعًا تلتقي فيه التيارات الاجتماعية والفكرية المُتغيِّرة؛ ومن ثم فهي تعارض الثبات وتنكر على المذاهب النقدية الراسخة اهتمامها ﺑ «الشخصية». ولكن الحياة تفرض علينا، مهما يكن موقفنا من فكرة الشخصية، أن نُدخِل الأقدار في حسابنا؛ فالجينوم البشري قدر، والبيئة التي لا فكاك منها قدر، ودورة الحياة قدر، والأدب الحديث يَتناول ذلك كله مثلما تناوله الأدب القديم — شاء النُّقاد أم أبوا — ولذلك فأنا أرى أن دوائر الحياة لا تكتمل صورتها حقًّا إلا حين ننظر للإنسان نظرة متكاملة، وإذا جنح الكاتب (وخصوصًا كاتب الدراما) إلى الاتكاء على بعض العوالم دون غيرها، أو إلى تأكيد بعض ملامح الصورة دون غيرها، فلغاية فنية يقصدها، وأما نحن — قُرَّاء كتاب الحياة — فلا غاية لنا إلا الفهم، ونحن نستند في محاولة الفهم إلى كل ما نشهده ونعلمه، وهو ما لا يسمح لنا أبدًا بتجاهل دور الأقدار في دورات الحياة.

لقد اكتملت إحدى الدورات في حالة إبراهيم وابنه خليل، ومن الصعب ألَّا أنسب إلى الأقدار دورًا في اكتمالها، وهي دورة بين جيلين، ولكن دورة أخرى تعيش في ذهني وتختلف ملامحها عن هذه الدورة؛ ألا وهي دورة حياة فرد واحد اسمه هنداوي، تصدى لأقداره وبدا أنه انتصر عليها، وصعدت به الدائرة إلى الذروة، ثم هبطت به إلى الحضيض، وكنت أراه في صباي وهو يجلس في المقهى المقابل لمسجد النور في رشيد، بلا أنيس أو جليس، مرتديًا حلة إفرنكية بالية، يحدق في المنضدة أو في الفضاء، ومع ذلك فقد كانت تبدو عليه آثار عز قديم، ثمَّ توحي بأنه رأى ما لم يرَ كل من حوله، وكنت أسأل عنه فلا أتلقَّى إلا إجابات مُقتضبة لا تشفي الغليل، ثم عدت في الستينيات فسمعت أنه تُوفي فأصررت على أن أعرف قصته، وعدت للسؤال بإلحاح هذه المرة فوجدت أن الحرص والحذر ما زالا يَمنعان الناس عن الإفاضة في «سيرته»، إلى أن ساقت المصادَفة إلى منزلنا السيدة «روما القلوعي» وكانت من أصدقاء الأسرة، وزوجة لجلال الجارم الموظف ببلدية رشيد، وكانت تعلم الكثير عن الجميع، فاجتهدتُ حتى جعلتها تحكي لي قصة هنداوي، وعملتُ بعد ذلك على استكمال الفجوات في القصة من بعض كبار السن الذين كانوا لا يَلتزمون بالتسلسُل الزمني في روايتهم، لكنَّني تمكنت آخر الأمر من تجميع الأجزاء في سياق شبه كامل، ووضعت على الورق ما يشبه القصة الكاملة، واحتفظت بها سنوات طويلة فيما احتفظت به من أوراق في حقيبتي التي كنت قد تركتها في مصر طيلة سنوات الغربة، وكنت أطَّلع عليها من حين لآخر في غضون اختياري لنماذج أوَّلية لبعض مسرحياتي، لكنَّني لم أوفَّق حتى الآن في وضعها على المسرح أو استلهامها، بل إنني لم أجد لها مكانًا في واحاتي السابقة وها أنا ذا أحكيها باعتبارها مثالًا لدورة من الدورات التي تزخر بها الحياة.

يختلف الرواة حول عُمْر هنداوي، ولكنَّهم يتَّفقون على أنه كان كبير السن دائمًا بمعنى أنهم لا يذكرون متى كان شابًّا، وضرب لي أحدهم المثل بالمرحوم عبد الوارث عسر، الممثل الذي كان يلعب دائمًا دور الرجل الهَرِمِ — أو على الأقل منذ ظهور السينما في الثلاثينيات وعلى امتداد نصف قرن تقريبًا، وحدست أن هنداوي قد ولد في أواخر القرن التاسع عشر، وكان شعره الأشقر يخفي الشيب، ووجهه الأحمر يخفي غضونًا عميقة، وكان ضخم الجرم عظيم الهامة بطيء الحركة، وكان يتفاخر في شبابه بأنه سليل أسرة تركية تخلَّى مؤسسها عن لقبِه التركي بعد استقراره في رشيد وهو في طريق عودته من حج بيت الله الحرام، وبعد أن أنشأ تجارته الرابحة في العطور والتوابل الهندية؛ ومن ثم أطلق عليه لقب «هنداوي». ويتَّفق الرواة في ذلك كله، وإن كان من العسير التحقُّق من صدق بعض ما يروى، مثل قصة كراماته؛ إذ قال لي الشيخ عبد المحسن عرفة — شيخ مسجد أبي النظر (أبو مندور) الذي يقع على شاطئ النيل جنوبي رشيد ويَبعُد عدة كيلومترات عنها — إنه لن ينسى «بركات» هنداوي، و«الكرامة» التي أبداها حين كشف لأهل البلد عن بئر مُغلَقة مهجورة، فاهتدوا إليها وأعادوا استغلالها فكانت خيرًا وبركة على المصلِّين في المسجد، وقال لي حسن باشا (والد توفيق زميلي في المدرسة) وصاحب مقهى باشا الشهير إنَّ رشيد نجت من قنابل الحرب العالمية الثانية بسبب كرامات «هنداوي». وعلى أيِّ حال، فقد كان الجميع يتَّفقون على الكثير مما يسهل تصديقه، ولذلك فسوف أحاول التركيز على ما يبدو من الحقائق وإغفال ما جعله الخيال شبه أسطوري.

نشأ هنداوي في الفترة التي سبقت قيام الحرب العالَمية الأولى، وكان من النادر آنذاك أن يُغادر رشيد أحدًا طلبًا للعلم، ولكن الصبي كان طموحًا فغادَرها والتحق بمدرسة المعلمين العليا بعد تميزه في الدراسة بمعهد أزهري، وكان يدرس الرياضيات ويهواها فترك مهنة التعليم بعد تخرُّجه والتحق بعمل «فني» هو إمساك الدفاتر لشركة أجنبية في الإسكندرية، وسرعان ما أصبح مضرب الأمثال في دقة حساباته وبراعته في التخاطُب باللغات الأجنبية (ولا بد أن المقصود بها الفرنسية أو الإنجليزية أو اللغتان معًا) فازدهرت أحواله وبنى لنفسه قصرًا في ضاحية فكتوريا (ولا بدَّ أن «القصر» كان «فيلا» بلغة اليوم) وعندما سمع به طلعت حرب باشا عيَّنه مديرًا لفرع من فروع بنك مصر، لكنَّه ظلَّ على صلته القديمة بمسقط رأسه رشيد، فكان من أوائل من امتلكُوا سيارة حديثة يَنتقِل بها بين منزله القديم في رشيد وقصره في فكتوريا بالإسكندرية، وقيل لي إنهم كانوا يسمُّونه «البيك» دون أن يحصل على «البكوية»، وعندما أُنشئ بنك التسليف الزراعي بالإسكندرية، عُيِّنَ مديرًا له، فبدأ ارتقاؤه سُلَّم الشهرة.

والمؤكد أن ذلك كان في فترة ما بين الحربين، فالرواة يقرنون أحداث تلك الفترة بأحداث عالَمية وقعت آنذاك مثل بزوغ نجم «هتلر» والأزمات الأوروبية المصاحبة لذلك، ويتحدَّثون عن عبقرية هنداوي الفذة التي تجلَّت في ذاكرته الخارقة، فلم يكن يحتاج إلى كراسة وقلم، بل كان يذكر كم أقرض البنك عملاءه، تفصيلًا وتحديدًا، ويذكر الأسماء والتواريخ، فأحبَّه الناس، ووثقوا به، وكانوا يتطلعون إلى زيارته لرشيد حتى يعرضوا عليه شئونهم، فلم يكن يرد طالبًا أو محتاجًا، بل رُويت عنه روايات تدل على كرم عجيب وسماحة نفس لا يوحي بها مظهره؛ إذ كان كتومًا لا يحب الكلام، ولم يفصح لأحد في رشيد عن تفاصيل حياته العملية أو العائلية في الإسكندرية، ولكن أحدًا لم يهتمُّ بذلك، وكان الخيال يرسم في أذهان الناس الصور التي يُريدونها له، فبعضهم يُصوِّره في صورة مليونير مثل عبود باشا، وبعضهم يصوره في صورة «شيخ له كرامات»، وبعضهم يقول إنه من الأسرة الملَكية، وقال لي أحد الرواة ممَّن أثق في رجاحة عقلهم إن أحدًا لم يستطع التحقُّق من طبيعة عمل «هنداوي» وحياته في الإسكندرية، لكن الجميع كانوا يقرُّون بفضلِه على أهل البلدة؛ فمُعظمُهم مُزارعون أو يعملون بحرف متَّصلة بالزراعة، ويَندُر بينهم من لا يحتاج إلى بنك التسليف الزراعي الذي افتُتح له فرع في رشيد، بجوار مقر البوسطة (البريد) وأُنشئت بجواره «شونة» كبيرة لتشوين (تخزين) التقاوي (البذور) والأسمدة والمبيدات وما إلى ذلك بسبيل، وكانت «سُمعة» هنداوي باعتباره رجل الخير قد ثبتت في قلوب أهل البلدة قبل أن تثبت في عقولهم؛ ومن ثم كان الذهول الذي تلقَّى به الجميع نبأ القبض عليه وإيداعه السجن بتهمة الاختلاس.

ومثلما أحاط الغموض بحياة هنداوي في الإسكندرية، أحاط الغموض والدهشة وما يقرب من الاستنكار بتفاصيل الجريمة المنسوبة إليه، وكان النبأ قد أذيع في خضمِّ أنباء الحرب العالَمية، فلم يشغل الكثيرون أنفسهم به، خصوصًا حين اقتربت جيوش ألمانيا من الإسكندرية، وانتقل كثيرون من أهلها إلى الإقامة في رشيد تحسبًا للعواقب كما انتقلت إلى منزلنا أسرة خالي الدكتور محمد علي بدر الدين (من القاهرة) ووجد أهل البلد في مُشكلات ما يسمى ﺑ «الهجار» (وهو ما أشرت إليه في واحات العمر) ما يُلهيهم عن مشكلات أفراد مثل هنداوي أو غيره. وقال لي أحد الرواة إنه واثق أن تلك التُّهمة ظالمة، وأن هنداوي من المحال أن يمد يده إلى «المال الحرام» فهو رجل «يعرف ربنا»، والأرجح أن التهمة قد لفَّقها له أعداؤه، ومَن يدري — قال لي — لعلَّ عذاب السجن تكفير عما لا نعلم من سيئات، ومحنة من الله يبتلي بها عباده المؤمنين!

ولا أعرف كم من السنين قضاها هنداوي في السجن، لكنه عندما خرج كان قد أصبح شيخًا مهدمًا، فباع الفيلا وعاد إلى رشيد ليُقيم فيها بصفة دائمة، وكان يقضي أيامه بين المسجد والمقهى، شارد النظرات، لا يكاد يعرفه أحد ولا يكاد يعرف أحدًا، وعندما كنتُ أراه في مطلع الخمسينيات وأنا ذاهب إلى المدرسة أو خارج منها (فهي تُجاور مسجد النور المذكور) كنت أقف لأتطلع إلى الرجل الذي يُمثِّل أيام العز الغاربة، وكنت أحيانًا أطيل التأمُّل والكلمات تتردد في أعماقي حتى نظمت بعض الأبيات التي قد تكون السبب في الإيحاء لي بفكرة الدائرة، وقد تكون السبب في تذكر هذه الحادثة دون سواها بسبب الخلافات التي نشبت بشأنها وهي:

قل كيف دار به الزمان وأقفرت أيامُهْ
وتكاثرت سحب الهموم وبُدِّدَتْ أحلامُهْ
فقد الكلام فلا تسلني كيف ضاع كلامُهْ
أتراه يبكي مجده المسلوب أم يبكي عليه غمامُهْ؟
أتراه ينظر في الغد المجهول سجنًا لا يحول ظلامُهْ؟

وما زلت أذكر كيف كنتُ سعيدًا بهذه الأبيات؛ فقد كنت صبيًّا أروض الشعر وأفرح بنظم الكلام، فعرضت الأبيات على زميلي خميس سعد خضر، فقال لي إنَّ «ينظر» ضعيفة والأفضل أن تقول «يُبصر» فقلت له إنني أقصد بالنظر الانتظار، فقال إنَّ هذا لا يجوز وسمِعَنَا زميلُنا محمود نجيب عبد الحليم فأيَّدني بشواهد من القرآن (إذ كان يحفظه) لكنه عندما قرأ الآية قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (الأعراف: ١٤) رد خميس قائلًا: إن معناها أَمهِلني أو أخِّر عذابي، فقلت له إنَّ قراد بن أجدع يقول:

فإن يكُ ظهر هذا اليوم ولَّى
فإن غدًا لناظره قريبُ
وهو البيت المشهور في القصة التي قصها عليَّ والدي — رحمه الله — واستقاها من كتاب مجمع الأمثال للميداني (وقد قُدِّر لي فيما بعد أن أنشر مختارات منه في مكتبة الأسرة)، ولما اشتدَّ الخلاف احتكمنا إلى مدرس اللغة العربية الأستاذ علي الخياط (الذي غيَّر اسمه إلى الرشيدي) فضحك وقال إنَّ بالأبيات عيوبًا أخطر، وهي عيوبٌ عروضية؛ فالبيتان الأخيران يتكوَّن كلٌّ منهما من خمس تفعيلات وذلك لا يجوز، كما قال إنني أستخدم ألوانًا مختلفة من الزحاف والعلل (القطع؛ أي حذف آخر الوتد المجموع مع إسكان ما قبله في ضرب البيتين الأولين، مع الإضمار؛ أي تسكين الثاني المتحرك، ثم التحوُّل إلى ضرب مجزوء، والضرب هو آخر تفعيلة في البيت، ومقطوع في الأبيات الثلاثة التالية) وهذا في رأيه لا يجوز، وقلت له إنَّ الإضمار نوع من أنواع الزحاف ولا ضرورة للالتزام به في سائر الأبيات وأنا ألتزم بعلَّة القطع في الأبيات الخمسة جميعًا، لكنه نهرني فسكتُّ رحمه الله رحمة واسعة، فقد سمعتُ أنه توفي، ولكن تلك المناقشة ثبَّتت الأبيات في ذاكرتي، فسجَّلتها في بعض ما سجلت من نَظمِ الصِّبا، وكنت فرحًا بتصوير القبر في صورة السجن، وبصورة «يبكي عليه غمامُه» مع ما يبدو لي الآن من شيوع هذه الصور والمعاني.

قلت إنني حاولت أن أجد مكانًا لهنداوي في إحدى مسرحياتي لكنني فشلت، وما زالت صورته التي ارتسمت في ذهني قائمة دليلًا على دورة الزمان العجيبة، وهي تزداد رسوخًا بسبب ما أحاط بحادثة السجن من ألغاز، وبما أحاط بالرجل نفسه من أساطير، ولكن العودة إلى البلدة بعد الازدهار في المدينة في عصر التحولات الحضارية الحديثة ما زالت تمثل لي دائرة من نوع خاص؛ فهي دائرة العودة إلى الأرض — إلى «الأم الرءوم» كما يُسمُّونها — ولقد اختفى فيها سِرُّه وانطوت فيها حقبةٌ كاملة من تاريخ مصر، فلا شك أننا لو نبشنا حياة هنداوي في الإسكندرية (وفي فيكتوريا) لخرجنا بأسرار ممتعة عن الشركات الأجنبية والاحتلال الأجنبي ونشأة الرأسمالية التجارية المصرية، ولاطَّلعنا على طرائق عمل بنك التسليف الزراعي في أول عهده، ولعرفنا وجوه إنفاق ما اختلسه هنداوي من مال إن صحَّ أنه اختلس مالًا، فلقد جعلني حديث الحاج «محمد شبابو» — رحمه الله — عندما سألته عن ذلك أعيد النظر فيما رواه الآخرون؛ إذ قال لي ما موجزه إن هنداوي مات معدمًا أو شبه معدم، ولم يكن يملك حين دخل السجن سوى الفيلا التي بناها «طوبة طوبة» و«من عرق جبينه» في مستهلِّ حياته العمَلية، وذكرت أيضًا ما قيل لي عن ذاكرته التي كانت تَختزن الأرقام والأسماء، ورأيت من العجيب في أعمال البنوك الاعتماد على الذاكرة، فهي خئون، وهمس لي هامس أفلا يجوز أن الخطأ الحسابي الذي «كيَّفه» المحقِّق على أنه اختلاس يرجع في الحقيقة إلى زلل في الذاكرة؟ ولو صحَّ أنه اختلَس المال حقًّا فأين ترى ذهب ذلك المال؟ وفي أي الوجوه أنفقه؟

هذا الغموض الذي يُحيط بالقضية يبتعد بتصنيف القصة عن نمط الحادثة ويدخلها في عداد «الأنماط القدرية»، فالرجل كافح واغتنى وبرَّ أبناء بلده، وشاع عنه من أعمال الخير ما جعله يكتسب أبعادًا أسطورية؛ فالعودة هي آخر نقطة في مسار الدائرة التي ندور فيها على هذه الأرض، ولكن الدائرة — تعريفًا — لا تتوقَّف، فهو ما يزال يعيش في وجداني ووجدان بعض الأحياء، بل إن الدائرة قد تتجاوز التربة التي نعود إليها ويختلط رفاتنا بها، وقد تكتسب في عين الشاعر حركة ووجودًا من نوع جديد، يؤكد صورة الدوران والدائرة الدائمة، على نحو ما صوَّره الشاعر وردزورث في إحدى القصائد التي يَرثي بها فتاة خيالية اسمها «لوسي»، وهي القصيدة التي يُسمِّيها النقاد «الرثاء الرفيع» (Sublime Epitaph)، وقد ترجمتها إلى العربية نظمًا بمزيج من بحري البسيط والكامل — بالتناوب — بزحافاتهما وعِلَلهما، وأهم الزحافات الخبن والوقص، وأهم العلل الحذف، وها هو النص الإنجليزي وترجمته العربية:
A slumber did my spirit seal,
I had no human fears;
She seemed a thing that could not feel
The touch of earthly years.
No motion has she now, no force;
She neither hears nor sees,
Rolled round in earth’s diurnal course,
With rocks and stones and trees.
ران النعاس على روحي وغيَّبها،
فمَحا مخاوفَ البشرِ.
كانت بعيني فتاة ليس تلمسُها؛
يد السنين والقدرِ.
فالآن قد سكنت، والقوة اندثَرت،
ومضى زمان السمع والبصرِ.
باتت تدور ببطن الأرض دورتها،
في صحبة الصخر والأحجار والشجر.

٤

والدائرة تمثل نموذجًا للحركة في الأعمال الأدبية والفنية وتياراتها، مثلما تمثل نموذجًا يصعب تجاهله في حياة الإنسان، وهو نموذج لا للحلقة الهندسية المُحكَمة فقط (circle) بل لأيِّ دورة (cycle أو circuit) ولو تفاوتت أبعاد (أي أطوال) أقطارها، وقديمًا تعلَّمنا في الهندسة ما يُسمى بالقطع المخروطي (conic section) والمخروط هو الشكل الهرمي الذي استدارت جوانبه فأصبحت له قمة مدببة وقاعدة مستديرة، فإذا أخذنا قطاعًا أي قَطْعًا موازيًا للقاعدة أصبحت لدينا دائرة محكمة، فإذا كان القطع مائلًا أي غير موازٍ للقاعدة أصبح بيضيًّا (بيضاويًّا) وهو ما نسميه (ellipse) فإذا كان القطع يقوم على القاعدة ويَميل عنها — يمنةً أو يسرةً أصبح قطعًا ناقصًا قائمًا أو مائلًا (أي parabola أو hyperbola) والأصل في ذلك كله هو التقوُّس أو شكل القوس، وقد اهتدى علماء الفلك منذ كبلر (Kepler) في مطلع القرن السابع عشر، بل منذ كوبرنيق (Copernicus) ابن القرن السادس عشر، إلى الحركة الدائرية للكواكب، وانتهَوا اليوم إلى أنها تدور في دوائر ناقصة (elliptical) يتفاوَت فيها بُعد المسار عن المركز (focus) فتُصبح منبعجة أي أقرب إلى الشكل البيضي، كما أننا قد نغفل عن هذا الشكل في تفسيرنا لكثير من حقائق الحياة فإذا اكتشفناه اهتدينا وفهمنا، وهذا ما حدث عندما اكتشف العالِمان البريطانيان الشكل الحلزوني أي الشكل الذي يتكون من دوائر متصلة صاعدة (spiral) الذي تتَّخذه حروف لغة الحياة داخل الخلية البشرية، ففازا بجائزة نوبل عام ١٩٦٦م، وقد وجدت من تأمُّلي للحياة وللأدب الذي يُصوِّر الحياة أن شكل الحلزون هو أقرب الأشكال التي تعتمد على الدوران وتستطيع تفسير ما لا نفهمه من أحداث، وربما تأثَّرت في ذلك بنظرية هيجل — الفيلسوف الألماني — عن القضية والنقيض والتركيب (Thesis, antithesis and synthesis)، واستفدتُ بهذه النظرية في تحليل قصيدة طويلة للشاعر وردزورث لم يَنشرها في حياته بل أدرج أبياتها في قصيدة المقدمة The Prelude، ولقد قمتُ بتحقيق مخطوطات هذه القصيدة (كما سبق لي أن ذكرت في الأجزاء السابقة من واحات العمر) ونَشرِها عام ١٩٨١م وأسميتها «المقدمة الصغيرة» The Little Prelude وجعلت للكتاب عنوانًا يدلُّ على ما جاء في المقدمة وهو «جدلية الذاكرة» (The Dialectic of Memory) ويتلخَّص ما ذهبت إليه في أن بناء الصور في القصيدة (التي تقع في نحو تسعمائة بيت) يعتمد على الحركة الدائبة بين شيء ما ونقيضه، بحيث ينتج من هذه الحركة أو هذا «الجدل» شيء جديد يمكن اعتباره مُركبًا منهما (التركيب) ولا يلبث هذا المُركب أن يُصبح فكرة جديدة أو صورة جديدة تمثل ما يسميه هيجل بالقضية، فإذا تبلور هذا الجديد برز له نقيض، ثم اشتبك معه فنشأ منهما تركيب جديد، لا يلبث أن يصبح قضية بدوره تستدعي نقيضًا جديدًا وتركيبًا جديدًا، وهكذا دواليك. أي إنَّ الحركة الدائبة هنا حركة دائرية قد تكون صاعدة أو هابطة، ولكن الدوران هو عنصرها الأول.
وقد وجدت فيما قرأت من الشعر العربي نماذج للبناء الجدلي، أي البناء القائم على الحركة الدائبة بين الشيء ونقيضه والتركيب منهما، وقد درجنا على إطلاق صفة «البناء الدرامي» على هذا النوع من البناء؛ لأنَّ الدراما أوضح الفنون الجدلية، وقد نُبسِّط الأمور فنطلق على الجدل تعبير «الصراع» الذي قد يُوحي بالقتال، ترجمةً لأحد معاني كلمة conflict — فمن معانيها الأخرى التنازع أو التضارب (كما في قولك conflicting reports أي أنباء مُتضاربة أو conflicting opinions أي آراء متناقضة) والمعنى ليس عسيرًا على الإدراك — مهما يكن تفسيرنا له، فنحن نواجه في كل عمل درامي مجموعة من القوى التي ما تفتأ تشتبك وتتنازع السيطرة فإذا انتهى التنازع (أو الصراع) بالموت، على نحو ما نرى في الأعمال الكلاسيكية، قُلنا إنها مأساة (أي تراجيديا)، وإذا انتهى بالتصالُح والتوافُق والتناغُم قلنا إنها ملهاة (أي كوميديا) والمصطلحان العربيان من وضع الدكتور محمد مندور، ولقد شاعا حتى اكتسبا دلالات المصطلحين الأجنبيَين، وإن كان البعض لا يزال يستخدم الكلمتَين الأجنبيتين المعربتين، والبعض يطلق على المأساة صفة «الفاجعة»، ويعاف البعض مصطلح «الملهاة» لما توحي به من اللهو، ولكنني أقصد من إيراد هذه وتلك أن أشير إلى أن التنازع لا ينجح في أيٍّ منهما إلا إذا كانت القوى التي تُسيِّر الأحداث مُتكافئة إلى الحد الذي يسمح بنشوء جدلية تؤكد صورة الدورة، ولذلك نجد أن الصراع الكلاسيكي تسير خطوطُه الصاعدة في دوائرَ صغيرةٍ أو حلقات يمر مركزها بالدائرة الكبيرة (epicycles) فإذا وصَل المسار إلى الذروة فقد يَلتقي مركز إحدى هذه الحلقات بمركز الدائرة الثابتة فنرى ما نُسمِّيه النهاية، وقد تكون هذه الحلقات ذات مسارات متداخلة أو متقاطعة، وقد تكون مُنفصِلة على نحو ما نشهد في بعض الأعمال الدرامية التي تتضمَّن عدة أحداث تبدو وكأنما تسير في حلقات منفصلة، في حين أن أقواس محيطها (epicycloids) مُتماسَّة مما يتيح الاشتباك آخر الأمر.
ويُفسر أنصار مدرسة البنيوية في النقد الأدبي (structuralism) وجود هذه الدوائر على أساس التضاد الثنائي أي (binary opposition) بمعنى وجود قوتين لا أكثر تَنْتُجُ الحركة من تضادهما، ولكنني أفضل صورة الدائرة الجدلية فهي التي تستطيع إيضاح التغير في معنى القوة الدافعة أو الفاعلة من دائرة إلى دائرة، ولو كانت القوى ثابتة كما يقول البنيويون لما تقدم الحدث الدرامي قَيْد أُنملة، حتى في الكوميديا أو كوميديا الأقنعة التي لا تتغيَّر فيها القوى إلا تغيرًا طفيفًا، والمثال الحاضر على ما أقول مسرحية ماكبث لشكسبير؛ فالشاعر العظيم يقدم لنا أول دائرة صغيرة في شخص ماكبث وبانكو، فهما قائدان ظافران، يعودان من معركة انتصَرا فيها على بعض المتمرِّدين على سلطان ملك اسكتلندا (دَنْكان الطيب) ويجسد لنا شيكسبير القوتين اللتين تبدآن الحدث في هذه الدائرة في صورة العرافات أو الساحرات الثلاث اللائي يُمثِّلن ما يعتمل في منطقة ما من مناطق اللاوعي عند ماكبث، وهذا التجسيد حيلة مسرحية فنية قديمة ومألوفة، وهكذا فهو يجعل أولى قضايا الجدلية الدرامية قضية الولاء للملك، ويجعل نقيضها نازع الطموح وأحلام تولِّي العرش، وتتقاطع مع هذه الدائرة دائرة صُغرى هي دائرة النظام والخلل، أي منطق الصحة ومنطق المرض، وعندما تتحقَّق أولى نبوءات العرافات بتولي ماكبث إمارة مقاطعة «كاودور» ينشأ التركيب في الجدلية الأولى؛ ألا وهو الدافع الواضح على تولي المُلك، وهو تركيب لأنه يتضمَّن في أعطافه نوازع تأنيب الضمير والاسترابة بعواقب الطموح الجائح، وتبدأ دائرة أخرى تحيي دائرة النظام والخلل عندما يلتقي التركيب الجديد بما يؤدي إلى غلبة دافع الطموح، وهو الذي يجعله شيكسبير مُمثَّلًا في زوجة ماكبث، إذ يبدأ مسار الخلل، ويُقْدِم ماكبث على الخيانة وقتل الملك الذي حلَّ ضيفًا عليه، فتَكتمل الدائرة الثانية، ولكنها تُصبح نفسها تركيبًا جديدًا، فتولي ماكبث عرش اسكتلندا يُولِّد نقيضًا هو يقظة ضميره وإحساسه ببشاعة الجرم، ومن التنازع بين هاتين القوتين — قوة الدافع وقوة النفس الخاطئة — ينشأ تركيب جديد يدفع بالملك الجديد إلى ارتكاب المزيد من القتل، في حين يظلُّ إحساسه بالندم والعار قائمًا، فيتشكَّل في صورة قوة جديدة هي الخوف! ولا أريد أن أفيض في تحليل المسرحية؛ فهي ليست موضوعي هنا، وأعتقد أن ما ذكرته يكفي لتبيان جمال هذا التناجز بين القوى وتحولاتها، فالقوى تؤدِّي إلى أفعال، والأفعال تُغيِّر من طبيعة القوى حتى لكأنَّها قوى جديدة تدخل الساحة، وهكذا تفضي دائرة إلى دائرة، في مسارات مُتداخِلة، بعضها صاعد وبعضها هابط، إلى أن نصل إلى ما نسميه بالنهاية من باب المجاز، فما هو إلا نهاية حلقة من الحلقات. ولهذا السبب يَعتبر النقاد مسرحية ماكبث من أنجح مسرحيات شيكسبير إن لم تكن أنجحها على الإطلاق، وأعني بالسبب أنَّ جدلية الحدث المسرحي تنجم عن التغيُّرات والتحولات (mutations) في طبيعة القوى الدافعة وأشكال ما تؤدِّي إليه من أفعال، وذلك — بطبيعة الحال — إلى جانب الشعر الرائع الذي كتَبَه ذلك العبقري على ألسنة شخوص المسرحية.
فإذا طبَّقْنا نظرية البناء الدائري (cyclic structure) على بعض الأعمال الأدبية وجدنا أنه يعني — في معظم الأحوال — بناءً دراميًّا قد يتكوَّن من دائرة واحدة وقد يتكوَّن من دوائر يفضي بعضها إلى بعض، وقد تتداخل وقد تتقاطع، حتى في الأنواع الأدبية التي نعتبرها — وفق التصنيف التقليدي — أنواعًا غير درامية مثل الشعر الغنائي، أي الشعر الذي يتحدث فيه الشاعر بصوته المميز الخاص به مباشرةً إلينا أي على لسانه هو، لا على لسان شخصية أخرى، أي لا بلسان قناع (persona) أو بألسنة عدة شخصيات، وهو ما يحدث في الدراما. وأبرز نماذجه التي حللتها في العربية بعض أشعار صلاح عبد الصبور، ومعظم أشعار فاروق شوشة، فكلاهما من أساتذة البناء الدائري، وهما يتوسَّلان — أحيانًا — بأقنعة تخفي بعض المسارات الدائرية أو تظهرها، وقد حللت قصيدة عبد الصبور «أغنية إلى القاهرة» في كتابي الأدب وفنونه (بالعربية) وقصائد كثيرة لشوشة في الدواوين الثلاثة التي ترجمتها له [لغة من دم العاشقين، وقت لاقتناص الوقت، وجه أبنوسي] (بالإنجليزية) وقد وجدتُ أن كلًّا منهما يستعين بالأقنعة في هذا البناء، وإن كانت بعض هذه الأقنعة نفسها تتخفى على القارئ. والإحساس بالدورة — في رأيي — من الأحاسيس التي يهتدي إليها الشاعر في غمار الحَدسِ الشعري (poetic intuition) مهما يكن من ثبات معاني الصور الأساسية في ذهنه، وقد يلجأ بعض كبار الشعراء إلى تأكيد هذا الإحساس باستخدام قرار (refrain) أي سطر أو سطرَين يتكرَّران بين كل دورة والدورة التي تليها، مثلما يفعل إليوت (Eliot) في «بروفروك» (Prufrock) وباوند (Pound) في بعض أناشيده (Cantos)، وقد يلجأ إلى تكرار صورة أو كلمة تُؤدِّي دور الواسطة التي تربط بين الحلقات أو تصل الأقواس المتقاطعة بعضها بالبعض، مثلما يفعل كولريدج (Coleridge) في كريستابل (Christabel) ووردزورث في «خاطرات الخلود» (The Immortality Ode)، وقد يَعتمِد بعضهم على الإيقاع الموحي بالدورات مثلما يفعل ديلان توماس (Dylan Thomas) في شعره القصصي، وأكاد أجزم بأن البناء الدرامي يبلغ أعلى ذروة له حين تتداخَل هذه الدورات فلا يكاد القارئ أن يشعر بها، إذ يجد أن خيوط الفكرة أو الصورة (أي الثيمات) قد تغيرت دون أن يلحظ، وأنَّ الشاعر يسير به في دورات ترجع به إلى نقطة ما من نقط البداية، وتكاد أن تعده ببداية جديدة، حتى في الشعر الغنائي كما قلت، ولا أدلَّ على ذلك من قصيدة تنيسون (Tennyson) الطويلة للذكرى (In Memoriam)؛ فهي تتكوَّن — صوريًّا — من قصائد غنائية منفصلة في رثاء صديقه الصدوق آرثر هالام، ولكنها تتكون نسجًا وفنًّا ودلالةً من حلقات تأمل شعرية متداخلة، لا تستطيع أن ترصد لها بداية ولا نهاية.

ونحن نتعلم ذلك من الأدب مثلَما نتعلَّمه من الحياة، وما القصص التي رويتها عن أصدقاء صاحبتهم سنينًا وانفصلَت عنهم سنينًا إلا نماذج لذلك التداخل بين الدوائر والاستمرار فيها، فدائرة إبراهيم تلتقِي مع دائرة زوجته، والدائرتان بقُواهما المتصارعة (أو المتنازعة) يُفضيان إلى دائرة ثالثة هي دائرة خليل، والقوة الكامِنة فيها والتي تعتبر «التركيب» الناجم عن قوى الدائرتين السابقتَين، تلتقي بقوة التديُّن في صورته المعاصِرة، وهو الذي صرف خليل عن مواصلة تعليمه، ولكن إحدى القوى التي انتهت إليه من إحدى الدوائر السابقة تلقيه على الزوجة التي يصفها صديقي بأوصاف تتناقض كل التناقض مع أوصاف والدته حين أحبها والده وتزوَّجها، فإذا بدائرة جديدة تنشأ ويعلم الله كيف ستَنتهي، ومهما تكن صورة «انتهائها» فهي لا بد مفضية إلى دوائر أخرى، وما يقال عن هذه القصة يمكن أن يقال عن أي قصة، ولكننا أحيانًا ما نَفتقِر إلى الحقائق التي تُنير لنا السبيل أو توضح لنا مسار تلك الدوائر، وأحيانًا ما يتوقَّف الناظر عند مشهد يشده ويستولي على ذهنه فيصرف بصره عما يشتبك معه ويَرسم موقعه ومساره على دائرة من الدوائر! وكثيرًا ما كنت أقول في نفسي ليتني كنت كاتبًا روائيًّا حتى أطلق لخيالي العنان فأملأ الفجوات التي تحُول دون إدراك تفاصيل دورة القدر الكبرى التي انتهت بهنداوي إلى ذلك الكرسي في المقهى المواجه للمسجد! ليتَني كنتُ قادرًا على متابعة حياته منذ مولده في القرن التاسع عشر — فنحن لا نَعرف إلا أن أسرته قد تفرقت في صباه واستقر أفرادها في الإسكندرية وغيرها من المدن، فما الذي كان يشدُّه إلى رشيد ويجعله يحتفظ بمسكن الأسرة القديم بل ويكثر من زيارته تاركًا القصر الذي يَعيش فيه في فكتوريا؟ ترى ما الذي كان يشده إلى حي بحري في رشيد ويدفعه إلى هذا الانتماء النادر؟ ترى هل تزوَّج وهل أنجب؟ وهل أنفق كل ما يكسبه في وجوه الخير حتى أصبح معدمًا أو شبه معدم — كما قال لي الحاج محمد شبابو؟ لا بد أن حياة هنداوي حافلة بالدوائر الناقصة وما أكبر الإغراء الذي تُمثِّله للروائي! ولقد سبق لي أن قلت إنني لم أجد مكانًا له في أي من مسرحياتي، إذ ما زال هنداوي صورةً تكتسي من جمال الشعر أكثر مما تكتسي من صراع الدراما، ويبدو أن يد القدر قد تدخلت هنا بأكثر مما هو «مسموح به» في الدراما.

٥

أحيانًا ما تبدو دوائر القدر محكمة دقيقة، وأحيانًا ما تبدو وكأنما تسير بلا منطق ولا غاية، وكان الرومان يصورون القدر في صورة عجلة (تُسمى The Wheel of Fortune) تديرها فتاة معصوبة العينين، وهي عجَلة دائمة الدوران لا يعلو فيها أحد حتى يهبط؛ وذلك مُستقًى — بطبيعة الحال — من حياة الإنسان الفرد وهو ما كان الإمام الشافعي يَعنيه بالبيت المشهور: (ما طار طير وارتفع. إلا كما طار وقَع)، ويُطبِّقه المفكرون على ما يتجاوز الأفراد أو حال الإنسان الفرد، أي ما قد ينطبق على الجماعة أو على نظام الحكم، فالدورة تأتي بدولة، والإبدال واضح بين الكلمتين، أي إبدال الراء لامًا، وكذلك بين دار وثار، وكلمة (revolution) تَعني الدورة مثلما تعني الثورة، والإبدال واضح بين دال وزال، فالدولة تدول أي تزول، وبين دال وحال، فما يدور يحول، ومعنى هذا كله أن الدورة تعني التغيير لا العودة إلى أيِّ نقطة من نقط البداية — كما سبق أن ذكرت — وأن ذلك عميق الجذور في الفكر الإنساني، ويُورد ابن هشام في سيرته حادثة التشابك بالأيدي مع لبيد الشاعر المخضرم المعمَّر الذي أنشد بيته المشهور:
ألا كل شيء ما خلا الله باطلُ
وكلُّ نعيم لا محالة زائلُ
فوافقه أحد الحاضرين ممَّن اعتنقُوا الإسلام على ما في الشطر الأول، لكنه اعترض على ما جاء في الشطر الثاني قائلًا: «إلا نعيم الله فإنه لا يزول أبدًا» وهي حادثة طريفة كان من نتيجتها أن «اخضرَّت عينه»؛ أي إنه تلقَّى لكمة على العين أحدثت كدمة “black eye” وهي تذكرنا بأن فكرة الدوام كانت جديدة إلى حدٍّ ما على أذهان بعض العرب حينذاك، مثلما كانت غريبة على المسيحيين الأوائل؛ إذ يروي الرواة أن الإمبراطور قسطنطين، أول إمبراطور روماني يَعتنق المسيحية ويجعلها الدين الرسمي للإمبراطورية، شعر بالندم بعد أن قتَل بعض أفراد أسرته فلجأ إلى كبير الكهنة في قصره يسأله ما العمل، فاقترح عليه الكاهن أن يغسل ذنوبه بماء العماد ويرتدي أثوابًا بيضاء؛ فهي أثواب التوبة الأبدية، ويقول الرواة: إنَّ فكرة الأبدية أذهلت الإمبراطور فصمت لحظات ثم عاد يسألُه عن معناها، فقال الكاهن: إنَّ معناها عسير على ذهن الإنسان الفاني والأجدر به أن يقبلها ولو دون فهم، وأضاف قائلًا: إنَّ من معاني الكلمة «ألا تدور عليك الدوائر» وقد توقفت عند التعبير لأنه يشبه الاستعمال العربي، والصور العربية للدائرة (يتربص به الدوائر — دارت عليه الدائرة — بل والتعبير العامي، دارت الأيام عليك).

وقد مررت في حياتي بحالاتٍ عَجَز الإنسان فيها عن الخروج من الدائرة، وكان ذلك أحيانًا بلا منطق مفهوم — أي بمنطق لا يستطيع الإنسان أن يخضعه لقواعد التفكير المكتسبة — وأقربها ما حدث لرجل أعرفه وسأُطلق عليه هنا صفة الصديق وحسب، وكان قد مرَّ في فترة اليفوع والشباب الأول بما يُشبه ما مرَّ به صاحبي الذي أخفيت اسمه (وأنا أتحدَّث عمَّن تَنبَّه لوجود القناع فانتزعه) فلقد كافح هذا «الصديق» أيضًا حتى حصل على الثانوية العامة مع طلبة المنازل، وانتسَب إلى كلية نظرية، ولم يرضَ أن يَقضي حياته مغمورًا في وظيفة كتابية بمصلحة حكومية أو شبه حكومية فسافر إلى بلد عربي شقيق لكنَّه لم يكن موظفًا بل شارك أحد أبنائها في تجارة لم تلبث أن ازدهرت، وكنت لا أراه إلا في العطلات في أواخر السبعينيات، وما أكثر ما كنت أفرح وأبتهج وهو يُحدثني بجذل طفولي محبَّب عن المشروعات التي يقومان بها، وكان قد أخفى تمامًا مبادئه الاشتراكية القديمة عن الجميع (مثل صاحبنا)، وأصبح يجدُ لذة غامرة في السفر مع شريكه العربي المخلص في طائرته الخاصة إلى بعض أملاك هذا الشريك في أوروبا، وقال لي ذات يوم إنه يدعُوني للسفر معهما؛ فضحكت وقلت له: إنَّ السفر بهذه الطريقة يحرم الإنسان لذة الإحساس بالسفر، فإجراءات الجوازات والجمارك والخروج من المطار مع المسافرين طقوس تُشعر الإنسان بالانتقال إلى بلد آخر، فدهش وقال «إنت بقيت غاوي فقر؟» فضحكت ولم أجد ردًّا.

وقرأتُ ذات يوم في مُنتصَف الثمانينيات نعيَ الشريك العربي — شريك صديقي — في الصحف، فحدست أن ملكية الشركة سوف تئول إليه، لكنه لم تمضِ شهور حتى وجدته يتصل بي تليفونيًّا، وكان رقم تليفون منزلنا قد تغيَّر — الأمر الذي منعه من الاتصال قبل ذلك — ويقول: إنه يريدني لأمر هام. وعندما قابلتُه قال إنه فقد كل شيء بموت شريكه؛ فالشركة كانت باسم الشريك، على نحوٍ ما معمول به في ذلك البلد الشقيق، وأنه لم يَعُد يملك إلا الحساب الجاري في البنك، وهو لا يَكفي للشروع في عملٍ تجاري على نفس المستوى السابق، لكنه لن يستسلم، بل سوف يكافح من جديد للوقوف على قدمَيه مرة ثانية، وسألته ماذا يَنتوي أن يفعل، فقال إنه سوف يَقترِض من أخوَيه، فهما كريمان ولن يَبخلا عليه بشيء، وافترقنا، وانقطعت أخباره فترة، وكنت أعرف أن والده كان قد ترك للأسرة دكان بقالة في حيٍّ شعبي في أعماق الجيزة، وكنتُ أزوره فيه أيام أحلام الاشتراكية، وقبل أن تُحلِّق الطيور الجارحة للرأسمالية العربية، ففكرت في زيارة الدكان، للسؤال عنه، واسترواح أنسام الماضي في ذلك الحي الذي كان مرتع صبانا أنا وسمير سرحان، لكنني كنت أؤجل التنفيذ يومًا بعد يوم، إلى أن ساقتني المصادفة إلى شخص يعرفه خير المعرفة، وهو المحامي سمير جمعة — صديق سمير سرحان — وكنا نُعزيه في وفاة زوجته التي سقطت مِن الشرفة، فسألته عنه، وكنا في منزله في مدينة نصر، فقال لي إنه قد حُكِمَ عليه بالسجن ظُلمًا في قضية مخدِّرات، وقلت له إن صديقي لم يقرب المخدرات ناهيك عن الإتجار فيها، فقال لي المحامي إنه كان مؤمنًا ببراءته وكان ينصحه بأن يوكله للدفاع عنه، ولكن صديقي رفض بعناد وقال إن المحكمة لا بد أن تكتشف أن التهمة ملفَّقة وأن البراءة مضمونة، وكان النتيجة أن محاميًا آخر — من ملاعين المهنة — نجح في إلصاق التهمة به مقابل تبرئة موكله. وشرح لي سمير جمعة أن التُّهمة تَنحصِر في إخفاء حقائق وفي التواطؤ ولذلك فعقوبتها هينة.

كان الغموض الذي يُحيط بمصير صاحبنا دافعًا كافيًا لي على زيارة دكان الأسرة؛ أي متجر البقالة القديم، فزرته واستمعت إلى رواية تفصيلية عن الظروف المريرة التي أدَّت إلى القبض عليه وسجنه، من أخيه الأكبر إسماعيل، وحزنت حزنًا شديدًا، وظلَّت صورة الشاب المُكافح الذي كنت أعرفه تلحُّ على ذهني، ثم شغَلني مرَضي وسفري للعلاج، لكنني لم أتخلَّ عن مشروع زيارة الدكان من جديد على أمل أن ألقاه، وأخيرًا وُفِّقْتُ. وكان ذلك في عام ١٩٩٦م وأنا في طريق العودة ذات مساءٍ من أكاديمية الفنون.

لم أصدق عينيَّ عندما رأيته، فلقد بدا لي شيخًا مُهدَّمًا مطحونًا، تكسو وجهَه الغضون ويتناثَر الشيب في لحيته غير الحليقة ويرتدي حلة قديمة فضفاضة تشي بالهزال الذي أصابه، وكان يذكرني — للوهلة الأولى — بهنداوي الذي لا تبرح صورته ذاكرتي، لكنه يختلف في أنه كان قادرًا على الكلام ولا يزال مُتماسكًا رافع الرأس، وكان ترحيبُه بي يكتسي مرارة عميقة أحسست أنها مرارة من خانَته الحياة أو خانته آماله، وشعرت بأن المسافة الزمنية التي تفصل بين هنداوي وبين صديقي لم تمنع من بروز أوجه شبه كثيرة — أهمها دائرة القدر — مع اختلاف مهم سأحكيه بإيجاز.

عندما خرج صديقي من السجن كان — حسبما يقول — ما زال على إيمانه العميق بالكفاح وضرورة مُواصَلة الحياة، فعقد العزم على إحياء مشروعه القديم الذي كان قد أفلس، ولم يجد أملًا له سوى ابنه الوحيد، الذي كان يعيش مع جدته بعد تخلِّي زوجته عنه بالطلاق وزواجها من رجل آخر، ووضع همه في تلقينه أصول التجارة وغرس حب المخاطرة فيه، ولم تمضِ شهور على خروجه من السجن (وكان قد خرج في عام ١٩٩٣م، وأنا بعد في المستشفى) حتى أحسَّ بأن الغلام أصبح قادرًا على العمل، فوكل إليه قيادة الشاحنة، وعاد يتردَّد على موقع مصنعه القديم في طريق الهرم، ويتَّصل بزبائنه القدامى، فلاح الأمل من جديد في نهضته من عثرته، فأعاد تشغيل المصنع، وصرَّف بعض المخزون القديم من الطوب الطفلي، وانطلق يُسدِّد بعض ديونه تمهيدًا لإلغاء «الإفلاس»، فأحسَّ بأنه بدأ يعود إلى الحياة من جديد، لكنه لم يكدْ ينقضي عام واحد حتى تُوفي ابنه فجأةً بمرضٍ مجهول. وكانت تلك هي الضربة القاضية. فلقد دفن مع ابنه كل أمل له في مواصلة الحياة، وعاد يقنع بموقعه في الدكان، لا يأكل إلا لمامًا ولا يكاد يتحدث مع أحد، وكان يعجب من أنني كنت لا أزال أذكره، وشغلتني الأيام بعد ذلك عنه، لكنَّني عندما زرت الدكان في عام ٢٠٠٠م علمت أنه قد تُوفي وأن أخاه إسماعيل باع الدكان لمالك آخر.

إننا نقف عاجزين أمام أمثال هذه الأحداث، فكل ما يتجاوز الإرادة البشرية لا مكان له في دنيا التحليل العقلي أو الفني؛ ومن ثَمَّ فلا مكان له في الآداب والفنون، أو قل إن ذلك ما تعلمناه، على نحو ما سوف أشرح، فنحن نتأسَّى ونقول لا حول ولا قوة إلا بالله، ثُمَّ نتعمد نسيان الفاجعة أو الحادثة، وقد يجد الشاعر مكانًا لها في شِعره، مثل وردزورث الذي كان يصور وفاة الأطفال في صور تربط الموت بالعودة إلى الله، أو إلى الطبيعة التي تَنبض بروح الله، وقد يجد الروائي مكانًا لها في نثره، مثل توماس هاردي وغيره ممن أفسحوا للقدر مكانًا في أعمالهم الأدبية، ولكنَّ الدراما الحديثة التي عُلِّمناها هي فن الفعل الإرادي، ولا مكان فيها لدوافع أخرى سوى دوافع البشر؛ أي لا مكان فيها لدوائر القدر، ومع ذلك فإنني لا أملك إلا أن ألمحَ في هذه الدوائر عناصر درامية من نوع أكمل وأشمل، أو قل من نوع آخر يَختلف عما تعلَّمناه؛ لأنَّ تراث الدراما الحديثة يقوم على مفاهيم عصر النهضة الأوروبية التي تضع الإنسان في بؤرة الصورة، وتُعلي من شأن العقل إلى حدِّ تتويجه ملكًا على سائر القوى في الإنسان وفي الطبيعة، وهي من ثم تُحلُّ الإرادة البشرية أرفع محل، فلقد أصبح الإنسان في نظر مفكري عصر النهضة «سيد مصيره»، ولقد نجح الأوروبيون إلى حدٍّ بعيد في تحقيق ذلك في الحياة المادية الملموسة، ودفَعهم هذا النجاح إلى أن تصوَّروا أن الإنسان أصبح إلهًا جديدًا، وأنَّ الأقدار خرافة، إلا إذا قيل إنَّ القدر أو المصير هو ما يصنعه الإنسان. وهكذا فإن للدراما الحديثة أسسًا فكرية قد نتفق معها وقد نختلف، والحياة التي نحياها قد لا تشهد بصحة هذه الأسُس وقد تشهد بصحة بعضها دون البعض الآخر.

وأذكر أنني عندما عدتُ من البعثة الدراسية عام ١٩٧٥م، كنت حريصًا — كما ذكرت في واحات مصرية — على إعادة وصل ما انقطع من علاقات مع أصدقائي، وإقامة علاقات مع مَن لم أكن أعرف وكان من أقرب هؤلاء إلى قلبي مدرِّس تعرَّفت عليه في القسم يتميز بشفافية نفس نادرة، وصفاء قلب خالص، وكان يُسِرُّ إليَّ بأسراره جميعًا ويأنس إليَّ وآنس له داخل القسم، فامتدَّت حبال الود بيننا، وشهدتُ كفاحه في الحياة منذ أن عُيِّنَ في القسم مدرسًا للغة الإنجليزية (وهي درجة توازي درجة معيد) بعد أن تخرَّج وتفوق في دراسته، وقص عليَّ كيف لاقى من شظف العيش الكثير في صباه؛ إذ لم يرضَ بالعمل اليدوي الذي استهلَّ حياته به، فحصل على الثانوية العامة والتحق بقسم اللغة الإنجليزية وظل يجمع بين العمل وبين الدراسة حتى نال بُغيَته، ومن ثَمَّ اجتهد فحصل على الماجستير في علم اللغة (تحليل أزمنة الفعل في العامية المصرية) ثم سنحت له فيما بعد فرصة السفر إلى إنجلترا لاستكمال رسالة الدكتوراه فاغتنمها، وكنت دائم الصحبة له قبل البعثة، وكان يُطلعني على مشكلات حياته الخاصة، خصوصًا الصعوبات المادية وكيف كان يستكمل دخله المحدود بتدريس اللغة الإنجليزية خارج الجامعة، وسأتوقَّف هنا عند محطة غريبة من محطات حياته — ولا يعرفها إلا أقرب المقربين إليه.
ساقت إليه المصادفة رجل أعمال ليبي، ولم يكن يُريد دروس الإنجليزية لنفسه بل لزوجته «سيدة المجتمع»، وهي مصرية تزعُم لنفسها كرم المحتد وعراقة الأصل كما كانت تُصرُّ على نشر صورتها أسبوعيًّا في بعض المجلات في سياق الإعلان عن أنباء أعمال الخير التي تنسبها لنفسها، وأهمها أنباء التبرعات النقدية والعينية للجمعيات الخيرية والأفراد من المعوزين، وقيل: إن زوجها الليبي لم يكن يبخل عليها بشيء، بل قيل إنه كان يبسط يده كل البسط، وسألني صديقي بعد نحو شهر من الدروس عما عساه أن يطلبه من أجر على ذلك فلم أجد لديَّ إجابة حاضرة، فأجرُ التدريس في الجامعة لا يقاس عليه، وكان يتراوح آنذاك بين ثمانين قرشًا للساعة (كحد أدنى لأي مدرس) وبين نسبة ٢٪ من المرتب الأصلي للدرجات الأعلى، وطلبت منه أن ينتظر تقدير الرجل، فهو معطاء سخي حسبما يقال، ولكن الانتظار طال، ومضت ثلاثة أشهر دون أن يتقاضى صديقي شيئًا فسألني عما ينبغي فعلُه، وكنت حاسمًا هذه المرة فنصحته بأن يُطالب بحقه كاملًا وألا يتهاون في ذلك، والغريب أن الزوج الذي كان يسمح لزوجته بالظهور في «المجتمع» وحضور الحفلات ونشر صورها كان يغار عليها غيرة شديدة، فكان يحضر دروس اللغة الإنجليزية، ويُقاطع صديقي أحيانًا ليسأله عن معنى عبارة ما خشية أن يكون فيها إلماح أو تلويح بشيء غير مقبول، وكان صديقي صبورًا هادئ الأعصاب فكان يُترجم له كل شيء، وكثيرًا ما كان يلجأ إليَّ كي أُترجم له ما لم يَستطِع ترجمته، وكان صديقي يضيق — بطبيعة الحال — بتدخل الزوج الغيور وإفتائه فيما لا يعرف من اللغة الإنجليزية، خصوصًا أنه كان يطالب صديقي بإضافة وقتٍ إلى زمن الحصة يوازي الوقت الذي استغرقه في التدخل (مثل الوقت الضائع في كرة القدم injury time) ووجد صديقي ذلك مسلِّيًا فلم يَعترِض، وعندما سألته إذا كان قد طالب بأجر الدروس؛ قال إنه استحى أن يفعل ذلك بصورة مُباشِرة، بل كلَّف صديقة لسيدة المجتمع بأن تُثير معها الموضوع، وكانت هذه الصديقة فلسطينية الأصل أردنية الجنسية، وتُكثر من التردُّد على القسم لدينا للاطلاع على المراجع في مكتبة القسم المُتواضِعة ومكتبة الجامعة الزاخرة، وقد شاهدتها وحادثتها عدة مرات دون أن أفتح معها الموضوع — طبعًا — ولكن صديقي كان يُطلعني على التطوُّرات أولًا بأول.

وكان من ثمار جهود الصديقة أن اتَّفقت «سيدة المجتمع» مع زوجها على تقديم سيارة مُستعمَلة يابانية الصنع إلى صديقي سدادًا لأجر الدروس، ولم يَعترض صديقي إذ كان يتطلَّع إلى الحصول على أيِّ أجر، وكان يعدُّ العدة للسفر ليَستكمِل دراسته العليا ويحتاج إلى المال أكثر من أي وقت مضى، خصوصًا بعد أن ترك زوجته الأولى وترك معها ابنه، واستأجر شقة أخرى استقرَّ فيها مع زوجته الجديدة. وكان صديقي يُسرُّ إليَّ بأن ذلك كان لأسبابٍ قاهرة، ولم أشأ أن أعرف المزيد، لكنَّني كنت أعجب لسلوك «سيدة المجتمع» — «صاحبة الأيادي البيضاء» على المعوزين — وزوجها الذي اشتهر بسخائه وكرمه، وهما يُماطلانه في دفع أجر الدروس، ثم يقدمان إليه سيارة قديمة لا يفي ثمنها (مهما يكن تفاؤلنا) بأجر الدروس التي كانت تَستغرق من صديقي ساعات كثيرة — بل أكثر مما يقضيه في الكلية، ووجدتني أصارحه ذات يوم بضرورة ترك تلك الدروس والتفرُّغ لبحثِه الأكاديمي، فوافقني وأفضى إليَّ — في ساعة صفاء — ببعض أسرار أعمال الخير المزعومة؛ إذ اكتشف بمحض المصادفة أن نشر الصور في المجلات كان فعليًّا «إعلانات» مدفوعة الأجر، وأن «الحفلات الخيرية» كانت في الحقيقة مُناسبات لعقد الصفقات المُريبة والمُستترة بستار الانفتاح الاقتصادي، وقال إنه يظنُّ أن بعض أصدقاء الزوج كانوا من التجار الذين يتفنَّنون في إدخال البضائع الأجنبية إلى مصر برًّا، وربما دون دفع الرسوم الجمركية — كلها أو بعضها — وقال إنه ينتوي الإقلاع عن هذه الدروس لكنه لا يَزال يأمُل أن ينال أجره كاملًا ما دامت الأسرة بهذا الثراء. وحَدَسْتُ أنه يخشى أن يتلاشى ذلك الأمل لو توقف، فلم أقل المزيد، ولم تمضِ أيام على هذا الحوار حتى علمت أنه، عَرَضًا، وكأنما لم يكن يُفضي إليَّ بسرٍّ مهم، أن الزوج الليبي — رجل الأعمال الكبير — قد تُوفِّيَ.

والتزم صديقي الصمت إزاء هذا الموضوع أسبوعًا أو أكثر، واحترمت صمته إزاء جلال الموت لكنَّني كنتُ أريد المعرفة، فسألت الأردنية صديقة الزوجة أن تُطلعني على الأخبار لكنها التزمت الصمت هي الأخرى ثم اختفت. واغتنمَت فرصة خلوة سنحت في غرفة الأساتذة، وسألته عن سر الحزن الذي يتملَّكه فسرح ببصره من الشباك كأنما يتطلَّع إلى السماء، ثم واجهني وتساءل فيما يشبه التأمل الحائر «ما كُنْه الموت؟» ودُهِشْتُ ووَجِمْتُ. فعاد يقول «لقد كان الرجل في صدر شبابه، وكان ممتلئًا قوةً وحيوية.» وقلت له: إن الأعمار بيد الله، ولكنني لاحظت أن وفاة الرجل صدمته صدمة أقوى من احتماله، فحاولتُ تغيير الموضوع وقلت — كأنما بلا اهتمام — «لكن دفَع لك كل حاجة؟» فابتسم لأول مرة منذ أن جلسنا معًا، وقال إن الرجل كان قد كتب شيكًا بالمبلغ كله في اليوم السابق لموته ووعَده بأن يأتي بالنقود من البنك في اليوم التالي، وقال إنه طلب منه تسليمه الشيك لكنه أصر على تسليمه المال نقدًا وعدًّا، وقالت الزوجة التي كانت شاهدةً على هذا الحوار: إن تأخير يومٍ لن يؤثر في المبلغ، وقال إن التاجر أكَّد له أنه وحده الذي يستطيع صرف الشيك، وعاد صديقي إلى النظر من الشباك فعلمتُ أن ذلك أقصى ما كُتب لي أن أعرفه عن هذا الموضوع، وحدست أن الشيك من الشيكات المقفولة (a crossed cheque) وطرحت الموضوع جانبًا.

وكاد النسيان أن يطوي هذه المحطة من محطات حياة صديقي لولا أن علمت بأنَّ الموت كان على موعد آخر معه؛ إذ عندما عدت من باريس، بعد الجراحات التي يَسَّرها الله لي فشُفيتُ بفضله وكرمه من المرض اللعين، سمعتُ أن صديقي المذكور قد تُوفي، وقيل إنه لقي حتفه في حادث سيارة راحت ضحيته زوجته (الجديدة) وابنته أيضًا (ونجا ابنه). حادث سيارة؟ وتذكرت أنه عندما عاد من إنجلترا، في مُنتصَف الثمانينيات، اشترى سيارة «سيات» من نوع «باندا»، وهي خفيفة لا تزيد قوة محركها عن ٩٥٠ س/س، وأنه كان يسافر بها إلى العريش لتدريس اللغة الإنجليزية في كلية ما، وأنها انقلبت به ذات مرة لكنه نجا والحمد لله، ولذلك تصوَّرت أن الحادثة الأخيرة كانت بسبب تلك السيارة، ولكنني علمت من صديقي الدكتور محمد عبد العاطي أن سيارة الحادثة كانت «لادا» (روسية متينة راسخة) وأن سائقًا أرعن لسيارة شحن بمقطورة قد دهسها قبيل موعد الإفطار في رمضان في أحد طرق مدينة ٦ أكتوبر حيث كان صديقي قد بنى لنفسه منزلًا بما ادَّخره من نقود من سنوات الإعارة في إحدى البلدان العربية الشقيقة. وقال لي الدكتور محمد إنهما كانا معًا قبل ذلك بأسبوع لقضاء سهرة رمضانية في حي سيدنا الحسين، وأن صديقي التفت إلى الدكتور محمد فجأة وهما في السيارة وسأله السؤال الذي كان قد طرحه عليَّ قبل سنوات «ما الموت؟» وأضاف إنهما صلَّيا الفجر معًا في مسجد الحسين، وإنه كان على موعد معه في يوم وفاته، وإنه ما زال يؤنب نفسه لأن حرص صديقي على الوفاء بالموعد تسبَّب في وفاته.

٦

كان من أسباب جاذبية صورة الدائرة في نظري دلالتها على الكمال الذي لا نهاية له؛ فهو كمال مُستمِر لا يتوقف أبدًا، فقوس الدائرة مستمر — تعريفًا — وفي استمراره يَكمُن جوهر الدوام، تلك الفكرة العصية على أذهان البشر الذين يَقيسُون كل شيء بمنطق الحياة البشرية التي يحدُّها الموت على الأرض، أي يضع لها نهاية منظورة، وقد يكون افتتاني بهذه الدائرة قد بدأ في المراهقة الأولى (teenage) واستمرَّ في المراهقة الثانية (adolescence) عندما أحسست مثل الشاعر وردزورث بأن قوس الوجود البشَري الذي يمتدُّ مثل مدار الشمس الظاهري من الشرق إلى الغرب لا بد أن يستمر فيمتدُّ من الغرب إلى الشرق أيضًا في مكان ما لا تُدركه الأبصار، وإن كان الله قد أمدَّنا بما يكفي من الطاقة الذهنية لتصوره، وكانت مشاهد الطفولة الأولى في الريف تُفصِح عن إحساس يستعصي على التعبير اللغوي بأن ما تراه عين البصر قد رأتْه عين البصيرة قبل ذلك، وعندما قرأت في المراهقة قصيدة وردزورث المسماة «خاطرات الخلود المستوحاة من ذكريات عهد الطفولة الأول» أحسستُ أن الشاعر أبدع في تصوير ما طاف بخاطري، وربما ما يطوف بخاطر كل من هم في سنِّي وإن لم يُعبِّروا عنه، من شعور بأن الوجود دائري، أي إنَّ أرواحنا التي بثَّها الله فينا (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ السجدة: ٩) قد سبق لها الوجود عند الله، وأن ما كنت أنسبه إلى عين البصيرة يجوز أن يَنسب إلى عين الروح، فإذا استطعنا تصور ذلك الوجود السابق، على عُسر ذلك التصور، كان مِن المحتوم أن نُحاول تصور الوجود اللاحق، وهو وجود روحي قد يكون من المحال تصوُّره أو تصويره؛ لأنَّ حواسنا لم تعتدِ الخروج عن الكيانات المادية التي تفرض نفسها ليلًا ونهارًا عليها، ولا بدَّ في هذه المحاولة من اللجوء إلى الاستعارة والصور الشعرية، وعندما قرأت «يونج» في المراهقة الثانية انضم صوت العقل إلى صوت الإحساس، فإذا كان الله قد ركَّب في النفس نمطًا فطريًّا هو نمط الدائرة، فلا بد أن الغرض من ذلك هو مساعدة الإنسان على تنمية إدراكه لدائرة الوجود، ولم أشغَل نفسي آنذاك بالفكر الفلسفي — وهو الذي يُلغي دور الإحساس في عمل العقل، ويصرُّ على التجريد المرهق لقوى العقل المنطقية — بل اكتفيت بما كنتُ أشاهد في الحياة من دوائر مُتتالية، رويت بعضها هنا فيما رويت، وعندما أتيح لي أن أطَّلع في إنجلترا على المنهج العلمي — أي منهج العلوم الطبيعية — في تفسير عمل النفس، وقد تختلف النفس هنا على الروح، بدأت أدرك أن الإنسان قد بدأ يكتشف بعض أسرار خلق الله، فالروح غيب مطلق ولغز لا حل له، وأما النفس فهي تمثل — على ما فيها من «أمر الروح» — جماع الطاقات البشرية (أي التي يشترك فيها الإنسان مع الأحياء) والإنسانية (أي التي يختلف فيها الإنسان عن سائر الأحياء) وأهمها البصيرة القادرة وحدها على هداية الإنسان إلى حدس دورة الوجود، ولكنَّني سأبدأ بإيراد فقرة من قصيدة وردزورث المشار إليها في ترجمة عربية (منظومة). وسوف أرجئ التعليق عليها، وعلى حواشي الشاعر على ما جاء في هذه الفقرة — وهي الحواشي التي أملاها في شيخوخته على الآنسة إيزابيلا فينيك (Isabella Fenwick) وأصبحت تعرف بحواشي فينيك — إلى ما بعد قراءة الترجمة العربية.

يقول وردزورث:

ما مولد الإنسان إلا غفوةٌ،
نومٌ ونسيانْ؛
فروحه، تلك التي قد أشرقتْ معه،
(شمس حياة الإنسانْ)!
كانت قبيل بزوغها قد غربتْ،
وأقبلتْ،
من موقع ناءٍ قَصيٍّ،
لكنها لم تنسَ كل شيء،
كلا ولا تجردتْ،
من كل ما عرفته من رواء،
إذ إننا نأتي وفي أذيالنا سحب البهاء،
نأتي من الله الذي هو بيتنا،
إن السماء قريبة منا نراها حولنا،
ونحن أطفال صغار،
وكلما شب الصبيُّ،
بدأت ظلال السجن تحكم حوله طوق الحصار،
لكنه قد يشهد الأنوار،
وحيثما انسابت رأى فيها الفرح،
واليافع الذي عليه أن يواصل الرحيل،
كل يوم موليًا للشرق ظهره،
يظل كاهن الطبيعة،
وحوله رؤيا السناء في طريق رحلته،
ثم تخبو هذه الرؤيا،
آخر الأمر بعين الرجلِ،
ويراها تتلاشى في نهار البشرِ!
والواضح أنني سمحت لنفسي بالمزج بين بعض البحور المتداخلة إيقاعًا، مثل الكامل والرجز، على نحو ما أوضحت في كتابي الترجمة الأدبية (١٩٩٧م) أو المتداخلة في إحدى دوائر الخليل، مثل دائرة الرجَز والرمل والهزج، وأبحت لنفسي تنويع القافية أو طرحها، وهذا كله مما سمح به الشاعر لنفسه وأباحه، وليس من المعقول أن يفرض المترجم على نفسه قيودًا لم يفرضها مؤلف النص الأصلي، لكنَّني التزمت بالمعنى التزامًا دقيقًا وبالألفاظ الأساسية نفسها ولم أزد إلا ما اقتضاه فهمي للمعنى أو قل تفسيري للنص الشعري. وأما حاشية «فينيك» فسوف تُلقي بعض الضوء على فكر الشاعر وتوضح ما أعنيه بالدائرة — موضوع هذا الفصل — ولذلك فسوف أورد الفقرة التي ذاع اقتطافها منها بالإنجليزية للتدليل على ما يُسمَّى بتداخل عين الرائي مع المرئي أو الذات والموضوع بلغة الفلاسفة بل وبتمازجها أي (The coalescence of subject and object) وهو ما شاعت نسبتُه إلى كولريدج، وللتدليل كذلك على أنَّ الشاعر يستعمل صورة الوجود الروحي السابق للوجود المادي بمثابة استعارة وحسب لا باعتبارها دليلًا على إيمان بالفكرة، سواء نُسبت إلى أفلاطون أو إلى الفكر الهندي، وهو ما يعرفه العامة باسم تناسُخ الأرواح (the transmigration of souls) ويُشير إليه الشاعر باسم الوجود السابق وحسب (pre-existence) والغريب أن جميع من يُوردون هذا المقتطف بالإنجليزية يبدءونه من منتصف الجملة والحق أن العبارة المحذوفة لا تعني الكثير، ولذلك فسوف أحذفها أنا أيضًا! هذه إذن هي الفقرة المهمة من «حاشية فينيك»:

يقول وردزورث:

«كثيرًا ما كنت أعجز عن تصور الأشياء الظاهرة في صورة أشياء ذات وجود خارجي، بل كنتُ أتواصَل مع كل شيء أراه لا باعتباره شيئًا مُنفصِلًا عني، بل كأنما له وجود راسخ في طبيعتي غير المادية [immaterial nature]. وكم من مرة توقَّفت أثناء ذهابي إلى المدرسة لأمسك بجدار أو بشجرة حتى أسترجع ذاتي من هوَّة المثالية [أي الوهم، وهي هنا idealism] إلى الواقع. وكنت في ذلك الوقت أخاف ذلك وأخشاه، وأما حين تقدَّم بي العمر فلقد أصبحت آسف، مثلما نأسَف جميعًا، بسبب الخضوع لما هو نقيض ذلك، وكنت أفرح بذكريات معينة، وهي التي عبرت عنها في الأبيات التالية:
بل أشكر أسئلة صماء عنيدة،
مما يطرحه الحس،
أو يمثل خارج هذي النفس،
أسئلة تساقط منا بل تتلاشى … إلخ.

وأعتقد أن كل إنسان يستطيع إذا تذكَّر الماضي أن يَشهد بما كان يكسو الأشياء الظاهرة للعين في طفولته من نضرة وبهاء يُشبهان نضرة الأحلام وبهاءها، ولذلك فلا أجد ما يدعوني إلى الإفاضة في ذلك هنا، لكنَّني لما كنت قد افترضت في القصيدة أن ذلك دليل على حالة وجود سابق، فأظنُّ أنه من الصواب أن أعترض على ما انتهى إليه البعض، وما آلمَ بعض الأتقياء والورعين، من الظن بأنني قصدت إلى غرس تلك العقيدة، فالفكرة غائمة إلى الحد الذي يحول دون الدعوة إلى الإيمان بها، إلا باعتبارها عنصرًا من عناصر إحساسنا الغريزي بالخلود، ولكن علينا أن نذكر أن الكتب المقدسة لا تتضمَّن ما ينفيها أو يناقضها، وإن لم تنص عليها، كما أن سقوط الإنسان يتضمَّن — استنادًا إلى منطق القياس — ترجيحًا لها. وهكذا دخلت فكرة الوجود السابق إلى العقائد الشائعة عند أمم كثيرة، كما يعلم جميع الملمِّين بالآداب الكلاسيكية أنها من عناصر الفلسفة الأفلاطونية. وكان أرخميدس يقول إنه يستطيع أن يُحرك (يرفع) العالم (الأرض) لو عثر على نقطة ارتكاز لآلته (رافعته)، ومن ذا الذي لم يستشعر ذلك الأمل نفسه فيما يتعلَّق بعالم ذهنه؟ ولما كان عليَّ أن أتناول بعض عناصرها عندما دفعني الدافع الداخلي على كتابة هذه القصيدة عن «خلود الروح» فلقد تعرَّضت لفكرة الوجود السابق لأن لها من الأسس الراسخة في طبيعة الإنسان ما يُخوِّل لي أن أنتفع بها في شعري خير انتفاع، تحقيقًا لغايتي الشعرية.»

(من طبعة أكسفورد المنقَّحة)

هذا هو ما قاله وردزورث، وقد أوردته لظني أنه لم يترجَم إلى العربية من قبل ولن أستطيع الإشارة إليه مثلما أشير إلى ما هو مُترجَم، ولظني أنه سوف يُلقي الضوء على فكرة الدائرة في الشعر، من خلال ربط الوجود السابق بالخلود؛ لأن دورة الحياة المرئية على ظهر الأرض لا تكتمل إلا إذا امتدَّت في الزمن فتجاوزت البداية الظاهرة وتخطَّت النهاية الظاهرة، وما يشير إليه الشاعر من أن فكرة الوجود السابق على الحياة الأرضية قد دخلت إلى العقائد الشائعة عند أمم كثيرة، قد يتضمَّن الإشارة إلى عقائد أهل الهند والصين، أو ما يُسمى بالبوذية بأشكالها المتعدِّدة، وهو ما أراني مُضطرًّا إلى إيضاح بعض حقائقه، خصوصًا بعد قراءتي كتابًا أصدرته كارين آرمسترونج عام ٢٠٠١م عن «بوذا»، وقضيت في قراءته أيامًا طويلة محاولًا استيعاب ذلك المذهب الغامض بتفريعاته التي لا تكاد تحصر. وعندما انتهيت — أو ظننت أنني انتهيت من البوذية (التي خيَّبت آمالي) وجهت اهتمامي للأديان الهندية الأخرى حيث وجدت صورًا مختلفة لدائرة الوجود، وسوف أوجز هنا ما خرجت به من قراءاتي ويتصل اتصالًا مباشرًا بموضوع هذا الفصل.

سألت صديقي الدكتور ماهر شفيق فريد عما إذا كان الباحثون العرب قد كتبوا كتبًا عن البوذية؛ فهو مرجعي في هذا الباب وغيره، ولا أظن أن أحدًا من جيلنا يعلم علمه أو يقرأ قراءته، فقال لي إن هناك كتابًا واحدًا وضعه الدكتور فؤاد شبل عن البوذية، لكنه غير متاح حاليًّا، ولا أعلم أين نشر، وسألت صديقي المستشار أحمد السودة، فقال لي إن العقاد أشار إلى البوذية وشرحها عَرَضًا في بعض كتبه، ومن ثم لم أجد أمامي إلا أن أنشد ما كتبه الغربيون، وإن كانوا يدينون — مثلنا — بدين سماوي يحول في رأي كارين آرمسترونج دون التعاطف (ومن ثم دون التفهم الكامل) للأديان غير السماوية. وخلاصة ما انتهيت إليه هو أن الأديان الشرقية غير السماوية التي تؤمن بتناسخ الأرواح — وهو ما يهمنا هنا — تكاد تنحصر في الأديان الآسيوية الأربعة: الهندوسية (Hinduism) والجانية (Jainism) والبوذية (Buddhism) والسيخية (Sikhism) وأما التناسخ نفسه فله مصطلحاته المحدَّدة، وكان لا بدَّ لي من رصدها وتحديدها، فأما التناسخ نفسه فهو يُسمَّى علميًّا (reincarnation) أي الحلول ثانيًا في جسد جديد، ويشار إليه بالتعبير الشائع الذي سبق لي ذكره وهو (transmigration of souls) أو بلفظة (metempsychosis) والأدق أن تكون اللفظة (metensomatosis) ومعناها تغيير الأجساد، واللفظة اليونانية له هي (palingenesis) أي أن يكتسب المرء أصلًا جديدًا؛ أي أن يولد من جديد. وخلاصة ذلك في الأديان الأربعة هو ما يُسمَّى بمذهب «العلل» (أو Karman) أو العلَّة والمعلول، بمعنى أن ما يفعله الإنسان في هذه الدنيا — أي أثناء وجوده الآني — سوف يُؤثِّر في وجوده التالي؛ فالهندوسية تقول بأنَّ عملية الميلاد والميلاد الجديد (أي تناسُخ الأرواح) عملية لا نهائية، ويمكن أن تستمر إلى الأبد إلا إذا نجح المرء في تحقيق الخلاص لنفسه (moksa) من خلال إدراك الحقيقة التي تُحرِّر ذاته من نير الدنيا، وعندها تعود روح الفرد أو نفسه (Atman) إلى المُطلَق، الروح أو النفس المطلقة (Brahman) فتتَّحد مع المطلق ولا ترجع إلى الدنيا؛ أي إن بإمكان الفرد أن يكسر عجلة الميلاد والميلاد الجديد (Samsara) بإرادته، من خلال التحكُّم في فعاله والبحث الدائم عن الحقيقة. وتقول «الجانية» إنَّ هناك روحًا مُطلَقة في الإنسان، وهي رُوح دائمة خالدة، وأنَّ للإنسان أن يرقى بها عن طريق الأعمال الصالحة، وأن يُضيف في كل حياة يحياها «عِلَلًا» جديدة تُبرِّر ارتقاءه سلَّم الموجودات (الأحياء) حتى يستطيع آخر الأمر (عن طريق الانضباط الديني، وأهم عنصر فيه هو نبذ العنف، أي المُسالمة الكاملة مع الأحياء) أن يتحرَّر بمعنى اعتلاء أرفع درجات الوجود في الكون.
وهكذا تشترك الهندوسية مع «الجانية» في الإيمان بوجود روح أو نفس — أي كيان غير مادي، ينشد التطهر باستمرار من أدران الحياة المادية (الجسَدية) في الدنيا، لكنه خالد وما يفتأ يعود إلى الأرض وإن اختلفَت الصور التي يحلُّ فيها، وأما البوذية فتُنكر وجود مثل هذه النفس الثابتة ذات الوجود المحسوس، لكنَّها تؤمن بنوع غريب من التناسُخ (transmigration) يختص بانتقال العِلَل فحسب، ويعتمد تصوُّر هذا المذهب العسير الذي أحاول تبسيطه قدر الطاقة، على قبول فكرة غير مألوفة وهي أنَّ للنفس خمس طاقات أو جوانب أو حالات تتغيَّر باستمرار من لحظة لأخرى (Skandas) وتُشكِّل مُركَّبًا خاصًّا مُتميِّزًا في كل فرد، وهي الجسد، والأحاسيس، والمدركات، والنوازع، والوعي، وأن الإنسان يستطيع إذا اجتهد أن ينجح في تحقيق فناء هذا المُركَّب، لكن فناء المُركَّب لا يَستتبِع فناء «العلل»، فهي باقية أبدًا، وهي تنتقل من المتوفى إلى مُركَّب جديد في رحم امرأة أخرى، ويَقتصِر هذا الانتقال على «بذرة الوعي» (vijnana) وهكذا تُصبح بذرة الوعي العنصر الوحيد من عناصر النفس الذي يُولد من جديد أو يحل من جديد في فردٍ جديد. ولا يأتي الخلاص إلا بالقضاء على جميع الرغبات والشهوات التي تعمل على إقرار «توهُّم وجود ذات دائمة ثابتة»، ويكون ذلك بتحقيق حالة من السلبية الكاملة عن طريق الانضباط والتأمل، وهكذا ينجو الإنسان من عجلة الميلاد؛ فالموت فالميلاد من جديد، ولكن هذا لا يتحقَّق عن طريق ما يُسمَّى نيرفانا (Nirvana) وهي كلمة باللغة السنسكريتية (أي باللغة الهندية القديمة) وتَعني النورانية (enlightenment) ولكن عن طريق ما يُسمَّى بارينيرفانا (Parinirvana) أو النورانية النهائية، وسوف أتوقف هنا لأُوضِّح الفارق بين هذين المَفهومَين العسيرَين.
اختلط الأمر على الكثيرين عندما تُرجِمَتِ الكلمة الهندية بكلمة أوروبية شاع إطلاقها على حركة التنوير الأوروبية، أي حركة إعلاء شأن العقل الإنساني وتَتويجه ملكًا على الطاقات البشرية، وحركة الفصل بين الدين والعلم، وبين الدين والدولة، وما إلى هذا بسبيل (وهو مشهور ومعروف) كما اختلَطَ الأمر علينا أيضًا؛ لأنَّنا ترجمنا الكلمة الأوروبية ولم نُترجم الكلمة الهندية، ولهذا اختلط المعنى العربي حتى كاد أن يُصبح عكس المقصود، ولذلك حرصتُ هنا على استخدام كلمة النورانية ترجمةً لها بسبب دلالتها على انفتاح النفس على النور (في الأديان السماوية) أو اكتسابها خصيصة النور الأولى وهي السطوع والانطفاء (في البوذية). فالبُوذي يكافح جوانب النفس الخمسة التي سبق ذكرها حتى يصل إلى القضاء على الذات، أي إنَّ كفاحه النوراني كفاح ضد جوانب وجوده الأرضي، فإذا اكتسب صفة النور عرف الطريق إلى إطفائه، وعليه مِن ثَمَّ أن يواصل السير في هذا الطريق حتى يصل إلى الفناء، وهو النورانية الأخيرة؛ إذ ينجو عندها من عجلة الحياة — أو دائرة الحياة (موضوع هذا الفصل) فينتهي في تصوره وجوده إلى الأبد. ولهذا تتولَّى كارين آرمسترونج — في كتابها المشار إليه — إيضاح الفارق بين كلمتَين تُوردهما بلغة بالي (Pali) وهي اللغة الأصلية التي كتبت بها النصوص البوذية القديمة، ثم تُورِد مُقابلاتها بالسنسكريتية، أما الكلمة الأولى فهي نيرفانا:
Nibbana: “Extinction: blowing out” the extinction of self which brings enlightenment and liberation from pain (dukkha) Sanskrit: Nirvana.

وترجمة ذلك: نيبانا: القضاء على الذات أو إطفاؤها وتعني إفناء الذات الذي يأتي بالنورانية والتحرر من الألم (دوكا). نيرفانا بالسنسكريتية.

والكلمة الثانية هي:

Parinibbana: The “Final Nibbana”; the final rest of an enlightened person achieved at death, since he or she will not be born into another existence.

وترجمتها: باري نيبانا: النيبانا النهائية، وتعني الراحة النهائية لمن حقق النورانية، وذلك عند الموت؛ لأن هذا الشخص لن يولد من جديد فيكون له وجود آخر.

ولكن البوذية لا تقول بأن ذلك متاح للجميع، فما أندر في أعين البوذيِّين من يستطيعون تحقيق المثل الأعلى لديهم، وهو الفناء وكسر دائرة الوجود، فلقد ورثوا من الأديان الهندية فكرة التناسخ، وحتى لو قصروها على «العلل» فإنهم يقرون بها ضمنًا، وهم يسلمون بأن الأغلبية لا تستطيع تحقيق النورانية، وإن حققت النورانية الأولى فربما لم ينجح إلا القليل في تحقيق النورانية النهائية! ولذلك فأغلب الناس يكابدون الحياة، والحياة عند البوذي عناء خالص، وعبء يتَّضح فيما رصدوه من جوانب النفس، ومثلهم الأعلى إذن هو محاربة العناء ولو على مراحل قد لا تُوصِّل إلى الراحة النهائية!

وأما ديانة السيخ (السيخية) ففيها لمحة من الأديان السماوية، ألا وهي الإيمان بالبعث ويوم الحساب، ولكنَّها في جوهرها تقوم على فكرة تناسُخ الأرواح، وقد أسَّسها زعيم ديني هندي في القرن السادس عشر يدعى «جورو ناناك» (وقد أصبح اسمه الأول يَعني الزعيم الروحي باللغة الإنجليزية الحديثة) وهي تقول بأنَّ الأرواح التي تُنوسِخت سوف تندمج يوم الحساب في روح الله. أي إنَّ السيخية هي الدين الوحيد الذي يذكر الله صراحةً، ويجعل دورة الحياة جزءًا من التصور العام لفكرة الدورة الكونية.

وهكذا نرى أنَّ الأديان الشرقية الرئيسية، وهي أديان يدين بها آلاف الملايين في الهند والصين وجنوب شرقي آسيا وجنوبها، تقر صراحةً أو ضمنًا بدائرة الوجود الروحي، فإذا ذكرنا أنها جميعًا أديان غير مُنَزَّلَة، أي غير سماوية، وجدنا أن فطرة الإنسان هي التي أوحت بصورة تلك الدائرة، والفِطرة قد تستعين بالحدس القائم على التأمل، أو على الإحساس الطبيعي الذي لم تتدخَّل التعاليم الدينية أو الفلسفية أو العلمية في تشكيله، وهو لذلك مؤشر صادق لإحساس الإنسان، حتى دون كتب منزلة، بصورة الدائرة، والغريب أن البوذية الصادقة التي تسعى إلى كسر الدائرة وتحقيق الفناء تقر إقرارًا صريحًا بأن ذلك المطلب شبه محال، وبأن تحقيقه مثل أعلى يسعى إليه الإنسان ولكنه نادرًا ما يناله، وكان بوذا الكبير (البوذا سيداتا جوداما) يغضب من تلاميذه حين يزعمون أنهم وصلوا إلى النيرفانا، ويصرُّ على أنها جهد مستمر وقد لا يصل بممارسها إلى البارينيرفانا (أي الخلاص النهائي) أبدًا!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤