الفصل الرابع

١

بدأ عام ٢٠٠١م بداية تُبشر بالخير، إذ فازت ترجمتنا — الدكتورة فاطمة نصر وأنا — لكتاب معارك في سبيل الإله: الأصولية في اليهودية والمسيحية والإسلام بجائزة معرض القاهرة الدولي للكتاب، وأُعلن أنه أفضل كتاب مُترجَم في عام ٢٠٠٠م، وذهب كلانا إلى حفل افتتاح المعرض، وصافحت السيد رئيس الجمهورية للمرة الرابعة، وكانت المرة الأولى عام ١٩٨٦م حين تسلَّمتُ منه وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، والثانية والثالثة في مطلع ١٩٩٤م ومطلع ١٩٩٧م لتسلُّم جائزتَي معرض الكتاب عن أحسن كتاب مُترجَم (روميو وجولييت) في عام ١٩٩٣م، وأفضل كتاب في النقد الأدبي (المصطلحات الأدبية الحديثة) في عام ١٩٩٦م، وأما جائزة الدولة للتفوق في الآداب عام ١٩٩٩م فلم يَصحبها حفل تكريم رسمي، ولكن مطلع عام ٢٠٠١م كان مُشرقًا، فأحسست أن ما أسمَيته نهاية «العمر الرسمي» لم تكن نهايةً بالمعنى الذي «قهرني» طيلة العام الدراسي ١٩٩٩-٢٠٠٠م، وشحذت الهمة لمواصَلة العمل بعد تلك الجائزة الأخيرة، فما إن تماثَلت للشفاء من جراحة العين التي أجراها لي العبقري الدكتور ممتاز حجازي في ديسمبر ٢٠٠٠م حتى بدأت الاستعداد للانتهاء من المشروعات الأدبية الناقصة، وكان على رأسها استكمال ترجمة الفردوس المفقود، وحين لاحت فرصة السفر إلى الخارج رحَّبت بها، واصطحبت معي نص ميلتون (الكتب الستة الأخيرة) لكنَّني كنتُ أريد أيضًا أن أنتهي من ترجمة القصص القصيرة التي اخترتها للكاتبة منى رجب، بعد أن ترجم إحداها تلميذي وزميلي علي عبد العزيز الغفاري، وفعلًا عكفتُ في شهرَي أبريل ومايو على الفردوس المفقود فترجمت ثلاثة كتب، وعشر قصص، هذه إلى العربية وتلك إلى الإنجليزية، وانتهيت في يونيو من إعداد الحواشي، وكنت في غضون ذلك قد قررت إعادة نشر الجزء الأول من الملحمة في مكتبة الأسرة، فوجدت أن المقدمة التي كنت كتبتها قبل عشرين عامًا تقريبًا؛ لذلك الجزء تصلح مقدمة للمَلحمة كلها، فلم أكتب مقدمة للجزء الثالث الذي يضم الكتب الثلاثة التي انتهَيت من ترجمتها (من ٧–٩)، وكاد الكسل أن يقعد بي عن الانتهاء من الكتاب التاسع بعد عودتي إلى مصر لولا تشجيع ماهر شفيق فريد، وعندما اكتمل المخطوط — الترجمة والحواشي والتصدير — دفعت به إلى المطبعة، وعدت إلى واحات مصرية — الجزء الثالث من سيرتي الذاتية — فعكفتُ عليها حتى أدفع بها هي الأخرى إلى المطبعة، وكنا في يوليو ٢٠٠١م، ومناقصة شراء الورق التي طرحتها الهيئة لم تَرْسُ بعد على أحد، وهو ما خفَّف من الإحساس بالعجلة لديَّ.

وجاءني في ذلك الوقت عرض للعمل في أمريكا، وهو عرض من الصعب مقاومته، فعندما أختلي بنفسي في غرفة الفندق أتحوَّل إلى «كتلة من النشاط»، كما يقولون، وكانت تلك فرصة سانحة للانتهاء من الكتب الثلاثة الأخيرة من الفردوس (من ١٠–١٢)، فقد كان الإحساس بمرور الزمن إحساسًا غلابًا لا يفارقني لحظة في صحوي أو منامي، وكانت المسئوليات التي أحملها آنذاك تتضمَّن إعداد كتب مكتبة الأسرة، وإعداد كتابين في الترجمة الفورية للجامعة المفتوحة، وكان ذلك كله يقتضي وجودي في مصر وإرسال اعتذار إلى الأمريكان، وكان ذلك قرارًا عسيرًا؛ فالسفر مصدر بهجة، والخروج والعودة حركة، والحركة تعميق للإحساس بدورة الحياة، ولكنني كنت قد عقدت العزم على الانتهاء من المشروعات التي بدأتها وما زالت تنتظر الكثير من الجهد، فأرسلت اعتذاري للأمريكان، وقررت قضاء الصيف كله في العمل في القاهرة، ولم أذهب إلى أي مكان خارجها ولو «لتغيير الجو» أو للراحة.

وكان العكوف على واحات مصرية يتطلَّب الاستغراق التام، لا في تذكر الأحداث فمعظمها مسجل وثابت في الأوراق، بل في محاولة استقرائها للخروج بمعنى ما مما شهدته على امتداد ربع قرن؛ بحيث يبدُو المعنى بوضوح، وهو الأمر العسير حقًّا، فاستيضاح المعنى يتطلَّب التساؤل وإعادة التساؤل، وإقامة الروابط أو البحث عن روابط جديدة أو منطقية (مثل الروابط الزمنية chronological) أو الاكتفاء بالروابط ذات الدلالة، وهكذا وجدتني أقضي وقتًا أكثر مما يَنبغي لكاتب مُحترف، صناعته اللغة والتعبير، في مدِّ الجسور بين الأحداث ومحاولة استنباط معنى ما مما قد تقول الأوراق إنه يَفتقر إلى المعنى، أي إن الكتابة كانت جهدًا ذهنيًّا ونفسيًّا قبل أن تكون جهدًا لغويًّا، وظهرت في غضون ذلك «لوحات» أو حكايات كثيرة لها من المعاني ما لا تسعه الصفحات المحددة التي قررت تخصيصها للجزء الثالث، وكنت أعتزم أن يكون الأخير، ولكن أصدقائي الذين قرءوا المخطوط الأول — وهم بترتيب القراءة هبة عارف وماهر شفيق فريد ثم محمد عبد العاطي — أعربوا جميعًا عن افتقارهم إلى هذه «اللوحات» أو «الحكايات»، وقرأت بعض الفقرات على صديق عمري الأستاذ أحمد السودة فأشار إلى وجود ثغرات تداركتها، وكذلك فعلت زوجتي نهاد التي قرأت المخطوط بعد اكتماله، ومن بعدها الدكتورة منى إبراهيم، لكنني لم أجد مكانًا «للَّوحات» أو الحكايات فيه، وقررت الاكتفاء آنذاك بذلك السجل «شبه التاريخي» لهذا الكم من الأحداث الأدبية في حياتي، ولكن إلحاح «اللوحات» أو «الحكايات» على ذهني كان ما فتئ يعاودني حتى بعد طبع واحات مصرية، وها أنا ذا أرسم أو أحكي بعضًا منها راجيًا استكمال النقص، ولو إلى حدٍّ ما، إذ لم تشهد الحياة في مصر، على المستوى الأدبي وغيره من المستويات، مثل هذا الثراء في التحوُّلات التي يكاد بعضها أن يكون جذريًّا، في نصف القرن الذي أستقي منه مادة هذه «اللوحات».

وانتهيت من واحات مصرية في أغسطس، ولكن الانتهاء من المخطوط الأول كان لا يُمثِّل إلا مرحلة واحدة، فَسَدُّ الثغرات يتطلب المزيد من الجهد، ولم أكن به ضنينًا، لكنَّني شغلت في سبتمبر بجهد آخر، هو محاولة الانتهاء من الكتب الثلاثة الباقية من الفردوس، فوضعتها نصب عيني، وساعدتني الراحة النفسية لتولي الدكتورة منى الحلواني رئاسة القسم، فهي أستاذة قديرة، دمثة الخلق، تعرف أقدار الرجال وتجيد التعامل مع الجميع، فوضعت الواحات جانبًا وعمدت إلى الفردوس وإلى جانبي، ولا أقول من ورائي، الدكتور ماهر شفيق فريد، يحثُّني ويستنهضني؛ فالشهور تجري سراعًا، والكتب الثلاثة الأخيرة تتكون من ألفين وسبعمائة بيت من الشعر تقريبًا، والعمل يقتضي التفرغ شبه الكامل، كما شجعني ظهور الجزء الثالث بحواشيه، وما لبث الدكتور ماهر أن كتب مقالًا رائعًا نشره الأهرام في نوفمبر ٢٠٠١م، فكان بمثابة حافز جديد على الانتهاء من الملحمة كلها.

كان قد حدث في إبان تلك الأيام — وتحديدًا في يوليو ٢٠٠١م — أن نشب نزاع غير مفهوم بين المجلس الأعلى للثقافة وهيئة الكتاب، وكان المجلس يَعتزِم إصدار ترجمة كاملة لدائرة المعارف الإسلامية (The Encyclopaedia of Islam) وهي الموسوعة التي كان قد شرع في ترجمتها الدكتور عبد الحميد يونس والأستاذ إبراهيم زكي خورشيد رحمهما الله ثم توقف العمل بها، وكانت هيئة الكتاب قد أصدرت قبل عامين من ذلك مختارات منها، شاركت أنا في ترجمة بعضها، في نحو ثلاثين جزءًا، وأقول مختارات لأنَّ المحرِّرين حذفوا الكثير مما يمسُّ الإسلام أو نبي الإسلام أو القرآن، وكانت الموسوعة العربية قد طبعتها الهيئة بالاشتراك مع مركز الشارقة الإعلامي (بالإمارات العربية المتحدة) بسبب ضخامة التكاليف، وقد شهدتُ بنفسي آخر مرحلة من مراحل خروجها للنور عندما زار رئيس تحرير الموسوعة الأجنبية، وهو هولندي، مصر للاتفاق على بعض التعديلات التي اقتضاها إعداد الموسوعة للنشر بالعربية، وكان قد سمع عني واطلع على بعض كتبي، فاجتمعنا معه أنا والدكتور سمير سرحان وقص علينا ما يكابده الدكتور نصر حامد أبو زيد في الغربة بسبب اتهامه بالكفر في مصر (عقب نشره بحوثًا في لغة القرآن ومفهوم النص) وطال الاجتماع حتى أربى على أربع ساعات ناقشنا فيها كل التعديلات أو معظمها، ولم يمضِ عام حتى اطَّلع على «الصورة الموجزة» للموسوعة وأصدر الإذن بنشرها. ولم يكن الخلاف «مفهومًا» كما قلت، لأن ترجمة عمل أجنبي يتمتع بحماية حقوق الطبع والنشر يقتضي استئذان صاحب الحق ودفع ما يطلبه من حقوق، وهذا هو ما يفعله المجلس الأعلى للثقافة فعلًا، فإذا كان يريد إعادة ترجمتها — بعد استكمالها ونشرها — (ولو في صورة مختصَرة أو معدلة) — فما عليه إلا أن يتَّخذ الإجراءات المعترف بها دوليًّا ويشرع في التنفيذ. ولكن الذي حدث هو أن باب «أخبار الأدب» في صحيفة الأخبار اليومية شنَّ هجومًا ضاريًا على الهيئة المصرية العامة للكتاب بسبب إصدارها هذه الموسوعة (التي استغرق إعدادها سنوات طويلة) ولم يمضِ أسبوعان حتى اتخذ الهجوم طابع التجريح واتهام رئيس الهيئة بالتربح من أموال جهة أجنبية (ولو أنها عربية) وكان العمود الذي يكتبه جمال الغيطاني يتضمَّن تُهَمًا يُعاقب مرتكبُها بعقوبات قانونية، مما أغضب الكثيرين وأدَّى إلى تدخل رئيس تحرير الصحيفة اليومية، وكان من الممكن أن تحلَّ القضية داخل وزارة الثقافة بين المجلس الأعلى والهيئة دون تدخل الصحافة، ولكن سلسلة المقالات أدَّت إلى معركة أخرى قدم على أثرها جمال الغيطاني استقالته من الإشراف على باب أخبار الأدب في الصحيفة اليومية، مُكتفيًا برئاسة تحرير مجلة أخبار الأدب الأسبوعية.
وتحوَّل باب «أخبار الأدب» في الصحيفة اليومية بعد أن تولى رئاسته تلميذي السابق مصطفى عبد الله (وزوج تلميذتي السابقة عزة ابنة الكاتبة إحسان كمال) إلى باب إخباري «متحرك»، ولكنه لم يعد يتضمن «المقابلات» الصحفية أو التحقيقات التي كان جمال الغيطاني مُولعًا بها؛ فهو ينتمي إلى جيلي الذي يحب الكتابة وتطارح الأفكار، وكان قد كلف الصحفية سامية سعيد بإعداد مقابلة معي قبل سفري (المعتزَم) إلى أمريكا وأعددت إجابات الأسئلة وأرسلتها إليها بالفاكس، ثم مضى جمال فمضت مقابلتي في الهواء، ولم يقدر لها أن تنشر أبدًا، ولم تعد لديَّ أخبار من التي يحبها رئيس الباب الجديد، على حبِّه لي وحبي له، ولكن أخبار اليوم كانت قد فتحت الباب لمن يحبُّ تطارُح الأفكار فاستعضت بالباب الذي تُشرف عليه آمال عثمان عن باب الصحيفة اليومية، ونشرت عرضًا لكتاب عن حكمة الفراعنة المفقودة وكتبت مقالًا كبيرًا عن خداع ما بعد الحداثة تناولت فيه أسس التيار وشرحت أسباب سوء فهمه في مصر.

ولكن الانتهاء من الملحمة كان شغلي الشاغل، فتوفرت على الترجمة طيلة الخريف ثم باقي شهور العام فانتهيت منها في أوائل ديسمبر، وكنت في أثناء ذلك قد انتُدبت للإشراف على قسم اللغة الإنجليزية في كلية آداب بنها، التابعة لجامعة الزقازيق، وهناك رأيت من العجب ما يتطلَّب قسمًا مستقلًّا من هذا الفصل، ولم يهدأ بالي إلا حين قرأ ماهر شفيق فريد المخطوط مع الحواشي، وصحَّح فيه ما يحتاج إلى تصحيح، ودفعت به إلى المطبعة، وقلت إن لي أن أستهل العام الجديد قرير العين. ولا شكَّ أن جهد عام ٢٠٠١م قد أجهدني إجهادًا كبيرًا، فإذا بي أتقاعَس عن الجلوس إلى المكتب، وأُفضِّل القراءة في «الصالة» (في الكرسي المريح) وكنتُ أعزو ابتعادي عن المكتب — في أعماقي — إلى «العين» (الحسد) مع مُنافاة ذلك للمنطق الذي أحيا به، ثم قلت في نفسي آخر الأمر إنني لم أحصل على عطلة من أيِّ نوع، وقررت أن أقضي بقية ديسمبر في عطلة خصوصًا وأن العيد على الأبواب، وإذا برئيس الجامعة يتَّصل بي ويقول لي — من خلال رسالة أرسلها لي الدكتور محمد حمدي إبراهيم — إن عليَّ أن أسافر إلى دمشق مع الدكتورة منى إبراهيم لزيارة مقرِّ التعليم المفتوح في جامعة دمشق وفي جامعة البعث في حمص، مع وفدٍ يمثل كلية الإعلام برئاسة الدكتور علي عجوة عميد كلية الإعلام، وعُضوية الدكتورة ماجي الحلواني والدكتور صفوت العالم، وأن موعد السفر قد تحدَّد يوم ٢٠ ديسمبر!

كانت زيارة دمشق حلمًا يُراودني منذ الطفولة، وكنت أرجو أن أزور سوريا زيارة كاتب عربي يَحمل في قلبه حبًّا جارفًا للشام وأهلها، وللغة العربية وتاريخها، لا زيارة أستاذ مكلَّف بمهمة تعليمية محددة، وكنت قد قررت — كما ذكرت — أن أمتنع عن السفر حتى أتفرغ لمشروعاتي الأدبية، ولكن فرصة الزيارة قد سنحت وربما لن تتكرَّر، مثلما لم تتكرر زياراتي للهند وسريلانكا وباكستان وزامبيا وأنجولا وموزمبيق وماليزيا والسنغال والعراق والإمارات والكويت، على عكس زياراتي التي تكرَّرت لبلدان أخرى كثيرة! وكان لا بد إذن من الترحيب بالزيارة، ولو سمحت لنفسي بتسجيل خواطري ومشاعري ما وسعني كتاب قائم برأسه، ويكفي أن أقول إنني خرجت من الزيارة أشد إيمانًا بالروابط الخاصة التي تربط مصر بسوريا، وبأن أي شك في القومية العربية يتحطَّم بل ويتلاشى عند مواجهة هذه الحالة الخاصة — ولنُسمِّها حالة «مصر والشام» على نحو ما كان أسلافنا يُسمُّونها! وأهم ما عدت به قول الدكتور شماس، مدرس اللغة الإنجليزية بجامعة دمشق، محقًّا: «إن المجتمع العربي واحد» كانت العبارة درسًا في الإيجاز والبلاغة، فالطلاب هم الطلاب، والأساتذة هم الأساتذة، والناس هم الناس، بل و«المرور» هو المرور! كان دفء الصحبة العربية هو العامل الغلاب طيلة الرحلة، وكان هو الذي قهر المظهر الأوروبي في فندق كارلتون الحديث، وأما زيارتنا — أنا والدكتورة منى — لمدينة حمص، فقد أتاحت لي المزيد من الاستغراق في التاريخ؛ إذ صحبت شابًّا متخصِّصًا في الكمبيوتر (يُدعى قُتيبة) طاف بي أرجاء المدينة وحدثني عن تاريخها، ونعمتُ معه بأحلى الأوقات رغم برودة الجو وخوفي من الأنفلونزا! وعندما عدت إلى القاهرة وحدي، إذ أصرت الدكتورة منى على البقاء للاستزادة من مباهج الشام، لم يكن يتردَّد في خاطري غير بيت واحد من الشعر نظمه محمود حسن إسماعيل وتغنَّى به عبد الوهاب (وهو: نحن شعبٌ عربيٌّ واحد/ضمَّه في حَومة البعث الطريق) وكان رؤى الماضي تنثال في ذهني، رُؤًى استقيتها من كتب التاريخ، ولم تكن تحتاج إلا إلى بعض الملامح المادية حتى تتجسَّد حية نابضة، فنحن حقًّا شعب واحد، نتكلم لغة واحدة، ونواجه مصيرًا واحدًا.

٢

كان العالم مشغولًا بما اصطلح على تسميته «أحداث ١١ سبتمبر» ألا وهو الهجوم بالطائرات المدنية هجمات انتحارية على مركز التجارة العالمي في نيويورك ومقر وزارة الدفاع الأمريكية في واشنطن، وما تلا تلك الهجمات من حرب أمريكية في أفغانستان، وقد عَملت أجهزة الإعلام الغربية على إظهار المسلمين بمظهر الهمج المتوحِّشين، وتبارى الكتَّاب في التحليل والتعليق، وتبارت الدول العربية والإسلامية في التنصُّل من المسئولية عن تلك الهجمات الشرسة، خوفًا من بطش أمريكا، القطب العالمي الأوحد، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وبدا للجميع أن العالم قد تغيَّر، وتغيَّر ما يُسمى بالخطاب الإعلامي الغربي؛ إذ تحوَّل إلى ما يُسمى بإدانة الإرهاب، وكان التعريف الوحيد لديهم هو قتل الأبرياء من المدنيين، وذلك هو التعريف القديم الجديد، أو الراسخ المتجدِّد، وأجهزة الإعلام الغربية أجهزة عالَمية جبارة، تساندها قوة اقتصادية قاهرة، إلى جانب القوة العسكرية المهيمنة التي لا تسهل معارضتها. وكنت — باعتباري من مسئولي التحرير في مجلة سطور الشهرية، مشغولًا بتحليل الأبعاد الثقافية للصراع الجديد الذي فرضته أحداث ١١ سبتمبر، فكنتُ أرى من الضروري أن أتابع ما تقوله الصحف الأجنبية، ومحطات الإذاعة والتليفزيون الغربية، لا الاكتفاء بما نقوله نحن أبناء العرب، ووجدتني رغم أنفي أُجَرُّ جَرًّا إلى الفكر السياسي — ولو من باب الفكر الثقافي أو الأدبي — وكنت أقاوم ذلك بأن أشغل نفسي بأشياء أخرى دون نجاح يذكر، حتى شهدت حوارًا بين اثنَين من كبار المثقفين حول موقف العرب من الأحداث العالَمية، وما تُمليه التغيرات أو التحوُّلات الجديدة من ضرورة التغيير، خصوصًا في أسلوب الكفاح في سبيل نصرة القضية الفلسطينية، قضية العرب الأولى، وقد بدأ الحوار فجأةً وعلى غير انتظار بعد جلسة من جلسات الندوات الثقافية في معرض الكتاب، أي إنه بدأ دون ترتيب سابق، وكان ثلاثتنا واقفين لدى قاعة الندوة، والناس يَنصرفُون، فتوقعت ألا يطول، ووقفت أستمع دون المشاركة، فالمتحدثان من المتكلمين الموهوبين، ولكل منهما كتبه ودراساته، ولكن الخلاف بينهما لم يكن متوقعًا، بل لم يكن الحوار في بدايته يشي بإمكان ظهور أي خلاف، ولذلك لم أهتم في البداية، لكن الخلاف احتدم فشدَّني، وكان كل منهما يريد مني أن أشاركه وجهة نظره. وسوف أوجز هنا ما قاله كل منهما دون إفصاح عن الأسماء.

بدأ الحوار بأن ذكر الأول أن على العرب أن يعملوا على تغيير الصورة التي دأبت أجهزة الإعلام الأمريكية على ترويجها للعرب، وهي صورة القتَلة السفاحين الذين لا يُقدِّرون قيمة الحياة فيقتلون الأبرياء من المدنيين ويُروِّعون السكان الآمنين؛ فهؤلاء إرهابيون، وأجهزة الإعلام المعادية تُصوِّر المكافحين الفلسطينيين في هذه الصورة، بل وتُعمِّمها حتى تشمل العرب كلهم، والأخطر من ذلك أنها تربط هذه الصورة الفلسطينية بالصورة الأفغانية، أي الصورة التي تُنسب إلى المتطرفين الإسلاميين بقيادة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري. ووافقه الثاني (ووافقتُه ضمنًا) على ضرورة التغيير، لكنه تساءل عن أسلوب العمل في سبيل التغيير، والعرب مُتفرِّقون لا يكادُون يجتمعون على شيء، ومن ثم أثار الشك في إمكان تحقيق ذلك وقال ما أثار المتحدِّث الأول — أو قل إنه ألقى قنبلة غير متوقعة بأن قال بنبرات خفيضة: الأفضل أن يتوقف الفلسطينيون عن الهجمات الانتحارية على النساء والأطفال والأبرياء في المدن! وردَّ الأول قائلًا: تُريدهم أن يوقفوا الانتفاضة؟ هل تدعو سيادتكم إلى التسليم لليهود ولأمريكا؟ وأجاب الثاني بنفس النبرة الخفيضة: لقد ارتبطت الهجمات الانتحارية على الأبرياء بالإرهاب في أذهان الرأي العام الغربي ولم يعدْ من السهل بعد هذه الشهور الثلاثة (وكنا قد تجاوزنا منتصف يناير ٢٠٠٢م) أن نقنع العالم بأن الهجمات الانتحارية الفلسطينية على الأبرياء ليست من قبيل الأعمال الإرهابية، بل إن اليهود سوف يستغلُّونها في قهر الشعب الفلسطيني والعودة بالقضية إلى نقطة الصفر! بل سوف يجدون التأييد من العالم الذي تحكمه أمريكا بعد أن حصلت على موافَقة ٨٢ دولة — ومن بينها الدول ذات الوزن الثقيل — على مواصلة ما تسميه حملة الكفاح ضد الإرهاب! وقال الأول: إنه مذهول لسماع هذه النغمة الانهزامية، وقال إنه لم يسمع بشعبٍ تحرَّر دون كفاح، مهما تكن صورة الكفاح وأشكاله، وأومأ إليَّ لأُبديَ الموافَقة على أن الكفاح مشروع، فقلت له إن أحدًا لا يستطيع إنكار ذلك، فاستمرَّ قائلًا إنه لولا انتفاضة الشعب الفلسطيني الأولى عام ١٩٨٧م ما تمكن ذلك الشعب من إقامة سلطته المستقلة على بعض المدن في الضفة الغربية كبداية أو كنواة للدولة المستقلة وعاصمتها القدس، وإن الانتفاضة الثانية سوف تُقنع العالم بحيوية هذا الشعب العربي وترغم إسرائيل على الرضوخ وتحقيق مطالبه! وكان صوته قد تهدَّج وعلا بعد أن غلبه الحماس، وكنا ما نزال واقِفين لدى الباب، والساعة قد قاربت العاشرة مساءً، فقلت لهما إن الموضوع لا يُمكن مناقشته هكذا — ولكن الثاني قاطعني وقال: اسمحوا لي بكلمة واحدة قبل أن نَفترق — وشرع يتكلم كلامًا أراه جديرًا بالتلخيص هنا. قال: «كانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى قد اندلعت إبان عهد انقسام العالم «القديم» إلى مُعسكرَين، فكان الاتحاد السوفييتي لا يزال موجودًا، وكان مجرَّد وجوده يعني أن على العالم أن يعمل حسابًا لذلك الوجود، حتى ولو لم يتدخَّل الاتحاد السوفييتي مباشرةً في القضية الفلسطينية على نحو ما تدخل في قضايا أخرى، وكانت أمريكا ما زالت قطبًا واحدًا من قطبَين، وكانت أوروبا على مشارف وحدة جديدة تهدد بأن تجعل منها قوة ثالثة، وكان الشعب الفلسطيني ينتشر في شتى ربوع الضفة الغربية ويلقي أطفاله بالحجارة فحسب على جنود الاحتلال، فكان من السهل على العالم أن يرى كفاح شعبٍ يَخضع للاحتلال ضد جيش الاحتلال، وكانت مواصلة الانتفاضة تؤكد إعلاميًّا مشروعية كفاحها في عيون الرأي العام في كل مكان! وهكذا كانت إسرائيل تخضع للضغط عالميًّا حتى تستجيب لمطالب «أطفال الحجارة» الذين أصبح كفاحهم رمزًا للصمود — صمود العزَّل ضد المدججين بالسلاح وضد المحتلين الغاصبين، وكان لا بد من مسيرة السلام للقضاء على ذلك الحال …»

وهنا قال الأول بسرعة «وهذا يؤيد كلامي!» لقد نجح الكفاح واستمع العالم! ولكن الثاني دعانا إلى الجلوس ولو خمس دقائق حتى يستكمل عرض وجهة نظره، وكان يردد «أرجوكم أرجوكم!» فجلسنا في قاعة الانتظار الخارجية المواجهة لمكتب سمير سرحان في المعرض، وكان ما زال بداخله، وكان بعض المشاركين في الندوة ما زالوا معه يتناقشون، وهنا استأنف الثاني حديثه قائلًا ما موجزه:

«لقد كانت مسيرة السلام التي انتهت بإقامة السلطة الفلسطينية حيلة بارعة؛ لأنها أدت إلى إيجاد عدوٍّ ملموس، عدو مسلح، ويتَّصف بكل ما تتصف به الجيوش النظامية شكلًا على الأقل، وذلك حتى يتحول كفاح الشعب إلى اعتداءات من المسلحين (gunmen) الذين يَسهُل وصفهم بعد ذلك بالإرهابيين إذا اعتدوا على المدنيين، أو يسهل إعلان الحرب عليهم إذا اعتدوا على القوات الإسرائيلية! ولا تنسوا أن اتفاقية السلام التي وُقِّعت عام ١٩٩٤م أصبحت سلاح دعاية في يد إسرائيل، فالذي يخرق هذه الاتفاقية يُعتبَر منتهكًا للقوانين والأعراف الدولية، ويُمكن لليهود أن يقولوا: إنهم مُتمسِّكون بالسلام وإنهم يسعون لتسوية الخلافات المعلَّقة في حين أن العرب هم الذين يهدمون السلام.»

وأسرعتُ هنا أقول — بعد أن التزمت الصمت طيلة الوقت تقريبًا — إن العالم ليس مغفَّلًا، والعالم يعرف أن اتفاقية إقامة السلطة الفلسطينية اتفاقية حلٍّ مرحلي، أي إنها تمثل مرحلة أولى ولا بد أن تتلوها مراحل أخرى، وإنَّ العالم كان يوافق أو على الأقل لم يكن يعترض على الانتفاضة الثانية في سبتمبر ٢٠٠٠م، وكانت الدول الكبرى — وعلى رأسها أمريكا — تسعى لإيجاد حلٍّ للقضية الفلسطينية؛ بدليل جهود الرئيس السابق كلينتون ومحادثات عرفات وباراك، وأيَّدني الأول وأضاف: إن الكفاح لا بد أن يستمر حتى يستمع العالم من جديد، ولكن الثاني عاد يقول:

«آه! ولكن العالم قد تغيَّر وتغيرت سياسة أمريكا بعد أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١م! وكان يجب على العرب أن يبتعدوا عن كل ما يربطهم بما يُسمَّى الإرهاب حتى لا تربط أجهزة الدعاية المُعادية بين هذه الأحداث وبين هجمات الفلسطينيين الانتحارية، فلقد نجحوا حقًّا في قتل العشرات من المدنيين ومن بينهم نساء وأطفال، ولكنهم يربطون كل يوم بين عرفات — المناضل الصادق في سبيل تحرير بلاده — وبين أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، وجهاز الدعاية الأمريكي قاهر جبار! ولقد استمعت إلى عدد من المحلِّلين السياسيين الأوروبيين والأمريكيين، غداة أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١م، وكانوا يقولون في نبرات تشي بالثقة والمعرفة ببواطن الأمور إن أمريكا سوف تُحاول إيجاد تسوية عاجلة لقضية الشرق الأوسط حتى تكسب تأييد العرب في حربها ضد أفغانستان وضد الإرهاب في كل مكان! ولم يَفُتِ الوقت بعد! فلقد نجحنا في تصحيح الزعم بأنَّ الإسلام دين إرهابي، وبدأ العالم يرى حقيقة ما حدث، وإن كانت أصوات أعدائنا ما تزال تنعق وتزعق، وعلينا إذن أن نقلع عن الهجمات الانتحارية ونطالب باستئناف مسيرة السلام؛ فالحرب الأفغانية انتهت أو كادت، وسوف ينسى العالم سريعًا موضوع الإرهاب الانتحاري إذا أقلعنا عن ممارسته!»

وقال الأول بل علينا أن نُواصل الكفاح؛ فقلت له لا خلاف على ذلك ولكن الدكتور (…) يتحدث عن أسلوب الكفاح، لا عن الكفاح نفسه، فقال الثاني في نبرات ما زالت خفيضة إن الأيام سوف تثبت لنا صحة ما يدعو إليه؛ فنحن نعيش في عصر الديموقراطية الغربية، وهي صورة من صور السيطرة على الناس بأجهزة الإعلام؛ أي إنَّ السلاح الماضي في هذه الصورة الجديدة من صور الديموقراطية هو تسخير أجهزة الإعلام لإثبات اللونين البارزين اللذين لا يستطيع الناس أن يروا سواهما — الأبيض والأسود — أي من هم الأخيار ومن هم الأشرار، وإن الهجمات الانتحارية على المدنيين لو استمرت فسوف تضع الفلسطينيين في الخانة الأخيرة، وأسرعت أقول: ولكن ماذا بيدهم أن يفعلوا؟ فساد الصمت لحظات خلتها دهورًا قبل أن يعود الأول إلى الكلام دون حماس هذه المرة قائلًا: لو دعم العرب كفاح الفلسطينيين — وقد وعدوا بدعمه — فلن نخشى شيئًا مما تخشونه! فقلت ضاحكًا لو! وآه من كلمة لو! ولكن الثاني قال: لا! حتى لو دعموا قتل الأبرياء — تذكر أننا نواجه الاتهام بأننا إرهابيون نقتل النساء والأطفال! لا … لا تقُل لو! ليس لأن ذلك مستحيل، وليس لأن الدعم لا قيمة له، بل لأنَّ العالم قد تغير! وما دامت إسرائيل قد أقنعت العالم بأنَّ تعريف الإرهاب هو قتل المدنيين، وما دامت أجهزة الإعلام الغربية تُضخِّم أحداث التفجير الانتحارية بالتركيز على الضحايا الأبرياء من النساء والأطفال، فلا بدَّ أن يتوقَّف الفلسطينيون عن هذه الأحداث! وقال الأول: أنا ما زلت أؤيد كفاح الفلسطينيين، وضحك الثاني وقال: وهل أعارضه أنا؟ كل ما هناك هو أنني أرجو أن نُقلع عمليًّا عن الأفعال التي تُصوِّرنا في صورة الإرهابيين!

وافترقنا في ذلك المساء، وعدتُ إلى المنزل مباشرةً لأنظر ما سوف أكتبه في افتتاحية عدد فبراير من مجلة سطور، وخطر لي أن أسجِّل وجهتَي النظر، ولو دون تعليق من جانبي على أيهما، لكنني عدلت عن ذلك لثقتي في أن كلًّا من الكاتبين سوف يكتب ما يُعتبَر ملخَّصًا للحوار، ولو لم يذكر فيه اسم مُحاوره، وينشره في الصحيفة التي اعتاد النشر فيها، وتصورت أن تصدر هذه المقالات قبل صدور المجلة، فعدلت عن الإشارة إليها، ثم جعلت أتابع تغطية أجهزة الإعلام الغربية للموقف فتذكرت كتاب كارين آرمسترونج عن الحروب الصليبية وهو الكتاب الذي صدر قبل عشر سنوات تقريبًا، وفيه تقول الكاتبة استنادًا إلى استقراء مُتعمِّق للتاريخ أن إسرائيل تمثل للغرب الانتقام الذي تأخَّر لهزيمته في فلسطين على يد صلاح الدين الأيوبي، وأن نفوس الغربيين كانت تتحرَّق شوقًا إلى الأخذ بالثأر من الشرق، وفي فلسطين تحديدًا، في إطار ديني لا في إطار علماني، وذلك هو الذي يُفسِّر تدليل الغرب لإسرائيل، وتغاضيه عن تجاهلها لقرارات الأمم المتَّحدة ومجلس الأمن، كما يفسر أيضًا هجومه الضاري على الإسلام وتشويه صورته، في حين أن القوى الغربية قد تذرَّعت بقرارات مماثلة صادرة من الأمم المتَّحدة لشن الحرب على العراق، وعلى يوغوسلافيا، وعلى أفغانستان! بل إنها تُريد ضرب العراق من جديد استنادًا إلى هذه القرارات نفسها؛ فالواقع هو أن فلسطين لا تزال تمثل دافعًا عاطفيًّا للغرب على ضرب الشرق! وكنتُ أعتزم أن أترجم ذلك الكتاب مع الدكتورة فاطمة نصر، وأن تصدر الترجمة عن دار سطور بالاشتراك مع مركز الدراسات التاريخية بجامعة عين شمس، ولكنَّ المشروع لم يتحقَّق، وإن كان الكتاب قد خلَّف في نفسي انطباعات لا تَنمحي.

٣

كان لديَّ ما يشغلني سوى ذلك آنذاك، وهو العمل على سرعة إصدار كتاب جديد عن نجيب محفوظ بمناسبة بلوغه عامه التسعين، مدَّ الله في عمره، وكان سمير سرحان قد صارحني برغبة الهيئة في الاحتفال بهذه الذكرى، وذكَّرني بالكتاب الأكاديمي الذي كنا أصدرناه غداة حصول الكاتب الكبير على جائزة نوبل (بالإنجليزية) وأشرتُ إليه في واحات مصرية، وتساءل عن إمكان إصدار نسخة له بالعربية بحيث نَحتفل بها في معرض الكتاب؛ إذ كان قد خصص أسبوعًا في المعرض ذلك العام للاحتفاء بنجيب محفوظ، وصدور مثل هذا الكتاب كفيل بجذب الأنظار وإثارة الاهتمام من جديد بعبقرية كاتبنا الفذ. وكان ذلك الحديث قد جرى في أواخر ديسمبر، ولم يكن أمامنا إلا أقل من شهر، فقلت لسمير: إنَّ الكتاب الإنجليزي مُترجَم في معظمه عن أصول عربية — باستثناء مقالات الدكتورة ملك هاشم والدكتورة نهاد صليحة، والدكتورة نيفين غراب، والدكتورة منى مؤنس ودراستي المطولة عن لغة نجيب محفوظ، وباستثناء الببليوغرافيا الإنجليزية الكاملة (حتى ١٩٨٨) التي أعدها الدكتور ماهر شفيق فريد، واقترحت إصدار كتاب يمثل استقبال العالم لنجيب محفوظ وليكن بالعربية والإنجليزية، وأن نُسمِّيه نجيب محفوظ في عيون العالم، بحيث يجد القارئ فيه آراء الأجانب في كاتبنا الكبير، ويجد الدارسُون فيه مراجع أو أسماء المراجع اللازمة للدراسات الخاصة بأدب محفوظ بالعربية أو بالإنجليزية، فوافقني ثم سألني: وهل تستطيع إنجاز ذلك والمعرض على الأبواب؟ فسألته وهل خذلتك يومًا ما؟ فضحك وقال إذن توكَّل على الله! وفي الصباح الباكر اتَّصلت بماهر شفيق فريد وبدأنا العمل!
كنتُ أعرف أن ماهر لديه كتابات في هذا الموضوع، وذكرتُ أنني أشرفت على رسالة دكتوراه أعدتها ماجي نصيف عن اتجاهات النقد الغربي لنجيب محفوظ (عرض لها ماهر في مقال بالعربية)، وأن هناك رسائل جامعية بالإنجليزية عنه (عرض لها ماهر جميعًا)، وكتابًا كتبه رشيد العناني بعنوان البحث عن المعنى بالإنجليزية (عرض له ماهر أيضًا)، لكنَّني كنت أريد استيفاء الموضوع ولم أجد خيرًا من تلميذتي السابقة الدكتورة مها فتحي السعيد للحصول على المادة اللازمة من شبكة الإنترنيت، فاتَّصلت بها وكلفتها بالبحث والحصول على نسخ مطبوعة من كلِّ ما كُتب عن محفوظ بالإنجليزية في أمريكا وأوروبا إن أمكن، كما وجدت في موسوعة الترجمة الأدبية إلى الإنجليزية الصادرة عام ٢٠٠٠م (من تحرير أوليف كلاس) مادة يمكن ترجمتها عن نجيب محفوظ، ومراجع أخرى يمكن الإفادة منها. وهكذا انطلقنا في مطلع عام ٢٠٠٢م نعمل بجد ونشاط في إعداد المادة، فجمعنا ما هو متاح ودفعنا به إلى مكتب الكمبيوتر (أو «الشركة الدولية لخدمات الكمبيوتر» International Computer Services) وأما صاحب المكتب أو الشركة فهو أحمد ششتاوي جاد، لكنه اشتهر بالاسم الأوسط فأصبح يكتفي بأحمد ششتاوي، وقد توثَّقتْ علاقتي به على مر السنوات الست الأخيرة، وبالعاملين معه (أحمد وأسامة وطارق) وبمَن يُساعده في كتابة النصوص الإنجليزية (أحمد عبده) حتى أصبح المكتب يُمثِّل الركن الركين لي في كل ما أنشر من كتبٍ؛ فالعاملون به جادُّون مخلصون ويؤمنون بالعمل إيماني به، وهم من الصفوة حذقًا ومهارةً، حتى الناشئون أو من يُعاونون المكتب مثل مصطفى (أو جمال أو غيره). وشُغلت أنا بكتابة دراسة بالإنجليزية أَرُدُّ بها ردًّا غير مباشر على ما ذكره إدوارد سعيد من أن نجيب محفوظ ليس له مُترجم واحد متخصص في أسلوبه، بل له مترجمون كثيرون، ولكلٍّ منهم أسلوبه، ولذلك فليس من السهل على دارس نجيب محفوظ بالإنجليزية أو على قارئه أن يتبين ملامح ذلك الأسلوب، وكان ردي غير المباشر يقول: إنَّ نجيب محفوظ ليس له أسلوب واحد يمكن اعتباره علَمًا عليه؛ فلقد تطور أسلوبه من العربية الكلاسيكية التي تحفل بالأصداء القرآنية السامية في رواياته الأولى، إلى أسلوب الواقعية التي تتوسَّل بالعربية المعاصرة (Modern Standard Arabic (MSA))، إلى الأسلوب الرمزي والإيحائي، واستعنت في حجتي بدراستي السابقة عنه، وعكفت على الكتابة حتى انتهيت منها في غضون أسبوعين، كما ترجمت مقالات إدوارد سعيد وروجر ألن وريتشارد داير عن نجيب محفوظ، وكان ماهر مشغولًا — ليل نهار — في إعداد أكمل وأشمل ببليوغرافيا إنجليزية لنجيب محفوظ، وفي يوم المناقشة السياسية التي ذكرتها في القسم السابق، كانت المادة قد اكتملت، فعرضتها على سمير سرحان فقرأها واقترح بعض التعديلات، وكتب مقدمتَين؛ مقدمة بالإنجليزية للقسم الإنجليزي وأخرى بالعربية، وبدأت التجارب الطباعية الجادة، ولم يبدأ الاحتفال بنجيب محفوظ في ٢٥ يناير حتى كان الكتاب قد طُبع، وإن كان عدد النسخ التي طبعت محدودًا، لكننا نجحنا في عقد ندوة — في إطار أسبوع نجيب محفوظ بالمعرض عن عالَمية محفوظ، وندوة أخرى عن الترجمة، وقد حظيَت كل منها بتغطية إعلامية لا بأس بها.

ولقد ذكرتُ ذلك كله حتى أضرب مثلًا للتعاون العلمي الذي كان ولا يزال يميز علاقتي بكلٍّ من سمير سرحان وماهر شفيق فريد، وهو التعاون الذي استطعنا بفضله من الانتهاء من هذا الكتاب، الذي أشاد به كلُّ مَن اطلع عليه، في أقل من شهر واحد، وإذا كان صحيحًا أن معظم المادة كانت مُتوافرة لدينا من عملنا الجامعي وجهودنا الدائبة في المجال الثقافي العام، فإن جهد التجميع والتنظيم والعرض لم يكن هينًا، وكان التعاون هو الذي جعل الكتاب يبدو مُتجانسًا وموحَّد الغاية والهدف. وكان من أغرب المفارقات أن أشاهد، أثناء الندوة الخاصة بنجيب محفوظ، «حسن» المخرج جالسًا بين الحاضرين! وحييتُه تحية سريعة أثناء النقاش؛ إذ لم تكن اللحظة مناسبة «للدردشة»، ولكنه اتصل بي — كما توقعت — في اليوم التالي، وأصرَّ على أن يراني في المساء، وحاولتُ التملص لأنني لم أكن أحب السهر في برد يناير، لكنه ألحَّ فأدركت أن لديه قصصًا من أمريكا فوافقت.

الواقع هو أنني كنتُ أريد أن أستمع لوجهة نظره في تأييد أمريكا لإسرائيل، وفي معاملة أمريكا للعرب وللمسلمين بعد أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١م، فلم يكن قد وصل من أمريكا أحد من معارفنا حتى تلك اللحظة ليُخبرَنا عن الأوضاع «على الطبيعة»، ولذلك أعددت نفسي لسماع القصص وتهيَّأت ذهنيًّا للاستيعاب، لكننا ما إن جلسنا في ركننا المفضل في الفندق نفسه حتى فاجأني بقوله: «هذه آخر مرة أزور فيها مصر!» وضحكت رغم أنفي لأنني أعرف الرجل جيدًا وأعرف مدى ارتباطه بالوطن، حتى لو تحاشى لقاء زوجته السابقة، أو تظاهر بتجنُّب «التعامل» مع المصريين، فلم أعلِّق وطلبت القهوة لي وله، وجلست صامتًا، ثم قدمت له بعض كتبي الأخيرة، كدأبي في كل لقاء بيننا، فجعل ينظر فيها كأنما ليشغل يديه وعينيه بشيء، وبعد برهة قال باقتضاب: مبروك! وضحكتُ ثانيًا وقلت له مباشرةً هذه المرة: ما الذي أغضبك هذه المرة من مصر؟ وقال بسرعة: أغضبني؟ كلا لم يُغضبني شيء، لكنني لم أعد أحتمل الهزة النفسية التي أتعرض لها كلما زرتُ مصر، فأنا أبكي حياةً ضائعة، ويذوب قلبي حسرات على ما فاتني من فُرَص النبوغ والإنجاز! فقلت له إنه يستطيع العودة إذا أراد ولن يجد صعوبة في العمل بالإخراج وبالتمثيل بل وبالتأليف، فقال: «قد يكون ذلك صحيحًا من الناحية الموضوعية، ولكنني لا أستطيع الآن نفسيًّا أن أعود لأيٍّ من ذلك! فلقد دخلت في السنوات الأخيرة حلقة مفرغة من العيش الرخيِّ وجمع المال، ولا أستطيع مهما حاولت أن أكسرها أو أن أخرج منها!» وتذكرت صورة الدائرة، وأعجبني أن ألقى صورة أخرى للدائرة المصمتة أي التي لا نجاء منها — والتي جرى العرف على تسميتها بالحلقة المفرغة (Vicious circle) — وتطلعتُ إلى أن يحكي لي حسن عن ظروف وقوعه فيها، فقلت ما كان دبشليم الملك يقوله لبيدبا الفيلسوف في كليلة ودمنة: وكيف كان ذلك؟ فقال حسن:

«تذكر أنني عندما سافرت للمرة الأولى إلى أمريكا منذ خمس سنوات تقريبًا كنت أقول في نفسي: إنها زيارة عمل مؤقتة، وكنت أتصوَّر أنها سوف تنتهي بي، مثل زياراتي للبلاد العربية، إلى عودة «ميمونة» إلى مصر، ولذلك تعمدت أن أُقاوم إغراء الإقامة الدائمة — وهو ما كان يُمكن أن يُصبح غلابًا لو اشتريت منزلًا مثلًا أو تزوجت من أمريكية — بل فضلتُ أن أُقيم في شقة مستأجرة، وأن أتحاشى التخطيط للمستقبل، بل أن أعيش «يومًا بيوم» كما يقولون، وكنت فرحًا لأنني أقيم في مدينة بها مسجد كبير أستطيع أن أصلي فيه الجمعة على الأقل، بل وأن أرتاده كلما أحسست بالضيق، فلا شيء مثل المسجد يربط الإنسان بالجذور، وكنت أفرح عندما أرى المسلمين من غير العرب يؤمُّونه، خصوصًا من بين الأمريكيين، بيضًا أم سودًا. ولكن مهارتي اللغوية — وفي الترجمة تحديدًا — كانت وبالًا عليَّ!»

وكان حسن يعرف أن ذلك سوف يستفزُّني؛ فأنا لا أرى في المهارة اللغوية ما يمكن أن يكون «وبالًا» على أحد، فصمتَ ريثما رشف رشفة من فنجان القهوة ثم عاد ليحكي بإسهاب، كيف أن المسئولين عن المسجد طلبوا منه ترجمة فقرة لإدراجها في خطبة الجمعة؛ فالخطبة كانت تُلقى باللغتين العربية والإنجليزية، وكيف أن الترجمة أعجبتهم، فدفعوا له مبلغًا كبيرًا لا يُوازي في نظره الجهد الذي بذله، لكنه أحب الترجمة وأحب المكافأة، وسرعان ما شغلته الترجمة عن العمل الفني الذي كان يقوم به في أحد الأفلام مُساعدًا لمساعد المخرج (أو لما نُسمِّيه في مصر المخرج المساعد) ولم تمضِ شهور حتى أصبح له رصيد في البنك يفوق كلَّ ما جمعه من العمل في المسلسلات في البلدان العربية، حتى إنه فكر ذات يوم في العمل مُترجمًا بالأمم المتحدة، وأرسل إلى رئيس القسم العربي رسالة بهذا المعنى، فجاءه الرد مُخيِّبًا للآمال، إذ قيل له إنه قد تقدَّم في العمر، وإن عليه أن ينجح في اختبار تعقدُه المنظمة الدولية للمترجمين، كما أن جدول المرتَّبات لم يكن يرقى إلى ما كان يحصل عليه آنذاك من الترجمة الدينية. وتكتَّم حسن خبر اعتزامه تغيير عمله، وحمد الله سرًّا وجهرًا على أن مكَّنه من هذا العمل، وتدريجيًّا أصبحت مشاركته في الأعمال الفنية مشاركة اسمية، وكان لا بد منها حتى يُبرر إقامته في أمريكا، ثم اقترح عليه أحدهم أن يفتتح أو ينشئ مكتبًا للترجمة وأن يُسميَه مكتب الخدمات الإعلامية، وقال له إن ذلك لن يكون ممكنًا قبل أن يحصل على الإقامة بصفة رسمية وشبه دائمة، فصبر حتى حصل على هذه الإقامة وأنشأ المكتب، ولم يكن به غير سكرتيرة أمريكية من أصلٍ عربي، وتعاقد مع مكتب للمحاسبة حتى يتولى أمر الضرائب وما إليها. وقال إنه ما إن حل عام ١٩٩٩م حتى كان قد اعتاد الحياة الجديدة — مع استمرار عمله اسميًّا في شركة الأفلام القديمة — ودون أن يَنطمِس حلم العودة إلى مصر، بل إنه حضر حفل زفاف ابنته في مصر، واطمأنَّ إلى شفاء زوجته السابقة من مرضها القديم (ولو مؤقتًا) وشعر بأنه قد حقق خير حياة يرجوها هنا وهناك، ونال خير ما هنا وخير ما هناك، وقال بالإنجليزية: the best of both worlds؛ إذ كان ما زال يحلم أن يعود فينتج فيلمًا سينمائيًّا لحسابه؛ فلديه ما يكفي، ويتولى إخراجه بنفسه، وقال إنه كان يحلم أيضًا بأن تتولى الشركة التي يعمل فيها توزيعه عالميًّا! وكان حديث حسن يوحي بأن الرياح ستأتي بما لا تشتهي السفن، فطلبت المزيد من القهوة وجعلت أستحثه على الاستمرار.
فقال: «كان المكتب بداية السقوط في بحر العسل، كما يقولون؛ إذ كنت أقول في نفسي إن رصيدي في البنك لم يصل إلى الحد المطلوب، فأضاعف الجهد، وإذا كنت في البداية أقتصر على الترجمة الدينية، فقد أصبحت الآن أقبل ترجمة أي نص، ومهما يكن الموضوع، مما اقتضى الاستعانة بشابٍّ مصري كان يدرس للدكتوراه ثم تزوَّج أمريكية وأصبح في حاجة إلى العمل، ثم بدأت الشركات الأمريكية التي تَبيع منتجاتها في الشرق الأوسط تستعين بالمكتب، ولم تَعُد ترسل النصوص إلى مكتب جنيف (الذي يديره أحد المصريين المقيمين في سويسرا) ثم تطوَّر العمل فأصبحت الشركات تُرسلني للتفاهُم مع وكلائها في البلدان العربية، وقد أتيحت لك فرصة رؤية أحدهم في هذا المكان نفسه منذ عامين، وكنت أستضيف ابنتي لقضاء شهر أو أكثر معي — بصحبة زوجها — دون أن أُفصِح عن طبيعة عملي، بل كنت أثناء وجودهما أتردَّد بانتظام على شركة الأفلام المذكورة حتى أُقنعَها بأنني ما زلت أمارس تخصصي الفني. كانت الهوة تتسع كل يوم، وبانتظام، بين عملي الفني الذي أصبحت أتجاهلُه في واقع الأمر، وبين حياتي الجديدة، ولم يبدأ عام ٢٠٠١م حتى أحسست أنني أصبحت إنسانًا مختلفًا تمام الاختلاف؛ فلقد انقطعت عن أي اتصال لي بالمصريين بل والعرب، بل وانقطعت عن الذهاب إلى المسجد حتى لصلاة الجمعة، وكان إدراكي للانقطاع هو مصدر الألم المُوجع؛ فالذهاب في ذاته لم يكن يمثل قيمة كبيرة، ولكن التوقُّف كان دليلًا على ضعفٍ يتسرَّب إلى نفسي، وكنتُ عندما أخلو إلى نفسي في المساء أجد أنه قد أصبح من العسير عليَّ أن أحاسب نفسي كما كنت أفعل — بل كانت تَنتابني حالات تساؤل تكاد تدفع إلى الجنون — إذ لم أكن أتساءل عن الموت في الغربة، أو ما إذا كنت سأُدفَن هنا أو هناك، أو إذا ما كان ينبغي أن أوصي بحرق جثتي وإرسال الرماد في إناء (urn) إلى زوجتي في مصر — بل كنت أتساءل عن معنى الوجود نفسه ومعنى الحياة، وهي أسئلة وجودية — كما يقولون — لا إجابة لها إلا في الدين، فإذا فزعت إلى الدين واستغرقت في التأمُّلات الدينية وجدت النوم يستعصي عليَّ، وأذكر أنني — وكنا في مطلع ربيع ٢٠٠١م — استشرتُ طبيبًا نفسانيًّا من أصلٍ مصري فوصف لي بعض المنوِّمات، والغريب أن تأثيرها كان شبه معدوم، فخشيتُ الإدمان وأقلعت عن تعاطيها، وعندما ذكرتُ له ذلك قال لي: «السن له أحكام» وعليك أن تشغل نفسك بشيء آخر غير العمل؛ فلقد اجتزت عتبة الشيخوخة ومعظم العاملين في أمريكا يتقاعدون في سنك. وكان كلامه شديد الوقع في نفسي، فأنا صحيح البدن كما ترى، وأنا قادر على العمل، وحبي للمال شهيةٌ لا تَشبع أبدًا، بل إنني اكتشفت أنني أصبحت أبخل على نفسي بما كنتُ أسخو به عليها من المُتَع، لا زهدًا فيها بل ضنًّا بالمال وحرصًا عليه، وحذَّرني الطبيب النفسي ذات يوم من الانزلاق في هذا الطريق؛ لأنه قد يبدأ بالاكتئاب والانسحاب من خضمِّ الحياة العملية ثم ينتهي بمرض نفسي عسير العلاج — بل عضال!»
وتوقف حسن ليتناول شربة ماء، فلمحتُ في عينيه ما يشبه بريق الجنون الذي يُصوِّره الممثلون في السينما، فطلبت المزيد من القهوة وقد قارب الليل على الانتصاف، وقلت له لماذا لم تُفكِّر في نبذ كل شيء والعودة إلى مصر؟ فقال بسرعة إنه فكر في ذلك ألف مرة حتى أصبح من قبيل الهواجس المسيطرة، لكنه كان يجفل في كل مرة حين يذكر نجاح أصدقائه وزملائه، وحين يتذكَّر أنه لم يعدْ له مَن يُمكن اعتباره صديقًا وفيًّا، وقال إنه فكر أن يكتب إليَّ أو أن يدعوني إلى اللحاق به في أمريكا ثم تذكر أنني لن أبرح مصر أبدًا، وقال في حسرة «ليتني كنت مثلك يا عناني» ولكنَّني أفتقر إلى ما تتمتع به من (self-sufficiency) [الاكتفاء الذاتي] ولا أستطيع الحياة إلا مع الناس وبينهم، ثم انطلق يضرب أمثلة للفارق بيني وبينه، واختتم تأملاته قائلًا:

«إنني سجين دوامة الغُربة، ولن أحتمل العودة إلى مصر مرةً أخرى، بل لن أحتمل تذكُّر ما كنته أو ما كان يمكن أن أكونه، فلقد أصبحت شيخًا في النفس لا في البدن، وكان الهروب الذي اخترته ولم يرغمني عليه أحد أقبح اختيار يقدم عليه فنان! إنني أدور في دوائر مفرغة — حلقات خبيثة لا يُمكن أن أكسرها، فلقد وهنت إرادتي وأصبح التخاذل ديدني، حتى عندما أواجه أبسط المواقف وأهونها، فأنا صامت، وأكاد أترك المكتب برمته لصديقي المصري المخلص، فأنا لا أكاد أترجم شيئًا أو أشارك حتى في المراجعة، وأنا لا أعرف حقيقة ما حدث، ولا أظنني أستطيع أن أقطع برأيٍ فيما انتهَيت إليه، وكنتُ أظنُّني قادرًا على العودة إلى الحياة حين أزور مصر فأتحادث مع أصدقائي القدامى وأفيض في وصف حالي وما انتهيت إليه، ولكنني أشعر أنني مهزوم، وأكاد أقول مسلوب الإرادة، فأنا لا أستطيع إقفال المكتب فهو يدرُّ عليَّ أرباحًا طائلة، أو العودة إلى الأعمال الفنية إذ لم أعد قادرًا عليها، وقطعًا لا أستطيع العودة إلى مصر.»

وحاولت تغيير الموضوع حتى نَكسر النغمة الاعترافية التي سادت الجلسة فسألته عن أمريكا وإسرائيل، فكاد يضحك فاستبشرت خيرًا، لكنه قال — رغم ما يُشبه الضحك — إنه يَعجَب لسؤالي؛ فهو واثق أنني أعرف مدى السيطرة اليهودية أو الصهيونية على أجهزة الإعلام في أمريكا وعلى قنوات الإنتاج الفني — ومن بينها السينما — وأن أيَّ محاولة لتغيير الوضع القائم ستَذهب أدراج الرياح، فكيف أتساءل عن ذلك؟ لكنني قلت له إن ثمة أملًا يلوح وهو ما يدلُّ عليه انخفاض أعداد اليهود الأمريكيين الذين يهاجرون إلى إسرائيل فضحك من جديد وهو يستعد للنهوض قائلًا: ولكن اليهود موَّلوا هجرة مليون يهودي روسي تقريبًا إلى إسرائيل، والحكومة الإسرائيلية تعمل جاهدة على إقامة مستوطنات لهم وتحتاج إلى كل شبر من الأرض العربية تستطيع احتلاله! وقلت له: يعني الزمن ليس في صالح العرب؟ فقال ونحن نتَّجه للخروج «الله أعلم! الزمن يا عناني يا خويا ليس في صالح أحد!»

٤

عندما ودعت «حسن» المخرج ذلك المساء، بل وبعد أن ركبت السيارة، لم أجد بنفسي أي رغبة في العودة إلى المنزل، وإن كان الليل قد أوغل، فخرجت من السيارة وانطلقت أسير الهوينى على شاطئ النيل وأتأمل أضواء الشاطئ الآخر، وقد تملكتني فكرة واحدة وهي «الوعي»— فلقد أحسست أن حسنًا كان يُعاني من حدة الوعي، على ندرة تلك الحدة بين مُزاوِلي حرفته؛ فمُعظَم مُمارسي المهن التمثيلية يعيشون اللحظة الحاضرة وحدها دون أن يسمحوا لأذهانهم أن «تعي» ما وراءها وما أمامها، بل إنَّ الكثيرين من «المثقفين» الذين يتركون مصر للحياة خارجها نادرًا ما يسمحون للوعي أن يصل إلى هذه الدرجة من الحدة، فالوعي درجات مثل أي لون من الألوان، وكانت مأساة حسن تتمثل في نظري في أنه ترك مهنة اللحظة الحاضرة فسمح لنفسه ببعض التأمل الذي زاد من حدة وعيه بموقعه في الحياة باعتباره مصريًّا يعيش خارج بلده ويُدرك تمامًا معنى غربته، ثم لا يستطيع أن يضع حدًّا لها، بل يدور في دوامة من الندم والأسى على ما فات وما كان يمكن أن يكون، واعيًا بالحلقة المفرغة التي يعيش فيها ولا يملك أن يكسر طوق حصارها، بعد أن أسلم زمامه للمقادير تجري به كيفما شاءت.

لقد أصبح الوعي في حالة حسن نقمةً تُعذِّبه وتقضُّ مضجعه (فعلًا) وهو يستمسك بقناع من البسمات المصطنعة التي تعينه على مواصلة الحياة، لكنه يخلع القناع عندما نتسامر لأنه — كما قلت — يجد في الحديث معي راحة اعترافية، ولم يكن لديَّ حلٌّ أقترحه عليه؛ فالحلول التي لا تنبع من باطن النفس تستعصي على التنفيذ، خصوصًا حين يكون المرء قد وصل إلى هذه الدرجة من حدة الوعي، وجعلتُ أُقلِّب الأمر على وجوهه فتذكرت حالات مماثلة، نجا أصحابها من هوَّة اليأس أو الاكتئاب أو المرض النفسي الذي قد يتحول إلى جنونٍ صريح بأن شغلوا أنفسهم بالعمل؛ أي بالانغماس في الأعمال التي لا تترك لممارسها فرصة التأمل، وتضع حدودًا حاسمة للوعي، والروائي أو كاتب المسرح الذي يسمح لشخصية من شخصياته أن تكتسب قدرًا متزايدًا من الوعي يكون قد فتح لها طريق المأساة، وكبارُ الكُتَّاب هم الذين ينجحون في الموازنة بين الوعي لدى الشخصية والوعي لدى باقي الشخصيات التي تُمثِّل مجرى الحياة العادية أو الواقع المُعاش، فهكذا يفعل شيكسبير في ماكبث حين يجعل البطل ذا قدرة غير عادية على التأمل والوعي، وما الشعر الذي يُنطقه به شيكسبير إلا دليل على حركة الوعي في أعماقه، بل إن شيكسبير يُحيل بعضَ عوامل الوعي شخصياتٍ مسرحية حية نراها ونسمعها على المسرح، ولو لم يكن ماكبث يتَّسم بهذا القدر المتزايد من الوعي، لما انتهى تلك النهاية الفاجعة، فكم من قتَلة أفلتُوا من العقاب وكم من حكام حققوا كل ما تصبو نفوسهم إليه بقتل المنافسين والنظراء؛ لأنهم استطاعوا التدخل في حركة وعيهم فلم يسمحوا له بأن يستوعب حقائق ما فعلوه، بل قصروه على ما يُصوِّره القناع (persona) ونجحوا بذلك في قهر الوعي الصادق!
ولا بدَّ هنا أن أشرح ما أعني بالوعي المأسوي — تفريقًا له عن وعي القناع — فأقول إنه الوعي الذي يضمُّ خصائص النفس الشعورية أو العاطفية (affective) وخصائص الذهن الحي (intellectual) معًا وفي نفس الوقت، وقد يُطلق البعض على هذا المزيج تعبير (conscience) ولكن الضمير قد يعني اصطلاحًا غير ما يعنيه اشتقاقًا؛ فالمصطلح يعني مجموع النوازع الأخلاقية المستمَدة من المجتمع، بما في ذلك الدين والتقاليد والأعراف، وأما اشتقاقًا فهو يعني كل ما يُضمره الإنسان فلا يُفصح عنه، أو كل ما هو مُضمَر فحسب، سواء كان يشغل مكانًا بارزًا في الوعي أم لا، وأما الوعي الذي أعنيه فهو القدرة على استيعاب الواقع بجميع الطاقات الإنسانية؛ أي إنَّ الضمير بالمعنى المألوف عنصر واحد من عدة عناصر، فإذا أمات الإنسان إحدى طاقاته — مثل طاقة التعاطف مع غيره من البشر أو استيعاب مشاعرهم أو طاقة استقراء معنى الأحداث الخبئ لا الاكتفاء بظاهرها مهما تكن قوة هذا الظاهر — كان بذلك يخطو أول خطوة في طريق تزييف وعيه؛ إذ قد تتلو ذلك خطوات أخرى مثل تضخيم القناع الذي يَرتديه بإضافة عناصر زيف جديدة إليه، أو مثل التعامي عن بعض الحقائق بإخفائها عن حركة وعيِه، أو بطمسها في وعيه طمسًا كاملًا، أو مثل التدخل في تحديد درجات اللونين الأبيض والأسود لأفعاله وأفكاره، وعادةً ما تكون هذه الخطوات تلقائية وذات طابع تدريجي، فكأنما هي تتسلَّل داخل النفس على امتداد سنوات طويلة، وقد تَصحبها أحيانًا مقاوَمة من عناصر أخرى لا تلبث أن تنهزم، وقد يستيقظ أحد هذه العناصر فجأةً فيهز النفس هزًّا، وهو ما جرى العرف على تسميته بيقظة الضمير، ولكن الشائع هو أن الإنسان عادةً ما يتصالح مع وعيه الباطن، وعادةً ما يتدخل في تشكيله حتى لا ينمو فيصبح قوة مؤثرة، بل إنه يعمل — عامدًا أو غير عامد — على إيجاد التناغم بين عناصر الوعي داخل النفس حتى ينعم بالسعادة، وما السعادة إلا التوافق على المستويَين الباطن والظاهر معًا.

وكلَّما أنعمتُ النظر في حالِ حسن، ازداد وضوح الدور الذي «لعبه» الوعي في إحساسه بالضياع؛ فكم من المصريين العاملين في الخارج ينعمون بالبُلَهْنِية المادية ويَطمسون في نفوسهم أي عنصر من عناصر الدَّيْنِ الذي يدينون به لمصر، بل لقد شهدنا منهم من خدع بلده وخانها من خلال إبرام صفقات زائفة مُخاتلة حتى مع الحكومة (مثل ما حدث فيما يُسمى بقضية حديد أسوان) ولكن الغالب أن نرى العامل في الخارج وقد أقنع نفسه بألا يَرعى سوى ذاته، وبأنه لم يَعُد يَنتمي إلا إلى نفسه، حتى لو تحايَل على غيره، ولو أضرَّ به في غمار ذلك، على نحو ما حدث حين تزوج مصري أعرفه خير المعرفة من مصرية مُقيمة في بلد أجنبي، ولا أعرف إن كانت قد حصلت على الجنسية الأجنبية أم لا إذ لم أقابلها إلا عام ١٩٩٣م، لا لشيء إلا ليحصل على الإقامة في البلد الأجنبي الذي كان يُريد الإقامة والعمل فيه، وعندما حصل على بغيته (بعد عام ميلادي كامل) طلقها في القنصلية المصرية، وقد كان يتكتم هذه الواقعة ولا يُشير إليها من قريب أو بعيد، خصوصًا بعد أن أحضر زوجته الأولى من مصر للحياة معه في الخارج، ولم أستطع أن أعرف منه إن كان طلَّقها قبل زواجه من الثانية ثم ردَّها إلى عصمته بعد طلاقه من الثانية أم لا، ولكنني لاحظت أن الثانية قد أصبحت ترتدي الطرحة في المكان الذي تعمل فيه (ويعمل فيه معها كثير من العرب) وكانت تطوف بالمكاتب في أوقات الصلاة لتدعو العاملين من المسلمين إلى ذكر الله، وقال لي أحد الخبثاء إنها تبحث عن زوج جديد، وإنها أصبحت ترتاد المسجد في أوقات الفراغ، وتجلس مُتبتِّلة قانتة في انتظار الفرج، ولاحظت عند الحديث معها كثرة الحوقلة والبسملة، وعندما زرت مكتبها وجدت المصحف مفتوحًا ومن فوقه مسبحة.

وكنت ذات يوم من عام ١٩٩٤م في زيارة لمنزل صديقي محمود يونس في جنيف، وكان قد دعا عددًا من المصريين إلى العشاء، فزوجته زينب تجيد طهو الأطعمة المصرية، وكان من بين المدعوين طارق شرف (رحمه الله) أخو سامي شرف (وقد قصصت قصته في واحات مصرية) وزوجته شادية عبد اللطيف، والدكتور محمود مراد الذي حصل على الدكتوراه في التاريخ الإسلامي من جامعة فرنسية في سيرة ابن هشام (وكان المُمتحن الخارج له هو المصري محمد زكريا عناني أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة الإسكندرية) والحاج لطفي عبيد المترجم (وأخو فاروق عبيد المترجم بالأمم المتَّحدة في نيويورك) وأثناء العشاء قال حاتم — الابن الأصغر لمَحمود يونس — إنه يُريد العودة إلى مصر بعد التخرج لخدمة الإسلام والمسلمين، فقال له الدكتور مراد: «ألا تعلم أن حياة المسلم في الغربة جهاد في سبيل الله؟» ومن ثم انطلق يبين للغلام كيف أن وجود المسلم بين غير المسلمين واستمساكه بدينه جهاد وأي جهاد، فضرب الأمثلة وحكى الحكايات، وكان الباقون يُؤمِّنون على كلامه، ثم قالت شادية إن طارق قد تلقى عرضًا للعودة إلى مصر والعمل بالسياسة (وكنا نعرف أن اللواء كمال حسن علي رئيس الوزراء الأسبق كان قد زار جنيف قبل أيام وقضى فترة في صحبة طارق والأسرة) ولكنه — أضافت شادية — لا يفكر في العودة إيمانًا منه بأن العمل في ديار الغربة جهاد، وكان طارق آنَذاك صامتًا، فإن نطق ردَّد تعاويذ أو آيات، وقال الحاج لطفي عبيد إنه يُعاني الأمرِّين من أجل أولاده الخمسة في بورسعيد، ولكن الناس لا تعرف، والتفتَ محمود إلى ابنه وحاتم وسأله هل اقتنع؟ ولم يكن الموقف يحتاج إلى أسئلة، فلقد ساد وعي الجهاد وكنت الوحيد من بينهم الذي سيعود إلى مصر فلم أشارك بالرأي.

والأمثلة على «الوعي المأسوي» لا تُعدُّ ولا تحصى في الآداب العالَمية، وقد يكفي مثال واحد في هذا السياق، ألا وهو وعي عطيل في المسرحية المسماة باسمه والتي أبدعها شاعر الإنجليزية الأكبر وليمَّ شيكسبير. إنَّ عطيل يعرف أنه «تجاوز» أعراف مدينة البندقية، وهي مدينة دولة، لها حاكمها ولها قوانينها الخاصة، عندما أقدم عطيل — وهو الأجنبي الأسود الذي يعمل قائدًا للأسطول بسبب حنكته البحرية فقط — على الزواج من «ديدمونة» البيضاء وابنة أحد أكابر البلدة. أي إنه كان استوعب في وعيه ذلك «التجاوز»، دون أن يتجاوَز عنه، بل إنه عندما شرح قصة غرامه وزواجه بالفتاة التي تصغره كثيرًا في السن، قدَّم ما يُبين إدراكه لعدم تجاوزه ذلك التجاوز؛ إذ قال إنه كان يَحكي لأبيها الذي كان يُحبُّه حكايات مغامراته والأخطار التي صادفته، وكانت «ديدمونة» تَستمِع إلى حكاياته وتبدي تعاطفها معها، وانتهى عطيل إلى القول:

لقد أحبتي لِما صادفتُه من المخاطر
أما أنا فقد أحببتُها لأنها تعاطفت وأشفقت عليَّ فيها!
She loved me for the dangers I have passed,
And I loved her for she did pity them!
أي إن عطيل قد أقام ما يسمَّى بلغة النقد الحديث اليوم «وعيًا زائفًا» بطبيعة العلاقة التي ربطته بديدمونة، أو ما يُسمِّيه علماء النفس بالتمزُّق في الدوافع، ونُسميه نحن التنازع بين الدافع الشعوري (أو العاطفي) والدافع الذهني (أو المنطقي) إذ كيف يقبل الذهن الواعي ذلك الغرام المشبوب والشواهد العقلانية لا تؤيده؟ ولو كان عطيل قد قبل القناع الذي صنعه ذهنه وصدق أنهما متحابَّان حقًّا (مهما تكن الأسباب) لما اقتنع بالأدلة الواهية على خيانتها ووقع ضحية مكر «ياجو» وخبثِه، لكنه كان منذ البداية مسرحًا لصراع دفين بين عناصر الوعي التي ذكرتها، ونحن نشهد هذا كل يوم في حياتنا المعاصرة، وعندما حادثت أحد أصدقائي في هذا الموضوع، وكانت المناسَبة هي زواج روائي مشهور بفتاة في سنِّ حفيدته، قال لي إن صديقنا ليس عطيل! وبعد مناقشة موجزة قال لي: «أنتم تُعقِّدون الأمور أيها النقاد! والموضوع أبسط من أن يُصبح مسرحًا للصراع بين ما تُسمِّيه عناصر الوعي، فالزواج اتفاق (بمعنى «العقد» contract = agreement) والعقد شرعة المتعاقدين، ولا أرى ما يدعو في كل مرة إلى افتراض «الحب» بالمفهوم الأمريكي الذي يكاد أن يُصبح موضة! فعطيل في نظري مغفل وكان ينبغي أن يُواجه زوجته بالتهمة فور شكه فيها، ولو حدث ما تطورت الأمور إلى هذا الحد المأسوي!» وفهمت منه — وهو صحفيٌّ كبير — أنه يدعو إلى تبسيط العلاقة الزوجية بالمفهوم الذي شاع واستفحل، وهو المفهوم الذي تدعو إليه أم ياسين (على نحو ما صورته في واحات مصرية) أي قصرُه على العلاقة الحميمة بين الزوج وزوجته، وأما ما يُشير إليه باسم المفهوم الأمريكي (وربما كان يَقصد الأوروبي أو الغربي) فربما كان يعني العلاقة المشتركة والمعقَّدة التي تستمر مدى الحياة، ولكنَّني قلت له إنني لا أُقدِّم مفهومًا غربيًّا، بل أقدم المفهوم الإنساني الذي يتخطَّى حدود الأعراف الإقليمية أو المحلية؛ إذ لا يكتب للزواج الاستمرار إذا شابه صراع في الأسس النفسية التي يقوم عليها وأهمها في نظري صدق الوعي بطبيعة العلاقة الزوجية، وحتى على مُستوى «العقد» التي يتحدَّث عنه، أجد نفسي نزَّاعًا إلى افتراض وجود بنود تتعلَّق بالوعي في ذلك العقد، والإخلال بهذه الشروط يَهدم العلاقة مهما تحقَّقت الشروط المادية الأخرى، وما عطيل إلا شخصية في مسرحية، وليس من الإنصاف «النقدي» أن أخرجه منها وأُعامله معاملة البشر الذين يعيشون بين ظهرانينا ونعرف عنهم أكثر مما نعرف عن عطيل! ولكن صديقي — الصحفي الكبير الذي يبدي ميولًا إسلامية واضحة في كتاباته — لجأ إلى ما كاد يجرني إلى مناقشة دينية فأقفلت الموضوع وتركته.

وقد يبدو من حديثي أنني أدعو إلى الوعي الكامل ولو تحوَّل إلى وعي مأسوي، لكنني لا أدعو إلى شيء بل أوضِّح فحسب أن يقظة وعي صديقي حسن، الذي شارف على السبعين، قد أدَّت إلى هموم «وجودية» لا أكاد أرى لها دفعًا، فغيرُه من العاملين في الخارج قد اكتفوا ببعض عناصر الوعي ولجئوا إلى أقنعة حامية، فتوافقوا مع الحياة خارج مصر، سواء في البلاد العربية أو الأجنبية، كما أقصى بعضهم أحلام ممارسة الأدب أو الفن، وقنعوا بالانتقال من يوم ليوم ومن ساعة لساعة في قطار الزمن، دون أن يطلوا من نافذته ليروا العربات وهي تنهَب الأرض نهبًا، إذ أحلوا في وعيهم مشاغل صغيرة تشغلهم عن الهموم «الوجودية»، أحلُّوها وجعلوا منها مسرحًا لوعي متغير يأتي بما هو طريف وظريف كل يوم، فاكتمل لهم هدف التوافُق والتناغُم، ولو أنك تلمح عند بعضهم آثار ذلك الإحلال، وآثار ما خلَّفه من جهد وعناء.

٥

ذكَّرتني حالةُ حسن المخرج بحالة صحفية سأطلق عليها اسم هدى، زارتنا لإجراء مقابلة صحفية مع زوجتي نهاد صليحة، وكان ذلك في مساء أحد أيام الشتاء من عام ١٩٨٨م، إذ جاءت إلى المنزل فجلسنا في الصالة، وقالت «هدى» إنها تفضلها على غرفة المكتب وكان معها زوجها الذي كان — فيما يبدو — قد تجاوز الخمسين، وتطوَّعْتُ أنا باستضافة الزوج في غرفتي حتى تنتهي نهاد من المقابلة، بعد أن عرَّفني بنفسه وقال إنه لن يشغلني بل سيقرأ كتابًا، راجيًا مني ألا أتوقف عن العمل، وكنت مشغولًا بقراءة التجارب المطبعية لكتاب جديد (ترجمة تاجر البندقية) فوضعته جانبًا وأصررت على القيام بواجب الضيافة، وأذكر أنني كنت أضع على المكتب نسخة من مسرحية كوميديا الغربان التي كانت قد صدرت لتوها (في أواخر ١٩٨٧م) فَلَمَحَتْها عينُه وتصفَّحها فوجدها «تشبه الشعر» — كما قال — ولم أجد ما يدعو إلى أن أذكر أن المسرحية مكتوبة بالنَّظم، وإن لم يكن النظم العمودي، إلا في الأغاني وفي الحوار «الرومانسي» بين البطل والبطلة، فلم أُعلِّق وتركته يقرأ حتى توقف عند مقطع سألني عنه فقلت له إنه يُمثل وجهة نَظَرِ «شخصية» درامية معينة في موقف درامي معين، ولا يُمثِّل وجهة نظري أنا، ولكنه ظلَّ يردِّده وهو (عجبًا هل تَأْمَنُ للمرأةْ؟ المرأةُ مخلوقٌ هشٌّ، يُصغي للقلبِ ونجوى الحبِّ ولا يَحفلُ بالمنطقْ!) فحدستُ أن وراءه قصة، ولم أشأ أن أُضيِّع الفرصة، فقلت له: إنَّ المرأة تختلف قطعًا عن الرجل (دون أن أحدد جوانب الاختلاف)، ولم يخب ظني إذ انطلق يحكي كيف انقلبت عليه زوجته، وكيف شجَّعَت ابنتَه على الانحياز إليها والتنكُّر له، بعد أن ساعد زوجته على الارتقاء في سُلَّم التعليم وبلوغ أقصى ما تتمنَّاه، وجعل يحكي لي من التفاصيل ما قد يأنفُ خِلٌّ من حكايته لخِلٍّ صدوق، فكأنما كنتُ أعرفه طول عمري أو كأنما كانت تربطني به صداقة عميقة، وانتهى من السرد بأن قال إنه ردَّ على تنكُّرِها له بأن تزوج من «هدى» الصحفية، ذات الشعر الأصفر، والتي تَصغُره بأعوامٍ كثيرة، لكنها تحبُّه وتُقدِّره، ولقد عوَّض الله صبره خيرًا — بتعبيره — فاستعاض بها عن كل ما مرَّ به من عذاب، وعندما بدأ يسرد التفاصيل التي آنَفُ من ذكرها كانت المقابلة الصحفية قد انتهت، وخرج الضيفان.

وعندما قصصت القصة على نهاد — زوجتي — تعجَّبَت من صراحة الرجل الذي كان يبدو لي في محنة، وعندما قلت لها إنه أكثرَ من التعبير عن إعجابه بزوجته الشقراء ذات الشعر الأصفر، فقالت لي دون اكتراث: «بل هو مصبوغ» فاغتظتُ وقلتُ لها إنه أصفر وقد رأيته فما الذي يَدعوكِ إلى إنكار ذلك، فابتسمت وقالت: «فهل رأيت حاجبَيها؟ إنها ليست شقراء!» وقلت في نفسي فليكن، فهي شقراء في نظره — وكانت مسرحية الغربان ما تزال مفتوحة أمامي على المكتب فقرأتُ قول شاعر القصر:

الواقعُ أن الواقعَ يُخفيه الظاهرْ،
وإذن فالباطنُ واقعْ،
لكنَّ الظاهر أيضًا واقعْ،
والظاهر ليس بِصِنْوٍ للباطن،
وإذن فالواقع ليس بواقع!
وضحكتُ — كما ضحك الدكتور عبد القادر القط عند تحليله للمسرحية في برنامج أمسية ثقافية مع فاروق شوشة — على حديث الشاعر المحترف، لكنَّني أقنعتُ نفسي بأن كلام الشاعر المخاتل في المسرحية يمكن أن يقبله المنطق، وها هو الرجل «يتطوع» بإفشاء أسراره الزوجية لشخص يراه أول مرة، كأنما ليُثبت صدق ما كتبتُه ساخرًا ضاحكًا، وكعادتي بعد الاستماع إلى أمثال تلك القصص، سجلت أهم ما رواه من أحداث فيما أُسمِّيه كراسة المسرح، وأعدت الكراسة إلى الدرج، ونسيت القصة برمتها بعد أيام، ولكنها كانت من القصص التي لا تنتهي بالتسجيل؛ إذ سرعان ما أطَلَّتْ برأسها من جديد في ربيع ذلك العام.
كنت قد عدت من مشاهَدة إحدى تجارب مسرحية الغربان في الطليعة، وكان ماهر شفيق فريد بصحبتي، إذ كنت خرجتُ معه بالسيارة من الجامعة وانشغلنا بالحديث في الطريق فإذا به يجد نفسه في المسرح وقد أظلمت الدنيا والمُمثلون يتكلمون، ولم يشأ أن يُغضبني فمكث معي يستمع، ولم أشأ أن أبتعد به طويلًا عن غرفة مكتبه أو موعد نومه فخرجنا بعد قليل، وأوصلته إلى المنزل، فكانت تلك من المرات النادِرة التي يحضر فيها التجارب المسرحية لأي عمل مسرحي على الإطلاق! أقول كنت عدت لتوي من المسرح حين رن التليفون وكانت المتحدثة هي «هدى»، فقلت لها: إن نهاد قد خرجت فقالت إنها تُريد إجراء مقابلة صحفية معي أنا، فضربت لها موعدًا في الجامعة في اليوم التالي، وكان اليوم الذي أقضيه من الصباح إلى المساء في الكلية، وأتناول الغداء في مطعم بيت الضيافة.

وصلت «هدى» في موعدها تمامًا — وكان الواحدة ظهرًا — ولم أشأ إضاعة الوقت، فلديَّ درس في الثانية، وكان القسم مقفرًا، فطلبت لها الشاي، وفتحَت هي جهاز التسجيل الصوتي الصغير، وانطلقتُ أتكلم بسرعة فأجبت على جميع أسئلتها، وهي صامتة لا تكاد تتدخل فيما كان يعتبر حوارًا، وكان وقت الغداء قد حان أو فات فقدَّمتُ لها بعض البسكوت الذي أحتفظ به في مكتبي، لكنها اعتذرت لأنها تُحاول إنقاص وزنها، فألححت كعادة المصريين؛ فإذا بها تقول: «لا تكن مثل فلان [وذكرت اسم زوجها ولنُطلِق عليه هنا اسم «محسن»] الذي لا يقبل المعارضة!» وشعرت بالحرج فلم أعلِّق. وتشاغلتُ بشرب الشاي، وجعلت أنظر إلى الساعة، كأَّنما لأُذكِّرها بأن الوقت قد تأخر، لكنها تجاهلَت ذلك التلميح، بل تركت جهاز التسجيل موصولًا بفيشة الكهرباء، وواجهتني بسؤال مباشر: «ماذا قال لك، محسن؟» ولم أُبدِ أي تردُّد حتى لا أُثير في نفسها أي قدر من الشك، بل قلت لها إنه يقول إن الله قد عوَّض صبره خيرًا، فعادت تسأل «وماذا قال لك عن زوجته السابقة؟» وكان تعبير «السابقة» غير متوقَّع، فهو لم يقلْ لي إنه طلَّقها، وكنت أستبعد أن يُخفي عنِّي ذلك إن كان قد حدث، فذكرتُ لها أنه قال إنها «انقلبت عليه»، ولم أزدْ، فبدا عليها الارتياح، وعدتُ أنظر إلى الساعة؛ إذ كانت تقترب من الثانية، ولم أكن أريد أن أتأخر على طُلَّابي؛ فطُلَّاب الدراسات العليا يأتون لحضور هذه المحاضرة في يوم الأحد، ويتركون أعمالهم خصوصًا من أجلها، بل إنني لمحتُ بعضهم ينتظر خارج الغرفة، ولما أصرَّت «هدى» على تجاهل نظري إلى الساعة، نَهَضْتُ أنا وقلت لها إن موعد الدرس يَقترب، فقالت إنها تريد صورة شخصية لي، فوعدتها بإحضارها في أقرب فرصة وودَّعْتُها وانصرفَتْ.

وكان من عادتي في يوم الأحد — بعد قضاء النهار كله في الجامعة — أن آويَ إلى الفراش مبكرًا، ولذلك اعتذرت للدكتور فاروق عبد الوهاب الذي كان في مصر آنذاك، وقلت له إنني لن أستطيع الخروج في المساء، وقمت لإعداد طعام العشاء، وإذا ﺑ «هدى» تُحادثني بالتليفون، لتسأل بدايةً عن «الصورة»، ولتحكيَ لي قصة متشابكة معقدة الأطراف، وكانت كلما ذَكَرَتْ شيئًا طريفًا؛ تقول إن عليَّ أن أضعه في المسرحية المقبلة، واستمعت إليها بتأنٍّ وصبر، لكن القصة طالت، والواقع أنها كانت جديرة بموقع في مسرحية ما، لولا أن فصولها لم تكتمل في نظري إلا بعد سنوات، ولولا أن بها ما يجعلها غير صالحة للمسرح، وها أنا ذا أحكيها بعد أن تجمَّعت لديَّ القطع الناقصة (كلها أو معظمها) في مقابلات وأحاديث مُتعدِّدة، وبعد أن اعتبرتها انتهت — على نحو ما سأروي.

كانت هدى من قريبات زوجة «محسن» (وهي الزوجة التي لم أعرف لها اسمًا حتى اليوم) وكانت تُكثِر من زيارتها في المنزل (منزل الأسرة) قبل أن تتزوَّج، وكانتا تتسارَّان وتتبادَلان الحكايات، فهما مُتقاربتان في السن، ومُتقاربتان في المشارب والأهواء، ولو أنَّ «هدى» تَنتمي لفرع الأسرة الغنيِّ، فكانت تَمتلِك عمارة تتكوَّن من سبعة طوابق في شارع مصدق بالدقي، ولم تكن تكترث للدراسة أو تحلم بدخول الجامعة مثل قريبتها «الفقيرة»، فلم تكد تشبُّ عن الطوق حتى جاءها الخُطَّاب يطلبون يدها، ولكنها كانت تتمنَّع وتتدلل، وكانت دائمًا ما تقول إنها تَنتظِر «عريس الأحلام»، وكان الدخل من إيجار الشقق في الستينيات يكفي لتوفير حياة رغيدة لها ولوالدها الذي لم يُنجِب سواها، وكانت له أراضٍ زراعية في العياط، يزُورها من حين لآخر للاطمئنان أو لجمع الإيجار من الفلاحين، وكانت العلاقة وثيقة بين البنت وأبيها منذ الطفولة، وازدادت توثُّقًا بعد وفاة والدتها عام ١٩٧١م، وامتناع الوالد عن الزواج بأخرى حفاظًا على ابنته وصونًا لها من مهانة الخضوع ﻟ «زوجة الأب»، وعندما بلغت العشرين قبلت الزواج من رجل يكبرها بعشرين عامًا، وأقاما في شقة من شقق العمارة، تاركَيْن الوالد وحده، وقالت «هدى» إنها كانت تحسُّ بتأنيب الضمير، وكانت تشكو لزوجة محسن (التي كانت سبقتها بالزواج وأنجبت طفلة جميلة) من وخز الضمير وما تُسبِّبه الوحشة التي يعيش فيها والدها من قلق، ولكن زوجة محسن كانت تطمئنها وتؤكِّد لها أن الصداقة التي تربط عريسها بأبيها (إذ كانا شريكَين في العمل) كفيلة بشغل وقته والتسرية عنه، وكانت تُحدِّثها عن مباهج الزواج وتُسرف في الحديث عن ذلك حتى أيقظت في نفس هدى مشاعر لم تكن راودتْها من قبل، فبدأت تُطالب زوجها بأن يخرج معها وأن يقضي الأماسيَّ معها في المنزل، وكان دائمًا ما يتهرب إما بحجة ضغط العمل مع والدها، أو بحجَّة تركها لمتابعة دراستها في المعهد المتوسط الذي كانت قد التحقت به، وأما حين يزداد إلحاحها فقد كان ينصحها بزيارة زوجة «محسن»، والائتناس بها وتعلُّم رعاية الأطفال منها تمهيدًا لدور الأم الذي قال إنها لا بدَّ أن تنهض به يومًا ما. وقدمت لي «هدى» تحليلًا كاملًا ذات يوم في مكتبي بالقسم بعد ذلك بنحو عامٍ، وكنتُ قد عدت من مؤتمر بالخارج وأحببت أن أطمئن على أحوال القسم — في العطلة الصيفية في عام ١٩٨٩م — فوجدتُها في انتظاري. وكان ذلك التحليل الذي استغرق نحوًا من أربع ساعات يتضمَّن أكمل صورة للتغيُّر الذي جاءت به الأيام في السبعينيات، وأجد فيه الآن أجمل دليل على «عذاب الوعي» (موضوع هذا الفصل) ولذلك فسوف أُوجز ما قالته وما سجلتُه في كراسة المسرح في اليوم نفسه وهو طويل قد يملأ مجلدات، ولكنني سوف أختصره قدر الطاقة. قالت «هدى»:

«هل تعلم أنني كنت محجَّبة؟ [تقصد ترتدي الطرحة] لقد كنت من أوائل الذين عرفوا الطريق إلى الله، فالتحقتُ بالعمل بصحيفة إسلامية، وشجعني زوجي على ذلك، ولم يَعترض والدي، وأنا أتمتع بقدرة كبيرة على التعبير، سرعان ما لفتت إليَّ الأنظار، فتركتُ الشئون الإدارية وعملتُ مساعدة لرئيس التحرير، وكان رجلًا تقيًّا ورعًا، فكلفني بإعداد بعض الموضوعات عن المرأة في الإسلام، ومن هنا انطلقت ولم ألبث أن أثبتُّ وجودي وتفوَّقت على خريجي كلية الإعلام بل وعلى القدماء في المهنة؛ إذ كانت لديَّ سيارة خاصة، وكنت «متحركة» وأحب الناس وأعشق الاستماع إلى أسرارهم وإن كنت لا أنشرها — بطبيعة الحال — وكانت الفترة التي قضيتها في المنزل قبل العمل قد زادت من وزني فبدأت نظامًا غذائيًّا مُحكمًا، وكنت كلما اكتشفت حقائق جديدة عن حياة المرأة بُحْتُ بها لقريبتي وصديقتي زوجة «محسن»، وكانت تتَّصل بي دائمًا حتى وأنا في العمل، ولا تكاد تَشبع من أخباري أول قل من أخبار الناس وأسرارهم.

وذات يوم أثناء حديث عابر مع إحدى الزوجات المُسلمات، أحسستُ أنني زوجة مظلومة، وأن الحرية التي يُتيحها لي زوجي والتي لا يُتيحها زوج المسلمة المذكورة لها، ستار يُخفي إهماله لشيء مُهم، أو قل عدم كفاية أدائه لذلك الشيء، وزاد عندي ذلك الإحساس حتى أصبح هاجسًا أو هواجس، وعندما أفضتُ في هذه الهواجس لقريبتي وصديقتي ضَحِكَتْ وقالت إنها على العكس مني تمامًا، وإنها لا تقبل إلا أن تعيش حياتها كاملة غير منقوصة، فلقد حصلت على البكالوريوس، وهي تكتفي بعملها في «المصلحة» صباحًا ثم تتفرَّغ لزوجها وابنتها ومنزلها مساءً، وقَدَّمَتْ إليَّ عدة نصائح حاولت العمل بها لكنني لم أفلح. وبدأ العذاب الذي كان في منشئه لا يزيد على بعض الأسى، ولم يكن لديَّ سوى قريبتي أشكو إليها، فأكثرت من التردُّد عليها وكنت أفضل أن أترك المنزل الخالي في المساء لأسهر معها، أو على الأقل لقضاء ساعة أو بعض ساعة معها ومع زوجها. وكان الجلوس معهما مصدر سرور وعذاب معًا؛ إذ بدأت أشعر بالحزن لما أنا فيه، وأنا زوجة مُخلِصة لم يرزقني الله بأطفال، ومع أن زوجي لم يكن يفتح موضوع الأطفال معي إطلاقًا، إلا أنني كنت أحسُّ بأن الإنجاب قد يقضي على الهواجس التي تنتابني، ولم أكن أخشى، مثل كثير من الزوجات اللائي أجريتُ معهنَّ مُقابلات صحفية، أن يتركني زوجي من أجل إنجاب طفل من أخرى؛ إذ كان الأطباء يؤكدون أنني قادرة على الإنجاب، وأن الأمر بيد الله وحده، لكنني اكتشفتُ — ويا لهول ما اكتشفت ذات يوم — أنني لا أرغب حقًّا في الإنجاب من زوجي، وأنني ربما كنتُ أرفضه في أعماقي، بل — وهذه هي الطَّامَّة الكبرى — أنني أشعر بنشوة تطير بي إلى السماء السابعة عندما أنظر إلى «محسن» زوج قريبتي أو أستمع لصوته — لو في التليفون!

لك أن تتصور العذاب الذي عشت فيه، وكان أفظع ما فيه عجزي عن البَوح لأحد! كان عليَّ أن أتحمَّل وحدي هذا العذاب، فقررتُ الانقطاع عن زيارة قريبتي، وضاعفت من نشاطي في الصحيفة، لكنها أُغلقت في مطلع الثمانينيات، وأصبح لديَّ فراغ قاتل، ألجأني إلى والدي ألتمس العون، فإذا به يُعاني من مرض عضال، فشُغلت بعلاجه شهورًا متوالية نسيت فيها أحزاني وكل ما يتعلق بحياتي الخاصة، فلقد كان أكثر من أبٍ، وكان يُمثل ركن الثبات في حياتي، وعندما أتى أمر الله تقبلتُه راضية بالقضاء، لكنني أصبحت لا أطيق أن أرى زوجي أو أعود إلى منزلي معه.

وكان زوجي شهمًا وكريمًا — على عكس الكثيرين من أزواج اليوم — فتركني دون الدخول في المفاوَضات المألوفة، فكان طلاقي طلاقًا مثاليًّا، بل إنه ترك القاهرة كلها وانتقل إلى العياط حيث كان مقر عمله في المزرعة أول الأمر مع والدي. وأحسستُ لأول مرة بالحرية، رغم الفراغ؛ فأنا لا أعمل، وليس لديَّ أسرة، وأقربائي — كلهم أو معظمهم — في الصعيد، ولا أجرؤ للأسباب التي ذكرتُها لك على زيارة قريبتي حتى لا أرى «محسن»!

كنتُ أعاني في تلك الأيام من بلبلة لم أعهدها في نفسي من قبل، فلقد حُرِمْتُ من حنان الأب وأنا في مسيس الحاجة إليه، ومن العمل الذي كان يُمكن أن يمتصَّ جهدي في التفكير (بل وفي الإحساس) ومن الزوج وإن لم يكن الزوج الذي أرجوه، ومع ذلك — وهذا مصدر البلبلة — كنت أشعر بسعادة لأنني أستطيع أن أتخيل وجودي مع «محسن»، وأن أضع في خيالي حوارات طويلة معه عن الحياة والمصير والأقدار؛ فهو مثقَّف ومُتحدِّث بارع، بل وكنت أسمح لخيالي أن يشتط بي فيتجاوز الواقع بكل عراقيله، وأنت تعرف ما أعني حين يعيش الإنسان في خيالات لا حق له فيها! وكأنما كان القدر لي بالمرصاد، فلم تمضِ شهور ثلاثة — وكنا في رمضان — إلا ووجدت مَن يطرق بابي على غير انتظار، وكانت قريبتي وصديقتي القديمة زوجة «محسن»! ورحبتُ بها كل الترحيب وأسرعت بالاعتذار عن انقطاعي عن زيارتها بسبب ظروفي، لكنها فاجأتني بما لم يكن في الحسبان. لقد اتهمتْني بأنني أخونها مع زوجها، وقالت إنها تعلم «كل شيء» ورمتْني بأفظع الصفات، وأعلنتْ أنها لن تقبل أن أختطفه من يدها، وأنها سوف تُحارب ذلك بكل ما أُوتِيَتْ من قوة، وأنه إذا كان يريد أن يطلقها فعليه أن يَبيع كل شيء لدفع مؤخر الصداق «المعجز»، وأنها لن تتنازل عن أي شيء؛ فسوف تظل في الشقة لأنها حاضنة، وسوف تؤلب عليه المعارف وتفضحه في مقر عمله، واستمرت في ذلك السيل العارم نحوًا من ساعة، فوجدتُني أنهار باكية وأقسم أغلظ الأيمان على براءتي، وهي تزداد قسوة وغلظة، ثم انتهت بأن قالت: «لقد اختفى منذ مدة! وأنا أعرف أين تُخفينه أيتها اللصة التي ائتمنتها على بيتي!» ثم صفقت الباب وراءها وخرجت.

وأحسستُ بالدوار حتى إنني فكرتُ في أن أفطر ذلك اليوم، لكنني تحاملت على نفسي حتى حان موعد الإفطار فشربت بعض الماء ونمت، واستيقظت على صوت رنين التليفون، وكان صوت زميل لي في الصحيفة التي أغلقتْ أبوابها، يقول لي إن هناك مجلة عربية تبحث عن مراسلات يكتبن عن أحوال المرأة في مصر، وإنه رشَّحني للعمل بسبب خبرتي السابقة بشئون النساء! واستمعت إليه وأنا بين النوم واليقظة — وعندما أفقت تمامًا؛ طلبته في التليفون وسألته إن كان قد اتصل بي حقًّا؛ فدهش وقال: «طبعًا! ولماذا لم تُصدِّقي؟» فلم أجد ما أقوله وشكرته، واتصلت على الفور برقم المجلة الذي أعطاني إياه، فتأكد صدق الخبر، ولم أُضِع وقتًا فقد كنت أحاول نسيان تلك المرأة وما قالته، وخرجت بسيارتي وقابلت رئيس المكتب فرحَّب بي وكلَّفني ببعض المهام، ووقَّعت عقد العمل وخرجتُ لأتناول طعام الإفطار الذي كنت نسيته.

قد لا تصدقني إن قلت لك إنني أنجزت في رمضان ما يتعذر إنجازه في أيام الإفطار، وكنتُ كلما أحسستُ بأنني انتهيت من موضوع فكرت في موضوع آخر وعرضته على رئيس المكتب حتى يتصل بمقر الصحيفة ويعطيني الضوء الأخضر، ولم يأتِ العيد حتى أحسستُ أنني نسيت أو كدت أنسى قريبتي وزوجها، ولكن المكتوب مكتوب؛ إذ كنت عائدة من زيارة قبر والدي في الصعيد — وكنتُ أحمد الله على نجاتي من حادثة سيارة كادت تقضي عليَّ في طريق العياط (وكان الخطأ خطئي أنا بسبب عادة «السرحان» التي اكتسبتُها) — وكنت أحاول أن أجد مكانًا للسيارة وسط الزحام، حين لمحت «محسن» واقفًا يُشير إليَّ بيده! لم أملك أن أتجاهله؛ فالواضح أنه كان ينتظرني، وكنتُ — مهما أنكرت — أحس بالعذاب في بُعْدِي عنه، فرددتُ الإشارة، وتركت السيارة للسائس، وتحكمت في مشيتي وتعبير وجهي حتى لا أبدو متلهِّفة على لقائه — وسلمت عليه ثم سرنا خطوات في الشارع، دون أن نتبادل كلمات كثيرة، ثم توقفتُ كأنما لأستجمع شجاعتي وأواجهه — وإن كنت لا أعرف ماذا يمكنني أن أقول له! إنه موقف يتطلب أديبًا محترفًا حتى يفرد له الصفحات، لكنَّني أقول لك فحسب إنني أحسست في داخلي دموعًا لا أسمح لعيني بأن تَذرفها، وشعرت بأنني أريده أن يَختطفني فيطير بي بعيدًا عن العالم الذي لم يعد له طعم ولا لون! لكنني تجلدت، وعندما طلب مني أن أسمح له بأن يُكلمني في التليفون وافقت. واستأذن ومضى.

لم أنم تلك الليلة في انتظار المكالمة غير أنها لم تأتِ إلا صباح اليوم التالي، ولم تكن مكالمة طويلة، لكنها كانت الروح التي أعادتني إلى الدنيا، فلقد طلب مني أن أتزوَّجه واشترط أن تقتصر إجابتي على «نعم» أو «لا»، فإذا كانت بالموافقة فلي أن أصمت وسوف يُفسِّر الصمت على أنه قبول، وصمتُّ لا لأنَّني وافقت ولكن لأن الذهول عقد لساني، فجاءني صوته يقول: «إذن خير البر عاجله! وسوف نذهب في الصباح إلى المأذون مع بعض أصدقائي ولا تَحملي همًّا لشيء! سوف أحادثك في المساء اليوم للاطمئنان.» ثم وضع السماعة.

كنت أريد أن أعرف ما حدث بينه وبين زوجته، وأريد أن أعرف ما لا يحصى من الأشياء، لكنَّني كنتُ كالمُسيَّرة مسلوبة الإرادة، أو كالمنوَّمَة تنويمًا مغناطيسيًّا، وحتى حين حادثته في التليفون ذلك المساء كنت أشعر أن صوتي يأتي من مكان غريب عن جسدي، وكان رنينه يدهشني، ولم يكن إحساسي — قطعًا — إحساس من تُقبِل على الزواج، فلم أكن أشعر أنني عروس أُزَفُّ إلى عريس، والواقع أنني لا أعرف بمَ كنت أشعر! وبينما أنا أحاول النوم رنَّ جرس التليفون وكان الصوت صوت سكرتيرة مدير المكتب، فسألتُها ما الخبر فقالت إن النقود قد وصلت وعليَّ أن أمرَّ على المكتب في الصباح لتسلُّم المال! لم أعرف ماذا أقول ولكنَّني تمالكت نفسي وقلت لها إنني لن أستطيع لأنني سوف أتزوج في الصباح عند مأذون الدقي، فقالت لي مبروك وانتهت المكالمة! وأحسستُ عندما قلت ذلك أنه أصبح حقيقة واقعة لا رجوع عنها، فنمت نومًا عميقًا وصحوت في الفجر واتجهت وحدي بالسيارة إلى مأذون الدقي، ففوجئتُ بحشدٍ حاشد من أصدقاء «محسن» ومن العاملين في مكتب المجلة، وبعد عقدِ القران اتَّجهنا بسيارتي إلى فندق مينا هاوس حيث كان قد حجز غرفة كبيرة لنا.»

وقالت «هدى» بعد الاستغراق في هذه التفاصيل الدقيقة إن ذلك كان يمثل بداية الوقوع في «بحر العسل» (وهو التعبير الذي استخدمه «حسن» المخرج فأعاد إلى ذهني هذه القصة) وكانت تقصد أنها كانت تتمتَّع بكل دقيقة في حياتها الجديدة، حتى بعد أن اكتشفت أن قريبتها (وصديقتها القديمة) ما زالت «على ذمَّة» زوجها! وكانت تقصد أنها لم تحاول أن تطلب من «محسن» تطليق زوجته، فربما كان ذلك يتطلَّب نفقات لا يستطيع تحمُّلها، كما أنه مسئول شرعًا عن تربية ابنته، وربما كان لا يزال يحب زوجته الأولى فهي لا تَعرف الكثير عن «نفسية الرجال» — كما تسميها — ولا تريد أن تستبق الأحداث فتعكر صفو الهناء الذي تعيش فيه. واهتدى ذهنها إلى حيلة تنقذها من الحيرة وهي أن تقنع نفسها بأن زوجها قد طلَّق زوجته القديمة، وأنه قد أصبح لها وحدها، وقضت شهورًا طويلة — وكان ذلك في صيف عام ١٩٨٣م — وهي لا تُريد أن تعرف إلا أنها قد تزوَّجت من هذا الرجل «الحلم» كما كانت تُسمِّيه، ورسَّخت في نفسها الاعتقاد بأن زوجته الأولى قد أصبحت «طليقة»، خصوصًا لأنه كان يقضي كل وقته معها هي، ولا يكاد يزور الأولى، ثم أقنعها هو آخر الأمر بأن تنتسب إلى كلية الآداب، فحصلت على الثانوية العامة من جديد، واختار لها قسم الفلسفة بعد أن ترقَّى فأصبح موجهًا أول للفلسفة، وانتدب للعمل في ديوان الوزارة، وكان يتنافس على الحصول على منصب مستشار الفلسفة (أو العلوم الاجتماعية) مع بعض أقرانه وأذكر أنني كنتُ لمحتُ اسمه ذات يوم على أحد كتب الوزارة وإن كنت غير واثق، فاسمه مألوف، ويتسمَّى به المئات بل الألوف من أبناء مصر.

وسوف أقف هنا عند مفهوم «بحر العسل» الذي شغلني على امتداد عام ١٩٨٩م، فلقد استوعبت رواية «هدى» لما حدث لها، وأزحت التفاصيل جانبًا وركزت على الدور الذي يلعبه الوعي في بناء هناء الإنسان أو شقائه؛ إذ كان من الواضح لي أن «هدى» كانت تخدع نفسها واعيةً، وكانت تدرك تمامًا ما قرَّرت أن تفعله بحياتها بعد تجربة زواجها الفاشلة، وساعدها في ذلك توقُّد ذهنها ورجاحة عقلها، وعزيمتها التي كثيرًا ما ألمح نظائر لها في أبناء الجيل الجديد؛ فهي من مواليد الخمسينيات كما قالت وإن لم تُحدِّد لي السنة، وأنا أرجِّح أنها من مواليد أوائل الخمسينيات كما أنها تَنتمي إلى الجيل الذي كان يؤمن بالعلم والعمل، ولم يَحُلْ ثراؤها النسبي دون مواصلة الدراسة وحُب الكتابة والقراءة، وكان واضحًا لي في إبَّان عام ١٩٨٩م أنها تمر بأزمة، وأن زوجها كان يمر هو الآخر بأزمة، ولذلك استعنت بعين الكاتب (التي أشرتُ إليها في فصل سابق) في وضع كل منهما في مكانه باعتباره من الشخصيات التي سوف أعود إليها عندما يُجبرني عمل مسرحي ما على نشدان مثل هذه النماذج، وإن كنت في أعماقي أُكِنُّ إعجابًا لكل من يستطيع إنهاء علاقة والشروع في أخرى، فأنا أرى أن ذلك يتسبب في زلزلة كيان الإنسان نفسيًّا وذهنيًّا — إلى حد لا أستطيع تقبله ولو في خيالي!

وأعود إلى «بحر العسل». فهمتُ من هدى (في لقاءاتنا المتعدِّدة)، وممَّا قاله لي «محسن» طيلة انشغال هدى بالمقابلة الصحفية مع نهاد زوجتي، أنَّ العلاقة الزوجية بينهما كانت وثيقة إلى درجة شاذة — بمعنى غير مألوفة أو غير عادية — فهما لا يكادان يَفترقان، وحاولت بالقدر المحدود الذي أُلِمُّ به من علم النفس أن أفسر سرَّ ذلك فلم أفلح، بل إنني كنت أضع احتمالات متعدِّدة وأوازن بينها في خيالي ثم لا أنتهي إلى شيء. وفي فبراير ١٩٩٢م، أثناء عرض مسرحيتي جاسوس في قصر السلطان في المسرح القومي، قابلتُهما معًا في بوفيه مسرح الأزبكية (مسرح جورج أبيض) حيث تُعرض المسرحية، ولن أنسى تلك اللحظة ما حييت؛ إذ كنت أتكلَّم مع الدكتور حسنين ربيع عن الحادثة التاريخية التي تُصوِّرها المسرحية، فهو أستاذ تاريخ متخصِّص في تلك الفترة، وكان عميدًا لكليتِنا آنذاك، وكان يعترض على تصوير الممثل محمد أبو العينين للسلطان، حين رأيتهما أمامي معًا بعد سنوات طويلة، فأعادت المقابلة إلى ذهني ما قاله كلٌّ منهما لي، ودَعَوْتُهُمَا إلى الشاي، وأثناء وقوفنا أمام عامل البوفيه وجدت من يتقدَّم مِنِّي — أو منَّا — وكان الكاتب والمحلِّل السياسي رجب البنا (رئيس تحرير مجلَّة أكتوبر ورئيس مجلس إدارة دار المعارف اليوم — ٢٠٠٢م) فتصوَّرت أنه يريد تهنئتي فحسب، لكنه — بعد التهنئة — رحَّب بحرارة ﺑ «محسن» وعرفه بنفسه وذكره بأنه كان يدرس له العلوم الاجتماعية في الخمسينيات في مدرسة دمنهور الثانوية! وما إن أفقتُ من دهشتي حتى وجدت عبد الوهاب مطاوع، الكاتب المبدع، واقفًا بجواري يرشف الشاي ويقول في همس خفيض «مبروك»! وقلت في نفسي ليت ذلك الكاتب البارع يَطَّلِع على تلك القصة التي أختزنها فيُصدِر لنا فتواه فيها! غير أن الاستراحة انتهت، فسرتُ معهما حتى باب الصالة، لكن «محسن» قال إنه يريدني في أمرٍ هام، فسرت معه إلى ركن في الصالة المظلمة، وجلسنا وطلبت المزيد من الشاي، فقصَّ عليَّ المزيد، ولم نَنهض في الواقع حتى انتهت المسرحية وخرجتْ هدى ووعدتني بالكتابة عنها ثم افترقنا.

بدأ محسن حديثه بأن طلب مني التوسُّط بما يظنُّه لديَّ من نفوذ في وزارة التربية والتعليم حتى يصدر الوزير قرارًا بمد خدمته عامًا آخر؛ إذ كان سوف يُحال إلى التقاعد في العام التالي، وهو في مسيس الحاجة إلى العمل، ووعدته خيرًا — بطبيعة الحال — وإن كنت أشكُّ في إمكان تحقيق مطلبه، ثم تطرق الحديث إلى ابنته التي أصبحت في الثانوية العامة و«تحلم» بالالتحاق بقسم اللغة الإنجليزية، وفهمت الرسالة أيضًا، وكنتُ أريد أن أسأله أسئلة «شخصية» لكنني ترددت وإن كنت آمُل في أعماقي أن يتحدَّث هو دون أن أسأل، وذلك ما حدث فعلًا؛ إذ بدأ بالإشارة إلى تصوير «خاتون» في مسرحيتي، وهي الفتاة التي تعيش في خدر من خدور القصر وتحلم بعريس الأحلام، وأسرع يقول لي إن هذه هي الفتاة المصرية الحقيقية، لا الفتاة العاملة التي تنقلب على زوجها حين تُواتيها الفرصة، كما فعلت زوجته الأولى، وذكرني بما قصَّه عليَّ منذ أربع سنوات تقريبًا، ولم أكن قد نسيته، ثم أضاف إن المجتمع قد أخطأ حين سمح للمرأة بالتعليم ومنحها جميع الحقوق التي يتمتَّع بها الرجل انطلاقًا من افتراض المساواة الكاملة بين الجنسين، وتساءل في شبه مرارة: «ولكن هل هذا افتراض صحيح؟ إذا كنا نبني هذا الاستنتاج أو تلك النتيجة على أساس «مقدمة منطقية» غير مؤكَّدة الصحة، فلن تكون النتيجة مؤكدة الصحة!» وقلت له إنه يستخدم منطق أرسطو فيما لا يصحُّ فيه منطق أرسطو؛ فالمقدمة لا تَفترض المساواة في كل شيء بل في الحقوق والواجبات فقط وهي التي لا بدَّ أن يتساوى فيها جميع أبناء البلد الواحد في المُجتمَع المدني، وأمام القانون، وكنت سأمضي في شرح ما هو معروف حين قال لي فجأة: «المرأة هي المرأة في كل عصر وفي كل مكان، وهي لا تُريد إلا امتلاك الرجل بدافع الأمن لحياتها، فغريزة الإنجاب والأمومة قائمة ومركَّبة فيها ولو لم تنجب! إن علاقتها بالآخرين علاقة مَنْ تخرج الإنسان من بطنِها إلى الحياة فتتصوَّر أنه جزء منها ويَنتمي إليها، سواء كان رجلًا أم امرأة، ومن هنا جاء حب الامتلاك والسيطرة!»

وطلبت المزيد من الشاي، وانطلق هو فقصَّ عليَّ كيف تتنازعه امرأتان، وهو يشعر بأنه ظالمٌ لكلَيهما، وأن ما تُطالبانه به أكثر من طاقته البدنية، فلم يعد شابًّا، وأنه أخطأ مرتين، الأولى حين ساعد زوجته الأولى (التي كانت ما زالت في عصمته) على الارتقاء في سلَّم التعليم إلى نهايته، فانقلبت عليه وأصبحت لا تُريده أن ينظر إلى سواها من البشر، ولا أن يُفكِّر إلا فيها، وكانت تراقبه مراقبة مُضنية وتحرمه أحيانًا مما هو حق له، فتمرَّد وأعلن حريته بالزواج من هدى، وكانت المرة الثانية حين تصوَّر أن «هدى» سوف تُعطيه حقوقه دون تنغيصٍ أو امتلاك، فإذا بها نسخة مُكرَّرة من زوجته الأولى مع فارق أساسي هو أنها لم تنجب فأصبحت تعتبره ابنًا لها، وتصحبُه معها في كل مكان، «مثلما حدث عندما زُرناكم في المنزل!» فقلت له إنني كنت أتصوَّر أنك أنت الذي أصررت على اصطحابها، فضحكَ ضحكة مريرة وقال: إن أخشى ما أخشاه هو المعاش (التقاعد)، فأنا الآن أتهرَّب منها بحُجة العمل، وأما حين أتقاعد فكيف أهرب من قبضتها؟ ومن ثمَّ كرر «محسن» طلبه لي بأن أتوسَّط لدى مَن أعرفهم في مكتب الوزير؛ فهو يعرف أنني أعرف الكثيرين، ويعرف أنني «خدوم» ولن أتأخر عن فعل ما أستطيع لمساعدته، وعندما بدأت أرد على حُجَجه الخاصة بالامتلاك وأنانية المرأة؛ لأقول له إن الرجل هو الذي لا يُريد لأحد أن يشاركه «ما يملك»، سمعنا التصفيق في الصالة، فنهض كأنما لإنهاء الحوار احتجاجًا بانتهاء المسرحية، وإن كنتُ واثقًا أنه يتهرب من مواجَهة ما كان واضحًا لي — أو ما اتَّضح لي آنذاك — كل الوضوح، ونهضت أنا أيضًا ولكن المسرحية لم تكن قد انتهت، فخطا خُطوة متردِّدة نحو الباب ثم مال عليَّ هامسًا:

«هل تعرف أنها كانت محجَّبة؟ وأنني أنا الذي أقنعتها بالتحرُّر من الطرحة استنادًا إلى أقوال الإمام الغزالي — رحمه الله — فلا يوجد شيء اسمه الزي الإسلامي، بل توجد الحشمة أو لا توجد، والحشمة قد تكون في الملبس أو في السلوك أو في داخل النفس! أنا الذي حررتُها من التظاهر وعلمتها فضيلة الصدق مع النفس … حررتها فاستعبدتني بكل معنى الكلمة! أليست هذه مفارقة؟»

وقلت له وهل فكرت في أن تتركها؟ وشرحتُ بسرعة ما أعني كي لا يغضب: «أقصد إن كنت ترى في العلاقة استعبادًا فتحرَّر منها!» فإذا به يقول في أسى: «ليتني أستطيع! لقد أعادت صياغة حياتي في هذه السنوات العشر؛ فأنا أرى فيها شبابي، ولو أنها شارَفَت على الأربعين، إنها امرأة نادرة، ولن تتكرَّر!» وأدركت أنه قد وقع هو الآخر في «بحر العسل» دون أن يدري، ودون أن تخطر العبارة بباله! وانتهت المسرحية، وخرجت «هدى» فاطمأنَّت على أنه كان معي طول الوقت، وتأكَّدَتْ أنني حصلت منه على رقم التليفون، ثم خرجا معًا، وخرجتُ وحدي — لم أكن أريد أن أسمع تعليقات أو انتقادات أو حتى مدائح، إذ شغلتني كلماته، مثلما شغلتني كلمات «هدى» من قبل، وتمنيت في تلك اللحظة أن أكون كاتبًا روائيًّا حتى أسجل التفاصيل التي ازدحم بها ذهني، وأن أملأ فجوات القصة من نبع خيالي، فما أكثر ما كنتُ أجهله، خصوصًا عن الزوجة الأولى والابنة — وما أكثر ما كنت أريد أن أعرفه!

وتأملت ظلَّ الزوجِ وزوجته وهما يسيران جنبًا إلى جنب خارجَين من المسرح، وتابعتهما ببصري وهما يركبان السيارة ثم ينطلقان بصعوبة إلى ميدان العتبة، وقلت في نفسي: إن «الوعي» هنا جحيم أُلقيَ بهما فيه، سواء كان ذلك بإرادتهما أم رغمًا عنهما، فكلٌّ منهما يعي حاله تمامًا ولا يخدع نفسه قطُّ، وكل منهما يحتمل لظى الوعي وشواظ لهيبه، وكلٌّ منهما يدور في «حلقة مفرغة» لا نهاية لها؛ لأن الوعي يمنع من كسرها ويحافظ على استمرارها، وقلت في نفسي، بعد أن انصرف الجمهور وعلى وجوههم تعبيرات مُتباينة، كم منهم يدور في دورة الوعي الجهنمية نفسها؟ ترى ما حال الزوجة الأولى التي يُصوِّرها كل منهما في صورة شيطانية؟ ترى ماذا تفعل في هذه الليلة مع ابنتها التي تُكابد أهوال الثانوية العامة؟ تُرى ما دخل العامل المادي (المال) في هذه العلاقة أو هذه العلاقات المتشابكة؟ وعندما عدت إلى المنزل جلست إلى المكتب فسجلت ملخصًا وافيًا لما دار في ذلك المساء، ولم أعد إليه إلا بعد سنوات!

٦

لم يُكتَب لي أن أعرف المزيد من التفاصيل عن قصة «هدى» و«محسن» قبل أن أشهد نهايتها، وإن كنتُ رأيت نظائر لها في بعض ما شهدته من أحداث، فهي تشبه في بعض ملامحها قصة صديقة لأخت زوجتي، وقصة صديق لي أعرفه منذ الصبا، وفي كل قصةٍ أجد أن «جحيم الوعي» أفظع كثيرًا من الأقنعة الرحيمة التي تحدثت عنها في الفصل الأول، فعلى نحو ما يقول ت. س. إليوت في إحدى مسرحياته، لا يستطيع الإنسان أن يحتمل جرعة أكبر مما يَنبغي من الواقع، وكلما ازدادت الجرعة ازداد نشدانًا لما يُخفِّف منها أو يساعده على تحملها، إما بالتدرع بالقناع أو بالهروب إلى ما يحميه من الواقع، وأنا نفسي ألجأ إلى العلاجين؛ فأحيانًا ما أرتدي قناع الأديب المبدع، على صغر حظي من الموهبة الأدبية أو الإبداعية، أو أهرب إلى مشاغل الترجمة والمعرفة هربًا من الواقع الذي يجثم على صدري منذ أن عربد مبضع الجراح في وجهي فشوَّهه، وكنتُ بعد في مطلع الخمسينيات من عمري أضع الخطط للمستقبل وأرسم أحلام الإنجاز والنبوغ! لكن الوعي لا يترك لي فرصة الهناء بالقناع أو بالهرب، فأتحوَّل فرارًا من نفسي في أحيان أخرى إلى الناس، فأجد فيهم العزاء والسلوى، وأجد في تأمل ما يزخر به الماضي من الأحداث، مهما يكن خطرها، قُدرة خاصة على التسرية والتلطيف، ولا بد أن صنعة المسرحي قد ساعدتني على ارتداء أقنعة كثيرة، واستعارة أقنعة الكثيرين، أو تقمُّص أدوارهم، نشدانًا لحيوات أخرى داخل نفوسهم، فحياة واحدة لا تَكفي، وزمن الرومانسي كثافة وعمق كما ذكرت من قبل.

لم يُكتب لي أن أتوسَّط لدى أحد في مكتب الوزير حتى يَمنح محسن المد الذي كان يطلبه، إذ شُغلت بالمرض طيلة عام ١٩٩٣م، وعندما عدت إلى الحياة كانت الدنيا قد اختلفت في عيني، وكانت الأحداث السابقة للمرض تلوح لي كأنما وقعت في زمن سحيق، وكنت أطلق على هذا الزمن «ما قبل الطوفان» (pre-diluvian) فكأنما كنت أشعر أنني قد نجوت من طوفان نوح في السفينة (الفُلْكِ) وأنني ولدتُ من جديد فانقطعت صلتي تمامًا بما كان من قبل، أو بما كان يُمكن أن يكون، ما دام العالم قد اختلف، فكأنما انكسرت الدوائر، وانقطعت المسائر والمصائر! ولكن ذلك كان — كما اتَّضح لي من أوهام الصدمة وحسب، فدوائر الحياة مُستمرة، و«الحلقات المفرغة» قائمة، والأقنعة مُزدهرة، والوعي يُشعُّ لظاه فيشوي الوجوه! ولم أتبين ذلك إلا بمَحض المصادَفة ذات يوم أثناء زيارة للتجارب المسرحية التي كان محمد جابر المخرج يُجريها لترجمتي ليوليوس قيصر (مسرحية شيكسبير الرائعة) في مسرح الطليعة، في أواخر التسعينيات؛ إذ لمحتْ عيني في الصالة وجهًا يُشبه وجه هدى وبجوارها شخص لا أعرفه، فأنعمت النظر لكنني لم أتحقَّق مما رأيت وشغلتني البروفة عن معاودة الكَرَّة.

وعندما أضيئت أنوار الصالة وجدت «هدى» بشحمها ولحمها مقبلةً عليَّ هاشَّة باشَّة، ومن خلفها شابٌّ فارع الطول تُوحي ملامحه بالقرابة لمحسن، وإن كان في مُقتبل العمر قوي البنيان مفتول العضل، وعقدت الدهشة لساني فلم أدرِ ما أقول، ولكن «هدى» انطلقت تتكلم عن المسرحية وجمال الترجمة، ثم قالت كأنما بعبارة عارضة «كانت من أحب المسرحيات إلى قلب المرحوم «محسن»!» وأدرَكَتْ بفطنتِها أنني لم أكن أعلم بوفاته فأسرعتْ تضيف «لم يُطقْ صدمة المعاش فمات!» وتمتمتُ أنا «الله يرحمه» و«البقية في حياتك»، ولكنها تجاهلت مجاملتي وتحولت إلى الحديث عن مرضي فأكَّدتْ لي أنها كانت دائمة السؤال عني، ولو أنها لم تتمكن من الاتصال بي بسبب غيابها خارج مصر، إذ صَحِبَتْ زوجها الحالي (وأشارت إلى الشاب مفتول العضل) في إعارته إلى بلدٍ عربي شقيق! وظللتُ أسمعُ ولا أكاد أتكلَّم حتى أمر المخرج بعودة الممثلين إلى المسرح، واعتذرَتْ هي عن متابعة البروفة قائلةً: إن لديها مشاغل ملحَّة وخرجتْ مع زوجها إلى حيث يعلم الله!

وتساءلت في نفسي تُرَى كم عمرها الآن؟ لا بدَّ أنها قاربت الخمسين! لكنني أحسست بأن الهواجس الخبيثة هي التي تُملي ذلك الرقم فاستعذتُ بالله من الشيطان الرجيم وقلت ما أقوله أحيانًا حين أسمع تلك الهواجس «ربنا يسهل لها! خلْقُ الله في مُلْكِ الله!» ولكن خبر وفاة «محسن» هزَّني هزًّا، ولا أذكر أنني اهتززتُ لوفاة أحد قبل ذلك إلا عندما قرأت نعي صديقي عبد الفتاح العدوي قبل عشر سنوات، وعلمت في غضون شهور من وفاته بوفاة الدكتورة سامية أسعد — الأستاذة في قسم اللغة الفرنسية وزميلتي في «فريق الترجمة الطائر» (أي العامل بالمؤتمرات الدولية) إذ تبرز هذه اللحظات في أعماق وعيي كلما استغرقني تيار الحياة وجرفتني الأحداث اليومية المتلاحقة بتفاهاتها التي لا تنتهي.

نعم، الوعي هو جحيم الإنسان؛ لأن أثقاله أكبر من طاقته البشرية، وأنا — كما قلت — أرى أنه الأمانة التي عرضها الله على السموات والأرض والجبال فَأَبَيْنَ أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، الظلوم الجهول؛ فالهاجس الخبيث كان يقول لي: إن «هدى» هي الأرض الأم (a mother earth) وهي الصورة الأدبية التي اختارها الشعراء للتعبير عن رحم الأرض الذي يخرج منه الإنسان ليعود إليه، وأحيانًا ما يُوازنون بينه وبين «الدنيا» التي يصورونها في صورة المرأة المهلكة (femme fatale) أي التي تُغري فتغوي وتَلتهِم فتزدرد، ومن منَّا لم تشغله الدنيا حتى أنسته نفسه ولو في لحظة قد تمتدُّ فتُصبح دهرًا، وقد تقصر فتمر مر السحاب، وأما الهزة التي أصابتني عندما بلغني نبأ وفاة «محسن» (ولو من سنوات طويلة) فسببها أن شيئًا ما في أعماق وعيي كان يخشى تلك النهاية المفاجئة، وأما ارتباط تلك الهزة بنبأ وفاة عبد الفتاح العدوي وسامية أسعد؛ فهو أن الأول كان يعمل بعد عودته من الإعارة في إدارة مكتب للإعلام (للنشر والترجمة) وكان قد كلف الدكتورة سامية بترجمة كتاب عن «البهائية» إلى اللغة الفرنسية، وكلف الدكتورة سلوى كامل أستاذة اللغة الإنجليزية في قسمنا والمترجمة الفذة (والشاعرة المرهَفة) بترجمته إلى الإنجليزية، وكانت «هدى» تعمل في المكتب «بعض الوقت» — وفجأة انهار المشروع لأسباب قدرية، فلم يحصل المترجمان على حقوقهما، ولم ينشر الكتاب، وسافرت الدكتورة سلوى في إعارة وتُوفي «محسن».

كيف اجتمعت هذه الأحداث في أعماق وعيي وأنا أسمع نبأ وفاته؟

إنها صورة الأرض الأم التي تدعو أبناءها إلى العودة بأن تشغلهم عما وراءها — ما قبلها وما بعدها — كما يقول وردزورث (في قصيدة خاطرات الخلود — الفقرة ٦):
الأرض تملأ حجرها بملاذٍّ من ملاذِّها!
فتلك من أشواقها،
وتنتمي لطبعها،
وبلمسة من فكر عقل الأمِّ،
ولغايةٍ قد لا تُذَمُّ،
تقوم تلك المرضعة،
حتى وإن تكُ ساذجة،
بفعل ما في طوقها لتجعل ابنها،
بل من تبنَّته هنا،
أي تجعل الإنسان قاطنها،
لا يذكر المجد الذي عرفه،
والقصر الإمبراطوري بعدما غادره!
والأرض تتمثَّل في الأدب في صورة مَن تهبُ الحياة (الأم) وتسلبها (الزوجة) حتى تهبَها من جدِّي (للابن) ولذلك فهي صورة دائرية تَنتمي إلى الأنماط الفِطرية التي سبق أن تحدَّثت عنها، والمعروف أن «النمط الفطري» يتضمَّن المفارقة في كُنهه؛ فالأرض هي التراب الذي خلق منه آدم كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ (آل عمران: ٥٩)، فهو مصدر الحياة لنا لأننا نأكُل من زرعِه وثمره، ويأكُل منه الحيوان الذي نأكله، وهو ما نعود إليه ونتحوَّل إليه، ولله دَر أبي العلاء المعري الذي يذكرنا بهذه الحقيقة، وهو المعنى الذي عاد إليه عمر الخيام في رباعياته التي أبدع رامي ترجمتها نظمًا، والماء كذلك «نمطٌ فطري» فهو ذو حركة دائرية، فالإنسان يُخلَق من ماء — مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (القيامة: ٣٧) وكل شيء حي خُلِقَ من ماء وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ (الأنبياء: ٣٠) ولكن الماء أيضًا هو الذي أغرق مَن كفروا بنوح عليه السلام، وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (هود: ٣٧) والبحر صورة للضياع (مثل الصحراء) والتيه لا للموت فحسب، وقِس على ذلك أنماطًا فطرية أخرى مثل النار والهواء وغيرهما، ولكنَّ الذي أرمي إليه من هذا الاستطراد هو قُدرة الوعي على احتواء الأحداث في صور فطرية تربط بينها برباط قد لا يخطر ببالِ غير المتخصِّص، وأذكر أنني شاهدت مع نهاد زوجتي فيلمًا سينمائيًّا في أواخر الستينيات في إنجلترا يَعتمِد فيه المخرج على صورة الأرض المزدوجة الدلالة (ambivalent) فتداعت إلى ذهني صورها في الأدب واندمجت في أحداث الفيلم الذي كان يُصوِّر — على المستوى الواقعي — تدمير امرأة لرجل، وأحببت الصورة وتداعياتها، ولكن نهاد قالت لي: إنَّ الفيلم يعتمد على الصورة التي ابتكرها خيال الرجال ولا يَقبلها خيال المرأة؛ أي إنها كانت صورة من وجهة نظر ذكورية، وكنا آنذاك في مطلع حركة نصرة المرأة (feminism) أو الحركة النسوية الجديدة، وعندما قلت لنهاد إنَّ الأدب العالمي كله يؤكد هذه الصورة، ويساند اعتبارها من الأنماط الفطرية، ردت قائلة إن ذلك الأدب كتبه رجال حلا لهم أن يُلقوا بأثقال إحباطاتهم على المرأة.

وقد يكون ذلك صحيحًا، فلماذا أعفي محسن من مسئولية ما أصابه؟ ولماذا أستبعد زوجته الأولى من الصورة؟ هل لأنني رجل استوعبت أدب الرجال فحدَّد مسار وعيي بالأرض الأم التي ابتدعها أدباء من الرجال؟ نعم! ها أنا ذا أعود إلى الوعي، ولذلك نشط من نقاد الأدب اليوم مَن يصُبُّون اهتمامهم على قضية تشكيل الوعي، ويجعلون للقارئ دورًا مهمًّا في مسار وعي الكاتب، وهو ما يُسمى بمنهج نقد «استجابة القارئ»، وفي ظني أن كولريدج قد سبق المحدثين (ومن قبل الجميع أبو العلاء المعري) في الإشارة إلى ذلك؛ إذ قال: إن كل كاتب يشارك في تشكيل «الذوق» الذي يَلزم لتذوُّق إبداعاته، و«الذوق كلمة قديمة لما أفضِّل أن أسميه «الحس» الجمالي الكامن في الوعي» — وسوف أفصِّل القول في ذلك.

إنَّ قارئ قصة «هدى»، على افتقارها إلى المقومات الفنية، فهي لا تعدو كونها شذرات مما عرفته وشهدتُه، قد يتعاطَف معها لأنه عرفها، فوعيه بمُشكلتها التي قد تبدو عادية متكرِّرة يقربه منها ويرغمه على التعاطف معها، وقد يتعاطف مع «محسن» لأنه عرَف عنه ما يكفي؛ أي إن وعيه استوعب قدرًا كافيًا من العلم به، لكنه ربما لن يتعاطَف مع الزوجة الأولى؛ لأنه لا يعرف عنها إلا ما قالتْه «هدى» وما قاله «محسن»، وقد يكون في قول أحدهما أو كلاهما قدر من الكذب، بل قد يكونا صادقَين، ولكن المعرفة بالزوجة من وجهة نظرهما وحدها تُقيم لها في وعي القارئ كيانًا ناقصًا أو تكتنفه الظلال، وهكذا فإذا اعتبرنا هذه الحادثة الواقعية قصة فنية وجدنا أن «مذاقنا» (أو ما أصبح يسمى «بالذائقة») — وهو الذي يتشكل من عدة عوامل، بعضها مستقى من التراث الأدبي وبعضها مستقًى من الأعراف السائدة في المجتمع — سيَخضع لوعينا بحياتها كما صورتها «هدى» وكما صوَّرها «محسن» دون سواهما، وسوف تخضع أحكامنا النقدية (ولا أقول «الخلقية») لما تشكل في الوعي فقط، وكل ما عدا ذلك يصبح خارج دائرة تفكيرنا أو إحساسنا، وذلك هو جوهر مذهب الظاهراتية (phenomenology) الذي اقترن باسم الفيلسوف هوسرل — كما ذكرت في التمهيد.

ومعنى ذلك أن الأديب يستطيع التحكُّم في «الذائقة»، مهما يكن الاختلاف البادي بين المتلقِّين فيها؛ أي على تفاوت درجات نموها أو قصورها لديهم، حين يحكم السيطرة على ما يُتيحه من المادة التي يستطيع الوعي استيعابها في غضون قراءة العمل الأدبي أو تلقيه (سماعه أو مُشاهدته).

ولقد تعمَّدت أن أكون محايدًا قدر الطاقة في نقل رواية كل من هاتين الشخصيتين لما حدث له، خصوصًا عندما قابلت «هدى» في مسرح الطليعة وأبلغتني بنبأ وفاة «محسن» — لكنني أشعر الآن وبعد أن فرغت من رواية الحدث المجرَّد أنني كنت في أعماقي حزينًا على الرجل، وأنني لم أبذل الجهد اللازم للتعاطُف معها أو مع الزوجة الأولى وابنتها، وما أقصد من ذلك كله إلا تأكيد صحة ما أذهب إليه من أننا نجد حياتنا الحقة في الوعي، وإذا صدق البوذيون في تصور خلود الوعي، رغم محاولاتهم الدائبة لتحقيق الفناء، فإنهم يكونون قد اقتربوا من فكرة الخلود التي أرشدتْنا إليها الأديان السماوية، وأرشدتْهم إليها الفطرة الإنسانية ولو لم يُرسَل إليهم رسول.

وأختتم هذا الفصل الذي أرهقني شعوريًّا بإبداء رأي لا أظنه جديدًا؛ ألا وهو أنَّ حركة الأدب في أي مجتمع تتجلى فيها حركة وعي هذا المجتمع، بمعنى أن الظواهر الأدبية قد تكون دليلًا على مسار معيَّن في وعي الأدباء والقرَّاء؛ فغلبة النثر على الشعر في عالمنا العربي يتجلى فيها غياب طرب الإيقاع — وهو الطرب الذي تميز به الأدب العربي على امتداد تاريخه الطويل، حتى في النثر التراثي — وغياب الإحساس بجمال النَّظم يدلُّ على تغير معيَّن في الوعي — وهو مكمن «الذائقة» كما أسلفت — فالذي يَكتُب شعرًا منثورًا ويظنُّه منظومًا (وما أكثر هؤلاء) يُعاني من خللٍ في وعيه بالإيقاع المطلق، ومَن يبتعدون عن تأمُّل جمال الضغط في أسلوب الشعر (condensation) أو سمِّه كثافة أسلوب الشعر (وهم الغالبية) يشُون بخلل في الوعي بالبسط والتكثيف، وكل ذلك من سمات «ما بعد الحداثة»، فالخلل في «العلامات» التي تسود المجتمع يؤدي إلى خلل في الوعي بمعاني العلامات؛ ومن ثم بمعاني القيم، إلى آخر ما سبق لي الحديث عنه من غلبة الحكم باللونين الأبيض والأسود، وغياب رهافة الإحساس بما بينهما من درجات — لا يستطيع إلا شحذ الوعي أن يوصلنا إليها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤