الفصل الخامس

١

أبدأ هذا الفصل الذي سوف أحكي فيه حكايات القوة تفريقًا بينها وبين القُدرة — بفقرة طويلة من قصيدة خاطرات الخلود للشاعر وردزورث، وهي التي سبَقَ أن اقتطفت منها فقرتَين؛ إذ إن عنوان هذه القصيدة يَشِي بموضوع هذه الحكايات بل وبفكرة الواحات كلها، وربما سنحَت لي الفرصة لترجمة المزيد منها. هذه هي الفقرة التاسعة في ترجمة تكاد تكون حرفية (من بحر الخبب وهو الصورة الحديثة للمتدارك أو المحدث):
يا فَرْحُ! أيا من تحيا في جمر الصدر،
وتؤكد أن طبيعتنا تَذكُر ما مرَّ وفرَّ!
ذِكر الأعوام الماضية المنسية،
يُنبتُ في نفسي بركات أبدية،
لكني لا أرفع آيات المدحِ وألحانَ الشُّكر،
إلى ما هو أجدر أن يوسم بالبركة؛
كالبهجة والحرية!
ديدن كل الأطفال الساذج في العمل أو الراحة!
فهما كالطائر يخفق دومًا بقشيب الريشْ!
في جنبات الصدر!
بل أشكر أسئلة صمَّاء عنيدة،
مما يطرحه الحس،
أو يمثل خارج هذي النفس!
أسئلة تَسَّاقط منَّا بل تتلاشى،
ومخاوف خاوية بهمة،
بسريرة مخلوق هام على وجهه،
بعوالم وهمِه،
وغرائز عُليا واجَهَها الطبع الفاني،
فارتعد كرعدة قلب الجاني،
إن فاجأه إنسان!
أشكر أُولى أربطة الحب،
أو ما غام بذكرى القلب،
أيًّا كانت تلك جميعًا!
إذ ما زالت نبعَ ضياءِ نهاري،
والضوء السائد في إبصاري،
نستند إليها نعتز بها ولها من فرط القوة،
ما يجعل ضوضاء سنين العمر،
تبدو لحظات بكيان الصمت السرمد،
وهي حقائق تصحو كي لا تفنى أبدًا!
لن تفلح هبات القلق ولا السعي المجنون،
بل لن يفلح رجل أو بعض صبي،
أو قل أي عدو للفرح الطفليِّ،
في طمس معالمها أو تدمير هياكلها يومًا ما!
وإذن في موسم صفو الجو،
مهما يكن الشط بعيدًا عنا،
نجد الأرواح وقد شهدت ذاك البحر الخالد،
فلقد جئنا منه هنا،
ولنا أن نرجع في غمضة عين،
لنرى الأطفال على الشاطئ تلهو،
ولنسمع صوت الأمواه الجبارة أبدًا يعلو!
أقول إنها ترجمة شبه حرفية، على ما فيها من الوزن والقافية محاكاة للنص الأجنبي؛ لأنها تلتزم المعنى التزامًا صارمًا، وما أحسب النثر بقادر على إخراج ترجمة أدق، ولم أسمح لنفسي بقدر من الحرية يزيد عما يَقتضيه فنُّ الترجمة من نشدان للمعنى وإن تغيَّر بناء الجملة، ولن أفيض في ذلك فكتبي في الترجمة تفي بالغرض، ولكنني قصدت من إيراد هذه الفقرة أن أمهِّد لحديثي عن «القوة»، وهي الكلمة العربية التي نترجم بها كلمتَي (power) و(force) الإنجليزيتَين، على ما بينهما من فروق، والتمييز بينهما جميعًا وبين كلمة القدرة — أو المقدرة — أي (ability) أو (capacity) وهي تَشترك جميعًا في عنصر واحد من عناصر المعنى لنا أن نُطلق عليه عنصر «الطاقة» أو «الطوق»، وإن كانت الكلمتان الأوليان تَنصرفان إلى الصورة الفعلية لها، والأُخريان إلى الصورة الكامنة — بمعنى أن القوة، سواء كانت power (السلطة، النفوذ، الطاقة الكهربية!) أو كانت force (القوة المادية — كالعنف violence — أو القوة الجبرية — كالإرغام compulsion) تتخذ أشكالًا ملموسة في واقع الحياة، فذو السلطة يتحكَّم في غيره فيُحدِّد مسار سلوكه، أو يأمره فيُطيع، ومَن يستخدم القوة المادية (كالقوة العسكرية أو البدنية) يثبت صورها في الواقع المحسوس أو الملموس، وأما الطاقة (وهي التي أصبح لها مرادف جديد هو energy) فهي ما يستطيع الإنسان أو الشيء أن يفعله ولو لم يفعله؛ فهي كامنة في كل شيء، وهو ما كان شوبنهاور يعنيه بالإرادة أي (will) أو (volition) بمعنى أن لكل شيء طاقة كامنة وذاتية فيه، وما حركة الكون إلا ثمرة لتصارع تلك الإرادات أي القوى أو القُدرات أو الطاقات الكامنة، والمناطقة يفرقون بين الموجود «بالقوة» (potential) أي الذي لديه الطاقة على أن يوجد وبين الموجود «بالفعل» (actual)؛ أي ما له صورة مادية محقَّقة، ولكن هذا الحديث قد يخرج بنا عما قصدت إليه، فلأعُدْ إلى ما يقوله وردزورث، وهو ما يَعنيني في هذا الفصل، أي إن الإنسان لديه الطاقة النفسية التي يستطيع بها إدراك ما يتجاوز الحواس، فيستشرف آفاق موجودات قد لا يعترف بها العلم الطبيعي الحديث (modern natural science) الذي وُلد في أواخر القرن التاسع عشر، مثل الموجودات الروحية، أو الموجودات الفكرية (مثل أنساق القيم)، أو النفسية (مثل المشاعر والروابط الإنسانية)، أو حتى ما نُسمِّيه أشكال الوجود الخفية، وما يسميه وردزورث أشكال الوجود المجهولة (unknown modes of being) والشاعر يقول: إنَّ ذكريات الطفولة مصدر قوة (power) بمعنى أنها توقظ الطاقة الكامنة في الإنسان على رؤية سنوات العمر بصخبها وضجيجها في صورة لحظات في كيان السكون أو الصمت السرمدي، وهو يصفها بأنها «حقائق» إن استيقظت فلن تفنى أبدًا، بمعنى أن ما يَخْبُرُهُ الطفل من رؤى ذات طلاوة تهبه «القدرة» على استشفاف أشكال الوجود المجهولة، وهي القدرة التي تتحول إلى قوة لأنها تُصبح طاقة دائمة أو كما يقول لأنَّها إذا أشرقت يومًا في نفس الإنسان أو في روحه فلن تغرب أبدًا؛ ومن ثم فقد كان يحاول أن يفسر في الفقرات الأربعة الأولى من القصيدة المشار إليها، والتي كتبها في عام ١٨٠٢م، سر انطواء هذه اللحظات أو اختفائها، وكان يعتبرها المسئولة عن إلهامه الشِّعري، وأنهى الفقرات الأربع بالتساؤل عن فرار «شعاع الرؤى الغامر» أو البريق الذي يكسو الوجود أو قبس النور العُلوي الذي يهب الطفل الإحساس بالانتماء إلى الكون انتماءً روحيًّا أصيلًا، وهو نُورٌ ماديٌّ يفصح عن نورٍ علوي، وبعد عامَين عانى فيهما ما عانى، وكتب فيهما جانبًا من سيرته الذاتية التي أطلقت عليها زوجته (ماري هتشنسون) عنوان المقدمة، باعتبار أنها كانت تمثل «مقدمة» ملحمَة لم يُكتَب لها أن يَستكملها عن «الإنسان والطبيعة والمجتمع» عاد إلى القصيدة فكتب الفقرات التي سبق لي إيراد بعضها والتي تبدأ بالبيت (ما مولد الإنسان إلا رقدة — نومٌ ونسيان) حتى يُفسِّر لنفسه، كما قلت، ما اعتراه من نقصان. وهذان هما البيتان اللذان يُنهي بهما الفقرة الرابعة:
Whither is fled the visionary gleam,
Where is it now, the glory and the dream?
ترى أين فرَّ شعاعُ الرؤى الغامرُ؟
وأين هو الآنَ والمجدُ والحُلُمُ الباهرُ؟
أي إن الشاعر كان يحاول عن طريق الفكر الواعي تفسير ما أدركه ببصيرته من انفصال «القوة» عن «القُدرة» ولم يكن يظن أنهما ينفصلان، وكان يُحاول أن يَسترجع القوة بالعودة إلى مكامنها (الطاقة أو القدرة لدى الطفل) أي باسترجاع الذكريات التي ارتبطت بها، وكانت سيرته الذاتية محاولة لرأب الصدع بين ما هو كامن (موجود «بالقوة») وما هو متحقِّق (موجود «بالفعل») وذلك ما يفعله كل مَن يكتب سيرة ذاتية أدبية، وأعدُّ نفسي — بكل تواضع — بين هؤلاء، فأنا أعرف ما ضاع من رؤى الطفولة ذات الكمال والجمال، وإذا كنت أسرفت في رصد الأحداث في الأجزاء الثلاثة الأولى من السيرة الذاتية الأدبية، فما كان ذلك إلا إقرارًا بما ضاع، وكثيرًا ما أتأسى عندما أذكر لحظة من اللحظات التي مضت إلى الأبد، شهدت فيها ما شهدت، وأحسست فيها ما أحسست، ثم انقضَت كأنَّما إلى عدم، لكنها أحيَت في النفس ما يقول الشاعر إنه «يصحو كي لا يَفنى أبدًا»، وما تأملاتي الآن إلا استكمال للصورة التي حاولت رسمها فتفاوت حظي بين التوفيق والإخفاق.
وبين يديَّ مذكرات دونت فيها كيف يطغى السعي لتحقق القوة المادية (المال والجاه والنفوذ) على القدرة النفسية فيطمسها طمسًا، ولديَّ نماذج لأناس كانت لديهم قدرات فنية أو ذهنية تضاءلت أو تراجعت أو هجعت في غمار السعي المحموم لتحقيق ذواتهم في هذه الدنيا، وكان انطواء تلك القُدرات لديهم إيذانًا بانطواء القدرة النفسية، فإذا بهم (وقد تقطعت بهم سُبل التواصُل مع منابع الطاقة في النفس) يضعفون عن الصمود في وجه المِحَن، فيَعجزون عن التصدي لنوائب الدهر على الرغم مما حقَّقوه من مظاهر القوة المادية، ولقد انتهيت عندما أعدتُ قراءة هذه المذكرات إلى أن القوة الحقيقية (وهي التي يُسمِّيها وردزورث Strength أي عكس الضعف) لا بد أن تنبع من إنماء القدرات الفطرية التي يَهبُها الله لعباده، وعلى رأسها القدرة النفسية — أي طاقة النفس على التأمُّل، والحس الجمالي، واليقظة الرُّوحية (سواء أسميناها الضمير أو الذمة أو الورع) — ومنها يَنبع تكامل القدرات الأخرى الباطنة وإمكان نموها؛ أي إنني انتهيت إلى ما يبدو أنه مُفارقة وما هو كذلك؛ أي إلى أن مصدر القوة الحقيقة يكمن في دحر نزعة القوة المادية عن طريق تنمية الطاقات الباطنة وعدم تجاهلها مهما تكن الظروف، وإن لم يستطع المرء الموازنة بين الحرص على تحقيق القوة المادية وتنمية الطاقة النفسية، غلبتْه الأولى دون مراء، فهي ذات جبروت، وهي — كما يقول تشيكو — «تبتلع الإنسان ابتلاعًا»، فهي تتسلَّل أولًا كأنما تسترق الخطى إلى داخل الإنسان، ثم لا تلبَث أن تستولي عليه، كما يتجلَّى في الحكايات التي سوف أحكيها، وهي حكايات أناس لا يزال بعضهم يعيش بيننا وأتمنَّى مُخلصًا ألا أجور على أحداثها بالاختصار المخل والحذف (مما يُحتِّمه سياق الرواية) في سبيل إيضاح الفكرة؛ فالوضوح مبتغاي في كل ما أكتب، وأنا أشعر الآن — بعد أن حققت بعض المرامي الأدبية — أن من واجبي أن أنقل إلى الأجيال الجديدة خبرات «القوة» و«القدرة»، لا في عالم الكتابة الذي أنتمي إليه وحده، بل في عالم الناس — أي عالم البشر كلهم، عالم الأحياء الذين أحبهم وأتعاطف معهم وأنتمي إليهم فكرًا وقلبًا مثلما أنتمي بدنًا وروحًا.

فأما الحكاية الأولى فهي حكاية رجل وهبه الله موهبة فنية فذة، فكان يستطيع أن يتأمل الحياة والناس تأملات تتسم بالأصالة والجدة، وأن يضع هذه التأملات في صور نابضة تصل بسهولة إلى قلوب القراء، وكانت تلك في نظري قدرة أو طاقة فنية فذة، إذ كان يستطيع أن يتحدث لغة الناس «وفكر الناس» بمعنى القدرة على «التواصل الحي» مع الجمهور، فيصل إلى قلوبهم، ويمس اهتماماتهم الأساسية في كل ما يكتب، وكان من أهم ما قرَّبني إليه في بواكير حياتي الأدبية «قدرته» على التمييز بين القناع الواقع، فإذا تزلَّف إلى أحد المسئولين قال لي إنه كان يفضل لو أن الحياة لم تتطلَّب التزلف لكن الواقع يقتضيه ولا مهرب من الواقع، وقد شهدته ذات مساء يُداهن موظفًا كبيرًا أو قل مسئولًا كبيرًا (رحمه الله) فإذا به مبدع في التزلُّف، ينتقي الألفاظ بعناية ويُلقي كلماته بما يشبه الاقتناع الكامل، ويرسم للزلفى حدودًا لا تتعداها حتى لا يَفقد مصداقيته، وكنت أستمع إليه في دهشة وإعجاب، فإذا خلوت إليه سألني رأيي فيما قال وفعل، وانثنى يشرح «أصول اللعبة»، وكان إقرارُه بالخطأ لا يدع لك مجالًا للَّوم أو الانتقاد؛ فقد تصالح مع «الوعي» فلم يَعُد يُؤلمه، وكنا — أنا وسمير سرحان — نُطلق عليه ملك التبرير؛ إذ كان يكاد يتخصَّص في تبرير ما يفعل، بمعنى أنه كان يستطيع أن يجد أسبابًا منطقية (تكاد تكون مقنعة) لأفعاله مهما بلغ من شطط خياله في تصويرها، فكنت أراه في حياته «يؤلف» مثلما «يؤلف» في كتاباته، وعندما ذكرت ذلك لسعد الدين وهبة ضحك وقال إنه مثل عبد الرحمن الخميسي المبدع في الحياة والفن جميعًا، وقصَّ عليَّ بعض القصص التي تُؤكد — من وجهة نظر سعد وهبة — تداخل الخيال والواقع لديه، وكان رأيي آنذاك (وربما كنت مخطئًا) هو أنه يَختلف عن الخميسي في أنه لا يرى قداسة للواقع، فهو يتجاوَزه بخياله مدفوعًا بقوة ذلك الخيال أو «المخيلة المبدعة». وأذكر أنني زرته ذات يوم في منزله مع سمير سرحان، في شارع حسن الأكبر، في عابدين، وجلسنا نستمع إلى قصة يرويها عن مرض أصابه، وأسرف في سرد التفاصيل بحيث شدَّني شدًّا إلى روايته حتى انتهى منها، وعندما خرجنا أبديت لسمير تعاطُفي معه فضحك وقال «وهل صدَّقته؟» ونظرت إليه دهشًا فقال: «إنها قصة ملفَّقة من ألِفها إلى يائها، وأما ما أصابه فهو شخص خيالي يكتب عنه الآن سباعية في الإذاعة!» وسألته عما دعاه إلى نسبة المرض لنفسه (وفي هذا «تفويل» مكروه) فقال: «إنه كان يؤلف بصوت عالٍ، و«يجرب» تأثير القصة في المستمع!» ولما أبديتُ شكوكي في هذا، قال سمير: إن صاحبنا كان في الفترة التي نسَب إلى نفسه المرض فيها يعمل في العراق مع قادة الثورة الوليدة — وكنا في مطلع الستينيات — وكانت أحاديثُه تملأ الصحف ومحطة الإذاعة! ولم أعجب بعد ذلك من أي شيء يرويه، إذ وطَّنْتُ النفس على تقبُّل رواياته تقبُّل القارئ لعمل أدبي!

وكنت ولا شك معجبًا بهذه القدرة، رغم إدانتي للكذب من ناحية المبدأ، ولكنني — كما ذكرت في فصل سابق — أرى أن «الكذب الفني» لدى بعض هؤلاء الكُتَّاب جزء لا يتجزأ من عمل الخيال، وعندما كنت أذكره وأنا في إنجلترا أو أشير إلى تلك الخصيصة من خصائصه في أحاديثي مع زملاء الدراسات العليا الإنجليز لا أواجه بدهشة، بل بتقبل طبيعي للكذب الفني باعتباره «دالة» (function) من دوال الخيال، بل قال لي زميلي «إيرست» (الذي كان يدرس معي وردزورث) إن لديه أصدقاء «يتمتَّعون» بتلك الطاقة، وانبرى يدافع عنها، قائلًا: إنها لون من ألوان الإبداع، وأظنُّه أشار إلى مقولة للشاعر الأعظم ت. س. إليوت (في إحدى مسرحياته، وأظنها جريمة قتل في الكاتدرائية) يقول فيها: «كما أشرت إلى ذلك من قبل» إن الإنسان لا يستطيع أن يتحمَّل إلا حدًّا محدودًا من الواقع!

ورأيت حينذاك أن خيالات الشعر دليل على «قدرة» باطنة على الإبداع، ولذلك أقمت في ذهني «رابطة خفية» بين انطلاقات خيال صاحبنا وبين طاقته الفنية، بل أسرفت في تصور دلالة تلك الانطلاقات على وجود طاقة النفس التي تحدثت عنها في الصفحات السابقة، والحق أنه كان ذا طاقات نفسية لا شك فيها، وإن كنت في أعماقي غير راضٍ عن طموحاته البادية في سلوكه، ونزوعه إلى التقرب من الكبار، واهتمامه الشديد بالمال، ولم يكن في الواقع بخيلًا، بل كان ينفق ذات اليمين وذات الشمال، لكنه كان يبدي احترامًا دفينًا للمال في ذاته، وكان ذلك يتناقَض في نظري مع طاقاته الفنية.

وعندما عدتُ من البعثة عام ١٩٧٥م كان صاحبنا قد أصبح يشغل مركزًا مهمًّا في إحدى الصحف، ثم ما لبث أن ترك المنصب إلى «العمل الحر»، وبدا لي أنه تَناسى مبادئه الاشتراكية القديمة، واشترى سيارة فارهة، ثم اختفى في أواخر السبعينيات وانقطعت أخباره، وكان لديَّ ما يشغلني عنه فلم أسأل ولم أكترث، بل لم أكن أعرف أين يقيم — هل في مصر أم في الخارج — حتى فوجئتُ باتصال تليفوني وأنا في جدة، أثناء عملي بجامعة الملك عبد العزيز — يقول لي فيه: إنه يُريدني لأمر هام، وفرحت لسماع صوته، وكان ذلك في شتاء عام ١٩٨٣م، فرحبت به واتفقنا على موعد في فندق «جراند هيات» القريب من محل إقامتي في جدة، وعندما التقينا وجدت شخصًا بالغ الاختلاف؛ إذ كان يتحدث بلهجة رجال الأعمال، وكان يشير إلى مقر عمله باسم «المكتب»، وبعد اللقاء الذي استمر ثلاث ساعات، صحبني بالسيارة الفارهة التي كان يقودها سائق خاص من إحدى البلدان العربية (الأفريقية) إلى منزلي، بعد أن اتفقْنا على مواصلة اللقاء في موعد لاحق، وهاك ملخصًا لما قاله وما عرفته منه، والله وحده يعلم نِسبة الخيال فيه إلى الحقيقة، وإن كنت لن أذكر هنا إلا ما أتصوَّره «حقائق»، وهي التي أكَّد صدقها ما رواه آخرون وما شهدته بنفسي.

بدأ صاحبنا حديثه بأنْ عرض عليَّ مشروعًا للترجمة، وكنتُ آنذاك مشغولًا بترجمة معاني القرآن، وهو المشروع الذي سبق أن أشرتُ إليه في واحات مصرية، فلم أتحمَّس لمشروعه الحماس الذي كان يتوقعه، وإن لم أرفض، إذ كان عليَّ أن أجاريَه حتى أستمع لقصته، وهي قصة طويلة جدًّا، حكاها في دفقات واستطرادات، إذ كان يعنُّ له أثناء القصِّ أن ينحرف يمنةً أو يسرة ليرويَ قصة حب (لا تهمني وإن بدا أنها تهمه) أو مغامرة عاطفية عجيبة، لكنه كان يرجع دائمًا إلى ما كان يظنه جديرًا بلفت اهتمامي، وهو مشروع الترجمة، وبعد أن انتهى من التفاصيل قال بثقة: «المهم هو أننا لن نتعب في الترجمة بأنفسنا ولا حتى في المراجعة إلا إذا كان الموضوع حساسًا، لكننا سوف نَستأجر مَن يقوم بالعمل من المترجمين والمراجعين ونُعطيهم أجورهم، ثم نتولى الطباعة والنشر والتوزيع في البلاد العربية؛ فنحن مقبلون على فترة توسع في النشر لم يشهد الوطن العربي لها مثيلًا، ولنا زبائن مضمونة؛ ألا وهي المكتبات الجامعية والمدرسية، وقد تعاقدت معها بالفعل، فنحن نضمن التسويق والأرباح الطائلة.»

ولم أشأ أن أدخل في التفاصيل حتى لا يتصوَّر أنني وافقت بصورة نهائية، وكان الظن يلازمني بأن الخيال يلعب هنا دورًا مهمًّا، خصوصًا عندما بدأ يتحدث عن التوسُّع في المشروع بالترجمة إلى اللغة الإنجليزية، خصوصًا ترجمة الكتب الإسلامية التي تصادف رواجًا كبيرًا في بلاد المسلمين الناطقين بالإنجليزية، وكان يَذكر أرقامًا خِلْتُ أنه يبالغ فيها عن حجم المبيعات المتوقَّع، وحجم الأرباح المنتَظَرة، لكنني لم أعلق، حتى بدا لي أنه انتهى من عرض «المشروع» فسألته إن كان ذلك هو العمل الذي يمارسه حاليًّا، وإن كان قد هجر الكتابة الإبداعية؟ وهنا أفصح عن بعض ما كان يشغلني في تلك الفترة الانتقالية في المجتمع المصري؛ ألا وهو تحول المال في أيدي الناس من وسيلة إلى غاية، ولم يُحاول اللفَّ والدوران، بل قال بأسلوب وبنغمات تنم عن الاقتناع التام: «المال هو القانون الأعظم للحياة! فالمال هو القوة، وهو الطاقة وهو القدرة! يكفي أن تكون ذا مال حتى تكسب احترام الناس، وأرجو ألا تفهم من ذلك أنهم يتوقَّعُون أن تعطيهم شيئًا من مالك، بل ولا يلزم أن تنفق شيئًا منه حتى تنال ذلك الاحترام! انظر إلى محمد الفايد في لندن! وانظر إلى منافسه اليهودي صاحب جريدة «الأوبزيرفر»! إنهما من الأباطرة! فهما يتراشقان بالتهم علنًا وعداؤهما لبعضهما البعض صريح ومُعلَن، ولكن الحكومة البريطانية لا تستطيع أن تمسَّ أيًّا منهما أو تنحاز إلى صف واحد ضد الآخر؛ ففي أيديهما خيوط يشدَّانها فيُحرِّكان مجريات الأمور! وانظر إلى اليهود في أمريكا! وذاك حديث معاد مكرر! إن مال اليهود يتحكم في سياسة أكبر دولة في الأرض، وإحدى الدولتين الأعظم، (ولم يكن الاتحاد السوفييتي قد انهار بعد) وهو الذي يُشكِّل اتجاهات الفن والأدب في أجهزة الإعلام! المال هو القوة والقدرة والطاقة!»

وقلت له: إنَّ هناك فرقًا بين القوة وبين الطاقة أو القدرة فضحك وقال إن تلك فلسفة فارغة، وإنه يتكلم بعد أن عرك الحياة وخبرها، ولذلك فهو يتكلَّم من موقع العارف الخبير، وجعل يقص عليَّ قصصًا تبرهن على صدق ما يقول، وأظنُّ أن بعضها ملفَّق أو مبالغ فيه، ثم انتهى إلى القول بأن غاية الإنسان هي السعادة، والسعادة طريقها القوة، وهو يعرف الآن القوة بعد أن أصبحت له حسابات في بنوك أوروبا وأمريكا، وبعد أن ثأر لنفسِه من حياة الفقر الكئيبة التي عرفها في مصر، وأنه قد هجر الكتابة لأنَّ «الكتابة مهنة العاجز»، فالكاتب يتصوَّر — في نظره — أنه يُخاطب الناس ويؤثر فيهم، ولكن الغالبية لا تقرأ، ومن يقرأ لا يستوعب، ومن يستوعب لا يصدق، ولذلك فلا أجمل من «البيزنس» (وربما كان يقصد التجارة) فهو الآن شريك في بعض شركات الأفلام الأمريكية التي تدرُّ ربحًا مضمونًا، وهو ذو «مكتب» يقصده علية القوم، وهو يتنقل بين البلدان كما يحلو له، ويقابله كبار المسئولين باحترام، واختتم حديثه بتكرار عرض مشروع الترجمة، قائلًا إنه يَعدُني بأن أصبح رئيس المشروع، بشرط الاستقالة من الجامعة والتفرُّغ له، فأنا في رأيه ذو معرفة بما يجب أن يترجَم وكيف يترجَم ومَن يترجِم، وهذه — في نظره — خبرة لها وزنها في دنيا «الأعمال»، ولم أعده أنا بشيء، فأنا حريص على عملي الجامعي الذي يُتيح لي الوقت اللازم لهوايتي في الكتابة والترجمة، لكنَّني — وكنا قد تجاوزنا الحادية عشرة مساءً، وبدأ رواد الكافيتريا يَنصرِفُون — قلت له إنني واثق أنه يَشتاق إلى الكتابة الإبداعية، وأنه ما زال يحنُّ إلى كتابة المسلسلات الإذاعية التي يحقِّق فيها «رؤاه» عن الإنسان والمجتمع، فقال إن ذلك صحيح، غير أنه لا يجد الوقت اللازم لذلك، ومال عليَّ كأنما يَهمس لي بسر خطير قائلًا: لقد كانت الكتابة وسيلة، ولقد أوصلتني الوسيلة إلى غايتي، وأستطيع أن أكتب متى شئت، فأنا لم أفقد القدرة على الكتابة، ولكنَّني اكتشفت في نفسي طاقة أثمن وأجدى وهي «القدرة» على التعامل مع الناس؛ فالناس في أعماقهم بشر بسطاء، ولكلٍّ منهم مدخله؛ أي مفتاحه، فإذا عثرت على المفتاح انفتح الباب على مصراعَيه!

قلت له: إنه كان يعجب بما أكتبه من شعر، على تواضع مستواه، ويُشجِّعني باعتباره من الراسخين على الاستمرار (وكان يكبرني بنحو خمسة عشر عامًا) فقال إنه لا يعارض كتابتي للشعر؛ فهو في نظره تسرية ذات طرافة وجاذبية، لكنه ليس من مصادر كسب الرزق، فقرأت عليه ترجمة منظومة لقطعة من «شلي» فأبدى إعجابه بالترجمة ثم قال: «من تراه يقرأ ذلك؟ إنك تدور في دوائر لا يتجاوز عدد أفرادها العشرات أو المئات! وحتى لو أصبت النجاح كله فلن تصل إلا إلى الآلاف … أما أنا فأتكلَّم لغة الملايين، لغة الناس كلهم، وكلهم كلمات في معجمي الشِّعري!» وقال ما معناه إنه يتحدَّاني أن أجد خارج نطاق دائرتي الضيقة من يشاركني اهتماماتي، وأضاف أن المشروع الذي يتحدث عنه سوف ينشر اسمي إلى جانب اسمه في كل البلاد العربية، وبعدها البلاد الإسلامية، مؤكدًا أنني إذا كنت أريد الشهرة والمال (fame and fortune) فها هما «على طبق من فضة» — وأصررتُ على عدم التعبير عن أي التزام بالموافقة، بل وعدته بالتفكير جديًّا في الموضوع، فقال لي وهو يودعني «هذا وعد!»
وانقطعت أخباره عني سنوات طويلة، حتى لمحته ذات يوم في كافيتريا «الميريديان» وأنا جالس مع محسن حلمي المخرج، الذي كان يشرح لي كيف أعيد كتابة نص جاسوس في قصر السلطان كأنما يُلقنني درسًا في الكتابة المسرحية، وكنا في مطلع عام ١٩٩١م، وكنتُ أظن أنني، بعد أن كتبت كل هذه المسرحيات وتجاوزت الخمسين، لم أعد في حاجة إلى دروس من محسن حلمي، فانتهزت فرصة طلب القهوة لتحية صديقي القديم (وكنتُ أراه في مرتبة الأستاذ) فإذا به يُقبل علينا، وما لبث أن خفَّف من وطأة «الدرس» بفكاهاته ودعاباته، وعندما انصرف محسن، قال لي: إنه كان يبحث عني لأنه يُفكر في الكتابة من جديد، لا للإذاعة بل للمسرح، ويُريدني أن أشاركه مشروعًا «يهزُّ الدنيا!» وتكرَّرت لقاءاتنا فقد كان يقول إنه سوف يُموِّل المشروع؛ أي إنه سيكون المنتِج لا المؤلف فقط، وكان في ذلك إنقاذ لي من عقبات مسرح الدولة ونُظُم إنتاجه العقيمة، وفي اللقاء الرابع أو الخامس (لا أذكر) وبعد أن كنا اتفقنا على موضوع المسرحية الغنائية وشخصياتها، قال لي ببساطة «هيه! متى تعتقد أنك ستنتهي من كتابة السكريبت [أي النص]؟» ووجمت لحظة وتلعثمت. لم أدرِ ماذا أقول. وأذكر أنني تمتمت أو تلفظت بألفاظ تشي بالحيرة قبل أن أسأله «وحضرتك؟» فابتسم ابتسامة عريضة وقال: «سأُراجع السكريبت طبعًا!» وحينما رأى أنني سأعود للسؤال؛ بادرني بقوله ضاحكًا: «أنا لا أكتب الآن! لقد فقدتُ التركيز بسبب مشاغلي، والبركة فيكم أنتم!» وتأثرت بصراحته بل فوجئت لأن اعتراف كاتب بأيِّ شيء من هذا القبيل لا يأتي إلا بعد مُكابدة طويلة، وقد يفقد الكاتب «التركيز» ثم لا يَعترف بذلك أبدًا، ولديَّ نماذج كثيرة للمُبدعين الذين تحولوا إلى الكتابة الصحفية تعويضًا عن الإبداع، وحاولتُ استدراجه ليُفصح عن المزيد لكنه — فيما بدا لي — كان يتألم لمواجهة هذه القضية — وأحسست بألمه فلم أزد، وافترقنا على وعد اللقاء.
وكنت كثيرًا ما أتأمَّل ما حكى لي وما وراء قصصه، دون أن أفقد إيماني بموهبتِه الإبداعية، وانتهيت من تأملاتي إلى أن ما فقده هو «القدرة» على الكتابة، وأما ما يُسمِّيه «التركيز» فأسمِّيه أنا «الطاقة» فالكتابة جهد عصبي وفكري لا جهد أو نشاط لغوي، بمعنى الاستغراق في العمل الأدبي وفي إحكام صوغه — مادةً ومعنًى وبناءً — لأنَّ هناك عنصر آخر لا نملك أن نتجاهَله وهو الخروج من النفس إلى الآخرين، وأما ما يَحول دون ذلك فإنه حب الإنسان لذاته حبًّا يصل إلى حدِّ الإيمان المطلق بها، وهو الإيمان الذي يجعله يقيس كل شيء بمقياس ذاته، ليس بالضرورة ما إذا كان سيكون مفيدًا أو نافعًا له على أيِّ مستوى من المستويات، ولكن بنسبتِه إلى تلك الذات أولًا وأخيرًا، فاكتساب القوة يَقتضي نسبة كل شيء (بما في ذلك البشر) إلى الذات، بل وإنكار الوجود المستقل لغير الذات، ولو لم يكن الساعي إلى القوة يدرك ذلك الإدراك كله، وقد أنعمت النظر في قصة هذا الصديق أو الأستاذ الذي بدأ كاتبًا ثم شغله تحقيق القوة حتى فقد القدرة على التركيز — كما يقول — أو القدرة على الخروج من ذاته إلى أشخاص أو أشياء يتعاطف معها ويعتبرها جديرة بأن يبذل في سبيلها الوقت ويُضحِّي بالمال، وربما بالشُّهرة، فنحن الكُتَّاب نستمد مادتنا دائمًا من غيرنا، من الأشياء والناس، ولا وجود لنا دونهم ولله در نهاد زوجتي التي نبَّهتني ذات يوم إلى أنَّ الأمَّ (أو دور الأم الطبيعي) معناه الخروج من الذات إلى من خرج من الذات؛ فالأم تبذُل مُخلصة في سبيل من انفصل عنها وأصبح شخصًا مُستقلًّا عنها، وهي لا تتوقَّع شيئًا في مقابل ما تبذل، ولا يشدها إلى الطفل إلا ما يسميه وردزورث «رابطة الحب الأولى» (The primal sympathy) أو «الروابط البكر» (first-born affinities) التي «توائم بين وجودنا والموجودات الأخرى»، [في الكتاب الأول من قصيدة المقدمة] وفي هذا الخروج من الذات «طاقة الإبداع»، وهو «القوة الحقيقية» (strength) (بعكس الضعف في القدرة أو القوة) التي تَضمن للطاقة الاستمرار والنمو بل والازدهار، وبعضنا لا يستطيع في سعي الحياة اليومية الدائب أن يخرج من ذاته أبدًا، فتضعف طاقاته، وعندما يظنُّ أنه قد تمتَّع بالقوة بمعنى السطوة أو النفوذ (power) يكون قد فقد القوة الحقيقية، فيَستعيض عنها بظواهر القوة في المجتمع مثل السلطة أو المال، وعندما أحسَّ وردزورث بأنه فقد القدرة على إدراك النور الذي يكاد يكسو الوجود في طفولته، خشيَ أن يكون قد فقد طاقة الخروج من ذاته إلى الوجود من حوله، فأصابه ما يُشبه الذعر، فأُهرع إلى الماضي يبحث عن الغير أو عن الآخرين، فوجد الكثيرين وامتلأ شعره في الفترة من ١٨٠٢م حتى ١٨٠٤م (في قصيدة المقدمة التي أشرتُ إليها وفي غيرها) بشخصيات كثيرة، كان يتقمَّصها هربًا من ذلك الخوف الذي اعتراه، وعندما كتب معظم المقدمة، وهي سيرة ذاتية صريحة، وجد أنه ما زال قادرًا على الخروج من نفسه إلى الناس وإلى الطبيعة، واطمأنَّ قلبه بعض الشيء فعاد — كما قلت — إلى الفقرات الأربعة الأولى التي انتهت بالتساؤل عن اختفاء «شعاع الرؤى الغامر، والمجد والحلم الباهر»، ولم يكن يزيد عدد أبياتها مجتمعةً عن ٥٧ بيتًا، فأكملها حتى وصل عدد أبيات القصيدة إلى أربعة ومائتين! ولقد ساعدته السيرة الذاتية في اكتشاف الآخرين لا من خلال ذاته فقط بل في مقابل ذاته أيضًا، وهذه من المفارقات التي تواجهنا في السير الذاتية الأدبية! فنحن نَحكي حكايات الآخرين من خلال ذواتنا مثلما نكتشفها، ونكتشف ذواتنا أيضًا، من خلال «غيرية الغير».
وكان مما اكتشفه وردزورث وجود الطفل الذي كانه، والذي كان يعرف أنه مضى إلى الأبد، فكان الطفل بمثابة الغير الذي يُشكِّل وعيًا آخر، وهو يقول ذلك صراحةً في القصيدة الأولى [المقدمة الصغيرة] التي حقَّقتُها ونشرتها (٩٠٠ بيت) كما سبق أن ذكرت؛ إذ يقول فيها ما معناه: إنَّ المسافة التي تفصل بينه وبين أيام طفولته شاسعة إلى الحد الذي يجعله يعي بوجود شخصين — هما ذاته وشخص آخر (conscious myself and some other being) وهكذا فإنه بعد أن يَنعي فقدان ذلك الآخر، يستعيض بآخرين في مشهد يصوره في الفقرة العاشرة من القصيدة التي اقتبست منها الفقرة التاسعة في أول الفصل (خاطرات الخلود).

ولم تُتح لي الفرصة لمقابلة صاحبي إلا بعد عشر سنوات، وكان يعاني من مرضٍ عُضال، وكنت قد عدت لتوي من فرنسا بعد فترة العلاج التي طالت فأمعنت في الطول، وكان لقاؤنا قصيرًا وأكاد أقول عصيبًا؛ إذ لم أتعرف عليه أول الأمر، فلقد كان هزيلًا شاحبَ الوجه غائر العينين، وكان يلبس «كاسكتة» تغطي صلعته، ولم أتبين من صوته ومن تحيته ما يدلُّ على ما كنت أحبه فيه من مرح و«طاقة» فنية إبداعية، بل رأيت وأحسستُ استسلامًا (كنت أرفضه) للدنيا، وكنت أوشك أن أستقل سيارتي أمام هيئة الكتاب حين ناداني، ومكثنا عشر دقائق تقريبًا نتحادث فعلمت منه أنه تعرَّض لنكسة أو لنكسات في أعماله التجارية، وأنَّ المرض استنفد مدَّخراته، وكان يتكلَّم بمرارة عن الحياة والناس، وكيف «خانه» الجميع، ورددتُ عليه بأن لدينا في أنفسنا طاقة الصمود، وأننا نستمد من أعماقنا القوة، أو قُل إنني لخَّصتُ له ما سبق أن عرضته من آراء في هذا الفصل، ولكنه ظل على موقفه وافترقنا، وبلغني أنه توفي في العام التالي، وقال لي من أبلغني بوفاته إنه مات كسير القلب، بل إنه لم يتوقف عن التعبير عن المرارة حتى آخر لحظة. وتألَّمتُ أشد الألم لهذه النهاية، على ما ألهمتنيه الحكاية من أفكار لا تخصُّه وحده، بل تخصنا جميعًا. كنت أقول في نفسي دائمًا ليته قرأ الفقرة العاشرة من القصيدة المشار إليها، ولسوف أوردها الآن ختامًا لهذا القسم، مثلما بدأته بالفقرة التاسعة (من البحر نفسه):

غَنِّ يا أطيار إذنْ! غَنِّ أغنية الفرْحْ،
ولتتواثبْ هذي الحُمْلان وتمرحْ،
مع دقات الدُّفِّ!
فلسوف نُشارككم فكرًا في هذا الحفْل،
يا مَن تعزف في الناي ويا مَن تلهو،
يا مَن يشعر في أعماق القلب اليوْم،
بسرور ربيع يزهو،
ما ضرُّ إذا كانت عيني،
قد حُرِمَتْ للأبد النورَ الساطع،
ما ضرُّ إذا كان محالًا أن ترجع،
ساعةُ سحرِ بهاء الكلأ ومجد الزهر،
لن نحزن أو نبكي ما ضاع،
بل إنَّا نجد القوة في ما زال لدينا،
في رابطة الحب الأولى في أنفسنا،
إذ ما إن تولد،
حتَّى تخلد،
في أفكار عزاء أو سلوانٍ،
تنبع من كد معاناة الإنسانِ،
وفيما يتجاوز حد الموت من الإيمانِ،
وفي أعوام تأتي بالحكمة للأذهانِ!
والغريب أننا ما زلنا — نحن النقاد — أسرى الصورة التي رسمها ماثيو أرنولد (في القرن التاسع عشر) لوردزورث من أنه كان لا يكتب إلا عن الطبيعة، وأنه كان لا يتحدَّث إلا عن ذاته، وربما أكدت مجموعة «الكنز الذهبي» التي أعدها بولجريف (Palgrave) هذه الصورة، فثار المحدثون على شعره، وانتقدوه للذاتية أو لما هو أسوأ، وهو ما ترجمه عزمي إسلام باسم «الأناوحدية» solipsism، ولكنَّنا — حتى في هذه القصيدة التي يسترجع فيها ذكريات طفولته الخاصة — نَلمح ما يختلف عن ذلك، ويكفي أن ترصد ضمير الجمع الذي يشير إلى الإنسان هنا أو إلى البشرية، وخلاصة ما أرمي إليه أن وردزورث يقول إنه إذا كانت طاقة إدراك النور هي مصدر القوة الحقيقية، وإنها إذا كانت قد فقدت بسبب انهماك الإنسان في مشاغل الحياة، فللإنسان أن يستعيض عنها بما يجمله الشاعر في الأبيات الستة الأخيرة من هذه الفقرة.

٢

للإنسان أن يَستعيض عن فقدان بهاء رؤى الطفولة بعدة أشياء يستمد منها القوة، حسبما يقول وردزورث الذي يُجمِلها كما قلت في هذه الأبيات:

في رابطة الحب الأولى في أنفسنا،
إذ ما إن تولد،
حتى تخلد!
في أفكار عزاء أو سلوانٍ،
تَنبع من كد معاناة الإنسانِ،
وفيما يتجاوز حد الموت من الإيمانِ،
وفي أعوام تأتي بالحكمة للأذهانِ!
وأنا أورد هذه الأبيات مرةً ثانية — عمدًا — حتى ألفت الأنظار إلى مقصد الشاعر من جَمْعِ العناصر التي تُشكِّل في نظره «التركيبة» التي تُنقِذ الإنسان من وهدة فقدان «القدرة» (ومعها القوة الحقيقية) وسوف أتوقَّف عند معنى الحكمة التي اخترتها ترجمةً لتعبير the philosophic mind فهذا هو المعنى الأول، وفي ثناياه يأتي الصبر والمثابرة، وليس المقصود قطعًا أي فكر فلسفي، وأذكر أنني عندما ترجمتُ هذه القصيدة أول مرة ترجمةً منثورة أخطأتُ ذلك الخطأ وصحَّحه لي الدكتور مجدي وهبة — رحمه الله — وطيلة سنوات دراستي في إنجلترا كنت أجد من الشواهد ما يؤكد صحة ما قال به؛ فالحكمة كلمة ذات دلالة عامة تضمُّ ما سبق أن أورده الشاعر، فهي تضم روابط الحب الأولى، والعزاء والسلوان، والإيمان — ومن هذه «التركيبة» تأتي بعض المعاني الثانوية الشائعة للكلمة في اللغة الإنجليزية (مثل الصبر والمثابرة والجلد والتحمُّل) والغريب أن أجد في الكلمة العربية «الاتساع» نفسه (والطريف أن المعنى الاشتقاقي لكلمة فلسفة الأوروبية يتضمَّن «الحكمة»!) ولذلك أحببت أن أتَّخذها نقطة انطلاق — كما يقولون — لتفسير إهمال ذوي القدرة لقُدرتهم، وفقدانهم لقوتهم في سعيهم لاكتساب القوة المادية.

لقد عجز صاحبنا عن التحلِّي بأيِّ صفة من الصفات التي سبق أن أوردتها، ولم يتعلَّم في غمار تجاربه والخبرات التي كان يفخر باكتسابها أن يجنح ولو أحيانًا إلى الحكمة، ولو فعل ما انتهى تلك النهاية الأليمة، وأنا لا أقصد المرض أو الموت (فهما يُصيبان الجميع كبارًا وصغارًا)، بل أقصد العزلة التي شعر بها بعد أن تمزقت روابط الحب الأولى — وأظنُّ أنها لم تُوجد أصلًا في حالته — وبعد أن عجز عن نشدان السلوان في أي شيء، وبعد أن عجز أيضًا — وذلك هو العنصر الأساسي — عن التحلِّي بالإيمان. وإذا كنت قد سلطت الأضواء عليه — كما يقولون — فذلك لأنه — رحمه الله — لم يترك ما يجعل له مكانًا في متن كتاب الأدب العربي، بل هجر الكتابة فور عثوره على منصب مُناسب، وكان «يغازل» الكتابة أحيانًا فتشيح عنه بوجهها وتأبى وتستعصم، ولأنه — رحمه الله — قد أصبح هامشًا من هوامش ذلك الكتاب، قد يحذفه المحرِّر إن شاء وقد يبقي عليه، ولأنه نموذج للكثيرين ممن لا يزالون بقيد الحياة بيننا، يعيشون لحظات القوة في لذة تُشبه لذة السُّكر الذي يُغري بالمزيد! وأظنُّني لست بحاجة إلى أن أشير إلى نماذج محدَّدة من هؤلاء، بل سأنتقل إلى آخر حكاية من حكايات هذه الواحات، وهي حكاية أرجو ألا تطول.

ولسوف أوجز القصة على لسان صاحبها، فهي حية في ذهني ونفسي ووقائعها مسجَّلة في مفكرتي، وكلماته أبلغ في التأثير من تحليلاتي وتعليقاتي، والرجل حيٌّ يُرزَقُ، ولا بد إذن من إخفاء أسماء «أبطال» القصة، بعد تقديمهم إلى القارئ باختصار. أما الرجل فهو يشغل منصبًا مرموقًا، بعد أن ترقى في سلم الوظائف الحكومية فوصل إلى غايته، وكان قد تجاوز منتصَف الخمسينيات حين بدأت «الأحداث»، وكانت هي قد تخرجت قبل سنوات معدودة، وعُيِّنَتْ في مكتب مجاور لمكتبه، فكان يراها من حين لآخر، وإن لم تكن هناك دواعٍ عملية للحديث خارج العمل. وكانت — كما وصفها لي — فتاة عادية لا يميزها عن سواها سوى الجد والاجتهاد، فلم تكن ذات جمال أخَّاذ يشد العيون أو «يُدير رءوس الرجال» — كما يقولون — ولم يكن الزائر إلى مكتبه أو مكتبها يمكن أن يتوقع حدوث أي شيء غير عادي. وكنت على وشك مشاهدتها حين اقترح إرسالها إليَّ في «مهمة رسمية»، ولكن المهمة سرعان ما أُنجزَتْ فلم يرسلها، وبعدها جاءتني مكالمة تليفونية منه يطلب فيها أن يمرَّ عليَّ في الجامعة أو في هيئة الكتاب، فصداقتنا ترجع إلى أيام دراستنا في إنجلترا، وإن اختلفَ تخصُّصه عن تخصصي، وضربت له موعدًا لم يخلفه، وتوالت المواعيد والمحادثات التليفونية حتى اليوم.

كنا في نحو منتصَف التسعينيات حين بدأ صاحبي حكايته بطلب رأيته عجيبًا وهو «أن أكتب قصته له» حتى يفهمها! ولم أدرك مرماه أول الأمر، فهو ذو فصاحة يحسده عليها الأدباء، وهو يستطيع التعبير بقدرة الموهوبين من الكُتَّاب، وهو قارئ نهم بل لا يشبع له نهم، وإن لم يكن يمارس الكتابة بل يستمع فحسب إلى «الصوت الداخلي» الذي يُتيح له أحيانًا أن يَبتعِد عن مجرى حياته العملية فيرى نفسه من مسافة ما، فكأنما هو شخصية في رواية تقع أحداثها على مرأى ومسمع منه. ومن ثَمَّ قلت له إنني لن أستطيع التعبير خيرًا منه، وإن سرَّني قوله إنه يريد أن يقرأ «نَصَّ» قصته حتى يَفهمها، وكان يمكن أن يقول إنه يتمنَّى أن يكتبها حتى يفهمها، فكل كتابة «جهد استكشافي» أو ما يُسمَّى اصطلاحًا heuristic فالكاتب يتصوَّر أن المادة جاهزة للتسجيل وأنه قادر على استنباط المعنى منها على الورق، لكنه ما إن يبدأ الكتابة حتى تتغير في عينه صورة المادة وتتغيَّر معانيها؛ لأن اكتساب المادة ثوبًا لغويًّا يفرض على كل ما فيها الكثير من الموروث اللغوي والأدبي، ويحولها من مادة إنسانية لا شكل لها — أو ذات شكل غير محدد — إلى «مادة أدبية لغوية» ذات شكلٍ له من الدلالات ما لم يكن صاحبها يتوقَّعه، وإذا بالكثير من التحوُّل والتبدُّل، وإذا بالمعنى يختلف! ولكن الكاتب قد يكتشف في غمار الكتابة نفسها معاني جديدة، وقد يصل إلى «نتائج» لم يكن يتصوَّرها في البداية! ولهذا فرحت وطلبت منه أن يحكي القصة من أولها، لكنه قال إنه لا يعرف لها بداية، وأقسم إنه لا يعرف كيف بدأت، لكنه يذكر بعض اللحظات — وها هي بالألفاظ التي استخدمها تقريبًا:

«كان لدينا مؤتمر دولي، وكان التحضير له يقتضي العمل طول اليوم بل في المساء وحتى ساعة متأخِّرة من الليل، وكان الجميع يشعرون بحجم المسئولية ولا يدخرون وُسْعًا في معاونتي لا من باب «تنفيذ الأوامر» بل من باب الحرص على النجاح؛ إذ كان النجاح يمثل لكل منهم «أكاليل غار»؛ فنحن قسم صغير، ولم يكن الوزير يتصور أننا نستطيع أن ننهض بعبء المؤتمر كله وحدنا، ولكنَّنا اجتهدنا، وعملنا كأننا في منافسة أو في سباق مع أنفسنا، ونجح المؤتمر، وجاءتنا خطابات الشكر والمكافآت، ولكنَّني خرجت من المؤتمر مُنهكًا لا أكاد أقوى على مواصلة العمل وأشعر بضعف لا أدري كنهَه. وقررت أن أستريح يومًا أو يومين، فمكثت في المنزل يومًا كاملًا أحسست فيه بملل قاتل، وعندما حل المساء خرجت بالسيارة للنزهة وحدي، وكان الزحام شديدًا ولكن برد المساء خفف عني عذاب المرور، فانطلقت إلى مقهى في الهرم أرتاده حين يَعتريني الضيق، وكان معي كتاب أحاول الانتهاء منه، لكنني قبل أن أفتحه وجدت تلك الفتاة تجلس وحدها وفي يدها كتاب، فحدست أنها تنتظر صديقًا، وشعرت بالحرج فقمت وجلست في ركن بعيد حتى لا تلمحني.

ولكن الوقت مرَّ، ولم يأتِ أحد ليشاركها مجلسها، فجعلت أخالسها النظر فأحسست كأنما كنت أراها للمرة الأولى. لا أعرف ما حدث ولا أعتقد أنني سأعرفه يومًا ما، لكنني أصدقك القول إنني شعرت كأنما كنا في إنجلترا — ولعلك تذكر تلك الأيام — وأنني كنت أشاهد فتاةً أجنبيةً متحرِّرة مستقلة، قادرة على الخروج وحدها لقراءة كتاب في مكان خلوي! وما إن داهمني هذا الإحساس حتى وجدت عيني وقد ثبتت عليها، لا تفارقها ولا تحول عنها، وخفت أن أسبب حرجًا لها لو شاهدتني فلبست نظارة شمس أتخفى بها، فإذا بها تزيد من جمالها، كانت رشيقة ينسدل شعرها الطويل على ظهرها كالشلال المتدفِّق، ولا تكاد ترفع عينها عن الكتاب، وكنت أتصور أن تنظر إلى ساعة يدها من فترة إلى فترة إن كانت تنتظر صديقًا، لكنها لم تفعل، بل لم تكن تغير من جلستها إلا على فترات طويلة! لم أدرِ ما أصابني آنذاك! لا أذكر طبيعة الإحساس ولا أستطيع أن أصفه لكنني أذكر وحسب أنني ابتعدت عن مصر آلاف الأميال، وعن اللحظة الحاضرة عشرات السنين، فكأنما لم أكن الرجل الذي أعرفه، وتدافعت في مخيلتي صور إنجلترا ومن قبلها صور مصر — القاهرة — في الخمسينيات، وتراءت في مرآة الذهن صور الشباب، صور التحرر والانطلاق والأحلام، وتذكرت رحلة قمنا بها ونحن طلَّاب في الجامعة إلى القناطر الخيرية حيث لهونا ولعبنا وغنينا أغاني عبد الحليم حافظ، وماج عقلي بالصور المتداخلة فكدت أذهل عن المقهى، وعيني مُثبتة عليها لا تكاد تفارقها! هل اشتقت إلى الشباب آنذاك؟ هل تحوَّلت الفتاة إلى صورة مضت من حياتنا إلى الأبد وأحزنني فقدها؟ أقول لك لا أعرف، لكنني متأكد أنني كنت ذاهلًا عن مكاني في المقهى، وربما عن ساعات المساء التي فرت سراعًا، حتى أيقظني صوت النادل يسألني إن كنتُ أريد شيئًا آخر قبل انصرافه. ولم أكن أريد شيئًا، فدفعت له «الحساب» ونهضت متثاقلًا وقلت في نفسي ليتني كنت شاعرًا لأصوِّر ما اعتراني!

ويبدو أن حالة الذهول كانت لا تزال تلازمني وأنا في طريق الخروج، فلم ألحظ أن الفتاة قد سبقتني، ولكنني فوجئت بها وأنا في طريقي للسيارة فوقفت جامدًا كأنما كنت أخشى أن تكتشف ما بي، ووقفتُ، وفي لحظة تغلبتُ على الإحساس الذي داهمني أول الأمر بأنني «ذكرى رجل» (ولا أقول ذكريات رجل) وتظاهرتُ بأنني لم أشعر بشيء، وأصبحت فجأةً ألعب دور «كبير الموظفين» — ويا له من دور سخيف — فألقيت عليها تحية المساء، وردت ردًّا مهذبًا، ولم أستطع أن أتبادل معها العبارات الاجتماعية المألوفة أو أطرح عليها أي أسئلة، لا لأن ذلك «لا يجوز» ولكن لعجزي وحسب عن الكلام. وأخيرًا سألتها إن كانت تحتاج إلى «توصيلة» بالسيارة لأن الوقت قد تأخر، فقالت إنها سوف تعود إلى منزلها بالتاكسي، لكنني أشفقتُ عليها من ذلك وأصررت على توصيلها، فركبت إلى جواري، ولم نتبادل كلمات كثيرة، بل تركت أنغام البرنامج الموسيقي تملأ السيارة، وأدرت جهاز التكييف بعد إغلاق النوافذ، وعندما اقتربنا من القاهرة طلبت مني أن أتوقف حيث تُفضِّل استكمال الرحلة بالتاكسي. وأوصلتها إلى أقرب نقطة إلى التاكسي وخَرَجَتْ.

تظاهرت في الأيام التالية بأنه لم يحدث شيء، ولكن شيئًا ما قد حدث بالتأكيد، ولم أكن أجرؤ على الإفصاح به فنحن في مصر، والواقع بأثقاله يَجثم على صدورنا، فكنتُ أستعيد ذكرى اللحظات التي بدت خارج الزمن، وأتمنَّى أن أستعيدها أو أعيدها، فأكثر من التردُّد على ذلك المقهى، وأفحص الرواد عسى أن أجدها، عبثًا، وأخيرًا لاحت فرصة نقلها إلى مكتبي، فاجتهدت حتى تحقَّق ذلك، على الورق على الأقل؛ إذ إنها ما إن تسلَّمت الخطاب حتى جاءتني وقالت إنها تُفضِّل أن تظل في مكانها! وأسرعت بالموافقة، وقد تنازعني الخوف والرغبة، وسألتها عن السبب فقالت إنها تدرس للحصول على الماجستير، وعملها في مكتبها يتيح لها التركيز، فقلت من الكلام ما يتطلَّبه الموقف وما تقتضيه الوظيفة وانتهت المقابلة، لم أكن أدري أن الأيام تُخفي مفاجأة لي، لكنَّني كنت أتطلَّع إلى مشاهدتها، مجرَّد النظر إليها، وأستعيد في خيالي لحظات المقهى وذكريات إنجلترا وقاهرة الخمسينيات، فغدوت أحسُّ أن أثقال الواقع «الحاضر» قد خَفَّتْ، وأن في الماضي صورًا لو نجحنا في التصالح معها لتوافر لنا قدر أكبر من السعادة، وكنت أختلق الأسباب للحديث مع صاحبة تلك اللحظات الساحرة، كأن أُكلِّفها بعمل أو أسألها عرضًا عن دراستها، حتى جاء يوم كنا فيه وحدنا في المكتب فإذا بها تقول لي: لماذا لم تعدْ تذهب إلى المقهى؟»

وقص عليَّ صاحبي تفاصيل المكاشفة بينه وبين حبيبته، وكيف «فتح» كل منهما قلبه لصاحبه، وكيف اندفعا في علاقتهما غير عابئين بأثقال المجتمع — ما يُسمِّيها — وكيف مرَّ من جديد (في المراهقة الثانية؟) بكل عذابات الحب من لهفة وتوقع ولقاء وافتراق وود وبعاد! فكأنما عاد شابًّا وجد ذاته في هذه العاطفة الجياشة، وكانت صاحبتُه تشاركه مشاعره في كل لحظة بإخلاص وصدق مُذهل! لم يكن يعرف أيٌّ منهما أي مصير لتلك العلاقة، وكان يُوافيني من حين لآخر بتفاصيلها، فهي ملتهبة دائمًا متأجِّجة لا ينطفئ لها أوار!

وبعد عام أو بعض عام زارني وقال لي: «إنها المعنى الذي كنت أبحث عنه! إنسان مُستقل له أفكاره ومشاعره، إنسان لا ينظر إلى العلاقة الإنسانية من وجهة نظر المجتمع الذي لا يعرف إلا الزواج والإنجاب! هل أصدق أنها تُحبني رغم فارق السن الذي يفصل بيننا؟ هل أصدق نفسي في اندفاعي، وفي تحايلي على إخفاء كل شيء عن الجميع؟ إنني أرى فيها ذكريات الصبا فأعيشها من جديد كأنما لم يفعل الزمن بي ما فعل! وأكاد أذوب شوقًا إليها كلما غابت عني يومًا أو يومين! إنها علاقة بلا مُستقبل، ولكنها حقيقية، وليت شاعرًا أو كاتبًا يكتب عنها!»

كنتُ أعرف أن تلك «الخبرة» الحقيقية لا تتطلَّب شاعرًا بل روائيًّا، أو قصَّاصًا بارعًا مثل تشيخوف يستطيع أن يغوص إلى الأعماق، فيقول لنا كيف اجتمع الكهل والصبيَّة، وكيف وُلِدَ من جديد على يديها، وكنت أرسم لها في مخيلتي صورًا متعدِّدة؛ فلم أكن رأيتها ولكنها كانت تلتقي جميعًا عند بؤرة «الزمن الأول»، فصاحبي قد يعود معها إلى قاهرة الخمسينيات أو يعيد خلقها في ذهنه، وقد يعود معها إلى أيام دراسته في إنجلترا، وهو عهد الأحلام الكبرى؛ إذ كانت الدنيا تتغيَّر في مصر وهو لا يدري (أو يحس) بالتغيير، وكان على تفوقه في تخصصه يتمنى أن يمارس الكتابة ظنًّا منه أنها تعتمد على «القدرة» على التعبير فحسب، ولا شك أن قدرته كانت كبيرة، ولم يكن قد تبين مكابدتنا في طرح الأفكار ومعالجتها وبسطها على الورق، وكانت الشهور تمضي وهو يزداد «طاقة» على العمل ويَنشر البحوث في «الدوريات» الأجنبية، بل سافَرَ مرتَين في عام واحد إلى روما لحضور مؤتمرَين مختلفَين عقدتهما منظمة الأغذية والزراعة، وكانت صلتي قد انقطعت بتلك المنظَّمة بعد تدهور القسم العربي فيها (قسم الترجمة والتحرير) وانتقال نشاطه إلى مقر القاهرة، وأذكر أنه اتصل بي بعد عودته من أحدهما؛ ليقول لي إن عبد الرازق إبراهيم يبلغك سلامه، وكان آنذاك رئيسًا للقسم العربي المتضائل، ويصف لي محاسن روما وجمالها الأخاذ وكيف ذكرته بقاهرة الخمسينيات، وأنهى المكالمة — إذا صدقت ذاكرتي — بأن قال إنه كان يرى حبيبته في كل زهرة إيطالية تسير على النهر أو في حدائق المدينة، بل وفي كل جمال رآه في الأرض أو في السماء، وكثيرًا ما كان صوته يأتيني كأنما من الماضي فأعجب وأدهش ولا أقدر على الرد!

ومرَّت ثلاثة أعوام تغيَّر فيها صاحبي فأصبح أكثر توافقًا مع نفسه ومع الناس، وكان كلما صارَحني بما يَحدث اعترضت لأنني لا أرى إلا فارق السن، وكنت أحاول تفسير تلك العلاقة بالمنطق العلمي وما أعرفه في علم النفس، فإذا ذكرتُ له أيًّا من ذلك استمع بصبر وقال إن العلم نفسه ينهار في لحظة اللقاء معها، لحظة الجمال المطلق، لحظة التقاء نفسين، فهي ليست مجرد امرأة جميلة أو عادية؛ إذ حَصَلَتْ على الماجستير وهي تدرس للدكتوراه وتُراسل جامعات أجنبية، وهي تتمتَّع بقدرٍ كبير من اللماحية والذكاء، لكنها لا تعبأ بما نُسميه المستقبل، بل هي تفعل ما تراه صوابًا، وكان يردُّ على اعتراضاتي بأنني على البر ولستُ في خضمِّ البحر، حتى جاء يوم هزَّه هزًّا وأصر على مقابلتي؛ إذ إن صاحبته خُطِبَتْ وبدأت تستعد للزفاف! ووصف لي ما انتابه عندما أبلغَتْهُ النبأ بثبات الإنجليز وواقعيتِهم؛ فأهلُها مُصرُّون، وقد فعلت كل ما تستطيع لتأجيل الموضوع، فتأجل عدة مرات، ولكنها لم تستطع الصمود في النهاية فوافقَتْ، ولم تشأ أن تخبره آنذاك لأنها كانت تأمُل في التأجيل «إلى أجل غير مسمًّى» كما يقولون، لكن «الأمور تطورت» بسرعة، ولم يعد هناك مفر من المصارحة، خصوصًا وأنه على مشارف التقاعد ولا بد من وقفة لمناقشة المستقبل.

قال صاحبي: «كانت تلك أول مرة أسمع فيها منها كلمة «المستقبَل»، فقلتُ لها فيما يشبه الهزل من الجد: إنني على استعدادٍ للزواج منها إن كان في ذلك حلٌّ للمشكلة، لكنها ردَّت بسرعة فنفتْ أن مثل هذا الحل «وارد»؛ فأهلها قد عقدوا القران، والعريس لا بأس به، ولم يعدْ هناك مجال للتراجع، وبعد صمت طويل غالبتُ فيها الدموع وَدَّعْتُهَا وأنا أحسُّ أنني أتمزَّق، وأحسُّ جادًّا بأن الحياة قد انتهت، لولا بقية من جَلَدٍ وإيمان.»

وانقطعت عني أخبار صاحبي نحو عامَين، حتى رأيته من جديد في ربيع عام ٢٠٠١م، وكنت أحضر مؤتمرًا عن المياه في شرق العالم العربي عقَدته الأمم المتَّحدة، ولم أكن أدري أنه ترك مصر ليعمل في هيئة من هيئات تلك المنظمة الدولية، وكان كعهدي به بشوشًا عفَّ اللسان، ولم يكن يبدو عليه أنه قد تأثَّر بتلك «الحادثة الشخصية»، فلقد التقينا مصادفةً في الكافيتريا، وكان كل لقاء خارج مصر يجتذب المصريين فانضمَّ إلينا أستاذ أو أستاذان، وناقشنا ترجمة مصطلحات المياه والري، ثم افترقنا بعد أن طلب مني أن أزوره في الفندق، ولما كان الجو معتدلًا خرجتُ عن عادتي في التزام غرفتي في المساء وسعيت إليه وتحادثنا طويلًا، وهاك مُلخصًا للحديث.

قال صاحبي: «تذكُر ما قلته عند وداع صاحبتي؟ لقد تدرَّعت ببقية جلَدٍ وإيمانٍ فإذا بتلك البقية تنمو وتُصبح نبعًا صافيًا من الجلَد والإيمان! لقد أيقظَتْ تلك التجربة في نفسي طاقة لم أكن أعهدها، وتحوَّلت إلى قوة جبارة أحيا بها ولها، فلقد تخطَّيت الستِّين، لكنني أجد الزاد الروحي أو النفسي في كل ما مضى وانقضى، وكلما خلوت إلى نفسي برزت صورة تلك الفتاة (الدكتورة الآن) فأحيَت ذكريات أبعد وأجمل، ولو مررت أنت بتجربة مماثلة لكتبت ديوانًا لا قصيدة واحدة؛ فأنا — كما يقول عبد الوهاب — أعيش و«صور الماضي ورائي وأمامي!» ولقد تعلمت من هذه الصور رهافة في السمع والبصر، وإيمانًا متزايدًا بجدوى العمل، ولقد وضعت لنفسي برنامجًا للحياة خارج مصر لا أحيد عنه، فأنا أقرأ وأدرس مثلما كنا نفعل في إنجلترا، وأخصِّص وقتًا كل يوم للسير — ولا أقول للنزهة — حيث أتأمل نفسي وأتأمل الحياة، وأتمنى أن أكون شاعرًا حتى أعبر عما أحسُّه، فأنا واثق أنه يصلح للشعر!»

وسألته ما إذا كان قد قطع «علاقته» نهائيًّا بحبيبته، فضحك وقال إنه لا يمكن أن «يقطع» أي شيء! فلقد أصبحت الحياة في نظره تتَّسم بالتحوُّل الدائب، تمامًا مثلما يحدث في الطبيعة، ولقد تحوَّلت العلاقة التي كان من المُفترَض أصلًا أن تكون أبوية إلى علاقة «أبوية» حقيقية، وكان ذلك هو «المؤلم» حقًّا في نظره فهو لم يكن قد «دخل» تلك العلاقة بوصفِه أبًا بل بوصفه حبيبًا، وكان التحوُّل معناه وقوع تناقض شديد بين ما يحسُّه في أعماقه وما يتبدَّى في مظاهر سلوكه، لكنه ابن مخلص للمجتمع المصري، ولا يقبل أن يواصل شيئًا «قطعه» المجتمع!

وأعجبني تلاعبه بكلمة «قطع» فسألته مباشرةً إن كان يراها ويُحادثها، فقال ببساطة إنه لا يزال يزور المكتب، وهي لا تزال تعمل فيه بعد أن ترقَّت وأصبحت في حكم نائب رئيس القسم، وقد بلغه من «الزملاء» أنها أنجبَت طفلًا جميلًا، وإن لم يَحُلْ ذلك دون مواصلتها الدرس والإنتاج، فهي ذات طابع عملي وتعيش في هذه الدنيا بكل ما فيها، وعدت أسأله إن كان لا يزال يحمل في نفسه «لواعج» الحب الأول، فقال ما أذهلني إذ ذكرني بقصيدة وردزورث التي ما فتئت أقتطف منها الفقرة تلو الفقرة.

قال صاحبي: «وقدة النار خَبَتْ! لكنها أصبحت صورة ثابتة متعددة الألوان والأشكال في ذهني! ولقد حاولت استعادة تلك الوقدة عدة مرات وفشلت! وكانت النتيجة محبطة لي أول الأمر، ثم وطَّنت النفس على تقبُّل الواقع، لكنني كنت أستعيض عن الوقدة بتذكر ما فات ومر، وكنت في كل مرة أجده قد اكتسى طابعًا جديدًا، فأدركت أن الزمن هو الذي يتدخل ليحدث ذلك التحول، فأنا أسير نحو النهاية وهي تسير نحو البداية — كما كنت تقول لي دائمًا — وطبيعة الأشياء ترفض التقاء النهاية بالبداية! وأما الطابع الجديد الذي أراه يكسو ذكرياتي اليوم فهو طابع يمزج بين عقل المحب وقلب المفكر! لاحظ أنني نسبت العقل للمحب والقلب للمُفكِّر، على عكس المعتاد، فأنا الآن أجد متعةً في التأمل الذي يهب الحياة عمقًا لم أكن أحسُّه قبل حبِّي لها، وأجد في ذكريات مَشاعري أبعادًا لا سبيل إلى تكرارها! إنها حياة جديدة متجدِّدة، تتغيَّر مع الدنيا ومع كل شيء!»

وعندها قرأت عليه قصيدة وردزورث — كلها — فأنا أحفظها منذ بواكير الصبا، فاغرورقت عيناه بالدمع، خصوصًا عندما أتيت إلى الفقرة الختامية، وما لبث أن قال إن ذلك ما كان يعنيه بأن التجربة لا بد لها من شاعر، وبأنها تجربة شعرية خالصة، لكنني رأيت فيها تحقيقًا لقدرات باطنة وهبت صاحبها قوةً جديدةً فتحت أمامه طريق حياة مزهرة، فلقد استمد من طاقة الحب أو النزوع إلى الشباب أو تحقيق الذات مع «الآخر» — كما يقولون — قوة على العمل فالجلد فالصبر فالحكمة! وعندما عدت إلى غرفتي نمت وصحوت في الفجر فترجمت الفقرة الختامية. وها هي ذي:

يُواصل الشاعر خطابه إلى «الفرح» في الفقرة التاسعة بخطاب إلى «الأطيار» في الفقرة العاشرة، ثم يتحوَّل إلى عيون الماء والمروج والتلال والخمائل:

وأنتِ يا عيونُ يا مروجُ يا تلالُ يا خمائل!
لن تشهدي أي انفصام في عرى غرامنا!
فلم أزل في عمق أعماق الفؤاد،
أحسُّ قوَّتك!
وما افتقدتُ إلا متعة وحيدة هنا،
هي الحياة تحت ظل سطوتك!
بل إنَّ حبي للجداول التي تنحر في الشطآن،
يزيد عن حبي لها،
أيام كنت مثلها،
أجري بخفة المراح حولها!
ما زال صفو النور في السماء عند مولد النهار ذا سناء!
لكنَّما السحاب حول الشمس في الغروب يَكتسي،
لونًا رزينًا من عيون من رأوا مسيرة الإنسان للفناء!
قد انتهى السِّباق وانطوى مضمار،
وفيه أحرزنا أكاليل انتصار،
والفضل للقلب الذي نحيا به؛ قلب البشر،
رقَّتُهُ، أفراحُهُ، مخاوفُهْ!
بل إن أدنى زهرة قد تستوي في عودها،
توحي بأفكار بعيد غورها،
لا يستطيع الدمع أن يسبرها!
وقد حار النقاد في تفسير الأبيات الثلاثة الأخيرة، وهما بيتان في الأصل الإنجليزي، واختلفوا في تحديد المقصود بالأفكار (thoughts) وبعلاقة الدمع بأعماق تلك الأفكار، ولقد اجتهدت ما شاء الله لي أن أجتهد في التفسير فلم أصل إلى نتيجة حاسمة فأخرجت المعنى كما هو في ظاهر اللفظ، وإن كان غامضًا في الأصل فبه «فجوة» (gap) أو «حذف» في آخر السطر الأخير، اتفق الشراح على إيراد كلمة لملئها وهي بين قوسين هنا:
Thoughts that do often lie too deep for tears (to fathom)
وعلى هذا ترجمتُ البيت، وإن كنت قرأت لناقدٍ حديثٍ تفسيرًا يختلف فيه مع جمهور الشراح مقترحًا أن تكون الكلمة (to express) وفي هذه الحال يكون المعنى في البيت الأخير بالعربية: «لا يستطيع الدمع أن يعرب عنها»، وسواء صح هذا أو ذاك، فجوهر المعنى واحد وهو أن أدنى زهرة — بمعنى أقل الزهور جمالًا أو فتنةً — تستطيع الإيحاء بأفكار عميقة أو لا تسبر أغوارها، وجعلت في خيالي أستبدل الفتاة بالزهرة، وأستبدل مشاعر صاحبنا بمَشاعر وردزورث عن «الخلود»، ولكنَّني كنت دائمًا أعود إلى فكرة «القدرة» و«القوة»، فأتجاوَز التفسير الذي يحصر القصيدة فيما تقول — على أهميته ودلالته الكبرى — وألهو ببعض التأويل والتخريج الذي يَسمح «بالإبدال والإحلال» فأجد بغيتي وأجد ما يرضي خيالي!

لقد اختلطت عندي الخبرة الأدبية بخبرات الحياة، ولا مجال لإنكار هذا الاختلاط، كما أنني لا أستطيع إنكار تأثير شاعر مثل وردزورث في حياتي، وكيف أنكر تأثير من درست شعره سنوات عشر، وحفظت منه مئات الأبيات، حتى تغلغلت في فكره ومشاعره، بل لقد كنت أحس في خبرات الآخرين بهذه الأفكار والمشاعر، ويبدو أنني قد اخترت ما أروي من حكايات هنا اهتداءً بذلك كله، ولا ضير في ذلك — في نظري — ما دامت هذه وتلك مما نَشترك فيه جميعًا، بل ومما يَربطنا بعضنا إلى البعض وإلى الحياة بظواهرها المنوعة من حولنا! وقد لا يكون في تأملاتي شيء جديد، فهي من حصاد قراءات وخبرات شائعة، ولكنني أزعم أن حكاياتي قد تدفع القارئ إلى التفكير، وقد يختلف معي وقد يتفق، وهذا في ذاته هدف يسعى إليه كل كاتب جاد، وأنا لا شك أقصد مثل كل كاتب إلى تحقيق هذا الهدف!

٣

سوف أقتصر في هذه الصفحات الأخيرة على ذكر حادثتين هزَّا كياني هزًّا في عام ٢٠٠٢م، وهما وفاة والدتي وحصولي على جائزة الدولة التقديرية في الآداب.

حين علمتْ والدتي — رحمها الله — بمرض خالي الدكتور مصطفى كمال بدر الدين وباستعصاء شفائه ثم بوفاته (وكان ذلك في مطلع العام الحالي — ٢٠٠٢م) أصابها الانطواء والانعزال عن أحوال العالم، كأنما كانت تشهد نهاية «دنيا كاملة»؛ إذ كان خالي رحمه الله رمزًا للصلة التي تربطها بدنيا الأحياء، عالمًا في الطب لا حدود لعلمه، متواضعًا لا حدود لتواضعه، مؤمنًا بالله لا حدود لإيمانه، وكان يليها في ترتيب إخوتها من حيث السِّن، لكنها كانت ترى في نفسها أُمًّا ثانيةً له، وتحبه حب الوالدة لولدها، وعلى إيمانها الديني العميق الذي لم أشهد له نظيرًا (إلا في خالتي الحاجة لطيفة — أصغر أخواتها — متعها الله بالصحة وطول العمر) فلقد كانت وفاته ضربة قاصمة لها دفعتها إلى الانزواء ولم تدع لها اهتمامًا واحدًا يربطها بدنيا الأحياء، ولم تكد تمرُّ أيام معدودة على وفاته حتى أصابتها غاشية سقطت على أثرها سقطة موجعة، وأكاد أجزم بأن السقطة كانت نفسية لا عضوية؛ إذ أجمع الأطباء على سلامتها البدنية، لكنها كانت في ظني تتمنَّى اللحاق بأخيها، وعلى امتداد شهرين كاملين حاولنا — أنا وأخواي حسن ومصطفى — أن نُعيد لها الأمل والرغبة في العيش، ولكنها كانت كأنما ترفض الحياة الدنيا، وما لبثت أن فارقتها في ٩ مارس — الشهر الذي شهد وفاة والدي قبل خمسة عشرة عامًا (وشهد مولده قبل ذلك بأكثر من سبعين سنة).

كانت وفاة والدتي صدمة كبيرة لنا — ولي شخصيًّا — مع أنها كانت قد تخطَّت الثمانين، فكأنما سقط ركن من أركان دنياي، وعندما ذهبنا إلى رشيد لدفنها في مدافن الأسرة كانت الرحلة تشبه الوداع لدنيا كاملة، أو لعالم كامل انطوت صفحته، فكنت أحس أنني أعود معها إلى الأرض التي خرجت منها، وأن روحها أصبحت تصحبني في غُدُوِّي ورواحي، وأن دورة الحياة هنا قد اكتملت كمال النهاية، وأنها بدأت دورة أخرى تُبشر بكمال نهايات أخرى؛ ومن ثم انكببت على أوراقي القديمة أنبشها وأستخرج منها مادة هذه الحكايات، وقد غمرني — كما يقول وردزورث — الإيمان الذي ينظر إلى ما وراء فناء الجسد.

وفي غضون انشغالي «بالواحات» وحكاياتها كان شِعر وردزورث يُمثِّل النبع الصافي الذي أنهل منه، ووجدت الأبيات التي عاشت في وجداني ترنُّ بأصدائها في أعماقي كأنما ترسم لي طريقًا يتجاوز الموت، فعكفت أولًا على خاطرات الخلود أستكمل ترجمتها، وقد أرفقت النص الكامل هنا لأنَّ معنى الحكايات لا يكتمل دونها، وما إن اكتمل هذا الكتاب أو قارب الاكتمال حتى وجدتني أعيد قراءة ديوان ذلك الشاعر، فأجده يتحدَّث بلساني، وأرى في تنوع إيقاعاته وأفكاره وصوره الشعرية ما يرسم لوحات كاملة قد تغنيني عن قول المزيد؛ ومن ثم ترجمت ثماني عشرة قصيدة تتراوح طولًا وقصرًا وإحساسًا وفكرًا، وشُغلت بها شهورًا حتى اكتمل لي ديوانٌ صغيرٌ من الشعر الرومانسي المترجَم نظمًا، وكُتب له أن يُنشر قبل هذه «الحكايات»!

ومرَّت الأيام وإذ بشهر يونيو يأتيني بخبر من أخبار الدنيا، خبر فرحتُ به لكنه لم يلعب برأسي، وهو حصولي على جائزة الدولة التقديرية في الآداب، التي كانت أرفع جائزة حتى عهد قريب، قبل استحداث جائزة الدولة للتفوق (وقد حصلت عليها) وجائزة مبارك الكبرى عام ١٩٩٩م! كانت الجائزة تقول: إن الله لا يضيع أجر العاملين حتى في دار الفناء، وكنت أسمع صوت أم كلثوم وهي تُردِّد قول أحمد رامي في نشيد الجامعة «واعملوا فالله يجزي العاملين»! وكانت الجائزة تقول: إنني أصبت نجاحًا في مسعاي الذي اخترته، وأنني وفقت والحمد لله في أن أخاطب من حولي وأن أفيد بعضهم، كاتبًا ومترجمًا ومعلمًا، وأن مسيرة الحياة الحافلة قد كللت بما يؤكد جدوى الكفاح، وإن كان في ذلك التشريف تكليف باطن، وهو أن أواصل الجهد ما وسعتني الطاقة فيما بقي لي من العمر.

وتذكرت غداة حصولي على الجائزة أيام المرض اللعين الذي أقعدني شهورًا قبل عشر سنوات، وذكرت ما أبديته من إصرار على الاستمرار، غير ملتفت إلى الندوب الجسدية والنفسية التي خلفها المرض، وذكرت حب الأهل والأصدقاء ووقوفهم إلى جواري في المحنة، وحب الأغراب وتعاطفهم، فكان لسان حالي يردِّد أبيات وردزورث الأخيرة في القصيدة المشار إليها:

قد انتهى السباق وانطوى مضمار،
وفيه أحرزنا أكاليل انتصار،
والفضل للقلب الذي نحيا به؛ قلب البشر!
رِقَّتُهُ، أفراحُهُ، مخاوِفُهْ!
بل إن أدنى زهرة قد تستوي في عودها،
تُوحي بأفكار بعيد غورها،
لا يستطيع الدمع أن يَسبرها!
والآن أقدِّم النص الكامل باللغتين العربية والإنجليزية لهذه القصيدة التي أكثرتُ من الإحالة إليها — والاستشهاد بها — وسوف يلحظ القارئ أن الترجمة المنظومة يتفاوت إيقاعها فيما بين الفقرات على نحو ما بيَّنت بشأن الفقرات الخمس التي سبق إيرادها، وعذري أنني لم أكن أتعمَّد إخراج ترجمة كاملة في أول الأمر، بل كنت أترجم ما يتفق و«الموضوع» الذي أتناوله، ومن وحي النص الأصلي، فجاءت ثلاث منها من الرجز وتنويعاته، واثنتان من الخبب، وأما باقي القصيدة فمعظمه من الرجز (خمس فقرات) وفقرة واحدة من المتقارب، وقد لا يشعر القارئ بالتنوع لأن الزحافات تُقرب الإيقاعات من بعضها البعض، ولكن الواضح أن الرجز وتنويعاته (من الكامل والهزج والرمل) هو الإيقاع الأول، كما يتَّضح للقارئ أن إيقاعات النص الإنجليزي تتفاوت تفاوتًا كبيرًا من فقرة إلى فقرة، مثلما تتفاوت القوافي، وقد يكون ذلك هو الذي أوحى بتفاوت الإيقاعات العربية، وقد أوضحتُ ذلك في دراستي عن دور الحدس في ترجمة الشعر، وهي الدراسة المنشورة في الكتاب الذي سبق أن أشرت إليه؛ ألا وهو (On Translating Arabic: A Cultural Approach) وبعدُ؛ فهذه هي الأبيات متتالية تسهيلًا للمقارنة والمضاهاة، وقد وضعت أرقامًا في النص العربي تحيل إلى النص الأجنبي:
ODE INTIMATIONS OF IMMORTALITY FROM RECOLLECTIONS OF EARLY CHILDHOOD
The Child is father of the Man;
And I could wish my days to be
Bound each to each by natural piety.

I

There was a time when meadow, grove, and stream,
The earth, and every common sight,
To me did seem
Appareled in celestial light,
The glory and the freshness of a dream.
It is not now as it hath been of yore;
Turn wheresoe’er I may,
By night or day,
The things which I have seen I now can see no more.

II

The Rainbow comes and goes, 10
And lovely is the Rose,
The Moon doth with delight
Look round her when the heavens are bare;
Waters on a starry night
Are beautiful and fair;
The sunshine is a glorious birth;

أنشودة خاطرات الخلود المستوحاة من ذكريات عهد الطفولة الأولى

الطفل والد الرجل،
ولي من الدنيا أمل،
أن يربط الأيام حبل دائم لا ينقطع،
من كل ما توحي به هذه الطبيعة من ورع!

١

قد كنت يومًا أشهد الغدران والمروج والخمائل،
والأرض بل ومألوف المناظر،
وقد توشَّحت بنور باهر من السماء،
كأنه بعض منام ناضر عذب الرواء،
لكن ذلك انقضى،
قد كان عهدًا ومضى،
فالآن حيثما يممت وجهي،
وحيثما نظرت ليلًا أو نهارًا،
وجدت أن ما رأيته من قبل قد توارى!

٢

قوس الغمام لم يزل يأتي ويمضي ١٠،
والورد لم يفقد بهاه،
والبدر ينظر حوله في متعة،
ما إن صفا وجه سماه،
وكل مشرق جديد مولد مجيد،
وصفحة المياه إن لاحت نجوم الليل تزهو بسناه،
But yet I know, where’re I go,
That there hath past away a glory from the earth.

III

Now, while the birds thus sing a joyous song,
And while the young lambs bound 20
As to the tabor’s sound,
To me alone there came a thought of grief:
A timely utterance gave that thought relief,
And I again am strong:
The cataracts blow their trumpets from the steep; 25
No more shall grief of mine the season wrong;
I hear the Echoes though the mountains throng,
The Winds come to me from the fields of sleep,
And all the earth is gay;
Land and sea 30
Give themselves up to jollity,
And with the heart of May
Doth every Beast keep holiday; —
Thou Child of Joy,
Shout round me, let me hear thy shouts, thou happy Shep-
herd-boy! 25
لكنَّني أدري،
وحيثما يمَّمتُ وجهي،
أن مجدًا ترك الأرض وولَّى!

٣

والآن بينا تُنشِد الأطيار ألحان الفرح،
أو ترتع الحملان في دقات دف من مرح ٢٠،
أتى إليَّ دون غيري خاطر حزين،
لكن قولًا قيل في موعده أذهب الهم الدفين،
وعاد لي ما كان بي من قوة،
فكل شلال على مشارف الهوة،
ينفخ في الأبواق نشوة،
لا! لن تسيء الآن أحزاني لموسم الجمال،
إذ أسمع الأصداء في احتشادها بين الجبال،
وتُقبل الرياح نحوي من حقول ناعسة،
وكل ما في الأرض مِن طرب طروب،
الماء واليابسة ٣٠،
يلهو كما تلهو القلوب!
فنحن في قلب الربيع ويوم عطلة كل دابة،
هيا إذن طفلَ الفرح!
اصدحْ وصِحْ!
يا أيها الراعي الصغير،
هيا وأسمعني صياحك أيها الطفل السعيد!

IV

Ye blessèd Creatures, I have heard the call
Ye to each other make; I see
The heavens laugh with you in your jubilee;
My heart is at your festival,
My head hath its coronal, 40
The fullness of your bliss, I feel — I feel it all.
Oh evil day! If I were sullen
While Earth herself is adorning,
This sweet May-morning,
And the Children are culling 45
On every side,
In a thousand valleys far and wide,
Fresh flowers; while the sun shines warm,
And the Babe leaps up on his Mother’s arm: —
I hear, I hear, with joy I hear! 50
— But there’s a Tree, of many, one,
A single Field which I have looked upon,
Both of them speak of something that is gone:
The Pansy at my feet
Doth the same tale repeat: 55
Whither is fled the visionary gleam?
Where is it now, the glory and the dream?

٤

أيا كائنات تحفُّ بها البركات،
سمعتُ نداءاتِكم بينَكم،
رأيت السماوات تضحك في حفلكم،
وقلبي يُشارك في المهرجان،
وتَوَّجْتُ رأسي بتاج الجنان، ٤٠
وكل نعيم لديكم أحس به بل أحس به كله!
فيا شرَّ يوم يحل به الحزنُ،
والأرض تأخذ زخرفها بل وتزدانُ،
هذا الصباح البديع،
بنور الربيع،
وأطفالنا يقطفون نضير الزهور،
بشتى جوانب تلك الحقول،
وآلاف أودية شاسعة،
وتُلقي لنا الشمس دفئًا يشيع،
ويقفز هذا الرضيع،
بأحضان أمِّه،
وإني لأسمع أسمع بالفرح أسمع! ٥٠
ولكن دوحة عهد قديم بدتْ لي من بين كثرة،
وحقلًا تفرَّد بين الحقول ليَهمِس فكرة،
وكلٌّ يُحدِّث عن غارب قد قضى،
وتلك الزهيرة تَسأل عمَّا مضى:
ترى أين فرَّ شعاع الرُّؤى الغامر؟
وأين هو الآن؟ والمجدُ والحُلُمُ الباهر؟

V

Our birth is but a sleep and a forgetting:
The Soul that rises with us, our life’s Star,
Hath had elsewhere its setting, 60
And cometh from afar:
Not in entire forgetfulness,
And not in utter nakedness,
But trailing clouds of glory do we come
From God, who is our home:
Heaven lies about us in our infancy!
Shades of the prison-house begin to close
Upon the growing Boy,
But he
Beholds the light, and whence it flows, 70
He sees it in his joy;
The Youth, who daily farther from the east
Must travel, still is Nature’s Priest,
And by the vision splendid
Is on his way attended;
At length the Man perceives it die away,
And fade into the light of common day.

٥

ما مولد الإنسان إلا غفوةٌ،
نومٌ ونسيان،
فروحه التي قد أشرقت معه،
شمسُ حياة الإنسان،
كانت قبل بزوغها قد غربتْ، ٦٠
وأقبلتْ،
من موقعٍ ناءٍ قَصيِّ،
لكنها لم تنسَ كل شيء،
كلا ولا تجردتْ،
من كل ما عرفته من وراء،
إذ إننا نأتي وفي أذيالنا سحب البهاء،
نأتي من الله الذي هو بيتنا،
إن السماء قريبة منا نراها حولنا،
ونحن أطفال صغار،
وكلما شب الصبي،
بدأت ظلال السجن تحكم حوله طوق الحصار،
لكنه قد يشهد الأنوار، ٧٠
وحيثما انسابت رأى فيها الفرح،
واليافع الذي عليه أن يُواصل الرحيلَ
كل يوم مُوليًا للشرق ظهره،
يظلُّ كاهن الطبيعة،
وحوله رؤيا السناء في طريق رحلته،
ثم تخبو هذه الرؤيا،
آخر الأمر بعين الرجلِ،
ويراها تتلاشى في نهار البشر!

VI

Earth fills her lap with pleasures of her own;
Yearnings she hath in her own natural kind,
And, even with something of a Mother’s mind, 80
And no unworthy aim,
The homely Nurse doth all she can
To make her Foster-child, her Inmate Man,
Forget the glories he hath known,
And the imperial palace whence he came.

VII

Behold the Child among his new-born blisses,
A six year’s Darling of a pigmy size!
See, where ’mid work of his own hand he lies,
Fretted by sallies of his mother’s kisses,
With light upon him from his father’s eyes! 90
See, at his feet, some little plan or chart,
Some fragment from his dream of human life,
Shaped by himself with newly-learned art;
A wedding or a festival,

٦

الأرض تملأ حِجرها بملاذٍّ من ملاذها،
فتلك من أشواقها،
وتنتمي لطبعها،
وبلمسةٍ من فكر عقل الأمِّ، ٨٠
ولغايةٍ قد لا تُذَمُّ،
تقوم تلك المرضعة،
حتى وإن تك ساذجة،
بفعل ما في طوقها لتجعلَ ابنها،
أي تجعل الإنسان قاطنَها،
ذاك الذي تَبَنَّتْهُ هنا،
لا يذكر المجد الذي عرفه،
والقصر الإمبراطوري بعدما غادره!

٧

انظر إلى الطفل الذي يلهو بأشكال المسرات الوليدة،
ابنًا حبيبًا لم يزل في السادسة! وحجمه ضئيل!
وانظر إليه وسط ما صنعت يداه،
تنثال عارمةً عليه (تُضايقهْ!) قبلاتُ أُمِّهْ
يغشاه نور عين والده، ٩٠
وانظر لدى قدميه خطة صغيرة أو قل خريطة،
وشذرة مِن حلمه،
عن قابل الحياة للإنسان،
أعدها بنفسه بفنه الجديد،
عن الزفاف أو عن مهرجان،
A mourning or a funeral;
And this hath now his heart,
And unto this he frames his song:
Then will he fit his tongue
To dialogues of business, love, or strife;
But it will not be long 100
Ere this be thrown aside,
And with new joy and pride
The little actor cons another part;
Filling from time to time his “humorous stage”
With all the Persons, down to palsied Age,
That life brings with her in her equipage;
As if his whole vocation
Were endless imitation.

VIII

Thou whose exterior semblance doth belie
Thy Soul’s immensity; 110
Thou best Philosopher, who yet dost keep
Thy heritage, thou Eye among the blind,
That, deaf and silent, read’st the eternal deep,
Haunted for ever by the eternal mind, —
عن مأتَم أو عن جنازة،
فذاك ما يشغل قلبه،
ويصوغ فيه نشيده،
وبعدها يُطوِّع اللسان،
للحوار في المتاجر،
أو الغرام والتناحر،
لكنه سرعان ما يُلقي بذاك جانبًا، ١٠٠
فإذ بنا نرى المُمثل الصغير،
بفرحة قشيبة بل بتفاخرْ،
يلعبُ دورًا آخرْ،
وفوق مسرحٍ يموجُ بالأخلاطْ،
في كل لحظةٍ نرى الشخوص والأنماطْ،
ممَّا يجيء به الزمنْ،
حتى إلى عهد الوهنْ،
فكأنما كانت رسالة عمره،
هي أن يُحاكي غيرَه!

٨

يا مَن يناقض ظاهرَه،
رحابة الروح لديه!
يا أفضل الفلاسفة! ١١٠
مَن يحفظ التراث خير حفظِه!
عينٌ ترى والناس قد عميتْ!
بل إنه حتى وإن صَمَّ وإن صَمَتْ،
ليقرأ المكتوب في جوف الخضمِّ السرمدي،
وفيه يسكن العقلُ الأبدي!
Mighty Prophet! Seer blest!
On whom those truths do rest,
Which we are toiling all our lives to find,
In darkness lost, the darkness of the grave;
Thou, over whom thy Immortality
Broods like the Day, a Master o’er a Slave, 120
A Presence which is not to be put by;
Thou little Child, yet glorious in the might
Of heaven-born freedom on thy being’s height,
Why with such earnest pains dost thou provoke
The years to bring the inevitable yoke,
Thus blindly with thy blessedness at strife?
Full soon thy Soul shall have her earthly freight,
And custom lie upon thee with a weight,
Heavy as frost, and deep almost as life!

IX

O joy! that in our embers 130
Is something that doth live,
That nature yet remembers
What was so fugitive!
The thought of our past years in me doth breed
Perpetual benediction: not indeed
يا أيها النبيُّ ذو القوة،
يا أيها العرَّاف ذو البركة،
يا مَن لديك ما نَشقى طوال عمرنا لكي نحظى به،
من الحقائق التي تضيع في الظلمة منا — ظلمة القبور!
يا مَن يُظلِّلك الخلود مثلما يظللك النهار! ١٢٠
يا سيدًا على العبيد!
وحضرة لا يستهين إنسان بها!
يا أيها الطفل الصغير!
يا صاحب المجد الذي يَأتيك من حريةٍ،
ميلادها السماء فوق عالي هامتك!
قل لي لماذا تبذل العناء كي تحث قابل السنين،
لتحضر المحتوم مِن نيرها؟
وهكذا تظلُّ غافلًا،
تُحارب البركات من حولك!
سرعان ما تحمل روحُك،
أحمالها الأرضية،
وتجثم العادة فوقك،
كأنها الصقيع في أثقالها،
وعمقها كأنه عمق الحياة نفسها!

٩

يا فرحُ! أيا مَن تحيا في جمر الصدر، ١٣٠
وتؤكد أن طبيعتنا تذكر ما مرَّ وفرَّ!
ذكر الأعوام الماضية المنسية،
يُنْبتُ في نفسي بركات أبدية،
For that which is most worthy to be blest;
Delight and liberty, the simple creed
Of Childhood, whether busy or at rest,
With new-fledged hope still fluttering in his breast: —
Not for these I raise 140
The song of thanks and praise;
But for those obstinate questionings
Of sense and outward things,
Fallings from us, vanishings;
Blank misgivings of a Creature
Moving about in worlds not realised,
High instincts before which our mortal Nature
Did tremble like a guilty Thing surprised:
But for those first affections,
Those shadowy recollections, 150
Which, be they what they may,
Are yet the fountain light of all our day,
Are yet a master light of all our seeing;
Uphold us, cherish, and have power to make
Our noisy years seem moments in the being
Of the eternal Silence: truths that wake,
To perish never;
لكني لا أرفع آيات المدح وألحان الشكر،
إلى ما هو أجدر أن يوسم بالبركة،
كالبهجة والحرية،
ديدن كل الأطفال الساذج في العمل أو الراحة،
فهما كالطائر يخفق دومًا بقشيب الريش،
في جنبات الصدر،
بل أشكر أسئلة صماء عنيدة، ١٤٠
مما يطرحه الحس،
أو يمثل خارج هذي النفس،
أسئلة تسَّاقط منَّا بل تتلاشى،
ومخاوف خاوية بَهْمَةْ،
بسريرة مخلوق هامَ على وجههْ،
بعوالم وهْمه!
وغرائز عليا قد واجهها الطبع الفاني،
فارتعد كرعدة قلب الجاني،
إن فاجأه إنسان!
أشكر أولى أربطة الحب،
أو ما غام بذكرى القلب، ١٥٠
أيا كانت تلك جميعًا!
إذ ما زالت نبع ضياء نهاري،
والضوء الأول في إبصاري،
نستند إليها نعتز بها ولها من فرط القوة،
ما يجعل ضوضاء سنين العمر،
تبدو لحظات بكيان الصمت السرمد!
وهي حقائق تصحو كي لا تفنى أبدًا!
Which neither listlessness, nor mad endeavor,
Nor Man nor Boy,
Nor all that is at enmity with joy, 160
Can utterly abolish or destroy!
Hence in a season of calm weather
Though inland far we be,
Our Souls have sight of that immortal sea
Which brought us hither,
Can in a moment travel thither,
And see the Children sport upon the shore,
And hear the mighty waters rolling evermore.

X

Then sing, ye Birds, sing, sing a joyous song!
And let the young Lambs bound 170
As to the tabor’s sound!
We in thought will join your throng,
Ye that pipe and ye that play,
Ye that through your hearts to-day
Feel the gladness of the May!
What though the radiance which was once so bright
Be now for ever taken from my sight,
Though nothing can bring back the hour
Of splendour in the grass, of glory in the flower;
لن تفلح هَبَّات القلق ولا السعي المجنون
بل لن يفلح رجل أو بعض صبي،
أو أي عدوٍّ للفرح الطفلي، ١٦٠
في طمس معالِمها أو تدمير هياكلها يومًا ما!
وإذن في موسم صفو الجو،
مهما يكن الشطُّ بعيدًا عنا،
نجد الأرواح وقد شهدت ذاك البحر الخالد،
فلقد جئنا منه هنا،
ولنا أن نرجع في غمضة عين،
لنرى الأطفال على الشاطئ تلهو،
ولنسمع صوت الأمواه الجبارة أبدًا يعلو!

١٠

غنِّ يا أطيار إذنْ غنِّ! غنِّ أغنيةَ الفَرْحْ
ولتتواثب هذي الحُملان وتمرحْ، ١٧٠
مع دقات الدف!
فلسوف نشارككم فِكرًا في هذا الحفل،
يا مَن تعزفُ في الناي ويا مَن تلهو،
يا مَن يشعر في أعماق القلب اليوم،
بسرور ربيع يزهو،
ما ضر إذا كانت عيني قد حُرِمَتْ للأبد النور الساطع؟
ما ضر إذا كان مُحالًا أن تَرجع،
ساعة سحر بهاء الكلأ ومجد الزهر،
We will grieve not, rather find 180
Strength in what remains behind;
In the primal sympathy
Which having been must ever be;
In the soothing thoughts that spring
Out of human suffering;
In the faith that looks through death,
In years that bring the philosophic mind.

XI

And O, ye Fountains, Meadows, Hills, and Groves,
Forebode not any severing of our loves!
Yet in my heart of hearts I feel your might; 190
I only have relinquished one delight
To live beneath your more habitual sway.
I love the Brooks which down their channels fret,
Even more than when I tripped lightly as they;
The innocent brightness of a new-born Day
Is lovely yet;
The Clouds that gather round the setting sun
Do take a sober colouring from an eye
That hath kept watch o’er man’s mortality;
لن نحزن أو نبكي ما ضاع، ١٨٠
بل إنَّا نجد القوة فيما زال لدينا،
في رابطة الحب الأولى في أنفسنا،
إذ ما إن تولد،
حتى تخلد!
في أفكار عزاء أو سُلوان،
من نبع معاناة الإنسان،
فيما يتجاوز حد الموت من الإيمان،
في أعوام تأتي بالحكمة للأذهان!

١١

وأنت يا عيونُ يا مروجُ يا تلالُ يا خمائلْ!
لن تشهدي أي انفصام في عرى غرامنا!
فلم أزل في عمق أعماق الفؤادْ، ١٩٠
أحسن قوتك،
وما افتقدت إلا متعة وحيدة هنا،
هي الحياة تحت ظل سطوتك،
بل إن حبي للجداول التي تنحر في الشطآن،
يزيد عن حبي لها،
أيام كنت مثلها،
أجري بخفة المراح عندها!
ما زال صفو النور في السماء عند مولد النهار ذا سناء،
لكنَّما السحاب حول الشمس في الغروب يكتسي،
لونًا رزينًا من عيون مَن رأوا مسيرة الإنسان للفناء،
Another race hath been, and other palms are won. 200
Thanks to the human heart by which we live,
Thanks to its tenderness, its joys, and fears,
To me the meanest flower that blows can give
Thoughts that do often lie too deep for tears.
قد انتهى السباق وانطوى مضمار، ٢٠٠
وفيه أحرزنا أكاليل انتصار،
والفضل للقلب الذي نحيا به؛ قلب البشر!
رقَّتُهُ، أفراحُهُ، مخاوفُهْ!
بل إن أدنى زهرة قد تستوي في عودها،
توحي بأفكار بعيد غَورها،
لا يستطيع الدمع أن يَسبرها!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤