الفصل الثامن

من مشكلاتنا الاجتماعية

(١) التعليم وغرام المركزية

(١-١) المركزية والمحليات

منذ عهد سحيق اعتدنا ممارسة السلطة المركزية السياسية والإدارية، ولكن كانت تعتري ذلك الاعتياد فترات تقل فيها المركزية لصالح لا مركزية إدارية ناجحة في معالجة شتى الأمور المحلية. وقد طبقت مصر في العقود الثلاثة الماضية شكلًا من أشكال اللامركزية، تحت مسمى الحكم المحلي في الريف، وباسم المجلس الشعبي في أحياء المدن، وفي كلتا الحالتين مفهوم الأداء والوظيفة عائم غير واضح، وقدراته التنفيذية مكبلة بالإدارة الأعلى في المحافظات والأقاليم. كما أن تلك الإدارات في الأقاليم مكبلة هي الأخرى بالإدارات العليا الوزارية في القاهرة.

والخلاصة: أن هناك نوعًا من الصراع بين المركزية المفرطة والحكم المحلي. صحيح أن المركزية أنشأت المحليات لأسباب مختلفة، على رأسها محاولة إسناد حكم ديموقراطي في واجهة النظام الحاكم في مصر منذ نحو أربعة عقود. وهو ما يشابه إلى الحد الأعلى إنشاء المركزية لنظام التعددية الحزبية كواجهة براقة لشكل الحكم الديموقراطي في مصر. ولكن في كلتا الحالتين تحجم المركزية نمو المحليات ونمو الأحزاب بطرق متعددة.

فالأحزاب التي تولدت منذ أربعة عقود ضعيفة بدرجة لا مثيل لها؛ لأنها تنشأ وتتخذ الصورة القانونية لوجودها بواسطة موافقة آليات حددها وصاغها النظام المركزي — فإذا لم توافق لا يولد حزب حتى لو كان له عضوية وولاء شعبي فهو لا وجود له قانونًا ولا شرعية له. وليت الأمر يقتصر على الموافقة من عدمها، بل إن حياة حزب يرتبط بلا حدود مع التوفيقات المادية والمالية التي تمنحها المركزية للحزب. وبالمثل فإن حياة حزب تتحدد أيضًا بإصدار جريدة أو مجلة أو نشرة تعبر عن رأي الحزب فيما يمكن أن نسميه عظائم الأمور، كالإشراف على الانتخابات، وتعديل بنود من الدستور، والامتناع عن مناقشة بنود أخرى؛ لأن المركزية لم تطرحها للتعديل سواء كان هناك نقاش أو جدية نقاش يعبر عن مكنون الرأي لدى حزب أو كتلة أو جماعة ضغط أو مراجل غضب لا تبلغ درجة الفوران!

وبالمثل صراع المركزية والمحليات. ذلك أن النجاح المحدود «جدًّا» — جد جدًّا للتأكيد — للحكم المحلي والمجالس الشعبية في بعض الأمور المتولدة من داخل الأمور وواقعها، راجع بدرجة كبيرة إلى هذه الهيمنة البيروقراطية التي تمتلئ بثغرات تتسلل منها المصالح الخاصة والمحسوبيات، فتفسدها وتجعلها في مهب الانتقادات كلما أرادت المركزية الحد من استلاب المحليات بعض المخصصات المركزية. ومن هنا تظهر بين الحين والآخر دعوات إلى التخلص من المحليات أو تحجيمها، بحيث تصبح مروضة تمامًا للسلطات المركزية في تدرجها من المركز إلى المحافظة إلى العاصمة.

والكلام عن المحليات في هذه الأسطر القليلة هو من قبيل الإشارة إلى مفهومها، كجزء من شكل الحكم الدستوري المصري يمكن أن يكون ذا نفع كبير في تسلسل المشاركة العامة في الحكم، وفي التدرب على الممارسة الانتخابية، وفي ظهور قدرات سياسية كامنة لدى أفراد من ذوي الكفاءة وروح المسئولية يفيدون أقاليمهم ويفيدون مصر الدولة في النهاية! أما تفصيلات الموضوع ودقائقه في الممارسة الحالية، فغيري كثيرون أقدر على تشخيص العلل التي تنتاب هذا النوع من الحكم المحلي الملتصق مباشرة بالناس والاقتصاد والأرض في دوائر محدودة لا تدرك دخائلها المركزية الأعلى، ولا تعرف عنها سوى هوامش الهوامش. وذلك بدليل ما نقرؤه في الصحف من شكايات الناس عن مشكلات سكان قرية أو شارع لا تعرفها المركزية الأعلى، أو تتجاهلها، أو تؤجل البت فيها لأسباب قد يكون منها تغيير الأولويات أو نقص الاعتمادات المالية أو تحويلها من بند إلى آخر، لتحسين أماكن هي فعلًا محسنة، ولكنها تحتاج ديكورًا لعمل براق على السطح.

ولكن من المفيد أن نقول: إن تجربة المحليات — برغم عدم نجاحها المطلوب — هي تجربة جيدة ومشكلاتها المزمنة الحالية لا يجب أن تصبح عوامل يأس منها أو تدعونا إلى إلغائها. وعلى عكس ذلك فالواجب تقويتها بالتفتيش عن معوقاتها. وربما كان مراقبة انتخاباتها — كما هو مخطط حاليًّا — بنفس الحيدة التي مارستها الدولة في بعض دوائر الانتخابات البرلمانية الأخيرة واحدًا من أسباب تدعيم الحكم المحلي — بدلًا من إلغائه أو إخلاده للركود — وذلك بإظهار العناصر المحلية النشطة، وبالتالي تقليص دور ذوي المصالح الخاصة، ودوائر النفوذ المركزية والبيروقراطية معًا.

(١-٢) التعليم مسألة المسائل في مصر

مركزية مكاتب التنسيق

وفيما يلي سأتناول نوعًا من المركزية أعرفه بحكم عملي التدريسي بالجامعات. فقد درجنا منذ أربعين عامًا أو نحوها على أن يبت مكتب للتنسيق في توجيه الطلاب الذين يرغبون في الالتحاق بالدراسات الجامعية إلى كليات ربما لا يرغبونها. وربما كان ذلك ناجم عن زيادة الطلاب عن المقاعد المتاحة في كليات الجامعات المصرية. ولكن مثل هذا التنسيق الآلي يفرض على الكليات ترتيبًا تصاعديًّا، بحيث يصبح التخصص الواحد في القاهرة تخصصًا في كلية قمة وفي سوهاج أو طنطا كلية أقل قدرًا أو ما يشبه ذلك. ويترتب على ذلك نوع من التفاوت بين كليات التخصص الواحد لا يجب أن يكون؛ فالكليات تتمايز بتركيزها على شكل من أشكال البحث العلمي والتطبيقي، وبالتالي بنوعية خريجيها، وليس بدرجات الطلاب الذين يلحقهم بها مكتب التنسيق. مثلًا تهتم كلية بأبحاث الكلى، وأخرى بالطفيليات وبخاصة البلهارسيا اللعينة المتشبثة بمصر، وثالثة بطب المناطق الحارة، أو تهتم كلية بأبحاث هندسة المستشفيات وأخرى بهندسة المعادن، أو تهتم كلية بالتاريخ الوسيط وأخرى بالتاريخ الحديث، أو الجغرافيا الاقتصادية وأخرى بالجغرافيا الطبيعية وتدريس نظم المعلومات الجغرافية، أو كلية بالقوانين الدولية وأخرى بالقوانين التجارية أو النظم المحاسبية أو التأمين والبورصة، وما إلى ذلك من تفريعات مفيدة في التخصيص والتطبيق والتوظف والبحوث.

والغرض من هذا أن كل كلية سواء في القاهرة أو الإسكندرية أو الأقاليم الأخرى تمايزات بواسطة أساتذة يكونون مدرسة مهمة في تخصص معين. فالترتيب الذي يفرضه مكتب التنسيق هو ترتيب آلي ضار بسمعة الجامعات. وفي الخارج قد تتميز جامعة صغيرة بمدرسة فكرية معينة يجعل الطلب عليها كبيرًا في هذا التخصص. وباختصار فإن الجامعات تتميز عن بعضها بوجود مدارس لها شهرتها في تخصص أو أكثر، مثل أكسفورد في المجالات الفكرية وإم أي تي MIT الأمريكية في التكنولوجيا … إلخ.

حرية اختيار الطالب لنوع دراسته

لا أعرف لماذا لا تترك الكليات حرة في قبول الطلبة المتقدمين إليها إذا استوفوا الشروط التي تعلنها الكلية مسبقًا — ليس فقط في المجموع العام بل أيضًا في تقديرات المتقدمين في علوم مرتبطة بالتخصص. لماذا لا يبحث الطلاب عن هويتهم التعليمية بأنفسهم، كما هو الحال في جامعات العالم الآخر، وكما عليه الحال منذ نصف قرن مضى؟ لماذا لا يجتازون أيضًا اختبارات المقابلات الشخصية التي تضعها الأقسام العلمية المختلفة؟ وهناك تساؤلات كثيرة كي نضمن للطالب أنه بنفسه اختار تخصصًا، وأنه عليه وحده تقع مسئولية نجاحه وتفوقه أو العكس، بدلًا من تعليق مسئولية تعثره على اختيارات رقمية تتحدد من خلال مكتب التنسيق.

لا شك أن أعداد طلبة الثانوية أكبر من طاقة المقاعد المتاحة بالجامعات — ليس في مصر بل في العالم أجمع. ولكن السؤال الملح هو لماذا يجب أن يظل أمام حملة الثانوية طريق ذو اتجاه واحد يقود حتمًا إلى الجامعة؟ فحسب جداول الجهاز المركزي للإحصاء ٢٠٠٥ فإن ٢٤٪ فقط من خريجي الإعدادية يلتحقون بالمدارس الفنية الصناعية والتجارية والزراعية، بينما يكمل نحو ٤٠٪ تعليمهم الثانوي والجامعي، «بينما يتوقف نحو الثلث عند تحصيل الإعدادية أو يتسربون دون إكمالها!» والمفترض في مثل هذه الموقف أن تكون النسبة معكوسة بمعنى أن تتجه الأغلبية إلى التعليم الفني؛ لأن الغالب أن البطالة بين خريجي الجامعات مشابه في الكم للبطالة بين خريجي التعليم العام سواء كانوا في التعليم الثانوي أو التعليم المهني. وهذه أمور تقتضي النظر إلى الهيكل التعليمي العام، لكي نوقف التكدس حيث لا يجب أن يكون.

ولا شك أيضًا في أن احتشاد الطلاب بأعداد كبيرة في الجامعات١ — سواء كانوا منتظمين أو منتسبين — يؤدي بالضرورة إلى انخفاض نوعية الخريج، وخاصة في الكليات التي تشكل فيها الساعات المعملية والتطبيقية نسبة كبيرة من المقررات الدراسية. فإذا كانت طاقة معمل ٥٠ أو مائة طالب فإنه لا يجوز أن يزيد العدد إلى الضعفين، أو أن تتكرر الساعات المعملية عدة مرات مما يبعث على الملل، ولا يعطي الفرصة للتميز ولا يؤسس التمعن والابتكار سواء كان ذلك بالنسبة للأستاذ المحاضر أو مساعدي المعمل أو الطلاب. والغالب أن هذا هو واحد من أسباب الضعف العام للخريجين.

وعلى مقياس المركزية نجد أن عدد الطلبة في الجامعات الحكومية الثلاث: (القاهرة وعين شمس وحلوان) + الأزهر يشكلون نصف عدد الطلبة الجامعيين في مصر (٨١٠ ألفًا ٢٠٠٤)، وأن بجامعات الدلتا والشمال (الإسكندرية وطنطا والمنوفية والمنصورة والزقازيق وقناة السويس) نحو ٤٠٪ (٦٤١ ألفًا)، بينما تضم جامعات الوادي (أسيوط والمنيا وجنوب الوادي) ١٠٪ فقط (١٦١ ألفًا) من طلاب جامعات مصر الحكومية! وهذا ناهيك عن الجامعات الخاصة القديمة والجديدة الأجنبية والأهلية التي تتزاحم في القاهرة (الأمريكية والبريطانية والألمانية والفرنسية والكندية والجامعات المصرية الخاصة كمصر الدولية وأكتوبر … إلخ.) وهو ما يجعل نصيب القاهرة ما قد يصل إلى ثلثي طلبة الجامعات في مصر. وهكذا نرى المركزية القاهرية في صورتها المتشددة الحاكمة، ولا شك في أن ذلك يحتاج فعلًا إلى تصويب شأنه شأن احتكار القاهرة لأغلب أشكال النشاط الاقتصادي والخدمي والثقافي والترفيهي … فليس من الأوضاع الصحية مثل هذا التمركز الذي يخنق وتختنق معه هذه المدينة العظيمة!

كليات نظرية وأخرى عملية

وبالمناسبة فإن المعامل لا تختص فقط بما درجنا عليه من تسميات حين نفصل بين كليات «نظرية» وأخرى «عملية»! فواقع الأمر غير ذلك تمامًا، وواجبنا أن نعيد صياغة تفكيرنا. ففي الكليات المسماة «نظرية» مجالات معملية كثيرة، أقربها وأقدمها خروج المعلم والطالب إلى الدراسات الميدانية في علوم كالاجتماع والجغرافيا والتاريخ والأدب والفولكلور، واللغات الحية شرقية وغربية وعلم النفس والأنثروبولوجيا، والقوانين والدساتير وعلوم الاقتصاد والمحاسبة والعلوم السياسية، وغير ذلك كثير مما يشمل حياة المجتمع وتوزيعاته وأنماط سكنه وتفضيل أعماله. وفي حاضرنا الآن معامل للغات والنظم الجغرافية والمكتبات وغيرها من فروع كليات الآداب تبحث فيها المعلومات التي تحصل من البحث الميداني في كافة مجالات الآداب والفنون وطرائق حياة المجتمعات واقتصادياتهم وأنشطتهم، كل ذلك على برامج محددة لاستخلاص نتائج ثلاث تمثل إسقاطات الوسط والحدين الأعلى والأدنى على ضوء تفاعل عوامل مختلفة بشرية ومادية وسياسية معًا.

لا أريد أن أرتب كل هذه الأشياء غير السارة على مكتب التنسيق، لكنه ضالع فيها بطريقة أو أخرى. وغرض هذه الأسطر إزاحة العبء عن مكتب التنسيق الذي أصبح مؤسسة تفرض نفسها على المجتمع من خلال أطروحة رقمية فقط، وترك الفرصة حرة للطلبة يختارون، وللكليات أن تحدد شروطها الدقيقة كي تتحسن أحوال خريجي الجامعة. وفي النهاية لا يُلقى عبء الفشل على اختيارات التنسيق فقط، بل يصبح الطالب مسئولًا عن تفوقه أو تقاعسه نتيجة اختياراته الحرة.

الوزارات المركزية

هناك عدد من وزارات الخدمة العامة لها فروع ومكاتب شديدة الانتشار في كل بقاع مصر، وعلى رأسها وزارات التربية والصحة والشئون الاجتماعية والأوقاف والمياه … إلخ، بعضها يحتاج إلى متابعة مركزية كالري والأوقاف، والبعض الآخر يحتاج إلى أن يرسم خطة تنفذها وكالات الوزارة في المحافظات، دون الرجوع المستمر للوزارة المركز مثل التربية والصحة.

وسوف أفرد الأسطر التالية لوزارة التربية؛ لأنها الأكثر أهمية في البناء المستقبلي للأمة. وليس معنى هذا مثلًا أن الصحة أقل أهمية، فهي تعالج مشكلات حالية مثل التربية وتسعى إلى تحسين الأحوال الصحية العامة من خلال مخططات وقائية وعلاجية مستقبلية، أما التربية فتعالج تكوين أجيال متتابعة على مدى زمني مستمر لا يتوقف، مثل ما يحدث عند النجاح في مقاومة مرض كالسل أو البلهارسيا، وإعلان إقليم أو كل الدولة نظيفة من هذا المرض أو ذاك الوباء.

كيف تدير مليون ونصف مليون مدرس في وزارة واحدة؟

وفضلًا عن ذلك فإن عدد الموظفين والمدرسين في وزارة التربية هو الأكبر بالنسبة لجميع وزارات مصر. فعلى سبيل المثال قارن بين عدد العاملين في وحدة صحية في تجمع قروي، بعدد العاملين في المدارس في نفس المكان! وحسب الأرقام الرسمية في تعداد ١٩٩٦ فإن عدد المدرسين التابعين لوزارة التربية أو بإشرافها كان يبلغ مليونًا و٥١١ ألفًا أو ما يعادل ١٠٪ من القوة العاملة في مصر. هذا الرقم هو — برغم عدم كفايته عمليًّا لاحتياجات تحسين ونشر التعليم على الأصول — إلا أنه كرقم في حد ذاته جيش جرار لا يماثله سوى عدد المشتغلين بأجهزة الدفاع، والمشتغلين بالتجارة جملة وقطاعي وأعمال البناء والتشييد (أقل قليلًا من ١٠٪)، وهو أربع مرات قدر عدد المشتغلين بالصحة والأنشطة الاجتماعية (نحو ٢٫٧٪)، ولا يزيد عليه سوى العاملين بالزراعة (نحو ٣٠٪) وأشكال الصناعة (نحو ١٤٪).

والغالب أن هذا العدد لا يضم أو يشمل الموظفين الإداريين في وزارة التربية ووكالات الوزارة في ٢٣ محافظة، ونعلم أن عدد الإداريين من المديرين والكتبة والمهندسين والأطباء والمفتشين في فروع مختلفة هو أيضًا ليس بالعدد الهين يضاف إلى المدرسين فيقترب العدد في وزارة التربية إلى نحو مليونين — ربما كرقم محافظ — فكيف يمكن تحري الدقة والعدل مركزيًّا؟ صحيح هناك هيراركية إدارية وتعليمية ولكنها بحكم مواقعها أكثر نجاحًا في التصديق على قراراتها واقتراحاتها من المركز، وبالتالي هي أكثر قوة من تظلم المظلوم في معظم الحالات … وليس هذا الأمر بقاصر على وزارة التربية بل هو السمة الأساسية في أشكال البيروقراطيات المفرطة المركزية — كحال وزارتنا القاهرية.

وقفة لا مركزية ضرورة لتحسين الأداء.

هذا الحشد الكبير من العاملين في مجال التربية يستلزم وقفة لا مركزية، ليس فقط لمجرد العدد، بل أيضًا لأسباب موضوعية سبق أن طرحتها على هامش موضوعات أخرى. فمن الواضح — على سبيل المثال — أن البيئة ومفاهيم وتوجهات الناس والنشاط الاقتصادي هي عناصر متغيرة بين التجمعات المكانية والسكانية: بين العاملين في حقول الإنتاج الزراعية، أو صيادي البحر والمزارع السمكية، أو العاملين في المصانع، أو تنمية الحرف اليدوية، أو صناعة السياحة وحقول الخدمات العامة في التعليم والصحة والخدمات الدينية … إلخ، فالأمور في محافظة أسوان غيرها بالقياس إلى كفر الشيخ، أو مدينة الأقصر بالقياس إلى السويس، أو البحر الأحمر بالقياس إلى الوادي الجديد، أو سيناء الجنوبية إلى الشمالية … إلخ.

تعليم نمطي لسبعة عشر مليون تلميذ — كيف؟

ولا يقتصر الأمر على عدد المدرسين الضخم وإدارتهم مركزيًّا و«وساطيًّا»، فإن وزارة التربية مسئولة عن نحو ١٧ مليون تلميذ في جميع المراحل التعليمية عدا المرحلة الجامعية — نحو ١٫٧ مليون طالب جامعي — ترعى الوزارة التعليم الابتدائي والإعدادي والفني والثانوي ورياض الأطفال، فكيف نعلم هذه الملايين نفس المقرر ونفس المنهج مع اختلاف بيئاتهم كما سبق، لكن الأهم كيف ندير التلاميذ منهجيًّا لكي يتعلموا تعليمًا يعينهم على التخلص المهني. فنحن جميعًا نعرف أن هناك من يقصر تعليمه على مرحلة ابتدائية ثم ينسحب لظروف معاشية كثيرة، واضطرار إجباري على بداية أن يشتغل ويكسب قوته وأسرته. وهناك من ينسحب في المرحلة الإعدادية أيضًا. لماذا لا نعترف بواقع الأمور ونمنهج بعض مقررات التعليم في اتجاهات عملية غير الاستيعاب بحفظ أشياء قد لا تفيد العمل، وإن كانت تثقف العقل شيئًا ما، كأشعار وأدب العصور الخوالي على سبيل المثال؟

ارتفاع عدد البنات في التعليم العام شيء مبشر

وحيث إن نسبة الإناث في مراحل التعليم العام — رسميًّا — تكاد تقترب من نسبة الذكور،٢ أليس من المستحسن أن تكون بين المناهج ما يفيد البنات في حياتهم الأسرية — خاصة مع تفضيل الزواج المبكر في بعض مجتمعاتنا — كشئون الصحة وبعض مظاهر الأمراض، وعدم تناول أدوية لم يقررها طبيب أو مساعد؟ أو أعمال يدوية وفنية ليست بالضرورة أشغال الإبرة …

فباستثناء الأسس الصلبة للعلوم والموضوعات المختلفة كأصول اللغة أو الرياضيات والاجتماعيات، كيف إذن أن تدرس كتب ومناهج واحدة في هذه المناطق المتغايرة؟ المفروض أن تعد المناهج التلاميذ والطلاب لفهم أكثر التصاقًا بالمجتمع المحلي لعله من خلال ذلك يمكن التوصل إلى إدراك كنه الإيجابيات والسلبيات في المجتمع المحلي بواسطة إعداد الدارسين للعمل من خلال أطر هذا المجتمع، والسعي الحثيث لتحسينه وخلق مناخات توفر العمل بدلًا من الانضمام إلى جيوش الموظف الحكومي أو طابور العاطلين.

هذا جنبًا إلى المفاهيم العامة عن مصر وإمكاناتها وتوجهات مستقبلها. مثلًا كيف يمكن التحقق من جوانب الصحة أو المبالغة في كينونة بعض التوجهات أو الشعارات الكثيرة، مثلًا عن غزو الصحراء أو الخروج من الوادي الضيق، أو سياسة التوجه إلى التصدير، أو مشكلات التنمية الزراعية في المشروعات الجديدة، أو مشكلة النمو السكاني … إلخ.

خلخلة المركزية = عامل تنموي للأقاليم.

إذا تركت شئون التعليم ومناهجه للأقاليم على أن تكون ضمن إطار سياسة التعليم المركزية، فإن ذلك سيوفر أشياء كثيرة مما سبق ذكره على التوافق بين المناهج والبيئة والمجتمع المحلي ومتطلباته. وفي جانب المكاسب المادية فإن خلخلة مركزية القاهرة في جوانب عديدة على رأسها طبع ملايين الكتب المقررة سنويًّا، سوف يحل محله إتاحة الفرصة لنشأة وتنمية صناعة الطباعة في الأقاليم المختلفة، وخلخلة التحكم المركزي للأبنية التعليمية المركزية وإضافة مهامها إلا وكالات التربية في المحافظات فهي — على أرض الواقع — أقدر على تحديد الأولويات، وهي بذلك تخلق الفرص لزيادة العمالة في قطاع المقاولات داخل كل محافظة، بدلًا من تزاحمها في المركز القاهري. وفي هذين المثالين ما هو واضح بجلاء من حيث توزيع أنصبة العمل والوظائف على الأقاليم، وبالتالي تخفيف ضغوط الهجرة للعمل داخل العاصمة في كنف الوزارات المركزية. وهذا مطلب تسعى إليه الدولة لتخفيف الأعباء عن القاهرة والعواصم الكبرى.

فإذا كانت هذه إحدى جوانب اللامركزية عند تطبيقها على وزارة واحدة، فما بالنا لو أصبحت هذه خطة رسمية للدولة تنطبق على وزارات الخدمة الكثيرة في مصر. فإذا تم ذلك فلسنا بعد في حاجة إلى مدن جديدة تنشأ وتظل في فراغ. فإن تنمية فرص العمل في القطاعات المختلفة في المحافظات والأقاليم ستؤدي بالضرورة إلى نمو قطاع الإسكان ذاتيًّا في تلك الأقاليم، حسب احتياجها من قبل القطاع الخاص وبدوافع وحوافز من الداخل بعيدًا عن الإسكان المركزي، وبالتالي نسهم في حل مشكلة الهجرة إلى العواصم الكبرى.

وكل المطلوب في الأقاليم تجنب الإغارة على الأرض الزراعية لامتداد السكن كما هو قائم الآن تحت سمع وبصر الإسكان المركزي. كيف يتم ذلك؟ لعل للكلام عنه مناسبة أخرى ويكفي هنا أن نقول: إن تحسين الزراعة لتصبح نشاطًا اقتصاديًّا مربحًا لعله يكون حافزًا لرفض الملاك تحويل المزرعة إلى أرض للبناء. وبالتالي لا بد من توصية بنمو المساكن رأسيًّا في داخل كوردون القرية والمدينة، وقد يظن البعض أن ذلك غير وارد لكن المتفحص لأحوال القرى يجد النمو الرأسي للمساكن قد أخذ سبيله إلى الوجود في عملية إحلال للمسكن الريفي التقليدي البيئي، الذي سوف نفقده بكثير من الأسى والأسف.

جدول : أعداد التلاميذ والطلبة ٢٠٠٤.*
المرحلة التعليمية إجمالي عدد الطلبة ٢٠٠٤ ٪ نمو الأعداد قياسًا على ١٩٩٦ عدد الطالبات ٪ نسبة الإناث لإجمالي العدد
مجموع عام ١٨٠٥٧٠٠٠ ١١٣ ٨٥٢١٠٠٠ ٤٧
الابتدائية ٨٦٣٤٠٠٠ ١١٤ ٤١٥٠٠٠٠ ٤٨
ابتدائي أزهري ٩٢٩٠٠٠ ١٣٢ ٣١٦٠٠٠ ٣٤
الإعدادية ٢٨٩٠٠٠٠ ٧٨ ١٦٩٧٠٠٠ ٤٧
إعدادي أزهري ٣٢٨٠٠٠ ١١٩ ١١٨٫٠٠٠ ٣٦
فني ثانوي ٢٠٩٠٠٠٠ ١١٧ ٩٦٠٠٠٠ ٤٦
ثانوي عام ١٢٢٩٠٠٠ ١٥٦ ٦٧٠٠٠٠ ٥١
ثانوي أزهري ٢٧٢٠٠٠ ١٧٦§ ٩٦٠٠٠ ٣٥
جامعي ١٦١٥٫٠٠٠ ١٥٦|| ٧٧٧٠٠٠ ٤٨
الأعداد نقلًا عن الجهاز المركزي للإحصاء والتعداد — أسطوانة مدمجة ٢٠٠٥.
†  التناقص في طلبة الاعدادية جاء نتيجة إعادة السنة السادسة الابتدائية، فتأجل القبول بالإعدادي.
‡  يلاحظ ارتفاع عالٍ في نمو الاتجاه إلى الثانوي العام والأزهري والجامعي، بينما تقل نسبة نمو التعليم الفني عن بقية المراحل، وهو اتجاه غير صحي من حيث استمرارية خط التعليم إلى الجامعة مع انخفاض فرص العمل.
§  يلاحظ ارتفاع عالٍ في نمو الاتجاه إلى الثانوي العام والأزهري والجامعي، بينما تقل نسبة نمو التعليم الفني عن بقية المراحل، وهو اتجاه غير صحي من حيث استمرارية خط التعليم إلى الجامعة مع انخفاض فرص العمل.
||  يلاحظ ارتفاع عالٍ في نمو الاتجاه إلى الثانوي العام والأزهري والجامعي، بينما تقل نسبة نمو التعليم الفني عن بقية المراحل، وهو اتجاه غير صحي من حيث استمرارية خط التعليم إلى الجامعة مع انخفاض فرص العمل.

أعداد التلاميذ والطلبة في مراحل التعليم عام ٢٠٠٤

(١-٣) آليات تنشئة الشباب للمشاركة الحياتية الشاملة

تمهيد تنظيري عام

منذ قدم التجمعات البشرية وتربية الجيل الجديد تحتل مكانة رئيسية في التنظيمات الاجتماعية. وانقسمت مؤسسات التنشئة إلى قسمين طبيعيين على أساس الجنس وتقسيم العمل، وبدون تراتب اجتماعي على أساس الغنى والفقر. فالبنات يتدربن مع جيل الأمهات، والذكور يتعلمون تراث المجتمع وتنظيماته في «بيت الرجال»، الذي ينعقد عشية الأيام في بناء خاص خارج التجمع السكني.

استمر هذا التنظيم خلال كل الحقب الحضارية مع سيادة الأب ومجتمع الذكورة منذ الحضارة الزراعية والرعوية والصناعية، ومن خلال نسيج كل الديانات. ولا تزال بقاياه قوية في العالم النامي.

وفي مصر الريف والمدينة كانت التنشئة تتصف بتميز واضح للذكور على الإناث حتى أواسط القرن العشرين، حين انفتح المجال أمام المرأة في عدد من نواحي النشاط الاجتماعي والقليل جدًّا من العمل السياسي وفي فترات زمنية محدودة. وهذه إحدى مثالب التنشئة؛ لأنها تحرمنا من مدخلات نصف المجتمع ومشاركته الفعالة في كثير من المجالات المجتمعية والسياسية الداخلية، والاهتمام بهذه القضية له أولوية خاصة؛ لأن الأم هي أول ملقن في التنشئة القيمية للجيل الجديد — إناثًا وذكورًا على السواء.

آليات ووسائل التنشئة في مصر في القرن العشرين

بعض الناس لا يفضلون مصطلح «آلية»، ولعلنا نستخدمها هنا بالتبادل مع «وسائل»، ولكليهما منطق وتنظيمات متشابهة وإن كانت آليات تعطي انطباعًا بالحداثة. ويمكن بعمومية تقسيم أشكال وسائل وآليات التنشئة خلال قرن في مصر إلى ثلاث مراحل هي؛ أولًا: آليات المواجهة المباشرة، ثانيًا: آليات المواجهة غير المباشرة، وأخيرًا: فقدان الرؤية وربما التعثر والضياع في الحالات القصوى.

الأسرة كوسيلة تنشئة ضرورية

الأسرة هي قاسم مشارك في هذه المراحل، وإن كان تأثيرها في تلقين القيم والقدوة يتراوح بين القوة والضعف. وقد أصبح الضعف سمتها الأساسية في المرحلة الأخيرة لأسباب كثيرة معظمها معروف لدى الجميع.

أولًا: آليات المواجهة المباشرة

القصد منها إمكانية الحوار في ذات المكان في صورة جدليات مباشرة. وتنقسم مكانيًّا إلى آليات التنشئة في الريف والمدينة كل على حدة.

  • (١)

    في الريف المصري كان «دوَّار العائلة» هو واحد من أعم آليات التنشئة للشباب. ففي هذا الدوار يستمع الشباب إلى كل أشكال التراث المحلي والمشكلات الحياتية، والجريمة والعقاب والردع القيمي لجرائم الشرف وغيرها من الجرائم والجنايات، وصراعات أو تنافس العائلات على الثروة والجاه والمناصب الاجتماعية، والروابط النسبية والقرابية بين بعض العائلات في القرى المجاورة، والعلاقات السياسية الناجمة عن تآلف العائلات مع أحزاب مختلفة حين تحكم وحين تتبادل السلطة مع غيرها، والنشاط السياسي عند الانتخابات، وعند الأزمات القومية الكبرى، كالمد الثوري إبَّان ١٩١٩، والهزيمة في فلسطين، والانتقال إلى النظام الجمهوري والأحداث العسكرية في ١٩٦٧ و١٩٧٣. وكانت أصداء كفاح شبيبة القاهرة ضد الاحتلال وتكوين أحزاب وجماعات غير مشروعة تصل بصورة باهتة في الريف، يتناقلها الناس بالتضخيم مع قليل من إدراك مفاهيمها ومحتوى اتجاهاتها. ولكن شيوع الراديو جعل أحداث النصف الثاني من القرن تأتي مباشرة إلى جمهرة الريف، خاصة بعد تداعي «الدوار» نتيجة قوانين تحديد الملكية الزراعية. وأصبح ظهور القيادات ونجاح بعض الريفيين في أشكال من الحياة السياسية أو الحياة العامة أمثلة تحتذى كقدوة تلهب من يحس الطموح.

    وبلا شك كانت المشكلات الاقتصادية التي عايشها المجتمع الريفي من أهم موضوعات التنشئة في الدوار فهي تمس الحياة من الصميم. وفي خلال الفترة من أواخر القرن ١٩ إلى منتصف القرن ٢٠، كانت القوى الاقتصادية الاجتماعية متمثلة في العائلات الغنية المستندة إلى أملاك زراعية كبيرة في صورة «عزب» و«وسايا» — جمع وسية — بالإضافة إلى شركات زراعية أوروبية حلت محل أراضي الدائرة السنية، أو نتيجة سقوط بعض الملكيات نتيجة الرهن والاستدانة في أيدي الأجانب في قلب الريف. نفوذ هذه القوى كان من الموضوعات الرئيسية في التنشئة الريفية باعتبارها القوة النافذة في تشغيل الزراعة، وحينما انحسر نفوذ الملاك الكبار بعد منتصف القرن العشرين نتيجة لقوانين الملكية، وما أدى إليه غياب وحدات الإنتاج الزراعي الكبيرة ذات التشغيل الاقتصادي الأوفر، ركد الريف اقتصاديًّا عند مناسيب منخفضة لوحدات الإنتاج الصغيرة والقزمية؛ أي تقزم وصغر الملكيات الزراعية وتشتت الثروة الناجمة عنها، ومن ثم بداية شيوع الفقر والركود الريفي. وبناء على ذلك صارت أحاديث التنشئة في الريف تدور على جملة موضوعات أخرى عن الضائقة الاقتصادية والهجرة إلى أي عمل في المدن وبخاصة القاهرة = مع نماذج نجاحات فردية محدوة، لكنها نماذج للطموح دون مقومات سوى القيل والقال.

    وعلى هذا فإن الموضوعات شديدة الأهمية التي كان يدور حولها النقاش والتنشئة في الريف في النصف الأول من القرن: تناقص الدخل الزراعي نتيجة قوة وسطاء السوق من مصريين وأجانب على سعر المحاصيل النقدية، وأخبار بورصة القطن المحلية في مدن الدلتا، واحتكار شركة السكر للقصب في بعض مناطق الصعيد، وقوة تجار الفاكهة في سوق روض الفرج على منتجي الفواكه. نفس الموضوعات الخاصة بتناقص الدخل الزراعي ولكن بطرق أخرى كانت تثار في النصف الثاني من القرن: حول قوة بنك التسليف الزراعي والجمعيات الزراعية وتسليم المحصول إلى هيئات حكومية تفرض السعر وترهن الأرض.

    وباختصار كان «الدوار» — صغر أو كبر — هو مجال التنشئة في صورة المواجهة المباشرة بين الناس، وتدريب الشباب على الرجولة وتعلم مواجهة المشاكل في ضوء هدوء وحكمة كبار السن وكل من يسميهم الشباب «آبا … فلان» — استعارة تراثية لجيل كل الآباء.

  • (٢)
    في المدن المصرية لم يكن هناك دوار، ولكن كان مكانه عدة أماكن للعلاقة والمواجهة المباشرة في التنشئة، نذكر منها باختصار الآليات الآتية:
    • اجتماع العائلة في مناسبات عديدة وخاصة عند الأزمات عند كبير العائلة.

    • اصطحاب الأب ابنه الأكبر في زياراته بيوت أصدقائه، والسماح له بالاستماع إلى المناقشات السياسية والاجتماعية — دوار حضري مصغر — وبطبيعة الحال يكون هؤلاء الأصدقاء من نفس التيار الحزبي، فيتشرب الأبناء جزءًا من طبيعة التراكيب الحزبية المصرية. وكانت هذه الممارسة مقتصرة على النصف الأول من القرن العشرين، حيث اقترن العمل السياسي في جانب كبير منه بالكفاح ضد الاستعمار والنظام الملكي وأذنابه في السلطة وبعض الأحزاب، مقابل حزب الوفد الذي كان دائمًا شعبيًا يتخذ غالبًا موقفًا معارضًا مستندًا لكثرة أعضائه، وبالتالي كان واجهة تجمع لآراء مختلفة بين اليمين الوفدي — كبار الملاك — ويسار الوفد (شبيبة المدن المثقفة + اليسار المصري في أوائل تكوينه).

    • دور زملاء المدرسة الثانوية والجامعة في العمل السياسي والعلاقة مع شبيبة الأحزاب أو الجماعات السياسية غير الحزبية وغير الرسمية كحركة الإخوان المسلمين ونقيضهم من الحركات اليسارية، وبالتالي تكوين جماعات عمل منتمية للتيارات السياسية للمتعاطفين مع التيارات والأحزاب وأعضائها العاملين. والمناقشات المستمرة مع الزملاء سواء كانوا طلبة أو عمالًا من أجل توسيع العضوية أو كسب الرأي العام للتيار السياسي. وهذه الآليات كانت تخلق دينامية حركية بالتصادم أو الالتقاء بالتيارات المختلفة بين الشباب طلابًا وعاملين. وهو ما كان يخلق حيوية للمجتمع، يناقش لقمة العيش ونمط الحكم والاستقلال كقضايا مترابطة مرهون بها مستقبل مصر. ولسنا نعفي المجتمع من وجود فئات انتهازية، فهي سمة موجودة في كل المجتمعات والتيارات لتحقيق مكاسب شخصية.

    • دور المقهى في المواجهة المباشرة حيث تناقش بعض القضايا من خلال الأدب والشعر المعبر عن المواقف السياسية والاجتماعية والأحوال الاقتصادية والأحلام الرومانسية، التي بدونها يصبح الشباب بدون دوافع معاناة الحياة. وكان لمقاهٍ معينة أدوار هامة في التقاء المثقفين وذوي الميول، وبخاصة السياسية اليسارية مقابل دور مركز الإخوان المسلمين وجوامعهم المفضلة.

    • وفي فترة ما بعد ١٩٥٢ وتغير نظام الحكم إلى الجمهورية، وإلغاء الأحزاب وكل الجماعات السياسية، أرادت الحكومات المتتابعة إرساء قواعد تنشئة سياسية للشباب في صورة عدة تنظيمات شبابية أخذت أسماء مختلفة. وقد نجحت في إنشاء كوادر بعضها تولى مناصب في سُدَّة الحكم منذ فترة. ولكن مثل هذا التنظيم الطليعي أو تنظيم الشباب في الحزب الوطني الحاكم كان موجهًا من البداية، ولم يكن يسمح فيه بالرأي الآخر إلا في أضيق الحدود، مما جعل فاعليته تقصر على الانتشار الواسع بين الشبيبة، بل كان هناك حاجز ثلجي بين بعضهم وبقية الشبيبة باعتبار ولائهم المتشدد للنظام. وهو ما أدى إلى انتشار تيارات أخرى معارضة بعضها يساري الفكر غير منظم، والبعض الآخر يميني حديدي التنظيم الفوقي وما تحت الأرض. ولا شك في أن ظهور مثل هذه التمايزات بين الشبيبة لهو مما يشجع على إعطاء الفرصة لكي تفرز بالتدريج على الساحة العلنية الأشكال المطلوبة لآليات الديموقراطية. ولعل نجاح عدد كبير من المستقلين في الانتخابات الأخيرة دليل على هذا المنطوق — برغم عودة المستقلين للحزب الوطني للمساهمة في حصاد منافعه.

ثانيًا: آليات المواجهة غير المباشرة

المقصود بها وسائل التنشئة السياسية عن بعد ودون مجال التقاء وجهًا لوجه. وأشكالها الثلاثة: هي الصحافة والراديو والتلفاز.

  • فيما قبل ١٩٥٢ كانت الصحافة مختلفة الاتجاهات السياسية، وبالتالي كانت منبرًا مكتوبًا ومتداولًا لآراء الزعامات وتوجهات الحزب في المراحل المختلفة. وقد صنف الناس الصحافة إلى صحافة صفراء موالية غالبًا للملكية والبورجوازية، والصحافة الحزبية التي تصادر من حين لآخر أو تسحب رخصة إصدارها أو توقف فترة أو تصدر بفقرات مطموسة، بفعل الرقيب الحكومي وأمر الداخلية، وهذه كانت وقودًا للمناقشات بين الشباب عما يكون قد حذف ولماذا، والمطالبة بحرية السلطة الرابعة طالما أنها لا تقوم بالتحريض على الإخلال بالشرف والمواطنة.

    وفيما بعد ١٩٥٢ أصبحت الصحافة موحدة الاتجاه مما جعل أية جريدة تكاد أن تكون نسخة من الأخرى، لولا اختلاف أسلوب الكتاب في تناول القضايا، وارتباط بعض الصحف بميزة علاقة وثيقة مع الحكم، مما يعطيها أفضلية السبق الصحفي في أحيان وأوقات مهمة — هيكل والأهرام.

  • لا شك في أن إنشاء صحف جديدة متخصصة للشباب أو الرياضة أو الأدب أو غير ذلك شيء جيد، ولكنها لا تكون رأيًا عامًّا يلتف حوله أو يعارضه الشباب؛ لأن غالب موضوعاتها معلوماتية إعلامية قد لا تساعد على مشاركة الشباب في قضايا حيوية أهمها: قضايا العمل، والبطالة، ومناقشات حرة حول مشكلات مصر الكثيرة.

  • الراديو والتلفاز أجهزة حكومية لها أدوار متعددة. وفيها تجري مناقشات مفتوحة هي على جانب كبير من الحرية حول قضايا كثيرة من القومية والاقتصاد والسياسة والمشكلات الاجتماعية وغير ذلك. لكنهما لا يوجهان دعوة تنظيمية للشباب؛ لأن دورهما بصفة عامة إخباري وإعلامي بالدرجة الأولى، وربما أيضًا نوع ما من التمجيد الشخصي لعله يربح شيئًا من مداخلاته القوية. ويمثل المستمع دور المتلقي، ولكن المعلومات المتضمنة في هذه الندوات تشيع بين الناس إدراكًا بجانب كبير من حقائق الأوضاع. وهو ما يفيد في البنية السياسية للشباب المصري تخلق وعيًا مطلوبًا بحقيقة أن هناك وجهات نظر متعددة لأي موضوع مصيري، وليس وجهة نظر وحيدة. وهذه التعددية في الفكر قد تساعد على تنشئة الشباب على عدم التعصب لرأي واحد.

ولكن بدون أن يكون هناك تنظيمات تضم الشباب فإن الوعي بالمشكلات يظل حبيس الفرد، وقد يكون ذلك هو المطلوب من جانب السلطة، لكنه أيضًا قد يكون مردودًا غير مطلوب يتمثل في عنف انفجار الأشخاص غير المنظمين في ظل ظروف معاناة مالية أو فكرية.

ثالثًا: مرحلة التعثر وفقد الرؤية

هناك عوامل عديدة ساعدت على وصول بعض الشباب للضياع نختار منها ما نتصوره، أهمها:
  • (١)

    هيكل التعليم العام يقود إلى باب مسدود هو التعليم الجامعي. ويحتاج التعليم الأساسي إلى إعادة هيكلة وتحديث بحيث يصبح مرحلة منتهية وشيئًا قائمًا بذاته وليس مجرد خطوة إلى الجامعة، وعلى أن يشمل التعليم العام قدرًا أكبر ومحتوى أحسن من أشكال التعليم والتدريب المهني والوظيفي. والتعليم الجامعي يحتاج أيضًا إلى الخروج من كلاسيكيته إلى مجالات تطبيقية يحتاجها المجتمع دون الإضرار بأسس ونظريات ومناهج العلوم الأساسية. ولا يجب أن تكون الجامعات على نمط واحد من عدد الكليات والتخصصات، بل يستحسن تميز كل جامعة بأنواع معينة من العلوم الأساسية والتطبيقية حسب بيئة المكان الذي تقع فيه الجامعة. على سبيل المثال، لماذا لا تصبح جامعة قناة السويس أكثر التصاقًا بالصناعة والهندسة البحرية، وأن تتخصص طنطا في الصناعات الزراعية، والزقازيق في زراعة الفواكه واستصلاح الأراضي الرملية، وكليات ١٠ رمضان في التكنولوجيا الحديثة؟ مثل هذه الترتيبات في التنشئة التعليمية سوف تساعد على حل جزئي لأزمة الخريجين المزمنة.

  • (٢)

    البطالة المقنعة هي تأجيل حكومي لقضية البطالة المتفاقمة بين الخريجين، وذلك بالقيام كل بضع سنوات بتعيين البعض في وظائف ليس لها توصيف اقتصادي. وهذه المشكلة هي من نتائج شكل التعليم الحالي كما أسلفنا. والبطالة هي شيء مخيف ليس فقط بالنسبة للخريجين، بل — وبالأساس — بالنسبة للدولة ومستقبل الصراع داخلها. كما أن المتعطلين هم بلا شك مصدر لا ينضب لكل أشكال التطرف. أي مستقبل غامض يواجهه الخريجون إزاء أزمات العمل — الزواج، السكن، التمتع ولو بقدر ضئيل بمباهج الحياة التي يرون طرفًا منها في أحياء الأغنياء، وطرفًا أكبر في إعلانات التلفاز عن دريملاند وملاعب الجولف وأمثالها!

  • (٣)
    الأندية والمجتمعات الخاصة المترفة شقت الثياب شقين: من عندهم ومن ليس عندهم The haves and have nots، كأننا عدنا إلى مجتمع الآلام والحرمان عند نشأة الرأسمالية في أوروبا منذ قرون. هذه الأوضاع أصابت البنية الاجتماعية لدى الشباب ببالغ الضرر وأصبحت له مخاطره على كل الأبعاد الزمنية والعلاقات الفردية. وظهور الزواج العرفي وأشكال العلاقات بين الجنسين هي أحد هذه المشكلات التي يواجهها المجتمع الآن.
  • (٤)

    النمو الطفيلي لشديدي الثراء وفضائح رجال الأعمال وفقدان الثقة في التعاملات المالية الكبيرة في البنوك مظهر آخر يزيد من يأس الشباب؛ بل إن ذلك قد يشكل قدوة للحصول على الثروة بأقصر الطرق غير الشرعية، خاصة مع ما ينشر حول تهريب الأموال وهروب الأشخاص خارج مصر دون جزاء رادع.

  • (٥)

    كثرة القوانين التي يجيزها مجلس الشعب في عجلة، ثم تدفع المحكمة الدستورية ببطلان شرعيتها هي أيضًا من عوامل فقدان ثقة الشباب بالنظام.

السعي لإيجاد التوازن وتنشيط فاعلية الشباب

العناصر التالية على الجانب الهام من إسهام الشباب في الحياة السياسية فهم رجال المستقبل:
  • أحزاب تسعى لتنشيط دينامية الشباب، والسماح للطلبة بممارسات سياسية من خلال تنظيمات الشباب الحزبية.

  • صالونات سياسية ثقافية للشباب مع خطاب موجه للآباء بتشجيع العمل السياسي العلني.

  • قيم جديدة مواكبة لأشكال الحياة مع تقبل اختلاف الإيديولوجيات التي تعطي دفقة دماء في عروق الشباب.

  • سياسة تعليم جديدة في المراحل الأساسية والمهنية والعليا حسب احتياج المجتمع، والكف عن مكتب التنسيق فكل جامعة كفيلة بنظم القبول، وإضافة بعض الرسوم السنوية بدلًا من المجانية الصورية الحالية، مع تحسين رواتب المدرسين للدرجة التي قد تساعد على التخلص من ظاهرة الدروس الخصوصية.

  • عدم المواربة في القضايا المصيرية الداخلية لتصبح الدولة قيمة غير محاطة بالشكوك.

  • باعتبار أن إسرائيل تمثل تهديدًا على أبوابنا فحري بنا دراسة النمط الإسرائيلي بالنسبة للشباب. فبرغم تعدد السلالات والثقافات والمذاهب الدينية وإيديولوجيات الأحزاب، إلا أن إسرائيل نجحت في تنشئة الشباب داخل الأطر العريضة لكيانهم السياسي. كما نجحت المؤسسات الشبابية اليهودية في أرجاء العالم في كسب تأييد كل يهودي خارج إسرائيل. بينما شبيبة المصريين والعرب ليسوا على قلب واحد في الداخل والخارج بالنسبة لقضايا مصيرية سياسية وثقافية!

(٢) الشارع المصري: الوضع الحالي وأطفال الشوارع

تنشئة شبيبة مصرية جادة ومخلصة لقوميتها ووطنها متفاعلة غير متقاعسة في تحسين وتحديث مقومات حياتها ومكونات وجودها، هو أمر يحتاج فعلًا إلى وقفات كثيرة من جانب الدولة ووزاراتها المعنية من جانب، وعلمائها في مختلف التخصصات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وجمعياتها الأهلية متعددة الوظائف وبخاصة تلك التي تتحلق حول الطفولة من جوانب أخرى.

لعل هذه الورقة أن تطرح ما فات وأن تضع لبنة لما هو آت، عسى أن نأخذ الأمر على أنه أحد البنى الأساسية لمستقبل مصر.

مقدمة

الوضع الحالي للشارع المصري يمكن معالجته من زوايا كثيرة ومنطلقات عملية عديدة. هناك موضوعات متعددة متداخلة ومتفاعلة البعض مع البعض أو تحته كخلاق لأزمة أو أعلاه كجبل الثلج ظاهرة نحو السبع، والباقي غاطس ينذر بأخطار كبار في مقومات حياة مصر.

الأزمات عديدة ندركها جميعًا لكن لا بد من تذكر بعضها: العشوائية، السلبية، السلوكيات بأشكالها الجديدة وأشكالها المعيبة، الجنس كمشكلة حادة مظهرها التحرش والاغتصاب، العنف بأشكاله في دوائر عديدة من الحياة للأفراد وكتل المجتمع الغني والفقير معًا؛ في البيت بين أفراد الأسرة: الأب والأم والأبناء والبنات، وفي الشارع والسوق وفي الديوان الحكومي وتنازع اختصاصات الوزارات، وفي المؤسسات والهيئات والشركات الوطنية وشركات الخليط الوطني والمتجنس والشركات متعددة الجنسية، وفي القرى وتنازع اختصاص المحليات ومحاولة البقاء على الفتات، وفي المدرسة والجامع والكنيسة، وأجهزة الإعلام حكومية وحزبية وأجنبية من خلال الإنترنت والفضائيات … إلخ. … إلخ.

وتأتي أزمة أطفال الشوارع فوق كل ذلك فتحدث فورانًا مجتمعيًّا، تمامًا كما حدث في بريطانيا مؤخرًا حول قتل خمسة نساء ممن تخصصن في علاقات الجنس، وأصبحت مادة لحديث المجتمع الإنجليزي ووسائل إعلامه، ليس ضد مهنة القتيلات، بل لقتل حياة الناس أيًّا كانت وظيفتهم. وفي مصر الصورة نفسها وإن كانت أبشع؛ لأن الضحايا أبرياء وإن كانوا بلا مأوى؛ لأن هناك بالقطع جبل ثلج تحت ظهور هذه الأزمة يلهب قضية مجتمعية طالها صمت وعشى رؤية وقصور علاج.٣

(٢-١) حال الشارع المصري

ليس المقصود فقط آلاف المشردين والمشردات في شوارع مدن مصر من أقصاها إلى أقصاها، بل كل أشكال عدم الانضباط في الشارع. فالشوارع هي شرايين المدن إن مرضت مرضت المدينة … وهذا هو واقع الكثير من مدن مصر وبخاصة القاهرة، بحكم قوة جذبها غير المتوازن للنمو الانفجاري من الهضبة الشرقية في التجمعات والرحاب ومدينتي، إلى الهضبة الغربية في ٦ أكتوبر وما يستجد حولها على طرق كانت صحراوية، إلى الإسكندرية والفيوم والواحات. وكذا النمو الانفجاري من الشمال في قليوب والعبور والسلام والقناطر إلى الجنوب في زهراء المعادي و١٥ مايو والتبين والشوبك … إلخ.

وحيث إننا في عصر فقدنا فيه النقل الحديدي الخفيف المعروف بالمترو والترام الحديث، ذو الفاعلية الأكبر في حمولة الأشخاص وانتظام المرور وندرة ملوثات الجو …

وحيث إنه قد امتلكنا واحتوانا عصر السيارة بأشكالها من ضخام المقطورات، إلى الباصات، إلى أنصاف النقل، إلى الميكروباص، والتوك توك، والملاكي.

وحيث إن كل ذلك يساوي صحة الشارع الفيزيقية أو مرضه، فإننا نرى حال الشارع المصري غير مُرْضٍ، بحيث أصبح الانتقال مغامرة تخسر فيها من الزمن ما لا يقدر بمال أو إنتاج أو صحة الأفراد؛ لكثرة سموم عوادم السيارات، كل ذلك برغم المحاولات الجادة من جانب الأجهزة الحكومية المختصة للتحسين والضبط، ولكن فاعلية ذلك أقل من تراكمات المشاكل، وأصعب في الحل؛ لتداخل عشرات العوامل الفيزيقية والبشرية، مما يستوجب حلولًا جذرية ليست في الإمكان …

يعاني الشارع من تعثر سير المرور الآلي ومخاطر مرور المشاة إلى حفر الشارع وارتفاع فتحات البالوعات — المطابق — أو انخفاضها، والمطبات العشوائية غير الهندسية وتموجات الأسفلت بين النعومة والخشونة، والارتفاع والانخفاض وكثرة العلامات الحديدية للإنذار «التي سبق أن أسميتها أسنان القط»٤ لكنها تأكل كاوتش الإطارات، والرصف السوء وتجديد الأسفلت «بالسفلقة» — أي بوضع طبقة جديدة دون كشط وإصلاح الأرضية الأساسية، مما يؤدي إلى ارتفاع الشارع والأرصفة عن أبواب البيوت والمحال التجارية والمقاهي، التي غالبًا ما تتوسع بمعروضاتها وكراسيها على حساب الرصيف منتهزة فرصة التسيب وعدم المحاسبة القانونية إلا بين الحين والحين، وبينهما الكثير من غض الطرف وتسهيل الأمور بما هو معروف.

وكذا إشغالات الشارع بمئات آلاف السيارات، فأصبحت الشوارع جراجات عامة دائمة نتيجة تجاوزات إدارات الأحياء في المدن عن فتح جراجات العمائر التي أصبحت — لجشع الملاك — محلات ومخازن لسلع بعضها مسبب لكوارث الحريق والدمار وهلاك الناس قبل الأبنية. ومن ثم تنخفض مساحة الطريق من حارتين أو أربع إلى النصف والربع في حالات الوقوف العمودي للسيارات. وشوارع مدن مصر أصلًا مخططة لتسيير ربما خمس أو ربع عدد السيارات الحالية؛ لأن شوارع القلب التجاري خططت وبنيت في عصر كانت فيه السيارة حدث جديد نادر وقليل. بينما شوارع الأحياء السكنية غالبًا ضيقة؛ لأن إمدادات المرافق من المياه والصرف والكهرباء كانت مكلفة، فضلًا عن أن البيوت كانت واسعة الأحواش وأعداد الناس أقل، والحفاظ على حقوق خصوصية الجار كانت سلوكًا وآدابًا مرعية — أغلبها فقدناها.

واليوم اختلط الحابل بالنابل ولم يعد الشارع آمنًا ضد جرائم الاعتداء والخطف والسرقة بفقدان عسكري وجاويش الدورية و«الكونستابل» راكب الموتوسيكل، وكثرت احتكاكات السيارات والخناقات وعصبية الجهالة والحوادث المميتة، بفقدان شرطة المرور، وعدم صلاحية علامات المرور الكهربية، وقلة شرطة النجدة وعربات الإسعاف وبطء وصولها — إن وصلت — نتيجة اختناقات المرور، وقلة آداب وسلوك السائقين.

ولدينا قوانين ولوائح تنظيم البناء كانت مرعية بحذافيرها في الماضي. لم تكن هناك تجاوزات لخط التنظيم. ولكن الآن، إن لم تتجاوز هذا الخط — وهو أمر يتكرر في أحيان — إلا أن البلكونات تبرز فوق هذا الخط على حساب الأرصفة. وكانت القوانين تمنع ارتفاع العمارات أكثر من مرة ونصف عرض الشارع، وذلك لعدم حرمان البيوت المواجهة من الشمس وتجدد الهواء، ولكن هيهات فقد تقاعست إدارات الأحياء عن القيام بالإزالة، لأسباب بعضها يتضح من محاكمة مهندسي الأحياء عما حصلوه نتيجة التباطؤ المقصود في الإنذار بالإزالة.

وكانت لوائح التنظيم أيضًا تنص على الإبقاء بيئيًّا وجماليًّا على منظر النيل المتهادي وسط القاهرة والجيزة، وذلك بأن تبنى على كورنيش النيل فيلات وبيوت الدور أو الدورين، تليها للداخل عمارات أعلى إلى خمسة أو ستة أدوار. وحتى حينما بنيت فنادق أو أبنية رسمية كانت على هذا النحو من الالتزام، كفندق هيلتون النيل، ومبنى الجامعة العربية، متسقًا بذلك مع النمط العمراني السابق، متمثلًا في فندق سميراميس القديم، وقصور وفيلات جاردن سيتي على النيل، ومستشفى القصر العيني في رأس جزيرة المنيل. وبهذا فالكل يستمتع بالمنظر الجميل: سكان الفيلات، وسكان العمارات، والمشاة المتنزهين على ضفاف النهر وحدائقه كالأندلس والنزهة والنهر.

أين النيل منذ أربعين أو ثلاثين سنة؟ تلاشى تحت وطأة العماليق من الأبنية سواء كانت فنادق فاخرة، مثل كونراد، وهيلتون رمسيس، وسميراميس، وفورسيزون، وجراند حياة عملاق رأس المنيل، وشيراتون الجزيرة … إلخ، أو أبراج بنوك أو مراكز تجارة أو عمائر سكنية، بل وشاركت الحكومات المصرية ذلك الضرب من التصرف بإنشاء أبراج هي الأخرى للتلفزة والإذاعة ووزارة الخارجية ومبنى الاتحاد الاشتراكي (سابقًا) … إلخ.

كل هذه القوانين التنظيمية للبناء ضربت في مقتل … فيا للخسارة والحسرة معًا؛ لأن ما بني سيظل شاهدًا على تجاوزاتنا عشرات السنين، ويكون سابقة يصعب مقاومتها!

مدن مصر غالبها تقع في نطاق حرارة الصيف الطويل، ولهذا كان سكانها القدماء أشطر في التكيف مع البيئة منا الآن، فأسقفوا بعضًا من الشوارع مع فتحات تهوية، وبخاصة الشوارع التجارية. وحين شقت طرق واسعة أو أُنشئت ضواحٍ جديدة كجاردن سيتي ومصر الجديدة والمعادي والزمالك والدقي وحلوان في أواخر القرن ١٩ وأوائل القرن العشرين، اتبع المخططون وسيلتين بيئيتين أولاهما: إنشاء أرصفة مغطاة عرفناها باسم «تحت البواكي» — جمع باكية — جلبًا للظل وتمرير الهواء في المناطق التجارية، كما كان الأمر في مصر الجديدة قبل توسعها، أو في أسواق العتبة كسوق الكانتو وباب اللوق وسوق الحدادة وغيرها بين العتبة وصيدناوي. والوسيلة الثانية: تشجير الشوارع بأشجار الظل كما كان في المعادي والزمالك وغيرهما، فضلًا عن معظم شوارع القاهرة في بولاق والسيدة والقلعة … إلخ، أين نحن الآن مما كنا عليه من زمن لا يزال كثير من أفرادنا الأحياء عرفوه وعايشوه!

(٢-٢) المدن الأضداد

المقصود من مدن الأضداد هو تواجد تناقضي وتصادمي لمدن أو أحياء شديدة الاختلاف بين عمارتها وناسها وحياتها، تقع غالبًا على مسافات متقاربة. وباختصار هذه تمثل المواجهة بين الغنى المترف والفقر بأنواعه ودرجاته. وهي بهذه الصورة تكاد تشبه المدن الأفريقية أثناء عصر الاستعمار الأوروبي، حيث كنا نجد المدينة الأوروبية بتخطيطها وخدماتها وأنديتها يفصلها إطار شجري عن المدينة الأفريقية بسكانها الفقراء وأعمالهم الخدمية في المدينة الأوروبية، ولا يسمح لهم بالتواجد فيها مساء بقوة القانون. الفرق بين هذا وذاك النمط الاستعماري أن السكان هنا مصريون تفرقهم طبقية حادة.

والغرض من هذه المداخلة أن الاقتراب المكاني بين نمطين شديدي الاختلاف سكنًا وسكانًا وطرائق حياة هي كوضع الهشيم الذي يمكن أن يشتعل لألف سبب أو يزيد. وهو ما يزيد من تأزم حالة الشارع المصري ككينونة معنوية.

الآن لم تعد النظرة البيئية تؤخذ في الحساب إلا لمامًا. فالضواحي الجديدة غالبها أصلًا للصفوة، ومن ثم قصورها وفيلاتها تنتشر في حدائقها الخاصة وشوارعها الفسيحة ليست غالبًا للمشاة لأطوالها الكبيرة. وحدائقها العامة هي نواد لألعاب خاصة الخاصة، مثل الجولف، أو نواد لممارسة أجهزة الصحة لمعالجة تخمة العيش … وأحياؤها السكنية من العمائر أيضًا محاطة بشوارع ذات أشجار. وفي مقابل ذلك أحياء للطبقة المتوسطة تتزاحم فيها العمارات تزاحم خلايا النحل، وتضرب بخطوط التنظيم والارتفاعات والمسافات البينية عرض الحائط، كمدينة نصر بين مدينة مصر الجديدة الرشيقة المتكاملة سكنًا وخدماتٍ وأسواقًا، وبين التجمعات الأولى والخامسة والقطامية التي تكون عزبًا تسيطر عليها السيارات والمولات التجارية التي تحتاج إلى عشرات آلاف الأمتار المربعة لمواقف السيارات. وإلى جوارها مدن شبه فقيرة وفقيرة كالأمل، وبدر، ترتفع إيجارتها برغم صغرها، ويسيطر عليها الميكروباص الذي يبتلع جزءًا غير يسير من رواتب قليلة! والحال نفسه أو بصور أخرى داخل ٦ أكتوبر بين أحياء مترفة ومتوسطة وفقيرة، وكذا المهندسين والدقي والعجوزة أحياء مترفة وفوق المتوسط، مقابل الزحام البشع في أحياء إمبابة والمنيرة وبولاق الدكرور وما جاورها من قرى سلخت جلدها لتتحول إداريًّا من قرى زراعية إلى حيز العمران المدني، وما هي سوى مدينة تحت التجربة جرفت أرضها الزراعية لتحل محلها زراعة المباني الأسمنتية في أقبح صورها، ويسكنها ناس يعملون في كل أعمال غير مجزية تساوي في نهاية المطاف إهدارًا لأشكال العمل المنتجة وإفقارًا ما بعده فقر.

والخلاصة: أن تجميع هذه العوامل الفيزيقية والمادية والاجتماعية الاقتصادية في أضداد ليس فقط في الضواحي الشرقية والغربية، بل داخل القاهرة بين عشوائيات كمنشأة ناصر والهجانة وعزب شبرا الخيمة والجيزة، وأيضًا بين أحياء فقيرة كباب الشعرية ومهمشة والساحل وعابدين والسيدة ومصر القديمة والخليفة والبساتين والتبين والجيزة وإمبابة … إلخ، وضعها مقابل الأحياء المتوسطة والغنية كالمعادي والزمالك والدقي وجاردن سيتي، هي الواقع المكاني مفرخة لكثير من مآسي وأزمات الشارع المصري.

(٢-٣) سكان الشوارع وأطفالها

قضية أطفال الشوارع أخذت الرأي العام بصورة مفاجئة برغم أننا نراهم ونعرف أن هناك مشكلة ما وراءهم. وربما كان النشر الصحفي المتكرر للموضوع قد لفت النظر، لكن الأغلب أن الذي شد الانتباه وفاجأه هو الشذوذ الجنسي والقتل المصاحب له — سواء كان ذلك أقل أو أكثر مما نشر.

والواقع أن المشكلة وراء هذه القضية هي أنها واحدة من القضايا الحادة التي تلخص جانبًا من توصيف الحالة التي نحن بصددها بصورة مأساوية بالغة. ومن ثم فتناولها في هذه الورقة هو جزء من كل إشكالات الشارع المصري المتعددة التي أوردنا موجزها أعلاه.

وأول ما يتبادر إلى الذهن هو مجموعة تساؤلات مطروحة عن الموضوع: ماهية المشكلة وتعريفها، وكيف نشأت وأسبابها وأبعادها المكانية والاجتماعية — وربما أيضًا كيف نواجهها؟

طبيعة المشكلة أنها ليست فقط خاصة بأطفال الشوارع، بل هم جزء من مجموعات من الناس يعيشون أغلب ساعات النهار أو كل ساعات اليوم في الشارع بلا مأوى رسمي، سواء كان ذلك مسكن خاص أو مأوى جماعي تحت سقف مهجور أو وراء جدران المقابر، أو مجرد الأرصفة بلا سقف على الإطلاق. حتى أولئك الذين لديهم غرفة ضمن شقة أو ما يمكن أن تسمى شقة، يتركون الغرفة طول النهار للعيش في عتبات الشارع كتفريج نفسي للضائقة المعاشة مكانًا ومأكلًا وجنسًا وزحام عيال وجيران!

وحيث إن الغالبية الساحقة، ذكورًا وإناثًا، هم فقراء أو قد لا ينطبق عليهم الفقر؛ لأنهم أدنى من ذلك في واقع الأمر، فإنهم — باستثناء كثير من الشحاذين — لا يعملون أعمالًا رسمية. أغلبهم يمتهنون أعمالًا طفيلية أيامًا محدودة من الأسبوع ولا يجدونها أيامًا أطول.

هم يتزوجون وينجبون والبحث عن عمل ما أو لقمة عيش واجب على أفراد الأسرة ذكورًا وإناثًا، كبارًا وأطفالًا.٥ وبذلك فإن التعرف على الشارع هو من المهام التربوية لدى هؤلاء. وبالتالي ينقص تكوينهم أي شكل من أشكال الانتظام في المجتمع، فلا هم وحدة اجتماعية اقتصادية، ولا هم يتعلمون، ولا سبيل لأي تدريب على مهنة حتى الصبي «بليه» القديم عند الميكانيكي أو النجار أو العجلاتي أصبحت على الأغلب من تراث الماضي؛ لأن الصنعة — وإن كانت يدوية — قد أصبحت تتطلب نوعًا ما من المهارة غير متاح لأبناء هذا المجتمع الذي ليس له مأوى رسمي. فقد انهارت الصنعة اليدوية القديمة ولم تعد قائمة لغلبة الصنعة ذات العدة والآلات.
في مثل هذا المجتمع المهترئ لا وجود لقيم كثيرة يسمع بها الفرد أحيانًا من الراديو أو تلفاز المقهى ولا تعني عنده شيئًا؛ لأن الخطاب غالبًا موجه إلى أفراد مجتمع متماسك وسوي نوعًا ما. فالمجتمعات في مصر تغيرت وتتغير دون بدائل قيمية تحل مكان القيم السالفة. وفي هذا يقول خليل فاضل: «نريد أن نفهم لا أن نصرخ أو نبكي.»٦ فالبدائل القيمية لا تنبع من فراغ بل تكون تعبيرًا عن تغيرات مجتمعية اقتصادية شاملة كما يحدث في العالم بصفة إجمالية، لكنه متأخر كثيرًا في العالم النامي دون تصميم سياسي تربوي، باستثناء ما نشهده في الهند كدولة رأسمالية المنهج فقيرة السكان، والصين كمجتمع اشتراكي متزامن مع المتغيرات الإيديولوجية والسياسية تنطلق في قوة إلى أرجاء العالم.
لهذا فالحلول التي يراها أفراد مجتمع الشارع هي تقليدية تتسق مع أنساق حياته، السرقة والعنف والبلطجة والاغتصاب والجنس غير المشروع والإدمان والقتل … إلخ، وكلها أحداث تتكرر في صفحات الأخبار اليومية بطريقة لم تكن معروفة من قبل. وأغلب الظن أن هناك أحداثًا كثيرة لا يعلن عنها ضحاياها اتقاء الفضيحة. ولا شك في أن ذلك كله أو بعضه يشكل لدى المقترفين للجريمة وللمجتمع الذي يعيش فيه موقفًا نفسيًّا ضد الأنظمة وضد الشرطة وضد القانون، باعتبار أن كل ذلك لا علاقة له بأحوالهم ومجتمعهم وفقرهم وجوعهم المادي والبيولوجي.٧
وفي هذا المجال شبه الأسري شبه المعيشي تبرز شخصيات قيادية تأسر أفرادًا في تكوين عصابات قانونها الأساسي الولاء والتبعية أو التصفية.٨ والتميز في هذا التكوين العصابة مرتبط بمدى نجاح تابع في عدد السرقة أو الجناية بأشكالها، وربما أيضًا مرات دخول السجن … إلخ، ويجد الجاني دائمًا تعاطفًا من أفراد مجتمعه اللصيق الذين يساندونه أمام القضاء، بادعاء أنه مظلوم وغير قادر على الإيذاء أو ادعاء حماقته أو بلهه أو جنته. وهو أمر طبيعي ومسلم به فالكل متساندون في مجتمع هامشي سواء كانوا أقارب أو جيرة، وبعضهم بشهادتهم السلبية يسلم من انتقام أعوان المتهم.

وهناك إلى جانب ذلك جريمة منظمة تنتمي إلى تكوين عصابات أعلى في الهيراركية من عصابات الغلمان. بل ربما هي ترتيبات تضم مجموعات من العصابات الصغرى المتخصصة في أنواع من الجريمة أغلبها السرقة والدعارة وتجارة المخدرات. وعلى الأغلب أن تنظيم هذه العصابات مرتبط بشخصيات بعيدة عن ناس الشوارع يعيشون كأفراد عاديون، قد لا تطالهم الشبهات بدون اعترافات وأدلة إدانة يقبلها القانون.

هذا بإيجاز أوضاع ناس الشوارع، والتدقيق في جزئياته يحتاج بحوثًا طويلة متخصصة بواسطة لجان متعددة الاختصاص في التحليل والتوصيف والتنظير والتشريع. ولكن — وبإيجاز أيضًا — هناك عدد من النقاط التي تؤخذ مجتمعة وليست فرادى لفهم المشكلة، ومحاولة طرح بعض من إيجابيات الحلول بصيغ مرنة تتعدل مع جوهر الإشكالية مرحليًّا:

  • (١)
    في مصر قوانين لحماية الطفل،٩ وهناك دور للرعاية الاجتماعية مسئولية الدولة والجمعيات الأهلية، ولكن التبني غير معروف رسميًّا والكفالة أصبحت مطلب رسمي يعلن عنه. طائلة القانون لا تطبق على من هم أو هن دون ١٥ سنة،١٠ وهناك نوع من التشدد لأولئك بين ١٦–١٨ سنة، وبعد ذلك يأخذ القانون مجراه التشريعي أمام الجنح والجنايات.
  • (٢)

    دور المشرف الاجتماعي في المدارس مسئولية مهمة لمن يدخلون المدارس الحكومية والخاصة، لكنه يحتاج إلى تفعيل أكبر فلا يقتصر مهمة المشرف على من يأتي له بمشكلة. وربما من أهم المسئوليات متابعة المتغيبين من التلاميذ؛ حتى نعرف أسباب تسرب التلاميذ من التعليم الإلزامي، وتجد الوزارة حلولًا له، علمًا بأن استمرار التلاميذ في المرحلة التعليمية هو أحد الأركان طويلة الأجل للقضاء على جزء من خامة أطفال الشارع.

  • (٣)

    مسببات موضوعية ومكانية، فهي في الريف أقل انتشارًا من المدينة بحكم المعرفة الشخصية في القرية والتحري عن الغريب بصراحة وإصرار وسؤال متكرر لناس مختلفين من أجل اليقين. أما في المدينة فالمعرفة الشخصية تكاد تنعدم إلا عند البواب أو المكوجي أو الصيدلي، ومنها يستقي الناس بعض المعلومات عن أشخاص يترددون في الشارع، لكن المعرفة الشخصية في الأحياء العشوائية تكاد تشبه القرية الريفية وربما أدق لما يمكن أن يحدث من منافسة الغريب أولاد الكار في عملهم.

  • (٤)

    وفي الكلام عن العشوائيات وأحياء شديدة الفقر نحتاج إلى دور رجال الدين المسيحي والإسلامي في مزيد من الزيارات لتنظيم حلقات درس في القيم والخلق الحميد. وحيث إن البيئة الاجتماعية الاقتصادية غير ملائمة، فليس المطلوب دروس عظة وإنذار وتخويف وحفظ نصوص، بل بابتكار أساليب تدخل التلاميذ الفكر السوي بجعلهم يروون حكاياتهم في موقف ما، ثم يدلي كل تلميذ برأيه في صواب أو خطأ التصرف من سياق الواقع … إلخ. كنوع من التدريب على تفتيح الأفق وتشغيل العقل.

  • (٥)

    لن يشترك رجال الدين والتعليم في واجب تحسين المجتمع كل على طريقته إلا من خلال تحبيذ وتخطيط من قبل وزارات التعليم، والأوقاف، والأزهر، والمحافظة، ورؤساء الأحياء ومجالسها، ومجالس آباء وأمهات، بحيث تتلاقى الخطوط في اتجاه الأخذ بالأطفال إلى بعض مفاهيم عن قيم العلم والمهن، وبالتالي كرامة العمل والفرد … إلخ.

  • (٦)

    الجوانب الفكرية والقيمية قد تساعد على البلبلة والقلق بين الصغار والكبار ما لم تدعمها تحسينات اقتصادية للأسر الفقيرة والعاطلة، أو التي ليس لديها أي تأهيل مهني. كيف يتم ذلك؟ هنا حقًّا مربط الفرس. والرهان هو على أساليب كثيرة في سد أبواب البطالة وتسهيل إقامة منشآت الأعمال كثيفة العمل لعدة عقود حتى تستوعب البطالة ويدرب غير المؤهلين على أعمال ومهن بسيطة تنتظم بها حياتهم المادية، وذلك حتى يأتي دور الأطفال على العمل المنتج. بعبارة أخرى إن علينا أن نبتكر أو نكتشف فترة لتهدئة الأوضاع الراهنة بأعمال منتظمة ثابتة؛ حتى يأتي الجيل الجديد مؤهلًا بما يضمن انتماءه للعمل.

  • (٧)

    لا بأس من أن تقوم الدولة ببعض المحفزات كما كان الحال أيام القرن ١٩؛ بمعنى إعطاء نقود بسيطة للتلاميذ، وإعطائهم وجبة غذاء وشراء ملابس لهم صيفًا وشتاءً، وإطالة اليوم المدرسي والنشاط الرياضي والثقافي والتمثيلي. ليس هذا هباء لكنه تدوير للمال بين الحكومة وترزي الملابس وصانع الحذاء ومطعم الحي، وقدرة شرائية صغيرة لدى التلاميذ لشراء اشتهاء الأنفس من مثلجات أو أقلام ألوان … إلخ، وفي النهاية سيصب ذلك التدوير الحكومي في رفع كفاءة العمل وتقليل البطالة ورفع الناتج المحلي العام وتقليل الفقر والفقراء تدريجيًّا، وكذلك التخلص من الأمية لصيقة التخلف والجهل والمرض وعدم الشعور بالمواطنة … كل ذلك إرهاصات لحل مشكلات مجتمعية عديدة كالإسكان والترويح والترقي ورفع روح الانتماء.

  • (٨)

    قد يبدو ذلك كالحلم. لكنه أبدًا ليس حلمًا. إذا بدأنا خطوة خطوة سنجد الصفحات تتالى بفعل القصور الذاتي. إذا أردنا أسرة محدودة العدد أو دخلًا موزعًا على عدد أقل أو مستوى حياتيًّا أعلى همسة، أو مستوى صحيًّا أحسن، أو تفاعلًا اجتماعيًّا أصح، أو تكوينًا نفسانيًّا أقل إنية وأقل عدوانية وأكثر تشاركية، إذا أردنا مستوى من أي عمل أكثر إنتاجًا وأقل اعتمادًا على الدولة، إذا أردنا إعلامًا أكثر واقعية وأكثر صراحة، إذا كذا وكذا … فعلينا البدء من الجيل الصغير في أسرة موازية للأسرة البيولوجية أو أحسن؛ علينا بمدرسة ومدرس وناظر مدفوع الأجر والكرامة يستقبل التلميذ كابن له في بيت ثانٍ، وليس كمصدر دخل من مرتب ودرس خاص.

  • (٩)

    وأخيرًا ليس معنى هذا أن المنحرفين سوف ينقرضون من الشارع. لكن سيظل الأمر بدرجات أقل، وربما لا نسمع أو نقرأ كثيرًا عن انحرافات مفجعة وجرائم بشعة. وستظل هناك جرائم انحراف وقتل وجنس ورشوة وسرقة وتهرب ضريبي وتهريب أموال، ولكن في الحدود الاجتماعية الآمنة بتطبيق العدالة على الكل سواسية. فالنفس أحيانًا أمارة بالسوء لكن خير رادع هو تحسين المجتمع في كل نواحيه الاقتصادية والاجتماعية والصحية والنفسية والسياسية والتشاركية … عَلَّنا نُفلح.

(٣) مغامرة أن تمرض

الإنسان معرض لأنواع مختلفة من الأمراض في أي مكان من العالم المتقدم والنامي والمتخلف والبدائي على حد سواء. ولكن علاج الأمراض يختلف، فقد كان لكل شعب وسائل علاجية مرتبطة بظروف البيئة والحضارة، كما أن نظرة الناس للمرض والعلاج ومفهوم الحياة والأعمار تختلف من شعب لآخر، والخلاصة أن الناس ارتضوا أشكال العلاج المحلية من الأمراض كاعتياديات يقينية، ولكن ذلك لم يمنع من استقدام شكل جديد من علاج الأمراض من شعب مجاور أو معلومات طبية تنتقل نتيجة ارتحال الناس للتجارة من إقليم لآخر. ولا ننسى أن العلاج كان يتقدم محليًّا نتيجة إبداع بعض أطباء الأعشاب وأطباء استقدام الأرواح وغيرهم من الممارسين للطبابة، وتفهمهم لأعراض الأمراض وتأثرها بأنواع العلاج نتيجة دقة الملاحظة وتبين الجديد من معاطاة الدواء ومقدار جرعاته.

واستمر الأمر على هذا النحو آلاف السنين تتبادل فيها الشعوب المعرفة الطبية ببطء وتنشأ معها مستشفيات عامة أو متخصصة كما كان الحال في بيمارستانات بغداد أو القاهرة في العصور الوسطى، وأطباء المسلمين في جزيرة صقلية التي أصبحت ضمن مملكة النورمان في جنوب إيطاليا.

وبالتدريج انتشرت المعاهد الطبية في أوروبا إلى أن وصلنا إلى مرحلة الطب الحديث الذي غزا العالم بأجمعه؛ لأن الكثير من الأمراض لم تعد محلية بل عالمية الانتشار، نتيجة تغير الظروف الاقتصادية والمجتمعية في أجزاء كثيرة من العالم واقترابها بصورة أو أخرى من نمط الحياة الغربي السائد حاليًّا.

لقد أصبحت الأمراض شائعة بين الشعوب سواء كان في العالم المتقدم أو العالم النامي أو المتخلف. أسباب المرض كثيرة على رأسها ضعف أو فقدان وظائف واحد من أجهزة الجسم كالقلب والكبد والكلى والبنكرياس … إلخ، نتيجة كبر السن أو إصابة بفيروسات نتيجة سوء التغذية أو أغذية فاسدة أو أغذية غير متوازنة، ولكن أكثرها يرجع إلى نمط الحياة الجديدة بين الفقراء الذين يتأرجحون بين عوامل كثيرة منها دخل متدنٍ، واحتياجات حياة العصر مرتفعة التكلفة، والسكن المكدس غير الصحي وعدم القدرة على العلاج، والغذاء غير المتوازن أو المسبب للمرض نتيجة كثرة سموم الأسمدة الكيماوية. أما كسور العظام أو تيبس فقاريات العمود الفقري فهي غالبًا تنشأ عن حوادث أو اعتياد الجلوس والنوم، وأنواع من العمل كالانحناء طويلًا في الأعمال الزراعية اليدوية في الماضي، أو على سبيل المثال الجلوس ساعات طويلة منكبًا أمام ماكينات المصانع، أو منحنيًا أمام أجهزة الكمبيوتر في الوقت الحاضر.

(٣-١) الفروق بين مريض العالم المتقدم والعالم النامي كثيرة منها ما يأتي

  • أولًا: العناية الصحية الدائمة المجانية في العالم المتقدم نتيجة حسن تطبيق التأمين الصحي الفعال، من خلال شركات التأمين للهيئات المختلفة، وهي التي تؤدي إلى اكتشاف الأمراض في حينها، ومن ثم علاجها مجانًا أو بتكلفة مخفضة جدًّا حسب عمر المريض ونوع العلاج وتكاليف الإقامة بالمستشفى أو المشافي الطبيعية متضمنة جميع أشكال العلاج الطبيعي، وذلك باعتبار رعاية المواطنين وبالأخص كبار السن الذين أدوا واجباتهم للمجتمع.
  • ثانيًا: في مصر أيضًا تأمينات صحية للعاملين في الهيئات المختلفة، ولكن علينا أن نعترف بأن هناك فروقًا كثيرة بين الرعاية الطبية في بلادنا وبين دول العالم المتقدم في كل شيء بدأً من دورية الكشف الطبي وجديته إلى التطبيب والعلاج في مستشفيات التأمين الصحي محدودة العدد التي تقبل مثل هذه المعالجات، وأخيرًا التكلفة التي يدفعها المريض للمستشفى بما لا يتناسب مع الإقامة وتجهيزات الغرف فضلًا عن تكلفة شراء الأدوية والحسنات المدفوعة للممرضين والممرضات بل وحتى عاملات النظافة، لأسباب كثيرة من أجل رعاية أحسن بقدر متناسب حسب إمكانات المريض والمريضة.
  • ثالثًا: في الخارج يتفاعل الطبيب المختص بمرض معين مع مجموعة أطباء من تخصصات مختلفة فيما يمكن أن يسمى «كونسولتو»، بحيث تعرض حالة المريض بعد الكشوف والتحليلات المتعددة فلعل لدى أخصائي آخر تفسير مفيد لتفاعلات المرض مع أجهزة الجسم الأخرى. وفي مصر فإن المريض — على الأغلب — يترك لأخصائي واحد يقوم بالاستعانة بأخصائي آخر فقط في حالة حدوث تطورات واضطرابات تؤدي إلى تدهور صحة المريض، وهذا شيء مقبول في الحدود الدنيا في عالم الطب فالمستحسن أن يعرض المريض على أطباء من تخصصات عدة لبحث المشكلة، ومن ثم على الطبيب المعالج تقرير الأدوية غير المتضاربة مع بعضها.
  • رابعًا: نظام التمريض في الخارج على مستوًى عالٍ؛ لأن الممرضات هن اللائي يقوم عليهن العمود الفقري في مراعاة المريض طوال إقامته بالمستشفى. وعلى الرغم من وجود مدارس ومعاهد عديدة وكلية جامعية للتمريض في مصر إلا أن التمريض لا يزال مشكلة المشاكل في مستشفيات عديدة بدون سبب واضح، هل ينقصهن التدريب أو الإحساس اللازم بأهمية العمل أو سرعة تبليغ الطبيب المختص عند حدوث مشاكل لدى المريض، أو هل هناك تقاعس في تنفيذ قوانين إدارة الممرضات، أو كل ذلك وغيره من الأسباب؟

ليس من الضروري أن نحس بالإحباط إزاء كل أو بعض هذه السلبيات. ففي مصر أطباء مشهود لهم بالكفاءة العالية ومشاهيرهم معروفون منذ تاريخ طويل. وفي مصر مستشفيات عديدة ناجحة وإلا ما تقاطر عليه المرضى. ولكن أيضًا هناك غير ذلك من المستشفيات التي تنقصها الهيئة الطبية متعددة التخصصات، ومستشفيات تبالغ في تقدير الأتعاب، ومستشفيات لا تقبل حتى حالات الطوارئ بدون دفع مقدم كبير غالبًا ليس متوفرًا في لحظتها مع أهل الحالات المفاجئة، مما يؤدي في غالب الأحيان إلى حالات مفجعة، وهو بلا شك تصرف غير إنساني وغير أخلاقي ولا يتفق مع المهمة السامية للمستشفيات والأطباء.

(٣-٢) هيمنة القاهرة في عالم الطب أمر خاطئ

وأخيرًا فإن التركيز الشديد للمستشفيات المتخصصة في القاهرة وحولها لهو أمر يحتاج إلى تصحيح. لماذا لا نستفيد من بعض ميزات البيئة المصرية المتعددة في إقامة مشافي ومستشفيات في أماكن تؤهلها البيئة. في بعض البلاد الغربية مثلًا نجد دور الاستشفاء من أمراض الصدر تقام في وسط بيئة طبيعية من الغابات بعيدًا عن المدن بضجيجها وجوها المشبع بغازات ضارة.

(٣-٣) بيئات مصر الصحية كثيرة ولكن …

وفي مصر أماكن متعددة لأمراض شتى في سيناء والساحل الشمالي والبحر الأحمر بعيدًا عن مدن الدلتا والوادي، وعلى سبيل المثال يمكن أن تكون محافظة أسوان أو محافظة الوادي الجديد أو سيناء مقرًّا لدور الاستشفاء من أمراض الصدر والروماتزم، وعلى الأغلب فإنه سوف يكون لها سمعة طيبة على المستوى الإقليمي والعالمي، حيث إنها ستجمع بين الجو الجاف الصحي والبيئات الطبيعية المتعددة والمعالم الأثرية معًا مما يحيلها إلى مؤسسات مزدوجة الوظائف؛ لأنها سوف تجمع بين الشفاء كمستشفى وبين السياحة كفندق يتمتع برعاية صحية.

الحاجة النفسية إلى هذه المشافي

ولا أبالغ إذا زعمت أن كثيرًا من المصريين والعرب والأجانب سوف يترددون على هذه المؤسسات العلاجية الفندقية، فسكان العالم الآن، وبخاصة في بلاد العالم المتقدمة يحتاجون هذا النوع من الرعاية التي لا يشعرون فيها أنهم مرضى فقط بل سياح يتجولون في رحلات محسوبة بين مناظر طبيعية في بيئات غريبة عنهم تمامًا. وكذلك يجب توفر أماكن للترفيه كإنشاء كازينو بكل معناه ومطاعم ومقاهي متعددة الأذواق في منشآت غير بعيدة عن المستشفى؛ كي يحس المترددون أنهم غير مرضى بالنوع المعروف، بدليل أنهم يمارسون حياتهم الطبيعية ولكن بشروط يحددها الأطباء.

العلاج التقليدي وتذكرة داود

كما أنه يمكن الجمع في هذه المؤسسات بين الطب الحديث والعلاج التقليدي المتوارث الذي بدأت ممارسته تنتشر في الغرب كطب الأعشاب، وما يمكن أن نضيفه من أنواع العلاج الطبيعي والنباتي الواردة في الكتاب الشهير «تذكرة داود»، بعد تنقيحها علميًّا بواسطة التحليل المعملي لمكونات الوصفات الواردة في ذلك الكتاب، وهناك أشياء أخرى كممارسات البدو العلاجية.

شروط النجاح: الطب وكرة القدم

وهناك شروط هامة لنجاح مثل هذه الرؤية على رأسها حسن اختيار الهيئة الطبية المتخصصة من مصريين، مع إمكانية توظيف استشاريين وممارسين أجانب لفترات وعقود محددة أو ممتدة حسب الحال والاحتياج، ولا مانع أيضًا من توظيف أجانب في مجال التمريض إلى أن تتشكل هيئة تمريض مصرية على المستوى اللائق علمًا وضميرًا مهنيًّا معًا. ونعني بالأجانب أطباء وممرضات من جنسيات مختلفة ليس شرطًا أن تكون أوروبية أو أمريكية، فهناك في الهند والصين وشرق آسيا ومن العالم العربي أطباء وممرضات من ذوي السمعة الطبية.

ولا شك أن إدارة مثل هذه العيادات والمستشفيات تحتاج إلى هيئة إدارية حازمة تعطي الكثير من الصلاحيات، وتفوض في التعاقد مع العاملين وفصلهم دون تكبيلهم بالكثير من شروط وقوانين العمل السائدة. فالمسألة هنا هي حياة أو موت للمرضى فضلًا عن الإبقاء على السمعة الطيبة لمثل هذه المستشفيات، وليس عيبًا أن تكون الإدارة أو المدير أو الاستشاري من الأجانب على نحو ما تفعله أندية الكرة المصرية من استقدام المدربين واللاعبين من الأجانب، فإذا قارنا بين المستشفيات وأندية الرياضة ربما كان كلاهما في نظر البعض على قدم المساواة، فواحدة تعالج الأمراض وتعطي أسباب الحياة قدر المستطاع، والأخرى تشبع رغبات الجماهير في الصراع البشري بين مجموعة وأخرى كاستكمال للصراع الدموي القديم، ولكن على منسوب حضاري أعلى تقننه قوانين الاستمتاع بالرياضة.

(٤) في متغيرات الطب منذ القدم من الشامانية إلى الطبابة الأوتوماتية

الشامانية اصطلاح يستعمله علماء الأنثروبولوجيا لأنواع من الطب البدائي والعرافة الذي كان — وما زال — سائدًا في الممارسة العقلية لكثير من الناس، وبخاصة في حالة الضعف وفقدان الأمل في الطب الحديث أو الرغبة في عاجل الشفاء، كما حدث لبطل رواية يحيى حقي حول زيت قنديل أم هاشم. والكلمة مأخوذة عن مصطلح «شامان» الذي كان سائدًا بين جماعات وقبائل سيبيريا — التنجوس والتشوكشي والساموئيد … إلخ — يصف الرجل — أو المرأة في أحيان كثيرة — الذي يداوي الناس غالبًا بالأعشاب والتمائم، وغير ذلك من الوسائل الغيبية التي يتعرض لها الشامان خلال حالات الانتشاء وفقدان الوعي أثناء محاولة اتصاله بعوالم ما فوق الطبيعة أو ما تحتها. ومثل هذه الممارسات كانت شائعة لدى الكثير من قبائل الفينو-أوجريه بشمال أوروبا وقبائل الأميرند — الهنود الحمر — في أمريكا وغيرهم في عوالم مجتمعات البيئة القديمة في الهند وأفريقيا وأستراليا … إلخ، وبهذا فإن الشامان كان عادة رجل الطب في عالم الطبيعة، ونادرًا ما كانت له إيماءات واتصالات بعالم السحر الضار. هو رجل مطلوب في المجتمع ولكنه لا يتولى سلطات سياسية، وليست له انتماءات طبقية داخل المجتمع. الأغلب أنه يتعلم كصبي أسرار المهنة التي كانت تؤهله فيما بعد لكي يصبح شامان ذو قدر إذا أضاف شيئًا جديدًا في ممارساته. عالمه هو عالم الطبيعة النباتية والحيوانية، وربما أيضًا مياه بعض الينابيع حيث تفاعلات كيمائية لا يدرك مكوناتها وإن كان يدرك مفعولها في حالات معينة. وإلى جانب التحرك داخل أشكال الأعشاب والنباتات مع المراقبة الدقيقة التي تفطن لما يعتريها من تغيرات حسب المواسم المناخية، فقد كانت هناك أيضًا «الشيء لزوم الشيء»، هناك تعاويذ تلقى بكلمات غامضة المعنى وحركات جسدية وتشنجات وخروج إلى اللاوعي على دقات طبول طقسية، وبلوغ الاتصال بأرواح العالم الخارجي.

هذا الوصف ليس بعيدًا عنا فإن ما يمكن أن نطلق عليه الآن «شبشبة» هو مماثل في الشكل، ولكنه ذو مضمون متدهور ومنقوص عن مضمون الشامانية الأصلي. فالشامان لا يعيش كما يعيش «شيخ» أو «كودية» تدعى العرافة بيننا، فعالم اتصاله أو اتصالها بالنبات محدود بما يسمع أو يقرأ من كتاب «تذكرة داود» الذي كتب أصلًا لغاية معرفية أصيلة. وتكمن المشكلة الحالية أساسًا في استعداد الناس لتصديق وصفات نادرة — مثل ديك بلون الببغاء أو آخر أعور أو أعرج — من أجل شفاء حبيب أو عزيز، كما أن عراف اليوم يعتمد على أعوان للحصول على معلومات عن المريض، وتقتصر تشخيصاته على أنه «ممسوس» بقوى خارجية يجب استعطافها بالاستجابة إلى طلبات مغرقة الغرابة كمؤشر على جدية الموضوع، وتبرير الإنفاقات العالية في ممارسة الطقوس.

عاشت الشامانية وأفكار مماثلة لها آلاف السنين لأسباب كثيرة منها:
  • (١)

    أنها وسيلة التخفيف عن الأمراض التي يعتقد أن مسبباتها قوى وطاقات من العالم الخارجي.

  • (٢)

    لأنها كانت في مجموعها ممارسات تطبيبية ناجحة؛ لأن حياة المجتمعات القديمة كانت بسيطة متعايشة مع البيئة الطبيعية، ومن ثم فالأمراض غالبًا بسيطة تأخذ أشكالًا متشابهة متكررة.

  • (٣)

    أن قاعدة العلاج عند الشامان هي مستخلصات وممزوجات نباتية عشبية، التي أصبحت فيما بعد قاعدة الصيدلانية الحديثة حتى الآن.

  • (٤)

    وأخيرًا فإن الطقوس التي يقوم بها الشامان من صوتيات وأنغام بمفردات غير مفهومة مع إيقاع الجسد وتكرار دق الطبل المفاجئ بين حين وآخر في محاولة الاتصال بعوالم القوى الخارجية، تضفي على الممارسة الشامانية أجواء تشيع رهبة النفس لدى المريض والحضور، وبذلك تكتمل الأشكال الأساسية في العلاج البدني (الأعشاب)، والنفسي (الطقوس).

وبما أن المجتمعات بسيطة الاقتصاد — صيد ورعي خفيف — فإن أعداد الناس كانت قليلة وتتحرك طبقًا لحركة مصدر الغذاء في مساحات واسعة. ولكن قد يحدث لأسباب كثيرة أن تتسرب إلى تلك المواطن أمراض وأوبئة تنقلها القوارض والطيور من مناطق بعيدة، فتتشكل مجموعة غامضة من أعراض المرض على الناس. وحين يصبح علاجها صعبًا قد يؤخذ برأي الشامان في الهجرة إلى مواطن أخرى بعد أن أصبحت الأرض ملعونة؛ لأن قوى معادية غير طبيعية تبغي الاستيلاء عليها.

وحين تتقدم المجتمعات وتصبح منتجة للغذاء — زراعة ورعي — ويعاد صياغتها إلى فئات وطبقات وحكام ومحكومين وعاملين وملاك وتجار، ينشأ نظام الحرب ومبدأ الاستيلاء على ما لدى الغير. حينئذ لا تفيد بساطة الشامانية ويحتاج الأمر إلى تأييد آلهة جدد أقوى اتصالًا بالمؤسسات السياسية الاقتصادية الجديدة. وفي هذه الحالات تنقسم الشامانية إلى قسمين؛ أولهما: استمرار المتخصصين في التطبيب؛ لأنه ضرورة لا غنى عنها للناس، وهؤلاء هم «طبيب الأعشاب». والثاني: الكهانة المرتبطة بالآلهة الجدد الذين لا غنى عنهم لمركبات المجتمع الجديد، والذين أصبحوا طبقة قوية بما لديهم من قوى الاتصال الإلهي وأوقاف المعابد الكثيرة. ولكن في المراحل الأولى قد يجمع حكيم الصفتين معًا. وأشهر الحكماء «أمحوتب» وزير الملك زوسر باني هرم سقارة المدرج (نحو ٢٨٠٠ قبل الميلاد). فقد كانت له إسهامات تطبيقية عديدة في الهندسة والوزارة، ولكن أكثر إسهاماته عمرًا وأثرًا كانت كتاباته الطبية لدرجة أن المصريين فيما بعد أضفوا عليه صفات الألوهية في الطب قبل «أبوقراط» الإغريقي — صاحب القسم المشهور في كليات الطب — بأكثر من ألفي سنة، فما أحرانا بقسم نتذكر فيه هذا الحكيم سابق العصر في الدنيا جميعًا. وقد لا يقتصر الأمر على منطقتنا، فإن فلسفة «التاوية» السابقة على البوذية في الصين — نحو ألف عام ق.م — تضم في أسسها العناية بصحة الناس في المأكل والمشرب كجانب عملي تطبيقي حيوي للحياة، وإلا ما عاشت مثل هذه الفلسفات.

تطور طب الأعشاب إلى سجلات كتبها وأضاف إليها حكماء أقاليم العالم وورثها «العطار» في حياتنا الشرقية. وفي قلعة هايدلبرج في ألمانيا متحف رائع للعقاقير العشبية جمعها العلماء بالدقة المعروفة عنهم، وما أحوجنا إلى مثل هذه المتاحف والدراسات التي لا تبغي شهرة ذات فرقعة! وكما أسلفت القول فإن الاهتمام بالنبات يشكل أسس المعرفة الصيدلانية الحديثة. ولكن دخول المركبات الكيماوية في العقاقير ربما حد من استمرار نمو العقاقير النباتية بعض الشيء. إلا أنه بين حين وآخر تظهر اتجاهات عودة للعلاج النباتي. وآخر ما كنت أعرفه كان في النمسا وألمانيا في السبعينيات والثمانينيات حين ظهرت صيحة ما أُسمي «هيميوباتي»، الذي هو علاج طبي من أشربة من مستخلصات نباتية تلعقها قطرة قطرة على ظهر يدك، لعلها بذلك تمزج بين جسم المتعاطي والدواء في علاقة بيولوجية متبادلة. ولا أدري ماذا حدث بعد ذلك: هل ما زالت الصيحة مستمرة أم قضى عليها التقدم الآلي المذهل في تشخيص الأمراض، كالتصوير الداخلي للشرايين والقلب وجراحات الليزر، واجتهادات الاستنساخ وخريطة الجينات … إلخ؟

والحقيقة أن التقدم في التجهيزات الطبية قد ربط بين الطب والهندسة وعلوم التقنية الأخرى بشكل ليس له مثيل، وفتح آفاقًا لم تكن معروفة من قبل. بل ربما نحن الآن على عتبة كشوف في الجسم والنفس لا نعرف مداها.

تدخل مركزًا طبيًّا الآن لا تكاد تفرقه عن تجهيز مركز للتقنية الحديثة سوى أن المستقبلين ما زالوا يلبسون رداء الرحمة الأبيض. ولكن الاستقبال يقودك بعد الفحص الأولي إلى التعامل مع الحسابات حيث تتحدد قيمة مسبقة غالبًا عالية؛ لأن تكلفة هذه المراكز عالية من حيث هندسة البناء الطبي والإدارة والتخصصات الطبية، والتجهيزات الآلية وتحديثها وإبدالها وصيانتها والتمريض والضرائب وغير ذلك أشياء كثيرة أخرى.

لقد انتهى عهد أعلام الأطباء الذين كانت شهرتهم فائقة السمعة أمثال علي إبراهيم ورامز وحندوسة والمفتي وباركير وفيلنجر، وربما بقي منهم اسم على مستشفى أو مركز طبي كتراث، أو الإعلان عن حضور أحد المشاهير المتبقين أسبوعًا لإجراء فحوصات وعمليات في مستشفى معين كطبيب القلب المصري الشهير يعقوب. بطبيعة الحال فإن لكل عصر سمة، وعصرنا برزت فيه التقنيات أكبر من شخصية الطبيب وخبراته؛ بمعنى تقدم الآلة على العلاقة المباشرة التي كانت تتم بين الطبيب والمريض وفيها يتم تحديد نوع العلاج. بل في أحيان كانت أريحية بعض مشاهير الأطباء تؤدي إلى علاج مجاني أو ما أشبه رأفة برقة حال المريض وتصدقًا منه على علمه، وهو ما لا يحدث اليوم؛ لأنه لا توجد مثل هذه العلاقة الإنسانية المباشرة. فإدارة الحسابات لا يوجد في بنودها مثل هذه الصدقات إلا بإعلان وزفة، وربما أيضًا لكسر نسبة الضرائب.

ليس معنى هذا الكلام رغبة في عودة الماضي. فما مضى لا يعود. ولكنها الرغبة في أن نرى — إلى جانب المؤسسات والمراكز الطبية الحالية — بعض المراكز والمؤسسات التي تفتح برءوس أموال خيرية لمساعدة المحتاجين حقًّا من المرضى بعد استفحال قيمة الطبابة. أي هل تنشأ مؤسسات بحثية وعلاجية لغير غرض الربح non-profit، كما هو الحال في بلاد أخرى من العالم كنوع من مساعدة الدولة في مجهوداتها المشكورة في هذا المجال الإنساني؟ وربما لست على دراية بكل جوانب الموقف، ولكني أقرأ وأسمع أن بعض المؤسسات الطبية الحكومية تتحول جزئيًّا عن المجانية إلى شكل قريب من الاستثمارية، وأن المحتاج يصرخ إلى أن ينال عطف قرار بالعلاج المجاني على نفقة الدولة، ولو كان هذا اتجاهًا واقعًا فلا غَرْوَ أن يحذر الناس أنفسهم من الوقوع في مغبة المرض؛ لأنهم لن يستطيعوا له غلابًا!
١  عدد الطلبة في الجامعات المصرية هائل كما يلي توضيحه: الأزهر ٣٣٨ ألفًا – القاهرة ٢١٣ – عين شمس ١٦٦ – حلوان ٩٥ – الإسكندرية ١٥٠ – طنطا ١١٢ – المنوفية ٧١ – المنصورة ١١٠ – الزقازيق ١٥٤ – قناة السويس ٤٥ – أسيوط ٦٣ – المنيا ٣٨ – جنوب الوادي ٦٠ ألفًا.
٢  نسبة الإناث لإجمالي التلاميذ في مراحل التعليم كالآتي: التعليم الابتدائي ٤٨٪ – الإعدادي ٤٧٪ – الثانوي العام ٥١٪ – الجامعي ٤٨٪، (النسب عن أرقام الجهاز المركزي ٢٠٠٥ عن تقديرات ٢٠٠٤)، إذا صحت هذه التقديرات فإننا لا شك سائرون في الطريق الصحيح للتنمية البشرية باعتبار ما للأم من دور هام على الأسرة في ظل أسفار الآباء للعمل المهاجر في أحيان.
٣  ليس من المعروف عدد أطفال الشوارع من إحصاءات أو حتى مجرد تقديرات، وكل ما لدينا أرقام من وزارة الداخلية عن عدد الجنح والجنايات التي كان مرتكبوها من أطفال الشوارع، على النحو الذي أورده د. خليل فاضل في مقاله «حاكموا وزير التضامن قبل محاكمة التوربيني وإخوانه»، المنشور في «المصري اليوم» في ١٨ / ١٢ / ٢٠٠٦، حيث يقول: إن أرقام الإدارة العامة للدفاع الاجتماعي سجلت أن ٥٦٪ من جرائم السرقة منسوبة إلى أطفال الشوارع، وكذا ١٦٪ تشرد، و١٤٪ تسول، و٥٪ عنف، و٣٪ جنوح.
٤  منذ سنوات نشرت مقالًا عن «عيون القط وأسنانه»، بمعنى أنه في الماضي كانت العلامات المضيئة التي تثبت بأرضية الشارع بيضاوية نصف دائرية بحيث تنبه السائق بنعومة أنه مقبل على منحنى أو إشارة مرور، أما المربعات الحديدية التي توضع الآن فهي ذات زوايا حادة وترص في صفوف ثلاث أو أكثر وترتج السيارة لدى مرورها، وبطبيعة الحال تتآكل إطاراتها وتصبح بذلك معرضة لحوادث الاصطدام — فهل يصعب الآن صناعة عيون القط بدلًا من أسنانه، أم أن التكلفة عالية؟
٥  المعروف أن عملية اندماج الفرد في الجماعة socialization تبدأ من الأسرة، لكن الأسرة هنا ليست فقط الأب والأم والإخوة بل هي نوع من الأسرة الممتدة إلى الجيران وأبناء الحارة والحي من ذوي الأعمار المتقاربة. وهناك إغراء أن ينضم الصغار لمن أكبر منهم بقليل، ومنهم يتلقون ومعهم يندمجون ويصبحون بعد فترة شبه مستقلين عن الأسرة التي يجتاحها من حين لآخر عنف الزوج والزوجة، وبالتالي تصبح غير مرغوبة، ومن ثم ينطلق الأطفال إلى الشوارع في حمى الأكبر كبديل للأسرة الأصلية.
٦  د. خليل فاضل في ذات المقال المنوه إليه في الهامش رقم ٣.
٧  في هذا المجال يختلف الباحثون في أسباب ذلك السلوك الخارج عن القانون. علماء النفس يرجعون جانبًا كبيرًا منه إلى عوامل داخلية تؤهل الاتجاه إلى السلوك غير السوي بكل أشكاله، وربما ترى فيه إشباعًا للشخصية والغرائز معًا بالعنف إلى حد القتل، بينما يرجح علماء الاجتماع وبعض علماء النفس وغيرهم أسبابًا خارجية لسلوك العنف ضد نمط الحياة التي يعيشونها اقتصاديًا واجتماعيًا وترويحيًا وجنسيًا. ولكن في المجموع يزاوج كل الباحثين بين الأسباب الداخلية والخارجية معًا في تكوين السلوكيات القصوى لبعض أطفال الشوارع.
٨  هناك أبحاث كثيرة في هذا المجال مثل أحمد زايد «العقل الأسير»، ومصطفى حجازي «التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور»، وأبحاث أخرى لمصطفى زبور وبرهان علي وخليل فاضل وغيرهم، ليس فقط في مشكلة أطفال الشارع بل على جمع من السلوكيات المعادية للمجتمع، كالإدمان وترويج المخدرات والدعارة … إلخ، ومثل هذه التنظيمات العصابية تقوم بحماية أفرادها وبخاصة عند مسألتهم أمام القانون. ولهذا يختلف الباحثون في مدى صلاحية العقوبات القانونية الحالية أو علاج الأمر بطرق أخرى.
٩  منذ عام ١٩٢٣ وما بعده صدرت قوانين تحت اسم «حقوق الطفل» عالميًّا، وفي ١٩٩٠ أصبحت اتفاقية حقوق الطفل نافذة دوليًّا، وبتوقيع مصر عليها أصبح لدينا قانون لحماية الطفل وجمعيات حكومية وأهلية في هذا المجال، تبعًا لصدور قانون الطفل ١٩٩٦ وصدور العقد الثاني لحماية الطفل المصري للفترة ٢٠٠٠–٢٠١٠.
١٠  بعض الأسر ترفض تسلم الأولاد من النيابة والشرطة، لأسباب ظاهرها العصيان وباطنها الفقر المدقع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤