المقدمة

(١) النوع الأدبي

هذه مسرحيةٌ من نوعٍ خاص، تمثِّل في نظري أصدق تمثيل مفهوم الشعر المسرحي (أو الدراما الشعرية)، الذي وضعه ت. س. إليوت في القرن العشرين، استنادًا إلى خبرته الواسعة بهذا الفن الأدبي إبداعًا ونقدًا، ألا وهو الْتقاء الشعر والمسرح وتضافرهما تضافرًا من المحال «تفكيكه»؛ بمعنى أن أعمق اللحظات الدرامية فيها هي ذاتها أعمق اللحظات الشعرية، وذلك إذا لجأنا إلى قدرٍ ما من التبسيط، فقلنا إن من أهم سمات الدراما الصراع بين قوى متكافئة، خارجية أو داخلية، أو خارجية وداخلية معًا، وما يصاحب هذا الصراع من توترٍ أو من توترات تصعد بالحدث (أو الفعل الدرامي) إلى ذروته المحتومة، فاجعة كانت أم هانئة، وإذا اعتمدْنا التبسيط نفسه فقلنا إن من أهم سمات الشعر الاستعارة، أو التصوير الاستعاري أو الرمزي، وضغط التعبير وتكثيفه، في إيقاعٍ يتفاوت انتظامه بتفاوت اللحظات الشعرية وتركيزها، ومعنى الْتقاء هذين الفنَّين الْتقاء فنون أدبية كثيرة في الدراما الشعرية، مثل فنون البناء والنسيج وتجاوب الدلالات الصريحة والضمنية، وتجاوز العرَض إلى الجوهر أو الْتقاؤهما، إلى آخر ما تميزَت به آداب البشر منذ أقدم العصور، ففي الدراما الشعرية نجد جنسًا أدبيًّا قائمًا برأسه، نتحرج من اعتباره مسرحًا فقط أو شعرًا فقط.

وهذا ولا شك هو السبب في كثرة ما كُتِب عن هذه المسرحية، وتفاوت النظرات النقدية إليها على امتداد القرون الأربعة الماضية؛ لأن الذين يتناولونها يندر أن يذكروا تضافر الشعر والمسرح هذا التضافر الوثيق فيها، فإذا كان من يتناولها من أهل المسرح — ناقدًا أو مخرجًا أو ممثِّلًا — عمد إلى اعتبارها عملًا مسرحيًّا فحسب، وتركزَت جهوده في جوانب البناء الدرامي والشخصيات، وتطور الحدث ودلالاته الدرامية، وإذا كان من أهل الشعر رأي في نسْج رؤاها وأفانين صياغتها ودلالات صورها ما يربط بينها وبين الأعمال الشعرية الأخرى، وإذا كان ممن فتنتهم فنون «النقد الثقافي» التي ازدهرَت في أواخر القرن العشرين؛ فقد يتجه إلى دلالاتٍ أخرى قد تتصل بالتفسير الرمزي (allegorical interpretation) الديني أو البيوغرافي، أو تتصل بما يُسمَّى النقد النسوي (أو نُصرة المرأة) (Feminism)، أو علاقات الاستعمار وما تلاه (Post-colonialism) أو الدلالات السياسية، خصوصًا فيما يتعلق بعلاقات السلطة (Power relations) وخضوع المحكوم للحاكم (أو ما يسمِّيه هيجل علاقة العبد بالسيد)، أو الدلالات التي أتى بها التحليل النفسي (Psychoanalysis) الفرويدي في علاقات الشخصيات، أو الربط بين الحدث المسرحي/الشعري وبين أحداث عصر المسرحية أو علاقتها بالشاعر المسرحي نفسه، وسوف أعرض في هذه المقدمة لشتَّى هذه المناهج التفسيرية حتى عام ٢٠٠٢م، بعد محاولةٍ موجَزة لوصف المسرحية وبيان خصائصها الأدبية التي لا يختلف الكثيرون عليها.

(٢) وصف المسرحية

يرى معظم النُّقاد أن النوع الأدبي الذي تنتمي إليه هذه الدراما الشعرية هو الرومانس، فهي «رومانسة» (a romance) (والرومانس تعريفًا: أيُّ عملٍ شعري يتضمن قصة حب، إلى جانب مجالدة الأخطار وخوض المغامرات التي تنتهي بالنصر)، ولكنهم يضيفون (أو يضيف بعضهم على الأقل) إلى هذا الوصف خصيصة الشعر الرعوي (pastoral)، وهي الابتعاد عن المدنية ونشدان المثالية في نقاء العاطفة وصدقها، والمقابلة بين الطبيعة (أو حياة الفطرة) وبين الحضارة (أي التعقيد الاجتماعي)، فهي إذَن «رومانسة رعوية»، ويذهب بعضهم إلى أنها كوميديا (بسبب نهايتها السعيدة) أو إلى أنها تراجيكوميدي، أي ملهاة تجمع بين عناصر الملهاة والمأساة، وإن قال البعض أخيرًا إنها مسرحية «تجريبية» أيضًا، وهم يؤكدون في هذا الصدد أهمية الماصْك — أي العرْض الغنائي الراقص — بل إن أحدهم يذهب إلى أن المسرحية كلها يمكن أن تعتبر ماصْك!
أما أحد منابع الشعر في هذه «الرومانسة الرعوية» فهو، في تصوري، ما يقول به روبرت لانجبوم (Langbaum)، في مقدمته لطبعة سيجنت (Signet) من المسرحية، وإن لم يقل صراحةً بانتمائه للشعر، من إحساسنا بالدهشة والعجب (ص٣٢)، ويقصد بذلك — في تصوري أيضًا — قدرة الشعر على أن يكشف للإنسان في لحظةٍ عن حقيقة أو حقائق كانت ماثلةً أمام عينه دون أن يراها، ومن ثَم يدهش لاكتشافها، رغم معرفته السابقة بها، وهو يسمِّي ذلك «مظاهر التحول في الإدراك» أي (transformation of perception)، فكأنما يشير من طرفٍ خفي إلى ما ذكره الرومانسيون عن نزع «لثام الألفة» عن الشيء العادي حتى يبدو غير عادي، وهو مصدر الدهشة الذي يُلح عليه كلينث بروكس عند الشعراء الرومانسيين، (انظر كتابي النقد التحليلي – ط٧ ١٩٩٥م)، بل ما عاد إليه أصحاب النظرية النقدية الحديثة في مصطلح «إزالة الألفة» (defamiliarization) (انظر كتابي المصطلحات الأدبية الحديثة – ط٣ – ١٩٩٨م)، وإن كان لانجبوم يربط بين الدهشة هنا وبين «الكشف» الدرامي، ضمنًا، ويضرب لذلك أمثلةً من التورية الدرامية الساخرة (dramatic irony) في مشهد إغواء أنطونيو لزميله سباستيان بارتكاب القتل، قائلًا إن هذا المشهد يماثل إغواء زوجة ماكبيث لزوجها على قتل الملك دنكان، وإذَن فإن «المادة» فيه مأساوية، ولكننا نراه فكاهيًّا بسبب إدراكنا أن آرييل — الجني الذي يخدم بروسبيرو — يراقب ما يحدث دون أن يراه أحد، وأنه قد تسبب في وقوع ذلك الحدث نفسه تنفيذًا لأوامر سيده (ومن ثَم فلا خوف من وقوع الجريمة؛ لأن آرييل يتدخل في اللحظة المناسبة لمنعها). ويقول لانجبوم تعليقًا على ذلك: «إن المنظور الكوميدي لا يجعلنا مع ذلك نضحك، بل يجعلنا نعجب» (ص٣٢). ويقول لانجبوم: «بل إن الشخصيات والمشاهد الكوميدية نفسها لا تجعلنا نضحك بقدر ما تجعلنا ندهش؛ فهي على درجةٍ من الغرابة تثير التعجب أكثر مما تثير الضحك.» وانظر أيضًا كتاب «فلتبدُ الدهشة مألوفة: النهايات في رؤية شيكسبير للرومانس»، من تأليف ر. س. هوايت (White) ١٩٨٥م.
وقد اشتهر الخطاب الذي يوجهه بروسبيرو في آخر المسرحية إلى فرديناند، في الفصل الرابع (١٤٦–١٦٣) بخصائصه الشعرية، حتى لقد أصبحْنا نردد منه عبارات أو أبيات ترديد الأقوال المأثورة، بل والتي دخلَت مصطلح اللغة الإنجليزية الحديثة، مثل قولنا: «إنا خُلِقنا من خيوطٍ تُنسَج الأحلام منها.» أو قولنا: «وهكذا يُكلِّل النعاس … حياتنا القصيرة الضئيلة.» (وهذا هو التفسير لدى الجمهور لفعل round، الذي ناقشتُه في مقدمتي لكتاب المذاهب النقدية للدكتور شبل الكومي (٢٠٠٤م)، وإن كان يمكن تفسيره على النحو التالي: «وعيشنا القصير في الدنيا يحيط النوم به.» (السطران ١٥٧-١٥٨)، كما تكثر إشارات الكُتاب إلى فكرة الوهم التي يطرحها بروسبيرو عند تصوير الحدث الدرامي، فالممثِّلون في المسرحية الغنائية الراقصة (الماصْك) من الجن الذين يماثلون آرييل في انتمائهم إلى الريح أو إلى العالم الخفي (وهو المعنى الاشتقاقي للجن)، وهم يعودون إلى الريح فينتفي وجودهم المرئي، وإن استمر وجودهم الفعلي:
فلم يكن ممثِّلونا هؤلاء
غير أرواحٍ وأشباحٍ تلاشت بل وذابت في الهواء
في أرق ذرات الهواء! وهكذا تذوب
مثل هذه الرؤيا التي بنَت نسيجها من العدم
قلاعنا التي يكلِّل السحاب رأسها
قصورنا الجميلة الشماء والمعابد الوقورة الرزينة
والكرة الأرضية العظيمه! وكل ما ترث!
ومثلما خبا وهم احتفالنا الكبير وانتهى بلا أثر
لن يترك الذي يمضي نثارًا من سحاب!
(ف٤/م١ / ١٤٨–١٥٦)

والكُتاب يجدون في هذه الصورة مثالًا لفكرة الزوال المادي، الذي لا ينفي خلود الروح، ومن ثَم فهي فكرةٌ رمزية أو صورةٌ شعرية أتى بها إلى ذهن بروسبيرو، ونجاحه في قهر اعتزامه الانتقام من أعدائه بعد أن أصبحوا «تحت رحمته»، فهو يعفو عنهم عفوًا يثير الدهشة (في رأي لانجبوم)؛ لأنه يكشف عن وهمٍ عجيب مدهش، وفكرة العفو عند المقدرة نفسها من الأفكار الأساسية في المسرحية (وهي التي دفعَت بعض النُّقاد إلى منهج التفسير الديني للحدث)، وهي فكرةٌ تحدد مسار الحدث الدرامي في النهاية؛ إذ تأتي بالمصالحة والسعادة، ولكنها، كما نرى تتخذ صورةً شعرية لا شك في تكثيفها وجمال صوغها، وهذا يؤكد ما ذهبت إليه من تضافر الشعر والدراما في الشعر المسرحي (أو المسرح الشعري).

وهذا ما أريد تأكيده للقارئ العربي الذي لم يدرج على تذوُّق هذا النوع الأدبي (المختلط) قبل القرن العشرين، بل إننا نستطيع أن نعتبر المسرحية كلها حدثًا رمزيًّا شعريًّا يمثِّل ما يمر به الإنسان في حياته، أو حتى حياة الإنسان نفسها في الدنيا التي لا تزيد عن وهمٍ «يتلاشى ويذوب في أرقِّ ذرات الهواء!» والهواء هنا هو الريح، رمز الروح (بدلالتَيها الاشتقاقية والاستعارية)، والمواجهة بين السحر وبين الواقع قد تكون السبيل إلى إدراك طبيعة هذا الوهم، فلولا سحر بروسبيرو ما اطَّلعْنا على العالم الخفي، بل وما وعيْنا وجوده أصلًا، وعندما يكسر بروسبيرو عصاه السحرية في آخر المسرحية، ويعلن العودة إلى إيطاليا، نكون قد مررْنا بالتجربة التي مر بها فرديناند عند مشاهدة الماصْك، وأحسسنا بما مر بنا إحساس من بهره الاطلاع على العالم الخفي الدائم، الذي يؤكد زوال عرَض الدنيا، وأن ما نظنه واقعًا ماديًّا صلبًا ما هو إلا رؤيا عابرة!

(٣) تاريخ المسرحية

دأب ناشرو هذه المسرحية ومحررو طبعاتها على نشدان بعض جذور الحبكة أو الحدث في المكتشفات الجغرافية التي شهدها مطلع القرن السابع عشر، وتحديد تاريخ كتابتها وعرضها، ومشكلات النص وما تعرَّض له من تعديلات أو «تصويبات»، وكل هذا لا يعني القارئ العربي كثيرًا، وإن كان لا بد أن يشغلنا نحن المتخصصين، ولسوف أُجمل ذلك كله في كلماتٍ معدودة قبل عرض المعالجات النقدية ومذاهبها.

فأما تاريخ كتابة المسرحية فالأرجح أنها كُتبَت في عام ١٦١٠م، فالثابت أنها قُدمَت على المسرح في عام ١٦١١م في أول نوفمبر (وهو عيدٌ ديني)، ثم في شتاء عام ١٦١٢-١٦١٣م في إطار الاحتفالات بزواج الأميرة إليزابيث (ابنة الملك جيمس الأول) إلى أمير بلاتين (الألماني)، وقد شُغِل الدارسون بتحديد تاريخ الكتابة، مستندين إلى دلائل نصيةٍ داخلية، أي إلى ما يومئ إليه النص نفسه من نجاة سفينةٍ ظُن غرقها، وهو ما يشير في ظنهم إلى نجاة سفينة السِّير توماس جيتس (Gates) التي تُسمَّى سي فينتشر Sea Venture، بعد أن تصور الجميع غرقها عند جزُر برميودا في البحر الكاريبي، وقد أفاض محرر طبعة آردن (الأستاذ فرانك كيرمود) كما أفاض مَن سبقوه، في تبيان هذه الإشارات؛ فخصص لها ٢٨ صفحة من مقدمته، ولا شك أن قصة السفينة مسلية، ولكنها لا تفيدنا في تذوق النص إلا قليلًا، وإن كان الدارسون لا يزالون يكتبون الأبحاث ويصدرون الكتب في هذا الموضوع بسبب علاقته باكتشاف أمريكا، وبطبيعة الإنسان «البدائي»، وموضوع «الطبيعة» نفسه؛ ولذلك فسوف نعود إليه عند التعرض لهذا الموضوع، والذي يهمنا هنا هو رصد الحقائق فقط قبل التعرض لتاريخ تطور النظرات النقدية للمسرحية.

(٤) بناء المسرحية

يقول دافيد لندلي في مقدمته لطبعة نيو كيمبريدج (٢٠٠٢م): إن المسرحية لا تمثِّل، كما ذهب إلى ذلك العديد من النُّقاد، جيلًا بعد جيل، «صفوة فن شيكسبير»، باعتباره آخر أعماله، بل إنها مسرحيةٌ «تجريبية» مثل غيرها، مؤكدًا أنها:

«رغم إعادة طرحها لأفكار وموضوعات وقضايا سبق له استكشافها في مسرحياتٍ سابقة، ورغم روابطها النوعية الواضحة بالرومانسات التي سبقَتها مباشرة، فإنها تفتح أراضي شيكسبيرية جديدة في تشكيلها الدرامي، وفي استخدامها للموسيقى والمناظر بوجهٍ خاص.»

(ص٣)
فأما عن البناء الدرامي، فإن المسرحية تراعي بعض الوحدات الدرامية الكلاسيكية، مثل وحدتَي الزمن والمكان، وهو ما احتفل به النُّقاد الكلاسيكيون وهلَّلوا له، وذلك يؤدِّي إلى تكثيف الحدث، ويزيد من تكثيفه إقامة التناظر بين عناصرها على كل مستوى، فلدَينا فيها والد وابنته يناظرهما والد وولده، وأخوان يقابلهما أخوان، والمتآمران في المسرحية يناظران (أو يعيدان تمثيل) التآمر السابق للحدث، والذي أدَّى إلى خلع بروسبيرو من حكم دوقية ميلانو، ووصول بروسبيرو إلى الجزيرة مع ابنته يوازي وصول الساحرة سيكوراكس قبل بداية المسرحية مع ابنها كاليبان، و«رجال الخطيئة الثلاثة» (ف٣/م٣ / ٥٣). وهم ألونزو، وأنطونيو، وسباستيان، نجد صدًى لهم في الثلاثي الآخر وهم ستيفانو وترينكولو وكاليبان، وهكذا فإن المسرحية تمثِّل قاعة من «المرايا المتجاورة» (تعبير جابر عصفور، وكما يقول هارولد بروكس (Brooks) — الذي استخدم هذا التعبير أيضًا — في دراسةٍ له بعنوان «العاصفة: أيُّ نوع من المسرحيات؟» نشرها عام ١٩٧٨م)، بمعنى أن انعكاسات الصور تؤثِّر في بعضها البعض، وتؤكد الإحساس بانغلاق هذا العالم الدرامي وتركيزه، وهو الذي يؤدِّي إليه تحكُّم بروسبيرو في الحدث، وهيمنته على مصائر الجميع، ولا شك أن دوره يذكِّرنا بدور أوبرون — ملك الجان — في مسرحية حلم ليلة صيف، أو بدور الدوق في مسرحية دقة بدقة، ولكن سيطرة بروسبيرو على الحدث في العاصفة أكمل من كلَيهما، وهو يختلف عنهما في أنه يستعملها لتحقيق غاياته الشخصية المحددة، وأهمها الانتصار على أعدائه، واستعادة سلطانه السليب (وتزويج ابنته).
وقد دفع هذا البناء المكثَّف بعض الدارسين المتخصصين إلى القول بأن شيكسبير كان يحاول — ولو على استحياءٍ — محاكاة ما يُسمَّى ﺑ «الكوميديا الجديدة» (الرومانية) عند بلاوتوس (Plautus) وتيرنس (Terence) من الكلاسيكيين، وأهم دراسة لعلاقة العبد بالسيد ودلالتها في هذه الكوميديا هي التي كتبها برنارد نوكس (Bernard Knox) عام ١٩٥٤م بعنوان: «العاصفة وتراث الكوميديا القديم» الواردة من كتاب كوميديا المسرح الإنجليزي، وأحدثها الدراستان اللتان كتبهما ليو سالنجر (Salinger) في كتابه شيكسبير وتقاليد الكوميديا (١٩٧٤م)، وروبرت س. ميولا (Miola) في كتابٍ متخصص بعنوان شيكسبير والكوميديا الكلاسيكية: تأثير بلاوتوس وتيرنس) (١٩٩٤م)، وأهم ما يذهب إليه الأخير هو أن البناء يمثِّل صدًى «لمبدأ التركيب الثنائي» (binary construction)، الذي تتميز به الكوميديا الكلاسيكية (ص١٥٥)، وهو المبدأ الذي يستعين به كُتاب الرومانسات، كما ذهب آخرون إلى أن بعض مظاهر البناء يتجلى فيها تأثير الكوميديا الإيطالية المرتجَلة (كوميديا ديلارتي)، وخصوصًا باحثة تُدعَى لويز جورج كِلَب (Clubb)، التي تقول في كتابٍ لها بعنوان الدراما الإيطالية في زمن شيكسبير (١٩٨٩م): إن وجود الساحر الذي يتحكم في الأحداث بعصاه السحرية، وبكتاب السحر الخاص، وزمرة الصاخبين الذين يقضون الوقت في السكْر والعربدة، يشيع في تقاليد الكوميديا «الرعوية» الإيطالية (ص٢٠). كما ذكر نقادٌ آخرون أن بناء التراجيكوميدي في هذه الرعويات كان يشبه ما حاوله شيكسبير في العاصفة، مثل هنتر (Hunter) (١٩٧٥م) وهنكه (Henke) (١٩٩٧م). ولكن القضية لسيت قضية تأثر وتأثير، فهذا واردٌ وشائع، ولكنها تدل — كما تقول الباحثة المذكورة — على أن الوعي بوجود النماذج الكلاسيكية والإيطالية:

«يكتسب أهميةً خاصة إذا أردْنا إنصاف شيكسبير … فإن عمله يتطلب الإقرار بأنه دراما طليعية، استخدم فيها أحدث فنون العرض المسرحي في تشكيلاتٍ جديدة باهرة.»

(ص١٥٧)
وأما أحدث فنون العرض المسرحي فقد تناولها أندرو جور (Gurr)، في دراسةٍ له بعنوان «عاصفة العاصفة في مسرح بلاكفرايرز» (Blackfriars) (١٩٨٩م)، يبين فيها مزايا استخدام المسرح المغلق، وأساليب العرض الجديدة (ومنها الاستعانة بفرقةٍ موسيقية، وفترات التوقف ما بين الفصول لتهذيب الشموع وتجديدها)، وقد استغل شيكسبير هذه الأساليب في جعل كل فصل ينتهي بذروةٍ درامية، تُعتبَر تنويعًا على خيطٍ من خيوط الحدث الرئيسي وهو خيط العبودية والحرية، فالفصل الأول ينتهي بإخضاع فرديناند لسلطان بروسبيرو، وينتهي الثاني بأغنية كاليبان احتفالًا بالحرية، والثالث بفزع اللوردات من ظهور آرييل في شكل طائر الهاربي الخرافي، والرابع بطرد كاليبان وزملائه المتآمرين، والخامس بعودة الحرية بعد العفو والصفاء وباحتفالات الزواج المرتقبة!

وربما كان علينا أن نتوقف قليلًا في دراستنا للبناء عند مظهرٍ آخر من مظاهر تأثُّر شيكسبير بالدراما الكلاسيكية؛ لأنه مظهرٌ يؤكد تضافر فن الشعر مع فن المسرح، في هذا النوع الأدبي الخاص الذي لم نعتدْه في العربية، ألا وهو المزج الدقيق بين الحدث الواقعي والحدث الخرافي، فالقارئ الحديث الذي اعتاد لونًا منهما دون الآخر، أو اعتاد تطويع ذهنه لتقبُّل كلٍّ منهما على انفراد، سوف يدهش لمدى تأثير هذا المزج في إخراج الهياكل الاستعارية المركَّبة والموحية، التي تلعب دورًا دراميًّا أساسيًّا (على نحو ما سوف نشرح في القسم الأخير)، وقد تكون هذه «الهياكل» أو الأبنية مستقاة من عالم الطبيعة أو من عالم الخرافة، ولكنها بسبب طاقتها الرمزية تربط أجزاء القصيدة الدرامية (التي هي المسرحية الشعرية)، وتهبها وحدة انطباعٍ نهائية قد يحار المرء في تفسيرها إذا لم يقدم على هذا التحليل.

لننظر إذَن إلى المشهد الأول في المسرحية، الذي كتبه شيكسبير نثرًا لا شعرًا: إنه مشهدٌ يصور عاصفةً حقيقية على المسرح، أي إنه مشهدٌ طبيعي، وتقاليده في الآداب الكلاسيكية عريقة، فقد تبدأ بها الرومانسات الطويلة والملاحم، مثل الإنيادة لفيرجيل، ومثل أركاديا لسيدني، كما تبدأ مسرحية الحبل (Rudens) لبلاوتوس بعاصفةٍ لا نراها على المسرح، وقد سبق لشيكسبير نفسه استخدام «البرق والرعد» في بداية مسرحية ماكبث، وفي مشاهد من الملك لير ومن مسرحية بير كليس، وقد يؤدِّي مشهد العاصفة على المسرح في تهيئة الجمهور، كما يقول بعض النُّقاد (ليزلي طومسون – ١٩٩٩م) (Thomson) لتقبُّل «أحداث خرافية»، ولكن القضية ليس الخرافة أو الأحداث الواقعية، بل قدرة الصورة الحية على الإيحاء، وهي الطاقة التي ترتبط دومًا بالشعر، فالسفينة التي تتقاذفها الأمواج صورةٌ شعرية شائعة لتقلبات الحياة البشرية وتفاوُت حظوظ الإنسان، ومع ذلك فإن المشهد مكتوب بالنثر، وبلُغةٍ واقعية مفرطة في دِقَّتها، وليس به من الرموز «الواضحة» ما يميز الشعر الذي نراه في مواقف لاحقة في المسرحية، أي إنه مشهدٌ لا يبدو كالشعر في كثيرٍ أو قليل! ولكن هذا المشهد نفسه، الذي أقدم بعض المخرجين في بريطانيا على حذفه، (بل ظل يُحذَف حتى مطلع القرن العشرين)، عامرٌ بالإشارات الموحية التي تترك في النفس انطباعًا يماثل انطباع الصور الشعرية، فلقد أدَّى هبوب العاصفة (في الطبيعة) إلى ما يشبه الثورة التي ينعدم فيها النظام وتسود الفوضى، فأصبح هيكلًا أو بناءً استعاريًّا، لِما نحسُّه في دنيا البشر في انقلاب «السلَّم الاجتماعي» على متن السفينة؛ فالضابط يرفض قبول «سلطة الملك»، ويسخر من مشورة جونزالو، فيثير مسائل تتعلق بالسلطة والتحكم ما تفتأ تتردد أصداؤها في ثنايا المسرحية — كما ألمح إلى ذلك دافيد نور بروك (Norbrook) في دراسةٍ بعنوان «هل تعبأ الأمواج الهادرة باسم الملك؟ اللغة واليوتوبيا في العاصفة» في كتابٍ عنوانه السياسة والتراجيكوميدي (١٩٩٢م)، وهو مجموعة دراسات من تحرير جوردون ماكمولان (McMullan) وجوناثان هوب (Hope) — وسخرية الضابط من أنطونيو وسباستيان حين يدعوهما إلى العمل بدلًا منه، صورة حية للانقلاب الذي أحدثَته العاصفة، وللخلل الاجتماعي (المشار إليه)، وهو الخلل الذي يقبله فرديناند قائلًا: «قد يقدم المرء على عملٍ تافه فيزداد به شرفًا» (ف٣/م١ / ١-٢). ولا يَقبله بروسبيرو؛ إذ يرفض إحضار الحطب وإشعال النار، على عكس قائد سفينة سي فينتشر (Sea Venture)، الذي شارك الملَّاحين في عملهم، وفقًا للحادثة التاريخية المشار إليها في القسم السابق، على نحو ما أشار إليه ريتشارد ستراير (Strier) في دراسةٍ له وردَت في الكتاب نفسه (ص٢٢)، وقول جونزالو إنه يتمنَّى لو أُعطي «فدانًا واحدًا من الأرض القاحلة الجرداء» مقابل ألف فرسخ من البحر (ف١/م١ / ٣-٤)، لا يلبث أن يتحقق في مطلع الفصل الثالث، وبصورةٍ لم يكن يتوقعها حين ينجو، فيجد أنه رسا على جزيرةٍ يصفها قائلًا إنها جرداء مثل الصحراء! وقد جرَت العادة على وصف هذه الإشارات المضمرة (أي التي تشير ضمنًا إلى ما تكشف عنه المسرحية من أحداثٍ فيما بعد بأنها إشارات بنان (finger-posts))، وأضيف هنا: إن الإضمار الذي يتبعه الإفصاح يهب العمل ما يسمِّيه كولريدج وحدته الحيوية، أي وحدته باعتباره كائنًا حيًّا يخضع لقواعد الحياة المعروفة، ومن أهمها الترابط بين أعضائه، فالترابط العضوي يهب الوحدة العضوية، أو الوحدة التي يتميز بها كل كائنٍ حي؛ إذ يقول كولريدج في المحاضرة التاسعة من كتابه النقد الشيكسبيري (Shakespearean Criticism):

«وقبل أن أمضي إلى أبعد من هذا الحد، سوف أغتنم الفرصة لأشرح ما يعنيه الانتظام الآلي والانتظام العضوي؛ فالأول يعني أن النسخة يجب أن تبدو لِعين الرائي كأنما صُبَّت في قالب الشيء الأصلي نفسه، والثاني يعني أن ثمة قانونًا تطيعه جميع الأجزاء، بحيث تتفق مع الرموز والتجليات الخارجية للمبدأ الأساسي، فإذا تأمَّلْنا نمو الأشجار مثلًا سنلاحظ أن الأشجار التي تنتمي لنوعٍ واحد تتفاوت كثيرًا فيما بينها، وفقًا لظروف التربة أو الهواء أو الموقع، ومع ذلك فنحن نستطيع على الفور أن نعرف ما إذا كانت من أشجار البلوط أو الدَّرْدار أو السَّرْو … وهكذا الشأن مع شخصيات شيكسبير؛ إنه يكشف لنا عن حياة كل كائن والمبدأ [الأساسي] له بانتظامٍ عضوي، مثل الضابط في المشهد الأول من العاصفة.»

(المجلد الثاني، طبعة إفريمان، ١٩٦٥م، ص١٣١)

ويُفصِّل كولريدج ما يعنيه في هذا السياق، ولا يعنينا هنا إلا في حدود الوحدة الحيوية التي تنشأ من تطوير صورة الخلل، وقد أصبحَت صورةً حية في مشهد العاصفة الواقعي، فارتفعَت بذلك إلى مصاف الصور الموحية، وإذا بخيوطها تمتد في المشاهد التالية فتخرج النسيج المتلاحم، الذي ينمو وفقًا لما يسمِّيه كولريدج بالمبدأ الأساسي أو الحيوي!

ونحن لا ندرك هذه الدلالة البنائية/الشعرية على الفور، بل هي تتكشَّف لنا تدريجيًّا على امتداد المسرحية، بصورٍ شتَّى، منها صورة الخلل في الطبيعة الحية (العاصفة)، الذي نرى محاكاةً له (ما يسمِّيه كولريدج بالنسخة Copy)، في خلل السلوك البشري الذي أدَّى إلى خيانة الأخ لأخيه، في الانقلاب الذي سلب بروسبيرو سلطانه، وهو ما يرويه بروسبيرو في المشهد الثاني من الفصل الأول لابنته، ولو أنه يلوم نفسه أيضًا لأن إهماله شئون الدولة يمثِّل أيضًا خللًا من نوعٍ آخر!

وإذا تجاوزْنا مظاهر البناء التي تؤكِّد ما ذهب إليه كولريدج من وحدةٍ حيوية، وجدْنا أن «التنويعات اللحنية»، إن صح هذا التعبير، على ثيمة الخلل التي تدعو إلى الإصلاح تشبه التنويعات الشعرية في الصورة الأساسية، ومن أهم هذه التنويعات محور السلطة والطاعة، أو قل مصدر السلطة وواجب الطاعة، والمقابلة بين تحقيق الرغائب وإحباطها، وبين التوافق الموسيقي والنشاز، وبين التذكر والنسيان، وبين المنطوق والمسكوت عنه، وكلها تصب في ثيمة الخلل التي يبدأ بها مشهد العاصفة على ظهر السفينة، وتؤكدها المشاهد الاحتفالية التالية (مثل مشهد الماصْك) أو المشاهد الباهرة على المسرح، مثل مشهد المائدة التي تختفي أمام الجميع، ومشهد الكلاب التي تطارد اللوردات، وهي جميعًا وهمية أي من إبداع خيال شاعر، هو في هذه الحال بروسبيرو، وشيطان شعره هو العفريت الصغير آرييل، أي إن بروسبيرو يسخِّر شعره (أو شيطان شعره إن شئنا الدقة) لإبداع أوهامٍ من المحتوم أن تنقشع في النهاية، لتأكيد الطابع الفاني لكل مظاهر هذه الحياة — حتى الخلل وإصلاحه — وهو ما يقول به لفرديناند ثم للجمهور!

(٥) الماصْك

وقد استعنتُ ببعض الدراسات التي نُشرَت في ثلاثة كتب عن الماصْك، باعتباره من فنون البلاط المعتمدة في أواخر القرن السادس عشر ومطلع السابع عشر، منها كتابٌ كتبه ستيفن أورجل (Orgel) عن الماصْك الجونسوني (أي الذي أبدعه بِن جونسون) (١٩٦٧م)، وكتاب يضم عددًا من الدراسات بعنوان ماصْك البلاط الملكي (١٨٩٤م) من تحرير دافيد لندلي (Lindley)، وكتاب يضم دراساتٍ أحدث بعنوان الجوانب السياسية للماصْك في عصر أسرة ستيوارت المالكة (١٩٩٨م)، من تحرير دافيد بفنجتون (Bevington) وبيتر هولبروك (Holbrook)، وكلها تؤكد أهمية فكرة الوهم المحورية في هذه العروض الموسيقية الراقصة. صحيح أن التقاليد الاحتفالية في البلاط كانت تقضي بتقديم عرضٍ غنائي راقص يمثِّل الآلهة الوثنية ويتميز بالمرح والسرور والنهاية السعيدة، ولكن الخلاف استعر بين مذاهب كبار الشعراء الذين مارسوا هذا الفن الأدبي حول مغزاه والهدف منه؛ فقد كان بن جونسون يعتقد أن المشهد الباهر، بالملابس الفاخرة والمُعدات الباهظة التكاليف ولليلة عرضٍ واحدة، له ما يبرره، فما هو إلا أداة لاستكشاف ألغازٍ عميقة في حياة الإنسان والتعبير عن حكمةٍ بالغة وعميقة، أي إنه كان يرى فيه تصويرًا رمزيًّا لحقائق قد تخفى عن «المحتفلين» بالمناسبات، وأهمها احتفالات عيد الميلاد المجيد، وزفاف الأمراء، حسبما يقول في مقدمته لطبعة الماصْك الذي كتبه بعنوان أرباب الزواج (Hymenaei) (١٦٠٥م)، وقدَّمه في حفل زفاف فرانسيس هوارد (Frances Howard) على روبرت ديفرو (Devereux)، وربما كان الماصْك في العاصفة قد استقى منه بعض التفاصيل، بل إن بن جونسون كان ينتقد بذلك موقف الشاعر صمويل دانيال، الذي كان قد قدَّم في العام السابق ماصْك بعنوان رؤيا الربَّات الاثنتي عشرة، تعمَّد فيه تحاشي الإشارات الرمزية القائمة على الدراسة المتخصصة للأساطير اليونانية والرومانية، وقال في مقدمته له إنه اختار الربات والأرباب «وفقًا للمناسبة المحتفى بها، ودون مراعاة للتفسيرات التي قد تكشف عن ألغاز الحياة وأسرارها»، وعندما قرأ دانيال انتقاد جونسون له، عاد إلى الحلبة في المقدمة التي كتبها لماصْك كتبه عام ١٦١٠م بعنوان احتفال تثيس (Tethys Festival) (ابنة الأرض والسماء)، قائلًا إن كُتاب هذا اللون الأدبي وهو منهم لا يملكون إلا ابتداع الأطياف، وإنهم يبدعون تصاوير لا ثمرة لها، بل ويختتم ذلك العمل بالأبيات التالية:
فيا عيونًا ظامئاتٍ صادياتٍ نهِمَة
أسرِعْن الارتواء بالرؤى المُنْبهمَة
ولْتزْدرِدْن ما يزول فجأةً في غَمضَة
كأنه الأطياف في عبورها مُنفضَّة

أي إنه يحث الجمهور على «الارتواء» بالرؤى و«ازدرادها»، على عكس بن جونسون الذي يدعو إلى تجاوزها، والنظر فيما وراءها من «حكمةٍ بالغة» (جميع الإشارات هنا من كتاب لندلي المشار إليه — ١٩٨٤م — في صفحتَي ١٠ و٥٥)، فإذا تأمَّلْنا الماصْك في الفصل الرابع من العاصفة، وجدْنا أنه مكتوبٌ من وجهة نظر دانيال، لا جونسون، ولا غرو إذَن أن يعترض جونسون عليه، ولكن الماصْك هنا مهمٌّ باعتباره أطيافًا عابرة «منفضَّة» — كما يقول دانيال — فهذه هي الصورة الشعرية التي يجسِّدها بروسبيرو على المسرح، بعد أن طلب من شيطان شعره آرييل إعداد مشهدٍ غريب، قائلًا إنه يريد أن يعرض على «عيون الزوجَين الصغيرَين خدعةً ما/من أفانين سحري» (ف٤/م١ / ٤٠-٤١). والواقع أن مشهد الماصْك في العاصفة قد أصاب النُّقاد بخيبة أمل، حتى لقد افترض بعضهم أنه مدسوسٌ على شيكسبير، أو أنه كتب خصوصًا لحفل الزفاف الملكي، أي إن شيكسبير قد أضافه إلى نص المسرحية الأصلي، كما يقول روبرت لانجبوم في مقدمته المشار إليها (ص٢٢)، فالنظْم فيه مفتعَل، والشخصيات الأسطورية نمطية، وبعض المخرجين يحذفونه من العرض المسرحي.

ولكن الأبيات الثمانين تقريبًا (التي يستغرقها الماصْك) لا تزيد عن صورةٍ شعرية «زائفة» (ربما عمدًا)، لما أبدعه شيطان شعرٍ خاص (آرييل)، وهي تمثِّل «خدعةً ما» — كما يقول النص — والهدف منها الإلحاح على محور الوهم الذي يمثِّل جوهر الصورة الشعرية الأساسية في المسرحية، وهو الذي يؤكده بروسبيرو في الأبيات التي أوردتها آنفًا (ومثلما خبا وهْم احتفالنا الكبير وانتهى بلا أثر/لن يترك الذي يمضي نثارًا من سحاب!) وهو يغذو بعض التنويعات على ثيمة الخلل، وهي التي أشرتُ إليها في آخر القسم السابق، مثل التذكر والنسيان، والموسيقى والنشاز (إذ ينتهي الماصْك فجأةً كما تقول الإرشادات المسرحية «بصخبٍ مكتوم ومختلط») وتحقيق الرغائب وإحباطها (فالأمل الذي أثاره الماصْك سرعان ما ينقشع ويصيب الجميع بالإحباط، مما يدفع بروسبيرو إلى تهدئة خاطر فرديناند) وآخرها — وأهمها — ذلك التقابل الرائع بين المنطوق والمسكوت عنه! وهذه المفارقة الأخيرة جديرةٌ بالتوقف عندها.

المنطوق هنا هو ما يغنِّيه الجان الذين يمثِّلون أدوار الربَّات الوثنية، والمسكوت عنه هو أنهم يعبِّرون عن أفكار بروسبيرو (دعوة فرديناند إلى الصبر حتى يتم الزفاف قبل أن يلمس ميراندا … إلخ)، ويجسدون من ثَم صوره الذهنية تجسيدًا حيًّا، فإذا تغيَّر خاطره عند أول بادرة، اختفى المشهد كله (لأنه لا يقع إلا في خياله) وتحولَت الموسيقى إلى صخبٍ مختلَط مكتوم!

والمسكوت عنه أيضًا أن تقاليد الماصْك في البلاط بعد عام ١٦٠٩م كانت تقضي بوجود «الماصْك المضاد» أي الذي يصور تهديدًا ما للنظام القائم، ويثير نفور الجمهور من بوادر الخلل التي يوحي بها ذلك العرض، وما يفتأ أن ينقلب الوضع وتعود المياه إلى مجاريها عند دخول أبطال الماصْك الأساسي، وكان يُعرَض قبل عرض الماصْك الأساسي، وكان عرضًا موسيقيًّا راقصًا أيضًا (وغالبًا فكاهيًّا) يشير إلى من يتآمرون على السلطة الشرعية للحاكم، ولا يقتصر الماصْك المضاد على ما يقول به بعض النُّقاد — مثل إرنست ب. جيلمان (Gilman) في دراسةٍ بعنوان «جميع العيون: الماصْك المقلوب عند بروسبيرو» (دورية رينيسانس الفصلية، ٣٣، ١٩٨٠م) (Renaissance Quartely) — من أن كاليبان وستيفانو وترينكولو يمثِّلون الماصْك المضاد، بمعنى أن أعمالهم وأقوالهم تقلب النظام المعتاد أو الطبيعي للماصْك، وتمثِّل «مفتاحًا نوعيًّا» (generic cue) لولوج باب المعنى في العاصفة، «إذ تجسد هذه المسرحية هذا المعنى، دون التصريح به (silently) في معظم الأحوال، استنادًا إلى قدرة الجمهور المثقف على إدراك إعادة ترتيب أجزاء الماصْك والتجاوب مع هذا الانقلاب» (ص٢١٨)، كما يذكر لندلي في مقدمته لطبعة المسرحية أن «الأشكال الغريبة» (المنصوص عليها في الإرشادات المسرحية) التي تأتي بالمائدة في المشهد الثالث من الفصل الثالث، قد تمثِّل شخصيات الماصْك المضاد، بحيث يصبح هذا المشهد «نظيرًا للماصْك المضاد، وتصويرًا — إذا وسعنا نطاق الفكرة — لخصائص «رجال الخطيئة الثلاث» باعتبارهم يمثِّلون الخلل (disorder) الأخلاقي والمعنوي» (ص١٥).

وقراءة المسرحية بما تقوله وما تسكت عنه تؤكد وظيفة الماصْك، باعتباره صورةً شعرية تؤكد بعض مَحاور الحدث في المسرحية، وتبرزها في لحظاتٍ مكثفة، فهو وهمٌ يؤكد رؤية بروسبيرو للدنيا، وهو أكذوبةٌ تؤكدها الأغاني التي تلعب دورًا أساسيًّا في المسرحية، وعلى رأسها أغنية آرييل «قاماتٌ خمس» التي يهمس بها في أذن فرديناند ونعرف أنها أكذوبة! ولكنَّ للموسيقى دورًا آخر، وهو جديرٌ بتخصيص قسم للحديث عنه.

(٦) وظيفة الموسيقى

مسرحية العاصفة ثمرةٌ صادقة من ثمار ثقافة القرن السابع عشر، وهي التي عادةً ما تُوصَف بأنها ابنة عصر النهضة الأوروبية، ونتاج التوجه الإنساني الجديد الذي أتى بالعلم الطبيعي، وأنزل الفلسفة «من السماء إلى الأرض»، ولكن هذه الثقافة، إذا أنعمنا النظر فيها، كانت لا تزال تحمل سمات التراث القروسطي، وهو تراثٌ حي نلمح آثاره في رموز الإنسان ودلالاتها (في الفن والأدب والفكر)، بل أكاد أقول إنه تراثٌ لم يمُت أبدًا في ضمير البشرية، ومن هذه الرموز رمز الموسيقى، فلقد شاع النظر إلى الموسيقى في شيكسبير باعتبارها رمز التوافق التقليدي، فموسيقى الإنسان تُحاكي (أو تطمح إلى محاكاة) التوافق الرباني أو الإلهي و«موسيقى الأفلاك»، وهو المدخل الذي يعتمد على النظرة الأفلاطونية الجديدة، ويجد في الشعر نموذجًا لتحقيق مثل هذا التوافق السماوي فيما بين أهل الأرض، على نحو ما يذهب إليه باحثٌ يُدعَى جيمس أندرسون وِن (Winn) في كتابٍ له عن تاريخ العلاقات بين الشعر والموسيقى (١٩٨١م)، وكلُّنا يذكر حديث لورنزو وجيسكا في الفصل الخامس من تاجر البندقية عن قوة الموسيقى وسلطانها، والإشارات إلى أورفيوس وأمفيون وغيرهما من الموسيقيين، الذين أثبتوا هذا السلطان، وهو ما يشير إليه أنطونيو ساخرًا في قوله إن لفظ جونزالو «أقوى من القيثار العجيب الذي ارتفعَت على أنغامه الأسوار» (ف٢/م١ / ٨٣). وقد نرى في هذه السخرية مجرَّد عبث من «رجل الخطيئة» أنطونيو، ولكن الواقع هو أنه يومئ إلى تساؤلٍ قد لا يخطر على البال لأول وهْلة عن دَور الموسيقى في المسرحية، إن فرديناند يقول:
فإذْ باللحون تسير الهُوَينا
على صفحة الماء تنساب جَنْبي
تُخفِّف من غضْبة الماء حَوْلي
وتمسح باللحْن أحزان قلبي
بإيقاعها العذب من كل صَوْبِ!
(ف١/م٢ / ٣٩٤–١٩٦)
وقد لا يبدو هذا إلا ترديدًا للنظرة الأفلاطونية الجديدة، ولكننا نعلم ما لا يعلمه فرديناند، وهو أن بروسبيرو هو الذي أمر آرييل باستخدام الموسيقى حتى يأتي به إلى حيث يريد، وأبيات فرديناند تتلوها أغنية آرييل «قاماتٌ خمسٌ كاملةٌ عمْق فراش أبيك الراقدِ في قاع البحر الآن.» أي إن الموسيقى قد استُخدمَت لقضاء حاجةٍ في نفس بروسبيرو، وهي إيهام فرديناند بأن أباه قد مات! الوهم إذَن هو الغاية، وبروسبيرو لا ينكر ذلك بل يذكره صراحة عندما يأمر موسيقاه بأن «تُحدِث ما أبغي من تأثيرٍ في عقل أولئك»، ويشير إلى الموسيقى باسم التعويذة أو الرقية الموسيقية والهوائية (airy charm) (ف٥/م١ / ٥٣-٥٤)، وذلك يذكرنا بالصورة التي استخدمها من قبلُ عندما وصف عمل أنطونيو في سبيل الاستيلاء على السلطة، بأنه «ضبط الأوتار بأفئدة الناس بشتَّى أرجاء الدولة/كي تعزف ما يبغيه من الألحان» (ف١/م٢ / ٨٤-٨٥). أي إن للموسيقى دورًا جديدًا قد يختلف عن الدور التقليدي للتوافق الرباني! ترى هل يتساءل شيكسبير هنا — كما يقول لندلي — عن صدق النظرة التقليدية إلى الموسيقى؟ (ص١٩ من المقدمة).

إن قارئ المسرحية (أو مشاهِدها) لن يعدم الإحساس بغلبة الأصوات (البشرية وغير البشرية) غناءً أو عزفًا أو في الطبيعة، وأذكر بعد إعادة قراءة النص عدة مرات أنني توقفتُ عند ظاهرة شيوع الموسيقى وتنوعها عند الجميع؛ إذ لا يقتصر الغناء على مَن تعلَّموه، بل يقدِم عليه مَن تعلَّمه ومن لم يتعلَّمه، فها هو ذا كاليبان (المتوحِّش) يقول:

… فجزيرتنا تحفل بالأصواتْ!
منها أصوات غناء أو ألحانٌ عذبَة
تُطرِب أُذْني دون أذًى! أحيانًا آلاف الآلات الوتريَّة
تَعزِف أنغامًا مثل طنينٍ يتداخل حَوْلي!
وأُحس بأحيانٍ أخرى هدهدةً من أصواتٍ برِّيَّة
فأنام ولو كنت أفقتُ لِتوِّي من وسَنٍ ممدودْ!
(ف٣/م٢ / ١٣٤–١٣٨)

وفي أغنية آرييل نسمع أصوات الديك الصادح والكلب النابح، وفي المشهد الثاني إشارة إلى عواء الذئاب، ناهيك بأصوات العاصفة نفسها، وما يتبعها من صيحاتٍ بشرية! والغناء ليس مقصورًا على آرييل، فإن ستيفانو يغنِّي لنفسه أغنيةً ما، في أول دخولٍ له على المسرح:

لن أركب بعد الآن البحرْ
بل سوف أموت على البرْ!
(ف٢/م٢ / ٤١-٤٢)

ويصِفها بأنها أغنيةٌ بشعة، ومن ثَم يحاول شيئًا جديدًا فيغنِّي أغنيةً مطلعها:

رُبَّان المركب وأنا والكناسْ
ورئيس الملَّاحين وكل الحراسْ!
(ف٢/م٢ / ٤٥-٤٦)

ثم يصفها أيضًا بالبشاعة، ويجد عزاءه وسلواه في الشراب.

وما يفتأ أن يعود إلى الغناء في الفصل الثالث، فيطلب إلى كاليبان مشاركته في ترديد الأغنية التالية:

اسخرْ منهم واشتمْهم
واشتمْهم واسخرْ منهم
إذ لا قيد على الأفكار!
(ف٣/م٢، ١١٩–١٢١)
وعندما يعترض كاليبان قائلًا إنه ليس اللحن الذي يعرفه، يتدخل آرييل غير المرئي فيعزف اللحن المقصود، فيقول ترينكولو إنه «لحن أغنيتنا الجماعية» (الماصْك المضاد!) «يعزفها شبحٌ لا جسد له» (ف٣/م٢ / ١٢٤). وها هو لندلي يقول في دراسةٍ له بعنوان «الموسيقى والماصْك والمعنى في العاصفة» في كتاب ماصْك البلاط الملكي المشار إليه آنفًا (من تحريره) (صفحات ٤٧–٥٩): إن شيكسبير ربما كان يتحدى النظرة التقليدية للموسيقى، بأن يجعل لها غاياتٍ بشرية ترتبط بالفوضى والشغب. وهو يدعم هذا الرأي باقتطاف عباراتٍ وردَت في كتابٍ صدر في مطلع القرن السابع عشر بعنوان فنون المسرح (Histriomastix) لمؤلفٍ يُدعَى وليم برين (Prynne) يقول فيه: «إن مثل هذه الأغاني … تحط من أخلاق الذين يسمعونها أو يرددونها، فهي تثيرهم، وتحضهم على الشهوة، والفجور، والدعارة، والبذاءة، والاستهتار، والفحش والترف، والسكر، والاستغراق في الملاذِّ، وتبعد أذهانهم عن الله، وعن الغفران وعن السجايا السماوية.»

ولكن شيكسبير يقدِّم، كشأنه دائمًا، صورةً تقبل تفسيرَين معًا لموسيقى المتمردين «المنحطَّة». فإذا كانت أغاني ستيفانو الأولى تجعلنا نسخر من عربدته وسكْره، بل وتُضحِك منه؛ فإن أغنية كاليبان التي يعلن فيها تحرُّره من سطوة بروسبيرو، والتي تبدأ بالأبيات:

لن أبني أي سدودٍ بعد الآنْ
للصيد وحفظ الأسماك لإنسانْ
أو أحضر أحطاب الغابْ
للسيد يأمر فيجابْ!
(ف٢/م٢ / ١٧٩–١٨٢)

أغنيةٌ قد يتعاطف معها الجمهور، كما إن هذه الأغنية سرعان ما تجد صداها في أغنية آرييل، عندما يستشرف الحرية ويتنسم عبيرها، أي إنهما يعبِّران عن المشاعر نفسها ولو بكلماتٍ مختلفة، وبصورٍ بالغة الاختلاف:

ها أنا ذا أرشف مثل النحل رحيق الزهرْ
في تاج السوسن أرقد أنعم بالعطرْ
أرقد حيث نعيق البوم إلى الفجرْ
أركب متن الخفاش كمثل الطيرْ
في مرحٍ أيام الصيف تمرّْ!
مرحًا مرحًا سوف أعيش الآنْ
تحت براعم في بعض الأغصانْ
(ف٥/م١ / ٨٨–٩٤)
ويقول لندلي في الكتاب المشار إليه إن إحساس آرييل بالحرية في هذه الأغنية، يتناقض مع المستقبل الذي ينتظر بروسبيرو حين يعود إلى تولِّي مقاليد الحكم والسلطة، أي إن إلباس بروسبيرو عباءة المنصب القديم (الطيلسان) تنفي حريته التي نعم بها في الجزيرة زمنًا طويلًا وتتناقض مع روح الأغنية، والتناقض بين حركة الموسيقى وحركة الدراما تولِّد توترًا لا يؤكد النهاية السعيدة في الكوميديا! وقد عارض هذا الرأي كثيرون من بينهم روبن هدلام ولز (Wells) في كتاب أساطير إليزابيثيَّة (١٩٩٤م) (ص٦٣–٨٠)، وهاول تشيكرنج (Chickering) في دراسةٍ نشرها في دوريةٍ علمية عام ١٩٩٤م، ص٧٢–١٣١، وباحثة تُدعَى جاكلين فوكس-جود (Fox-Good) في دراسةٍ بعنوان «أصواتٌ أخرى: الأنغام العذبة الخطرة في مسرحية العاصفة لشيكسبير» (دورية دراسات شيكسبير ١٩٩٦م) (ص٢٤١–٢٧٤)، ولكن رجال المسرح الذين خبروا تقديم النص وإعداد موسيقاه وعرضه على الجمهور، هم الذين دحضوا آراء هؤلاء المعترضين على التوتر بين الحركتَين (الموسيقية والدرامية)، فتاريخ إخراج المسرحية واستجابة الجمهور لها يؤكد هذا التوتر، وإذا كان لندلي يرى أنه يدعم رأيه القائل بأن المسرحية «تجريبية»، فأنا أرى فيه أيضًا عنصرًا شعريًّا يؤكد ما ذهبت إليه (إيمانًا برأي ت. س. إليوت) من تفرُّد المسرح الشعري واختلافه عن كلٍّ من الشعر الغنائي والمسرح النثري، فالموسيقى عنصرٌ من عناصر الشعر الجوهرية، وانتظام الإيقاع فيها لا يجعلها — على عكس ما يقول به لندلي في مقدمته لطبعة المسرحية — «محايدة» بأي معنًى (انطلاقًا من أن الجميع يغنُّون ويقولون الشعر!) (ص٢٢) حتى ولو تفاوتَت وظائفها من موقعٍ إلى آخر في غضون العمل المسرحي! فالتوتر عنصرٌ يشترك فيه مع الدراما، وإن كان يتخذ في الشعر صورة الضغط في التعبير الذي يؤدِّي إلى الانفراج في لحظة الاكتشاف، وفي الدراما صورة الصراع المكثَّف الذي يؤدِّي إلى الانفراج في لحظة الذروة، فإذا توافر التوتر على المستويَين في عملٍ ما، أصبح دراما شعرية، حتى لو اتخذ شكل قصيدةٍ غير حوارية، أو كان حوارًا غير منظوم، على نحو ما نشهد في المشهد الأول وفي المشاهد الأخرى المنثورة في المسرحية!
وقبل أن أستعرض بإيجازٍ أهم «القراءات» النقدية لهذه المسرحية، والتي ألمحتُ إليها في القسم الأول من المقدمة، واعتمدتُ فيها على كتابَين هما: مسرحية العاصفة لشيكسبير (دراساتٌ جديدة) من تحرير ر. س. هوايت (White) (١٩٩٩م) وتطبيقات النظرية [النقدية الحديثة]: العاصفة، من تحرير نايجيل وود (Wood) (١٩٩٥م)، سأورِد نموذجًا للتناقض الشديد بين هذه النظرة البنائية (وإن لم تكن «بنيوية» بالمعنى المعروف) للموسيقى، وبين رأي «كبير المفسرين» ويلسون نايت (Knight)، في بعض كتبه عن شيكسبير، عن الموسيقى، فهو يقول إنها ترمز للخلود، استنادًا إلى تفسيره لأعمال شيكسبير الأخيرة، فهو يجمع بين ما قاله نقاد مطلع القرن العشرين عن «الرمزية» في تلك الأعمال، وانشغالهم بما قالوا إنه شُغل شيكسبير الشاغل فيها، ألا وهو صورة «المصالحة» أو التوافق، وقدرة الإنسان على البقاء في عالمٍ جديد من خلال الجيل الجديد (ولا شك أن من وراء هذه الفكرة — تاريخيًّا — اكتشاف أمريكا) وهو الرأي الذي قال به كويلر كوتش (Quiller-Couch) في كتابه فنُّ الصنعة عند شيكسبير (١٩١٨م) وجاراه فيه دفر ويلسون (Wilson) في محاضرةٍ بعنوان «معنى العاصفة» نشرها عام ١٩٣٦م، ويعتمد ويلسون نايت على تفسيراتٍ أخرى أيضًا، منها التفسير الديني الصريح الذي أتى به كولين ستيل (Still) عام ١٩٣٥م في كتابٍ عنوانه عاصفة شيكسبير: تفسيرٌ رمزي، بعد أن ألمح إليه في كتابه الأول مسرحيات الأسرار عند شيكسبير (١٩٢١م)، وأفصح عنه في «تفسيره الرمزي» قبل أن يزيد من تفصيل القول فيه في كتبٍ لاحقة، وينتهي ويلسون نايت إلى القول بأن مسرحيات شيكسبير الأخيرة تُعتبَر «أساطير خلود»، بمعنى أنها تسير في خطٍّ صاعد من بيركليس وقصة الشتاء وسيمبلين إلى العاصفة التي تمثِّل قمة التطور في الرمزية؛ فالعاصفة الطبيعية رمزٌ شعري في شيكسبير للتراجيديا السامية والموسيقى للخلود، وما المسرحية في رأيه إلا رمزٌ عظيم للانتقال من سمُوِّ المأساة إلى رمز الخلود، وهو يلخِّص كل ما قاله في كتابه الأخير «إكليل الحياة» (١٩٤٧م)، بل يشير صراحةً إلى ما يسمِّيه فرانك كيرمود بالصورة المركَّبة من العاصفة والموسيقى معًا، «التي يُعبِّر عنها آخر الأمر طرْد بروسبيرو للجانِّ» (ص٨٥ من المقدمة).
وقد نجِد نحن المحدَثين صعوبة في تقبُّل مثل هذا التعميم، حتى ولو كنا من دعاة التفكيكية؛ إذ لن نجد في دلالات الموسيقى (الأرضية والسماوية) في العاصفة ما يبرر اعتبارها رمزًا للخلود، وقد نجد في «حركة» الموسيقى فيها — وأكرر إنني أراها عنصرًا شعريًّا — ما يزيد من قوة «الحركة» الدرامية أو ما يكتسب منها قوة الشعر المسرحي (وهو ما أحاول تقديمه هنا للقارئ العربي)، وقد نجد في اختلاف دور الموسيقى في عروض المسرحية الحالية، والسينما والتليفزيون، تأكيدًا لمفهوم التوتر الذي عرضتُ له في الفقرة السابقة، وهو الدور الذي خصص له دافيد لندلي صفحات كثيرة من مقدمته، وقد نجد في الظواهر الاحتفالية للماصْك تبريرًا كافيًا لعمل الموسيقى هنا، ولكننا قد لا نتفق مع ستيفن جرينبلات (Greenblatt) في اعتبار ما يسمِّيه «القلق الناجع» (Salutary anxiety)، وما أسمَيتُه هنا بالتوتر (tension) ثمرةً طبيعية للسياق التاريخي للمسرحية، كتابةً وعرْضًا، فتفسيره للسياق بيوغرافي وتاريخي معًا، وقد رجعتُ إليه في كتابه اجتياز صعوباتٍ شيكسبيرية (١٩٨٨م) (أو مفاوضات شيكسبيرية)، فوجدتُ أن معنى «القلق» لدَيه يكاد يتفق مع ما أعنيه بالتوتر، وأن قراءته للنص في سياقه الأصلي تغفل عناصر تتجاوز بالنص هذا السياق، وقد تصلح هذه نقطة انطلاق لعرض أهم القراءات الحديثة للمسرحية.

(٧) القراءات الحديثة

(أ) المصادر والتناص

قلتُ إن محرِّري طبعات شكسيبير، وبلا استثناء، يولُون أهميةً بالغة لما جرى العرف على تسميته بمصادر الحبكة، أو «المصدر» وحسب، فعرضتُ في القسم الثالث من هذه المقدمة، وفي كلماتٍ موجزة، لحادثة السفينة التي نجت، وكان يُظَن أنها غرقَت، وما تلا ذلك من كتاباتٍ في هذا الموضوع (وهو ما يخصص له الجميع صفحاتٍ كثيرة، من أوائل محرِّري شيكسبير، وقد أشرتُ من قبلُ إلى كيرمود (Kermode) ومن قبله لوس (Luce)، في طبعة آردن وحتى آخرهم ماسون وفون ١٩٩٩م V. Mason & A. T. Vaughan ودافيد لندلي Lindley ٢٠٠٢م)، وها هو جرينبلات يرى في كتابه المذكور أن هذه المصادر تُعتبَر «المادة الخام التي يشكِّلها الفنان» في القالب الشعري الذي يراه (ص٩٥). ولكن النقد الحديث يطالبنا بأن نتساءل عن مدى نجاح المسرحية في تحقيق غايتها، بالإشارة إلى ما يعرفه الجمهور سلفًا عن هذه الحادثة، أو عن الأعمال الأدبية التي سبقَتها وقد تُعتبَر من مصادرها، وعن توقعات الجمهور المعاصر لها، وعن قدرة الناقد الحديث على التصور الدقيق والكامل للمناخ الذي عُرضَت فيه المسرحية أو قُرئَت، كما يطالبنا بمراجعة مفهومنا لما نسمِّيه «المصدر».
فإذا كانت المناهج القديمة تفترض أن «المصدر» يقتصر على النصوص السابقة، التي نجد لها أصداءً لغوية في النص الجديد، ولو كانت نصوصًا غير أدبية، فإن المناهج الحديثة تصر على تجاوُز مفهوم «المادة الخام»، وتقول بأن كل نصٍّ جديد يقيم حوارًا، ليس مع القارئ فحسب (كما يقول باختين Bakhtin في كتابه الخيال الحواري)، بل مع النصوص الأخرى أيضًا وبصفةٍ عامة، حتى دون تناصٍّ واضح فيما بينها، على نحو ما تقول به جوليا كريستيفا (Kristeva)، وبصفةٍ خاصة مع النصوص المشابهة، ومع الإطار العريض للثقافة التي يُكتَب النص الجديد ويُقدَّم إلى المتلقي في كنفها، ومعنى «الحوار» هنا هو التفاعل بالقبول أو الرفض أو التعديل، لا مجرَّد ترديد الأصداء، لغويةً كانت أم غير لغوية، بحيث تتضح لنا في النهاية العلاقات القائمة بين النص ومصادره وسياقه.
ولكن النص المسرحي (مثل أي نصٍّ أدبي) لا تتحدد قيمة مصدره (أيًّا كان؛ أدبيًّا أو ثقافيًّا، ومعاصرًا أو قديمًا) إلا بإمكان إدراك الجمهور لوجود هذا المصدر، فهذا الإدراك هو الذي يجعل «التفاعل» (الحوار) ممكنًا، ونحن نعرفه في الأدب العربي في صورة المعارضات الشعرية، أي نسْج قصيدة على منوال قصيدةٍ أخرى وزنًا وقافية، فإذا اشتركتا في الصور أو ما يسمِّيه بعض نقاد العرب «المعاني»، كانت الأصداء واضحة، وعدَّها بعضهم حالة «سرقةٍ شعرية»، وإذا كانت الإشارات غير مباشرة عُدَّت القديمة من مصادر الجديدة، ولكن هذا كله لن يكون له مغزًى إلا إذا أدرك السامع للقصيدة الجديدة ما فيها من الإشارات (ولو غير المباشرة) للقصيدة القديمة (المصدر!) فالذي يستمع إلى قصيدة شوقي المشهورة ومطلعها «مُضناك جفاه مرقده»، لن يتبين أي دلالة للمصدر إذا لم يكن يحيط بقصيدة الحُصري القيرواني «يا ليلُ! الصبُّ متى غدُه؟» ومن يستمع إلى قصيدة شوقي الأخرى، ومطلعها «اختلاف النهار والليل ينسي/ جدِّدا لي الصبا وأيام أُنسي»، لن يدرك أي مغزًى لمصدرٍ ما إلا إذا كان يعرف قصيدة البحتري (صُنتُ نفسي عمَّا يُدنِّس نفسي/ وترفعتُ عن جَدا كل جبسِ)، وقارئ قصيدة فاروق جويدة رسالة إلى شارون، لن يدرك أي إشارة إلى التراث الديني أو الثقافي، ما لم يُحِط بقصيدة البردة للإمام البوصيري، أو على الأقل بقصيدة نهج البردة لشوقي، ولن تكون للأصداء اللفظية (verbal echoes) أي دلالة فنية، ما لم يتوافر للقارئ إلمام بالتراث المذكور، وهكذا الشأن في المسرح؛ فإن وعي الجمهور الإليزابيثي بحادثة السفينة المذكورة كان لا شك من العوامل، التي قد نقول بأنها كانت من مصادر القلق أو التوتر التي يقول بها جرينبلات، وكذلك وعي قطاع من المثقفين على الأقل من جمهور ذلك المسرح بالإشارات الكثيرة إلى الشعر الملحمي عند فيرجيل (الإنيادة)، وإلى مسخ الكائنات للشاعر الروماني أوفيد، ومقال الفرنسي مونتاني (Montaigne) «عن أكلي لحوم البشر» الذي نُشِر عام ١٦٠٣م من ترجمة جون فلوريو، ومعظم الطبعات للمسرحية تورد هذه النصوص مترجمة (وأحيانًا باللغات الأصلية). وباستثناء هذه الإشارات، فإن المسرحية لا تستقي «الحبكة» من مصدرٍ تاريخي، شأنها في ذلك شأن مسرحيتَي خاب سعي العشاق وحلم ليلة صيف، وربما مسرحية تيتوس أندرونيكوس أيضًا، كما يقول جوناثان بيتس (Bates) في مقدمته للمسرحية الأخيرة في طبعتها الصادرة عام ١٩٩٥م (طبعة آردن).
ولكن شيكسبير في الواقع لا يستعمل هذه الإشارات (في الألفاظ أو الأحداث) إلى الأعمال الكلاسيكية في سياقٍ يجعلها من مصادر مسرحيته، بل إنها تتحول عنده إلى ما أسماه جرينبلات بالمادة الخام، فإذا قارنَّا «وظيفة» كل إشارة من هذه الإشارات عند القدماء وعند شيكسبير، وجدْنا تعديلاتٍ تُغير من معناها في ذاتها وفي سياقها تغييرًا يكاد يقطع الصلة بينها وبين «المصدر» المزعوم، وهو ما أصبح مجالًا للبحوث الأكاديمية المبثوثة في الدوريات المتخصصة، بل وخَصصَت له إحدى الباحثات واسمُها دونا ب. هاميلتون (Hamilton) كتابًا كاملًا عنوانه فيرجيل والعاصفة: الجوانب السياسية للمحاكاة (١٩٩٥م). فالمحاكاة تتطلب تشابُه السياق لا تشابُه الأصداء اللفظية فحسب، إلى جانب العامل الأهم وهو قدرة جمهور المسرح على إدراك السياق الأصلي حتى حين يختلف قليلًا أو كثيرًا عن سياق العمل المسرحي، لا قدرة الباحثين في غُرف الدرس المغلقة في الجامعات. وأما الجمهور الذي استطاع إدراك مغزى الإشارات الكلاسيكية في المسرح؛ فلا شك أنه سيخرج بنتيجةٍ تؤكد التغيير والاختلاف، لا محاكاة أصلٍ ما أو مصدرٍ من المصادر، وقد تولَّى الباحث بيتس (المذكور) في كتابٍ عنوانه شيكسبير وأوفيد (١٩٩٣م)، تبيان مدى التغيرات التي أدخلها شيكسبير على المادة المستقاة من الإنيادة، والتي حدَت به إلى القول بأن «مسرحية شيكسبير يمكن وصفها بأنها إعادة تشكيل بأسلوب الرومانسات لمادةٍ ملحمية، وقد سبقه إلى مثل هذا التشكيل الجديد، أو إعادة التشكيل، الشاعر الروماني أوفيد في مسخ الكائنات، فالأسفار الأخيرة منها تتناول بعض الأحداث التي تتناولها الإنيادة ولكن بصورةٍ معدَّلة» (ص٢٤٤). ولقد قارن غيره من الباحثين أيضًا ملامح التغيير في دلالة ما يقتبسه شيكسبير من فرجيل وأوفيد ومونتاني، منذ عام ١٩٤٨م الذي شهد أول إشارة إلى اشتباك شيكسبير مع فرجيل في الدوريات الأدبية (بقلم ج. م. نوزويرذي Nosworthy)، وحتى عام ١٩٩٧م الذي شهد نشر كتاب الباحثة هِذَر جيمس (James) بعنوان: طروادة شيكسبير: الدراما والسياسة وترجمة الإمبراطورية، وعام ١٩٩٨م الذي نُشِر فيه كتاب باحثةٍ أخرى اسمها مارجريت تودو-كلايتون (Tudeau-Clayton) بعنوان: جونسون وشيكسبير وأولى صور فرجيل الحديثة. وكلها يبين مدى اختلاف شيكسبير عن «مصادره»، وهو ما نفترض أن قِطاع المثقفين من رواد مسرح شيكسبير قد فطن إليه، ما دُمنا نفترض إحاطة هذا القطاع بما قيل إنه من «مصادر» شيكسبير.
والحديث عن تغير النظرة إلى المصدر أو المصادر يقودنا إلى الحديث عن القضية التي شغلَت النُّقاد ما يقرب من مائتَي عام، أي قضية الاستعمار، أو ما يُسمَّى الآن ما بعد الاستعمار، منذ أن نشر مالون (Malone) كتابه عام ١٨٠٨م وعنوانه وصف الأحداث التي استقَت منها مسرحية العاصفة لشيكسبير عنوانها وجانبًا من حبكتها. فكان أول من أشار إلى تلك الحادثة التاريخية تفصيلًا وعلاقتها بالمسرحية. ومنذ ذلك الحين اتفق الباحثون على أن هناك ثلاثة نصوصٍ أفاد منها شيكسبير، الأول هو كتابٌ كتبه سيلفستر جوردان (Jourdain) بعنوان اكتشاف جزائر برميودا (١٦١٠م)، والثاني كتابٌ أصدره مجلس (شركة) فيرجينيا بعنوان «الإعلان الصادق عن حالة المستعمرة فيرجينيا» (١٦١٠م)، والثالث خطابٌ كتبه وليم ستراتشي (Strachey) عام ١٦١٠م (واطلع الشاعر على مخطوط هذا الخطاب قبل أن يُنشَر عام ١٦٢٥م)، بعنوان التقرير الصادق عن جنوح السفينة، وقد تولَّى أستاذٌ مرموق هو كينيث ميور (Muir) الرد على الباحثين الذين هلَّلوا لاكتشاف هذه «المصادر» المفترضة، فبيَّن أنه لا يوجَد في المسرحية ما يدل على تأثُّر شيكسبير بأي شيءٍ فيها، وهو ينكر أنها من المصادر في كتابه مصادر مسرحيات شيكسبير (١٩٧٧م، ص٢٧٨–٢٨٣)، كما أشار باحثٌ آخر إلى أن كتيِّبًا صغيرًا صدر عام ١٦٠٥م بعنوان الرواية الحقيقية، من تأليف جيمس روزيار (Rosier) يعتبر من المصادر، وإن كانت نجاة السفينة التي ظُن غرقها قد وقعَت عام ١٦٠٩م! ويتجه الرأي الآن بين جمهور كبار النُّقاد (لا الصغار الذين يريدون ركوب أي موجةٍ جديدة) إلى أن هذه الكتب والكتيبات تُعتبَر من بين المؤلفات الكثيرة التي تتناول المغامرات الاستعمارية الإسبانية والإنجليزية، والتي نُشرَت في عصر شيكسبير، ولا بد أنه اطلع على الكثير منها.

(ب) ما بعد الاستعمار

أما قضية الاستعمار فتتعلق في المقام الأول باكتشاف أمريكا، وإنشاء مستعمرة فيرجينيا (التي أُطلِق عليها هذا الاسم تيمُّنًا بالملكة «العذراء»، فالاسم نسبة إلى لفظ العذراء بالإنجليزية)، وما تلاه من مناقشاتٍ حامية الوطيس حول سكان هذه الأراضي التي كان يُظَن أولًا أنها جُزر، وكذا غرائبهم وحياتهم في أحضان «الطبيعة»، وأهم من ذلك كله حق أبناء أوروبا في استعمارها ونقل «حضارتهم» ولغتهم إليها. ولقد شُغل النُّقاد المحدَثون بهذه المسألة منذ نشر دراسة في دورية بعنوان فصلية شيكسبير (١٩٧٩م) وهي بالغة الأهمية، بقلم تشارلز فراي (Frey) بعنوان «العاصفة والدنيا الجديدة» (العدد رقم ٣٠، الصفحات ٢٩–٤١). ويُفصِّل فراي القول في العلاقة بين المستعمرين وبين أصحاب الأرض في هذه الدنيا الجديدة، مستندًا إلى العلاقة بين الإسبان أولًا (والإنجليز من بعدهم) وبين أبناء الأمريكتَين من ناحية، وبين العلاقة التي تُصورها المسرحية بين بروسبيرو وبين كاليبان من ناحيةٍ أخرى، باعتبار أن بروسبيرو يمثِّل السيد أو المستعمر الأوروبي، الذي وصل إلى جزيرةٍ تنتمي لغيره فاستولى عليها بسحْره (أي بقوة حضارته أو ثقافته)، ومستندًا إلى ما كان الأوروبيون يفعلونه مع السكان الأصليين، وعادة إحضار بعضهم إلى أوروبا وعرضهم على الجمهور والتكسب من وراء ذلك، على نحو ما يُشار إليه في المسرحية (ف٢/م٢ / ٦٠-٦١)، بل إن ناقدًا خصص كتابًا كاملًا لهذا الموضوع عنوانه: حالات الْتقاء الأوروبيين بالدنيا الجديدة: من عصر النهضة إلى الرومانسية (١٩٩٣م)، واسم الناقد أنطوني باجدن (Pagden)، ويقول فيه: إن هذا الالْتقاء أدَّى إلى مواجهةٍ ما لبثت أن أصبحَت صريحة، وأثارت مشكلاتٍ أساسية للحضارة الأوروبية في إدراج مكتشفاتها «في المفاهيم الخاصة بصورة الكون، وجغرافيا الأرض، وسلالات الإنسان وثقافاتها آخر الأمر» (ص٥). ولم تكن أهون هذه المشكلات مشكلة العثور على مفرداتٍ يمكن التعبير بها عن قضايا هذه الدنيا الجديدة وتفهُّمها، قائلًا: «وكان من الصعب الإبقاء على مسافةٍ تفصِل بين الحديث عن هذه الدنيا الجديدة والتي تبدو غريبة، وبين الأصقاع التي تصفها رومانسات الفروسية» (ص٦١-٦٢). وهي الصعوبة التي واجهها كُتاب أدب الرحلات، وتصدَّى لها الكاتب المسرحي بنجاحٍ حين استخدم المفردات الأدبية القديمة في مخاطَبة جمهوره، على نحو ما يتضح في مشهد المائدة الوهمية في الفصل الثالث (المشهد الثالث)، عندما يدور الحديث عن حكايات الرحَّالة التي ثبت صدقها! ويقول جونزالو عن أهل الجزيرة: إنهم رغم أشكالهم الغريبة الوحشية «يزيدون نُبلًا وطِيبة عن الكثيرين/من بني جنسنا، بل عن أيٍّ منهم تقريبًا» (ف٣/م٣ / ٣٣-٣٤). ولقد كانت المناقشات الدائرة آنذاك حول ما يُسمَّى «بالمشروع الاستعماري» تتضمن التساؤل عن درجة «تحضُّر» الهنود الحمر، وتضارب وجهات النظر حول ما إذا كان من الممكن اعتبارهم من البشر أصلًا (أو قل من الحيوان)، أم إن حضارتهم تمثِّل نقاءً في الخلق والطبع حتى دون اكتساب المظاهر المادية للحضارة الأوروبية. وسرعان ما انتقلَت مناقشة هذه القضية إلى مناقشة «استعمار» أيرلندا، أي إن النُّقاد حولوا مناقشتهم لحبكةٍ تحيطها التساؤلات، وتتضارب فيها وجهات النظر في عملٍ درامي شعري، إلى مناقشة قضيةٍ سياسية وثقافية أحيانًا من وجهة نظرٍ واحدة، وهي اعتبار أن السكان الأصليين يمثِّلون «الآخَر» الذي قد يتعين احترامه، أو على العكس من ذلك يمثِّلون مرحلةً متأخرة عن ركب الحضارة، ولا بد من قهرهم وتولي مهمة «تحضيرهم»! وأهم الكتب التي صدرَت في هذا الصدد هي: كتاب يتضمن مجموعة دراسات من تحرير جوناثان دوليمور (Dollimore) وألان سنفيلد (Sinfield) بعنوان الجانب السياسي لشيكسبير: مقالات في المادية الثقافية (١٩٩٤م)، وكتابٌ آخر مِثله بعنوان شيكسبير وأيرلندا: التاريخ والسياسة والثقافة، من تحرير مارك ثورنتون بيرنيت (Burnett) ورومانا راي (Wray) عام ١٩٩٧م، وأخيرًا كتاب بعنوان شيكسبير بغير نساء، من تأليف ديمينا كالاهان (Callaghan) (٢٠٠٠م).
ويقول دافيد لندلي في مقدمته للمسرحية (٢٠٠٢م): إن تاريخ عرض العاصفة على المسرح، يؤكد استمرار المناقشة الدائرة حول طبيعة السكان الأصليين، وضرورة تعليم أبنائهم اللغة الإنجليزية، ومبادئ الدين واكتساب وُدِّهم بالحسنى، ويقتطف عبارات تفيد هذا المعنى المحدَّد قائلًا: إنها وردَت في كتيِّبٍ نُشِر عام ١٦١٢م بعنوان: الحياة الجديدة في فرجينيا، (بقلم روبرت جونسون) توحي بانشغال أبناء إنجلترا آنذاك بالمشكلات التي أوجدها الاستعمار (ويقول إن هذا المقتطف ورد في كتابٍ من تأليف بورتر (Porter) بعنوان المتوحش الخائن: إنجلترا وهنود أمريكا الشمالية ١٥٠٠–١٦٠٠م، الصادر عام (١٩٧٩م)) ثم ينتقل إلى عرض تفاوت وجهات النظر إلى كاليبان عند تقديمه على المسرح في صفحاتٍ كثيرة قائلًا إنه اعتمد فيها على دراسة تريفور جريفيث (Griffith)، منذ أن قدَّم درايدن ووليم دافينانت مسرحيتهما المقتبسة عن العاصفة وعنوانها الجزيرة المسحورة في القرن السابع عشر؛ إذ إن الصورة الفكاهية التي رسماها لتلك الشخصية المتوحشة سادت القرن الثامن عشر، ثم حلَّت محلها في القرن التاسع عشر صورةٌ تسمح للمشاهدين بالإشفاق على كاليبان، ولو إلى درجةٍ محدودة، ثم تغيرَت النظرة في القرن العشرين صعودًا وهبوطًا بذلك التعاطف، فكان العرض الذي قُدِّم عام ١٩٣٤م يقدِّم لأول مرة ممثِّلًا طُلي وجهه باللون الأسود، ويقتطف لندلي تعليقًا للناقد أيفور براون (Brown) يمتدح فيه ذلك العرض قائلًا: «إن شخصية كاليبان يجب أن تجمع بين القهر الذي يخضع له السكان الأصليون وفجور المتوحشين، بحيث يثير تعاطُف السياسيين المتحررين بقدر ما هو جديرٌ بعقاب بروسبيرو له.» وأحب أن أؤكد في هذا الملخَّص المقتضَب لصفحات لندلي الكثيرة (٣٣–٤٣) ما ذكرتُه عن الصعود والهبوط في تصوير كاليبان باعتباره من ضحايا الاستعمار، واستحقاقه التعاطف والعقاب معًا، وأختتم هذا الملخَّص بترجمة حاشيةٍ وردَت في ص٤٣، قبل مناقشة قراءة المسرحية في ضوء ما يُسمَّى بمدخل «ما بعد الاستعمار». يقول لندلي في المتن بعد مناقشة القراءة المذكورة (وسوف نعرض لها بعد ترجمة الحاشية): «إنني لا أسعى إلى إنكار فائدة وأهمية العاصفة لكُتاب ما بعد الاستعمار بصفةٍ عامة، ولا إلى الإيحاء بأن قضايا العلاقات الاستعمارية كانت خافية على الجمهور الأصلي للمسرحية، أو أنه من الواجب استبعادها من التفسيرات الحديثة.» ثم يستأنف العبارة في الحاشية (استدراكًا) قائلًا:
«وذلك على الرغم من أن المسرح قد بدأ الابتعاد، فيما يبدو، عن القراءات الاستعمارية، أو كما قال رالف بيري Berry في عام ١٩٩٣: «لقد تناقص الإقبال على هذه القراءة حاليًا، وأظن أن المخرجين أصابهم الملل من تصوير كاليبان في صورة ضحية القهر الاستعماري … فإطار الاستعمار تقييدٌ للمسرحية، ومن المحتمل أنه لم يعُد مفيدًا» (شيكسبير على المسرح، ص١٢٩). والواقع أن الاتجاه الحديث إلى تجاهُل الذكورة والأنوثة ولون البشرة في توزيع الأدوار على الممثِّلين، قد بدأ يقوِّض النظرة النقدية للمسرحية في ضوء مدخل ما بعد الاستعمار، فعندما نشهد في عرض المسرحية في ليدز عام ١٩٩٩م فرديناند نفسه يلعب دوره ممثِّلٌ أسود، ونتابع لقاءه مع والده الذي تلعب دوره ممثِّلةٌ بيضاء، أو عندما تقوم فانيسا ردجريف بدور بروسبيرو «في صورة رجل»، على نحو ما رأينا في مسرح الجلوب الشيكسبيري عام ٢٠٠٠م، نشعر باختلاف التأثير فينا، وهو يختلف قطعًا عن لجوء المُخرج ميلر عام ١٩٧٠م إلى استخدام ممثِّلين من السود، وعن إخراج ريتالاك للمسرحية عام ١٩٨١م، حيث أسند دور بروسبيرو إلى امرأة، مما استتبع تعديلات في النص والإشارة إلى البطل بألفاظٍ أخرى مثل: «السيدة»، «أمي»، «سيدتي» (ديموفسكي، ص١١٩). أما بيتر بروك الذي أخرج المسرحية في باريس عام ١٩٩٠م بممثِّلين من جنسياتٍ متعددة؛ فقد اختار لدَور كاليبان ممثِّلًا ألمانيًّا «حتى يقدِّم الدور برؤيا جديدة، بعد أن كثر تقديمه إما في صورة وحش من المطاط والبلاستيك أو في صورة زنجي، استغلالًا للون البشرة في تجسيد مفهوم العبد، وهو تجسيدٌ بالغ الابتذال (لا توجد أسرار، ١٩٩٣م، ص١٠٧).»
(مقدمة لندلي لطبعة المسرحية عام ٢٠٠٢م، ص٤٣)

وقد فضلتُ ترجمة الحاشية على طولها؛ لأنها تُجْمل ما فصَّله الناقد في صفحاتٍ كثيرة، وحتى ننتقل من انشغال الباحثين بقضية الاستعمار (وما أخصبها لمن يريد كتابة بحثٍ أكاديمي ونشْره ولو كانت قراءته متعسفة)، إلى ما قد يُرى فيها دون تبصُّر من أيديولوجيةٍ استعمارية، فلو كان بروسبيرو مستعمِرًا (بكسر الميم)، لما ظهر بالصورة التي يصورها شيكسبير، فهو أولًا لم يسْعَ إلى القيام برحلةٍ إلى تلك الجزيرة، استكشافًا أو استعمارًا، بل ألقَته المقادير على شاطئها، وهو لا يهتم بإقامة مستعمَرة (بفتح الميم) في الجزيرة، بحيث تكون تابعة لسلطان ميلانو، ولا يُبدي أي رغبة في تحويل الثروات التي تزخر بها الجزيرة، والتي دلَّه عليها كاليبان، إلى سلعٍ تجارية تُدر عليه الأرباح، وتلك من الأغراض الأساسية للاستعمار، بل من الأغراض التي كانت الدعاية لمستعمرة فيرجينيا تؤكدها بإلحاح. وقارئ المسرحية لن يعدم الإحساس بضيق بروسبيرو بالجزيرة وشوقه إلى تركها، مهما كانت خيراتها، والعودة إلى وطنه، مما يوحي بأنه أقرب إلى الدوق سنيور قبِل الحياة على مضضٍ في غابة آردن — في مسرحية كما تحب — منه إلى السِّير توماس جيتس، رُبان السفينة التي جنحَت عند جزائر برميودا، وظُن أنها غرقَت. ومن الناحية الفنية الصرفة، نجد أن الجزيرة تنتمي نوعيًّا إلى ما يُسمَّى «بالعوالم الخضراء» في ملهاوات شيكسبير الأولى، منذ مسرحية سيِّدان من فيرونا، ولا تُستدعَى إلى ذهن المُشاهد أو القارئ صورة المستعمَرة، وبهذا تؤكد النظرة التقليدية إلى المسرحية باعتبارها ملهاةً رعوية (انظر القسم الثاني من هذه المقدمة).

وقد ذكر أخيرًا ناقدٌ شهير يُدعَى روبرت ميولا (Miola) في كتابٍ له صدر عام ٢٠٠٠م بعنوان قراءة شيكسبير، أن الشاعر اختار الجزيرة مسرحًا لأحداث المسرحية حتى تمثِّل ما يُسمَّى بالمكان البهيج (Locus amoenus)، الذي يتميز به النوع الرعوي من الشعر، وأنه — أي المكان — يمثِّل المَهرَب من صخب الحياة في البلاط (أو في المدينة)، وهو ما درج على تصويره الشعراء الرعويون، فكأنما يضم ميولا صوته إلى أصوات الذين درجوا في الستينيات على اعتبار المسرحية «رعوية» مثل باربر (Barbar) في كتابٍ عنوانه كوميديا شيكسبير الاحتفالية (١٩٥٩م) ونورثروب فراي (Frye) في كتابه منظورٌ طبيعي ١٩٦٥م، وكأنما يبقى على هذا التصنيف حيًّا برغم القراءات الحديثة! وإذا جارَينا دعاة نظرية ما بعد الاستعمار في تحليل المسرحية نشدانًا للأدلة قلنا إن كاليبان نفسه، الذي يقول إنه كان يملك الجزيرة قبل قدوم بروسبيرو، ويقول النُّقاد إنه يمثِّل السكان الأصليين، ليس إلا ابنًا للساحرة التي وفدَت إلى الجزيرة (من مدينة الجزائر)، فاستعمرَت المكان وأخضعَته لسحْرها «الأرضي»، وقهرَت آرييل — ساكن الجزيرة الأصلي — بسلطانها! وهكذا فإن كاليبان يُعتبَر من الجيل الأول لأبناء المستعمِرين (بكسر الميم)، ومن ثَم يمكن اعتباره منهم، على نحو ما نعتبر الإنجليزي الذي وُلِد في الهند إبَّان الاستعمار البريطاني لها لوالدَين إنجليزيَّين من المستعمِرين (بكسر الميم)، ولو استقر في مكانٍ ما بالهند واتخذها وطنًا! وقد قدَّم أكثر من ناقدٍ أدلةً أخرى على صعوبة ما توحي به المسرحية من قراءة في إطار ما بعد الاستعمار، مثل جيفري ناب Knapp في كتاب إمبراطورية في اللامكان (١٩٩٢م)، بل إن بعضهم يرفض هذه القراءة برمتها، مثل بريان فيكرز (Vickers) الذي يقول في كتابه الذائع (والذي أثار ضجة في الصحف البريطانية والأمريكية عند ظهوره) الاستيلاء على شيكسبير: معارك نقدية معاصرة (١٩٩٣م): إن عادة قراءة ما يحلو لك في النص قد جرفَتنا بعيدًا عن الأدب وعن الفن، ومزجَت الغث بالسمين، فليس نص شيكسبير نصًّا يعالج موضوع الاستعمار، ولمن يريد مناقشة الموضوع أن يبتعد عن المسرحية ويتفرغ لمناقشته باعتباره قضيةً مستقلة خارج إطارها (ص٢٤٦).
ويبني بعض مَن يعارضون قراءة النص في ضوء ما بعد الاستعمار حججهم على حقائق النص نفسه؛ إنسانيًّا وجغرافيًّا، مثل مناقشة تصوير كاليبان نفسه، قائلين إننا نستطيع أن نراه في أطرٍ أخرى غير إطار سكان المستعمرات، فقد ينتمي إلى أنماط المخلوقات الغريبة التي كانت الرومانسات القديمة تحفل بها على مر التاريخ، أو الكائنات الخرافية التي تجمع بين الإنسان والحيوان، إلى جانب الصور الخيالية عن «الإنسان المتوحش»، وهي التي شاعت في العصور الوسطى، إلى جانب ما ذكره البعض من أن هذه القراءة تتجاهل عمْدًا سياق البحر المتوسط الذي تجري فيه أحداث المسرحية. فالجزيرة تقع في مكانٍ ما بين إيطاليا وشمال أفريقيا، وتهبُّ العاصفة على السفينة في أثناء رحلة العودة من تونس، ولا يكتفي شيكسبير بهذا التحديد الجغرافي، بل يجعل «بروسبيرو» يسأل «آرييل» عن موطن «سيكواركس» (الساحرة التي حبسَت الجني في شق شجرة البلوط)، حتى يخبرنا الجني بأنها من مدينة الجزائر، وأنا أقول يخبرنا لأن بروسبيرو يعلم ذلك حق العلم؛ بل يفصِّل القول بعد ذلك (ف١/م٢ السطر ٢٦٣ وما بعده) في تاريخ هذه الساحرة، ولكنه يريد أن يؤكد للنظارة أو لقُراء المسرحية أن الأحداث تقع في البحر المتوسط، وكانت تونس والجزائر من ولايات الدولة العثمانية، وطالما تنازعَت أساطيلهما وجنودهما مع الإسبان الذين كانوا يغيرون عليهما ويحاولون غزوهما، وفي هذا الوقت تحديدًا ذاع لجوء القراصنة إلى الجزائر، كما ذاع استرقاق الأوروبيين وبيعهم لتجار الرقيق فيها. أما وظيفة هذه الإشارات إلى «الأبعاد الشرقية» للحدث (أو للأبعاد «الإفريقية»، إن شئت) والتأثير الذي تُحدِثه في القارئ أو المشاهد، فهما لا يزالان يستعصيان على التحديد، ولا يكاد النُّقاد يتفقون على تفسيرٍ واحد، مقنع أو غير مقنع، لهذه الإشارات، فالناقدة بربارا فوكس (Fuchs) تقول في دراسةٍ نشرَتها في دورية فصلية شيكسبير عام ١٩٩٧م (العدد ٤٨) بعنوان غزو الجزر: وضع العاصفة في سياقها (ص٤٥–٦٢): إن إرغام كلاريبيل على الزواج من ملك تونس نموذج لقهر المرأة في سبيل تحقيق أهداف سياسية، أي «احتواء التوسع الإسلامي»، ولكن ريتشارد ويلسون (Wilson) يقول في دراسةٍ نُشرَت في دوريةٍ أخرى (هي التاريخ الأدبي الإنجليزي — ELH — العدد ٦٤) في العام نفسه بعنوان «الرحلة إلى تونس: التاريخ الجديد والعالم القديم في العاصفة»: إن تحطيم سفينة ألونزو يجعل من بروسبيرو «ملكًا للقراصنة»، ويقول إنه يشبه الابن المارق للورد ليستر (روبرت دَدْلي)، وأما دافيد كاستان (Kastan) فيركز بصفةٍ عامة في كتابه المهم: «شيكسبير بعد النظرية» (ويقصد بها النظرية النقدية الحديثة) الصادر عام ٢٠٠٠م (في الفصل العاشر) على عالم سياسات الأسر الأوروبية الحاكمة، ويشير مثل غيره من النُّقاد إلى أوجه التشابه بين بروسبيرو وبين الإمبراطورية الرومانية المقدسة، أي رودولف الثاني، الذي أقصاه أخوه عن الحكْم بسبب انشغاله بالدراسة والسحر. وبالرغم من ذلك كله، ومع احتمال زيادة وعي جمهور المسرحية في عام ١٦١١م بمغزى الإشارات إلى تونس والجزائر عن وعي القارئ أو المشاهد الحديث بدلالاتها اليوم، فإن «الأبعاد الشرقية» (أو الإفريقية) لا تزيد عن إشاراتٍ غير جوهرية في حدث المسرحية، مهما ألح عليها الدارسون، ولكنها على أي حالٍ موجودة، ووجودها قد يخفض قليلًا من حماسنا لتبني آراء دعاة التفسير الحديث في ضوء «ما بعد الاستعمار» وحده، وإن لم يكن يلغي أو ينفي إمكان هذا التفسير، فنصوص شيكسبير الشعرية الدرامية تقبل التفاسير المختلفة بل والمتعارضة، وحماسنا لأحدها لا يجب أن يجعلنا نغفل عن غيرها.

وإذا كنت قد أطلتَ في عرض الآراء المؤيدة والمعارضة للتفسير في ضوء ما يُسمَّى بمدخل «ما بعد الاستعمار»؛ فذلك لأنه مدخلٌ جديد (ولكل جديدٍ لذة) ولأنه — ربما بسبب هذه الجدة وحدها — يجتذب الدارسين لدَينا نحن أبناء العالم الثالث إلى الحد الذي قد يجعله يتخطى حدود التفسير الخاص، أي «التفسير» الذي يرتبط برؤيةٍ قد تقابلها رؤًى معارضة لا تقل وجاهة عنها وتدعو إلى «تفسيراتٍ» أخرى، بل وقد تجعله يتخذ طابع التحليل العلمي (الذي لا يقبل النقض)، وذلك هو ما لا أومن به ولا أدعو إليه. وسوف أسوق في عرضي للقراءات الحديثة مثالًا آخر لما أتى به التطور في المعالجة النقدية للأدب في الخمسين عامًا الأخيرة من تغييرٍ في مفهومنا للتفسير، باعتباره مرادفًا للشرح والإيضاح مرة، ومرادفًا للتأويل والتخريج مرةً أخرى! وهو مثالٌ يربط بين التفسير وفق المدخل المشار إليه، والتفسير الديني باعتبار المسرحية حدثًا رمزيًّا يدعو للصفح والغفران.

وقد نجِد اليوم مفارقةً واضحة في هذا الربط، ولكننا إذا أعدْنا فحْص كتابات كبار النُّقاد (وأنا أقصد بالكبير مَن أحدث أكبر تأثير) حتى مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، وجدْنا أن الدعوة الاستعمارية عمومًا كانت تقيم مبرراتها على أسسٍ ثقافية، حتى تجتذب من بين أبناء البلدان المستعمرة من يقتنعون بها ويدعون لها بين أهلهم، وأعني بالأسس الثقافية غايات نشر القِيم العليا والحضارة ومكارم الأخلاق والدين! إنها مجموعةٌ منوعة حقًّا من الغايات، ولكن ارجع معي إلى ما كتبه ويلسون نايت في كتابه إكليل الحياة (١٩٤٧م) عن اعتقاده بأن العاصفة «أسطورة الروح القومية» (ويقصد بها الروح القومية البريطانية)، وبأنها تمثِّل جهود بريطانيا «الاستعمارية، وخصوصًا تصميمها على رفع مستوى الشعوب المتوحشة من درك الخرافة، وأضحيات الذبح، والتابوهات (المحظورات الاجتماعية) والسحر، وما يرتبط بذلك كله من مخاوف وحالات الاسترقاق، إلى مستوى الوجود المتنور» (ص٢٥٥). ولقد عدَّل نايت آراءه هذه فيما بعد، كما نعرف، ولكن الكتاب يردِّد اتجاهًا في النقد الأدبي تجاوزه العالم بسرعةٍ كبيرة، وهو لا يمثِّل إلا محاولة من النُّقاد لتسخير آرائهم لخدمة «أغراض خارجية» (وهو ما كان ماثيو أرنولد يحذِّر منه، وما رفضه النقد الجديد رفضًا قاطعًا، وإن كانت النظرية الحديثة قد فتحَت له بابًا مريبًا!) ترى هل كان نايت يؤمن حقًّا بأن تحرير الشعوب من الخرافة والسحر يمثِّله ما يفعله بروسبيرو على المسرح مع العفريت آرييل؟ ولأتخذ إذَن نقطة انطلاقي في تناوُل ما يُسمَّى بالتفسير الرمزي (الديني) من هذه الدعوى الغريبة!

كان ويلسون نايت في مطلع الستينيات أستاذًا في جامعة ليدز، وكانت كتُبه الواسعة التأثير قد اجتذبَت إليه الطلاب من شتَّى أنحاء الأرض، وكان من بينهم زميلي عبد اللطيف الجمال الذي كان قد سافر إلى إنجلترا قبلي بعدَّة سنوات، وكان يرسل إليَّ خطاباتٍ حافلة بالإشارات إلى «حلقات درس» شيخه ويلسون نايت، فلما وصلتُ إلى إنجلترا وحكى لي تفصيلًا عن «الحلقات» عجبتُ لما أصابه في شيخوخته من «دروشة»، ورجعتُ إلى كتُبه التي قرأتُها في مصر، فوجدتُ أن بعض الطبعات الجديدة قد أصبحَت تكتسي لونًا أشد حذرًا واعتدالًا، على عكس ما قال لي الجمال عن «دروشته»! وعندما عُدتُ إليها من جديد استعدادًا لكتابة هذه المقدمة، وجدتُ أنها — كما يقول كيرمود في مقدمته لطبعة آردن للمسرحية — تشكِّل أساس التفسير الرمزي الديني، وأن هذا التفسير يرتبط بمذهبه الذي أصبح يقبَل الخرافة في كنف «الدروشة»، ويبرِّر «سحر» بروسبيرو باعتباره «العلم اللدني» المنسوب إلى أولياء الله الصالحين، ويكاد يوازي بين «عباءة سحره» وبين عباءة الهداية والتقوى!

وفرانك كيرمود — وهو من هو شهرةً ومكانة بين النُّقاد — يفسر سحر بروسبيرو في الإطار الذي وضعه ويلسون نايت، بل وينص في مقدمته التي حلَّت في الطبعة التي اعتمدتُ عليها محل مقدمة لوس (Luce)، على أن محور المسرحية أو أحد محاورها الأساسية هو المقابلة بين «السحر» (بمعنى الحكمة المستلهمة من الملأ الأعلى)، وبين الطبيعة بوحشيتها وفظاظتها وقسوتها! ومع إعجابي الشديد بفرانك كيرمود محققًا وأستاذًا ضليعًا في اللغة، أُصبتُ بخيبة أمل في ذلك الذي ذهب إليه، وعكفتُ على استكْناه معنى السحر والألفاظ المتعددة التي تُطلَق عليه بالإنجليزية، حتى أتبيَّن جذور هذا الترابط بين النظرة الاستعمارية القديمة وبين هذه النظرة إلى السحر، وكيف أثَّر ذلك في التفسيرات الحديثة للمسرحية.

(ج) السحر

إن شيكسبير يشير إلى القوة الخاصة التي يتمتع بها بروسبيرو باسم (Art)، وهو المصطلح الذي أصبح يعني في عصرنا «الفن» فقط، أو الفن والأدب، أو «الآداب» وأصلها (Liberal Arts)، وكانت تمثِّل في العصور الوسطى العلوم التي يدرسها «الأحرار»، وتتكوَّن من شقَّين: شقٌّ أدنى وهو النحو والمنطق والبلاغة، وشقٌّ أسمى وهو الرياضيات والهندسة والفلك والموسيقى، وكان القدماء يطلقون لفظ «الثلاثي» (trivium) على الشق الأدنى، والرباعي (quadrivium) على الشق الأسمى، وقد ظل هذا التقسيم معمولًا به حتى عصر النهضة، ثم أصبح المصطلح يشير إلى دراسة الأدب والفلسفة واللغات والتاريخ إلى جانب مبادئ العلوم الطبيعية النظرية، فاكتسب معنى العلوم النظرية للتفريق بينها وبين الدراسات العملية أو التطبيقية، فما العلاقة بين (Art) هنا والتي تُكتَب دائمًا بحرفٍ كبير، وكلمة (magic) وهما اللتان يستعملهما بروسبيرو في ٥٠ / ٥١ من الفصل الأخير (م١)؟
… By my so potent Art. But this rough magic
I here abjure;
… وبقوة سحري الجبار!
لكني أعلن أني أنبذ هذا السحر الفظ!
الملاحَظ أنه يوازي بين الكلمتَين؛ إذ يصف فن السحر لدَيه بأنه سحرٌ فظ، ويشير إليه باسم الإشارة «هذا» (this)، أي إنه تولَّى تحديد طابع هذا السحر، بعد أن حدد ما مكنه من إنجازه بفضل قوة هذا السحر الجبار/الفظ في الأبيات السابقة على هذين البيتَين؛ إذ يقول مخاطبًا «الجنيات» (elves) إنه استعان بهن:
حتى عتَّمتُ ضياء الشمس بوقْد الهاجرة هنا،
ودعوتُ الريح العاصفة إلى الثورة،
بل أنشبتُ الحرب الهادرة الهوجاء
ما بين البحر الأخضر وسماء خضراء القبة!
أضرمتُ النار بأيدي الرعد القاصف والمرعب،
وفلقتُ بأسهم رب الأرباب البلوط الصلب —
أشجار تُنسَب له — زلزلتُ الجبل الثابت،
وذراعي اقتلعَت أشجار صنوبر أو أشجار الأرز من الجذر،
وأمرتُ القبر بأن يوقظ مَن في القبر
فانفتح وأخرجهم …
(ف٥/م١ / ٤١–٥٠)
الموازاة بين كلمتَي (Art) و(magic) واضحة إذَن، ولكن ما معنى الكلمة الأخيرة؟ إن أصولها الاشتقاقية تربطها بكلمة ماجوس (magus) أي المجوسي بالعربية، وجمعها magi، وكانت تُطلَق في العالم القديم بصورتَيهما اليونانية (Màgos) واللاتينية (magus) على فئة كُهَّان الفُرس القدماء، قبل أن يتطور معناها فيشمل مَن يمارسون السحر — أي sorcery (أي استخدام التعاويذ أو الرقى عادة في أغراض الشر) — فكان فن السحر يُدعَى (Magikos) باليونانية و(magicus) باللاتينية، وكان التعبير في الأصل يوحي بفنون المجوس (باليونانية magike techne) أي فن سحر (المجوس)، ثم حذف لفظ «فن» وظلت الصفة في صورة اسم يعني السحر وحسب.
وفرانك كيرمود يستخدم في الإشارة إلى بروسبيرو كلمةً مهجورة في الإنجليزية هي (mage)، مما يقطع بأنه يدرك الأصل الاشتقاقي، وأما سائر النُّقاد فيستخدمون أشباه المترادفات في الإشارة إلى هذه «القوة الجبارة» التي يشملها لفظ «السحر» العام (magic)، ويجمل بنا التفريق بينها هنا قبل مناقشة رأي كيرمود؛ فالكلمة الأولى (sorcery) قد سبق تعريفها وهي قريبة الصلة بالكلمة الثانية (necromancy)، التي تحمل المعنى نفسه أو السحر الأسود (بعد أن تطورَت في اللاتينية الوسطى إلى nigromantia، والمعروف أن التحريف الصوتي الذي استبدل الجيم بالكاف هو الذي أوحى بلَون السواد)، وكان المعنى الأصلي لها مرتبطًا بصورتها الاشتقاقية، أي التكهن بالمستقبل عن طريق التخاطب مع الموتى؛ لأن (necro) اليونانية تفيد ذلك (الميت أو الموتى)، والكلمة الثالثة هي (wizard) التي تُطلَق على الرجال، والرابعة هي (witch) التي تُطلَق على الإناث، وعمل هؤلاء يُسمَّى (wizardry) و(witchcraft) على الترتيب، وهو الزعم بالتمتع بقوًى خارقة للطبيعة عن طريق التخاطب مع الشياطين أي الجن الشريرة!
ويجهد فرانك كيرمود نفسه في تأكيد «اللون الأبيض» لسحر بروسبيرو، ونسبته إلى قوى الخير لا إلى قوى الشر، فيصف سحر بروسبيرو بأنه «سحرٌ مقدَّس» (holy magic)، وسحر سيكوراكس بأنه «سحرٌ طبيعي» (natural magic)، وهو بهذا يُناقض المعنى الذي شاع في عصر شيكسبير، ولا بد أنه كان يقصده بالتعبير الأخير؛ ففي المعجم الجغرافي (Glossographia) الذي وضعه توماس بلاونت Blount عام ١٦٥٦م، نجد تمييزًا واضحًا بين هذا التعبير الأخير وبين ما يقصده كيرمود به، والتعريف مقتبَس في مقدمة لندلي، نقلًا عما يُسمَّى قاعدة بيانات المعاجم الإنجليزية الأولى، على شبكة الإنترنت، وها هي ترجمته الحرفية نقلًا عن لندلي:

السحر الطبيعي بصفةٍ عامة هو الحكمة، أو تأمُّل العلوم السماوية، وينقسم إلى شقَّين؛ الأول هو الطبيعي، وهو مشروع، وهو أساس كل علمٍ طبيعي حقيقي، وهو الحكمة الخبيئة في الطبيعة، وهي التي إن فُقدَت أصبح عقل الإنسان ومعرفته مرادفَين للجهل. والثاني هو السحر الشيطاني، الخرافي وغير المشروع، والذي يُسمَّى بالسحر الأسود، وبه يكتسب الناس المعرفة بالأشياء بمعونة الجن الشريرة.

Magic Art (magia) in general, is wisdom or contemplation of heavenly sciences, and is two fold; Natural, which is lawful, and is the ground of all true physick, and the occult wisdom of nature, without which all mans reason and knowledge is Ignorance; The other is diabolical, superstitious and unlawful, and is called necromancy: whereby men attain to the knowledge of things by the assistance of evil spirits. (p. 45)

وقد فضَّلتُ الإتيان بهذا التعريف النادر بلفظه الأصلي بعد ترجمته، حتى يتسنَّى للدارس أن يدرك المشكلات الكامنة في التفسير الذي يحاوله كيرمود، وربما لم يكن الخطأ خطأه، بل خطأ النظرة النقدية إلى المسرحية، وتجاهل اعتبار العاصفة مسرحيةً شعرية، فالاتجاه النقدي الذي لا يأخذ في اعتباره الطابع الشعري للعمل، وهو ما ألححتُ عليه في بدايات هذه المقدمة، بل يعاملها كما لو كانت دراما واقعية، لا بد أن يصطدم بمشكلة السحر!

ولقد حاولَت بعض القراءات النقدية الحديثة أن تربط بين السحر الأبيض والعلم الطبيعي، وأذكر أن انبهاري بكتاب منزل الدكتور دي، الذي وضعه الكاتب اللوذعي بيتر أكرويد (Ackroyd) في مطلع التسعينيات (وهو مؤلف سيرة حياة ت. س. إليوت، وسيرة حياة ديكنز … إلخ)، جعلني أقرأ المزيد عن الدكتور «جون دي» (John Dee) العلَّامة الذي مارس السحر، أو وُصِف بممارسة السحر في عصر الملكة إليزابيث، فوجدتُ كتابًا بعنوان الفلسفة الطبيعية عند جون دي: بين العلم والدين (١٩٨٨م) وضعه باحثٌ يُدعَى نيكولاس ﻫ. كلولي (Clulee)، يرصد فيه تداخُل التعريفات للسحر التي ورثها عصر النهضة من العصور الوسطى، (ص١٣٤)، وقرأتُ تعريفًا آخر ورد في كتابٍ حديث يحدد صاحبه، واسمه ألن ديبوس (Allen Debus) فيه معنى «السحر الطبيعي»، قائلًا: إنه في جوهره «النشاط الذي يتمثل في معرفة الأشياء الخبيئة وفن تحقيق العجائب.» أي في الإحاطة بمكنونات الطبيعة وأسرارها الخفية، وإنه كان يشغل موقعًا مشروعًا من بين طموحات النخبة المثقفة في ذلك العصر، أي إنه كان يماثل ما أصبحنا نسمِّيه «العلم الطبيعي» في أيامنا هذه. وأما الكتاب الذي اطلعتُ فيه على هذا التعريف فهو التفكير مع الشياطين: فكرة السحر في مطلع العصر الحديث في أوروبا، (١٩٩٧م) ومؤلفه هو ستيوارت كلارك (Clark)، (الذي يقتطف التعريف المذكور ويورده في ص٢١٦)؛ ولذلك فإن الاتجاه الحديث في النقد هو اعتبار سحر بروسبيرو صورةً رمزية (شعرية) للعلم الطبيعي، الذي اكتسبه بروسبيرو من الدرس في الكتب، والميل إلى تفسير ما يفعله على المسرح أو ما يأتي به من «عجائب» في صورة ممارسة طاقاتٍ روحية خاصة، وجدها علماء النفس أخيرًا عند بعض الأشخاص، مثل: «تنويم» ابنته، و«تجميد» ذراع فرديناند، وإيهام اللوردات بأنهم يسمعون صوت الضمير الذي يلومهم ويحضهم على التوبة!
والواقع إن إنكار قوة سحر بروسبيرو ليس وليد النظرية النقدية الحديثة، بل هو قديمٌ قِدم نشأة العلم الطبيعي الحديث في القرن السابع عشر، فعندما أعاد جون درايدين وويليام دافينانت صياغة مسرحية شيكسبير وإصدارها في عام ١٦٦٩م باسم الجزيرة المسحورة — كما سبق أن أشرتُ — كتبا في المقدمة استهلالًا (برولوج) يُعربان فيه عن رفضهما لبناء المسرحية على فكرة السحر، ويبرران لجوء شيكسبير إليه قائلًا: إنه «كان يكتب آنذاك وفقًا لمعتقدات الناس.» (انظر الجزيرة المسحورة المنشورة في كتابٍ من تحرير ساندرا كلارك بعنوان تطويع نصوص شيكسبير، ١٩٩٧م، ص٨٨)، وكانت صور الساحر المقدمة على المسرح تتفاوت من عصرٍ إلى عصر، ولكن الاتجاه العام الذي لاحظه من تتبع هذه الصور المتفاوتة كان يسير نحو «تحريره» من صورة السحر التقليدية، حتى انتهى الأمر إلى تقديمه في صورةٍ تشبه صور علماء القرن العشرين (في عرضَي المسرحية ١٩٨٨ و١٩٩٩م)، بل إن المخرج ليفيو شيولي (Liviu Ciulei) قدَّم بروسبيرو في العرض الشهير في أمريكا (منيا بوليس) عام ١٩٨١م في صورة «عالمٍ عبقري حديث … يمكن اعتباره نظيرًا لأينشتاين.» (كما تقول كريستين ديمكوفسكي (Dymkowski) في طبعتها للعاصفة عام ٢٠٠٠م (ص٢٧) في سلسلة إخراج شيكسبير، الصادرة عن كيمبريدج)، وقد يكون هذا التفسير وغيره قد تأثَّر بفيلم الخيال العلمي وعنوانه الكوكب المحرَّم، الذي يقدِّم المسرحية في كوكبٍ آخر هو الطائر – ٤ عام ١٩٥٦م، ويقول لندلي تعليقًا على هذا الاتجاه: إنه محمود بصفةٍ عامة؛ لأن طموح العلم الحديث إلى تفهُّم أسرار الكون يشبه «طموح الساحر الطبيعي في عصر النهضة، وهو يواجه رد الفعل نفسه الذي يتراوح بين الانبهار به والخوف منه» (ص٥٠ من المقدمة).
ولكن السحر بهذا المعنى العلمي «الجديد» لا يرتبط بالدلالة الدينية لما ينتهي إليه بروسبيرو من صفحٍ وغفران عمن أساءوا إليه، وبالدلالة الدينية للكثير من آيات الكتاب المقدس التي يُشار إليها عرَضًا في ثنايا المسرحية! أي إن الربط بين الخصال والفعال البشرية التي تتفق مع ما أمر الدين به ويدعو له وبين ممارسة السحر، بأي تعريفٍ من تعاريفه السابقة، ربط تعسفي، ولا يفيد الإدراك الصحيح لطابع المسرحية الشعري، ويتعذر قبوله على المستوى الواقعي، صحيح أن علم الشياطين (demonology) كان مشبعًا بالقيم الدينية — كما يقول كلارك في الكتاب المشار إليه (التفكير مع الشياطين) (ص٤٣٧) — ولكن الحدث لا يربط — كما يقول روبرت وست (West) في كتابه شيكسبير وأسرار الظواهر (١٩٦٨م) (أي ظواهر الطبيعة) — «بين سحر بروسبيرو واستعانته بالجن وبين الدين ربطًا صريحًا … بل يحافظ على الطابع العلماني والتجريبي لأحداث مسرحيته» (ص٨٤). ورغم اختلاف بعض النُّقاد المحدَثين مع هذا الرأي، ومن أهمهم ديبورا شوجار (Shuger) في فصلٍ ساهمت به في كتابٍ حديث عنوانه الدين والأدب والسياسة في إنجلترا بعد الإصلاح الديني ١٥٤٠–١٦٨٨م (١٩٩٦م)، وقد اطلعتُ على هذا الفصل وحده دون سائر فصول الكتاب، فإن الربط بين القيم الدينية و«علم الشياطين» ربطٌ لا يفيد المسرحية، بل قد يضلل القارئ ويدخله في متاهاتٍ لا لزوم لها.

وأما القيم الدينية المشار إليها فعلى رأسها كما سبق أن ذكرتُ قيمة الصفح والغفران، إلى جانب قيمة الندم والتوبة، وهذه القيمة الأخيرة لا تتأتَّى إلا بمواجهةٍ مع النفس وحسابها عما فعلَت، الأمر الذي يتطلب تذكُّر أفعال الإنسان، ومن ثَم تبرز الذاكرة باعتبارها عاملًا فعالًا في الحدث الدرامي، وهو ما يهمنا هنا، خصوصًا إزاء ما أؤكده وأُلح عليه في هذه المقدمة من ضرورة اعتبار المسرحية دراما شعرية، والذاكرة هي التي تعمل مع الخيال في تعاونٍ وثيق على إبداع أعمق اللحظات الشعرية والدرامية في آنٍ واحد!

(د) التفسير الديني

وليس «التفسير الرمزي» للمسرحية — أي اعتبارها حدثًا رمزيًّا دينيًّا — من ابتداع العصر الحديث، ولكنه قديمٌ نسبيًّا، وكيرمود يشير إليه في مقدمته ويرفضه، ذاكرًا كتابَين لم أستطع الحصول على أيِّهما هما عاصفة شيكسبير: تفسيرٌ رمزي (١٩٣٥م) والفكرة اللازمنية (١٩٣٦م)، والأول من تأليف أ. ب. واجنر (Wagner) والثاني من تأليف كوين سميث (Smith)، وهو يذكر كتبًا غيرهما ويشارك دون أن يدري في أمثال هذه التفاسير حين يقول «أعتقد أن شيكسبير يقدِّم عرضًا لفكرتَي السقوط والتكفير عنه من خلال قصص مماثلة، وإن لم نكن بحاجةٍ إلى الاشتطاط عند البحث عن أصولٍ لهذه القصص» (ص٨٣). وأما رأس التمثيل الرمزي فهو ويلسون نايت، بلا منازع، وقد سبق لنا عرْض آرائه ولا داعي للخوض فيها من جديد، بل الأفضل أن نرصد كيف يستخدم شيكسبير قوة الذاكرة والنسيان في عمله الشعري الدرامي!
ما إن يبدأ المشهد الثاني من الفصل الأول (بعد مشهد العاطفة والظن بغرق السفينة)، حتى تبدأ كلمات الذكرى والنسيان تلحُّ على سمع القارئ أو المشاهد؛ إذ يبدأ بروسبيرو قصته لابنته بسؤالها: «هل تذكرين؟» (٣٨)، ويجيب السؤال بنفسه: «لا أظنك تذكرين» (٤٠)، وحين تقول: «بل أذكر» (٤١)، يقول لها: «فما الذي تذكرينه؟ هل تذكرين … حدثيني عما لا يزال عالقًا بذاكرتك!» فتقول: «ما تحمله ذاكرتي بعيدٌ غائم!» فيقول: «إن كنتِ تذكرين … فاذكري»، وتردُّ: «ذلك ما لا أذكره» (٤١–٥٣). وإذا كان قصُّ البطل لما سبق من أحداثٍ قبل رفْع الستار مألوفًا؛ فإن هذا التكرار لثيمة التذكر وبألفاظٍ مباشرة غير مألوف، وهو غير موجَّه للمشاهد أو للقارئ، بل هو أول خيط من خيوط الصورة الشعرية، التي يستمر نسْجها على امتداد النص كله، وعندما ينتهي بروسبيرو من سرد القصة التي عاشت في ذاكرته اثنتَي عشرة سنة، ندرك أثناءها كيف ظلَّت أحداثها حيةً نابضة في نفسه، وكيف تربط الماضي بالحاضر، يجعل ابنته تنام ويستدعي آرييل — العفريت الذي يخدمه — ليلتقط خيط الثيمة المذكورة: «دعني أذكرك» (٢٤٣)، «أرجوك تذكر» (٢٤٧)، «وهل نسيت» (٢٥٠)، «بل تنسى» (٢٥٢)، «هل نسيت الساحرة» (٢٥٦)، «بل نسيتها» (٢٦٠)، «لا بد أن أذكرك» (٢٦٢)، «فأنت تنسى» (٢٦٣). وهو تكرارٌ يكفي كما قلتُ لربْط الماضي بالحاضر حتى نتابع — نحن المشاهدين — أحداث المسرحية باعتبارها امتدادًا لما حدث منذ اثنتَي عشرة سنة، فكأنما أحيَت الذاكرة الماضي ودفعَت به إلى خشبة المسرح، وهو لا يمضي ويختفي حين يتذكر «رجال الخطيئة الثلاثة» ما فعلوه ويعربوا عن الندم والتوبة، وعندها فقط يقول بروسبيرو في الفصل الخامس «لا تزد يا سيدي! لا تُثقل ذاكرتنا بما مضى من الأحزان» (١٩٩). وهذه هي المرة الأولى بل والوحيدة في المسرحية التي يتحرر فيها بروسبيرو من ذاكرته، وسرعان ما يتبعها تحرُّره من سحره كما تقول مارجريتا دي جراتسيا (de Grazia)، التي تقول في مقالٍ لها بمجلة دراساتٍ شيكسبيرية، العدد ١٤ (١٩٨١م): «إن ممارسة بروسبيرو للسحر تُعتبَر بمثابة سجنٍ له … إذ أبعدَته عن غيره من البشر» (٢٦١). وها أنا ذا أضيف أن حبسه في طلب الثأر من عواقب انحباسه في ذاكرته على تلك الجزيرة المهجورة، والتي لا نرى لها في المسرحية مستقبلًا يربطها بنابولي أو ميلانو (مما يناقض رأي أصحاب نظرية ما بعد الاستعمار).

والواقع أنني أميل إلى قبول رأي دي جراتسيا، وأدعم رأيي بما جاء في خاتمة المسرحية التي يلقيها بروسبيرو مواجهًا الجمهور، ويطلب منهم أن يعينوه «في كسر قيوده»، وبألا يقضوا بأن يبقى في الجزيرة الجرداء، أي بأن «يُحبَس في هذا القفر»، ويختتم الخاتمة نفسها بالأبيات التي تلخِّص ما أومن بأنه من محاور المسرحية حقًّا، أي إحساس بروسبيرو بأنه مخطئ مثل الآخرين (لنشدان الثأر؟ لاستعمال السحر؟) وبأنه كان حبيسًا فتحرر نفسيًّا ويبقى التحرر ماديًّا أيضًا:

واليأس خليقٌ أن يختتم حياتي
إلا بصلاةٍ وبخير دعاء!
فصلاتي تنفذ من أقطار الكون
إلى الرحمة كي تمحو كل ذنوب الحوباء!
وكما تبغون الغفران لكل الآثام لدَيكم
أبغي الصفح لألحق بالطلقاء!
(ف٥/م١ / ١٥–٢٠)

أي إنه إنسانٌ أولًا وأخيرًا، أحسَّ بالظلم فسعى للانتقام من ظالميه، واستعان بطاقات العلم التي سخَّرَت له الطبيعة والطاقات النفسية التي مكَّنَته من إخضاع الآخرين لسلطانه (على المستوى الواقعي)، أو بالسحر الذي يمثِّل على المستوى الرمزي قوة الخيال الشعري، التي يجسِّدها شيكسبير في أشكالٍ نراها ونسمعها، وإن كانت تنتمي لعالم الخيال أو الخرافة، حتى إذا وصل إلى لحظة الثأر همس له الهامس (آرييل) إنه يشفق على ما آل إليه أعداؤه، فإذا به يتحول من رغبة الانتقام إلى سماحة الغفران! وأكرر إنني أرى في هذه القراءة مدخلًا يحافظ على طابع الدراما الشعرية بل ويبرزه؛ فإن بروسبيرو لا يكتمل تحرُّره إلا بتخلُّصه من الطاقات المذكورة (التي قلتُ إنها سخَّرَت له كل شيء)، فأصبح من جديدٍ يشعر بأنه إنسانٌ فانٍ، إنسانٌ ضعيف إزاء قوى الكون:

طاقاتي تقتصر الآن على ذاتي
ولذلك ما أوهى طاقاتي!
(الخاتمة ١، ٢)
وبعد أن يعدِّد لندلي أصداء بعض آيات الكتاب المقدس في المسرحية، مؤكدًا أنها تشهد بوجود «الدين» في المسرحية، يستدرك العبارة قائلًا: «ولكن هذا لا يعني — وأكرر هنا أداة النفي كي أؤكد أن هذا لا يعني — أن العاصفة حدثٌ رمزي ديني، ولكنه يعني أن علينا أن نذكر أن معالجتها للصورتَين الدينيتَين للتوبة والغفران، والسلطة وحدودها، معالجة يستند إليها عمل «قضيةٍ فكرية» أخرى، لا مناص من أخْذها مأخذ الجد، كشأن جميع القضايا والسياقات الأخرى» (ص٥٢-٥٣). ويعني لندلي بهذه القضية الفكرية «قضية السلطة والقوة»، (power and authority) كما يُطلَق عليها، أو قضية «علاقات السلطة» كما يطلق عيلها غيره من النُّقاد، وسوف أعرض لأحداث الآراء في هذه القضية التي تتصل دون شك بقضية الدين ونظرية «ما بعد الاستعمار».

(ﻫ) علاقات القوة

قلتُ في مطلع دراستي لوظيفة الموسيقى (في هذه المقدمة): إن المسرحية ثمرةٌ صادقة من ثمار ثقافة القرن السابع عشر، وهو القرن الذي شهد تحوُّل اتجاه الفكر السياسي الإنجليزي من سلطة الملك المطلَقة (المستمدَّة من اعتباره ظِل الله على الأرض) إلى سلطة البرلمان أو سلطة الشعب، مع ما يقتضيه ذلك من تحديدٍ لسلطة الملك، وكان استناد الملك إلى «أمر الله» في حكمه للناس يعني أن طاعته من طاعة الله، فهي إذَن طاعةٌ محمودة، وأن العصيان ذميم، وفي هذا الإطار اتجه بعض النُّقاد إلى تفسير سلطة بروسبيرو في المسرحية تفسيرًا يقرِّب البطل من الملك، فهو يأمر فيطاع، وهو يعاقب أو يغفر، سواء إذا اعتبرناه حاكمًا أو أبًا أو مالكًا للعبد الذي يخدمه (أو حتى مستعمرًا). ومن الطبيعي لمن يتبنَّى وجهة النظر المذكورة أن يشعر بالهُوة التي تفصل عالمنا عن عالم بروسبيرو، وأن يحرمه «التعاطف» الذي كان يتمتع به ولا شك أمام جمهور عصر شيكسبير.

ولكن هذه النظرة «مضلِّلة» (بكسر اللام)؛ لأن بروسبيرو ليس حاكمًا، وإلا فأين المحكومون؟ يقول بعض النُّقاد إنهم كاليبان وآرييل وميراندا! ولكن كاليبان خادم يشغل موقع العبد، أو عبدٌ يقوم بعمل الخادم، ولفظ (serve) يعني أن يخدم أو يعبد، أيهما شئتَ، وآرييل جنِّي يسيطر عليه بروسبيرو بقوة سحره (على نحو ما نعرف في قصص الجن عبر العصور وفي كل اللغات)، وهو مدين لسيِّده بروسبيرو بتحريره من الحبس في الشجرة، ويسدِّد دَينه بأداء خدماتٍ معيَّنة ينال بعدها حريته! وأما ميراندا فهي ابنة بروسبيرو، وطاعة الأب أثناء الطفولة واجبة حتى يبلغ الطفل سِن الرشد، وهذا أيضًا لا علاقة له بسلطة الملك على الرعايا، بل هو من تراث الإنسانية في كل زمانٍ ومكان!

وأما علاقة بروسبيرو مع سائر شخصيات المسرحية فلا أثر فيها لعلاقات القوة أو «علاقات السلطة» المذكورة، فنحن نعلم أن أنطونيو قد خان أخاه وسلبه حكْم الدوقية (أو المملكة)، بسبب إهمال بروسبيرو نفسه ممارسة سلطاته، واستغراقه في الدرس وطلب العلم؛ أي بسبب انصرافه عن السلطة! والصورة التي تقدِّمها المسرحية صورة خيانة للطبيعة ولروابط الأخوة، أي للأسرة، أكثر من كوْنها مؤامرةً سياسية! والأمر الذي يؤكد ذلك هو أننا إذا فحصْنا أقوال بروسبيرو على امتداد المسرحية لم نجد فيها أي عباراتٍ دينية من التي اعتدناها عند من يمارسون السلطة الملكية في المسرحيات التاريخية لشيكسبير! ولا نستطيع أن نجد أي أصداءٍ توحي «بالحق الإلهي» للملوك، حتى وقد وهبه الله — على المستوى الواقعي — قوة السحر التي مكَّنَته من الظفر بأعدائه! بل إن شيكسبير، كما قلتُ من قبلُ، يجعل السحر وليد الدراسة والعلم، لا قوةً ربانية خارقة!

ولن أطيل في تحليل «علاقات السلطة» في المسرحية، بل إننا عندما نتأمل ما ينتهي إليه دث المسرحية من «تحرير» أو «تحرر» على كل المستويات (أي تحرير آرييل وعودته إلى الأجواء، وتحرير المذنبين من ذنوبهم بالتوبة، وتحرير بروسبيرو نفسه من طلب الثأر باكتساب الطاقة على الغفران، وتحرير كاليبان الذي يفترض جمهور النُّقاد أنه سوف يبقى في جزيرته بعد أن وعد سيده السابق «بالتعقل» والسعي للصفح والعفو! وإن كان من المحتمل أن يعود مع الركب إلى إيطاليا ليعمل بخدمة بروسبيرو في المستقبل!) أقول إننا عندما نتأمل هذه النهاية «السعيدة» — خصوصًا بعد زواج فرديناند وميراندا — لن نجد أثرًا من آثار السلطة التي تأمر فتطاع! وحتى لو افترضْنا أن علاقات السلطة كانت تحكم الأحداث في بدايتها، فإن المسرحية تصهرها بإعادة كل فرد إلى ذاته، لا إلى قوى خارجية، وهو ما يمكن استشفافه من آخر بيت في آخر ما يقوله جونزالو:

هل أُخرج من ميلانو حاكم ميلانو
حتى تغدو ذريته حكامًا في نابولي؟
فلنفرح فرحًا فوق الفرح العادي!
ولننقش بالذهب القصة في أعمدة لا تبلى!
في رحلة بحرٍ واحدة ظفرَت بالزوج كلاريبيل في تونس
وأخوها وجد عروسًا من بعد التِّيه وفقدان النفس!
واسترجع دوقيته الدوق بروسبيرو في قفر جزيرتنا!
وجميعًا عُدنا لذواتٍ تاهت منا زمنًا!
(ف٥/م١ / ٢٠٥–٢١٢)
«العودة إلى الذات» يمكن تفسيرها على أكثر من مستوى، خصوصًا بسبب التعديل الصياغي الطفيف في الترجمة، فالأصل يكرر الفعل «وجد» (٢١٠ هنا) في كل العبارات، ويحذفه أي يجعله مستترًا في العبارتَين الأخيرتَين، والعبارة الأخيرة تؤكد «التيه» المادي (على الجزيرة) والمعنوي بسبب الاضطراب الذي نشأ نتيجة «الانقلاب السلمي» وخيانة الأخ لأخيه! وربما نستثني من هذا كله «أنطونيو» الذي لا يجد ذاته، ولا يعترف بالضمير، أو قل إنه لم يجد ذاته؛ لأنه لم يعترف بالضمير، ومع ذلك فقد هلَّل له البعض باعتباره الفرد الذي تمرد على السلطة، واحتفل به الشاعر و. ﻫ. أودن (Auden) في قصيدة البحر والمرآة.

(و) التفسير الرمزي

وهذا التفسير الرمزي الذي أقول به — استنادًا إلى النص الشعري نفسه — من التفاسير الحديثة التي كانت أحيانًا تشتطُّ في الاستدلال والاستنباط، ولكنها مهمة، فهي تمثِّل «الوجه الآخر» للحدث الرمزي، وفقًا للتمييز الذي وضعه نَتُول (Nuttall) بين مفهومَين للقصة الرمزية (أو الحدث الرمزي)، الأول هو اعتباره في مجمله رمزًا لحدثٍ آخر يتَّسم في جوهره بالواقعية، ويعادل الحدث الرمزي في الدلالة، والثاني هو استقراء بعض عناصر الحدث التي ترمز فيما بينها أو تشكِّل «عالمًا رمزيًّا» يزيد من خصب الحدث الواقعي الذي نشهده، وهذا الاستقراء هو الذي أعنيه بالاستدلال والاستنباط، ولقد حاولتُ معالجة الحدث في ضوء المفهومَين اللذين قد يختلطان أو يتميزان (انظر كتابه المهم «مفهومان للقصة الرمزية»، ١٩٦٧م). ولا بد قبل أن أعرض لهذا التفسير «الاستنباطي» أن أقول: إننا نعتمد عليه كثيرًا في تحليلنا للشعر، باعتبار أن الشعر فنٌّ له حركته الرمزية الداخلية (symbolic action) التي تماثل القصة الرمزية (allegory) في أبنيتها الخصبة الحافلة بالدلالات، والتي كانت تكتب شعرًا أيضًا على مَر العصور، والحدث الرمزي في الدراما الشعرية لا يقتصر على «الفعل المسرحي» (أو الحركة الدرامية) (dramatic action)، الذي قد نشير إليه باسم الحدث الدرامي، بل يتجاوز ذلك إلى دلالات الرموز مفردة ومجتمعة، وهو ما تعرَّض له النُّقاد في غير هذا الموضع فأوفوه حقه.
والتفسير الرمزي (allegorical interpretation) الذي أريد عرضه يتصل بما عرضتُه في البداية عن بناء المسرحية، في القسم الرابع من هذه المقدمة، عن التكوينات الثنائية والثلاثية، والمقابلات بينها على مستوى الأحداث ودلالاتها، فإذا كانت الاتجاهات الحديثة لإخراج المسرحية تحاول إبراز المقابلات بين الثنائيات (والثلاثيات) بالحركة الجسدية على المسرح، وبإسناد بعض الأدوار الرجالية للنساء (كما تقول ديمكوفسكي في المرجع المشار إليه آنفًا) تأكيدًا للطابع الإنساني الذي يربط بعضها بالبعض حتى في التقابل والتضاد، فإن النص الشعري يميل إلى الإيحاء بما هو أبعد من الروابط الإنسانية، كما يذهب إلى ذلك أصحاب التفسير الرمزي، فقد يوحي بصورٍ فلسفية وقد يغري بالتحليل النفيس (رمزيًّا) لاستشفاف مستوياتٍ أعمق للحركة الدرامية. ولنركز على الثنائي آرييل وكاليبان اللذين تقاربَت صورهما كثيرًا من بعضهما البعض في العروض الحديثة للمسرحية، ولننظر كيف يمكن تفسير دورَيهما تفسيرًا يميز بينهما حتى في الربط بينهما على مستوًى آخر: إن آرييل كائنٌ من الهواء («أنت هواءٌ محض» (٥ / ١ / ٢٠)) وهو مرتبطٌ بالنار؛ إذ يحكي في الفصل الأول (المشهد الثاني) كيف تبدَّى للملَّاحين «في صورة لهب» (١٩٧)، وتحديده الظهور «على رأس السارية» (١٩٩)، يعني أنه كان يمثِّل ما يُسمَّى بضوء أو نار القديس إيلمو، وهو الذي درج الكُتاب على اعتباره «القديس الراعي» للملَّاحين، وإيلمو هو الاسم المشهور للقديس إرازموس (ت. عام ٣٠٣م تقريبًا)، وأما ذلك الضوء أو النار فهو الوهج أو الشرارة التي يراها الملَّاحون في الظلام، نتيجة الْتقاء رأس السارية أو رأس برج الكنيسة بشحنةٍ كهربية في الجو، وهكذا فإن آرييل يمثِّل عنصرَين رفيعَين هما الهواء والنار معًا، في مقابل كاليبان «الأرضي» الذي يقول له بروسبيرو «يا طين!» (أو يا تراب!) (١ / ٢ / ٣١٦)، وهو صاحب «ينابيع الماء العذب» (١ / ٢ / ٣٢٩)، التي أرشد إليها بروسبيرو وابنته، فهو يمثِّل عنصرَي التراب والماء معًا، بحيث يضم آرييل وكاليبان فيما بينهما العناصر الأربعة جميعًا، أي العناصر التي كان الناس في عصر النهضة يعتقدون أن الدنيا تتكون منها.
ويقدِّم نَتُول في الكتاب المشار إليه آنفًا رصدًا لتاريخ النظرة الرمزية أو التفسير الرمزي، قائلًا: إن إدراك هذه العلاقة في مطلع القرن التاسع عشر فتح الباب لتفسيرٍ رمزي للروح على أُسس علم النفس السائد في القرن السابع عشر (ص٢)، وهو يتابع تطور هذه القراءات النقدية الرمزية حتى بواكير القرن العشرين، ولكن هذه القراءات قد فقدَت أنصارها ولم تعُد تحظى بالقبول والترحاب الذي تحظى به القراءات «المادية» والسياسية، وهي قراءاتٌ تختلف اختلافًا بيِّنًا، ومع ذلك فقد صدر عام ١٩٨٥م كتابٌ ألَّفه مايكل ستريجلي (Strigley) بعنوان صور بعْث الحياة: دراسة للعاصفة لشيكسبير في إطار خلفيتها الثقافية، ويرى فيه أن المسرحية حدثٌ رمزي «يصور الحياة البشرية في صورة تحولاتٍ خيميائية alchemical تتضمن الانحلال وبعث الحياة وفْق الأفكار التي أشاعتها مدرسة بارسيلوس الطبية» (ص١٩). والمعروف أن بارسيلوس المذكور (Parcelsus) (١٤٩٣–١٥٤١م) كان علامًا في الكيمياء، واشتهر بأنه كان رائدًا للاستفادة من المكتشَفات الكيميائية (آنذاك) في مجال الطب، ولكثرة تنقُّله بين الجامعات الأوروبية (بسبب صعوبة تقبُّل مناهجه الجديدة) ذاع عنه (ربما من باب الافتراء) أنه كان أقرب إلى «علم» الخيمياء (تحويل المعادن إلى ذهب) منه إلى علم الكيمياء! ولعلنا نذكر أن إسحاق نيوتن العظيم نفسه قد أفتتن بهذا العلم القديم، وبذل فيه جهودًا جبارة (بلا طائل، بطبيعة الحال)، والمهم هنا هو التحول أو التحولات التي يقول بها ستريجلي، ويدلل عليها بصورٍ شعرية كثيرة في النص، حتى إن القارئ ليشعر أحيانًا بالإرهاق من مجرَّد تتبع حججه أو «براهينه» وإن كانت نظرته الرمزية لها وجاهتها.
ولكن الرومانس — إذا قر رأينا على هذا التصنيف للمسرحية — نوعٌ أدبي يقبل في جوهره التفسير الرمزي، بل إن ثقافة عصر النهضة كانت مشبعة على كل مستوى وفي كل عملٍ أدبي (مهما كان نوعه) بالدلالات الرمزية، وكما يقول لندلي في مقدمته: «من الصعب أن نتصور أن شيكسبير لم يكن يتوقع عندما أبدع شخصيتَي آرييل وكاليبان أن تقبلا مثل هذا التفسير» (ص٦٤). أما سبب معارَضة النقد المعاصر لهذا التفسير وأشباهه، فربما كان يرجع إلى أن كل تفسيرٍ رمزي، كما يقول أنجوس فلتشر (Fletcher) في كتابه «القصة الرمزية: نظرية إحدى الطرائق الرمزية» (١٩٦٤م) يعتمد في جوهره على الشكل الهرمي للسلطة (المراتبية)، لا بسبب استخدامه للصور التقليدية فحسب، وهي التي تنتظم في أنساق مقابلاتٍ وتوافقات، بل أيضًا لأن كل شكلٍ هرمي للسلطة يتضمن سلسلة من الآمرين والمأمورين» (ص٢٢-٢٣). ولن أفيض في هذه القضية فقد تعددَت تفسيرات آرييل وكاليبان، التي تؤكد صحة ما ذهب إليه فلتشر، بل وتفسر لنا كثرة ما كتب عن «علاقات السلطة» في المسرحية استنادًا إلى أمثال هذه التفسيرات الرمزية، وإن كان يجب أن نتوقف عند التفسير الذي اكتسب قوة في القرن العشرين، بسبب نشأة التحليل النفسي وذيوعه.

ألا نستطيع من هذه الزاوية أن نعتبر آرييل وكاليبان رمزَين يكمل بعضهما البعض أو قل متكاملَين؟ معنى هذا أنهما يمثِّلان جانبَين من شخصية بروسبيرو أكثر مما يمثِّلان شخصَين متفردَين على المستوى الواقعي! لقد سبق أن أشرتُ إلى إمكان اعتبار آرييل رمزًا لطاقة الخيال في ذهن بروسبيرو، أي الطاقة التي تنفِّذ وتجسِّد الأفكار التي تدور بذهن بروسبيرو، وهو يقول بما يوحي بذلك «أنا رهن فكرك!» (٤ / ١ / ١٦٥)، وهو يجعل الحياة تدب في أي تصوراتٍ يبتكرها ذهن بروسبيرو، بمعنى أنها تصبح مرئية وملموسة!

وأما كاليبان فما أيسر أن نقرنه بالأنا السفلى أو «الليبيدو»، أو ما كان يُسمَّى في الإنجليزية id، فهي تُفسَّر أحيانًا بالغريزة الحيوانية وأحيانًا بالطاقة النفسية المنبعثة منها (في التحليل النفسي)، أو قل إنه يمثِّل العاطفة المشبوبة الجائحة والجسد المتمرد، وهما ما يحاول بروسبيرو أن يتغلب عليه بل ويلغيه باستغراقه في الدرس والتأمل للكون. وقد شهد القرن العشرون محاولاتٍ ناجحة لتقديم هذه الرؤية الرمزية، أهمها — إبداعًا — قصيدة البحر والمرآة للشاعر أودن التي سبق الإشارة إليها، وفيلم الكوكب المحرَّم الذي سبقَت الإشارة إليه أيضًا.
وقد تطرق التحليل النفسي أيضًا للعلاقة الرمزية بين الأب وابنته باعتبارها علاقةً أسرية، والأسرة في العصر الإليزابيثي كانت ذات قداسةٍ خاصة، ربما كانت مستوحاة من الصورة الدينية المعروفة، أو كانت ذات دلالةٍ أعمق على المستوى الإنساني، كما تقول رُوث نيفو (Nevo) في كتابها لغة شيكسبير الأخرى (١٩٨٧م)، فهي تقول: إنه لا بد من «إنقاذ» الوالد وابنته من هذا الوهم الرائع.

بل أجمل الأوهام جميعًا، وهو أن يعيش الوالد وابنته، وحدهما معًا، دون منافسٍ يدعو للتحدي، ودون تمرُّد يهددهما، ودون فوَرانٍ جنسي يدمر استمتاعهما الطهور بالجمال، والطاعة، والحب، ومراعاة بعضهما البعض … وما ذاك إلا وهمٌ من نسْج التمني، مثل وهم الملك لير الذي يتمنى أن يغنِّي مثل طائرٍ حبيس في قفصٍ مع كورديليا داخل السجن، أو قل إنه وهْم أي أب أو أم.

(ص١٣٣-١٣٤)

والمقارنة التي تعقدها مع مسرحية الملك لير مقارنةٌ تصبُّ مباشرة في التفسير الرمزي لهذه العلاقة من وجهة نظر التحليل النفسي، فتصوير الحرية في صورة سجن من المفارقات التي تنطبق على جزيرة بروسبيرو أيضًا؛ فهي مكانٌ رُفِع إلى مكانة الجنة، وإن كان الفرار منه محتومًا!

(ز) التحليل النفسي

ويقول دُعاة التحليل النفسي — ومن بينهم نقادٌ ومخرجون — إن على بروسبيرو أن يتخلى عن ابنته لمن يتزوجها، وعليه من ثَم أن يعترف بأن لها حياةً جنسية، وهم يفسرون من هذا المنظور معاملته القاسية لفرديناند، كأنما يرى فيه — على مستوى اللاوعي — منافسًا جاء ينتزع ابنته! فهو يجمِّد حركة سيفه في الفصل الأول، ويصر على العفة الكاملة قبل الزفاف في الفصل الرابع، ويفرض عليه عقوبة حمْل الأخشاب، كأنما يوازي في اللاوعي بينه وبين كاليبان الذي حاول المساس بتلك العفة، كما يقول دافيد ساندلسون (Sandelson) في دراسةٍ له وردَت في كتابٍ بعنوان تمثيل شيكسبير: مقالاتٌ جديدة في التحليل النفسي (١٩٨٠م) من تحرير مري م. شوارتز (Shwartz) وكوبيليا كان (Kahn)، (ص٣٣–٥٣). وهو لا يسمح لفرديناند بالظفر بميراندا إلا بعد «تهذيبه» عن طريق الماصْك (الذي غابت عنه فينوس ربَّة الحب)، ونلمح في النص إيحاءً بأن «خسارة» الوالد بفقد ابنته توازي حزنه لفقد آرييل، وهو يغادره في الجزيرة، مثلما يترك ابنته تعود إلى نابولي ويذهب هو إلى ميلانو! وقد ذهبَت مُخرجة للنص تُدعَى نانسي ميكلار (Meckler) إلى تجسيد هذا التوازي على المسرح، بإسناد دور آرييل إلى فتاةٍ في العرض الذي قدمَته فرقة الخبرة المشتركة عام ١٩٩٦-١٩٩٧م، وقالت في «برنامج العرض» (الذي نسمِّيه «البامفليت» في مصر): إن ميراندا هي العامل الحفاز (catalyst) في القصة، فلو كان من الممكن أن تظل طفلة إلى الأبد، وفي جسد طفلة، لما كان هبوب العاصفة لازمًا!
والحديث عن التحليل النفسي — منهج اقتناص الإشارات اللفظية والحركية للاستدلال على ما يمكن أن يكون وراءها من دوافع لا واعية و«عقد» نفسية نتيجة الكبت وما إلى ذلك، وهو المنهج الذي يرتبط باسم سيجموند فرويد، عالم النفس الذي ابتدع المنهج وتسميتَه — حديثٌ يطول، وهو مليءٌ بالتناقضات كشأن كل منهجٍ تفسيري يقتنص الإشارات ولو كانت عابرة أو غامضة؛ ليقيم عليها صرحًا رمزيًّا تأويليًّا يستخدم فيه لغة العلم؛ إذ إن سنادلسون المشار إليه يعود بعد زعْم الموازاة بين فرديناند وبين كاليبان في خيال بروسبيرو، فيزعم الموازاة بين بروسبيرو وفرديناند في خياله أيضًا! بل إنه يُرجع إلى الموازاة الأخيرة جانبًا من «التوافق العميق الذي يميز العاصفة» (ص٤٧). وتقول جانيت أدلمان (Adelman) في كتابٍ لها بعنوان خنق الأمهات (١٩٩٢م): إنها تأسف لتصوير شيكسبير لتلك السلطة الأبوية تصويرًا مفزعًا (وهو النقد المعهود من جانب دعاة مذهب النقد النسوي)، مؤكدة أن بروسبيرو يغتصب لنفسه دور الأم حين «يُخرج» آرييل من «رحم» الشجرة، فكأنما قد أخرجه من رحمه هو، أي كأنما ولده بنفسه! (ص٢٣٧).

(ح) النقد النسوي

عرض الكثير من النُّقاد لتهميش أدوار المرأة في المسرحية؛ إذ لا ذِكر لزوجة بروسبيرو، ولا اهتمام بكلاريبيل التي تزوجَت ملك تونس الإفريقي رغم أنفها، وأما تصوير ميراندا فهو الذي أثار عداوة دعاة النقد النسوي إثارةً عارمة؛ إذ ترى ناقداتٌ كثيرات أنها سلبيةٌ مطيعة تُوافق على ما يفرضه عليها والدها من «صَون لعفافها»، ولا تعترض على أن تكون قطعة شطرنج «تتبادلها الأيدي» في المفاوضات السياسية بين الرجال، بقبولها الزواج الذي يضمن توريث السلطة للرجال (وهو ما يتعرض للتهديد في نظرهن من جانب كاليبان). بل إن إحداهن وتُدعَى لوري جيريل لايننجر (Leininger) تختتم دراستها، التي تهاجم فيها المسرحية هجومًا ضاريًا، وتوازي فيها بين كاليبان وبين ميراندا المقهورة، بأن تكتب خاتمةً للمسرحية تقولها ميراندا وفي ذيلها ما يلي:
لا بد إذَن من وضع يدي في يد كاليبانْ
بل كل ضحايا الاستغلال وقهر الإنسانْ
حتى تتشابك أيدينا في يد كاليبانْ!
وهي الخاتمة التي يجب في رأيها أن تحل محل خاتمة بروسبيرو، التي لا تشير إطلاقًا إلى ميراندا بل تنصب على مشكلة «السلطة» عند بروسبيرو، التي تمثِّل في رأيها سلطة الرجل «الغاصب»! (انظر مقالها بعنوان «شرَك ميراندا: التعصب الجنسي والعنصري في مسرحية العاصفة لشيكسبير» في كتابٍ بعنوان دور المرأة (١٩٨٠م)، حررَته كارولين لينز (Lenz) وأخريات (٢٨٥–٢٩٤)). كما اتجهَت إحدى الناقدات واسمها كيت شدجزوي (Chedgzoy) إلى افتراض خضوع كاليبان لسلطة الاستعمار، فأقامت توازيًا جديدًا بين ميراندا وكاليبان، قائلة: إن ميراندا تستمد القوة من أبيها المستعمر لموازنة ضعفها الأنثوي، وكاليبان يستمد القوة من رجولته لموازنة ضعفه في ظل الاستعمار! (انظر كتابها أطفال شيكسبير الأغراب (ص٩٩)، وانظر كتاب لورا أ. دونالدسون (Donaldson) «تحرير المذاهب النسوية من الاستعمار» (١٩٩٢م)، حيث تستخدم تعبير «عقدة ميراندا» في فحص صورة ميراندا «المركبة» التي أشارت إليها شدجزوي).
ولكن النقد النسوي على هذا المنوال قد يدفعنا إلى التساؤل عما إذا كان من المشروع أن يقيم الناقد نظرته لعملٍ أدبي على أساس القيم أو الأيديولوجيات السائدة في عصره، وهو ما تفعله آن طومسون (Thompson) في دراسةٍ لها عن العاصفة في كتاب النقد النسوي: النظرية والتطبيق (١٩٩١م) من تحرير سوزان سيلرز (Sellers)؛ إذ تنعي عليها «الخنوع» والاستسلام لوالدها، وإن كان ذلك يتخذ صورة «الطاعة» التقليدية (ص٥٤).

ويذكرنا لندلي في مقدمته بأن ما يوصف بالانصياع ظاهري فحسب؛ فميراندا تُثبت استقلالها حين تدفعها عاطفة الحب، فتعارض والدها، قائلًا: إنها هنا تشبه هيرميا في حلم ليلة صيف، وهي «تؤكد معارَضتها له في ف٣/م١، حيث تقوض تمامًا محاولة أبيها للسيطرة عليها، بأن تتزوج الرجل الذي تظن أنه يعترض عليه؛ إذ إن ما يحدث في الواقع هو زواجٌ سرِّي، وإن كان صحيحًا شرعًا في المشهد» (ص٧٢ من المقدمة).

ويشرح لندلي ذلك في حاشيته على الحوار التالي:

ميراندا : أنت زوجي إذَن؟
فرديناند : نعم! بقلبٍ يريده مثلما يريد العبد أن يتحرر!
هاكِ يدي!
ميراندا : وهاك يدي أيضًا، وقد وضعتُ قلبي فيها! الآن وداعًا!
(ف٣/م١ / ٨٧–١٩٠)
فيقول: إن شروط الزواج الملزم قانونًا في إنجلترا في ذلك الوقت كانت تختلف عن أيامنا هذه؛ «إذ يقول مارتن إنجرام Martin Ingram ما يلي: «لم يكن الشرط الأساسي والجوهري لرباط الزوجية الملزم قانونًا، يتمثَّل في الاحتفال الرسمي بالزفاف في الكنيسة، بل يقتصر على عقد (contract) يُسمَّى باللغة الشائعة «عقد العرس» (spousals) أو التثبت (making sure) أو ضم الأيادي (hand fasting)، وهو الذي يجعل الرجل والمرأة زوجًا وزوجة، حين يشيران إلى ذلك بكلماتٍ في الزمن الحاضر (per verba de praesenti)» (من كتاب Church courts, sex and Marriage in England, 1570–1640 الصادر عام ١٩٨٧م، الصفحات ٩٠–٩٢).» ويستمر لندلي في حاشيته قائلًا: «وقد فعل هذا فرديناند وميراندا (السطر ٨٥ وما بعده) وقد بُذلَت جهودٌ جبارة في القرنَين السادس عشر والسابع عشر، لفرض الاحتفال بالزواج في الكنيسة والحصول على موافقة الوالدين، ولكن أمثال العقود المذكورة كانت لا تزال تعتبر ملزمة، رغم المعترضين عليها، وكثيرًا ما أدَّت إلى إتمام دخول الزوج بزوجته قبل أي احتفالٍ علني بالزفاف. وعلينا إذَن أن ننظر إلى قلق بروسبيرو وحرصه على ضرورة ممارسة العروسَين لضبط النفس (ف٤/م١ / ١٥–٢٣، ٥١–٥٤) في هذا السياق؛ إذ كان يُعرَف من مشاهدة ذلك اللقاء خلسةً أن الزواج قد تم فعلًا» (ص١٦٢ من طبعة المسرحية).
وقد ترجمتُ هذه الحاشية كلها في هذه المقدمة بدلًا من تلخيصها؛ لأنها ذات دلالةٍ جوهرية لمعنى الحدث، حتى على المستوى الواقعي، وبعيدًا عن تفسيرات المفسرين، وإن كان ينبغي علينا ألا نبالغ في مدى تمرُّد ميراندا على والدها، فلا بد أنها تشرَّبَت ثقافة عصرها (التي علَّمها والدها لها، وأقرَّها جمهور المسرحية في عصر شيكسبير) بشأن قيمة العفة؛ فهي تقول لفرديناند: «أقسم بعفتي/جوهرة صداقي» (ف٣/م١ / ٥٤-٥٥). فهكذا كانت تقاليد العصر، وإن وجدَتها نصيرات النقد النسوي «متخلفة»! ولكن نصيرات النقد النسوي لا يعترضن على أقوال ميراندا نفسها بقدر ما يعترضن على ما يرينه من «تحكُّم بروسبيرو في الحياة الجنسية لميراندا قبل تسليمها إلى فرديناند» على حد تعبير آن طومسون في الكتاب المشار إليه آنفًا ص٥٠، وقد رد أحد النُّقاد على هذه الناقدة فقال إن هذه وجهة نظرٍ منحازة، حتى إذا أحسنَّا تقديرها؛ إذ إن بروسبيرو يدافع عن ابنته وينقذها من محاولة اغتصاب، ويحاول أن يضمن أن الرجل الذي تقع في غرامه يتمتع بمكانةٍ لائقة وخلقٍ كريم، وهي طموحاتٌ معتادة في الآباء! ولعلنا لا ننسى أن بروسبيرو لا يحاول كبت ميول ميراندا الجسدية في مقدمته للماصْك بل ميول فرديناند، ويقول أحد النُّقاد إنه بذلك يعارض ازدواجية المعايير في عصره، وهي التي كانت تُعلي من شأن عفة المرأة إلى أقصى حد، وتتهاون كثيرًا في موقف الرجل، فكأنما يبشر بما قاله جون دَن (Donne) الشاعر في إحدى مواعظه الشهيرة!

ويضيف لندلي في مقدمته إلى هذه الأقوال أو «التراشقات» بين دعاة النقد النسوي ومن يتهمونهن بالمغالاة، رأيًا أراه جديرًا بالتلخيص هنا، فهو يقول: إن ميراندا لا يمكن اتهامها بعدم الوعي برغباتها الجسدية؛ فإنَّ رد فرديناند على بروسبيرو في (ف٤/م١ / ٥٤-٥٥):

إن الثلوج البكر الباردة البيضاء
تحيط بقلبي وتخفف من وقدة كبدي.

ودلالة التصوير في رقصات رجال الحصاد مع الحوريات؛ تتفق — فيما يبدو — مع افتراض ذلك العصر أن حرارة قلب المرأة لا تتولد تلقائيًّا بل يشعلها زوجها، ورغم أن ميراندا تقِلُّ صراحةً عن جوليت في التعبير عن شوقها إلى زوجها (انظر: روميو وجوليت (ف٣/م٢ / ١))؛ فإن ميراندا تعي تمامًا ما تقول، إنها «ترغب في مَنحه»، وأن عدم حصولها عليه «يقتلها» (ف٣/م١ / ٧٧-٧٨). وهي لا تنتظر أن يشعل زوجها (أو خطيبها) نار الحب أو الرغبة، بل تأخذ بزمام الحدث في ذلك المشهد قائلةً: «إنني زوجتك إن أردتَ الزواج مني»! ويختتم لندلي عرض وجهة نظره قائلًا: «وعلى هذا الأساس إذَن، فمن الممكن أن نقول إن المسرحية تصور ميراندا في صورةٍ أكثر استقلالًا مما يسمح به دعاة النقد النسوي» (ص ٧٣ من المقدمة). ونحن لا شك نذكر ما قاله كولريدج عن بناء هذا المشهد، وقد سبق لنا إيراد مقتطف من حديثه عن «البناء العضوي» (أو الحيوي) في المسرحية، ونضيف هنا أنه يعتبر المشهد تحفةً رائعة بسبب إشراق عِصيان ميراندا لأبيها لأول مرة! (المرجع السابق ص٢٢٧) مضيفًا أنه مشهدٌ مصوَّر بحذقٍ بالغ ونقاءٍ خلَّاب!

(٨) لغة الشعر والمسرح

وأنتقل في الختام — خشية أن تطول «المقدمة» إلى أبعد مما قدَّرتُ لها — إلى مشكلةٍ تتصل بهذه الترجمة العربية نفسها، وكيف تصديتُ لهذا النص القصير نسبيًّا، والذي يتميز «بالضغط» (condensation) الذي تزهو به لغة الشعر، وبندرة «الصور الشعرية» التقليدية، واعتماد الحوار على الأبنية «الحيوية» للشخصيات لا على التتابع المنطقي للأفكار، وكل ذلك (وإن كان معروفًا في العربية الفصحى) غيرُ مألوف في فنون اللغة العربية الحديثة، ولأبدأ بإيضاح ما ذكرتُه في مطلع المقدمة عن الْتقاء الشعر والمسرح وتضافرهما تضافرًا يصعب تفكيكه: إن البناء المسرحي هنا يأخذ من الشعر هيكل الاستعارة العام، وهو الهيكل الذي يتبدَّى لنا — كما سبق أن أوضحتُ — في الحدث الأساسي وعلاقة بروسبيرو بمن حوله، ويتجلَّى في ومضات الصور المتفرقة التي تمثِّل بناءً داخليًّا (نفسيًّا) يتطور مع تطوُّر الحدث إلى ذروةٍ درامية، ومثلما يأخذ المسرح من الشعر هيكل الاستعارة العام، يأخذ الشعر من المسرح ملامح الصراع الدائر بين «قوى» الفعل المسرحي، فينزع أحيانًا إلى الانتظام بالتزام الوزن والقافية في الأغاني مثلًا؛ ليبرز لحظات التوافق الظاهري المستمد من غلبة الموسيقى، ولكنه يميل في سائر العمل إلى التمرد على الانتظام، فتخرج سطورٌ كثيرة في إيقاعٍ يقارب إيقاع النثر، بل ويتحول إلى نثرٍ صريح في عدة مشاهد، اعتمادًا على «الأبنية الحيوية» للشخصيات في اللحظات الدرامية المختلفة، أي على الحركة النفسية الداخلية لا على حركة الأفكار! فإذا بالصور الشعرية القليلة وقد أسهمَت في تلك الحركة الداخلية، وهو ما يغفله منهج كارولاين سبيرجون (Spurgeon) الإحصائي، وتشير إليه روزموند تيوف (Tuve) في دراستها للصور الإليزابيثية والميتافيزيقية.
خذ مثلًا: إيقاع النظْم المرسل (غير المقفَّى) في بعض المشاهد (أي بخلاف الأغاني المنظومة المقفَّاة والمَشاهد النثرية). إن فرانك كيرمود يقول محقًّا إن هذا الإيقاع خافِت لا نكاد نستشعره، كأنه وهمٌ لا تكاد تدركه الأذن في تدفُّق الأفكار، (وهو يستخدم كلمتَي ghostly وfaint في وصفه)، مثل الصور التي يجرفها تيار الحدث (ص٧٩ من المقدمة). ولكن شيكسبير يستند هنا، بدلًا من الصور الممتدة (extended) التي اشتهر بها، على الطباق والتكرار، فيقدِّم لنا في حديث فرديناند مثلًا في مطلع الفصل الثالث سلسلة من المقابلات التي تجسد المفارقة التي تتميز بها هذه المرحلة من مراحل الحدث: متعة/ألم، تافه/شريف، جليل/صغير، حياة/موت، جهد/لذة، رقة/قسوة … إلخ، وهي سلسلةٌ تربط استعاريًّا (أو رمزيًّا) هذا «الشريف» (ابن الملك) «بالوضيع» كاليبان، العبد الذي يخدم سيده بإحضار الحطب لإشعال النار مثل فرديناند! وهذا الربط الدفين يوازي ربطًا آخر يتكشف لنا في غضون المشهد، وهو كيف استطاع ذهن فرديناند تحويل «عبودية نقل الحطب» (سطر ٦٢) (wooden slavery) التي يمثِّلها ما يقوم به في خدمة (service) بروسبيرو إلى «عبادة» (service) للحبيبة التي قال إنها «ربة» من ربَّات الجزيرة؟! والتورية في الكلمة الإنجليزية غير مباشرة؛ بمعنى أنه لا يفصح عنها في عبارةٍ مباشرة بل هي مضمرة في معنى الحدث الذي يكشف عنه حديثه كله! أي إننا نشهد مفارقة لا على مستوى الصورة الشعرية المفردة، بل على مستوى حدثٍ كامل أدَّى إلى توازن الأضداد، وبزوغ عاطفةٍ تبرر هذا التوازي وتجعله مستساغًا!

ولن أتوسع في تحليل بناء هذا المشهد القصير، ولكنني أود أن أوضِّح فحسب أن ضغط البناء هنا يشبه ضغط لغة الشعر؛ فالبدايات التي تراعي ما يُسمَّى «باللغة الرسمية» تتوقف فجأةً حين تفاجئ ميراندا حبيبها بسؤالها المباشر:

فرديناند : … في اللحظة التي شاهدتُك فيها أول مرة
طار قلبي إليك، شوقًا لعبادتك! وأقام لدَيك

حتى يستعبدني! ومن أجلك أصبحتُ حمَّالًا صبورًا للحطب!
ميراندا : هل تحبني؟
(ف٣/م١ / ٦٤–٦٧)
وبعد حوارٍ يراعي ما أشرتُ إليه باسم «اللغة الرسمية» المعهودة في حوارات العشاق، تفاجئ ميراندا حبيبها من جديد بعبارةٍ تفاجئنا أيضًا: «إنني زوجتك إن أردتَ الزواج» (سطر ٨٣)، وتتبعها بتشابك الأيدي الذي يتم به «عقد» القران، كما أوضحتُ ذلك في الفقرة المترجمة عن لندلي آنفًا، وتكرِّر له أنها على استعداد، إذا رفض الزواج منها، لقضاء عمرها خادمةً له/أمةً له، أي إنها تكرر صورة عبودية الحب باستخدام التورية في الكلمة الإنجليزية (serve)، بعد أن وازى هو بين المعنيَين في الحوار المقتطَف هنا باستخدام كلمة (service) في السطر ٦٥ وكلمة (enslave) في السطر ٦٦.
وأنا مدينٌ بهذا الرأي إلى كتاب شيكسبير وطبيعة المرأة، الذي كتبَته جوديث دوزنبير (Dusinberre) عام ١٩٧٥م، وأود أن أختتم هذا العرض لهذا المشهد القصير باقتطاف عبارة لها تقول فيها: إن «شيكسبير يستخدم صورة العبادة المتبادلة للكشف عن طبيعة الحب، لا ليكشف عن تصوراتٍ مسبقة عن طبيعة المرأة، كشأن عبادة الرجل» (ص١٥٧). ومن الطبيعي ألا يلقى هذا الكتاب إلا الهجوم من جانب دعاة النقد النسوي، وإن كان يتبنى في الواقع وجهة نظر النقد النسوي «المعتدِل» أو الهادئ في مراحله الأولى، قبل المغالاة والتشدد!

هذا المشهد وأمثاله إذَن من المشاهد التي لا يلعب النظْم اللفظي فيها دورًا كبيرًا، بل يأخذ من الشعر ما سبق أن أسميتُه ضغط التعبير وهيكل الاستعارة العام الذي يكشف عنه الحدث، ومن الطبيعي — والحال هكذا — ألا أضحِّي بدقة التعبير المضغوط نشدانًا لإيقاع النظْم في الترجمة العربية، بل وجدتُ في دقة الصياغة التي تحاكي ما يرمي إليه الأصل ما يكفي لإبراز خصائص الدراما الشعرية.

وأما استخدام النظْم باعتباره العنصر الأساسي للشعر في عددٍ كبير من المواقف، وفي الأغاني المقفاة، دون الْتفاتٍ مماثل إلى ضغط التعبير وسائر مظاهر الشعر المعروفة؛ فلقد جاريتُه في الترجمة العربية بالنظْم المقفَّى، فأما الأغاني فوضعتُها في صورتها الأصلية، وفي شعرٍ عمودي إن كان الأصل عموديًّا، وفي سطورٍ متفاوتة الطول إن كان الأصل كذلك، وأما «القِطع» الأخرى التي يلعب فيها النظْم دورًا كبيرًا (حتى دون قافية)، مثل مشهد الماصْك في الفصل الرابع، أو مناجاة بروسبيرو للجنيات في الفصل الخامس وما يتلوها من استدعاء الموسيقى حتى تعيد «المذهولين» إلى صوابهم، فقد ترجمتُه بالشعر المرسل؛ لأن ترجمة الشعر في نظري لا تقتصر على تقديم المعنى دون الشكل، فإذا كان الشكل يقوم على النظْم (لا على الضغط والدقة) كان لا بد من النظْم!

وختامًا لهذا العرض للقراءات الحديثة لنص شيكسبير، أُحيل القارئ إلى كتابٍ أعتبره من أوفى ما كُتِب في الموضوع وعنوانه حُرِّياتٌ جديدة: النظرية [النقدية الحديثة] والأدب الإنجليزي في عصر النهضة (١٩٩٢م)، ومؤلِّفه يُدعَى توم هيلي (Healy)، ويبين فيه أن علاقتنا بشيكسبير مثل علاقتنا بأي نصٍّ أدبي قديم من المحتوم «أن تتشكل من خلال التشابك المعقَّد بين الماضي والحاضر؛ فلحظات استقبال أو تلقِّي النص لا تقل أهمية عن لحظات إبداعه أو إنتاجه» (ص١١). أي إننا لم نعد نقتنع بما يزعمه أصحاب المدرسة الشكلية بأن النص الأدبي عالَمٌ قائم برأسه خارج اللحظة التاريخية، وبأنه ذو نفوذ «لا زمني» لأنه يجسد حقائق إنسانية «لا زمنية»، بل لقد سقط الاستناد إلى التاريخ في ذاته (أي حقائق التاريخ «الموضوعي» لو استطعْنا تحديدها بأي قدرٍ من الدقة!) باعتباره العامل الذي يضمن التوصل إلى ما كان يُسمَّى بالمعنى الأصلي أو الحقيقي (authentic) … سقط التاريخ بهذه الصفة، مثلما سقطَت الثوابت النقدية القديمة وحلَّت محلها نظرياتٌ نسبية، تجعلنا نزداد وعيًا بتدخل «افتراضاتنا» التي تحكمها ثقافتنا في أي تفسير للنص، بل لقد وصل الأمر ببعض النُّقاد الذين بالغوا في أهمية «لحظات التلقِّي» (المشار إليها)، إلى الزعم بإنكار «وجود النص في ذاته» بل أبدلوه بسلسلةٍ من «صور النص» التي تتغير على امتداد التاريخ!

ويقول هيلي أيضًا: إنه من الطبيعي أن نجد «أن انغماسنا في الحاضر هو الذي يملي اهتمامنا بالماضي» (ص١٠). على نحو ما رأينا من قراءاتٍ في إطار «ما بعد الاستعمار»، وعلاقات القوة أو السلطة، والتحليل النفسي، والنقد النسوي، والتفسيرات الرمزية وغيرها مما خصصتُ له الجانب الأكبر من هذه المقدمة، ولكن هذا لا يعني إسقاط التاريخ تمامًا، بمعنى اختبار صحة ما يُفترض عن القرن السابع عشر في ضوء النص القائم بين أيدينا، ولا يعني أن النص عاجزٌ عن ممارسة قدر من «النفوذ» أو «السلطة» (!) — وهو ما ينكره أصحاب النظرية (أي نظريات النقد الحديثة) — بحيث يمكنه أن يحدد لنا مدى اتفاق بعض السياقات، التي يضعها المحدثون له معه أو افتراقها عنه.

ويقول لندلي في مقدمته: «إذا كانت إزالة الحواجز بين النصوص المختلفة قد أثمرَت في السنوات الأخيرة ثمارًا يانعة ووافرة، فأثْرَت تفهُّمنا للتشكيل الثقافي، فإن الخطر الملازم لهذه الإزالة هو تصور الألمعي أن أي شجيرةٍ دب!» (ص٨٢). أي إن نشدان القراءة الثقافية وحدها للنصوص قد يوقعنا في أوهامٍ أو تصوراتٍ خاطئة، ويضيف قائلًا: «وهكذا أيضًا فإن الكثير من القراءات الحديثة العهد للمسرحية، على الرغم من إعلانها استحالة تحديد معنى العمل، تقدم على تحديد معناه بصورةٍ قاطعة، بل تتميز بانحيازٍ واضح في القراءة التي تقدمها» (نفس المرجع والصفحة).

وتقول آن بارتون (Barton) في مقدمة طبعتها للمسرحية عام ١٩٦٨م: إن العاصفة مسرحية «كريمةٌ كرمًا لا حدود له! إذ سوف تسمح بأي تفسير — تقريبًا — أو بأي «مجموعة» من المعاني التي نفرضها عليها! بل إنها سوف تجعل هذه المعاني تسطع وتتوهج!» (ص٢٢). ولا شك أن المسرحية تشير إلى نطاقٍ واسع من القضايا و«اللغات» الثقافية والسياسية والاجتماعية، وعلينا كما تقول بارتون وكما يقول تيرنس هوكس (Hawkes) في كتابه: ما نعنيه بشيكسبير (١٩٩٢م)، أن ندرك تفاعلها وتشابكها؛ حتى لا نحبس النص في معنًى واحد وهو خطأٌ نقدي، ما أحرانا أن نتجنبه!

وأخيرًا فأرجو أن أكون قد وُفِّقتُ في تقديم صورةٍ عربية صادقة للمسرحية، وأن تساهم المقدمة في إيضاح ما قد يحتاج إلى إيضاح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤