باب المنظوم

صورنا لك بالمجلد الأول حالة الشعر في صدر الدولة العباسية وذكرنا لك جملة صالحة من شعراء ذلك العصر ووعدناك بذكر مختارات من شعرهم، وإليك ما وعدناك به.

(١) بشار بن برد العقيلي١

سأله المهدي لما دخل عليه فقال له: فيمن تعتد يا بشار؟ فقال: أما اللسان والزي فعربيَّان وأما الأصل فعجمي، كما قلت في شعري يا أمير المؤمنين:

ونبئت قومًا بهم جنة
يقولون من ذا وكنت العلم
ألا أيها السائلي جاهدًا
ليعرفني أنا أنف الكرم
نمت في الكرام بني عامر
فروعي وأصلي قريش العجم
فإني لأُغني مقام الفتى
وأصبي الفتاة فما تعتصم

وكان أبو دلامة حاضرًا، فقال: كلا! لوجهك أقبح من ذلك، وجهي مع وجهك، فقال بشار: كلا! والله ما رأيت رجلًا أصدق على نفسه وأكذب على جليسه منك، والله إني لطويل القامة، عظيم الهامة، تام الألواح، أسجح الخدين، ولرب مسترخي المزورين للعين فيه مراد. ثم قال له المهدي: من أي العجم أصلك؟ فقال: من أكثرها في الفرسان وأشدها على الأقرانن أهل طخارستان؛ فقال بعض القوم: أولئك الصغد، فقال: لا! الصغد تجار؛ فلم يردد ذلك المهدي.

وكان بشار كثير التلون في ولائه، شديد التشيع والتعصب للعجم، مرة يقول يفتخر بولائه في قيس:

أمنت مضرة الفحشاء إني
أرى قيسًا تشب٢ ولا تضار
كأن الناس حين تغيب عنهم
نبات الأرض أخطأه القطار
وقد كانت بتدمر خيل قيس
فكان لتدمر فيها دمار
بحي من بني عيلان شوس
يسير الموت حيث يقال ساروا
وما نلقاهم إلا صدرنا
بري منهم وهم حرار

ومرة يتبرأ من ولاء العرب فيقول:

أصبحت مولى ذي الجلال وبعضهم
مولى العريب فجد بفضلك فافخر
مولاك أكرم من تميم كلها
أهل الفعال ومن قريش المشعر
فارجع إلى مولاك غير مدافع
سبحان مولاك الأجل الأكبر

وقال يفتخر بولاء بني عقيل:

إنني من بني عقيل بن كعب
موضع السيف من طلى الأعناق

وولد بشار أعمى، فما نظر إلى الدنيا قط، وكان يشبه الأشياء بعضها ببعض في شعره، فيأتي بما لا يقدر البصراء أن يأتوا بمثله؛ فقيل له يومًا وقد أنشد قوله:

كأن مثار النقع فوق رءوسنا
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

ما قال أحد أحسن من هذا التشبيه، فمن أين لك هذا ولم تر الدنيا قط ولا شيئًا فيها؟ فقال: إن عدم النظر يقوي ذكاء القلب ويقطع عنه الشغل بما ينظر إليه من الأشياء، فيتوفر حسه وتذكو قريحته؛ ثم أنشدهم قوله:

عميت جنينًا والذكاء من العمى
فجئت عجيب الظن للعلم موئلا
وغاض ضياء العين للعلم رافدًا
بقلب إذا ما ضيع الناس حصلا
وشعر كنور الأرض لاءمت بينه
بقول إذا ما أحزن الشعر أسهلا

وكان من أشد الناس تبرمًا بالناس. وكان يقول: الحمد لله الذي ذهب ببصري. فقيل له لم يا أبا معاذ؟ قال: لئلا أرى ما أبغض.

وقال الأصمعي: بشار خاتمة الشعراء، والله لولا أن أيامه تأخرت لفضلته على كثير منهم. وقيل لأبي عبيدة: أمروان أشعر أم بشار؟ فقال: حكم بشار لنفسه بالاستظهار، إنه قال ثلاثة عشر ألف بيت جيد، ولا يكون عدد الجيد من شعر شعراء الجاهلية والأسلام هذا العدد، وما أحسبهم برزوا في مثلها، ومروان أمدح للملوك.

وسئل الأصمعي عن بشار ومروان أيهما أشعر؟ فقال: بشار؛ فسئل عن السبب لذلك، فقال: لأن مروان سلك طريقًا كثر من يسلكه، فلم يلحق بمن تقدمه وشركه فيه من كان في عصره، وبشار سلك طريقًا لم يسلك وأحسن فيه وتفرد به، وهو أكثر تصرفًا وفنون شعر، وأغزر وأوسع بديعًا، ومروان لم يتجاوز مذهب الأوائل.

وقيل لبشار: ليس لأحد من شعراء العرب شعر إلا وقد قال فيه شيئًا استنكره العرب من ألفاظهم وشك فيه، وإنه ليس في شعرك ما يشك فيه؛ قال: ومن أين يأتيني الخطأ؟ وولدت ها هنا، ونشأت في حجور ثمانين شيخًا من فصحاء بني عقيل ما فيهم أحد يعرف كلمة من الخطأ، وإن دخلت إلى نسائهم فنساؤهم أفصح منهم، وأيفعت فأبديت٣ إلى أن أدركت، فمن أين يأتيني الخطأ؟

كان جرير بن المنذر السدوسي يفاخر بشارًا، فقال فيه بشار:

أمثل بني مضر وائل
فقدتك من فاخر ما أجن
أفي النوم هذا أبا منذر
فخيرًا رأيت وخيرًا يكن
رأيتك والفخر في مثلها
كعاجنة غير ما تطحن

كان بشار يهوى أمرأة من أهل البصرة، فراسلها يسألها زيارته، فوعدته بذلك ثم أخلفته، وجعل ينتظرها ليلته حتى أصبح، فلما لم تأته أرسل إليها ليعاتبها فاعتذرت بمرض أصابها، فكتب إليها بهذه الأبيات:

يا ليلتي ترذاد نكرًا
من حب من أحببت بكرا
حوراء إن نظرت إليـ
ـك سقتك بالعينين خمرا
وكأن رجع حديثها
قطع الرياض كسين زهرا
وكأن تحت لسانها
هاروت ينفث فيه سحرا
وتخال ما جمعت عليـ
ـه ثيابها ذهبًا وعطرا
وكأنها برد الشرا
ب صفا وصادف منك فطرا
جنية إنسية
أو بين ذاك أجل أمرا
وكفاك أني لم أحط
بشكاة من أحببت خبرا
إلا مقالة زائر
نثرت لي الأحزان نثرا
متخشعًا تحت الهوى
عشرًا وتحت الموت عشرا

وكان إسحاق الموصلي لا يعتد ببشار ويقول: هو كثير التخليط في نثره، وأشعاره مختلفة لا يشبه بعضها بعضًا، أليس هو القائل:

إنما عظم سليمى حبتي
قصب السكر لا عظم الجمل
وإذا أدنيت منها بصلًا
غلب المسك على ريح البصل

لو قال: كل شيء جيد ثم أضيف إليه هذا لزيفه. وكان يقدم عليه مروان ويقول: هو أشد استواء شعر منه، وكلامه ومذهبه أشبه بكلام العرب ومذاهبها، وكان لا يعد أبا نواس البتة ولا يرى فيه خيرًا.

قال الجاحظ: كان بشار خطيبًا صاحب منثور ومزدوج وسجع ورسائل، وهو من المطبوعين أصحاب الإبداع والاختراع، المتفننين في الشعر، القائلين في أكثر أجناسه وضروبه. وقال الشعر في حياة جرير وتعرض له، وحكى أنه قال: هجوت جريرًا فأعرض عني، ولو هاجاني لكنت أشعر الناس، وكان يدين بالرجعة، ويكفر جميع الأمة، ويصوب رأي إبليس في تقديم النار على الطين، وذكر مثل ذلك في شعره فقال:

الأرض مظلمة والنار مشرقة
والنار معبودة مذ كانت النار

وقال بعض الرواة لأبي عمرو: من أبدع الناس بيتًا؟ قال الذي يقول:

لم يطل ليلي ولكن لم أنم
ونفى عني الكرى طيف ألم
وإذا قلت لها جودي لنا
خرجت بالصمت عن لا ونعم
روِّحي يا عبد عني واعلمي
أنني يا عبد من لحم ودم
إن في بردي جسمًا ناحلًا
لو توكأت عليه لانهدم

وهذه الأبيات لبشار.

قال: فمن أمدح الناس؟ قال الذي يقول:

لمست بكفي كفه أبتغي الغنى
ولم أدر أن الجود من كفه يعدي
فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى
أفدت وأعداني فأتلفت ما عندي

وهذه الأبيات لبشار.

ودخل بشار على إبراهيم بن عبد الله بن حسن، فأنشده قصيدة يهجو فيها المنصور ويشير عليه برأي يستعمله في أمره، فلما قتل إبراهيم خاف بشار، فقلب الكنية وأظهر أنه كان قالها في أبي مسلم، وحذف منها أبياتًا، وأولها:

أبا جعفر ما طول عيش بدائم
ولا سالم عما قليل بسالم

قلب هذا البيت فقال: أبا مسلم:

على الملك الجبار يقتحم الردى
ويصرعه في المأزق المتلاحم
كأنك لم تسمع بقتل متوج
عظيم ولم تسمع بفتك الأعاجم
تقسم كسرى رهطه بسيوفهم
وأمسى أبو العباس أحلام نائم

يعني الوليد بن يزيد.

وقد كان لا يخشى انقلاب مكيدة
عليه ولا جري النحوس الأشائم
مقيمًا على اللذات حتى بدت له
وجوه المنايا حاسرات العمائم
وقد ترد الأيام غرًّا وربما
وردن كلوحًا باديات الشكائم
ومروان قد دارت على رأسه الرحا
وكان لما أجرمت نزر الجرائم
فأصبحت تجري سادرا في طريقهم
ولا تتقي أشباه تلك النقائم
تجردت للإسلام تعفو سبيله
وتعري مطاه٤ لليوث الضراغم
فما زلت حتى استنصر الدين أهله
عليك فعاذوا بالسيوف الصوارم
فرم وزرًا ينجيك يابن سلامة
فلست بناج من مضيم وضائم

جعل موضع «يابن سلامة» «يابن وشيكة» وهي أم أبي مسلم.

لحا الله قومًا رأسوك عليهم
وما زلت مرءوسًا خبيث المطاعم
أقول لبسام عليه جلالة
غدا أريحيًّا عاشقًا للمكارم
من الفاطميين الدعاة إلى الهدى
جهارا ومن يهديك مثل ابن فاطم

هذا البيت حذفه بشار من الأبيات:

سراج لعين المسضيء وتارة
يكون ظلامًا للعدو المزاحم
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن
برأي نصيح أو نصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة٥
فإن الخوافي٦ قوة للقوادم
وما خير كف أمسك الغل أختها٧
وما خير سيف لم يؤيد بقائم
وخل الهوينا للضعيف ولا تكن
نئومًا فإن الحزم ليس بنائم
وحارب إذا لم تعط إلا ظلامة
شبا٨ الحرب خير من قبول المظالم
وأدن على القربى المقرب نفسه
ولا تشهد الشورى امرأ غير كاتم
فإنك لا تستطرد الهم بالمنى
ولا تبلغ العليا بغير المكارم
إذا كنت فردًا هرك القوم مقبلًا
وإن كنت أدنى لم تفز بالعزائم
وما قرع الأقوام مثل مشيع٩
أريب ولا جلي العمى مثل عالم

قال أبو عبيدة: ميمية بشار هذه أحب إلي من ميميتي جرير والفرزدق. وقال الأصمعي لبشار: يا أبا معاذ، إن الناس يعجبون من أبياتك في المشورة؛ فقال له: يا أبا سعيد، إن المشاور بين صواب يفوز بثمرته، أو خطأ يشارك في مكروهه؛ فقال له: أنت في قولك هذا أشعر منك في شعرك.

توفي ابن لبشار فجزع عليه، فقيل له: أجر قدمته، وفرط افترطته، وذخر أحرزته؛ فقال: ولد دفنته، وثكل تعجلته، وغيب وعدته فانتظرته، والله لئن لم أجزع للنقص لا أفرح للزيادة. وقال يرثيه:

أجارتنا لا تجزعي وأنيبي
أتاني من الموت المطل نصيبي
بني على رغمي وسخطي رزئته
وبدل أحجارًا وجال١٠ قليب
وكان كريحان العروس تخاله
ذوى بعد إشراق يسر وطيب
أصبت به في حين أورق غصنه
وألقى علي الهم كل قريب
عجبت لإسراع المنية نحوه
وما كان لو مليته بعجيب

قيل لبشار: إنك لتجيء بالشيء الهجين المتفاوت؛ قال: وما ذاك؟ قيل: بينما تقول شعرًا يثير النقع وتخلع به القلوب مثل قولك:

إذا ما غضبنا غضبة مضرية
هتكنا حجاب الشمس أو تمطر الدما
إذا ما أعرنا سيدًا من قبيلة
ذرى منبر صلى علينا وسلما

تقول:

ربابة ربة البيت
تصب الخل في الزيت
لها عشر دجاجات
وديك حسن الصوت

فقال: لكل وجه، فالقول الأول جد، وهذا قلته في ربابة جاريتي، وأنا لا آكل البيض من السوق، وربابة لها عشر دجاجات وديك، فهي تجمع لي البيض، فهذا عندها أحسن من «قفانبك» عندك. وسألته جارية مغنية لبعض ولد سليمان بن علي، وكانت محسنة بارعة الظرف، أن يذكرها في قصيدة ولا يذكر فها اسمها ولا اسم سيدها ويكتب بها إليها، فانصرف وكتب إليها:

وذات دل كأن البدر صورتها
باتت تغني عميد القلب سكرانا
«إن العيون التي في طرفها حور
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا»
فقلت أحسنت يا سؤلي ويا أملي
فأسمعيني جزاك الله إحسانا
«يا حبذا جبل الريان من جبل
وحبذا ساكن الريان من كانا»
قالت فهلا فدتك النفس أحسن من
هذا لمن كان صب القلب حيرانا
«يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا»
فقلت أحسنت أنت الشمس طالعة
أضرمت في القلب والأحشاء نيرانا
فأسمعيني صوتًا مطربًا هزجًا
يزيد صبًّا محبًّا فيك أشجانا
يا ليتني كنت تفاحًا مفلجة
أو كنت من قُضُب الريحان ريحانا
حتى إذا وجدت ريحي فأعجبها
ونحن في خلوة مثلت إنسانا
فحركت عودها ثم انثنت طربًا
تشدو به ثم لا تخفيه كتمانا
«أصبحتُ أطوع خلق الله كلهم
لأكثر الخلق لي في الحب عصيانا»
فقلت أطربتِنا يا زين مجلسنا
فهات إنك بالإحسان أولانا
لو كنت أعلم أن الحب يقتلني
أعددت لي قبل أن ألقاك أكفانا
فغنت الشرب صوتًا مونقًا رملًا
يذكي السرور ويبكي العين ألوانا
لا يقتل الله من دامت مودته
والله يقتل أهل الغدر أحيانا

كان الزوار يسمون في قديم الدهر إلى أيام خالد بن برمك السؤال، فقال خالد: هذا والله اسم أستثقله لطلاب الخير، وأرفع قدر الكرم عن أن يسمى به أمثال هؤلاء المؤمنين، لأن فيهم الأشراف والأحرار وأبناء النعيم، ومن لعله خير ممن يقصد وأفضل أدبًا، ولكننا نسميهم الزوار، فقال بشار يمدحه بذلك:

حذا خالد في فعله حذو برمك
فمجد له مستطرف وأصيل
وكان ذوو الآمال يُدعون قبله
بلفظ على الإعدام فيه دليل
يسمون بالسؤال في كل موطن
وإن كان فيهم نابه وجليل
فسماهم الزوار سترًا عليهم
فأستاره في المهتدين سدول

وقال بشار هذا الشعر في مجلس خالد في الساعة التي تكلم خالد بهذا في أمر الزوار، فأعطاه لكل بيت ألف درهم.

دخل بشار على عقبة بن سلم فأنشده بعض مدائحه فيه، وعنده عقبة بن رؤبة ينشده رجزًا يمدحه به، فسمعه بشار وجعل يستحسن ما قاله إلى أن فرغ، ثم أقبل على بشار فقال: هذا طراز لا تحسنه أنت يا أبا معاذ، فقال بشار: ألي يقال هذا! أنا والله أرجز منك ومن أبيك وجدك؛ فقال له: عقبة أنا وأبي فتحنا للناس باب الغريب وباب الرجز، وإني لخليق أن أسده عليهم؛ فقال بشار: ارحمهم رحمك الله، ولما كان من غد غدا على عقبة بن سلم وعنده عقبة بن رؤبة، فأنشده أرجوزته التي مدحه فيها:

يا طلل الحي بذات الصمد
بالله خبر كيف كنت بعدي
أوحشت من دعد وترب دعد
سقيًا لأسماء ابنة الأشد
قامت تراءى إذ رأتني وحدي
كالشمس تحت الزبرج١١ المنقد
صدت بخد وجلت عن خد
ثم انثنت كالنفس المرتد
عهدي بها سقيًا له من عهد
تخلف وعدًا وتفي بوعد
فنحن من جهد الهوى في جهد
وزاهر من سبط وجعد
أهدي له الدهر ولم يستهد
أفواف نور الحبر المجد
يلقى الضحى ريحانه بسجد
بدلت من ذاك بكى لا يجدي
وافق حظًّا من سعى بجد
ما ضر أهل النوك ضعف الجد
الحر يلحى والعصا للعبد
وليس للملحف مثل الرد
والنصف يكفيك من التعدي
وصاحب كالدمل الممد
حملته في رقعة من جلدي
أرقب منه مثل يوم الورد
حتى مضى غير فقيد الفقد
وما درى ما رغبتي من زهد
إسلم وحييت أبا الملد
مفتاح باب الحدث المنسد
مشترك النيل وري الزند
أغر لباس ثياب الحمد
ما كان مني لك غير الود
ثم ثناء مثل ريح الورد
نسجته في محكمات الند
فالبس طرازي غير مسترد
لله أيامك في معد
وفي بني قحطان غير عد
يومًا بذي طخفة١٢ عند الحد
ومثله أودعت أرض الهند
بالمرهفات والحديد السرد
والمقربات١٣ المبعدات الجُرد
إذا الحيا أكدى بها لا تكدي
تلحم أمرًا وأمورًا تسدي
وابن حكيم إن أتاك يردي
أصم لا يسمع صوت الرعد
حييته بتحفة المعد
فانهد مثل الجبل المنهد
كل امرئ رهن بما يؤدي
ورب ذي تاج كريم الجد
كآل كسرى وكآل برد
أنكب جاف عن سبيل القصد
فصلته عن ماله والولد

فطرب عقبة بن سلم وأجزل صلته، وقام عقبة بن رؤبة فخرج عن المجلس بخزي وهرب من تحت ليلته فلم يعد إليه.

قال الجاحظ: فانظر إلى سوء أدب عقبة بن رؤبة وقد أجمل بشار محضره وعشرته، فقابله بهذه المقابلة القبيحة، وكان أبوه أعلم خلق الله به، لأنه قال له وقد فاخره بشعره: أنت يا بني ذهبان الشعر، إذا مت مات شعرك معك، فلم يوجد من يرويه بعدك، فكان كما قال له، ما يعرف له بيت واحد ولا خبر غير هذا الخبر القبيح الإخبار عنه، الدال على سخفه وسقوطه وسوء أدبه.

وقال بشار في هوى له كانت بالبصرة، ثم خرجت مع زوجها إلى عمان:

هوى صاحبي ريح الشمال إذا جرت
وأشفى لقلبي أن تهب جنوب
وما ذاك إلا أنها حين تنتهي
تناهى وفيها من عبيدة طيب
عذيري من العذال إذ يعذلونني
سفاهًا وما في العاذلين لبيب
يقولون لو عزيت قلبك لارعوى
فقلت وهل للعاشقين قلوب
إذا نطق القوم الجلوس فإنني
مكب كأني في الجميع غريب

جاء أبو الشمقمق إلى بشار يشكو إليه الضيقة ويحلف له أنه ما عنده شيء، فقال له بشار: والله ما عندي ما يغنيك، ولكن قم معي إلى عقبة بن سلم، فقام معه، فذكر له أبا الشمقمق وقال: هو شاعر وله شكر وثناء، فأمر له بخمسمائة درهم، فقال له بشار:

يا واحد العرب الذي
أمسى وليس له نظير
لو كان مثلك آخرًا
ما كان في الدنيا فقير

فأمر لبشار بألفي درهم، فقال أبو الشمقمق: نفعتنا ونفعناك يا أبا معاذ، فجعل بشار يضحك.

دخل يزيد بن منصور الحميري على المهدي وبشار بين يديه ينشده قصيدة امتدحه بها، فلما فرغ منها أقبل عليه يزيد، وكانت فيه غفلة، فقال: يا شيخ، ما صناعتك؟ فقال: أثقب اللؤلؤ، فضحك المهدي، ثم قال لبشار: اغرب ويلك! أتتنادر على خالي؟ فقال له: وما أصنع به؟ يرى شيخًا أعمى ينشد الخليفة شعرًا ويسأله عن صناعته.

وقف على بشار بعض المجان، وهو ينشد شعرًا، فقال له: استر شعرك هذا كما تستر عورتك، فصفق بشار بيديه وغضب ثم قال له: ومن أنت؟ ويلك! قال: أنا — أعزك الله — رجل من باهلة، وأخوالي سلول، وأصهاري عكل، واسمي كلب، ومولدي بأضاخ،١٤ ومنزلي بظفر بلال، فضحك بشار، ثم قال: اذهب ويلك! فأنت عتيق لؤمك، قد علم الله أنك استترت مني بحصون من حديد.

مر بشار برجل قد رمحته بغلة وهو يقول: الحمد لله شكرًا، فقال له: بشار استزده يزدك. ومر به قوم يحملون جنازة وهم يسرعون المشي بها، فقال: ما لهم مسرعين؟ أتراهم سرقوه فهم يخافون أن يلحقوا فيؤخذ منهم.

رفع غلام بشار إليه في حساب نفقته جلاء مرآة عشرة دراهم، فصاح به بشار وقال: والله ما في الدنيا أعجب من جلاء مرآة أعمى بعشرة دراهم، والله لو صدئت عين الشمس حتى يبقى العالم في ظلمة ما بلغت أجرة من يجلوها عشرة دراهم.

قال قدامة بن نوح: كان بشار يحشو شعره إذا أعوزته القافية والمعنى بالأشياء التي لا حقيقة لها؛ فمن ذلك أنه أنشد يومًا شعرًا له فقال فيه: «غنني للغريض يابن قنان» فقيل له: من ابن قنان هذا؟ لسنا نعرفه من مغني البصرة، قال: وما عليكم منه؟ ألكم قبله دين فتطالبوه به، أو ثأر تريدون أن تدركوه، أو كفلت لكم به، فإذا غاب طالبتموني بإحضاره؛ قالوا: ليس بيننا وبينه شيء من هذا، وإنما أردنا أن نعرفه، فقال: هو رجل يغني لي ولا يخرج من بيتي، فقال له: إلى متى؟ فقال: مذ يوم ولد وإلى أن يموت. وذكر أيضًا في هذه القصيدة «البردان» فقيل له: يا أبا معاذ، أين البردان هذا؟ لسنا نعرفه بالبصرة، فقال: هو بيت في بيتي سميته بالبردان، أفعليكم من تسميتي داري وبيوتها شيء فتسألوني عنه؟

قالت امرأة لبشار: أي رجل أنت لو كنت أسود اللحية والرأس، قال: أما علمت أن بيض البزاة أشهر من سود الغربان؟ فقالت له: أما قولك فحسن في السمع، ومن لك بأن يحسن شيبك في العين كما حسن قولك في السمع؟ فكان بشار يقول: ما أفحمني قط غير هذه المرأة.

دعاه رجل إلى منزله فأكل وشرب، ولما أراد الانصراف قامت جارية للرجل وأخذت بيده، فلما صار بالصحن أومأ إليها ليقبلها، فأرسلت يدها من يده، فجعل يجول في العرصة وخرج مولى الجارية فقال: ما لك يا أبا معاذ؟ فقال: أذنبت ذنبًا ولا أبرح أو أقول شعرًا، فقال:

أتوب إليك من السيئات
وأستغفر الله من فعلتي
تناولت ما لم أرد نيله
على جهل أمري وفي سكرتي
ووالله والله ما جئته
لعمد ولا كان من همتي
وإلا فمت إذن ضائعًا
وعذبني الله في ميتتي
فمن نال خيرًا على قبلة
فلا بارك الله في قبلتي

لما كثر استهتار نساء البصرة وشبانها بشعر بشار، وقال سوار بن عبد الله ومالك بن دينار: ما شيء أدعي لأهل هذه المدينة إلى الفسق من أشعار هذا الأعمى، وما زالا يعظانه وكان واصل بن عطاء يقول: إن من أخدع حبائل الشيطان وأغواها لكلمات هذا الأعمى الملحد، فلما كثر ذلك وانتهى خبره إلى المهدي نهاه عن ذكر النساء وقول التشبيب، وكان المهدي من أشد الناس غيرة، فقال في ذلك:

يا منظرًا حسنًا رأيته
في وجه جارية فديته
بعثت إلي تسومني
ثوب الشباب وقد طويته
والله رب محمد
ما إن غدرت ولا نويته
أمسكت عنك وربما
عرض البلاء وما ابتغيته
إن الخليفة قد أبى
وإذا أبى شيئًا أبيته
ومخضب رخص البنا
ن بكى علي وما بكيته
ويشوقني بيت الحبيـ
ـب إذا ادَّكرت وأين بيته
قام الخليفة دونه
فصبرت عنه وما قليته
ونهاني الملك الهما
م عن النساء وما عصيته
لا بل وفيت فلم أضع
عهدًا ولا رأيًا رأيته
وأنا المطل على العدا
وإذا غلا الحمد اشتريته
أُصفي الخليل إذا دنا
وإذا نأى عني نأيته
وأميل في أنس النديـ
ـم من الحياء وما اشتهيته

وكان الخليل بن أحمد ينشد هذه الأبيات ويستحسنها ويعجب بها.

وكان لبشار خمسة ندماء، فمات منهم أربعة وبقي واحد يقال له: البراء، فركب في زورق يريد عبور دجلة العوراء فغرق، فكان بشار يقول: ما خير في الدنيا بعد الأصدقاء؛ ثم رثى أصدقاءه بقوله:

يابن موسى ماذا يقول الإمام
في فتاة بالقلب منها أوام
بت من حبها أوقر بالكأ
س ويهفو على فؤادي الهيام
لم يكن بينها وبيني إلا
كتب العاشقين والأحلام
يابن موسى اسقني ودع عنك سلمى
إن سلمى حمى وفيَّ احتشام
رب كأس كالسلسبيل تعللـ
ـت بها والعيون عني نيام
حبست للشراة في بيت١٥ رأس
عتقت عانسًا عليها الختام
نفحت نفحة فهزت نديمي
بنسيم وانشق عنها الزكام
وكأن المعلول منها إذا را
ح شج في لسانه برسام١٦
صدمته الشمول حتى بعينيـ
ـه انكسار وفي المفاصل خام
وهو باقي الأطراف حيت١٧ به الكأ
س وماتت أوصاله والكلام
وفتى يشرب المدامة بالما
ل ويمشي يروم ما لا يرام
أنفدت كأسه الدنانير حتى
ذهب العين واستمر السوام
تركته الصهباء يرنو بعين
نام إنسانها وليست تنام
جن من شربة تعل بأخرى
وبكى حين سار فيه المدام
كان لي صاحبًا فأودى به الدهـ
ـر وفارقته عليه السلام
بقي الناس بعد هلك نداما
ي وقوعًا لم يشعروا ما الكلام
كجزور الأيسار١٨ لا كبد فيـ
ـها لباغ ولا عليها سنام
يابن موسى فقد الحبيب على العيـ
ـن قذاة وفي الفؤاد سقام
كيف يصفو لي النعيم وحيدًا
والأخلاء في المقابر هام
نفستهم١٩ علي أم المنايا
فأنامتهم بعنف فناموا
لا يغيض انسجام عيني عليهم
إنما غاية الحزين السجام

وقال في نهي الخليفة إياه عن ذكر النساء:

والله لولا رضا الخليفة ما
أعطيت ضيمًا علي في شجن
وربما خِيرَ لابن آدم في الـ
ـكره وشق الهوى على البدن
فاشرب على أُبْنَة الزمان فما
تلقى زمانًا صفا من الأبن
الله يعطيك من فواضله
والمرء يغضى عينًا على الكمن٢٠
قد عشت بين الريحان والراح والز
هر في ظل مجلس حسن
وقد ملأت البلاد ما بين يغبـ
ـور إلى القيروان فاليمن
شعرًا تصلي له العواتق والشـ
ـيب صلاة الغواة للوثن
ثم نهاني المهدي فانصرفت
نفسي صنيع الموفق اللقن
فالحمد لله لا شريك له
ليس بباق شيء على الزمن

وأنشد المهديَّ قصيدته التي أولها:

تجاللت عن فهر وعن جارتي فهر
وودعت نعما بالسلام وبالبشر
وقالت سليمى فيك عنا جلادة
محلك دان والزيادة عن عفر٢١
أخي في الهوى مالي أراك جفوتنا
وقد كنت تقفونا على العسر واليسر
تثاقلت إلا عن يد أستفيدها
وزورة أملاك أشد بها أزري
وأخرجني من وزر خمسين حجة
فتى هاشمي يقشعر من الوزر
دفنت الهوى حيا فلست بزائر
سليمى ولا صفراء ما قرقر القمري
ومصفرة بالزعفران جلودها
إذا اجتليت مثل المفرطحة الصفر
فرب ثقال الردف هبت تلومني
ولو شهدت قبري لصلت على قبري
تركت لمهدي الأنام وصالها
وراعيت عهدًا بيننا ليس بالختر
ولولا أمير المؤمنين محمد
لقبلت فاها أو لكان بها فطري
لعمري لقد أوقرت نفسي خطيئة
فما أنا بالمزداد وقرًا على وقر
تسلى عن الأحباب صرام خلة
ووصال أخرى ما يقيم على أمر
وركاض أفراس الصبابة والهوى
جرت حججًا ثم استقرت فلا تجري
فأصبحن ما يركبن إلا إلى الوغى
وأصبحت لا يزري علي ولا أزري
فهذا وإني قد شرعت مع التقى
وماتت همومي الطارقات فما تسري

ثم قال يصف السفينة:

وعذراء لا تجري بلحم ولا دم
قليلة شكوى الأين ملجمة الدبر
إذا ظعنت فيها الفلول تشخصت
بفرسانها لا في وعوث ولا وعر
وإن قصدت زلت على متنصب
ذليل القوى لا شيء يفري كما تفري
تلاعب تيار٢٢ البحور وربما
رأيت نفوس القوم من جريها تجري
إلى ملك من هاشم في نبوة
ومن حمير في الملك والعدد الدثر٢٣
من المشترين الحمد تندى من الندى
يداه ويندى عارضاه من العطر
فألزمت حبلي حبل من لا تغبه
عفاة الندى من حيث يدري ولا يدري
بنى لك عبد الله بيت خلافة
نزلت بها بين الفراقد والنسر
وعندك عهد من وصاة محمد
فرعت به الأملاك من ولد النضر

ولما أنشد الوليد بن يزيد قول بشار:

أيها الساقيان صبا شرابي
واسقياني من ريق بيضاء رود٢٤
إن دائي الظما وإن دوائي
شربة من رضاب ثغر برود
ولها مضحك كغر الأقاحي
وحديث كالوشي وشي البرود
نزلت في السواد من حبة القلـ
ـب ونالت زيادة المستزيد
ثم قالت نلقاك بعد ليال
والليالي يبلين كل جديد
عندها الصبر عن لقائي وعندي
زفرات يأكلن قلب الحديد

طرب الوليد وقال: من لي بمزج كأسي هذه من ريق سلمى، فيروي ظمئي، وتطفأ غلتي، ثم بكى حتى مزج كأسه بدمعه، وقال: إن فاتنا ذاك فهذا.

مدح بشار خالد بن برمك فقال فيه:

لعمري لقد أجدى علي ابن برمك
وما كل من كان الغنى عنده يجدي
حلبت بشعري راحتيه فدرتا
سماحًا كما در السحاب مع الرعد
إذا جئته للحمد أشرق وجهه
إليك وأعطاك الكرامة بالحمد
له نعم في القوم لا يستثيبها
جزاء وكيل التاجر المد بالمد
مفيد ومتلاف سبيل تراثه
إذا ما غدا أو راح كالجزر والمد
أخالد إن الحمد يبقى لأهله
جمالًا ولا تبقى الكنوز على الكد
فأطعم وكل من عارة مستردة
ولا تبقها إن العواري للرد

فأعطاه خالد ثلاثين ألف درهم، وكان قبل ذلك يعطيه في كل وفادة خمسة آلاف درهم، وأمر خالد أن يكتب هذان البيتان في صدر مجلسه الذي كان يجلس فيه، وقال ابنه يحيى بن خالد: آخر ما أوصاني به أبي العمل بهذين البيتين.

وكان إسحاق الموصلي يطعن على شعر بشار ويضع منه، ويذكر أن كلامه مختلف لا يشبه بعضه بعضًا، فقيل له: أتقول هذا لمن يقول:

إذا كنت في كل الأمور معاتبًا
صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش واحدًا أوصل أخاك فإنه
مقارف٢٥ ذنب مرة ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى٢٦
ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه

وهي من غرر قصائده، مدح بها عمر بن هبيرة، ومنها قوله:

يخاف المنايا إن ترحلت صاحبي
كأن المنايا في المقام تناسبه
فقلت له إن العراق مقامه
وخيم إذا هبت عليك جنائبه
لألقى بني عيلان إن فعالهم
تزيد على كل الفعال مراتبه
أولاك الألى شقوا العمى بسيوفهم
عن العين حتى أبصر الحق طالبه
وجيش كجنح الليل يزحف بالحصا
وبالشوك والخطى حمرًا تغالبه
غدونا له والشمس في خدر أمها
تطالعنا والطل لم يجر ذائبه
بضرب يذوق الموت من ذاق طعمه
وتدرك من نجى الفرار مثالبه
كأن مثار النقع فوق رءوسنا
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
بعثنا لهم موت الفجاءة إننا
بنو الموت خفاق علينا سبائبه٢٧
فراحوا فريق في الإسار ومثله
قتيل ومثلٌ لاذ بالبحر هاربه

ومنها:

إذا الملك الجبار صعر خده
مشينا إليه بالسيوف نعاتبه
رويدًا تصاهل بالعراق جيادنا
كأنك بالضحاك قد قام نادبه
وسام لمروان ومن دونه الشجا
وهول كلج البحر جاشت غواربه
أحلت به أم المنايا بناتِها
بأسيافنا إنا ردى من نحاربه
وكنا إذا دب العدو لسخطنا
وراقبنا في ظاهر لا نراقبه
ركبنا له جهرًا بكل مثقف
وأبيض تستسقي الدماء مضاربه

ومنها:

فلما تولى الحي واعتصر الثرى
لظى الصيف من نجم توقد لاهبه
وطارت عصافير الشقائق واكتسى
من الآل أمثال المجرة ناضبه
غدت عانة٢٨ تسكو بأبصارها الصدى
إلى الجأب إلا أنها لا تخاطبه

ومن حسن شعره:

لو كنت تلقين ما نلقى قسمت لنا
يوما نعيش به منكم ونبتهج
لا خير في العيش إن كنا كذا أبدا
ما في التلاقي ولا في قبلة حرج
من راقب الناس لم يظفر بحاجته
وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
أشكو إلى الله همًّا ما يفارقني
وشرعًا في فؤادي الدهر تعتلج

وقال يهجو عبيد الله بن قزعة:

خليلي من كعب أعينا أخاكما
على دهره إن الكريم معين
كأن عبيد الله لم يلق ماجدًا
مخافة أن يرجو نداه حزين
ولا تبخلا بخل ابن قزعة إنه
ولم يدر أن المكرمات تكون
فقل لأبي يحيى متى تدرك العلا
وفي كل معروف عليك يمين
إذا جئته في حاجة سد بابه
فلم تلقه إلا وأنت كمين

وفد على خالد بن برمك فأنشده:

أخالد لم أخبط٢٩ إليك بذمة
سوى أنني عاف وأنت جواد
أخالد بين الأجر والحمد حاجتي
فأيهما تأتي فأنت عماد
فإن تعطني أفرغ عليك مدائحي
وإن تأب لم يضرب علي سداد
ركابي على حرف٣٠ وقلبي مشيع
ومالي بأرض الباخلين بلاد
إذا أنكرتني بلدة أو نكرتها
خرجت مع البازي على سواد

فدعا خالد بأربعة آلاف دينار في أربعة أكياس، فوضع واحدًا عن يمينه، وواحدًا عن شماله، وآخر بين يديه، وآخر خلفه، وقال: يا أبا معاذ، هل استقل العماد؟ فلمس الأكياس ثم قال: استقل والله أيها الأمير.

قال أبان بن عبد الحميد: نزل في ظاهر البصرة قوم من أعراب قيس بن عيلان، وكان فيهم بيان وفصاحة، فكان بشار يأتيهم وينشدهم أشعاره التي يمدح بها قيسًا، فيجلونه لذلك ويعظمونه، وكان نساؤهم يجلسن معه ويتحدثن إليه وينشدهن أشعاره في الغزل، وكنت كثيرًا ما آتي في ذلك الموضع فأسمع منه ومنهم، فأتيتهم يومًا فإذا هم ارتحلوا، فجئت إلى بشار فقلت: يا أبا معاذ، أعلمت أن القوم قد ارتحلوا؟ قال: لا، فقلت: فاعلم، قال: قد علمت لا علمت، ومضيت، فلما كان بعد ذلك بأيام سمعت الناس ينشدون:

دعا بفراق من تهوى أبان
ففاض الدمع واحترق الجنان
كأن شرارة وقعت بقلبي
لها في مقلتي ودمي استنان
إذا أنشدت أو نسمت عليها
رياح الصيف هاج لها دخان

فعلمت أنها لبشار، فأتيته فقلت: يا أبا معاذ، ما ذنبي إليك؟ قال: ذنب غراب البين، فقلت: هل ذكرتني بغير هذا؟ قال: لا، فقلت: أنشدك الله ألا تزيد، فقال: امض لشأنك فقد تركتك.

مدح بشار المهدي فلم يعطه شيئًا، فقيل له: لم يستجد شعرك، فقال: والله لقد قلت فيه شعرًا لو قيل في الدهر لم يخش صرفه على أحد، ولكنا نكذب في القول فيكذب في الأمل.

مدح بشار سليمان بن هشام بن عبد الملك، وكان مقيمًا بحران وخرج إليه، فأنشده قوله فيه:

نأتك على طول التجاور زينب
وما شعرت أن النوى سوف تشعب
يرى الناس ما تلقى بزينب إذ نأت
عجيبًا وما تخفي بزينب أعجب
وقائلة لي حين جد رحيلنا
وأجفان عينيها تجود وتسكب
أغاد إلى حران في غير شيعة
وذلك شأو عن هواها مغرب
فقلت لها كلفتني طلب الغنى
وليس وراء ابن الخليفة مذهب
سيكفي فتى من سعيه حد سيفه
وكور علافي٣١ ووجناء٣٢ ذعلب
إذا استوغرت دار عليه رمى بها
بنات الصوى منها ركوب ومصعب
فعدي إلى يوم ارتحلت وسائلي
بزورك والرحال من جاء يضرب
لعلك أن تستيقني أن زورتي
سليمان من سير الهواجر تعقب
أغر هشامي القناة إذا انتمى
نمته بدور ليس فيهن كوكب
وما قصدت يومًا فحيلين خيله
فتصرف إلا عن دماء تصبب

فوصله سليمان بخمسة آلاف درهم، وكان يبخل، فلم يرضها وانصرف عنه مغضبًا، فقال:

إن أمس منقبض اليدين عن الندى
وعن العدو مخيس الشيطان
فلقد أروح على اللئام مسلطًا
ثلج المقيل منعم الندمان
في ظل عيش عشيرة محمودة
تندى يدي ويخاف فرط لساني
أزمان خيبني الشباب مطاوع
وإذ الأمير علي من حران
ريم بأحوية العراق إذا بدا
برقت عليه أكلة المرجان
فاكحل بعبدة مقلتيك من القذى
وبوشك رؤيتها من الهملان
فلقرب من تهوى وأنت متيم
أشفى لدائك من بني مروان

قدم بشار على المهدي بالرصافة فدخل عليه في البستان، فأنشده مديحًا فيه تشبيب حسن، فنهاه عن التشبيب لغيرة شديدة كانت فيه، فأنشده مديحًا يقول فيه:

كأنما جئته أبشره
ولم أجئ راغبًا ومحتلبا
يزين المنبر الأشم بعطفيـ
ـه وأقواله إذا خطبا
تشم نعلاه في الندي كما
يشم ماء الريحان منتهبا

قال: وقد طلب منه أن ينشده شيئًا من غزله:

وقائل هات شوقنا فقلت له
أنائم أنت يا عمرو بن سمعان
أما سمعت بما قد شاع في مضر
وفي الحليفين من بكر وقحطان
قال الخليفة لا تنسب بجارية
إياك إياك أن تشقى بعصيان

وقال له المهدي: قل في الحب شعرًا ولا تطل، واجعل الحب قاضيًا بين المحبين لا تسم أحدًا، فقال:

اجعل الحب بين حبي وبيني
قاضيًا إني به اليوم راض
فاجتمعنا فقلت يا حب نفسي
إن عيني قليلة الإغماض
أنت عذبتني وأنحلت جسمي
فارحم اليوم دائم الأمراض
قال لي لا يحل حكمي عليها
أنت أولى بالسقم والإعراض
قلت لما أجابني بهواها
شمل الجور في الهوى كل قاض

فبعث إليه المهدي: حكمت علينا ووافقنا ذلك، فأمر له بألف دينار.

وقال بشار في عشق السمع:

يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم
الأذن كالعين توفي القلب ما كانا
هل من دواء لمشغوف بجارية
يلقى بلقيانها روحًا وريحانا

وقال في مثل ذلك:

قالت عقيل بن كعب إذ تعلقها
قلبي فأضحى به من حبها أثر
أنى ولم ترها تهذي فقلت لهم
إن الفؤاد يرى ما لا يرى البصر
أصبحت كالحائم الحيران مجتنبًا
لم يقض وردًا ولا يرجى له صدر

وقال:

يزهدني في حب عبدة معشر
قلوبهم فيها مخالفة قلبي
فقلت دعوا قلبي وما اختار وارتضى
فبالقلب لا بالعين يبصر ذو الحب
فما تبصر العينان في موضع الهوى
ولا تسمع الأذنان إلا من القلب
وما الحسن إلا كل حسن دعا الصبا
وألف بين العشق والعاشق الصب

وقال:

يا قلب مالي أراك لا تقر
إياك أعني وعندك الخبر
أذعت بعد الألى مضوا حرقًا
ما ضاع ما استودعوك إذ بكروا

وقال:

إن سليمى والله يكلؤها
كالسكر يزداد على السكر
بلغت عنها شكلًا فأعجبني
والسمع يكفيك غيبة البصر

وقال وقد مدح المهدي فحرمه:

خليلي إن العسر سوف يفيق
وإن يسارًا في غد لخليق
وما كنت إلا كالزمان إذا صحا
صحوت وإن ماق٣٣ الزمان أموق
أأدماء لا أسطيع في قلة الثرا
خزوزًا ووشيا والقليل محيق
خذي من يدي ما قل إن زماننا
شموس ومعروف الرجال رقيق
لقد كنت لا أرضى بأدنى معيشة
ولا يشتكي بخلًا علي رفيق
خليلي إن المال ليس بنافع
إذا لم ينل منه أخ وصديق
وكنت إذا ضاقت علي محلة٣٤
تيممت أخرى ما علي تضيق
وما خاب بين الله والناس عامل
له في التقى أو في المحامد سوق
ولا ضاق فضل الله عن متعفف
ولكن أخلاق الرجال تضيق

هجا بشار يعقوب بن دواد وزير المهدي فقال:

بني أمية هبوا طال نومكم
إن الخليفة يعقوب بن٣٥ دواد
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا
خليفة الله بين الناس والعود

فاتهمه عند المهدي بالزندقة وقال: إنه قد هجا المهدي، فأمر، فضرب بالسياط حتى مات.

(٢) حماد عجرد٣٦

«ولو٣٧ أني أحببت أن أشخص حمادًا لوصفته قبل كل شيء بحدة الطبع، وسوء الخلق، وحب الانتقام، والإسراع إليه، ثم بالصراحة في القول، والملاءمة بينه وبين العمل، وبكره النفاق والانصراف عنه، لا يعنيه أرضي الناس عنه أم سخطوا عليه، ثم بحدة اللسان ومضيه وإقذاعه وكلفه بفاحش القول وبحثه عن أسوئه وأقبحه، ثم بالسخرية من الناس وازدرائهم؛ لا على أنه يتخذ ذلك فلسفة وأصلًا من أصول الحياة كالوليد ومطيع وأبي نواس، بل على أنه يتخذ ذلك وسيلة من وسائل الشعراء يخلص بها كلما ضاقت عليه المذاهب وأخذت عليه، أو دعته إلى ذلك حاجة. لم يكن حماد يحفل بما يحفل به الناس من الوفاء والانصراف عن التناقض، وإنما كان صديقًا مخلصًا حتى تبدوا له حاجة أو تسنح له فرصة أو تضطره ضرورة؛ فإذا صداقته قد استحالت إلى عداء، وإذا هو ليس أقل صدقًا وإخلاصًا في العداء منه في المودة والحب: فقد مدح يحيى بن زياد واتخذه صديقًا ونال جوائزه، ثم كان الخلاف فهجاه. وصادق بشارًا وصافاه، ثم اختصما فلم يعرفا في الخصومة رحمة ولا رفقًا. وصافى مطيعًا وأحبه ومدحه وأكثر في الثناء عليه، ثم اختصما في امرأة مرة وفي غلام مرة أخرى، فهجاه وأقذع في هجائه. وكان على هذا كله يؤثر شعره وضروراته على البر بالناس في معاملتهم: هجا ذات يوم رجلًا يقال له حشيش وجعل اسمه قافية لهذا الشعر وأراد أن يبالغ في ذمه فشبهه ببحيش، وكان بحيش هذا رجلًا من أهل البصرة وادعًا لا يعرف حمادًا ولا يعرفه حماد، فلما قرأ الرجل هذا الشعر جزع له وسافر من البصرة حتى بلغ الكوفة فعاتب حمادًا؛ فقال له حماد ضاحكًا معتذرًا: لا بأس عليك فإن هذا من آثام القافية ولن أعود إليه».

وكان السبب في مهاجاة حماد وبشار أن حمادًا كان نديمًا لنافع بن عقبة، فسأله بشار تنجيز حاجة من نافع فأبطأ عنها، فقال بشار فيه:

مواعيد حماد سماء مخيلة
تكشف عن رعد ولكن ستبرق
إذا جئته يومًا أحال على غد
كما وعد الكمون ما ليس يصدق
وفي نافع عني جفاء وإنني
لأطرق أحيانًا وذو اللب يطرق
وللنقرى٣٨ قوم فلو كنت منهم
دعيت ولكن دوني الباب مغلق
وما زلت أستأنيك حتى حسرتني
بوعد كجاري الآل يخفى ويخفق

فغضب حماد وأنشد نافعًا الشعر فمنع بشارًا، فقال بشار:

أبا عمر ما في طلابيك حاجة
ولا في الذي منيتنا ثم أضجرا
وعدت فلم تصدق وقلت غدًا غدًا
كما وعد الكمون شربًا مؤخرا

فكان ذلك سبب التهاجي بين بشار وحماد. وكان بشار يرمي حمادًا بالزندقة، وفي ذلك يقول:

ابن نهبي رأس علي ثقيل
واحتمال الرءوس خطب جليل
ادع غيري إلى عبادة الاثنيـ
ـن فإني بواحد مشغول
يابن نهبي برئت منك إلى الله
جهارًا وذاك مني قليل

فأشاع حماد هذه الأبيات لبشار، وجعل فيها مكان: «فإني بواحد مشغول» «فإن عن واحد مشغول» ليصح عليه الزندقة والكفر بالله تعالى. فما زالت الأبيات تدور في الناس حتى انتهت إلى بشار، فاضطرب منها وجزع وقال: أشاط ابن الفاعلة بدمي، والله ما قلت إلا «فإني بواحد مشغول» فغيرها حتى شهرت في الناس.

كان رجل من أهل البصرة يدخل بين حماد وبشار على اتفاق منهما ورضًا بأن ينقل إلى كل واحد منهما وعنه الشعر؛ فدخل يومًا إلى بشار فقال له: إيه يا فلان، ما قال ابن الفاعلة، فأنشده:

إن تاه بشار عليكم فقد
أمكنت بشارًا من التيه

فقال بشار: بأي شيء ويحك؟ فقال:

وذاك إذ سميته باسمه
ولم يكن حرًّا نسميه

قال: سخنت عينه، فبأي شيء كنت أُعرف! إيه، فقال:

فصار إنسانًا بذكري له
ما يبتغي من بعد ذكريه!

فقال: ما صنع شيئًا، إيه ويحك! فقال:

لم أهج بشارًا ولكنني
هجوت نفسي بهجائيه

فقال: على هذا المعنى دار وحوله حام. وتمام الأبيات:

لم آت شيئًا قط فيما مضى
ولست فيما عشت آتيه
أسوأ لي في الناس أحدوثة
من خطأ أخطأته فيه
فأصبح اليوم لسبي له
أعظم شأنًا من مواليه

وقال بشار لراوية حماد: ما هجاني به اليوم حماد؟ فأنشده:

ألا من مبلغ عني الـ
ـذي والده برد

فقال: صدق ابن الفاعلة فما يكون؟ فقال:

إذا ما نسب الناس
فلا قبل ولا بعد

فقال: كذب، أين هذه العرصات من عقيل! فما يكون؟ فقال:

وأعمى قلطبان٣٩ ما
على قاذفه حد

فقال: كذب، بل عليه ثمانون جلدة، هيه، فقال:

وأعمى يشبه القرد
إذا ما عمي القرد

فقال: والله ما أخطأ حين شبهني بقرد، حسبك حسبك! ثم صفق بيديه وقال: ما حيلتي! يراني فيشبهني ولا أراه فأشبهه. وتمام الأبيات:

دني لم يرح يومًا
إلى مجد ولم يغد
ولم يحضر مع الحضا
ر في خير ولم يبد
ولم يخشَ له ذم
ولم يرج له حمد
جرى بالنحس مذ كان
ولم يجر له سعد
هو الكلب إذا مات
فلم يوجد له فقد

وقال علي بن مهدي: أجمع علماء البصرة أنه ليس في هجاء حماد عجرد لبشار إلا أربعون بيتًا معدودة، ولبشار فيه من الهجاء أكثر من ألف بيت جيد. وكل واحد منهما هو الذي هتك صاحبه بالزندقة وأظهرها عليه، وكانا يجتمعان عليها، فسقط حماد وهُتك بفضل بلاغة بشار وجودة معانيه، وبقي بشار على حاله لم يسقط، حتى عرف مذهبه في الزندقة فقتل به.

ومن أغلظ ما هجا به حماد بشارًا:

نهاره أخبث من ليله
ويومه أخبث من أمسه
وليس بالمقلع عن غيه
حتى يوارى في ثرى رمسه

كان حماد صديقًا ليحيى بن زياد، فأظهر يحيى تورعًا وقراءة ونزوعًا عما كان فيه وهجر حمادًا وأشباهه، فكان إذا ذكر عنده ثلبه وذكر تهتكه ومجونه؛ فبلغ ذلك حمادًا فكتب إليه:

هل تذكرن دلجى اليـ
ـك على المضمرة القلاص
أيام تعطيني وتأ
خذ من أباريق الرصاص
إن كان نسكك لا يتـ
ـم بغير شتمي وانتقاصي
أو كنت لست بغير ذا
ك تنال منزلة الخلاص
فعليك فاشتم آمنًا
كل الأمان من القصاص
وأقعد وقم بي ما بدا
لك في الأداني والأقاصي
فلطالما زكيتني
وأنا المقيم على المعاصي
أيام أنت إذا ذكر
ت مناضل عني مناصي٤٠
وأنا وأنت على ارتكا
ب الموبقات من الحراص
وبنا مواطن ما بنا
في البر آهلة العراص

فاتصل هذا الشعر بيحيى بن زياد، فنسب حمادًا إلى الزندقة ورماه بالخروج عن الإسلام؛ فقال حماد فيه:

لا مؤمن يُعرف إيمانه
وليس يحيى بالفتى الكافر
منافق ظاهره ناسك
مخالف الباطن للظاهر

كان حماد صديقًا لحريث بن أبي الصلت الثقفي، وكان يعيبه بالبخل، وفيه يقول:

حريث أبو الفضل ذو خبرة
بما يصلح المعد الفاسده
تخوف تخمة أضيافه
فعودهم أكلة واحده

ومن قوله:

ألا قل لعبد الله إنك واحد
ومثلك في هذا الزمان كثير
قطعت إخائي ظالمًا وهجرتني
وليس أخي من في الإخاء يجور
أديم لأهل الود ودي وإنني
لمن رام هجري ظالمًا لهجور
ولو أن بعضي رابني لقطعته
وإني بقطع الرائبين جدير
فلا تحسبن منحي لك الود خالصًا
لعز ولا أني إليك فقير
ودونك حظي منك لست أريده
طوال الليالي ما أقام ثبير٤١

كان حماد صديقًا لحفص بن أبي بردة، وكان حفص أعمش أفطس أعضب مقبح الوجه، فاجتمعوا يومًا على شراب وجعلوا يتناشدون ويتحدثون، فأخذ حفص يطعن على مرقش ويعيب شعره ويلحنه؛ فقال له حماد:

لقد كان في عينيك يا حفص شاغل
وأنف كثيل٤٢ العود عما تتبع
تتبع لحنًا في كلام مرقش
ووجهك مبني على اللحن أجمع
فأذناك إقواء وأنفك مكفأ
وعيناك إيطاء فأنت المرقع

ومن قوله:

إني أحبك فاعلمي
إن لم تكوني تعلمينا
حبًّا أقل قليله
كجميع حب العالمينا

وأُنشد بشار قول حماد عجرد:

أخي كف عن لومي فإنك لا تدري
بما فعل الحب المبرح في صدري
أخي أنت تلحاني وقلبك فارغ
وقلبي مشغول الجوانح بالفكر
دوائي ودائي عند من لو رأيته
يقلب عينيه لأقصرت عن زجري
فأقسم لو أصبحت في لوعة الهوى
لأقصرت عن لومي وأطنبت في عذري
ولكن بلائي منك أنك ناصح
وأنك لا تدري بأنك لا تدري

فطرب بشار ثم قال: ويلكم أحسن والله! مَن هذا؟ قالوا: حماد عجرد؛ قال: أوه وكلتموني والله بقية يومي لهم طويل، والله لا أطعم بقية يومي طعامًا، ولأصومن غمًا بما يقول النبطي مثل هذا.

قال محمد بن الفضل السلولي: لقيت حماد عجرد بواسط وهو يمشي وأنا راكب، فقلت له: انطلق بنا إلى المنزل، فإني الساعة فارغ لنتحدث، وحبست عليه الدابة، فقطع شغل عرض لي لم أقدر على تركه، فمضيت وأنسيته، فلما بلغت المنزل خفت شره فكتبت إليه:

أبا عمر اغفرها هديت فإنني
قد اذنبت ذنبًا مخطئًا غير عامد
فلا تجدن فيه علي فإنني
أقر بإجرامي ولست بعائد
وهبه لنا تفديك نفسي فإنني
أرى نعمة أن كنت لست بواجد
وعد منك بالفضل الذي أنت أهله
فإنك ذو فضل طريف وتالد

فأجابني عن الأبيات:

محمد يا با الفضل يا ذا المحامد
ويا بهجة النادي وزين المشاهد
وحقك ما أذنبت منذ عرفتني
على خطأ يومًا ولا عمد عامد
ولو كان ما ألفيتني متسرعًا
إليك به يومًا تسرع واجد٤٣
ولو كان ذو فضل يسمى لفضله
بغير اسمه سميت أم القلائد

فبينا رقعته في يدي وأنا أقرؤها إذ جاءني رسوله برقعة فيها:

قد غفرنا الذنب يابن الـ
ـفضل والذنب عظيم
ومسيء أنت يابن الـ
ـفضل في ذاك مليم
حين تخشاني على الذنـ
ـب كما يخشى اللئيم
ليس لي إن كان ما خفـ
ـت من الأمر حريم
أنا والله ولا أفـ
ـخر للغيظ كظوم
وبأصحابي ولا ريـ
ـبة بر ورحيم
وبما يرضيهم عنـ
ـي ويرضيني عليم

كان عثمان بن شيبة مبخلًا وكان حماد يهجوه، فجاء رجل كان يقول الشعر إلى حماد فقال له:

أعني من غناك ببيت شعر
على فقرى لعثمان بن شيبه

فقال:

فإنك إن رضيت به خليلًا
ملأت يديك من فقر وخيبه

فقال له الرجل: جزاك الله خيرًا فقد عرفتني من أخلاقه ما قطعني عن مدحه وصنت وجهي عنه.

لما مات محمد بن أبي العباس طلب محمد بن سليمان حماد عجرد لما كان يقوله في أخته زينب من الشعر، فعلم أنه لا مقام له معه بالبصرة، فاستجار بقبر أبيه سليمان بن علي وقال فيه:

من مقر بالذنب لم يوجب اللـ
ـه عليه بسيء إقرارا
ليس إلا بفضل حلمك يعـ
ـتد بلاء وما يعد اغترارا
يابن بنت النبي أحمد لا أجـ
ـعل إلا إليك منك الفرارا
غير أني جعلت قبر أبي أيو
ب لي من حوادث الدهر جارا
وحري من استجار بذاك الـ
ـقبر أن يأمن الردى والعثارا
لم أجد لي من العباد مجيرًا
فاستجرت التراب والأحجارا
لست أعتاض منك في بغية العزة
قحطان كلها أو نزارا
فأنا اليوم جارُ من ليس في الأر
ض مجير أعز منه جوارا
يابن بنت النبي يا خير من حطـ
ـت إليه الغوارب الأكوارا
إن أكن مذنبًا فأنت ابن من كا
ن لمن كان مذنبًا غفارا
فاعف عني فقد قدرت وخير الـ
ـعفو ما قلت: كن، فكان اقتدارا
لو يطيل الأعمار جار لعز
كان جاري يطول الأعمارا

فقال: والله لأبلن قبر أبي من دمه؛ فهرب حماد إلى بغداد، فعاذ بجعفر بن المنصور فأجاره، وقال: لا أرضى أو تهجو محمد بن سليمان، فقال يهجوه:

قل لوجه الخصي ذي العار إني
سوف أهدي لزينب الأشعارا
قد لعمري فررت من شدة الخو
ف وأنكرت صاحبي نهارا
وظننت القبور تمنع جارًا
فاستجرت التراب والأحجارا
كنت عند استجارتي بأبي أيـ
ـوب أبغي ضلالة وخسارا
لم يجرني ولم أجد فيه حظًّا
أضرم الله ذلك القبر نارا

فبلغ هجاؤه محمد بن سليمان فقال: والله لا يفلتني أبدًا، وإنما يزداد حتفًا بلسانه! ولا والله لا أعفو عنه ولا أتغافل أبدًا.

ومن قوله:

إن الكريم ليخفى عنك عسرته
حتى تراه غنيًّا وهو مجهود
وللبخيل على أمواله علل
زرق العيون عليها أوجه سود
إذا تكرمت أن تعطي القليل ولم
تقدر على سعة لم يظهر الجود
أبرق بخير ترجى للنوال فما
ترجى الثمار إذا لم يورق العود
بث النوال ولا تمنعك قلته
فكل ما سد فقرًا فهو محمود

وقال أيضًا:

كم من أخ لك لست تنكره
ما دمت من دنياك في يسر
متصنع لك في مودته
يلقاك بالترحيب والبشر
يطري الوفاء وذا الوفاء ويلـ
ـحى الغدر مجتهدًا وذا الغدر
فإذا عدا، والدهر ذو غير،
دهر عليك عدا مع الدهر
فارفض بإجمال مودة من
يقلي المقل ويعشق المثري
وعليك من حالاه واحدة
في العسر إما كنت واليسر
لا تخلطنهم بغيرهم
من يخلط العقيان بالصفر!

وهو القائل في محمد بن طلحة:

زرت امرأ في بيته مرة
له حياء وله خير
يكره أن يتخم إخوانه
إن أذى التخمة محذور
ويشتهي أن يؤجروا عنده
بالصوم والصائم مأجور
يابن أبي شهدة أنت امرؤ
بصحة الأبدان مسرور

وهو القائل في محمد بن أبي العباس السفاح:

أرجوك بعد أبي العباس إذ بانا
يا أكرم الناس أعراقًا وأغصانا
لو مج عود على قوم عصارته
لمج عودك فينا المسك والبانا

قيل: إن حمادًا مضى إلى الأهواز، فأقام هناك مستترًا، وبلغ محمدًا خبره فأرسل مولى له إلى الأهواز، فلم يزل يطلبه حتى ظفر به فقتله غيلة. وقيل: إنه خرج من الأهواز يريد البصرة، فمر بشيراز في طريقه، فمرض بها، فاضطرم إلى المقام بسبب علته، فاشتد مرضه فمات هناك ودفن على تلعة. وكان بشار بلغه أن حمادًا عليل، ثم نعى إليه قبل موته، فقال بشار:

لو عاش حماد لهونا به
لكنه صار إلى النار
فبلغ هذا البيت حمادًا قبل أن يموت وهو في السياق،٤٤ فقال يرد عليه:
نبئت بشارًا نعاني وللـ
ـموت براني الخالق الباري
يا ليتني مت ولم أهجه
نعم ولو صرت إلى النار
وأي خزي هو أخزى من أن
يقال لي يا سب٤٥ بشار

فلما قتل المهدي بشارًا بالبطيحة اتفق أن حمل إلى منزله ميتًا، فدفن مع حماد على تلك التلعة، فمر بها أو هشام الباهلي الشاعر البصري الذي كان يهاجي بشارًا، فوقف على قبريهما فقال:

قد تبع الأعمى قفا عجرد
فأصبحا جارين في دار
قالت بقاع الأرض لا مرحبًا
بقرب حماد وبشار
تجاورا بعد تنائيهما
ما أبغض الجار إلى الجار
صارا جميعًا في يدي مالك
في النار والكافر في النار

(٣) مروان بن أبي حفصة

«لم٤٦ يكن مروان٤٧ متصرفًا في فنون الشعر، ولعله لم يَعْدُ منها فنًّا أو فنين؛ فلسنا نعرف له غزلًا إلا هذا الغزل الذي تعود الشعراء أن يبدءوا به مدائحهم؛ ولسنا نعرف له هجاء إلا هذا النحو من الهجاء الذي يضطر إليه الشعراء السياسيون حين يدافعون عن مذهبهم ويهاجمون خصومهم. على أن موقف مروان كان في هذا دقيقًا جدًّا، فهو لم يكن ينصر بني العباس على بني أمية فيبلغ منهم ما يريد، ويهجوهم في حرية؛ وإنما كان السيف هو الذي انتصر للعباسيين من بني أمية، وكان العباسيون في حاجة إلى من ينصرهم على العلويين وأتباعهم من بني هاشم، ولم يكن هجاء العلويين يسيرًا! كان الدين يأباه في ذلك الوقت، وكانت كرامة الخلافة العباسية نفسها تأباه أيضًا، فالعلويون من بني هاشم وهجاؤهم هجاء للعباسيين؛ ومن هنا سلك مروان وأمثاله من الشعراء السياسيين الذين ناضلوا عن حقوق العباسيين مسلك الدفاع والمناظرة الشريفة البريئة من الشتم والقذف، فكان دفاعهم أبلغ، وكانت مناظراتهم أحسن وقعًا من هجاء أولئك الشتامين المسرفين في الشتم؛ ثم لا نعرف لمروان مجونًا ولا عبثا، فلم يكن كما قلنا ماجنًا ولا عابثًا وإنما كان بخيلًا، والبخل والعبث شيئان لا يتفقان، ومن ضن على نفسه باللحم وطيبات الطعام لم يستبح لنفسه خمرًا ولا ما تستتبعه الخمر. ثم لا نعرف لمروان فخرًا وما نحسب أنه فاخر أو مال إلى الفخر، فقد كان رجلًا عمليًّا يعنيه أن يظفر بالمكانة والثروة وكان يضن بوقته وجهده على الفخر الذي لا يفيد. لم يعرض إذن إلا لفنين اثنين: المدح والرثاء، وهو في المدح أشعر منه في الرثاء وهذا طبعي، فهو راغب حين يمدح، يطلب المال ويحرص على أن يظفر به، فمعقول أن يجيد وأن يبلغ من الإجادة حظًّا عظيمًا؛ أما في الرثاء فهو لا يرغب ولا يطلب مالًا وإنما يفي بعهد ويشكر صنيعة. ومعقول أن موقفه هذا لا يدفعه إلى الإجادة إلا أن يكون حساسًا دقيق الشعور راقي النفس، ولم يكن مروان من هذا كله في شيء، وإنما كان كما قلت لك رجلًا عمليًّا يريد المال. على أن رثاءه لمعن ليس بالرديء وكذلك رثاؤه للمهدي، وهل نستطيع أن نعد رثاءه للمهدي رثاء! هو مدح لأنه عزاء للخليفة الجديد، ففيه ذكر للخليفة الراحل، والثناء على وارثه، وفيه المثوبة والعطاء. فهو إلى المدح أقرب منه إلى الرثاء.

أما مدح مروان فمن آيات المدح العربي، ونحن لا نحفظ منه إلا متفرقات قليلة ولكنها تكفي لنحكم أن مروان كان قد أتقن المدح وبرع فيه، بل نحسب أنه برز في هذا الفن على غيره من المعاصرين، ولكن مدح مروان ينقسم إلى قسمين متمايزين: أحدهما المدح بالمعنى الشائع المعروف، وهو موجه لمعن بن زائدة، فهو يفتن في وصف معن بالجود والكرم والشجاعة والحب، ثم يفتن في مدح بني شيبان الذين ينتمي إليهم معن، وهو لا يخرج في مدحه هذا عن سنة الشعراء من قبله، ولكنه جيد المعاني منتقاها، حسن الألفاظ صافيها.

وأما القسم الثاني فهو هذا المدح السياسي الذي كان ينشده الخلفاء من بني العباس، وهو مدح إن شئت ولكنه يمتاز عن المدح المعروف بما فيه من هذا النضال السياسي الذي كان يحتاج إلى مهارة وفطنة ودقة وخفة، والذي كان يضطر صاحبه إلى أن يقهر العلويين دون أن يؤذيهم، وإلى أن ينصر العباسيين دون أن يزدري خصومهم، وقد بلغ مروان من ذلك ما أراد، فقد أغضب العلويين لا لأنه آذاهم أو هجاهم فيما نعتقد، بل لأنه كان خصمًا قويًّا عنيدًا ماهرًا في الخصام.

ثم هناك شيئان لا بد من الإشارة إليهما ليكمل رأينا في مروان، ولنستطيع أن نحكم على شعره حكمًا معللًا إن صح هذا التعبير:
  • الأول: أن مروان لم يكن عراقيًّا ولم يرض الإقامة في العراق ولم يطل عشرة العراقيين من أهل المجون والعبث، وإنما كان من أهل اليمامة أقام فيها لا يبرحها إلا وافدًا على أمير أو وزير أو خليفة، فإذا أنشد قصيدته وظفر بجائزته عاد إلى اليمامة وأقام فيها عامه ثم استأنف الرحلة. ولهذا أثره في شعر مروان، فهو أقرب إلى شعر الجاهليين والإسلاميين منه إلى شعر المحدثين من شعراء الحضارة العباسية، تقرؤه فتجد عليه هذه المسحة التي تخلو أو تكاد تخلو من الدعابة والخفة، وتمتاز بشيء من الجلال والرصانة، يمثل البادية تمثيلًا صحيحًا؛ ولهذا أثره من وجهة أخرى، فقد رضي علماء اللغة جميعًا عن مروان وأحبوه من هذه الناحية، وما أشك أنا في أنهم كانوا يودون لو استطاعوا إيثاره على بشار وأبي نواس، لأنه كان أقرب منهما إلى الأسلوب البدوي القديم، ولكن أنى لهم ذلك! وقد سلط الله عليهم لسان بشار وأبي نواس فاضطروا إلى أن يحابوا هذين الشاعرين ويتملقوهما، وأجمعوا أو كادوا يجمعون على تقديم بشار وإيثاره على مروان. ومع ذلك فليس إلى المقارنة سبيل بين الشاعرين إذا اتخذنا وجهة البحث والنقد، هذه الوجهة التي كان يعنى بها علماء اللغة وهي وجهة المتانة والرصانة في اللفظ والأسلوب، لا يقاس إلى مروان في هذا أحد من شعراء العراق، أما إذا اتخذنا وجهة أخرى للنقد، إذا اتخذنا اختلاف الفنون التي طرقها الشاعر، وقرب المأخذ، والدنو من أذهان الناس والقدرة على تمثيل حياتهم، فليس مروان يقاس إلى بشار ولا إلى أبي نواس بنوع خاص؛ على أن من علماء اللغة من استطاع أن يكون شجاعًا شريفًا في فنه لا يخاف ولا يهاب فصدق نفسه وصدق الناس، وآثر مروان على غيره من الشعراء المعاصرين، وهذا العالم اللغوي هو ابن الأعرابي الذي ختم الشعر بمروان وأبى أن يدون لأحد من المحدثين بعده، والذي كان ينشد مع الإعجاب الشديد هذه الأبيات الجيدة من شعر مروان، وهي:
    بنو مطر يوم اللقاء كأنهم
    أسود لها في بطن خفان أشبل
    هم يمنعون الجار حتى كأنما
    لجارهم بين السماكين منزل
    لهاميم٤٨ في الإسلام سادوا ولم يكن
    كأولهم في الجاهلية أول
    هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا
    أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
    ولا يستطيع الفاعلون فعالهم
    وإن أحسنوا في النائبات وأجملوا

    وكان ابن الأعرابي يقول: لو أن معنًا أعطى مروان كل ما يملك بهذه الأبيات لما بلغ حقه.

  • الثاني: أن مروان لم يكن سريعًا في الشعر ولا متعجلًا ولا مسترسلًا مع الطبع وإنما كان بطيئًا متمهلًا. كان يجيد الشعر لأنه كان يجوده. كان يسلك هذه الطريقة التي يزعم الرواة أن زهيرًا كان يسلكها في هذه القصائد التي يسمونها الحوليات، كان ينفق أشهرًا في إنشاء القصيدة وأشهرًا في إصلاحها وأشهرًا في عرضها حتى إذا استقام له هذا كله أنشد قصيدته لممدوحه خليفة كان أو وزيرًا أو أميرًا، فليس عجيبًا مع هذه الأناة أن يخلو شعره مما يستنكر وأن يبرأ من الضعف والوحشية معًا. ولقد يحدثنا الرواة بطائفة من أخبار مروان مع اللغويين والشعراء الذين كان يعرض عليهم شعره قبل أن ينشده الخلفاء. ولست أشير إلا إلى سيرته مع بشار فلها معناها. كان مروان يعرض القصيدة على بشار ويسأله رأيه فيها فلا يجيبه بشار بأنها جيدة أو بأنها رديئة، بل يقدر له قيمة القصيدة ماليًّا، فيقول: سيعطونك عليها كذا وكذا … وقد صدق بشار مرتين فأظهر له مروان العجب من ذلك، فقال بشار: ألم أقل لك إني أعلم الغيب! ولم يكن يعلم الغيب، وإنما كان يفهم مروان ويفهم الخلفاء ويفهم الميول السياسية التي كان من شأنها أن تجزل حظ مروان من العطاء.

    كان مروان متناقضًا ولكنه تناقض مفهوم، كان شديد الحرص على الإجادة، فكان يشك في شعره، ويستشير فيه الشعراء والنحاة، ولكنه كان مع ذلك معجبًا بنفسه لا يقدم عليها أحدًا بعد هؤلاء الشعراء الثلاثة: الأخطل والفرزدق وجرير. واسمع رأيه فيهم وفي نفسه، فقد عقده شعرًا ليثبت كما يقول:

    ذهب الفرزدق بالفخار وإنما
    حلو القريض ومره لجرير
    ولقد هجا فأمض أخطل تغلب
    وحوى اللهى ببيانه المشهور
    كل الثلاثة قد أجاد فمدحه
    وهجاؤه قد سار كل مسير
    ولقد جريت ففت غير مهلل
    بجراء لا قرف ولا مبهور
    إني لآنف أن أحبر مدحة
    أبدًا لغير خليفة ووزير
    ما ضرني حسد اللئام ولم يزل
    ذو الفضل يحسده ذوو التقصير

أما رأي مروان في النقد فبديع، كان ينشد الشعر لامرئ القيس ويقول: هو أشعر الناس، ثم ينشد شعر الأعشى ويقول: هو أشعر الناس، ثم ينشد شعر زهير ويقول: هو أشعر الناس، حتى إذا أنشد لطائفة كثيرة من الشعراء، فرآهم جميعًا أشعر الناس، قال ضاحكًا: الناس أشعر الناس! ولست أعرف رأيًا كهذا الرأي يمثل الشك في نقد الناقدين المعاصرين والسخرية بهذا النقد».

وننتقل من ذاك الوصف الرائع إلى ذكر نبذة صالحة من أخباره وأشعاره.

دخل مروان بن أبي حفصة على المهدي بعد وفاة معن، فأنشده مديحًا فيه، فقال له المهدي: ألست القائل:

أقمنا باليمامة بعد معن
مقامًا لا نريد به زوالا
وقلنا أين نرحل بعد معن
وقد ذهب النوال فلا نوالا

قد ذهب النوال فيما زعمت، فلم جئت تطلب نوالنا؟ لا شيء لك عندنا. فلما كان من العام المقبل تلطف حتى دخل مع الشعراء، وإنما كانت الشعراء تدخل على الخلفاء كل عام مرة، فمثل بين يديه، وأنشد — بعد رابع أو خامس من الشعراء:

طرقتك زائرة فحي خيالها
بيضاء تخلط بالجمال دلالها
قادت فؤادك فاستقاد ومثلها
قاد القلوب إلى الصبا فأمالها
فكأنما طرقت بنفحة روضة
سحت بها ديم الربيع طلالها
باتت تسائل في المنام معرسًا
بالبيد أشعث لا يمل سؤالها
في فتية هجعوا غرارًا بعدما
سئموا مراعشة السرى ومطالها
فكأن حشو ثيابهم هندية
نحلت وأغفلت القيون صقالها
وضعوا الخدود لدى سواهم جنح
تشكو كلوم صفاحها وكلالها
طلبت أمير المؤمنين فواصلت
بعد السرى بغدوها آصالها
نزعت إليك صواديًا فتقاذفت
تطوي الفلاة حزونها ورمالها
يتبعن ناجية يهز مراحها
بعد النحول تليلها٤٩ وقذالها
هوجاء تدرع الربا وتشقها
شق الشموس إذا تراع جلالها
تنجو٥٠ إذا دفع القطيع كما نجت
خرجاء٥١ بادرت الظلام رئالها٥٢
كالقوس ساهمة أتتك وقد ترى
كالبرج تملأ رحلها وحبالها

ومنها:

أحيا أمير المؤمنين محمد
سنن النبي حرامها وحلالها
ملك تفرع نبعة من هاشم
مد الإله على الأنام ظلالها
جبل لأمته تلوذ بركنه
رادى جبال عدوها فأزالها
لم يغشها مما يخاف عظيمة
إلا أجال لها الأمور مجالها
حتى يفرجها أغر مهذب
ألفى أباه مفرجًا أمثالها
ثبت على زلل الحوادث راكب
من صرفهن لكل حال حالها
كلتا يديك جعلت فضل نوالها
للمسلمين وللعدو وبالها
وقعت مواقعها بعفوك أنفس
أذهبت بعد مخافة أوجالها
ونصبت نفسك خير نفس دونها
وجعلت مالك واقيًا أموالها
هل تعلمون خليفة من قبله
أجرى لغايته التي أجرى لها
طلع الدروب مشمرًا عن ساقه
بالخيل منصلتا يجد نعالها
قود تريع إلى أغر لوجهه
نور يضيء أمامها وخلالها
قصرت حمائله عليه فقلصت
ولقد تحفظ فينها فأطالها
حتى إذا وردت أوائل خيله
جيحان بث على العدو رعالها٥٣
أحمى بلاد المسلمين عليهم
وأباح سهل بلادهم وجبالها
أدمت دوابر خيله وشكيمها
غاراتهن وألحقت آطالها
لم يبق بعد مغارها وطرادها
إلا نحائزها٥٤ وإلا آلها
رفع الخليفة ناظري وراشني
بيد مباركة شكرت نوالها
وحسدت حتى قيل أصبح باغيًا
في المشي مترف شيمة مختالها
ولقد حذوت لمن أطاع ومن عصى
نعلًا ورثت عن النبي مثالها

فزحف المهدي من صدر مصلاه حتى صار على البساط إعجابًا بما سمع، ثم قال: كم هي؟ قال مائة بيت، فأمر له بمائة ألف درهم، فكانت أول مائة ألف درهم أعطيها شارع في أيام بني العباس، وهكذا فعل معه الرشيد لما أنشده قصيدته التي يقول فيها:

لعمرك ما أنسى غداة المحصب
إشارة سلمى بالبنان المخضب
وقد صدر الحجاج إلا أقلهم
مصادر شتى موكبًا بعد موكب

قال مروان: دخلت على المهدي في قصر السلام، فلما سلمت عليه وذلك بعقب سخطه على يعقوب بن داود، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن يعقوب رجل رافضي، وإنه سمعني أقول في الوراثة:

أنى يكون وليس ذاك بكائن
لبنى البنات وراثة الأعمام

فذلك الذي حمله على عدواتي؛ ثم أنشدته:

كأن أمير المؤمنين محمدًا
لرأفته بالناس للناس والد

فقال له المهدي: والله ما أعطيك إلا من صلب مالي، فاعذرني، وأمر لي بثلاثين ألف درهم وكساني جبة ومطرفًا، وفرض لي على أهل بيته ومواليه ثلاثين ألفًا أخرى.

لما قدم معن من اليمن دخل عليه مروان والمجلس غاص بأهله، فأخذ بعضادتي الباب وأنشأ يقول:

أرى القلب أمسى بالأوانس مولعًا
وإن كان من عهد الصبا قد تمتعا

ويقول فيها:

ولما سرى الهم الغريب قريته
قرى من أزال الشك عنه وأزمعا
عزمت فعجلت الرحيل ولم أكن
كذي لوثة لا يطلع الهم مطلعا
فأمت ركابي أرض معن ولم تزل
إلى أرض معن حيثما كان نزعا
نجائب لولا أنها سخرت لنا
أبت عزة من جهلها أن تورعا
كسونا رحال الميس٥٥ منها غواربًا
تدارك فيها الني٥٦ صيفًا ومربعا
فما بلغت صنعاء حتى تواضعت
ذراها وزال الجهل عنها وأقلعا

إلى أن قال:

وما الغيث إذ عم البلاد بصوبه
على الناس من معروف معن بأوسعا
تدارك معن قبة الدين بعدما
خشينا على أوتادها أن تنزعا
أقام على الثغر المخوف وهاشم
تشاقى سمامًا بالأسنة منقعا
مقام امرئ يأبى سوى الخطة التي
تكون لدى غب الأحاديث أنفعا
وما أحجم الأعداء عنك بقية
عليك ولكن لم يروا فيك مطمعا
رأوا مخدرًا قد جربوه وعاينوا
لدى غيله منهم مجرًا ومصرعا
وليس بثانيه إذا شد أن يرى
لدى نحره زرق الأسنة شرعا
له راحتان الغيث والحتف فيهما
أبى الله إلا أن تضرا وتنفعا
لقد دوخ الأعداء معن فأصبحوا
وأمنعهم لا يدفع الذل مدفعا
نجيب مناجيب وسيد سادة
ذرى المجد من فرعي نزار تفرعا
لبانت خصال الخير فيه وأكملت
وما كملت خمسًا سنوه وأربعًا
لقد أصبحت في كل شرق ومغرب
بسيفك أعناق المريبين خضعا
وطئت خدود الحضرميين وطأة
لها هد ركن منهم فتضعضعا
فأقعوا على الأذناب إقعاء معشر
يرون لزوم السلم أبقى وأودعا
فلو مدت الأيدي إلى الحرب كلها
لكفوا وما مدوا إلى الحرب أصبعا

فقال له معن: احتكم، قال: عشرة آلاف درهم، فقال معن: ربحنا عليك تسعين ألفًا، قال: أقلني، قال: لا أقال الله من يقيلك.

لما مات المهدي وفدت العرب على موسى الهادي يهنئونه بالخلافة ويعزونه عن المهدي، فدخل مروان فأخذ بعضادتي الباب وقال:

لقد أصبحت تختال في كل بلدة
بقبر أمير المؤمنين المقابر
ولو لم تسكن بابنه في مكانه
لما برحت تبكي عليه المنابر

مرض عمرو بن مسعدة فدخل عليه مروان وقد أبل من مرضه، فأنشأ يقول:

صح الجسم يا عمرو
لك التمحيص والأجر
ولله علينا الحمـ
ـد والمنة والشكر
فقد كان شكا شوقًا
إليك النهي والأمر

قال موسى بن يحيى: أوصلنا إلى مروان بن أبي حفصة في وقت من الأوقات سبعين ألف درهم، وجمع إليها مالًا حتى تمت مائة ألف وخمسين ألف درهم وأودعها يزيد بن مزيد، فبينا نحن عند يحيى بن خالد إذ دخل يزيد بن مزيد، وكانت فيه دعابة، فقال: يا أبا علي، أودعني مروان خمسين ومائة ألف درهم، وهو يشتري الخبز من البقال؛ فغضب يحيى ثم قال: علي بمروان، فأتي به، فقال له: قد أخبرني أبو خالد بما أودعته من المال وما تبتاعه من البقال، والله لما يرى من أثر البخل عليك أضر من الفقر لو كان بك. ويروى أنه قال له: والله للبخل أسوأ عليك أثرًا من الفقر لو صرت إليه فلا تبخل. وقال عمر بن شبة قال مروان: ما فرحت بشيء قط فرحي بمائة ألف وهبها لي أمير المؤمنين المهدي، فوزنتها فزادت درهما، فاشتريت به لحما. وقال جهم بن خلف: أتينا اليمامة فنزلنا على مروان بن أبي حفصة فأطعمنا تمرًا وأرسل غلامه بفلس وسكرجة ليشتري زيتًا، فلما جاء بالزيت قال لغلامه: خنتني؛ قال: من فلس! كيف أخونك؟ قال: أخذت الفلس لنفسك واستوهبت الزيت. وقال التوزي: مر مروان بن أبي حفصة في بعض سفراته وهو يريد مغنى امرأة من العرب، فأضافته؛ فقال: لله علي إن وهب لي الأمير مائة ألف أن أهب لك درهمًا؛ فأعطاه ستين ألف درهم، فأعطاها أربعة دوانق. وقال أبو دعامة: اشترى مروان لحمًا بنصف درهم فلما وضعه في القدر وكاد ينضج دعاه صديق له، فرده على القصاب بنقصان دانق، فشكاه القصاب وجعل ينادي هذا لحم مروان، وظن أنه يأنف لذلك؛ فبلغ الرشيد ذلك فقال: ويلك! ما هذا؟ فقال: أكره الإسراف.

دخل مروان على موسى الهادي فأنشده قوله فيه:

تشابه يومَا بأسِه ونوالِه
فما أحد يدري لأيهما الفضل

فقال له الهادي: أيما أحب إليك؟ أثلاثون ألفًا معجلة، أم مائة ألف تدون في الدواوين؟ فقال له: يا أمير المؤمنين، أنت تحسن ما هو خير من هذا، ولكنك أنسيته، أفتأذن لي أن أذكرك؟ قال: نعم؛ قال: تعجل لي الثلاثين ألفًا وتدون المائة ألف في الدواوين، فضحك وقال: بل يعجلان جميعًا، فحمل إليه المال أجمع.

قال محمد النوفلي: اجتاز مروان برجل من باهلة من أهل اليمامة، وهو ينشد قومًا كان جالسًا إليهم شعرًا مدح به مروان بن محمد، وأنه قتل قبل أن يلقاه وينشده إياه، أوله:

مروان يابن محمد أنت الذي
زيدت به شرفًا بنو مروان

فأعجبته القصيدة، فأمهل الباهلي حتى قام من مجلسه، ثم أتاه في منزله فقال له: إني سمعت قصيدتك وأعجبتني، ومروان قد مضى ومضى أهله، وفاتك ما قدرت عنده، أفتبيعني القصيدة حتى أنتحلها، فإنه خير لك من أن تبقى عليك وأنت فقير؟ قال: نعم؛ قال: بكم؟ قال: بثلاثمائة درهم، قال: قد ابتعتها، فأعطاه الدراهم وحلفه بالطلاق ثلاثًا وبالأيمان المحرجة ألا ينتحلها أبدًا، ولا ينسبها إلى نفسه ولا ينشدها، وانصرف بها إلى منزله فغير منها أبياتًا وزاد فيها وجعلها في معن، وقال في ذلك البيت:

معن بن زائدة الذي زيدت به
شرفًا على شرف بنو شيبان
ووفد بها إلى معن حتى أثرى واتسعت حاله، فكان معن أول من رفع ذكره ونوه به. وله فيه مدائح بعد ذلك شريفة ومراث حسنة. قال مروان: كان المنصور قد طلب معن بن زائدة طلبًا شديدًا وجعل فيه مالًا، فحدثني معن باليمن أنه اضطر لشدة الطلب إلى أن قام في الشمس حتى لوحت وجهه، وخفف عارضيه ولحيته، ولبس جبة صوف غليظة، وركب جملًا من الجمال النقالة يمضي إلى البادية فيقيم بها، وكان قد أبلى في حرب يزيد بن عمر بن هبيرة بلاءً حسنًا غاظ المنصور وجد في طلبه، قال معن: فلما خرجت من باب حرب تبعني أسود متقلدًا سيفًا حتى إذا غبت عن الحرس قبض على خطام جملي فأناخه وقبض علي، فقلت له: ما لك؟ قال أنت طلبة أمير المؤمنين، قلت: ومن أنا حتى يطلبني أمير المؤمنين؟ قال معن بن زائدة، قلت: يا هذا، اتق الله، وأين أنا من معن؟ قال: دع هذا عنك، فأنا والله أعرف بك منك، فقلت له: فإن كانت القصة كما تقول، فهذا جوهر حملته معي يفي بأضعاف ما بذله المنصور لمن جاءه بي، فخذه ولا تسفك دمي، قال: هاته، فأخرجته إليه، فنظر إليه ساعة وقال: صدقت في قيمته، ولست قابله حتى أسألك عن شيء، فإن صدقتني أطلقتك، فقلت: قل، قال: إن الناس قد وصفوك بالجود فأخبرني، هل وهبت قط مالك كله؟ قلت: لا، قال: فنصفه؟ قلت: لا، قال: فثلثه؟ قلت: لا، حتى بلغ العشر، فاستحييت، فقلت: أظن أني فعلت هذا، فقال: ما أراك فعلته، أنا والله راجل ورزقي من أبي جعفر عشرون درهمًا وهذا الجوهر قيمته آلاف الدنانير وقد وهبته لك، ووهبتك لنفسك ولجودك المأثور عنك بين الناس، ولتعلم أن في الدنيا أجود منك فلا تعجبك نفسك، ولتحقر بعد هذا كل شيء تفعله ولا تتوقف عن مكرمة؛ ثم رمى بالعقد في حجري وخلى خطام البعير وانصرف؛ فقلت: يا هذا، قد والله فضحتني ولسفك دمي أهون علي مما فعلت، فخذ ما دفعته إليك فإني غني عنه، فضحك وقال: أردت أن تكذبني في مقامي هذا، والله لا آخذه ولا آخذ بمعروف ثمنًا أبدًا ومضى؛ فوالله لقد طلبته بعد أن أمنت وبذلت لمن جاءني به ما شاء، فما عرفت له خبرًا وكأن الأرض ابتلعته. وكان سبب رضا المنصور عن معن أنه لم يزل مستترًا حتى كان يوم الهاشمية،٥٧ فلما وثب القوم على المنصور وكادوا يقتلونه، وثب معن وهو متلثم فانتضى سيفه وقاتل فأبلى بلاء حسنًا وذب القوم عنه حتى نجا وهم يحاربونه بعد؛ ثم جاء والمنصور راكب على بغلة ولجامها بيد الربيع فقال له: تنح فإني أحق باللجام منك في هذا الوقت وأعظم فيه غناء؛ فقال له المنصور: صدق فادفعه إليه، فأخذه ولم يزل يقاتل حتى انكشفت تلك الحال، فقال له المنصور: من أنت؟ لله أبوك! قال: أنا طلبتك يا أمير المؤمنين معن بن زائدة؛ قال: قد أمنك الله على نفسك ومالك ومثلك يصطنع، ثم أخذه معه وخلع عليه وحباه وزينه، ثم دعا به يومًا فقال له: إني قد أملتك لأمر فكيف تكون فيه؟ قال: كما يحب أمير المؤمنين؛ قال: قد وليتك اليمن فابسط السيف فيهم حتى ينقض حلف ربيعة واليمن، وابلغ من ذلك ما يحب أمير المؤمنين؛ فولاه اليمن وتوجه إليها فبسط السيف فيهم حتى أسرف. قال مروان: وقدم معن بعقب ذلك فدخل على المنصور، فقال له بعد كلام طويل: قد بلغ أمير المؤمنين عنك شيء لولا مكانك عنده ورأيه فيك لغضب عليك؛ قال: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: إعطاؤك مروان بن أبي حفصة ألف دينار لقوله فيك:
معن بن زائدة الذي زيدت به
شرفًا على شرف بنو شيبان
إن عد أيام الفعال فإنما
يوماه يوم ندى ويوم طعان

فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أعطيته ما بلغك لهذا الشعر، وإنما أعطيته لقوله:

ما زلت يوم الهاشمية معلنًا
بالسيف دون خليفة الرحمن
فمنعت حوزته وكنت وقاءه
من وقع كل مهند وسنان

فاستحيا المنصور وقال: إنما أعطيته ما أعطيته لهذا القول؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ والله لولا مخافة الشنعة لأمكنته من مفاتيح بيوت الأموال وأبحته إياها؛ فقال له المنصور: لله درك من أعرابي! ما أهون عليك ما يعز على الرجال وأهل الحزم!

وأختم هذه الترجمة بموت مروان يقصه قاتله. روى صاحب الأغاني عن رجل يقال له صالح بن عطية الأصجم أنه قال: لما قال مروان:

أنى يكون وليس ذاك بكائن
لبنى البنات وراثة الأعمام

لزمته وعاهدت الله أن أغتاله فأقتله أي وقت أمكنني، وما زلت ألاطفه وأبره، وأكتب أشعاره حتى خصصت به فأنس بي جدًّا، وعرفت ذلك بنو حفصة جميعًا فأنسوا بي، ولم أزل أطلب غرة حتى مرض من حمى أصابته، فلم أزل أظهر له الجزع عليه وألازمه وألاطفه حتى خلا لي البيت يومًا، فوثبت عليه فأخذت بحلقه فما فارقته حتى مات، فخرجت وتركته فخرج إليه أهله بعد ساعة فوجدوه ميتًا وارتفعت الصيحة، فحضرت وتباكيت وأظهرت الجزع عليه حتى دفن وما فطن لما فعلت أحد ولا اتهمني به.

(٤) أبو دلامة٥٨

كان أول ما حفظ من شعره وأسنيت الجوائز له به، قصيدة مدح بها أبا جعفر المنصور وذكر قتله أبا مسلم يقول فيها:

أبا مسلم٥٩ خوَّفتني القتل فانتحى
عليك بما خوفتني الأسد الورد
أبا مسلم ما غير الله نعمة
على عبده حتى يغيرها العبد

أنشدها المنصور في محفل من الناس فقال له: احتكم، فطلب عشرة آلاف درهم، فأمر له بها، فلما خلا قال له: إيه، أما والله لو تعديتها لقتلتك.

أمر أبو جعفر أصحابه بلبس السواد وقلانس طوال تدعم بعيدان من داخلها، وأن يعلقوا السيوف في المناطق ويكتبوا على ظهورهم: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فقال أبو دلامة:

وكنا نرجي من إمام زيادة
فجاد٦٠ بطول زاده في القلانس
تراها على هام الرجال كأنها
دنان يهود جللت بالبرانس

ودخل إلى المنصور مرة فأنشده:

إن الخليط أجد البين فانتجعوا
وزودوك خبالًا، بئسما صنعوا
والله يعلم أن كادت لبينهم
يوم الفراق حصاة القلب تنصدع
عجبت من صبيتي يومًا وأمهم
أم الدلامة لما هاجها الجزع
لا بارك الله فيها من منبهة
هبت تلوم عيالي بعد ما هجعوا
ونحن مشتبهو الألوان أوجهنا
سود قباح وفي أسمائنا شنع
إذا تشكت إلي الجوع قلت لها
ما هاج جوعك إلا الري والشبع
لا والذي يا أمير المؤمنين قضى
لك الخلافة في أسبابها الرفع
ما زلت أخلصها كسبي فتأكله
دوني ودون عيالي ثم تضطجع
شوهاء مشنأة في بطنها بجر٦١
وفي المفاصل من أوصالها لها فدع
ذكرتها بكتاب الله حرمتنا
ولم تكن بكتاب الله تنتفع
فاخرنطمت٦٢ ثم قالت وهي مغضبة
أأنت تتلو كتاب الله يا لكع
اخرج لتبغ لنا مالًا ومزرعة
كما لجيراننا مال ومزدرع
واخدع خليفتنا عنا بمسألة
إن الخليفة للسؤال ينخدع

فضحك أبو جعفر وكتب له بضيعة.

كان واقفًا بين يدي السفاح فقال له: سلني حاجتك، قال: كلب أتصيد به، قال: أعطوه إياه، قال: ودابة أتصيد عليها، قال: أعطوه دابة، قال: وغلام يصيد بالكلب ويقوده، قال: أعطوه غلامًا، قال: وجارية تصلح لنا الصيد وتطعمنا منه، قال: أعطوه جارية، قال: هؤلاء يا أمير المؤمنين عبيدك، فلا بد لهم من دار يسكنونها، قال: أعطوهم دارًا تجمعهم، قال: فإن لم تكن لهم ضيعة فمن أين يعيشون؟ قال: قد أعطيتك مائة جريب عامرة، ومائة جريب غامرة، قال: وما الغامرة؟ قال ما لا نبات فيه، فقال: قد أقطعتك يا أمير المؤمنين خمسمائة ألف جريب غامرة من فيافي بني أسد، فضحك وقال: اجعلوها عامرة، قال: فأذن لي أن أقبل يدك، قال: أما هذه فدعها، قال: والله ما منعت عيالي شيئًا أقل ضررًا عليهم منها، قال الجاحظ: فانظر إلى حذقه بالمسألة ولطفه فيها، ابتدأ بكلب فسهل القصة به وجعل يأتي بما يليه على ترتيب وفكاهة حتى نال ما لو سأله بديهة لما وصل إليه.

قال علي بن سلام: كنت أسقي أبا دلامة والسندي إذ خرجت بنت لأبي دلامة، فقال فيها أبو دلامة:

فما ولدتك مريم أم عيسى
ولا رباك لقمان الحكيم

أجز يا أبا عطاء، فقال:

ولكن قد تضمك أم سوء
إلى لباتها وأب لئيم

فضحك لذلك، ثم غدا أبو دلامة إلى المنصور فألفاه في الرحبة يصلح فيها شيئًا يريده، فأخبره بقصة ابنته وأنشده البيتين، ثم اندفع فأنشده بعدهما:

لو كان يقعد فوق الشمس من كرم
قوم لقيل اقعدوا يا آل عباس
ثم ارتقوا في شعاع الشمس كلكم
إلى السماء فأنتم أطهر الناس
وقدموا القائم المنصور رأسكم
فالعين والأنف والأذنان في الراس

فاستحسنها وقال: بأي شيء تحب أن أعينك على قبح ابنتك هذه؟ فأخرج خريطة كان قد خاطها من الليل، فقال: تملأ لي هذه دراهم، فملئت فوسعت أربعة آلاف درهم.

لما توفي أبو العباس السفاح دخل أبو دلامة على المنصور والناس عنده يعزونه، فأنشأ أبو دلامة يقول:

أمسيت بالأنبار يابن محمد
لم تستطع عن عقرها تحويلا
ويلي عليك وويل أهلي كلهم
ويلًا وعولًا في الحياة طويلا
فلتبكين لك النساء بعبرة
وليبكين لك الرجال عويلا
مات الندى إذ مت يابن محمد
فجعلته لك في التراب عديلا
إني سألت الناس بعدك كلهم
فوجدت أسمح من سألت بخيلا
ألشقوتي أُخرت بعدك للتي
تدع العزيز من الرجال ذليلا
فلأحلفن يمين حق برة
بالله ما أعطيت بعدك سولا

فأبكى الناس قوله، فغضب المنصور غضبًا شديدًا وقال: لئن سمعتك تنشد هذه القصيدة لأقطعن لسانك، فقال: يا أمير المؤمنين، إن أبا العباس أمير المؤمنين كان لي مكرمًا، وهو الذي جاء بي من البدو كما جاء الله بإخوة يوسف إليه، فقل كما قال يوسف لإخوته: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللهُ لَكُم وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَْ فسري عن المنصور وقال: قد أقلناك يا أبا دلامة، فسل حاجتك، فقال: يا أمير المؤمنين، قد كان أبو العباس أمر لي بعشرة آلاف درهم وخمسين ثوبًا وهو مريض، ولم أقبضها. فقال المنصور: ومن يعرف هذا؟ فقال: هؤلاء، وأشار إلى جماعة ممن حضر، فوثب سليمان بن خالد وأبو الجهم فقالا: صدق أبو دلامة نحن نعلم ذلك، فقال المنصور لأبي الخازن وهو مغيظ: يا سليمان، ادفعها إليه وسيره إلى هذا الطاغية «يعني عبد الله بن علي» وقد كان خرج بناحية الشام وأظهر الخلاف، فوثب أبو دلامة فقال: يا أمير المؤمنين إني أعيذك بالله أن أخرج معهم، فوالله إني لمشئوم، فقال المنصور: امض، فإن يمني يغلب شؤمك فاخرج، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أحب لك أن تجرب ذلك مني على مثل هذا العسكر، فإني لا أدري أيهما يغلب، أيمنك أم شؤمي، إلا أني بنفسي أوثق وأعرف وأطول تجربة، قال: دعني من هذا فما لك من الخروج بد، فقال: إني أصدقك الآن، شهدت والله تسعة عشر عسكرًا كلها هزمت وكنت سببها، فإن شئت الآن على بصيرة أن يكون عسكرك العشرين فافعل، فاستغرب أبو جعفر ضحكًا وأمره أن يتخلف مع عيسى بن موسى بالكوفة.

قال أبو دلامة: أتى بي المنصور أو المهدي وأن سكران، فحلف ليخرجني في بعث حرب، فأخرجني مع روح بن حاتم الهلبي لقتال الشراة، فلما التقى الجمعان قلت لروح: أما والله لو أن تحتي فرسك ومعي سلاحك لأثرت في عدوك اليوم أثرًا ترتضيه، فضحك وقال: والله العظيم لأدفعن ذلك إليك ولآخذنك بالوفاء بشرطك، ونزل عن فرسه ونزع سلاحه ودفعهما إلي ودعا بغيرهما فاستبدل بهما، فلما حصل ذلك في يدي وزالت عني حلاوة الطمع قلت له: أيها الأمير هذا مقام العائذ بك، وقد قلت أبياتًا فاسمعها، قال: هات، فأنشدته:

إني استجرتك أن أقدم في الوغى
لتطاعن وتنازل وحراب٦٣
فهب السيوف رأيتها مشهورة
فتركتها ومضيت في الهراب
ماذا تقول لما يجئ وما يرى
من واردات الموت في النشاب
فقال: دع عنك هذا وستعلم، وبرز رجل من الخوارج يدعو للمبارزة: فقال: اخرج إليه يا أبا دلامة، فقلت: أنشدك الله أيها الأمير في دمي، قال: والله لتخرجن، فقلت: أيها الأمير فإنه أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا وأنا والله جائع ما شبعت مني جارحة من الجوع، فمر لي بشيء آكله ثم أخرج، فأمر لي برغيفين ودجاجة، فأخذت ذلك وبرزت عن الصف، فلما رآني الشاري أقبل نحوي وعليه فرو قد أصابه المطر فابتل وأصابته الشمس فانفعل٦٤ وعيناه تقدان، فأسرع لي، فقلت له: على رسلك يا هذا، كما أنت، فوقف، فقلت: أتقتل من لا يقاتلك؟ قال: لا، قلت: أتقتل رجلًا على دينك؟ قال: لا، قلت: أفتستحل ذلك قبل أن تدعو من تقاتله إلى دينك؟ قال: لا، فاذهب عني إلى لعنة الله، قلت: لا أفعل أو تسمع مني، قال: قل، قلت: هل كانت بيننا قط عدواة أو ترة أو تعرفني بحال تحفظك علي أو تعلم بيني وبين أهلك وترًا، قال: لا والله، قلت: ولا أنا والله أضمر لك إلا جميل الرأي، وإني لأهواك وأنتحل مذهبك، وأدين دينك، وأريد السوء لمن أراده لك، قال: يا هذا جزاك الله خيرًا فانصرف، قلت: إن معي زادًا أحب أن آكله معك وأحب مواكلتك لتتأكد المودة بيننا ويرى أهل العسكر هوانهم علينا، قال: فافعل، فتقدمت إليه حتى اختلفت أعناق دوابنا، وجمعنا أرجلنا على معارفها والناس قد غلبوا ضحكًا، فلما استوفينا ودعني، ثم قلت له: إن هذا الجاهل إن أقمت على طلب المبارزة ندبني إليك فتتعبني وتتعب نفسك، فإن رأيت ألا تبرز اليوم فافعل، قال: قد فعلت، ثم انصرف وانصرفت فقلت لروح: أما أنا فقد كفيتك قرني، فقل لغيري أن يكفيك قرنه كما كفيتك، فأمسك، وخرج آخر يدعو إلى البراز، فقال لي: اخرج إليه، فقلت:
إني أعوذ بروح أن يقدمني
إلى البراز فتخزى بي بنو أسد
إن البراز إلى الأقران أعلمه
مما يفرق بين الروح والجسد
قد حالفتك المنايا إن صمدت لها
وأصبحت لجميع الخلق بالرصد
إن المهلب حب الموت أورثكم
وما ورثت اختيار الموت عن أحد
لو أن لي مهجة أخرى لجدت بها
لكنها خلقت فردًا فلم أجد

فضحك وأعفاني.

قال أبو أيوب المورياني لأبي جعفر وكان يشنأ أبا دلامة: إن أبا دلامة معتكف على الخمر، فما يحضر صلاة ولا مسجدًا وقد أفسد فتيان العسكر، فلو أمرته بالصلاة معك لأجرت فيه وفي غيره من فتيان عسكرك بقطعه عنهم، فلما دخل عليه أبو دلامة قال له: ما هذا المجون الذي يبلغني عنك؟ فقال: يا أمير المؤمنين ما أنا والمجون وقد شارفت باب قبري! قال: دعني من استكانتك وتضرعك، وإياك أن تفوتك الظهر والعصر في مسجدي، فلئن فاتتاك لأحسنن أدبك ولأطيلن حبسك، فوقع في شر ولزم المسجد أيامًا، ثم كتب قصة ودفعها إلى المهدي فأوصلها إلى أبيه وكان فيها:

ألم تعلما أن الخيلفة لزني٦٥
بمسجده والقصر، مالي وللقصر
أصلي به الأولى جميعًا وعصرها
فويلي من الأولى وويلي من العصر
أصليهما بالكره في غير مسجدي
فمالي في الأولى ولا العصر من أجر
لقد كان في قومي مساجد جمة
ولم ينشرح يومًا لغشيانها صدري
يكلفني من بعد ما شبت خطة
يحط بها عني الثقيل من الوزر
وما ضره والله يغفر ذنبه
لو ان ذنوب العالمين على ظهري

فقال: صدق، ما يضرني ذلك، والله لا يصلي هذا أبدًا، فدعوه يعمل ما يشاء.

وقال الهيثم في خبره: قد أعفيناك من هذا الحال، ولكن على ألا تدع القيام معنا في ليالي شهر رمضان فقد أظل، فقال: أفعل، قال: فإنك إن تأخرت لشرب الخمر علمت ذلك والله لئن فعلت لأحدنك، فقال أبو دلامة: البلية في شهر أخف منها في طول الدهر، سمعًا وطاعة، فلما حضر شهر رمضان لزم المسجد، وكان المهدي يبعث إليه في كل ليلة حرسيًّا يجيء به، فشق ذلك عليه وفزع إلى الخيزران وإلى أبي عبيد الله وكل من يلوذ بالمهدي ليشفعوا له في الإعفاء من القيام، فلم يجبهم، فقال له أبو عبيد الله: الدال على الخير كفاعله، فكيف شكرك؟ قال: أتم شكر، قال: عليك بريطة فإنه لا يخالفها، قال: صدقت، ثم رفع إليها رقعة يقول فيها:

أبلغا ريطة أني
كنت عبدًا لأبيها
فمضى يرحمه اللـ
ـه وأوصى بي إليها
وأراها نسيتني
مثل نسيان أخيها
جاء شهر الصوم يمشي
مشية ما أشتهيها
قائدًا لي ليلة القد
ر كأني أبتغيها
تنطح القبلة شهرًا
جبهتي لا تأتليها
ولقد عشت زمانًا
في فيافي وجيها
في ليال من شتاء
كنت شيخًا أصطليها
قاعدًا أوقد نارًا
لضباب أشتويها
وصبوح وغبوق
في علاب أحتسيها
ما أبالي ليلة القد
ر ولا تسمعنيها
فاطلبي لي فرجًا منـ
ـها وأجري لك فيها

فلما قرأت الرقعة ضحكت وأرسلت إليه: اصطبر حتى مضي ليلة القدر، فكتب إليها: إني لم أسألك أن تكلميه في إعفائي عامًا قابلا، وإذا مضت ليلة القدر فقد فني الشهر، وكتب تحتها أبياتًا:

خافي إلهك في نفس قد احتضرت
قامت قيامتها بين المصلينا
ما ليلة القدر من همي فأطلبها
إني أخاف المنايا قبل عشرينا
يا ليلة القدر قد كسرت أرجلنا
يا ليلة القدر حقًّا ما تمنينا
لا بارك الله في خير أؤمله
في ليلة بعد ما قمنا ثلاثينا

فلما قرأت الرقعة ضحكت ودخلت إلى المهدي فشفعت له إليه وأنشدته الأبيات، فضحك حتى استلقى ودعا به وريطة معه في الحجلة، فدخل، فأخرج رأسه إليه وقال: قد شفعنا ريطة فيك وأمرنا لك بسبعة آلاف درهم، فقال: أما شفاعة سيدتي في حتى أعفيتني فأعفاها الله من من النار، وأما السبعة الآلاف فما أعجبني ما فعلته إما أن تتمها بثلاثة آلاف فتصير عشرة أو تنقصني منها ألفين فتصير خمسة آلاف، فإني لا أحسن حساب السبعة، فقال: قد جعلتها خمسة، فقال: أعيذك بالله أن تختار أدنى الحالين وأنت أنت، فعبث به المهدي ساعة، ثم تكلمت فيه ريطة، فأتمها له عشرة آلاف درهم.

شرب أبو دلامة في بعض الحانات فسكر وانصرف وهو يميل، فلقيه العسس، فأخذوه وقالوا له: من أنت، وما دينك؟ فقال:

ديني على دين بني العباس
ما ختم الطين على القرطاس
إني اصطحبت أربعًا بالكاس
فقد أدار شربها براسي
فهل بما قلت لكم من باس
فأخذوه ومضوا وخرقوا ثيابه وساجه،٦٦ وأتى به أبو جعفر، وكان يؤتى بكل ما أخذه العسس، فحبسه مع الدجاج في بيت، فلما أفاق جعل ينادي غلامه مرة وجاريته مرة، فلم يجبه أحد، وبينما هو في ذلك إذ سمع صوت الدجاج وزقاء الديوك، فلما أكثر قال له السجان: ما شأنك؟ قال: ويلك من أنت؟ وأين أنا؟ قال: في الحبس وأنا فلان السجان، قال: من حبسني؟ قال: أمير المؤمنين، قال: ومن خرق طيلساني؟ قال: الحرس، فطلب منه أن يأتيه بدواة وقرطاس، ففعل، فكتب إلى أبي جعفر:
أمير المؤمنين فدتك نفسي
علام حبستني وخرقت ساجي
أمن صفراء صافية المزاج
كأن شعاعها لهب السراج
وقد طبخت بنار الله حتى
لقد صارت من النطف النضاج
تهش لها القلوب وتشتهيها
إذا برزت ترقرق في الزجاج
أقاد إلى السجون بغير جرم
كأني بعض عمال الخراج
ولو معهم حبست لكان سهلًا
ولكني حبست مع الدجاج

فدعا به وقال: أين حبست يا أبا دلامة؟ قال: مع الدجاج، قال: فما كنت تصنع؟ قال: أقوق معهن حتى أصبحت، فضحك وخلى سبيله وأمر له بجائزة، فلما خرج قال له الربيع: إنه شرب الخمر يا أمير المؤمنين، أما سمعت قوله: وقد طبخت بنار الله، يعني الشمس؟ فأمر برده، ثم قال: يا خبيث، شربت الخمر؟ قال: لا، قال: أفلم تقل طبخت بنار الله تعني الشمس؟ قال: لا والله ما عنيت إلا نار الله الموقدة التي تطلع على فؤاد الربيع، فضحك وقال: خذها يا ربيع ولا تعاود.

صام الناس في سنة شديدة الحر على عهد المهدي، وكان أبو دلامة يتنجز جائزة أمر له المهدي بها، فكتب إليه أبو دلامة رقعة يشكو فيها أذى الحر والصوم، وهي:

أدعوك بالرحم التي قد جمعت
في القرب بين قريبنا والأبعد
إلا سمعت وأنت أكرم من مشى
من منشد يرجو جزاء المنشد
جاء الصيام فصمته متعبدًا
أرجو رجاء الصائم المتعبد
ولقيت من أمر الصيام وحره
أمرين قيسا بالعذاب المؤصد
وسجدت حتى جبهتي مشجوجة
مما يناطحني الحصا في المسجد
فامنن بتسريحي بمطلك بالذي
أسلفتنيه من البلاء المرصد

فلما قرأ المهدي رقعته غضب وقال: أي قرابة بيني وبينك؟ قال: رحم آدم وحواء، أنسيتهما يا أمير المؤمنين! فضحك وقال: لا والله ما نسيتهما، وأمر بتعجيل ما أجازه به وزاد فيه، وأنشده أيضًا في ذم الصوم:

هل في البلاد لرزق الله مفترش
أم لا ففي جلده من خشنة برش٦٧
أضحى الصيام منيخًا وسط عرصتنا
ليت الصيام بأرض دونها جرش
إن صمت أوجعني بطني وأقلقني
بين الجوانح مس الجوع والعطش
وإن خرجت بليل نحو مسجدهم
اضرني بصر قد خانه العمش

دخل أبو دلامة على سعيد بن دعلج مولى بني تميم فقال:

إذا جئت الأمير فقال سلام
عليك ورحمة الله الرحيم
وأما بعد ذاك فلي غريم
من الأعراب قبح من غريم
غريم لازم بفناء بيتي
لزوم الكلب أصحاب الرقيم
له مائة علي ونصف أخرى
ونصف النصف في صك قديم
دراهم ما انتفعت بها ولكن
وصلت بها شيوخ بني تميم
أتوني بالعشيرة يسألوني
ولم أك في العشيرة باللئيم

فأمر له بمائتين وخمسة وسبعين درهمًا وقال: ما أساء من أنصف، وقد كافأتك عن قومك وزدتك مائة.

دخل أبو دلامة على المهدي فأنشده قصيدته في بغلته المشهورة:

أتاني، بغلة يستام مني،
عريق في الخسارة والضلال
فقال تبيعها قلت ارتبطها
بحكمك إن بيعي غير غال
فأقبل ضاحكًا نحوي سرورًا
وقال أراك سمحًا ذا جمال
هلم إلي يخلو بي خداعًا
وما يدري الشقي لمن يخالي
فقلت بأربعين، فقال أحسن
إلي فإن مثلك ذو سجال
فأترك خمسة منها لعلمي
بما فيه يصير من الخبال

فقال المهدي: لقد أفلت من بلاء عظيم، قال: والله يا أمير المؤمنين لقد مكثت شهرًا أتوقع صاحبها أن يردها، ثم أنشده:

فأبدلني بها يا رب طرفًا
يكون جمال مركبه جمالي

فقال لصاحب دوابه: خيره من الإصطبل بين مركبين، قال: يا أمير المؤمنين إن كان الاختيار لي وقعت في شر من البغلة، ولكن مره أن يختار لي، فاختار له.

خاصم رجل أبا دلامة في داره فارتفعا إلى عافية القاضي، فأنشأ أبو دلامة يقول:

لقد خاصمتني دهاة الرجال
وخاصمتها سنة وافيه
فما أدحض الله لي حجة
ولا خيب الله لي قافيه
ومن خفت من جوره في القضاء
فلست أخافك يا عافيه

فقال له عافية: والله لأشكونك إلى أمير المؤمنين، ولأعلمنه أنك هجوتني، قال: إذن يعزلك، قال: ولمه؟ قال: لأنك لا تعرف المديح من الهجاء، فبلغ ذلك المنصور فضحك وأمر لأبي دلامة بجائزة.

دخل أبو دلامة على المهدي وعنده إسماعيل بن محمد وعيسى بن موسى والعباس ابن محمد ومحمد بن محمد بن إبراهيم الإمام وجماعة من بني هاشم فقال له: أنا أعطي الله عهدًا لئن لم تهج واحدًا ممن في البيت لأقطعن لسانك، فنظر إليه القوم، فكلما نظر إلى واحد منهم غمزه بأن عليه رضاه، قال أبو دلامة: فعلمت أني قد وقعت وأنها عزمة من عزماته لا بد منها؛ فلم أر أحدًا أحق بالجهاء مني، ولا أدعى إلى السلامة من هجاء نفسي؛ فقلت:

ألا أبلغ لديك أبا دلامه
فليس من الكرام ولا كرامه
إذا لبس العمامة كان قردًا
وخنزيرًا إذا نزع العمامه
جمعت دمامة وجمعت لؤمًا
كذاك اللؤم تتبعه الدمامه
فإن تك قد أصبت نعيم دنيا
فلا تفرح فقد دنت القيامه

فضحك القوم ولم يبق منهم أحد إلا أجازه.

خرج المهدي وعلي بن سليمان إلى الصيد، فسنح لهما قطيع من الظباء، فأرسلت الكلاب وأجريت الخيل، فرمى المهدي ظبيًا بسهم فصرعه، ورمى علي بن سليمان، فأصاب بعض الكلاب فقتله، فقال أبو دلامة:

قد رمى المهدي ظبيًا
شك بالسهم فؤاده
وعلي بن سليما
ن رمى كلبًا فصاده
فهنيئًا لهما كل
امرئ يأكل زاده

فضحك المهدي حتى كاد يسقط عن سرجه وقال: صدق والله أبو دلامة؛ وأمر له بجائزة سنية، فلقب علي بن سليمان صائد الكلب، وعلق به.

أنشد أبو دلامة المنصور يومًا:

هاتيك والدتي عجوز همة٦٨
مثل البلية درعها في المشجب٦٩
مهزولة اللحيين من يرها يقل
أبصرت غولًا أو خيال القطرب٧٠
ما إن تركت لها ولا لابن لها
مالًا يؤمل غير بكر أجرب
ودجائجًا خمسًا يرحن إليهم
لما يبضن وغير عنز مغرب٧١
كتبوا إلي صحيفة مطبوعة
جعلوا عليها طينة كالعقرب
فعلمت أن الشر عند فكاكها
ففككتها عن مثل ريح الجورب
وإذا شبيه بالأفاعي رقشت
يوعدنني بتلمظ وتثؤب
يشكون أن الجوع أهلك بعضهم
لزبا فهل لك في عيال لزب
لا يسألونك غير طل سحابة
تغشاهم من سيلك المتحلب
يا باذل الخيرات يابن بذولها
وابن الكرام وكل قرم منجب
أنتم بنو العباس يعلم أنكم
قدمًا فوارس كل يوم أشهب
أحلاس٧٢ خيل الله وهي مغيرة
يخرجن من خلل الغبار الأكهب

فأمر له بدار يسكنها وكسوة ودراهم، وكانت الدار قريبة من قصره، فأمر أن تزاد في قصره بعد ذلك لحاجة دعته إليها، فدخل عليه أبو دلامة فأنشده قوله:

يابن عم النبي دعوة شيخ
قد دنا هدم داره ودماره
فهو كالماخض التي اعتادها الطلـ
ـق فقرت وما يقر قراره
إن تحز عسرة بكفيك يومًا
فبكفيك عسره ويساره
أو تدعه فللبوار وأنى
ولماذا وأنت حي بواره
هل يخاف الهلاك شاعر قوم
قدمت في مديحهم أشعاره
لكم الأرض كلها فأعيروا
شيخكم ما احتوى عليه جداره
فكأن قد مضى وخلف فيكم
ما أعرتم وأقفرت منه داره

فاستعبر المنصور وأمر بتعويضه دارًا خيرًا منها ووصله.

دخل على المهدي يومًا وعنده محرز ومقاتل ابنا ذؤال يعاتبانه على تقريبه أبا دلامة ويعيبانه عنده فقال:

ألا أيها المهدي هل أنت مخبري
وإن أنت لم تفعل فهل أنت سائلي
ألم ترحم اللحيين من لحيتيهما
وكلتاهما في طولها غير طائل
وإن أنت تفعل فهل أنت مكرمي
بحلقهما من محرز ومقاتل
فإن يأذن المهدي لي فيهما أقل
مقالًا كوقع السيف بين المقاتل
وإلا تدعني والهموم تنوبني
وقلبي من العلجين جم البلابل

فقال: أو آخذ لك منهما عشرة آلاف درهم يفديان بهما أعراضهما منك، قال: ذلك إلى أمير المؤمنين، فأخذها له منهما وأمسك عنهما.

دخل على أم عبيدة حاضنة موسى وهارون، فدفع إليها رقعة قد كتبها إلى الخيزران فيها:

أبلغي سيدتي باللـ
ـه يا أم عبيده
أنها أرشدها اللـ
ـه وإن كانت رشيده
وعدتني قبل أن تخـ
ـرج للحج وليده
فتأنيت وأرسلـ
ـت بعشرين قصيده
كلما أخلقن أخلفـ
ـت لها أخرى جديده
ليس في بيتي لتمهيـ
ـد فراشي من قعيده
غير عجفاء عجوز
ساقها مثل القديده
وجهها أقبح من حو
ت طري في عصيده
ما حياة مع أنثى
مثل عرسي بسعيده

فلما قرئت عليها الأبيات ضحكت واستعادتها منه لقوله: «حوت طري في عصيدة» وجعلت تضحك ووهبت له جارية.

دخل يومًا على المهدي فحادثه ساعة وهو يضحك وقال له: هل بقي أحد من أهلي لم يصلك؟ قال: إن أمنتني أخبرتك وإن أعفيتني فهو أحب إلي، قال: بل تخبرني وأنت آمن، قال: كلهم قد وصلني إلا حاتم بني العباس، قال: ومن هو؟ قال: عمك العباس بن محمد، فالتفت إلى خادم على رأسه وقال: جأ عنقه، فلما دنا منه صاح به أبو دلامة: تنح يا عبد السوء لا تحنث مولاك وتنكثه عهده وأمانه، فضحك المهدي وأمر الخادم فتنحى عنه، ثم قال لأبي دلامة: ويلك! والله عمي أخبل الناس، فقال أبو دلامة: بل هو أسخى الناس، فقال له المهدي: والله لو مت ما أعطاك شيئًا، قال: فإن أنا أتيته فأجازني؟ قال: لك بكل درهم تأخذه منه ثلاثة دراهم، فانصرف أبو دلامة فحبر للعباس قصيدة، ثم غدا بها عليه وأنشده:

قف بالديار وأي الدهر لم تقف
على المنازل بين الظهر والنجف
وما وقوفك في أطلال منزلة
لولا الذي استدرجتْ من قلبك الكلف
إن كنت أصبحت مشغوفًا بساكنها
فلا وربك لا تشفيك من شغف
دع ذا وقل في الذي قد فاز من مضر
بالمكرمات وعز غير مقترف
هذي رسالة شيخ من بني أسد
يهدي السلام إلى العباس في الصحف
تخطها من جواري المصر كاتبة
قد طالما ضربت في اللام والألف
وطالما اختلفت صيفًا وشاتية
إلى معلمها باللوح والكتف٧٣
حتى إذا نهد الثديان وامتلآ
منها وخيفت على الإسراف والقرف
صينت ثلاث سنين ما ترى أحدًا
كما يصون تجار درة الصدف
فبينما الشيخ يهوي نحو مجلسه
مبادرًا لصلاة الصبح بالسدف٧٤
حانت له لمحة منها فأبصرها
مطلة بين سجفيها من الغرف
فخر والله ما يدري غداتئذ
أخر منكشفًا أم غير منكشف
وجاءه الناس أفواجًا بمائهم
ليغسلوا الرجل المغشي بالنطف
ووسوسوا بقران في مسامعه
فخافه الجن والإنسان لم يخف
شيئًا ولكنه من حب جارية
أمسى وأصبح موقوفًا على التلف
قالوا لك الويل ما أبصرت قلت لهم
تطلعتْ من أعالي القصر ذي الشرف
فقلت أيكم والله يأجره
يعين قوته فيها على ضعف
فقام شيخ بهي من رجالهم
قد طالما خدع الأقوام بالحلف
فابتاعها لي بألفي درهم فأتى
بها إلي فألقاها على كتفي
فبين ذاك كذا إذ جاء صاحبها
يبغي الدراهم بالميزان ذي الكفف
وذكر حق على زند وصاحبه
والحق في طرف والطين في طرف
وبين ذاك شهود لا يضرهم
أكنت معترفًا أم غير معترف
فإن يكن منك شيء فهو حقهم
أو لا فإني مدفعوع إلى التلف

فضحك العباس وقال: ويحك! أصادق أنت؟ قال: نعم والله، قال: يا غلام ادفع إليه ألفي درهم ثمنها، فأخذها ثم دخل على المهدي فأخبره القصة وما احتال له، فأمر له المهدي بستة آلاف درهم، وقال له المهدي: كيف لا يضرهم ذلك؟ قال: لأني معدم لا شيء عندي.

دخل على إسحاق الأزرق يعوده، وكان إسحاق قد مرض مرضًا شديدًا ثم تعافى منه وأفاق، فكان من ذلك ضعيفًا وعند إسحاق طبيب يصف له أدوية تقوي بدنه، فقال أبو دلامة للطبيب: أتصف هذه الأدوية لرجل أضعفه المرض؟ ما أردت والله إلا قتله، ثم التفت إلى إسحاق فقال: اسمع أيها الأمير مني، قال: هات ما عندك يا أبا دلامة، فأنشأ يقول:

نح عنك الطبيب واسمع لنعتي
إنني ناصح من النصاح
ذو تجاريب قد تقلبت في الصحـ
ـة دهرًا وفي السقام المتاح
غاد هذا الكباب كل صباح
من متون الفتية السحاح
فإذا ما عطشت فاشرب ثلاثًا
من عتيق في الشم كالتفاح
ثم عند المساء فاعكف على ذا
وعلى ذا بأعظم الأقداح
فتقوِّي ذا الضعف منك وتلقى
عن ليال أصح هذي الصحاح

فضحك إسحاق وعواده وأمر لأبي دلامة بخمسمائة درهم، وكان الطبيب نصرانيًّا فقال: أعوذ بالله من شرِّك يا ركل «يريد يا رجل»، وقال الطبيب: اقبل مني أصلحك الله ولا تسألني عن شيء قدامه، فقال أبو دلامة: أما وقد أخذت أجرة صفقتي وقضيت الحق في نصح صديقي فانعت له الآن أنت ما أحببت.

دخل على المهدي وبين يديه سلمة الوصيف واقفًا، فقال: إني أهديت إليك يا أمير المؤمنين مُهرًا ليس لأحد مثله، فإن رأيت أن تشرفني بقبوله، فأمر بإدخاله إليه، فخرج وأدخل إليه دابته التي كانت تحته، فإذا برذون محطم أعجف هرم، فقال له المهدي: أي شيء هذا؟ ألم تزعم أنه مهر؟ قال له: أوليس هذا سلمة الوصيف بين يديك قائمًا، تسميه الوصيف وله ثمانون سنة، وهو عندك وصيف؟ فإذا كان سلمة وصيفًا فهذا مهر، فجعل سلمة يشتمه والمهدي يضحك، ثم قال المهدي لسلمة: ويلك! إن لهذه منه أخوات، وإن أتى بها في محفل فضحك، فقال أبو دلامة: والله لأفضحنه يا أمير المؤمنين، فليس من مواليك أحد إلا وقد وصلني غيره، فإني ما شربت له الماء قط، قال: فقد حكمت عليه أن يشتري نفسه منك بألف درهم حتى يتخلص من يدك، قال: قد فعلت على ألا يعاود، فقال له: ما ترى؟ قال: أفعل، فلولا أني ما أخذت منه شيئًا قط ما فعلت معه مثل هذه، فمضى سلمة فحملها إليه.

(٥) أبان بن عبد الحميد اللاحقي٧٥

ذكرنا في المجلد الأول أن أبان كان صديقًا للبرامكة متصلًا بهم أشد اتصال، يستشيرونه ويعتمدون عليه في تدبير أمورهم، جدها وهزلها، صعبها وهينها. وكانوا قد اتخذوه أديبهم الرسمي، وبالغوا في ذلك حتى جعلوا إليه امتحان الشعراء وتقدير ما يستحقون من الجوائز والصلات. فغضب الشعراء لذلك؛ وكان أشدهم غضبًا أبو نواس الذي كان يكره البرامكة كرهًا شديدًا، وكانت بينه وبين أبان مهاجاة ذكرها صاحب الأغاني.

وكان أبان صديقًا للمعذل بن غيلان، وكانا مع صداقتهما يتعابثان بالهجاء، فيهجوه المعذل بالكفر وينسبه إلى الشؤم. ويهجوه أبان وينسبه إلى الفساء الذي تُهجى به عبد القيس وبالقصر، وكان المعذل قصيرًا. فسعى في الإصلاح بينهما أبو عيينة المهلبي، فقال له أخوه عبد الله وهو أسن منه: يا أخي إن في هذين شرًّا كثيرًا ولا بد من أن يخرجاه، فدعهما ليكون شرهما بينهما وإلا فرقاه على الناس.

ومن قوله يهجو أبا النضير:

إذا قامت بواكيك
وقد هتكن أستارك
أيثنين على قبر
ك أم يلعن أحجارك
وما تترك في الدنيا
إذا زرت غدًا نارك
ترى في سقر المثوى
وإبليس غدًا جارك
بلى تترك باكيك
ودنياك وأوتارك
وخمسًا من بنات الليـ
ـل قد ألبسن أطمارك
تعالى الله ما أقبـ
ـح إذ وليت أدبارك

خرج أبان من البصرة طالبًا للاتصال بالبرامكة، وكان الفضل بن يحيى غائبًا فقصده، فأقام ببابه مدة مديدة لا يصل إليه، فتوسل إلى من وصل له شعرًا إليه؛ وقال له:

يا عزيز الندى ويا جوهر الجو
هر من آل هاشم بالبطاح
إن ظني، وليس يحلف ظني
بك في حاجتي سبيل النجاح
إن من دونها لمصمت باب
أنت من دون قفله مفتاحي
تاقت النفس يا خليل السماح
نحو بحر الندى مجاري الرياح
ثم فكرت كيف لي واستخرت ا
لله عند الإمساء والإصباح
وامتدحت الأمير أصلحه ا
لله بشعر مشهر الأوضاح

فقال: هات مديحك؛ فأعطاه شعرًا في هذا الوزن وقافيته، ترى فيه أن الرجل معجب بنفسه، مدل بعلمه وأدبه، تياه لا حد لتيهه وغروره:

أنا من بغية الأمير وكنز
من كنوز الأمير ذو أرباح
كاتب حاسب خطيب أديب
ناصح زائد على النصاح
شاعر مفلق أخف من الريـ
ـشة مما يكون عند الجناح

وهي طويلة ذكرناها في المجلد الأول.

وكان أبان شديد الحرص على المال يضحي في سبيله بأشياء كثيرة، منها العقيدة والرأي. وكان يحسد مروان بن أبي حفصة لمكانه من الرشيد ولظفره بالصلات الضخمة والجوائز السنية؛ فقد انتهى الأمر ببني العباس مع مروان بن أبي حفصة إلى أن كانوا يمنحونه بالبيت ألف درهم، فغاظ ذلك أبان وأراد أن يصيب من أموال الرشيد ما كان يصيب مروان، فعاتب أبان البرامكة على تركهم إيصاله للرشيد وإيصال مديحه إليه؛ فقالوا له: ما تريد من ذلك؟ فقال: أريد أن أحظى منه بمثل ما يحظى به مروان بن أبي حفصة، فقالوا: إن لذلك مذهبًا في هجاء آل أبي طالب وذمهم، به يحظى وعليه يعطى، فاسلكه حتى تفعل؛ قال: لا أستحل ذلك؛ قالوا: فما تصنع، لا يجيء طلب الدنيا إلا بما لا يحل! فقال أبان:

نشدت بحق الله من كان مسلمًا
أعم بما قد قلته العجم والعرب
أعم رسول الله أقرب زلفة
لديه أم ابن العم في رتبة النسب
وأيهما أولى به وبعهده
ومن ذا له حق التراث بما وجب
فإن كان عباس أحق بتلكم
وكان علي بعد ذاك على سبب
فأبناء عباس هم يرثونه
كما العم لابن العم في الإرث قد حجب

وهي طويلة.

فقال الفضل: ما يرِد على أمير المؤمنين اليوم شيء أعجب من أبياتك. فركب فأنشدها الرشيد، فأمر لأبان بعشرين ألف درهم. ثم اتصل مدحه للرشيد بعد ذلك وخص به.

وكان أبان هجاء قبيح اللسان، وكان مع هذا شريرًا قاسيًا يؤثر الشر ويجد فيه لذة. وقد روى له أبو الفرج قصة تمثل نصيبه من القسوة وحب الشر، كما أنها تعطينا صورة من شعره ومن الحياة في عصره. قالوا: كان يقيم بالقرب من أبان رجل ثقفي يقال له: محمد بن خالد، وكان عدوًا لأبان، فتزوج محمد هذا ثقفية معروفة هي عمارة بنت عبد الوهاب، وكانت عمارة غنية موفورة الثروة، فاغتاظ أبان لهذا الزواج، وقال هذه القصيدة التي بلغت عمارة فأفسدت زواجها:

لما رأيت البز والشاره
والفرش قد ضاقت به الحاره
واللوز والسكر يرمي به
من فوق ذي الدار وذي الداره
وأحضروا الملهين لم يتركوا
طبلًا ولا صاحب زماره
قلت: لماذا قيل: أعجوبة
محمد زُوِّج عماره
ماذا رأت فيه وماذا رجت
وهي من النسوان مختاره
أسود كالسفود ينسى لدى التنـ
ـور بل محراك قياره٧٦
يجري على أولاده خمسة
أرغفة كالريش طيارة
وأهله في الأرض من خوفه
إن أفرطوا في الأكل سياره
ويحك فري واعصبي ذا به
فهذه أختك فراره
إذا غفا بالليل فاستيقظي
ثم اطفري٧٧ إنك طفاره
فصعدت نائلة سلمًا
تخاف أن تصعده الفاره
«سرور» غرتها فلا أفلحت
فإنها اللخناء غراره
لو نلت ما أبعدت من ريقها
إن لها نفثة سحاره

فلما بلغت هذه القصيدة عمارة هربت، فحرم من جهتها مالًا عظيمًا. والثلاثة الأبيات الأخيرة التي أولها:

فصعدت نائلة سلمًا

زادها في القصيدة بعد أن هربت.

جلس أبان ليلة في قوم فثلب أبا عبيدة فقال: يقدح في الأنساب ولا نسب له. فبلغ ذلك أبا عبيدة فقال في مجلسه: لقد أغفل السلطان كل شيء حين أغفل أخذ الجزية من أبان اللاحقي، وهو وأهله يهود، وهذه منازلهم فيها أسفار التوراة وليس فيها مصحف، وأوضح الدلالة على يهوديتهم أن أكثرهم يدعي حفظ التوراة ولا يحفظ من القرآن ما يصلي به. فبلغ ذلك أبان فقال:

لا تنمن عن صديق حديثًا
واستعذ من تسرر النمام
واخفض الصوت إن نطقت بليل
والتفت بالنهار قبل الكلام

قال عيسى بن إسماعيل: كنا في مجلس أبي زيد الأنصاري فذكروا أبان بن عبد الحميد، فقالوا: كان كافرًا؛ فغضب أبو زيد وقال: كان جاري فما فقدت قراءته في ليلة قط.

•••

وكان أبان يفوق الشعراء في شيء نحسب أنه هو الذي سبق إليه، فقد ابتكر في الأدب العربي فنًّا لم يتعاطه أحد من قبله، وهو فن الشعر التعليمي، طرق فيه فنونًا مختلفة من العلم والحكمة والدين. وقد تحدث أبو الفرج أنه نظم للبرامكة كتاب «كليلة ودمنة» ليسهل عليهم حفظه، فأعطاه يحيى بن خالد عشرة آلاف دينار، وأعطاه الفضل بن يحيى خمسة آلاف واكتفى جعفر بأن يكون راويته. وروى أبو الفرج أبياتًا أربعة من هذا النظم، وقد عثرنا على قطعة من كتاب مخطوط يوجد في دار الكتب المصرية تحت رقم (٥٩٤) تاريخ، وهو كتاب «الأوراق» للصولي. وفي هذا الكتاب قطعة صالحة من نظم أبان لكليلة ودمنة، فرأينا أن نثبتها هنا، لأن المنظومة ضاعت ولم يبق منها إلا الأبيات الأربعة التي رواها أبو الفرج. وها هي ذي:

هذا كتاب كذب ومحنه
وهو الذي يدعي كليله دمنه
فيه دلالات وفيه رشد
وهو كتاب وضعته الهند
فوصفوا آداب كل عالم
حكاية عن ألسن البهائم
فالحكماء يعرفون فضله
والسخفاء يشتهون هزله
وهو على ذاك يسير الحفظ
لذٌّ على اللسان عند اللفظ
يا نفس لا تشاركي الجهالا
في حب مذموم كأن قد زالا
يا نفس لا تشقى ولا تعنى
في طلب الدنيا ولا تمنى
ما لم ينله أحد إلا ندم
إذا تولى ذاك عنه وسدم٧٨
دنياك بالأحباب والإخوان
كثيرة الآلام والأحزان
وهي وإن نيل بها السرور
آفاتها وغمها كثير
يا نفس لا يحملك حب أهلك
ولا أدانيك على أن تهلكي
في جمع ما يرضيهم فإنه
يضرب من أمثال ذاك الدخنه٧٩
ينال قوم عَرْفها وتحترق
رأيٌ به يرضى أخو الرأي الحمق
وجدت ذا النسك الذي قد فكرا
فزاده تفكيره توقرا
وقلَّ لمَّا رضي اهتمامه
وتم من سروره تمامه
وترك الدنيا لمن يشقى بها
ومن يقاسي الكد من أنصابها
فعندها نجا من الشرور
ونال أقصى غاية السرور
ثم سخت عن كل فان نفسه
فلقي السعد وغاب نحسه
وأبصر الثواب في القيامه
فأمن الحسرة والندامه
ومثل الدنيا كبرق الخلب
من يغترر منه بسقي يكذب
وهو قياسًا مثل نوم النائم
تفرحه أضغاث حلم الحالم
حتى إذا استيقظ صار هما
ما كان في النوم به ألما
فكيف بالصبر على أيام
عما قليل هن لانصرام
وكيف والدنيا بلاء كلها
لا يأمن الآفات فيها أهلها
أشهد أن الله فرد واحد
أقر أو أنكر ذاك جاحد
ليس له كفوًا ولا ندًّا أحد
لم يلد الله ولا له ولد
وإنني بما عملت مرتهن
ما كان منه من قبيح وحسن

من باب الأسد والثور

وإن من كان دني النفس
يرضى من الأرفع بالأخس
كمثل الكلب الشقي البائس
يفرح بالعظم العتيق اليابس
وإن أهل الفضل لا يرضيهم
شيء إذا ما كان لا يعنيهم
كالأسد الذي يصيد الأرنبا
ثم إلى العير٨٠ المجد هربا
فيرسل الأرنب من أظفاره
ويتبع العير على أدباره
والكلب من رقته ترضيه
بلقمة تقذفها في فيه
فمن يعش ما عاش غير خامل
له سرور دائم ونائل
فهو وإن كان قصير العمر
أطول عمرًا من حليف فقر
ومن يعش في وحشة وضيق
وقلة المعروف في الصديق
فهو وإن عمر طول دهره
ليس بمغبوط بطول عمره
وقيل أيضًا إنه قد ينبغي
للرجل الفاضل فيما يبتغي
ألَّا يُرى إلا مع الأملاك٨١
أو يعبد الله مع النساك
كالفيل لا يصلح إلا مركبا
لملك أو راعيًا مسيبا
قال له السبع لقد سمعت
وكل ما تقول قد فهمت
لكنني لست أظن ما تظن
بالثور من غش بلى ظني حسن٨٢
قال له دمنة من ثم أتى
وهذه من حاله هي التي
رفعته حتى تعدى طوره
وكان هذا لك منه شكره
وتلك أخلاق اللئيم الفاجر
الكافر المغرور غير الشاكر
ما إن يزال ناصحًا نفاعا
حتى يرى من حاله ارتفاعا
فعندها يسمو إلى ما فوقها
إلى التي لا تستطيع أوقها٨٣
وربما كان هلاك الشجر
في حسن الغصن وطيب الثمر
وذنب الطاووس فهو زينه
كذاك أحيانا وفيه حينه
وباذل النصح لمن لم يشكره
كطارح في سبخ ما يبذره
لا خير للعاقل في ذي المنظره
إن هو لم يحمده عند المخبره
وليس في الصديق ذي الصفاء
خير إذا لم يك ذا وفاء
الرجل العاقل من لا تسكره
كأس سمو واقتدار يبطره٨٤
فالجبل الثابت في أصوله
لا تقدر الريح على تحويله
والناقص العقل الذي لا رأي له
يطغى إذا ما نال أدنى منزله
مثل الحشيش أيما ريح جرت
مالت به فأقبلت وأدبرت
الأهل والإخوان والأعوان
عند ذوي الأموال حيث كانوا
والمال هادي الرأي والمروة
وهو على كل الأمور قوة
والمال فيه العز والجمال
والذل حيث لا يكون المال
وربما دعا الفقير فقره
إلى التي يحبط فيها أجره
فيخسر الدين كما كان خسر
دنياه والخسران ما لا ينجبر
وليس من شيء يكون مدحا
لذي الغنى إلا يكون برحا
على الفقير ويكون ذما
كذاك يدعى وبه يسمى
فإن يكن نجدًا يقولوا أهوج٨٥
كذاك عند الحرب لا يعرج
وهو إذا كان جوادًا سيدا
سمي للفقير مضيعًا مفسدا
أو يك ذا حلم يقل ضعيف
أو يك بسامًا يقل سخيف
الرجل العاقل فيما يسدي
مغتبط بكسبه للحمد
لأنه باع قليلًا فانيا
واعتاض من ذاك كثيرًا باقيا
فأغبط الناس الكثير نائله
ومدرك النجح لديه سائله
فلا تعدن ذا غنى غنيا
حتى يكون ماجدًا سريا
واعلم بأن الملك المشاورا
ذا العقل فيما نابه المؤازرا
فإنه يعضد بالتأييد
يغنى به عن كثرة الجنود
والحازم التابع أمر الحزمه
النصحاء غير أهل التهمه
يزداد حزمًا بهم ورشدا
زيادة البحر إذا ما مدا
بما يصب فيه من أنهاره
حتى يهيج الموج من تياره
والموت من مات كريمًا صابرًا
خير من العيش ذليلًا صاغرا

ولم ينقل لنا الصولي في كتابه إلا هذه القطعة. ويعد أبان في هذا ناظمًا لكتاب معروف، ولكنه قد تجاوز نظم الكتب المعروفة إلى تأليف كتب منظومة، فنظم قصيدة طويلة في الصوم والزكاة، روى منها الصولي طرفًا.

فقيل لأبان بعد أن نظم كليلة ودمنة: ألا تعمل شعرًا في الزهد؟ فعمل قصيدة مزدوجة في الصيام والزكاة. وترجمتها:

قصيدة الصيام والزكاة
نقل أبان من فم الرواة

وها هي ذي القصيدة:

هذا كتاب الصوم وهو جامع
لكل ما قامت به الشرائع
من ذلك المنزل في القرآن
فضلًا على من كان ذا بيان
ومنه ما جاء عن النبي
من عهده المتبع المرضي
صلى الإله وعليه سلما
كما هدى الله به وعلما
وبعضه على اختلاف الناس
من أثر ماض ومن قياس
والجامع الذي إليه صاروا
رأي أبي يوسف مما اختاروا
قال أبو يوسف أما المفترض
فرمضان صومه إذا عرض
والصوم في كفارة الأيمان
من حيث ما يجري على اللسان
ومعه الحج وفي الظهار٨٦
الصوم لا يدفع بالإنكار
وخطأ القتل وحلق المحرم
لرأسه فيه الصيام فافهم
فرمضان شهره معروف
وصومه مفترض موصوف٨٧
والصوم في الظهار إن لم يقدر
مظاهر يومًا على محرر
والقتل إن لم يك عمدًا قتله
فإن ذاك في الصيام مثله
شهران في العدة كاملان
متصلان لا مفرقان
والحنث في رواية مقبولة
ثلاثةٌ أيامها موصوله
ومثلها في عدة الأيام
للمحرم الحالق في الإحرام
ثلاثة يصومها إن حلقا
لا بأس إن تابعها أو فرقا
والصوم في المتعة إن لم يجد
هديًا وكان بالصيام يفتدي
صيام أيام مؤقتات
ثلاثة في الحج مفروضات
وبعد ما يرجع صوم سبعه
عشرة كاملة في المتعه
أما الثلاثة التي في الحج
فكان من أدركت من محتج
أو غيره ممن يرى أن يرويه
يقول يومًا قبل يوم الترويه
ويومها وصوم يوم عرفه
مؤتلفات الصوم لا مختلفة
قالوا وإن أحب أن يفرقا
فذاك ما ليس عليه ضيقًا
إن كان ذاك الصوم منه بعدما
يكون في عمرته قد أحرما
ولو أراد الصوم في شوال
من بعد أن يوجب بالهلال
عمرته لكان ذاك مجزيا
بذاك يفتى من أتى مستفتيا

وهي طويلة جدًّا.

ونحسب أن مكانه من البرامكة هو الذي حمله على اختراع هذا الفن؛ فقد كان مكانه منهم مكان المؤدب لصبيانهم وشبابهم، وكان من الحق عليه أن يسهل لهم العلم تسهيلًا. وليس من شك في أن هذه الأموال التي أصابها من البرامكة حينما نظم كليلة ودمنة قد أطعمته، فنظم القصائد الأخرى ليصيب مثل ما أصاب.

أخبار حمدان بن أبان بن عبد الحميد بن أبان ومختار من شعره

قال أبو بكر الصولي: حدثني محمد بن زياد قال: كانت في عبد الصمد بن المعذل عربدة إذا سكر، فعربد يومًا في مجلس فيه حمدان بن أبان بن عبد الحميد بن أبان، وكان أيِّدًا،٨٨ فقال لهم: كِلوه إليَّ وحدي، وأخذه وكتفه وجعله في بيت وأغلق بابه، وقال: إذا أصبحتم فأطلقوه، وانصرف؛ فبلغه أن عبد الصمد حلف ليهجونه سنة، فقال: حمدان يهجوه:
قل لعبد الصمد الأحـ
ـمق لا تغضب عليَّه
وعلى أمك فاغضب
واكوها في الهن كيَّه
أمك العفلاء جاءتـ
ـني بسلمى ورقيه
وهي ساقت ليلة فا
طمة أخرى إليه
فضينا فيهم الحقْـ
ـقَ وقلبنا السويه

وقد ذكر الصولي في كتابه الأوراق ما اختاره من قصيدة حمدان بن أبان بن عبد الحميد بن أبان في وصف الحب وأهله وهي طويلة، قال:

ما بال أهل الأدب
منا وأهل الكتب
قد وضعوا الآدابا
وأتعبوا الكتابا
لكل فن دفتر
منقط محبر
ففرقت أجناسا
وعلموها الناسا
بالحيل الرقيقه
والفطن الدقيقه
فأرشدوا الضلالا
وعلموا الجهالا
سوى المحبين فلم٨٩
يرعوا لهم حق الذمم
في علم ما قد جهلوا
وما به قد ابتلوا
قد غلقت رهونهم
واستعبرت عيونهم
وحالفوا السهادا
وخالفوا الرقادا
فليلهم طويل
ونومهم قليل
أبدانهم نحيله
متعبة عليله
نفوسهم حزينة
مشغوفة رزينه
ظاهرة غمومهم
باطنة كلومهم
باكية عيونهم
قريحة جفونهم
إن ظلموا لم يظلموا
وإن شكوا لم يرحموا
أحبابهم في لعب
وفي دوام الطرب
صافية ألوانهم
ضاحكة أسنانهم
قد سكنوا القصورا
وقارنوا السرورا
تفرغوا للهجر
وللنوى والغدر
بعاشق يهواهم
بالله ما أقساهم
وَعْدهم وعيد
إقرارهم جحود
بؤسى لأهل العشق
أهل الضنا والرق
ليس لهم وسيله
ولا وجوه حيله
رأيت لما خذلوا
وفي هواهم وحلوا
أن أرشد المغفلا
الجاهل المضللا
إلى الطريق الواضح
عند البلاء الفادح
وأبتدي كتابا
للوصف بابا بابا٩٠
يا أيها الناس فعوا
وصيتي واستمعوا
ففي صفاتي عجب
وفي كتابي أدب
قصيدتي مقومه
ألفاظها منظمه
فيها هوى العشاق
ومنية المشتاق
وصفت أهل العشق
ولم أمل عن حق
فاسمع مقالًا صادقا
يا من يبيت عاشقا
للحب خلتان
هما هما اللتان
الصبر والرفق معا
يومًا إذا ما اجتمعا
في عاشق مهجور
مباعد مغرور
قضى قريبًا وطرا
وبلغاه الوطرا
ما الحسن والإحسان
والملك والسلطان
يعدل وصل الإلف
وكسره للطرف
ما حسن في العين
أحسن من إلفين
يومًا إذا ما التقيا
في مجلس فاشتفيا
مداومين للنظر
قد أمنا كل حذر
يبادران الخلوه
ويظهران الصبوه
مساعدين اتفقا
باتا ولم يفترقا
هواهما مخزون
سرهما مدفون
مداريين أصبحا
للناس لم يفتضحا
من جرب الحب عرف
ما بين ملك وأسف
لن يبلغ الصب المنى
إلا بصبر وعنا
إن الهوى ضروب
وأمره عجيب
وأهله أطوار
فيه لهم أوطار
للعاقل الشريف
والأحق السخيف
فمنهم مرزوق
محبب معشوق
على اضطراب الخلق
منه وسوء الخلق
تقضي له الأوطار
وتعمل الأشعار
مقرب ما يقصى
مطاوع ما يعصى
ومنهم محروم
محارف٩١ مشئوم
على جمال هيئته
وحسنه وبهجته
ومنهم من يبتدا
ينال عيشًا رغدا
من غير سعي وطلب
وغير كد ونصب
فمد ذاك الأسعد
والبخت منه أجود
إذ فاز باللذات
ودرك الحاجات
ومنهم من يتعب
في حبه ويدأب
أسقمه طول الهوى
وشفه وجد الجوى
فذاك صب قد شقي
بؤسى له ماذا لقي
ومنهم البصير
العاقل النحرير
يحتمل الهجرانا
ويحمل الأحزانا
فلا يزال مبتلى
حتى ينال أملا
ومنهم العميد
الجاهل البليد
يحب بالتضجر
والجهل والتكبر
يلقى الحبيب باهتًا
فلا يزال ساكتا
ومنهم من يهوى
بالغيب يأتي عفوا
فيزرع الغموما
مستجلبًا هموما
فذاك حب الغيب
ليس به من عيب
من دونه حجاب
ودونه أبواب
فما لذاك لبث
وليس منه مكث
حتى يرى مقهورا
في حبه محسورا
ومنهم جبار
في حبه ازورار
يزهي إذا ما عشقا
ورهنه قد غلقا
يلتزم اللجاجة
فليس يبدي الحاجه
فذاك حب الفوت
وفيه كرب الموت
ومنهم من للنظر
يهوى ولم يعد البصر
إذا رأى خليله
داوى به غليله
يكتم ما يقاسي
من أعين الجلاس
ومنهم من اقتصر
على الحديث والنظر
غايته السلام
واللحظ والكلام
مدافع عن حبه
يكتم وجد قلبه
ينفي الهوى وينكره
وبالتبري يستره
فذاك حب العاقل
حب أديب كامل
وبعضهم لا يقنعه
إلا عمود يودعه
قد طلب الحراما
والتمس الأثاما
فذاك حب النهم
الماجن المغتلم
حق له الحرمان
والمنع والخذلان
وبعضهم مذاق
معانت ملاق
مستعمل للكذب
محرف في الكتب
فذاك حب الزور
يلسع كالزنبور
وبعضهم عميد
غاية ما يريد
خلوة من يهواه
في مشهد يلقاه
لحظته مسارقه
مبيته معانقه
مكاتم لحبه
في بعده وقربه
فذاك حب يكمد
نيرانه لا تخمد
ومنهم من يهتف
بالحب حين يشغف
إذا الحبيب صدا
ولم ينله ودا
تاه عليه وحزق٩٢
وصد عنه وحمق

وقال في آخرها:

قد تم مني وصف
ولم يخني الرصف
وانقضت القصيده
محبوبة حميده
والحمد للرحمن
ذي العز والسلطان
والذم للشيطان
ذي العرم٩٣ والطغيان

(٦) منصور النمري٩٤

كان ذا حيلة سياسية، فأدرك أن الرشيد يسره أن يمدح بنفي الإمامة عن علي والطعن عليه، لما كان يراه من تقديم مروان بن أبي حفصة بسبب ذلك، فسلك مذهبه ونحا نحوه — والشعراء يومئذ إنما يطلبون الكسب — لكنه لم يصرح بالهجاء والسب كما فعل مروان؛ ومن قوله فيه قصيدة مطلعها:

أمير المؤمنين إليك خضنا
غمار الهول من بلد شطير
بخوص كالأهلة خافقات
تلين على السرى وعلى الهجير
حملن إليك أحمالًا ثقالا
ومثل الصخرة الدر النثير
فقد وقف المديح بمنتهاه
وغايته وصار إلى المصير
إلى من لا تشير إلى رسول
إذا ذكر الندى كف المشير

وذكر في القصيدة يحيى بن عبد الله بن حسن فقال:

يذلل من رقاب بني علي
ومنٌّ ليس بالمن الصغير
مننت على ابن عبد الله يحيى
وكان من الحتوف على شفير

ولقد تخلص إلى شيء ليس عليه فيه شيء وهو قوله:

فإن شكروا فقد أنعمت فيهم
وإلا فالندامة للكفور
وإن قالوا بنو بنت فحق
وردوا ما يناسب للذكور
وما لبنى بنات من تراث
مع الأعمام في ورق الزبور

ومنها:

بني حسن ورهط بني حسين
عليكم بالسداد من الأمور
فقد ذقتم قراع بني أبيكم
غداة الروع بالبيض الذكور
أحين شفوكم من كل وتر
وضموكم إلى كنف وثير
وجادوكم على ظمأ شديد
سقيتم من نوالهم الغزير
فما كان العقوق لهم جزاء
بفعلهم وآدى للثئور
وإنك حين تبلغهم أذاة
وإن ظلموا لمحزون الضمير

فقال له: صدقت وإلا فعلي وعلي، وأمر له بثلاثين ألف درهم.

وأنشد الرشيد يومًا قصيدته التي أولها:

ما تنقضي حسرة مني ولا جزع
إذا ذكرت شبابًا ليس يرتجع
بان الشباب وفاتتني بلذته
صروف دهر وأيام لها خدع
ما كنت أوفي شبابي كنه غرته
حتى انقضى فإذا الدنيا له تبع

فقال الرشيد: أحسن! والله لا يتهنى أحد بعيش حتى يخطر في رداء الشباب.

ومن قوله فيها يمدح الرشيد:

أي امرئ بات من هارون في سخط
فليس بالصلوات الخمس ينتفع
إن المكارم والمعروف أودية
أحلك الله منها حث تجتمع٩٥
إذا رفعت امرءًا فالله يرفعه
ومن وضعت من الأقوام متضع
نفس فداؤك والأبطال معلمة
يوم الوغى والمنايا صابها فزع

ومن قوله يمدح الرشيد:

يا منزل الحي ذا المغاني
إنعم صباحًا على بلاكا
هارون يا خير من يرجى
لم يطع الله من عصاكا
في خير دين وخير دنيا
من اتقى الله واتقاكا

وناهيك بقصيدته التي رفعت السيف عن ربيعة بنصيبين بعد أن جرده فيها الرشيد وهي التي يقول فيها:

وقد علم العدوان والجور والخنا
بأنك عياف لهن مزايل
ولو عملوا فينا بأمرك لم يكن
ينال بريا بالأذى متناول
لنا منك أرحام ونعتد طاعة
وبأسًا إذا اصطك القنا والقنابل٩٦
وما يحفظ الإحسان مثلك حافظ
ولا يصل الأرحام مثلك واصل
جعلناك فامنعنا معاذًا ومفزعًا
لنا حين عضتنا الخطوب الحلائل
لأنت إذا عاذت بوجهك عوذ
تطامن خوف واستقرت بلابل

اجتمع جماعة من الشعراء ببغداد وفيهم منصور النمري، وكانوا على نبيذ، فأبى منصور أن يشرب معهم، فقالوا له: إنما تعاف الشراب لأنك رافضي، وتسمع وتصغي إلى الغناء، وليس تركك النبيذ من ورع، فقال:

خلا بين ندماني موضع مجلسي
ولم يبق عندي للوصال نصيب
ورُدتْ على الساقي تفيض وربما
رددتُ عليه الكأس وهو سليب
وأي امرئ لا يستهش إذا جرت
عليه بنان كفهن خضيب

قال النمري: كنت واقفًا على جسر بغداد أنا وعبيد الله بن هشام، وقد وخطني الشيب يومئذ، وعبد الله شاب حديث السن، فإذا أنا بقصرية ظريفة قد وقفت، فجعلت أنظر إليها وهي تنظر إلى عبيد الله ثم انصرفت، وقلت فيها:

لما رأيتِ سوام الشيب منتشرًا
في لمتي وعبيد الله لم يشب
سللت سهمين من عينيك فانتضلا
على سبية ذي الأذيال والطرب
كذا الغواني نرى منهن قاصدة
إلى الفروع معراة عن الخشب
لا أنت أصبحت تعقدْ بيننا أربا٩٧
ولا وعيشك ما أصبحت من أربي
إحدى وخمسين قد أنضيت جدتها
تحول بيني وبين اللهو واللعب
لا تحسبيني وإن أغضيت عن بصري
غفلت عنك ولا عن شأنك العجب

غضب الرشيد على منصور النمري لما أنشد قصيدته في مدح العلويين وأولها:

شاء من الناس راتع هامل
يعللون النفوس بالباطل

وفيها يقول:

ألا مساعير٩٨ يغضبون لها
بسلة البيض والقنا الذابل

فغضب من ذلك غضبًا شديدًا وقال للفضل بن الربيع: أحضره الساعة، فبعث الفضل في ذلك، فوجده قد توفي، فأمر بنبشه ليحرقه، فلم يزل الفضل يلطف له حتى كف عنه.

وإليك قصيدته في مدح العلويين نقلًا عن الشعر والشعراء لابن قتيبة، لأن صاحب الأغاني أغفلها ولم يذكر منها إلا البيتين السابقين:

شاء من الناس راتع هامل
يعللون النفوس بالباطل
تقتل ذرية النبي وير
جون جنان الخلود للقاتل
ويلك يا قاتل الحسين لقد
نؤت بحمل ينوء بالحامل
أي حباء حبوتَ أحمد في
حفرته من حرارة الثاكل
بأي وجه تلقى النبي وقد
دخلت في قتله مع الداخل
هلم فاطلب غدًا شفاعته
أو لا فرد حوضه مع الناهل
ما الشك عندي في حال قاتله
لكنني أشك في الخاذل
نفسي فداء الحسين حين غدا
إلى المنايا غدو لا قافل
ذلك يوم أنحى بشفرته
على سنام الإسلام والكاهل
حتى متى أنت تعجبين ألا
تنزل بالقوم نقمة العاجل
لا يعجل الله إن عجلت وما
ربك عما يريد بالغافل
وعاذلي أنني أحب بني
أحمد فالترب في فم العاذل
قد ذقت ما دينكم عليه فما
وصلت من دينكم إلى طائل
دينكم جفوة النبي وما الـ
ـجافي لآل النبي كالواصل
مظلومة والنبي والدها
نذير أرجاء مقلة حافل
ألا مصاليت يغضبون لها
بسلة البيض والقنا الذابل

وقال أيضًا:

آل النبي ومن يحبهم
يتطامنون مخافة القتل
أمنوا النصارى واليهود وهم
من أمة التوحيد في أزل٩٩

وأنشد الرشيد هذا بعد موته فقال: لقد هممت أن أنبشه ثم أحرقه. ومن جيد شعره قوله في الرشيد:

يا زائرينا من الخيام
حياكما الله بالسلام
يحزنني أن أطفتما بي
ولم تنالا سوى الكلام
لم تطرقاني وبي حراك
إلى حلال ولا حرام
هيهات للهو والتصابي
وللغواني وللمدام
أقصر جهلي وثاب حلمي
ونهنه الشيب من عرامي١٠٠
عمر أبيها لقد تولت
سالمة الخد من عذامي١٠١
لله حبي وترب حبي
ليلة أعياهما مرامي
آذَنَتَانِي بطول هجر
وغَرَّتاني مع السوام
وانطوتا لي على ملام
والشيب شر من الملام
بورك هارون من إمام
بطاعة الله ذي اعتصام
له إلى ذي الجلال قربى
ليست لعدل ولا إمام
يسعى على أمة تمنى
أن لو تقيه من الحمام
لو استطاعت لقاسمته
أعمارها قسمة السهام
يا خير ماض وخير باق
بعد النبيين في الأنام
ما استودع الدين من إمام
حامى عليه كما تحامي
يؤنس من رأيه برأي
أصدق من سلة الحسام

وقال:

أعمير كيف لحاجة
طلبت إلى صم الصخور
لله در عداتكم
كيف انتسبن إلى الغرور
إن الليالي ضمنني
ووسمنني سمة الكبير
أطفأن نور شبيبتي
وفرشنني كنف الغيور
ولقد تبيت أناملي
يجنين رمان النحور

(٧) السيد الحميري١٠٢

«لم١٠٣ يكن السيد الحميري من أنصار الحسن والحسين، أو بعبارة أصح لم يكن من أنصار ولد الحسن والحسين؛ وإنما كان من الكيسانية الذين كانوا ينصرون الابن الثالث من أبناء علي: محمد بن خولة الحنفية؛ والذين كانوا يدينون بأنه لم يمت وإنما تغيب عن الناس واحتجب عنهم حينًا وسيعود فيملأ الأرض عدلًا كما ملئت جورًا، فلم يكن على السيد الحميري بأس أن يمدح بني العباس ويتقرب منهم ما دام صاحبه محمد بن الحنيفة لم يعد من غيبته بعد. ثم نستطيع أن نميز هذا الشاعر بخصلة لم نرها في شاعر من الذين تحدثنا عنهم، وهي أنه كان سخيفًا ضعيف العقل شديد الإيمان بالخرافات والأوهام، ويظهر أن هذه الخصلة جاءته من مذهبه نفسه في الرجعة، فقد أسرف في هذا المذهب كما أسرف في مدح العلويين والإيمان بهم حتى وصفهم من الخير والكرامة بما يقبل وما لا يقبل؛ فكان كل خير يمكن أن ينسب إلى العلويين، رضيه العقل أم لم يرضه، وكان كل شر يمكن أن ينسب إلى خصوم العلويين، رضيه العقل أم لم يرضه، وكان يكفي أن يسمع رجلًا من أهل القصص ورواة الأساطير يروي كرامة من الكرامات يضيفها إلى أحد العلويين حتى ينظم فيها قصيدة طويلة، جيدة، ويتخذ هذه القصيدة وسيلة إلى ذم السلف والنعي عليه.

وخصلة أخرى تقربه من الزنادقة الذين عاصروه ولكنها تجعل الصلة بينه وبينهم ضعيفة واهية في الوقت نفسه.

وهي أنه كان يستبيح ضروبًا من اللهو والمنكر، ويسرف في شرب الخمر وغير ذلك من ألوان العبث، لا لأنه كان يجحد الدين أو يزدريه بل لأنه كان يدل على صاحب الدين؛ كان يحب النبي وآله ويمنحهم مودته ونصره، ويعتقد أنهم سيعرفون له ذلك وسيشفعون له في ذنوبه وآثامه لما قدم بين يديه من مدح العلويين ونصرهم على خصومهم؛ وكان بنو هاشم وبنو علي خاصة يطمعونه في ذلك ويتعرفون له به، فإذا ذكر لهم أنه يلهو ويشرب الخمر قالوا: وأي ذنب يعظم على الله أن يغفره لرجل من أنصار أهل البيت! بل قال أحدهم: إن من أحب آل علي لم تزل له قدم إلا ثبتت له أخرى؛ وعلى هذا كان السيد الحميري يلهو آمنًا في دينه، يعتمد في دينه على العلويين، ويعتمد في دنياه على العباسيين، يقدر أن العلويين سيشفعون له عند الله، ويعلم أن العباسيين يتقون شره ويؤثرون مدحه على هجائه؛ وكان من معاصريه من يكره ذلك ويمقته كل المقت، ويضمر للسيد عداء وحقدًا لا يعدلهما عداء ولا حقد؛ ومن هؤلاء سوار بن عبد الله العنبري قاضي البصرة للمنصور، فقد كان العداء بينه وبين السيد شديدًا، وكان قد أجمع ألا يقبل للسيد شهادة، وكان قد سعى بالسيد عند المنصور غير مرة؛ وكان السيد قد هجاه فأسرف في هجائه، فشكا ذلك إلى المنصور فنهاه المنصور عنه وأمره أن يذهب إلى القاضي فيعتذر إليه، وأبى القاضي أن يقبل معذرته، فاستأنف السيد الهجاء وألح فيه. ويقال إن سوارًا أعد شهودًا يشهدون على السيد بالسرقة ليقطع يده، فعلم السيد ذلك فجزع وفزع إلى المنصور، فعزل المنصور سوارًا من القضاء للسيد أو عليه، ولم يلبث سوار أن مات فتبعه السيد بعدائه وبغضه وهجائه.»

قال أبو جعفر الأعرج: كان السيد أسمر تام القامة، أشنب ذا وفرة، حسن الألفاظ جميل الخطاب، إذا تحدث في مجلس قوم أعطى كل رجل في المجلس نصيبه من حديثه.

وقال الفرزدق: إن ههنا لرجلين لو أخذا في معنى البأس لما كنا معهما في شيء: السيد الحميري وعمران بن حطان السدوسي، ولكن الله عز وجل قد شغل كل واحد منهما بالقول في مذهبه؛ وقال الأصمعي لما أنشد شيئًا من شعره: ما أسلكه لطريق الفحول لولا مذهبه، ولولا ما في شعره ما قدمت عليه أحدًا من طبقته؛ وكان أبو عبيدة يقول: أشعر المحدثين السيد الحميري وبشار.

وكان السيد يذهب مذهب الكيسانية ويقول بإمامة محمد بن الحنفية، وله في ذلك شعر كثير.

وقف السيد على بشار وهو ينشد الشعر، فأقبل عليه وقال:

أيها المادح العباد ليعطى
إن لله ما بأيدي العباد
فاسأل الله ما طلبت إليهم
وارج نفع المنزل العواد
لا تقل في الجواد ما ليس فيه
وتسمي البخيل باسم الجواد

قال بشار: من هذا؟ فعرفه، فقال: لولا أن هذا الرجل قد شغل عنا بمدح بني هاشم لشغلنا، ولو شاركنا في مذهبنا لتعبنا.

ومن قول السيد:

أتعرف رسمًا بالثويين قد دثر
عفته أهاضيب السحائب والمطر
وجرت به الأذيال ريحان حلفة
صبا ودبور بالعشيات والبكر
منازل قد كانت تكون بجوها
هضيم الحشى ريا الشوى سحرها النظر
قطوف الخطا خمصانة بخترية
كأن محياها سنا دارة القمر
رمتني ببعد بعد قرب بها النوى
فبانت ولما أقض من عبدة الوطر
ولما رأتني خشية البين موجعًا
أكفكف مني أدمعًا بيضها درر
أشارت بأطراف إلي ودمعها
كنظم جمان خانه السلك فانتثر
وقد كنت مما أحدث البين حاذرًا
فلم يغن عني منه خوفي والحذر

لما استقام الأمر لبني العباس قام السيد إلى أبي العباس السفاح حين نزل عن المنبر فقال:

دونكموها يا بني هاشم
فجددوا من عهدها الدارسا
دونكموها لا علا كعب من
كان عليكم ملكها نافسا
دونكموها فالبسوا تاجها
لا تعدموا منكم له لابسا
لو خير المنبر فرسانه
ما اختار إلا منكم فارسا
قد ساسها قبلكم ساسة
لم يتركوا رطبًا ولا يابسا
ولست من أن تملكوها إلى
مهبط عيسى فيكم آيسا

وبعث بهذه الأبيات إلى المهدي يسأله ألا يعطي آل بكر وعمر من مال الدولة:

قل لابن عباس سمي محمد
لا تعطين بين عدي درهما
احرم بني تيم بن مرة إنهم
شر البرية آخرًا ومقدما
إن تعطهم لن يشكروا لك نعمة
ويكافئوك بأن تذم وتشتما
وإن ائتمنتهم أو استعملتهم
خانوك واتخذوا خراجك مغنما
ولئن منعتهم لقد بدءوكم
بالمنع إذ ملكوا وكانوا أظلما
منعوا تراث محمد أعمامه
وبنيه وابنته عديلة مريما
وتأمروا من غير أن يستخلفوا
وكفى بما فعلوا هنالك مأثما
لم يشكروا لمحمد إنعامه
أفيشكرون لغيره إن أنعما
والله من عليهمو بمحمد
وهداهم وكسا الجنوب وأطعما
ثم انبروا لوصيه ووليه
بالمنكرات فجرعوه العلقما

أنشد السيد جعفر بن محمد هذه الأبيات يذكر فيها قبر الحسين:

أمرر على جدث الحسيـ
ـن فقل لأعظمه الزكيه
آأعظمًا لا زلت من
وطفاء ساكبة رويه
وإذا مررت بقبره
فأطل به وقف المطيه
وابك المطهر للمطـ
ـهر والمطهرة النقيه
كبكاء معولة أنت
يومًا لواحدها المنيه

فانحدرت دموع جعفر على خديه وارتفع الصراخ والبكاء من داره حتى أمره بالإمساك فأمسك.

ومن قول السيد في إمامة ابن الحنفية:

ألا يا أيها الجدل المعني
لنا ما نحن ويحك والعناء
أتبصر ما تقول وأنت كهل
تراك عليك من ورع رداء
ألا إن الأئمة من قريش
ولاة الحق أربعة سواء
علي والثلاثة من بنيه١٠٤
هم أسباطه والأوصياء
فأنى في وصيته إليهم
يكون الشك منا والمراء
بهم أوصاهم ودعا إليه
جميع الخلق لو سمع الدعاء
فسبط سبط إيمان وحلم
وسبط غيَّبته كربلاء
سقى جدثًا تضمنه ملث
هتوف الرعد مرتجز رواء
تظل مظلة منها عزال١٠٥
عليه وتغتدي أخرى ملاء
وسبط لا يذوق الموت حتى
يقود الخيل يقدمها اللواء
من البيت المحجب في سراة
شراة لف بينهم الإخاء
عصائب ليس دون أغر أجلى
بمكة قائم لهم انتهاء

وأنشد العتبي قصيدته اللامية التي أولها:

هل عند من أحببت تنويل
أم لا فإن اللوم تضليل
أم في الحشى منك جوى باطل
ليس تدوايه الأباطيل
علقت يا مغرور خداعة
بالوعد منها لك تخييل
ريا رداح النوم خمصانة
كأنها أدماء عطبول
يشفيك منها حين تخلو بها
ضم إلى النحر وتقبيل
وذوق ريق طيب طعمه
كأنه بالمسك معلول
في نسوة مثل المها خرد
تضيق عنهن الخلاخيل

يقول فيها:

أقسم بالله وآلائه
والمرء عما قال مسئول
إن علي بن أبي طالب
على التقى والبر مجبول

فقال: أحسن والله ما شاء، هذا والله الشعر الذي يهجم على القلب بلا حجاب.

قيل للسيد: ما لك لا تستعمل في شعرك من الغريب ما تُسأل عنه كما يفعل الشعراء؟ قال: لأن أقول شعرًا قريبًا من القلوب يلذه من سمعه، خير من أن أقول شيئًا معقدًا تضل فيه الأوهام.

تقدم السيد إلى سوار القاضي ليشهد عنده، فلم يرض به، فقام مغضبًا من مجلسه، وكتب رقعة يقول فيها:

يا أمين الله يا منـ
ـصور يا خير الولاةِ
إن سوار بن عبد اللـ
ـه من شر القضاةِ
نعثلي جملي
لكمُ غير مواتِ
جده سارق عنز
فجرة من فجرات
لرسول الله والقا
ذفه بالمنكرات
وابن من كان ينادي
من وراء الحجرات
يا هناة اخرج إلينا
إننا أهل هنات
مدحنا المدح ومن نر
م يصب بالزفرات
فاكفنيه لا كفاه اللـ
ـه شر الطارقات

قيل: فلما قرأها سوار وثب من مجلسه وقصد أبا جعفر المنصور، وهو يومئذ نازل بالجسر، فسبقه السيد إليه فأنشده:

قل للإمام الذي ينجى بطاعته
يوم القيامة من بحبوحة النار
لا تستعن وجزاك الله صالحة
يا خير من دب في حكم بسوَّار
لا تستعن بخبيث الرأي ذي صلف
جم العيوب عظيم الكبر جبار
يضحى الخصوم لديه من تجبره
لا يرفعون إليه لحظ أبصار
تيهًا وكبرًا ولولا ما رفعت له
من ضبعه كان عين الجائع العاري

ودخل سوار، فلما رآه المنصور تبسم وقال: أما بلغك خبر إياس بن معاوية حيث قبل شهادة الفرزدق واستزاد في الشهود؟ فما أحوجك للتعرض للسيد ولسانه! ثم أمر السيد بمصالحته.

دخل السيد على المهدي لما بايع لابنيه موسى وهارون، فأنشأ يقول:

ما بال مجرى دمعك الساجم
أمن قدى بات بها لازم
أم من هوى أنت له ساهر
صبابة من قلبك الهائم
آليت لا أمدح ذا نائل
من معشر غير بني هاشم
أوليتهم عندي يد المصطفى
ذي الفضل والمن أبي القاسم
فإنها بيضاء محمودة
جزاؤها الشكر على العالم
جزاؤها حفظ أبي جعفر
خليفة الرحمن والقائم
وطاعة المهدي ثم ابنه
موسى على ذي الإربة الحازم
وللرشيد الرابع المرتضي
مفترض من حقه اللازم
ملكهم خمسون معدودة
برغم أنف الحاسد الراغم
ليس علينا ما بقوا غيرهم
في هذه الأمة من حاكم
حتى يردوها إلى هابط
عليه عيسى منهم ناجم

ومن شعر السيد:

ما جرت خطرة على القلب مني
فيك إلا استترت عن أصحابي
من دموع تجري فإن كنت وحدي
خاليًا أسعدتْ دموعي انتحابي
إن حبي إياك قد سل جسمي
ورماني بالشيب قبل الشباب
لو منحت اللقا شفى بك صبًا
هائم القلب قد ثوى في التراب

ومما قاله في الحبس:

قف بالديار وحيها يا مربع
واسأل وكيف يجيب من لا يسمع
إن الديار خلت وليس بجوها
إلا الضوابح والحمام الوقع
ولقد تكون بها أوانس كالدمى
جُمْلٌ وعزة والرباب وبروع
حور نواعم لا ترى في مثلها
أمثالهن من الصيانة أربع
فعرين بعد تألف وتجمع
والدهر صاحِ مشتت ما يجمع
فاسلم فإنك قد نزلت بمنزل
عند الأمير تضر فيه وتنفع
تؤتى هواك إذا نطقت بحاجة
فيه وتشفع عنده فتشفع
قل للأمير إذا ظفرت بخلوة
منه ولم يك عنده من يسمع
هب لي الذي أحببته في أحمد
وبنيه إنك حاصد ما تزرع
يختص آلُ محمد بمحبة
في الصدر قد طويت عليها الأضلع

وقال يهجو امرأة وارث موسر من خلانه، وكانت تعذل زوجها على إسرافه:

أقول يا ليت ليلى في يدي حنق
من العداوة من أعدى أعاديها
يعلو بها فوق رعن١٠٦ ثم يحدرها
في هوة فتدهدى يومها فيها
أو ليتها في غمار البحر قد عصفت
فيه الرياح فهاجت من أواذيها١٠٧
أو ليتها قد دنت يومًا إلى فرسي
قد شد منه إلى هاديه هاديها
حتى يرى لحمها من حضره زيما١٠٨
وقد أتى القوم بعد الموت ناعيها
فمن بكاها فلا جفت مدامعه
لا أسخن الله إلا عين باكيها

وقيل: إن آخر قصيدة له هي قوله:

أشاقتك المنازل بعد هند
وتربيها وذات الدل دعد
منازل أقفرت منهن محت
معالمهن من سيل ورعد
وريح حرجف تستن فيها
بسافي الترب تلحم ما تسدي
ألم يبلغك والأنباء تنمي
مقال محمد فيما يؤدي
إلى ذي علمه الهادي علي
وخولة خادم في البيت تردي
ألم تر أن خولة سوف تأتي
بوارى الزند صافي الخيم نجد
يفوز بكنيتي واسمي لأني
نحلتهما هو المهدي بعدي
يغيب عنهم حتى يقولوا
تضمنه بطيبة بطن لحد
سنين وأشهرًا ويرى برضوى
بشعب بين أنمار وأسد
مقيم بين آرام وعين
وحفان١٠٩ تروح خلال ربد
تراعيها السباع وليس منها
ملاقيهن مفترسًا بحد
أمن به الردى فرتعن طورًا
بلا خوف لدى مرعى وورد
حلفت برب مكة والمصلى
وبيت طاهر الأركان فرد
يطوف به الحجيج وكل عام
يحل لديه وفد بعد وفد
لقد كان ابن خولة غير شك
صفاء ولايتي وخلوص ودي
فما أحد أحب إلي فيما
أسر وما أبوح به وأبدي
سوى ذي الوحي أحمد أو علي
ولا أزكى وأطيب منه عندي
ومن ذا يابن خولة إذ رمتني
بأسهمها المنية حين وعدي
يذبب عنكم ويسد مما
تثلم من حصونكم كسدي
ومالي أن أمر به ولكن
أؤمل أن يؤخر يوم فقدي
فأدرك دولة لك لست فيها
بجبار فتوصف بالتعدي
على قوم بغوا فيكم علينا
لتعدى منكم يا خير معد
لتعل بنا عليهم حيث كانوا
بغور من تهامة أو بنجد
إذا ما سرت من بلد حرام
إلى من بالمدينة من معد
وماذا عزهم والخير منهم
بأشوس أعصل الأنياب ورد
وأنت لمن بغى وعدا وأذكى
عليك الحرب واسترداك مرد

(٨) سلم بن عمرو الخاسر

كان منقطعًا إلى البرامكة وإلى الفضل بن يحيى خصوصًا من بينهم، وفيه يقول أبو العتاهية:

إنما الفضل لسلم وحده
ليس فيه لسوى سلم درك
وكان هذا أحد الأسباب إلى فساد ما بينه وبين أبي العتاهية. ولسلم١١٠ يقول أبو العتاهية وقد حج مع عتبة:
والله والله ما أبالي متى
ما مت يا سلم بعد ذا السفر
أليس قد طفت حيث طافت وقبـ
ـلت الذي قبلت من الحجر

وله يقول أبو العتاهية وقد حبس إبراهيم الموصلي:

سلم يا سلم ليس دونك سر
حبس الموصلي فالعيش مر
ما استطاب اللذات، مذ سكن المطـ
ـبق رأس اللذات والله، حر
ترك الموصلي من خلق اللـ
ـه جميعًا وعيشهم مقشعر

لما قال بشار قصيدته الميمية في عمر بن العلاء وهي التي يقول فيها:

إذا نبهتك صعاب الأمور
فنبه لها عمرًا ثم نم
فتى لا يبيت على دمنة١١١
ولا يشرب الماء إلا بدم

بعث بها مع سلم إلى عمر بن العلاء، فوافاه، فأنشده إياها، فأمر لبشار بمائة ألف درهم، فقال له سلم: إن خادمك — يعني نفسه — قد قال في طريقه فيك قصيدة؛ قال: فإنك لهناك! قال: تسمع ثم تحكم؛ قال: هات، فأنشده:

قد عزني الداء فما لي دواء
مما ألاقي من حسان النساء
قلب صحيح كنت أسطو به
أصبح من سلمى بداء عياء
أنفاسها مسك وفي طرفها
سحر وما لي غيرها من دواء
وعدتني وعدًا فأوفي به
هل تصلح الخمرة إلا بماء

ويقول فيها:

كم كربة قد مسني ضرها
ناديت فيها عمر بن العلاء

فأمر له بعشرة آلاف درهم، فكانت أول عطية سنية وصلت إليه.

ومن قوله يرثي باقونة بنت المهدي:

أودى بباقونة ريب الزمان
مؤنسة المهدي والخيزران
لم تنطو الأرض على مثلها
مولودة حن لها الوالدان
باقون يا بنت إمام الهدى
أصبحت من زينة أهل الجنان
بكت لك الأرض وسكانها
في كل أفق بين إنس وجان

دخل سلم على الفضل بن يحيى في يوم نيروز والهدايا بين يديه، فأنشد:

أمن ربع تسائله
وقد أقوت منازله
بقلبي من هوى الأطلا
ل حب ما يزايله
رويدكم عن المشغو
ف إن الحب قاتله
بلابل صدره تسري
وقد نامت عواذله
أحق الناس بالتفضيـ
ـل من ترجى فواضله
رأيت مكارم الأخلا
ق ما ضمت حمائله
فلست أرى فتى في النا
س إلا الفضل فاضله
يقول لسانه خيرًا
فتفعله أنامله
ومهما يرج من خير
فإن الفضل فاعله

وكان إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق حاضرين، فقال لإبراهيم: كيف ترى وتسمع؟ قال: أحسن مرئي ومسموع، وفضل الأمير أكثر منه؛ فقال: خذوا جميع ما أهدي إلي اليوم فاقتسموه بينكم أثلاثًا إلا ذلك التمثال، فإني أريد أن أهديه اليوم إلى دنانير؛ ثم قال: لا والله ما هكذا تفعل الأحرار، يقوَّم ويُدفع إليهم ثمنه ثم نُهديه، فقوِّم بألفي دينار، فحملها إلى القوم من بيت ماله واقتسموا جميع الهدايا بينهم.

كان المهدي يعطي مروان وسلمًا الخاسر عطية واحدة، فكان سلم يأتي باب المهدي على البرذون الفاره، قيمته عشرة آلاف درهم بسرج ولجام مفضضين، ولباسه الخز والوشي وما أشبه ذلك من الثياب الغالية الأثمان، ورائحة المسك والطيب الغالية تفوح منه، ويجيء مروان بن أبي حفصة عليه فرو كبل١١٢ وقميص كرابيس١١٣ وعمامة كرابيس وخفَا كبل١١٤ وكساء غليظ، وهو منتن الرائحة، وكان لا يأكل اللحم حتى يقرم إليه بخلًا، فإذا قرم أرسل غلامه فاشترى له رأسًا فأكله، فقال له قائل: أراك لا تأكل إلا الرأس، قال: نعم أعرف سعره فآمن خيانة الغلام ولا أشتري لحمًا فيطبخه فيأكل منه، والرأس آكل مه ألوانا: آكل من عينيه لونًا ومن غلصمته١١٥ لونًا ومن دماغه لونًا.
كان سلم قد بلي بالكيمياء، فكان يذهب بكل شيء له باطلًا، فلما أراد الله عز وجل أن يصنع له عرف أن بباب الشام صاحب كيمياء عجيبًا، وأنه لا يصل إليه أحد إلا ليلًا، فسأل عنه، فدلوه عليه. قال: فدخلت إليه إلى موضع معور،١١٦ فدققت الباب فخرج إلي، فقال: من أنت عافاك الله؟ فقلت: رجل معجب بهذا العلم؛ قال: فلا تشهرني فإني رجل مستور إنما أعمل القوت، قلت: إني لا أشهرك إنما أقتبس منك، قال: فاكتم ذلك، وبين يديه كوز شبه١١٧ صغير، فقال لي: اقلع عروته، فقلعتها، فقال: اسبكها في البوتقة١١٨ فسكبتها، فأخرج شيئًا من تحت مصلاه فقال: ذره عليه، ففعلت، فقال: أفرغه، فأفرغته، فقال: دعه معك، فإذا أصبحت فاخرج فبعه وعد إلي، فأخرجته إلى باب الشام فبعت المثقال بأحد وعشرين درهمًا ورجعت إليه فأخبرته، فقال: اطلب الآن ما شئت؛ قلت: تفيدني؟ قال: بخمسمائة درهم على ألا تعلمه أحدًا، فأعطيته وكتب لي صفة فامتحنتها فإذا هي باطلة، فعدت إليه، فقيل لي: قد تحوَّل وإذا عروة الكوز الشبه من ذهب مركبة عليه، والكوز شبه، ولذلك كان يدخل إليه من يطلبه ليلًا ليخفى عليه، فانصرفت وعلمت أن الله عز وجل أراد بي خيرًا وأن هذا كله باطل.

قال أبو المستهل: دخلت يومًا على سلم وإذا بين يديه قراطيس فيها أشعار يرثي ببعضها أم جعفر، وببعضها جارية غير مسماة، وببعضها أقوامًا لم يموتوا، وأم جعفر يومئذ باقية؛ فقلت له: ويحك ما هذا؟ فقال: تحدث الحوادث فيطالبوننا بأن نقول فيها ويستعجلوننا ولا يجمل بنا أن نقول غير الجيد، فنعد لهم هذا قبل كونه، فمتى حدث حادث أظهرنا ما قلناه فيه قديمًا على أنه قيل في الوقت.

دخل سلم على الرشيد فأنشده:

حي الأحبة بالسلام

فقال الرشيد: حياهم الله بالسلام؛ فقال سلم:

أعلى وداع أم مقام

فقال الرشيد: حياهم الله على أي ذلك كان، فأنشده:

لم يبق منك ومنهم
غير الجلود على العظام

فقال له الرشيد: بل منك، وأمر بإخراجه، وتطير منه ومن قوله، فلم يسمع منه باقي الشعر ولا أثابه بشيء.

استوهب إسحاق الموصلي من الرشيد تركة سلم، وكان قد مات عن غير وارث، فوهبها له قبل أن يتسلمها صاحب المواريث، فحصل منها على خمسين ألف دينار، وروي أنه رفع إلى الرشيد أن سلمًا قد توفي وخلف مما أخذه منه خاصة ومن زبيدة ألف ألف وخمسمائة ألف درهم سوى ما خلفه من عقار وغيره مما اعتقده١١٩ قديمًا، فقبضه الرشيد وتظلم إليه مواليه من آل أبي بكر الصديق رضوان الله عليه؛ فقال: هذا خادمي ونديمي، والذي خلفه من مالي فأنا أحق به، فلم يعطهم إلا شيئًا يسيرًا من قديم أملاكه.

(٩) ربيعة الرَّقِّي١٢٠

كان منقطعًا عن الحضارة، بعيدًا عن مجالسة الخلفاء، فأخمل ذكره بسبب ذلك؛ لكنهم كانوا يستقدمونه إليهم. وأول من فعل ذلك المهدي، فمدحه ونال جوائزه؛ وكان ابن المعتز يرى ربيعة أشعر غزلًا من أبي نواس، لأن في غزل أبي نواس بردًا كثيرًا، وغزل هذا سليم عذب سهل، ولذلك فإن شهرته بلغت إلى بلاط الخليفة. وكان يمدح غير الخلفاء وينال جوائزهم ويعود إلى بلده، وإن قصر أحد في إعطائه هجاه، وله في ذلك حديث مع العباس بن محمد بن علي من أمراء بني العباس.

ومن قوله يمدح يزيد بن حاتم المهلبي ويهجو يزيد بن أسيد السلمي:

حلفت يمينًا غير ذي مثنوية١٢١
يمين امرئ آلى بها غير آثم
لشتان ما بين اليزيدين في الندى
يزيد سليم والأغر ابن حاتم
يزيد سليم١٢٢ سالم المال، والفتى
أخو الأزد للأموال غير مسالم
فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله
وهم الفتى القيسي جمع الدراهم
فلا يحسب التمتام أنى هجوته
ولكنني فضلت أهل المكارم

قال رجل لربيعة: يا أبا أسامة، ما حملك على أن هجوت رجلًا من قومك وفضلت عليه رجلًا من الأزد؟ فقال: أخبرك، أملقت فلم يبق لي إلا داري، فرهنتها على خمسمائة درهم، ورحلت إليه إلى أرمينية، فأعلمته بمكاني ومدحته، وأقمت عنده حولًا، فوهب لي خمسمائة درهم، فتحملت وصرت بها إلى منزلي، فلم يبق معي كبير شيء، فنزلت في دارٍ بِكراء، فقلت: لو أتيت يزيد بن حاتم، ثم قلت: هذا ابن عمي فعل بي هذا الفعل فكيف بغيره! ثم حملت نفسي على أن آتيه، فأعلم بمكاني، فتركني أشهرًا حتى ضجرت، فأكريت نفسي من الحمالين. وكتبت بيتًا في رقعة فألقيته في دهليزه؛ والبيت:

أراني ولا كفران لله راجعًا
بخفى حنين من يزيد بن حاتم

فوقعت الرقعة في يد حاجبه، فأوصلها إليه من غير علمي ولا أمري، فبعث خلفي، فلما دخلت عليه قال: هيه أنشدني ما قلت، فتمنعت، فقال: والله لتنشدني، فأنشدته، فقال: والله لا ترجع كذلك، ثم قال: انزعوا خفيه، فنزعا، فحشاهما دنانير وأمر لي بغلمان وجوار وكسى، ألا ترى لي أن أمدح هذا وأهجوا ذاك؟ قلت: بلى والله، وسار شعري حتى بلغ المهدي، فكان سبب دخولي إليه.

قيل لأبي النحوي: إن الأصمعي قال: لا يقال شتان ما بينهما، وإنما يقال: شتان ما هما، وأنشد قول الأعشى: «شتان ما يومي على كورها» فقال: كذب الأصمعي، يقال: شتان ما هما وشتان ما بينهما، وأنشد لربيعة الرقي: «لشتان ما بين اليزيدين» وفي استشهاد مثل أبي زيد على دفع قول مثل الأصمعي بشعر ربيعة كفاية له في تفضيله.

امتدح ربيعة العباس بن محمد بن علي بقصيدة لم يسبق إليها حسنًا، وهي طويلة، يقول فيها:

لو قيل للعباس يابن محمد
قل «لا» وأنت مخلد ما قالها
ما إن أعد من المكارم خصلة
إلا وجدتك عمها أو خالها
وإذا الملوك تسايروا في بلدة
كانوا كواكبها وكنت هلالها
إن المكارم لم تزل معقولة
حتى حللت براحتيك عقالها

فبعث إليه بدينارين، وكان يقدر فيه ألفين، فلما نظر إلى الدينارين كاد يجن غيظًا وقال للرسول: خذ هذين الدينارين فهما لك على أن ترد الرقعة إلي من حيث لا يدري العباس، ففعل الرسول ذلك، فأخذها ربيعة وأمر من كتب في ظهرها:

مدحتك مدحة السيف المحلى
لتجري في الكرام كما جريت
فهبها مدحة ذهبت ضياعًا
كذبت عليك فيها وافتريت
فأنت المرء ليس له وفاء
كأني إن مدحتك قد زنيت
ثم دفعها إلى الرسول وقال: ضعها في الموضع الذي أخذتها منه، فردها الرسول؛ فلما كان من الغد أخذها العباس فنظر فيها، فلما قرأ الأبيات غضب وقام من وقته فركب إلى الرشيد، وكان أثيرًا١٢٣ عنده يبجله ويقدمه، وكان قد هم أن يخطب إليه ابنته، فرأى الكراهة في وجهه، فقال: ما شأنك؟ فقال: هجاني ربيعة الرَّقِّي، فأُحضر، فقال له الرشيد: تهجو عمي وآثر الخلق عندي؟ لقد هممت أن أضرب عنقك، فقال: والله يا أمير المؤمنين لقد مدحته بقصيدة ما قال مثلها أحد من الشعراء في أحد من الخلفاء، ولقد بالغت في الثناء وأكثرت في الوصف، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمره بإحضارها! فلما سمع الرشيد ذلك منه سكن غضبه وأحب أن ينظر إلى القصيدة، فأمر العباس بإحضار الرقعة، فتلكأ عليه العباس، فقال له الرشيد: سألتك بحق أمير المؤمنين إلا أمرت بإحضارها، فعلم العباس أنه قد أخطأ وغلط، فأمر بإحضارها، فأحضرت، فأخذها الرشيد وإذا فيها القصيدة بعينها، فاستحسنها واستجادها وأعجب بها وقال: والله ما قال أحد من الشعراء في أحد من الخلفاء مثلها، لقد صدق ربيعة وبر؛ ثم قال للعباس: بم أثبته عليها؟ فسكت العباس وتغير لونه وجرض١٢٤ بريقه، فقال ربيعة: أثابني عليها يا أمير المؤمنين بدينارين، فتوهم الرشيد أنه قال ذلك من الموجدة على العباس، فقال: بحياتي يا رقي بكم أثابك؟ قال: وحياتك يا أمير المؤمنين ما أثابني إلا بدينارين، فغضب الرشيد غضبًا شديدًا ونظر في وجه العباس وقال: سوءة لك! أي حال قعدت بك عن إثابته؟ الأموال؟ فوالله لقد مولتك جهدي، أم انقطاع المادة عنك؟ فوالله ما انقطعت، أم أصلك؟ فهو الأصل لا يدانيه شيء، أم نفسك فعلت ذلك بك حتى فضحت آباءك وأجدادك وفضحتني ونفسك؟ فنكس العباس رأسه ولم ينطق، فقال الرشيد: يا غلام، أعط ربيعة ثلاثين ألف درهم وخلعة واحمله على بغلة؛ فلما حمل المال بين يديه وألبس الخلعة قال: بحياتي يا رقي لا تذكره في شعرك لا تعريضًا ولا تصريحًا، وفتر الرشيد عما كان هم به أن يتزوج إليه، وظهر له منه بعد ذلك جفاء كثير واطراح له.
قال أبو بشر: كنت حاضرًا ربيعة الرقي يومًا وجاءته امرأة فقالت: تقول لك فلانة إن بنت مولاي محمومة فإن كنت تعرف لها عوذة١٢٥ فافعل، فقال اكتب لها أبا بشر هذه العوذة:
ثقوا ثقوا باسم إلهي الذي
لا يعرض السقم لمن قد شفى
أعيذ مولاتي ومولاتها
وابنتها بعوذة المصطفى
من شر ما يعرض من علة
في الصبح والليل إذا أسدفا
فقلت له: يا أبا ثابت، لست أحسن أن أكتب ثقوا ثقوا، فكيف أكتبها؟ قال انضح المداد من رأس القلم في موضعين حتى يكون كالنفث،١٢٦ وادفع العوذة إليها فإنها نافعة، ففعلت ودفعتها إليها، فلم تلبث أن جاءت الجارية وهي لا تتمالك ضحكًا، فقالت له: يا مجنون ما فعلت بنا! كدنا نفتضح بما صنعت! قال: فما أصنع! أشاعر أنا أم صاحب تعاويذ!

واتفق للرقي أيضًا مثل ذلك مع معن بن زائدة، وقد لقيه في بعض قدماته إلى العراق، فمدحه، فلم يهش له، فهجاه بقصيدة مطلعها:

معن يا معن يابن زائدة الكـ
ـلب الذي في الذراع لا في البنان
لا تفاخر إذا فخرت بآبا
ئك وافخر بعمك الحوفزان١٢٧

ومن غزله أبيات يغنى بها، وهي:

وتزعم أني قد تبدلت خلة١٢٨
سواها وهذا الباطل المتقول
لحا الله من باع الصديق بغيره
فقالت نعم حاشاك إن تك تفعل
ستصرم إنسانًا إذا ما صرمتني
بحبك فانظر بعده من تبدل

(١٠) الرقاشي١٢٩

كان سهل الشعر مطبوعًا، وكان منقطعًا إلى آل برمك، مستغنيًا بهم عن سواهم، وكانوا يصولون به على الشعراء، ويُروون أولادهم أشعاره، ويدونونها القليل والكثير منها، تعصبًا له، وحفظًا لخدمته، وتنويهًا باسمه، وتحريكًا لنشاطه، فحفظ ذلك لهم. فلما نُكبوا صار إليهم في حبسهم، فأقام معهم مدة أيامهم ينشدهم ويسامرهم حتى ماتوا، ثم رثاهم فأكثر من رثائهم؛ فمن ذلك قوله في جعفر:

كم هاتف بك من باك وباكية
يا طيب للضيف إذ تدعى وللجار
إن يعدم القطر كنت المزن بارقه
لمع الدنانير لا ما خيل الساري

وقوله:

لعمرك ما بالموت عار على الفتى
إذا لم تصبه في الحياة المعاير١٣٠
وما أحد حي وإن كان سالمًا
بأسلم مما غيبته المقابر
ومن كان مما يحدث الدهر جازعًا
فلا بد يومًا أن يرى وهو صابر
وليس لذي عيش عن الموت مقصر
وليس على الأيام والدهر غابر
وكل شباب أو جديد إلى البلى
وكل امرئ يومًا إلى الله صائر
فلا يبعدنك الله عني جعفرًا
بروحي ولو دارت علي الدوائر
فآليت لا أنفك أبكيك ما دعت
على فنن ورقاء أو طار طائر

ومن ذلك قوله لما صلب الفضل بن يحيى واجتاز به الرقاشي وهو مصلوب على الجذع، فوقف يبكي ثم قال:

أما والله لولا خوف واش
وعين للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك واستلمنا
كما للناس بالحجر استلام
فما أبصرت قبلك يابن يحيى
حسامًا حتفه السيف الحسام
على اللذات والدنيا جميعًا
ودولة آل برمك السلام

فكتب أهل الأخبار بذلك إلى الرشيد، فأحضره فقال: ما حملك على ما قلت؟ فقال: يا أمير المؤمنين كان إلي محسنًا، فلما رأيته على الحال التي هو عليها حركني إحسانه فما ملكت نفسي حتى قلت الذي قلته؛ قال: وكم كان يجري عليك؟ قال: ألف دينار في كل سنة، قال: إنا قد أضعفناها لك.

ومن قوله يصف جارية:

صفات وحسن أورثا القلب لوعة
تضرم في أحشاء قلب متيم
تمثلها نفسي لعيني فأنثني
عليها بطرف الناظر المتيسم
يحملني حبي لها فوق طاقتي
من الشوق دأب الحائر المتقسم

(١١) أبو العتاهية١٣١

قال أحمد بن زهير: سمعت مصعب بن عبد الله يقول: أبو العتاهية أشعر الناس، فقلت له: بأي شيء استحق ذلك عندك؟ فقال بقوله:

تعلقت بآمال
طوال أي آمال
وأقبلت على الدنيا
ملحًا أي إقبال
أيا هذا تجهز لـ
ـفراق الأهل والمال
فلا بد من الموت
على حال من الحال

ثم قال مصعب: هذا كلام سهل حق لا حشو فيه ولا نقصان، يعرفه العاقل ويقر به الجاهل. وكان الأصمعي يستحسن قوله:

أنت ما استغنيت عن صا
حبك الدهر أخوه
فإذا احتجت إليه
ساعة مجك فوه

وأنشد له سلم الخاسر:

سكن يبقى له سكن
ما بهذا يؤذن الزمن
نحن في دار يخبرنا
ببلاها ناطق لسن
دار سوء لم يدم فرح
لامرئ فيها ولا حزن
في سبيل الله أنفسنا
كلنا بالموت مرتهن
كل نفس عند ميتتها
حظها من مالها الكفن
إن مال المرء ليس له
منه إلا ذكره الحسن

وقال عبد الله بن عبد العزيز العمري: أشعر الناس أبو العتاهية حيث يقول:

ما ضر من جعل التراب مهاده
ألا ينام على الحرير إذا قنع

وقيل لأبي العتاهية: كيف تقول الشعر؟ قال: ما أردته قط إلا مثل لي، فأقول ما أريد وأترك ما لا أريد. وكان يقول: لو شئت أن أجعل كلامي شعرًا كله لفعلت.

حم الرشيد فصار أبو العتاهية إلى الفضل بن الربيع برقعة فيها:

لو علم الناس كيف أنت لهم
ماتوا إذا ما أنت أجمعهم
خليفة الله أنت ترجح بالنا
س إذا ما وزنت أنت وهم
قد علم الناس أن وجهك يغـ
ـني إذا ما رآه معدمهم

فأنشدها الفضل بن الربيع الرشيد، فأمر بإحضار أبي العتاهية، فما زال يسامره ويحدثه إلى أن برئ، ووصل إليه بذلك السبب مال جليل. وقد حدث ابن الأعرابي بهذا الحديث، فقال له رجل بالمجلس: ما هذا الشعر بمستحق لما قلت؛ قال: ولم؟ قال: لأنه ضعيف؛ فقال ابن الأعرابي، وكان أحد الناس، الضعيف والله عقلك لا شعر أبي العتاهية، ألأبي العتاهية تقول إنه ضعيف الشعر! فوالله ما رأيت شاعرًا قط أطبع ولا أقدر على بيت منه، وما أحسب مذهبه إلا ضربًا من السحر؛ ثم أنشد له:

قطعت منك حبائل الآمال
وحططت عن ظهر المطي رحالي
ويئست أن أبقى لشيء نلت ممـ
ـا فيك يا دنيا وأن يبقى لي
فوجدت برد اليأس بين جوانجي
وأرحت من حل ومن ترحال
يأيها البطر الذي هو من غد
في قبره متمزق الأوصال
حذف المنى عنه المشمر في الهدى
وأرى مناك طويلة الأذيال
حيل ابن آدم في الأمور كثيرة
والموت يقطع حيلة المحتال
ما لي أراك لحر وجهك مخلقًا
أخلقت يا دنيا وجوه رجال
قست السؤال فكان أعظم قيمة
من كل عارفة جرت بسؤال
فإذا ابتليت ببذل وجهك سائلًا
فابذله للمتكرم المفضال
وإذا خشيت تعذرًا في بلدة
فاشدد يديك بعاجل الترحال
واصبر على غير الزمان فإنما
فرج الشدائد مثل حل عقال

ثم قال للرجل: هل تعرف أحدًا يحسن أن يقول مثل هذا الشعر؟ فقال له الرجل: يا أبا عبد الله، جعلني الله فداءك، إني لم أردد عليك ما قلت، ولكن الزهد مذهب أبي العتاهية، وشعره في المديح ليس كشعره في الزهد؛ فقال: أفليس الذي يقول في المديح:

وهارون ماء المزن يشفي من الصدى
إذا ما الصدى بالريق غصت حناجره
وأوسط بيت في قريش لبيته
وأول عز في قريش وآخره
وزحفٌ له تحكي البروق سيوفه
وتحكي الرعود القاصفات حوافره
إذا حميت شمس النهار تضاحكت
إلى الشمس فيه بيضه ومغافره
إذا نكب الإسلام يومًا بنكبة
فهارون من بين البرية ثائره
ومن ذا يفوت الموت والموت مدرك
كذا لم يفت هارون ضد ينافره

فتخلص الرجل من شر ابن الأعرابي بأن قال له: القول كما قلت، وما كنت سمعت له مثل هذين الشعرين، وكتبهما عنه.

قال ثمامة بن أشرس أنشدني أبو العتاهية:

إذا المرء لم يعتق من المال نفسه
تملكه المال الذي هو مالكه
ألا إنما مالي الذي أنا منفق
وليس لي المال الذي أنا تاركه
إذا كنت ذا مال فبادر به الذي
يحق وإلا استهلكته مهالكه

فقلت له: من أين قضيت بهذا؟ فقال: من قول رسوله الله : «إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت». فقلت له: أتؤمن بأن هذا قول رسوله الله وأنه الحق؟ قال: نعم؛ قلت: فلم تحبس عندك سبعًا وعشرين بدرة في دارك ولا تأكل منها ولا تشرب ولا تزكي ولا تقدمها ذخرًا ليوم فقرك وفاقتك؟ فقال: يا أبا معن، والله إن ما قلت لهو الحق، ولكني أخاف الفقر والحاجة إلى الناس؛ فقلت: وبم تزيد حال من افتقر على حالك وأنت دائم الحرص، دائم الجمع، شحيح على نفسك، لا تشتري اللحم إلا من عيد إلى عيد؟ فترك جواب كلامي كله، ثم قال لي: والله لقد اشتريت في يوم عاشوراء لحمًا وتوابله وما يتبعه بخمسة دراهم؛ فلما قال هذا القول أضحكني حتى أذهلني عن جوابه ومعاتبته، فأمسكت عنه وعلمت أنه ليس ممن شرح الله صدره للإسلام.

زار مرة عمرو بن مسعدة فحجب عنه، فلزم منزله، فاستبطأه عمرو، فكتب إليه:

كسلني اليأس عنك فما أر
فع طرفي إليك من كسل
إني إذا لم يكن أخي ثقة
قطعت منه حبائل الأمل

وكتب إليه مرة أخرى:

مالك قد حلت عن إخائك واسـ
ـتبدلت يا عمرو شيمة كدره
إني إذا الباب تاه حاجبه
لم يك عندي في هجره نظره١٣٢
لستم ترجون للحساب ولا
يوم تكون السماء منفطره
لكن لدنيا كالظل بهجتها
سريعة الإنقضاء منشمره
قد كان وجهي لديك معرفة
فاليوم أضحى حرفًا من النكره

جلس المهدي للشعراء يومًا فأذن لهم، وفيهم بشار وأشجع، وكان أشجع يأخذ عن بشار ويعظمه، وكان في القوم غير هذين أبو العتاهية، قال أشجع: فلما سمع بشار كلام أبي العتاهية قال: يا أخا سليم، أهذا ذلك الكوفي الملقب؟ قلت: نعم، قال: لا جزى الله خيرًا من جمعنا معه؛ ثم قال له المهدي: أنشد، فقال: ويحك! أو يستنشد أيضًا قبلنا؟ فقلت: قد ترى؛ فأنشد:

ألا ما لسيدتي ما لها
أدلًا فأحمل إدلالها
وإلا ففيم تجنت وما
جنيت سقى الله أطلالها
ألا إن جارية للإما
م قد أسكن الحسن سربالها
مشت بين حور قصار الخطا
تجاذب في المشي أكفالها
وقد أتعب الله نفسي بها
وأتعب باللوم عذالها

فقال بشار لأشجع: ويحك يا أخا سليم! ما أدري من أي أمريه أعجب، أمن ضعف، شعره أم من تشبيبه بجارية الخليفة وهو يسمع ذلك بأذنه؟ حتى أتى على قوله:

أتته الخلافة منقادة
إليه تجرر أذيالها
فلم تك تصلح إلا له
ولم يك يصلح إلا لها
ولو رامها أحد غيره
لزلزلت الأرض زلزالها
ولو لم تطعه بنات القلوب
لما قبل الله أعمالها
وإن الخليفة من بغض «لا»
إليه ليبغض من قالها

فقال بشار لأشجع وقد اهتز طربًا: ويحك يا أخا سليم، أترى الخليفة لم يطر عن فراشه طربًا لما يأتي به هذا الكوفي!

ولما اتهمه منصور بن عمار بالزندقة، لأنه لا يذكر في شعره الجنة والنار وإنما يذكر الموت، قال فيه:

يا واعظ الناس قد أصبحت متهما
إذ عبت منهم أمورًا أنت تأتيها
كالملبس الثوب من عري وعورته
للناس بادية ما إن يواريها
فأعظم الإثم بعد الشرك نعلمه
في كل نفس عماها عن مساويها
عرفانها بعيوب الناس تبصرها
منهم ولا تبصر العيب الذي فيها

وقيل له: زعم الناس أنك زنديق، فقال: والله ما ديني إلا التوحيد، فقيل له قل شيئًا يتحدث به عنك، فقال:

ألا إننا كلنا بائد
وأي بني آدم خالد
وبدؤهم كان من ربهم
وكل إلى ربه عائد
فيا عجبًا كيف يعصي الإلـ
ـه أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد

وسمع الجاحظ مرة من ينشد أرجوزة أبي العتاهية التي سماها «ذوات الأمثال» حتى أتى على قوله:

يا للشباب المرح التصابي
روائح الجنة في الشباب

فقال للمنشد: قف، ثم قال: انظروا إلى قوله «روائح الجنة في الشباب» فإن له معنى كمعنى الطرب لا يقدر على معرفته إلا القلوب، وتعجز عن ترجمته الألسنة إلا بعد التطويل وإدامة التفكير، وخير المعاني ما كان القلب إلى قبوله أسرع من اللسان إلى وصفه. وهذه الأرجوزة من بدائع أبي العتاهية، ويقال: إن فيها أربعة آلاف مثل، منها قوله:

حسبك مما تبتغيه القوت
ما أكثر القوت لمن يموت
الفقر فيما جاوز الكفافا
من اتقى الله رجا وخافا
هي المقادير فلمني أو فذر
إن كنت أخطأت فما أخطا القدر
لكل ما يؤذي وإن قل ألم
ما أطول الليل على من لم ينم
ما انتفع المرء بمثل عقله
وخير ذخر المرء حسن فعله
إن الفساد ضده الصلاح
ورب جد جره المزاح
من جعل النمام عينًا هلكا
مبلغك الشر كباغيه لكا
إن الشباب والفراغ والجده
مفسدة للمرء أي مفسده
يغنيك عن كل قبيح تركه
يرتهن الرأي الأصيل شكه
ما عيش من آفته بقاؤه
نغص عيشًا كله فناؤه
يا رب من أسخطنا بجهده
قد سرنا الله بغير حمده
ما تطلع الشمس ولا تغيب
إلا لأمر شأنه عجيب
لكل شيء معدن وجوهر
وأوسط وأصغر وأكبر
من لك بالمحض وكل ممتزج
وساوس في الصدر منه تعتلج
وكل شيء لاحق بجوهره
أصغره متصل بأكبره
ما زالت الدنيا لنا دار أذى
ممزوجة الصفو بألوان القذى
الخير والشر بها أزواج
لذا نتاج ولذا نتاج
من لك بالمحض وليس محض
يخبث بعض ويطيب بعض
لكل إنسان طبيعتان
خير وشر وهما ضدان
إنك لو تستنشق الشحيحا
وجدته أنتن شيء ريحا
والخير والشر إذا ما عدَّا
بينهما بون بعيد جدَّا
عجبت حتى غمني السكوت
صرت كأني حائر مبهوت
كذا قضى الله فكيف أصنع
الصمت إن ضاق الكلام أوسع

ومن قول أبي العتاهية في الوحدة والتبرم بالناس:

برمت بالناس وأخلاقهم
فصرت أستأنس بالوحده
ما أكثر الناس لعمري وما
أقلهم في حاصل العده

قال الأصمعي: شعر أبي العتاهية كساحة الملوك، يقع فيها الجوهر والذهب والتراب والخزف والنوى.

كان أبو العتاهية لا يفارق الرشيد في سفر ولا حضر إلا في طريق الحج، وكان يجري عليه في كل سنة خمسين ألف درهم سوى الجوائز والمعاون، فلما قدم الرشيد الرقة لبس أبو العتاهية الصوف وتزهد، وترك حضور المنادمة والقول في الغزل، وأمر الرشيد بحبسه فحبس، فكتب إليه من وقته:

أنا اليوم لي والحمد لله أشهر
يروح علي الهم منكم ويبكر
تذكر أمين الله حقي وحرمتي
وما كنت توليني كذلك يذكر
ليالي تدني منك بالقرب مجلسي
ووجهك من ماء البشاشة يقطر
فمن لي بالعين التي كنت مرة
إلي بها في سالف الدهر تنظر

فلما قرأ الرشيد الأبيات قال: قولوا له: لا بأس عليك؛ فكتب إليه:

أرقت وطار عن عيني النعاس
ونام السامرون ولم يواسوا
أمين الله أمنك خير أمن
عليك من التقى فيه لباس
تساس من السماء بكل بر
وأنت به تسوس كما تساس
كأن الخلق ركب فيه روح
له جسد وأنت عليه راس
أمين الله إن الحبس باس
وقد أرسلت: ليس عليك باس

وكتب إليه أيضًا في الحبس:

وكلفتني ما حلت بيني وبينه
وقلت سأبغي ما تريد وما تهوى
فلو كان لي قلبان كلفت واحدًا
هواك وكلفت الخلي لما يهوى

فأمر بإطلاقه.

كان الهادي واجدًا على أبي العتاهية لملازمته أخاه هارون في خلافة المهدي، فلما ولى موسى الخلافة قال أبو العتاهية يمدحه:

يضطرب الخوف والرجاء إذا
حرك موسى القضيب أو فكر
ما أبين الفضل في مغيب وما
أورد من رأيه وما أصدر
فكم ترى عز عند ذلك من
معشر قوم وذل من معشر
يثمر من مسه القضيب ولو
يمسه غيره لما أثمر
من مثل موسى ومثل والده الـ
ـمهدي أو جده أبي جعفر

فرضي عنه. فلما دخل عليه أنشده:

لهفي على الزمن القصير
بين الخورنق والسدير
إذ نحن في غرف الجنا
ن نعوم في بحر السرور
في فتية ملكوا عنا
ن الدهر أمثال الصقور
ما منهم إلا الجسو
ر على الهوى غير الحصور
يتعاورون مدامة
صهباء من حلب العصير
عذراء رباها شعا
ع الشمس في حر الهجير
لم تدن من نار ولم
يعلق بها وضر القدور
ومقرطق يمشي أما
م القوم كالرشأ الغرير
بزجاجة تستخرج السـ
ـر الدفين من الضمير
زهراء مثل الكوكب الد
ري في كف المدير
تدع الكريم وليس يد
ري ما قبيل من دبير
ومخصرات زرننا
بعد الهدو من الخدور
ريا رواد فهن يلـ
ـبسن الخواتم في الخصور
غر الوجوه محجًا
ت قاصرات الطرف حور
متنعمات في النعـ
ـيم مضمخات بالعبير
يرفلن في حلل المحا
سن والمجاسد والحرير
ما إن يرين الشمس إلا
القرط من خلل الستور
وإلى أمين الله مهـ
ـربنا من الدهر العثور
وإليه أتعبنا المطا
يا بالرواح وبالبكور
صعر الخدود كأنما
جنِّحن أجنحة النسور
متسربلات بالظلا
م على السهولة والوعور
حتى وصلن بنا إلى
رب المدائن والقصور
ما زال قبل فطامه
في سن مكتهل كبير

استنشده المأمون أحسن ما قال في الموت فأنشده:

أنساك محياك المماتا
فطلبت في الدنيا الثباتا
أوثقت بالدنيا وأنـ
ـت ترى جماعتها شتاتًا
وعزمت منك على الحيا
ة وطولها عزمًا بتاتا
يا من رأى أبويه فيـ
ـمن قد رأى كانا فماتا
هل فيهما لك عبرة
أم خلت أن لك انفلاتا
ومن الذي طلب التفلـ
ـت من منيته ففاتا
كل تصبحه المنيـ
ـة أو تبيته بياتا

دخل أبو العتاهية على المأمون فأنشده:

ما أحسن الدنيا وإقبالها
إذا أطاع الله من نالها
من لم يواس الناس من فضلها
عرض للإدبار إقبالها

فقال له المأمون: ما أجود البيت الأول، فأما الثاني فما صنعت فيه شيئًا، الدنيا تدبر عمن واسى منها أو ضن بها، وإنما توجب السماحةُ بها الأجرَ والضنُ بها الوزرَ، فقال: صدقت يا أمير المؤمنين، أهل الفضل أولى بالفضل وأهل النقص أولى بالنقص، فلما كان بعد أيام عاد فأنشده:

كم غافل أودى به الموت
لم يأخذ الأهبة للفوت
من لم تزل نعمته قبله
زال عن النعمة بالموت

فقال له: أحسنت، طيبت المعنى، وأمر له بعشرين ألف درهم.

كان أبو العتاهية يحج كل سنة، فإذا قدم أهدى إلى المأمون بردًا ومطرفًا ونعلًا سوداء ومساويك أراك، فيبعث إليه بعشرين ألف درهم، فأهدى مرة له كما كان يهدي كل سنة إذا قدم، فلم يثبه ولا بعث إليه بالوظيفة، فكتب إليه أبو العتاهية:

خبروني أن من ضرب السنه
جددًا بيضا وصفرًا حسنه
أُحدِثتْ لكنني لم أرها
مثل ما كنت أرى كل سنه

فأمر المأمون بحمل العشرين الألف وقال: أغفلناه حتى ذكرنا.

أنشد المأمون بيت أبي العتاهية يخاطب سلمًا الخاسر:

تعالى الله يا سلم بن عمرو
أذل الحرص أعناق الرجال

فقال المأمون: إن الحرص لمفسد للدين والمروءة، والله ما عرفت من رجل قط حرصًا ولا شرها فوجدت فيه مصطنعًا، فبلغ ذلك سلمًا فقال: ويلي على الجرار الزنديق جمع الأموال وكنزها وعبأ البدور في بيته ثم تزهد مراءاة ونفاقًا، فأخذ يهتف بي إذا تصديت للطلب.

كان الرشيد مما يعجبه غناء الملاحين في الزلالات إذا ركبها، وكان يتأذى بفساد كلامهم ولحنهم، فقال: قولوا لمن معنا من الشعراء: يعملوا لهؤلاء شعرًا يغنون فيه، فقيل: ليس أحد أقدر على هذا من أبي العتاهية وهو في الحبس، فوجه إليه الرشيد: قل شعرًا حتى أسمعه منهم، ولم يأمر بإطلاقه، فغاظه ذلك وقال: والله لأقولن شعرًا يحزنه ولا يسر به، فعمل شعرًا ودفعه إلى من حفظه من الملاحين، فلما ركب الحراقة سمعه، وهو:

خانك الطرف الطموح
أيها القلب الجموح
لدواعي الخير والشـ
ـر دنو ونزوح
هل لمطلوب بذنب
توبة منه نصوح
كيف إصلاح قلوب
إنما هن قروح
أحسن الله بنا
إن الخطايا لا تفوح
فإذا المستور منا
بين ثوبيه فضوح
كم رأينا من عزيز
طويت عنه الكشوح
صاح منه برحيل
صائح الدهر الصدوح
موت بعض الناس في الأر
ض على قوم فتوح
سيصير المرء يومًا
جسدًا ما فيه روح
بين عيني كل حي
علم الموت يلوح
كلنا في غفلة والـ
ـموت يغدو ويروح
لبني الدنيا من الدنـ
ـيا غبوق وصبوح
رحن في الوشى وأصبحـ
ـن عليهن المسوح
كل نطاح من الدهـ
ـر له يومًا نطوح
نح على نفسك يا مسـ
ـكين إن كنت تنوح
لتموتن وإن عمـ
ـرت ما عمر نوح

فلما سمع ذلك الرشيد جعل يبكي وينتحب، وكان الرشيد من أغزر الناس دموعًا في وقت الموعظة، وأشدهم عسفًا في وقت الغضب والغلظة؛ فلما رأى الفضل بن الربيع كثرة بكائه أومأ إلى الملاحين أن يسكتوا.

لما عقد الرشيد العهد لبنيه الثلاثة: الأمين والمأمون والمؤتمن، قال أبو العتاهية:

رحلت عن الربع المحيل قعودي
إلى ذي زحوف جمة وجنود
وراع يراعي الليل في حفظ أمة
يدافع عنها الشر غير رقود
بألوية جبريل يقدم أهلها
ورايات نصر حوله وبنود
تجافى عن الدنيا وأيقن أنها
مفارقة ليست بدار خلود
وشد عرى الإسلام منه بفتية
ثلاثة أملاك ولاة عهود
هم خير أولاد لهم خير والد
له خير آباء مضت وجدود
بنو المصطفى هارون حول سريره
فخير قيام حوله وقعود
تقلب ألحاظ المهابة بينهم
عيون ظباء في قلوب أسود
جدودهم شمس أتت في أهلة
تبدت لراء في نجوم سعود

فوصله الرشيد بصلة ما وصل مثلها شاعرًا قط.

(١٢) مسلم١٣٣ بن الوليد أحد الشعراء المفلقين والبلغاء المبدعين

قال الشعر في صباه، ولم يتجاوز به الأمراء والرؤساء، مكتفيًا بما يناله من قليل العطاء، وينفقه على ملاذه مع إخوانه من خلعاء الشعر، ثم انقطع إلى يزيد بن مزيد الشيباني قائد الرشيد، ثم اتصل بالخليفة هارون الرشيد وعد من شعرائه، ومدحه ومدح البرامكة وحسن رأيهم فيه. ولما أصبح الحل والعقد بيد ذي الرياستين الفضل بن سهل وزير المأمون في أول خلافته قربه وأدناه: لأنه كان من خاصته قبل وزارته، وولاه أعمالًا بجرجان اكتسب منها ألف ألف درهم ثم لزم منزله إلى أن أنفقها في اللذات، وعاد إلى الفضل فقلده الضياع بأصبهان فاكتسب منها ألف ألف أيضًا. ولما قتل الفضل لزم منزله ونسك ولم يمدح أحدًا إلى أن مات بجرجان.

ومسلم أول من تكلف البديع في شعره واستكثر منه في قوله، وسبقه بشار إلى ذلك إلا أنه لم يبلغ شأو مسلم فيه. وقد عد العلماء هذا التصنع والتكلف إفسادًا للشعر، إذ قد تبعه في ذلك الشعراء مثل البحتري وأبي تمام وابن المعتز وغيرهم.

وقد مزج مسلم كلام البدويين بكلام الحضريين، فضمنه المعاني اللطيفة، وكساه الألفاظ الظريفة، فله جزالة البدويين، ورقة الحضريين.

لقي مسلم أبا نواس فقال له: ما أعرف لك بيتًا إلا فيه سقط؛ قال له: فما تحفظ من ذلك؟ قال: قل أنت ما شئت حتى أريك سقطك فيه؛ فأنشد:

ذكر الصبوح بسحرة فارتاحا
وأمله ديك الصباح صياحا

فقال له مسلم: فلم أمله وهو الذي أذكره وبه ارتاح؟ فقال أبو نواس: فأنشدني شيئًا من شعرك ليس فيه خلل؛ فأنشده مسلم:

عاصى الشباب فراح غير مفند
وأقام بين عزيمة وتجلد

فقال له أبو نواس: قد جعلته رائحًا مقيمًا في حالة واحدة وبيت واحد، فتشاغبا وتسابا ساعة. وكلا البيتين صحيح المعنى.

اجتمع أصحاب المأمون عنده يومًا فأفاضوا في ذكر الشعر والشعراء، فقال له بعضهم: أين أنت يا أمير المؤمنين من مسلم بن الوليد؟ قال: حيث يقول ماذا؟ قال: حيث يقول وقد رثى رجلًا:

أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه
فطيب تراب القبر دل على القبر

وحيث مدح رجلًا بالشجاعة فقال:

يجود بالنفس إذ ضن الجواد بها
والجود بالنفس أقصى غاية الجود

وهجا رجلًا بقبح الوجه والأخلاق فقال:

قبحت مناظره فيحن خبرته
حسنت مناظره لقبح المخبر

وتغازل فقال:

هوى يجد وحبيب يلعب
أنت لقى بينهما معذب

فقال المأمون: هذا أشعر من خضتم اليوم في ذكره.

قال يزيد بن مزيد: أرسل إلي الرشيد يومًا في وقت لا يرسل فيه إلى مثلي، فأتيته لابسًا سلاحي مستعدًا لأمر إن أراده مني، فلما رآني ضحك إلي ثم قال: يا يزيد، خبرني من الذي يقول فيك:

تراه في الأمن في درع مضاعفة
لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل
ضافي العنان طموح العين همته
فك العناة وأسر الفاتك الخطل

فقال: لا أعرفه يا أمير المؤمنين، فقال: سوءة لك من سيد قوم يُمدح بمثل هذا الشعر ولا يعرف قائله، وقد بلغ أمير المؤمنين فرواه ووصل قائله، وهو مسلم بن الوليد! فانصرفت فدعوت به ووصلته ووليته.

وروي أنه دخل على الرشيد فقال له: يا يزيد، من الذي يقول فيك:

لا يعبق الطيب خديه ومفرقه
ولا يمسح عينيه من الكحل
إذا انتضى سيفه كانت مسالكه
مسالك الموت في الأبدان والقلل
وإن خلت بحديث النفس فكرته
حي الرجاء ومات الخوف من وجل
كالليث إن هجته فالموت راحته
لا يستريح إلى الأيام والدول

فقال: لا أعرف قائله يا أمير المؤمنين، فقال له هارون: أيقال فيك مثل هذا الشعر ولا تعرف قائله! فخرج من عنده خجلًا، فلما صار إلى منزله دعا حاجبه فقال له: من بالباب من الشعراء؟ قال: مسلم بن الوليد؛ قال: وكيف حجبته عني، فلم تعلمني بمكانه! فقال: أخبرته أنك مضيق، وأنه ليس في يديك شيء تعطيه إياه، وسألته الإمساك والمقام أيامًا إلى أن تتسع؛ فأنكر ذلك وقال: أدخله، فأدخله إليه، فأنشده قوله فيه:

أجررت١٣٤ حبل خليع في الصبا غزل
وشمرت همم العذال في عذلي
هاج البكاء على العين الطموح١٣٥ هوى
مفرق بين توديع ومحتمل
كيف السلو لقلب راح مختبلًا
يهذي بصاحب قلب غير مختبل
عاصى العزاء غداة البين منهمل
من الدموع جرى في إثر منهمل
لولا مداراة دمع العين لانكشف
مني سرائر لم تظهر ولم تخل١٣٦
أما كفى البين أن أرمى بأسهمه
حتى رماني بلحظ الأعين النجل
مما جنى لي وإن كانت منى صدقت
صبابة خلس التسليم بالمقل
ماذا على الدهر لو لانت عريكته
ورد في الرأس مني سكرة الغزل
جرم الحوادث عندي أنها اختلست
مني بنات غذاء الكرم والكلل١٣٧
ورب يوم من اللذات محتضر١٣٨
قصرته بلقاء الراح والخلل
وليلة خلست للعين من سنة
هتكت فيها الصبا عن بيضة الحجل
قد كان دهري وما بي اليوم من كبر
شرب المدام وعزف القينة العطل
إذا شكوت إليها الحب خفرها١٣٩
شكواي فاحمر خداها من الخجل
كم قد قطعت وعين الدهر راقدة
أيامه بالصبا واللهو والجذل
وطيب الفرع أصفاني مودته
كافأته بمديح فيه منتخل١٤٠
وبلدة لمطايا الركب منضية١٤١
أنضيتها بوجيف الأنيق الذلل
فيم المقام وهذا النجم١٤٢ معترضًا
دنا النجاء وحان السير فارتحل
يا مائل الرأس إن الليث مفترس
ميل الجماجم والأعناق فاعتدل
حذار من أسد ضرغامة بطل
لا يولغ السيف إلا مهجة البطل
لولا يزيد لأضحى الملك مطردًا١٤٣
أو مائل السمك أو مسترخي الطول
سل الخليفة سيفًا من بني مطر
أقام قائمه من كان ذا ميل
كم صائل في ذرا تمهيد مملكة
لولا يزيد بني شيبان لم يصل
ناب الإمام الذي يفتر عنه إذا
ما افترت الحرب عن أنيابها العصل
من كان يختل قِرنًا عند موقفه
فإن قرن يزيد غير مختتل
سد الثغور يزيد بعد ما انفرجت
بقائم السيف لا بالختل والحيل
كم قد أذاق حمام الموت من بطل
حامي الحقيقة لا يؤتى من الوهل
أغر أبيض يغشى البيض أبيض لا
يرضى لمولاه يوم الروع بالفشل
يغشى الوغى وشهاب الموت في يده
يرمي الفوارس والأبطال بالشعل
يفتر عند افترار الحرب مبتسمًا
إذا تغير وجه الفارس البطل
موف على مهج واليوم ذو رهج
كأنه أجل يسعى إلى أمل
ينال بالرفق ما يعيا الرجال به
كالموت مستعجلًا يأتي على مهل
لا يلقح الحرب إلا ريث ينتجها
من هالك وأسير غير مختتل
إن شيم بارقه حالت خلائقه
بين العطية والإمساك والعلل
يغشي المنايا المنايا ثم يفرجها
عن النفوس مطلات على الهبل١٤٤
لا يرحل الناس إلا نحو حجرته
كالبيت١٤٥ يضحي إليه ملتقى السبل
يقري المنية أرواح الكماة كما
يقري الضيوف شحوم الكوم والبزل١٤٦
يكسو السيوف دماء الناكثين به
ويجعل الهام تيجان القنا الذبل
يغدو فتغدو المنايا في أسنته
شوارعًا تتحدى الناس بالأجل
إذا طغت فئة عن غب طاعتها
عبى لها الموت بين البيض والأسل
قد عود الطير عادات وثقن بها
فهن يتبعنه في كل مرتحل
تراه في الأمن في درع مضاعفة
لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل
ضافي العنان طموح العين همته
فك العناة١٤٧ وأسر الفاتك الخطل
لا يعبق الطيب خديه ومفرقه
ولا يمسح عينيه من الكحل
إذا انتضى سيفه كانت مسالكه
مسالك الموت في الأبدان والقلل
وإن خلت بحديث النفس فكرته
حي الرجاء ومات الخوف من وجل
كالليث إن هجته فالموت راحته
لا يستريح إلى الأيام والدول
إن الحوادث لما رمن هضبته١٤٨
أزمعن عن جار شيبان بمنتقل
فالدهر يغبط أولاه أواخره
إذ لم يكن كان في أعصاره الأول
إذا الشريكي١٤٩ لم يفخر على أحد
تكلم الفخر عنه غير منتحل
لا تكذبن فإن الحلم معدنه
وراثة في بني شيبان لم تزل
سلوا السيوف فأغشوا من يحار بهم
خبطا بها غير ما نكل ولا وكل
الزائديون قوم في رماحهم
خوف المخيف وأمن الخائف الوجل
كبيرهم لا تقوم الراسيات له
حلما وطفلهم في هدى مكتهل
اسلم يزيد فما في الدين من أود
إذا سلمت وما في الملك من خلل
أثبت سوق بني الإسلام فاطأدت١٥٠
يوم الخليج وقد قامت على زلل
لولا دفاعك بأس الروم إذ بكرت
عن١٥١ عترة الدين لم تأمن من الثكل
ويوسف١٥٢ البرم قد صبحت عسكره
بعسكر يلفظ الأقدار ذي زجل
غافصته١٥٣ يوم عبر النهر مهلته
وكان محتجزًا في الحرب بالمهل
والمارق ابن طريف١٥٤ قد دلفت له
بعسكر للمنايا مسبل هطل
لما رآك مجدًا في منيته
وأن دفعك لا يسطاع بالحيل
شام النزال فأبرقت اللقاء له
مقدم الخطو فيها غير متكل
ماتوا وأنت غليل في صدورهم
وكان سيفك يستشفي من الغلل
لو أن غير شريكي أطاف به
فاز الوليد بقدح الناضل١٥٥ الخصل
وقمت بالدين يوم الرس١٥٦ فاعتدلت
منه قوائم قد أوفت على ميل
ما كان جمعهم لما لقيتهم
إلا كمثل نعام ريع منجفل
تابوا ولو لم يتوبوا من ذنوبهم
لآب جيشك بالأسرى وبالنفل
كم آمن لك نائي الدار ممتنع
أخرجته من حصون الملك والخول
يأبى لك الذم في يوميك إن ذكرا
عضب حسام وعرض غير مبتذل
ومارقين غزاة من بيوتهم
لا ينكلون ولا يؤتون من نكل
خلفت أجسادهم والطير عاكفة
فيها وأقفلتهم هاما مع القفل
فافخر فما لك في شيبان من مثل
كذاك ما لبنى شيبان من مثل
كم مشهد لك لا تحصى مآثره
قسمت فيه كرزق الإنس والخبل
لله من هاشم في أرضه جبل
وأنت وابنك ركنا ذلك الجبل
قد أعظموك فما تدعي لهينة
إلا لمعضلة تستن١٥٧ بالعضل
يا رب مكرمة أصبحت واحدها
أعيت صناديد راموها فلم تنل
تشاغل الناس بالدنيا وزخرفها
وأنت من بَذْلك المعروف في شغل
أقسمت ما ذب عن جدواك طالبها
ولا دفعت اعتزام الجد بالهزل
يأبى لسانك منع الجود سائله
فما يلجلج بين الجود والبخل
صدقت ظني وصدقت الظنون به
وحطَّ جودك عقد الرحل عن جملي

فقال له يزيد: قد أمرنا لك بخمسين ألف درهم فاقبضها واعذر؛ فخرج الحاجب فقال لمسلم: قد أمرني أن أرهن ضيعة من ضياعه على مائة ألف درهم: خمسون ألفًا منها لك وخمسون ألفًا لنفقته، فأعطاه إياها. وكتب صاحب الخبر بذلك إلى الرشيد، فأمر ليزيد بمائتي ألف درهم وقال: اقض الخمسين ألفًا التي أخذها الشاعر وزده مثلها، وخذ مائة ألف لنفقتك، فافتكَّ ضيعته وأعطى مسلمًا خمسين ألفًا أخرى. ولما أنشده «لا يعبق الطيب» البيت. قال لجاريته: حرم علينا مسلم الطيب.

كان دواد بن يزيد بن حاتم المهلبي يجلس للشعراء في السنة مجلسًا واحدًا، فيقصدونه لذلك اليوم وينشدونه، فوجه إليه مسلم راويته بقصيدته التي أولها: «لا تدعُ بي الشوق» فقدم عليه يوم جلوسه للشعراء ولحقه بعقب خروجهم عنه، فتقدم إلى الحاجب وحسر لثامه عن وجهه، ثم قال له: استأذن لي على الأمير؛ قال: ومن أنت؟ قال: شاعر، قال: قد انصرم وقتك وانصرف الشعراء وهو على القيام؛ فقال له: ويحك! إني قد وفدت على الأمير بشعر ما قالت العرب مثله، وكان مع الحاجب أدب يفهم به ما يسمع، فقال: هات حتى أسمع، فإن كان الأمر كما ذكرت أوصلتك إليه؛ فأنشده بعض القصيدة، فسمع شيئًا يقصر عنه الوصف، فدخل على دواد فقال له: قدم على الأمير شاعر بشعر ما قيل فيك مثله؛ فقال: أدخل قائله؛ فلما مثل بين يديه سلم وقال: قدمت على الأمير — أعزه الله — بمدح يسمعه فيعلم تقدمي على غيري ممن امتدحه؛ فقال: هات، فلما افتتح القصيدة وقال: «لا تدع بي الشوق» استوى جالسًا وأطرق حتى أتى الرجل على آخر الشعر، ثم رفع رأسه إليه فقال: أهذا شعرك؟ قال: نعم أيها الأمير؛ قال: في كم قلته يا فتى؟ قال: في أربعة أشهر أبقاك الله؛ قال: لو قلته في ثمانية أشهر لكنت محسنًا، وقد اتهمتك، لجودة شعرك وخمول ذكرك، فإن كنت قائل هذا الشعر فقد أنظرتك أربعة أشهر في مثله، وأمرت بالإجراء عليك، فإن جئتنا بمثل هذا الشعر وهبت لك مائة ألف درهم وإلا حرمتك، فقال: أو الإقالة أعز الله الأمير، قال: قد أقلتك؛ قال: الشعر لمسلم بن الوليد وأنا راويته والوافد عليك بشعره؛ فقال: أنا ابن حاتم، إنك لما افتتحت شعره فقلت: «لا تدع بي الشوق إني غير معمود» سمعت كلام مسلم يناديني، فأجبت نداءه واستويت جالسًا؛ ثم قال: يا غلام، أعطه عشرة آلاف درهم، واحمل الساعة إلى مسلم مائة ألف درهم. وهذه هي القصيدة:

لا تدع بي الشوق إني غير معمود
نهى النهى عن هوى الهيف الرعاديد١٥٨
لو شئت لا شئت راجعت الصبا ومشت
في العيون وفاتتني بمجلود١٥٩
سل ليلة الخيف هل أمضيت آخرها
بالراح تحت نسيم الخرد الغيد
شججتها بلعاب المزن فاغتزلت١٦٠
نسجين من بين محلول ومعقود
كلا الجديدين قد أطعمت حبرته١٦١
لو آل حي إلى عمر وتخليد
أهلا بوافدة للشيب واحدة
وإن تراءت بشخص غير مودود
لا أجمع الحلم والصهباء قد سكنت
نفسي إلى الماء عن ماء العناقيد
لم ينهني فند١٦٢ عنها ولا كبر
لكن صحوت وغصني غير مخضود
أوفى بي الحلم واقتاد النهى طلقا
شأوي وعفت الصبا من غير تفنيد
إذا تجافت بي الهمات عن بلد
نازعت أرضًا ولم أحفل بتمهيد
لا تطبيني١٦٣ المنى عن جهد مطلب
ولا أحول لشيء غير موجود
ومجهل كاطراد السيف محتجز
عن الأدلاء مسجور الصياخيد
تمشي الرياح به حسري مولهة
حيرى تلوذ بأطراف الجلاميد
موقَّف المتن لا تمضي السبيل به
إلا التخلل ريثًا بعد تجهيد
قريته الوخد من خطارة١٦٤ سرح
تفري الفلاة بإرقال وتوخيد
إليك بادرت إسفار الصباح بها
من جنح ليل رحيب الباع ممدود
وبلدة ذات غول لا سبيل بها
إلا الظنون وإلا مسرح السيد
كأن أعلامها والآل يركبها
بدن توافي بها نذر إلى عيد
كلفت أهولها عينًا مؤرقة
إليك لولاك لم تكحل بتسهيد
حتى أتتك بي الآمال مطلعًا
لليسر عندك في سربال محسود
من بعد ما ألقت الأيام لي عرضًا
ملقى رهين١٦٥ لحد السيف مصفود
وساورتني بنات الدهر فامتحنت
ربعي بممحلة١٦٦ شهباء جارود
إلى بني حاتم أدى ركائبنا
خوض الدجى وسرى المهرية القود
تطوي النهار فإن ليل تخمطها١٦٧
باتت تخمط هامات القراديد
مثل السمام١٦٨ بعيدات المقيل إذا
ألقى الهجير يدًا في كل صيخود
حلت بداود فامتاحت وأعجلها
حذو النعال على أين وتحريد١٦٩
أعطي فأفنى المنى أدنى عطيته
وأرهق الوعد نجحًا غير منكود
والله أطفأ نار الحرب إذ سعرت
شرقًا بموقدها في الغرب داود
لم يأت أمرًا ولم يظهر على حدث
إلا أُعين بتوفيق وتسديد
موحد الرأي تنشق الظنون له
عن كل ملتبس منها ومعقود
تمنى الأمور له من نحو أوجهها
وإن سلكن سبيلًا غير مورود
إذا أباحت حمى قوم عقوبته
غادى له العفو قومًا بالمراصيد
كالليث بل مثله الليث الهصور إذا
غنى الحديد غناء غير تغريد
يلقى المنية في أمثال عدتها
كالسيل يقذف جلمودًا بجلمود
إن قصر الرمح لم يمش الخطا عددًا
أو عرد السيف لم يهمم بتعريد
إذا رعى بلدًا دانى مناهله
وإن بنين على شحط وتبعيد
جرى فأدرك لم يعنف بمهلته
واستودع البهر١٧٠ أنفاس المجاويد
آل المهلب قوم لا يزال لهم
رق الصريح١٧١ وأسلاب المذاويد
مظفرون تصيب الحرب أنفسهم
إذا الفرار تمطى بالمحاييد١٧٢
نجل مناجيب لم يعدم تلادهم
فتى يرجى لنقض أو لتوكيد
قوم إذا هدأة١٧٣ شامت سيوفهم
فإنها عقل الكوم المقاحيد
نفسي فداؤك يا دواد إذ علقت
أيدي الردى بنواصي الضمر القود
داويت من دائها كرمان وانتصفت
بك المتون لأقوام مجاهيد
ملأتها فزعًا أخلى معاقلها
من كل أبلخ١٧٤ سامي الطرف صنديد
لما نزلت على أدنى بلادهم
ألقى إليك الأقاصي بالمقاليد
لمستهم بيد للعفو متصل
بها الردى بين تليين وتشديد
أتيتهم من وراء الأمن مطلعًا
بالخيل تردي بأبطال مناجيد
وطار في إثر من طار الفرار به
خوف يعارضه في كل أخدود
فاتوا الردى وظبات الموت تنشدهم
وأنت نصب المنايا غير منشود
ولو تلبث ديان١٧٥ لها رويت
منه ولكن شآها عدو مزءود
أحرزه أجل ما كاد يحرزه
فمر يطوى على أحشاء مفئود١٧٦
ورأس مهران قد ركبت قلته
لدنًا كفاه مكان الليت والجيد
قد كان في معزل حتى بعثت له
أم المنية في أبنائها الصيد
أجن أم أسلمته الفاضحات إلى
حد من السيف من يعلق به يود
ألحقته صاحبيه فاستمر بهم
ضرب يفرق ضبات١٧٧ القماحيد
أعذر١٧٨ من فر من حرب صبرت لها
يوم الحصين شعار غير مجحود
يوم استضبت سجستان١٧٩ طوائفها
عليك من طالب وترا ومحقود
ناهضتهم ذائد الإسلام تقرعهم
عنه ثلاث ومثنى بالمواحيد
تجود بالنفس إذ أنت الضنين بها
والجود بالنفس أقصى غاية الجود
تلك الأزارق إذ ضل الدليل بها
لم يخطها القصد من أسياف داود
كان الحصين يرجى أن يفوز بها
حتى أخذت عليه بالأخاديد
ما زال يعنف بالنعمى ويغمطها
حتى استقل به عود على عود
وضعته حيث ترتاب١٨٠ الرياح به
وتحسد الطير فيه أضبع البيد
تغدو الضواري فترميه بأعينها
تستنشق الجو أنفاسًا بتصعيد
يتبعن أفياءه١٨١ طورًا وموقعه
يلغن في علق منه وتجسيد
فكان فارط قوم حان مكرعهم
بأرض زادان شتى في المواريد
يوم جراشة إذ شيبان موجفة١٨٢
ينجون منك بشلو منه مقدود
زاحفته بابن سفيان فكان له
ثناء يوم بظهر الغيب مشهود
نجا قليلًا ووافى زجر عائفه
بيومه طير منحوس ومسعود
ولى وقد جرعت منه القنا جرعًا
حي المخافة ميتًا غير مودود
زالت حشاشته عن صدر معتدل
دانى الكعوب بعيد الصدر أملود١٨٣
إذا السيوف أصابته تقطع في
سرادق بحوامي الخيل ممدود
يفدي بما نحلته من خلافته
حشاشة الركض من جرداء قيدود١٨٤
حل اللواء وخال الخدر عائذه
فعاذ بالخدر ترب الكاعب الرود
وإن يكن شبها حربًا وقد خمدت
فنائيًا حيث لا هيد ولا هيد١٨٥
كل مثلت به في مثل خطته
قتلًا وأضجعته في غير ملحود
عافوا رضاك فعاقتهم بعقوتهم١٨٦
عن الحياة مناياهم لموعود
وأنت بالسند إذ هاج الصريخ بها
واستنفدت حربها كيد المكاييد
واستغزر القوم كأسًا من دمائهم
وأحدق الموت بالكرار والحيد
رددت أهمالها١٨٧ القصوى مخيسة
وشمت بالبيض عورات المراصيد
كنت المهلب حتى شك عالمهم
ثم انفردت ولم نسبق بتسويد
لم تقبل السلم إلا بعد مقدرة
ولا تألفت إلا بعد تبديد
حتى أجابوك من مستأمن حذر
راج ومنتظر حتفًا ومثمود
أهدي إليك على الشحناء ألفتهم
موت تفرق في شتى عباديد
وفي يديك بقايا من سراتهم
هم لديك على وعد وتوعيد
إن تعف عنهم فأهل العفو أنت وإن
تمض العقاب فأمر غير مردود
اسمع فإنك قد هيجت ملحمة
وفدت منها بأرواح الصناديد
اقذف أبا مالك فيها يكنك بها
ويسع فيها بجد منك مجدود
يمضي بعزمك أو يجري بشأوك أو
يفري بحدك كل غير محدود
لا يعدمنك حمى الإسلام من ملك
أقمت قلته من بعد تأويد
كفيت في الملك حتى لم يقف أحد
على ضياع ولم يحزم لمفقود
أعطيتهم منك نصحًا لا كفاء له
وأيدوك بركن غير مهدود
لم يبعث الدهر يومًا بعد ليلته
إلا انبعثت له بالبأس والجود
أجرى لك الله أيام الحياة على
فعل حميد وجد غير منكود
لا يفقد الدين خيلًا أنت قائدها
يعهدن في كل ثغر غير معهود
محملات إذا آبت غنائمها
ومقدمات على نصر وتأييد
هناك أنك مغدى كل ملتمس
جودًا وأنك مأوى كل مطرود
تستأنف الحمد في دهر أوائله
موسومة بفعال منك محمود
إذا عزمت على أمر بطشت به
وإن أنلت فنيلًا غير تصريد
عودت نفسك عادات خلقت لها
صدق الحديث وإنجاز المواعيد

دخل الوليد على الفضل بن سهل لينشده شعرًا، فقال له: أيها الكهل، إني أجلك عن الشعر فسل حاجتك؛ قال: بل تستتم اليد عندي بأن تسمع، فأنشده:

دموعها من حذار البين تنسكب
وقلبها مغرم من حرها يجب
جد الرحيل به عنها ففارقها
لبينه اللهو واللذات والطرب
يهوى المسير إلى مرو ويحزنه
فراقها فهو ذو نفسين يرتقب
فقال له الفضل: إني لأجلك عن الشعر؛ قال: فأغنني بما أحببت من عملك، فولاه البريد بجرجان.١٨٨

هجا مسلم قريشًا وفخر بالأنصار بشعر يمثل لك ناحية من نواحي العصبية بين القبائل وهو يعتبر، إلى حد ما، من الشعر السياسي، فقال:

قل لمن تاه إذ بنا عز جهلا
ليس بالتيه يفخر الأحرار
فتناهوا وأقصروا فلقد جا
رت عن القصد منكم الأبصار
أيكم حاط ذا جوار بعز
قبل أن تحتويه منا الدار
أو رجا أن يفوت قومًا بوتر
لم تزل تمتطيهم الأوتار
لم يكن ذاك فيكم فدعوا الفخـ
ـر بما لا يسوغ فيه افتخار
ونزارًا ففاخروا تفضلوهم
ودعوا من له عبيد نزار
فبنا عز منكم الذل والدهـ
ـر عليكم بريبه كرار
حاذروا دولة الزمان عليكم
إنه بين أهله أطوار
فتردوا ونحن للحالة الأو
لى وللأوحد الأذل الصغار
فاخرتنا لما بسطنا لها الفخـ
ـر قريش وفخرها مستعار
ذكرت عزها وما كان فيها
قبل أن تستجيرنا مستجار
إنما كان عزها في جبال
ترتقيها كما ترقي الوبار
أيها الفاخرون بالعز والعـ
ـز لقوم سواهم والفخار
أخبرونا من الأعز أألمنـ
ـصور حتى اعتلى أم الأنصار
فلنا العز قبل عز قريش
وقريش تلك الدهور تجار

فانبرى له ابن قنبر يجيبه فقال:

ألا امثل أمير المؤمنين بمسلم
وأقلق به الأحشاء من كل مجرم
ولا ترجعن عن قتله باستتابة
فما هو عن شتم النبي بمجرم
ولا عن مساواة له ولقومه
قريشًا بأصداء لعاد وجرهم
ويفخر بالأنصار جهلًا على الذي
بنصرته فازوا بحظ ومغنم
وسموا به الأنصار لا عز قائل
أراد قريشًا بالمقام المذمم
ومنهم رسول الله أزكى من انتمى
إلى نسب زاك ومجد مقدم
وما كانت الأنصار قبل اعتصامها
بنصر قريش في المحل المعظم
ولا بالألى يعلون أقدار قومهم
صداء وخولان ولخم وسلهم
ولكنهم بالله عاذوا ونصرهم
قريشًا ومن يستعصم الله يعصم
فعزوا وقد كانوا وفطيون فيهم
من الذل من باب من العز مبهم
يسومهم الفطيون ما لا يسامه
كريم ومن لا ينكر الظلم يظلم
وإن قريشًا بالمآثر فضلت
على الخلق طرًّا من فصيح وأعجم
فما بال هذا العلج ضل ضلاله
يمد إليهم كف أجذم أعسم
يسامي قريشًا مسلم وهم هم
بمولى يماني وبيت مهدم
إذا قام فيه غيرهم لم يكن لهم
مقام به من لؤم مبنى ومدعم
جعاسيس١٨٩ أشباه القرود لو انهم
يباعون ما ابتيعوا جميعًا بدرهم
وما مسلم من هؤلاء ولا ألى
ولكنه من نسل علج ملكم
تولى زمانًا غيرهم ثمت ادعى
إليهم فلم يكرم ولما يكرم
فإن يك منهم فالنضير ولفهم
مواليه لا من يدعي بالتزعم
وإن تدعه الأنصار مولى أسمهم
بقافية تستكره الجلد بالدم
عقابًا لهم في إفكهم وادعائهم
لأقلف منقوش الذراع موشم
فلا تدعوه وانتفوا منه تسلموا
بنفيكموه من مقال ومأثم
وإلا فغضوا الطرف وانتظروا الردى
إذا اختلفت فيكم صوارد أسهمي
ولم تجدوا عنها مجنا يجنكم
إذا اطلعت من كل فج ومعلم
وأنتم بنو أذناب من أنتم له
ولستم بأبناء السنام المقدم
ولا ببني الرأس الرفيع محله
فيسمو بكم مولى مسام وينتمي
فكيف رضيتم أن يسامى نبيكم
ببيتكم الرث القصير المهدم
سأحطم من سامى النبي تطاولًا
عليه وأكوي منتماه بميسمي
أيعدل بيت بثربي بكعبة
ثوتها قريش في المكان المحرم
قريش خيار الله والله خصهم
بذلك فاتعس أيها العلج وارغم
ومن تدعي منه الولاء مؤخر
إذا قيل للجاري إلى المجد أقدم

وكان مسلم قال قصيدته في قريش وكتمها، فوقعت إلى ابن قنبر وأجابه عنها، فاستعلى عليه وهتكه وأغرى به السلطان، فلم يكن عند مسلم في هذا جواب أكثر من الانتفاء منها ونسبتها إلى ابن قنبر والادعاء عليه أنه ألصقها به ونسبها إليه ليعرضه للسلطان وخافه، فقال ينتفي من هذه القصيدة:

دعوت أمير المؤمنين ولم تكن
هناك ولكن من يخف يتجشم
وإنك إذ تدعوا الخليفة ناصرًا
لكالمترقي في السماء بسلم
كذاك الصدى تدعوه من حيث لا ترى
وإن تتوهمه تمت في التوهم
هجوت قريشًا عامدًا ونحلتني
رويدك يظهر ما تقول فيعلم
إذا كان مثلي في قبيلي فإنه
على ابن لؤي قصرة غير متهم
سكشفك التعديل عما قذفتني
به فتأخر عارفًا أو تقدم
فإن قريشًا لا يغادر ودها
ولا يستمال عهدها بالترحم
مضى سلف منهم وصلى بعقبهم
لنا سلف في الأول المتقدم
جروا فجرينا سابقين بسبقهم
كما اتبعت كف نواشر معصم
وإن الذي يسعى ليقطع بيننا
كملتمس اليربوع في حجر أرقم
أضلك قرع الآبدات طريقها
فأصبحت من عميائها في تهيم
وخانتك عند الجري لما اتبعتها
تميم فحاولت العلا بالتقحم
فأصبحت ترميني بسهمي وتتقي
يدي بيدي أصليت نارك فاضرم

ثم هجاه ابن قنبر بقصيدة أولها:

قل لعبد النضير مسلم الوغـ
ـد الدني اللئيم سنخ النصاب
اخس يا كلب إذ نبحت فإني
لست ممن يجيب نبح الكلاب
أفأرضى ومنصبي منصب العـ
ـز وبيتي في ذروة الأحساب
أن أحط الرفيع من سمك بيتي
بمهاجاة أوشب الأوشاب
من إذا سيل من أبوه بدا منـ
ـه حياء يحميه رجع الجواب
وإذا قيل حين يقبل من أنـ
ـت ومن تعتزيه في الأنساب
قلت هاجي ابن قنبر فتسربلـ
ـت بذكري فخرًا لدى النساب

وهي قصيدة طويلة فلم يجبه عنها مسلم بشيء فقال فيه ابن قنبر أيضًا:

لست أنفيك إن سواي نفاكا
عن أبيك الذي له منتماكا
ولماذا أنفيك يابن الوليد
من أب إن ذكرته أخزاكا
ولو اني طلبت ألأم منه
لم أجده إن لم تكن أنت ذاكا
لو سواه أبوك كان جعلنا
ه إذا الناس طاوعونا أباكا
حاك دهرًا بغير حذق لبرد
وتحوك الأشعار أنت كذاكا

ثم هجاه بشعر أقذع فيه، فمشى إليه قوم من مشايخ الأنصار واستعانوا بمشيخة من قراء تميم وذوي الفضل والعلم، فمشوا معهم إليه، فقالوا: ألا تستحي من أن تهجو من لا يجيبك! أنت بدأت الرجل فأجابك، ثم عدت فكف، وتجاوزت ذلك إلى ذكر أعراض الأنصار التي كان رسول الله يحميها ويذب عنها ويصونها لغير حال أحلت ذلك منهم. فما زالوا به يعظونه ويقولون له كل قول حتى أمسك عن المناقضة لمسلم فانقطعت.

ولمسلم بن الوليد:

وإني وإسماعيل يوم وداعه
لكالغمد يوم الروع فارقه النصل
أما والحبالات الممرات بيننا
وسائل أدتها المودة والوصل
لما خنت عهدًا من إخاء ولا نأى
بذكرك نأي عن ضميري ولا شغل
وإني في مالي وأهلي كأنني
لنأيك لا مال لدي ولا أهل
يذكرنيك الدين والفضل والحجا
وقيل الخنا والحلم والعلم والجهل
فألفاك عن مذمومها متنزهًا
وألقاك في محمودها ولك الفضل
وأحمد من أخلاقك البخل إنه
بعرضك لا بالمال حاشا لك البخل
أمنتجعًا مروا بأثقال همة
دع الثقل واحمل حاجة ما لها ثقل
ثناء كعرف الطيب يهدى لأهله
وليس له إلا بني خالد أهل
فإن أغش قومًا بعدهم أو أزورهم
فكالوحش يستدنيه للقنص المحل

وله يرثي يزيد بن مزيد:

أحق إنه أودي يزيد
تأمل أيها الناعي المشيد
أتدري من نعيت فكيف فاهت
به شفتاك كان به الصعيد
أحامي المجد والإسلام أودي
فما للأرض ويحك لا تميد
تأمل هل ترى الإسلام مالت
دعائمه وهل شاب الوليد
وهل شميت سيوف بني نزار
وهل وضعت عن الخيل اللبود
وهل تسقي البلاد عشار مزن
بدرتها وهل يخضر عود
أما هدت لمصرعه نزار
بلى وتقوض المجد المشيد
وحل ضريحه إذ حل فيه
طريف المجد والحسب التليد
أما والله ما تنفك عيني
عليك بدمعها أبدًا تجود
فإن تجمد دموع لئيم قوم
فليس لدمع ذي حسب جمود
أبعد يزيد تختزن البواكي
دموعًا أو تصان لها خدود
لتبكك قبة الإسلام لما
وهت أطنابها ووهى العمود
ويبكك شاعر لم يبق دهر
له نشبًا وقد كسد القصيد
فمن يدعو الإمام لكل خطب
ينوب وكل معضلة تئود
ومن يحمي الخميس إذا تعايا
بحيلة نفسه البطل النجيد
فإن تهلك يزيد فكل حي
فريس للمنية أو طريد
ألم تعجب له أن المنايا
فتكن به وهن له جنود
لقد عزى ربيعة أن يومًا
عليها مثل يومك لا يعود

(١٣) العباس بن الأحنف١٩٠

قال إبراهيم بن العباس يصفه: كان والله ممن إذا تكلم لم يحب سامعه أن يسكت، وكان فصيحًا جميلًا ظريف اللسان، لو شئت أن تقول كلامه كله شعر لقلت.

وقال صالح بن عبد الوهاب: كان العباس من عرب خراسان ومنشؤه ببغداد، ولم تزل العلماء تقدمه على كثير من المحدثين، ولا تزال قد ترى له الشيء البارع جدًّا حتى تلحقه بالمحسنين.

وقال الجاحظ: لولا أن العباس بن الأحنف أحذق الناس وأشعرهم، وأوسعهم كلامًا وخاطرًا، ما قدر أن يكثر شعره في مذهب واحد لا يجاوزه، لأنه لا يهجو ولا يمدح ولا يتكسب ولا يتصرف، وما نعلم شاعرًا لزم فنًّا واحدًا لزومه فأحسن فيه وأكثر.

أنشد الحرمازي للعباس بن الأحنف:

لا جزى الله دمع عيني خيرًا
وجزى الله كل خير لساني
نم دمعي فليس يكتم شيئًا
ورأيت اللسان ذا كتمان
كنت مثل الكتاب أخفاه طي
فاستدلوا عليه بالعنوان

ثم قال: هذا والله طراز يطلب الشعراء مثله فلا يقدرون عليه.

وكان أبو الهذيل العلاف يبغضه ويلعنه لقوله:

إذا أردت سلوًّا كان ناصركم
قلبي وما أنا من قلبي بمنتصر
فأكثروا أو أقلوا من إساءتكم
فكل ذلك محمول على القدر

فكان أبو الهذيل يلعنه ويقول: يعقد الكفر والفجور في شعره، فقال العباس — وقال محمد بن يحيى: وأظن أن يهجو به أبا الهذيل وما سمعت للعباس هجاء غيره:

يا من يكذب أخبار الرسول لقد
أخطأت في كل ما تأتي وما تذر
كذبت بالقدر الجاري عليك فقد
أتاك مني بما لا تشتهي القدر

قيل للأصمعي: ما أحسن ما تحفظ للمحدثين؟ قال: قول العباس بن الأحنف:

لو كنت عاتبة لسكن روعتي
أملي رضاك وزرت غير مراقب
لكن مللت فلم تكن لي حيلة
صد الملول خلاف صد العاتب

ومما أنشده له إبراهيم بن العباس:

قالت ظلوم سمية الظلم
مالي رأيتك ناحل الجسم
يا من رمى قلبي فأقصده
أنت العليم بموضع السهم

ولشعره الغزلي، وقع في النفس، فإنهم كانوا يغنون كثيرًا منه كقوله:

لو كنت عاتبة لسكن روعتي
أملي رضاك وزرت غير مراقب
لكن مللت فلم تكن لي حيلة
صد الملول خلاف صد العاتب

وأنشد له الأصمعي:

أتأذنون لصب في زيارتكم
فعندكم شهوات السمع والبصر
لا يضمر السوء إن طال الجلوس به
عف الضمير ولكن فاسق النظر

فقال: ما زال هذا الفتى يدخل يده في جرابه فلا يخرج شيئًا حتى أدخلها فأخرج هذا، ومن أدمن طلب شيء ظفر ببعضه.

وقال سعيد بن جنيد: ما أعرف أحسن من شعر العباس في إخفاء أمره حيث يقول:

أريدك بالسلام فأتقيهم
فأعمد بالسلام إلى سواك
وأكثر فيهم ضحكي ليخفى
فسني ضاحك والقلب باك

ومما تمثل به الواثق في شر كان بينه وبين بعض جواريه:

عدل من الله أباكني وأضحكها
فالحمد لله عدل كل ما صنعا
اليوم أبكي على قلبي وأندبه
قلب ألح عليه الحب فانصدعا

ومما تمثل به أيضًا في مثل ذلك:

أما تحسبيني أرى العاشقين
بلى ثم لست أرى لي نظيرا
لعل الذي بيديه الأمور
سيجعل في الكره خيرًا كثيرا

وقال الزبير: ابن الأحنف أشعر الناس في قوله:

تعتل بالشغل عنا ما تكلمنا
الشغل للقلب ليس الشغل للبدن

ويقول: لا أعلم شيئًا من أمور الدنيا خيرها وشرها إلا وهو يصلح أن يتمثل فيه بهذا النصف الأخير.

وقال إسحاق: لقد ظرف ابن الأحنف في قوله — يصف طول عهده بالنوم:

قفا خبراني أيها الرجلان
عن النوم إن الهجر عنه نهاني
وكيف يكون النوم أم كيف طعمه
صفا النوم لي إن كنتما تصفان

على قلة إعجابه بمثل هذه الأشعار.

قال أحمد بن إبراهيم: رأيت سلمة بن عاصم ومعه شعر العباس بن الأحنف، وقلت مثلك أعزك الله يحمل هذا! فقال: ألا أحمل شعر من يقول:

أسأتُ إذ أحسنتُ ظني بكم
والحزم سوء الظن بالناس
يقلقني الشوق فآتيكم
والقلب مملوء من الياس

وقال أحمد بن إبراهيم: أتاني أعرابي فصيح ظريف، فجعلت أكتب عنه أشياء حسانًا، ثم قال: أنشدني لأصحابكم الحضريين، فأنشدته للعباس بن الأحنف:

ذكرتك بالتفاح لما شممته
وبالراح لما قابلت أوجه الشرب
تذكرت بالتفاح منك سوالفًا
وبالراح طعمًا من مقبلك العذب

فقال: هذا عندك وأنت تكتب عني! لا أنشدك حرفًا بعد هذا.

وقال عبد الله بن العباس بن الفضل: ما أعرف في العراق أحسن من قول ابن الأحنف:

سبحان رب العلا ما كان أغفلني
عما رمتني به الأيام والزمن
من لم يذق فرقة الأحباب ثم يرى
أثارهم بعدهم لم يدر ما الحزن

قال حسين بن الضحاك: لو جاء العباس بقول ما قاله في بيتين في أبيات لعذر، وهو قوله:

لعمرك ما يستريح المحب
حتى يبوح بأسراره
فقد يكتم المرء أسراره
فتظهر في بعض أشعاره

ثم قال: أما قوله في هذا المعنى الذي لم يتقدمه فيه أحد فهو:

الحب أملك للفؤاد بقهره
من أن يرى للستر فيه نصيب
وإذا بدا سر اللبيب فإنه
لم يبد إلا والفتى مغلوب

وقال أبو العتاهية: ما حسدت أحدًا إلا العباس بن الأحنف في قوله:

إذا امتنع القريب فلم تنله
على قرب فذاك هو البعيد

وقال الكندي: العباس بن الأحنف مليح ظريف حكيم جزل في شعره، وكان قليلًا ما يرضيني الشعر، فكان ينشد له كثيرًا:

ألا تعجبون كما أعجب
حبيب يسيء ولا يعتب
وأبغي رضاه على سخطه
فيأبى علي ويستصعب
فيا ليت حظي إذا ما أسأ
ت أنك ترضى ولا تغضب

وكان إبراهيم الموصلي مشغوفًا بشعر العباس فيغني في كثير من شعره، فمما غنى فيه:

وقد ملئت ماء الشباب كأنها
قضيب من الريحان ريان أخضر
هم كتموني سيرهم حين أزمعوا
وقالوا اتعدنا للرواح وبكروا

ومنه:

تمنى رجال ما أحبوا وإنما
تمنيت أن أشكو إليك وتسمعا
أرى كل معشوقين غيري وغيرها
قد استعذبا طول الهوى وتمتعا

ومنه:

بكت عيني لأنواع
من الحزن وأوجاع
وإني كل يوم عنـ
ـدكم يحظى بي الساعي
أعيش الدهر إن عشت
بقلب منك مرتاع
وإن حل بي البعد
سينعاني لك الناعي

وقال الواثق لجلسائه: أريد أن أصنع لحنًا في شعر معناه أن الإنسان كائنًا من كان لا يقدر على الاحتراس من عدوه، فهل تعرفون في هذا شيئًا؟ فأنشدوه ضروبًا من الأشعار، فقال: ما جئتم بشيء مثل قول العباس بن الأحنف:

قلبي إلى ما ضرني داعي
يكثر أسقامي وأوجاعي
كيف احتراسي من عدوي إذا
كان عدوي بين أضلاعي
أسلمني للحب أشياعي
لما سعى بي عندها الساعي
لقلما أبقى على كل ذا
يوشك أن ينعاني الناعي

ومما غنى فيه من شعره:

أبكي الذين أذاقوني مودتهم
حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا

وقال إبراهيم بن العباس: ما رأيت كلامًا محدثًا أجزل في رقة، ولا أصعب في سهولة، ولا أبلغ في إيجاز، من قول العباس بن الأحنف:

تعالي نجدد دارس العهد بيننا
كلانا على طول الجفاء ملوم

وأنشد إبراهيم بن العباس للأحنف:

إن قال لم يفعل وإن سيل لم
يبذل وإن عوتب لم يعتب
صب بعصياني ولو قال لي
لا تشرب البارد لم أشرب
إليك أشكو رب ما حل بي
من صد هذا المذنب المغضب

ثم قال: هذا والله الكلام الحسن المعنى، السهل المورد، القريب المتناول، المليح اللفظ، العذب المستمع.

ومما غنى فيه من شعره:

نام من أهدى لي الأرقا
مستريحًا سامني قلقا
لو يبيت الناس كلهم
بسهادي بيض الحدقا
كان لي قلب أعيش به
فاصطلى بالحب فاحترقا
أنا لم أرزق مودتكم
إنما للعبد ما رزقا

وقال ابن المعتز: لو قيل: ما أحسن شيء تعرفه لقلت: شعر العباس بن الأحنف:

قد سحب الناس أذيال الظنون بنا
وفرق الناس فينا قولهم فرقا
فكاذب قد رمى بالحب غيركم
وصادق ليس يدري أنه صدقا

ومما تمثل به الفضل بن الربيع في أمر كان بينه وبين إحدى جواريه:

تحمل عظيم الذنب ممن تحبه
وإن كنت مظلومًا فقل أنا ظالم
فإنك إلا تغفر الذنب في الهوى
يفارقك من تهوى وأنفك راغم

أنشد مخلد الموصلي قصيدته التي يقول فيها:

كل شيء أقوى عليه ولكن
ليس لي بالفراق منك يدان

فجعل يستحسنه ويردده؛ فقال له عبد الله بن ربيعة الرقي: أنت الفداء لمن ابتدأ هذا المعنى فأحسن فيه حيث يقول — وهو العباس بن الأحنف:

سلبتني من السرور ثيابا
وكستني من الهموم ثيابا
كلما أغلقت من الوصل بابًا
فتحت لي إلى المنية بابا
عذبيني بكل شيء سوى الصد
فما ذقت كالصدود عذابا

قال الرياشي — وقد ذكر عنده العباس بن الأحنف: والله لو لم يقل من الشعر إلا هذين البيتين لكفيا:

أحرم منكم بما أقول وقد
نال به العاشقون من عشقوا
صرت كأني ذبالة نصبت
تضيء للناس وهي تحترق

ألف الرشيد العباس بن الأحنف، فلما خرج إلى خراسان طال مقامه بها، ثم خرج إلى أرمينية والعباس معه، فاشتاق إلى بغداد، فعارضه في طريقه، فأنشده:

قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا
ثم القفور فقد جئنا خراسانا
ما أقدر الله أن يدني على شحط
سكان دجلة من سكان جيحانا
مضى الذي كنت أرجوه وآمله
أما الذي كنت أخشاه فقد كانا
عين الزمان أصابتنا فلا نظرت
وعذبت بصنوف الهجر ألونا

فقال له الرشيد: قد اشتقت يا عباس، وأذنت لك خاصة، وأمر له بثلاثين ألف درهم.

وقال مصعب الزبيري: العباس بن الأحنف وعمر بن أبي ربيعة ما ابتذلا شعرهما في رغبة ولا رهبة، ولكن فيما أحباه، فلزما فنًّا واحدًا لو لزمه غيرهما ممن يكثر إكثارهما لضعف فيه.

(١٤) ابن مُناذِر١٩١

كان ينحو نحو عدي بن زيد في شعره، ويميل إليه ويقدمه، وقد مدح آل برمك وغيرهم. ولما نكبت البرامكة وآلت الوزارة إلى عدوهم الفضل بن الربيع أصبح شعراء البرامكة في خطر، فأراد ابن مناذر أن يتقرب إلى الرشيد طلبًا للرزق، فاغتنم ذهابه إلى الحج وتقدم إليه يوم التروية بقصيدة، فلاح البشر في وجه الرشيد؛ فقال الفضل بن الربيع للرشيد: هذا شاعر البرامكة! فعبس الرشيد؛ فقال الفضل: مره أن ينشدك قوله فيهم: أتانا بنو الأملاك من آل برمك؛ فأمره، فاعتذر، فألح عليه، فأنشده هذه القصيدة التي يطري بها البرامكة:

أتانا بنو الأملاك من آل برمك
فيا طيب أخبار ويا حسن منظر
إذا وردوا بطحاء مكة أشرقت
بيحيى وبالفضل بن يحيى وجعفر
فتظلم بغداد ويجلو لنا الدجى
بمكة ما حجوا ثلاثة أقمر
فما صلحت إلا لجود أكفهم
وأرجلهم إلا لأعواد منبر
إذا راض يحيى الأمر ذلت صعابه
وحسبك من راع له ومدبر
ترى الناس إجلالًا له وكأنهم
غرانيق١٩٢ ماء تحت باز مصرصر١٩٣

ولما فرغ منها أتبع ذلك قوله: «كانوا أولياءك يا أمير المؤمنين لما مدحتهم» فأمر الرشيد أن يلطم، فلطموه، وأمر أن يسحب، فسحبوه، وخرج لا يلوي على شيء؛ فلقيه أبو نواس فدفع إليه صرة فيها ثلثمائة دينار، وقال له: استعن بهذه واعذرني. ولم يعد ابن مناذر يرى خيرًا بعد البرامكة.

قال الحسن بن علي كنا عند باب سفيان بن عيينة وقد هرب منا وعنده الحسن بن علي التختاخ ورجل من أصحاب الرشيد، فخلا بهم وليس يأذن لنا، فجاء ابن مناذر فقرب من الباب ثم رفع صوته فقال:

بعمرو وبالزهري والسلف الألى
بهم ثبتت رجلاك عند المقادم
جعلت طوال الدهر يومًا لصالح
ويومًا لصبَّاح ويومًا لحاتم
وللحسن التختاخ يومًا ودونهم
خصصت حسينًا دون أهل المواسم
نظرت وطال الفكر فيك فلم أجد
رحاك جرت إلا لأخذ الدراهم

فخرج سفيان وفي يده عصا وصاح: خذوا الفاسق؛ فهرب ابن مناذر منه وأذن لنا فدخلنا.

كان الرشيد قد وصل ابن مناذر مرات صلات سنية، فلما مات الرشيد رثاه بقوله:

من كان يبكي للعلا
ملكًا وللهمم الشريفه
فليبك هارون الخليـ
ـفة للخليفة للخليفه

قال علي بن محمد النوفلي: رأيت ابن مناذر في الحج سنة ثمان وتسعين ومائة وهو قد كف بصره تقوده جويرية حرة وهو واقف يشتري ماء قربة، فرأيته وسخ الثوب والبدن، فلما صرنا إلى البصرة أتتنا وفاته في تلك الأيام.

كان يحيى بن زياد يرمى بالزندقة، وكان من أظرف الناس وأنظفهم، فكان يقال: أظرف من الزنديق، وكان الحاركي، واسمه محمد بن زياد، يظهر الزندقة تظارفًا؛ فقال فيه ابن مناذر:

يابن زياد يا أبا جعفر
أظهرت دينًا غير ما تخفي
مزندق الظاهر باللفظ في
باطن إسلام فتى عف
لست بزنديق ولكنما
أردت أن توسم بالظرف

ومن قوله يرثي سفيان بن عيينة:

يجني من الحكمة نوارها
ما تشتهي الأنفس ألوانا
يا واحد الأمة في علمه
لقيت من ذي العرش غفرانا
راحوا بسفيان على نعشه
والعلم مكسوين أكفانا
إن الذي غودر بالمنحنى
هد من الإسلام أركانا
لا يبعدنك الله من ميت
ورثنا علمًا وأحزانا

خطب أبو أمية امرأة من ثقيف فرد عنها، وتصدى للقاضي أن يضمنه مالًا من أموال اليتامى فلم يجبه إلى ذلك ولم يثق به؛ فقال فيه ابن مناذر:

أبا أمية لا تغضب علي فما
جزاء ما كان فيما بيننا الغضب
إن كان ردك قوم عن فتاتهم
ففي كثير من الخطاب قد رغبوا
قالوا عليك ديون ما تقوم بها
في كل عام بها تستحدث الكتب
وقد تقحم من خمسين غايتها
مع أنه ذو عيال بعد ما انشعبوا
وفي التي فعل القاضي فلا تجدن
فليس في تلك لي ذنب ولا ذنب
أردت أموال أيتام تضمنها
وما يضمن إلا من له نشب

قال له جعفر بن يحيى قل في وفي الرشيد شعرًا تصف فيه الألفة بيننا، فقال:

قد تقطع الرحم القريب وتكفر النـ
ـعمى ولا كتقارب القلبين
يدني الهوى هذا ويدني ذا الهوى
فإذا هما نفس ترى نفسين

(١٥) صالح بن عبد القدوس١٩٤

كان متهمًا بالزندقة، فبلغ إلى المهدي خبر زندقته، فبعث إليه يستقدمه من دمشق، وكان قد رحل إليها وهو شيخ طاعن في السن، فلما جاء بغداد ومثل بين يدي المهدي قال له المهدي: ألست القائل:

والشيخ لا يترك أخلاقه
حتى يوارى في ثرى رمسه

قال: بلى يا أمير المؤمنين! قال: وأنت لا تترك أخلاقك حتى تموت؛ فأمر به، فقتل وصلب على جسر بغداد سنة ١٦٧ﻫ. وأكثر شعره في الحكم الفلسفية.

ومن أحاسن أقواله القصيدة التي منها ذلك البيت، وهو يقول فيها:

لا يبلغ الأعداء من جاهل
ما يبلغ الجاهل من نفسه
والشيخ لا يترك أخلاقه
حتى يوارى في ثرى رمسه
إذا ارعوى عاد إلى جهله
كذى الضنا عاد إلى نكسه
وإن من أدبته في الصبا
كالعود يسقى الماء في غرسه
حتى تراه مورقًا ناضرًا
بعد الذي أبصرت من يبسه

وقوله:

لا يعجبنك من يصون ثيابه
حذر الغبار وعرضه مبذول
ولربما افتقر الفتى فرأيته
دنس الثياب وعرضه مغسول

وكان فيه ميل إلى العزلة والانقطاع عن الناس شأن الفلاسفة؛ ومن ذلك قوله:

أنست بوحدتي ولزمت بيتي
فتم العز لي ونما السرور
وأدبني الزمان فليت أني
هجرت فلا أزار ولا أزور
ولست بقائل ما دمت حيًّا
أقام الجند أم نزل الأمير

وهو القائل:

إذا لم تستطع شيئًا فدعه
وجاوزه إلى ما تستطيع

وله قصيدة حكمية أخلاقية بديعة، وهي التي يقول فيها:

المرء يجمع والزمان يفرق
ويظل يرقع والخطوب تمزق
ولأن يعادي عاقلًا خير له
من أن يكون له صديق أحمق
فاربأ بنفسك أن تصادق أحمقًا
إن الصديق على الصديق مصدق
وزن الكلام إذا نطقت فإنما
يبدي عقول ذوي العقول المنطق
ومن الرجال إذا استوت أخلاقهم
من يستشار إذا استشير فيطرق
حتى يحل بكل واد قلبه
فيرى ويعرف ما يقول فينطق
لا ألفينك ثاويًا في غربة
إن الغريب بكل سهم يرشق

وله منها:

ما الناس إلا عاملان فعامل
قد مات من عطش وآخر يغرق
والناس في طلب المعاش وإنما
بالجد يرزق منهم من يرزق
لو يرزقون الناس حسب عقولهم
ألفيت أكثر من ترى يتصدق
لكنه فضل المليك عليهم
هذا عليه موسع ومضيق
وإذا الجنازة والعروس تلاقيا
ورأيت دمع نوائح يترقرق
سكت الذي تبع العروس مبهتًا
ورأيت من تبع الجنازة ينطق
بقي الذين إذا يقولوا يكذبوا
ومضى الذين إذا يقولوا يصدقوا

وله من قصيدته المعروفة بالزينبية:

وابدأ عدوك بالتحية ولتكن
منه زمانك خائفًا تترقب
واحذره إن لاقيته متبسمًا
فالليث يبدو نابه إذ يغضب
إن العدو وإن تقادم عهده
فالحقد باق في الصدور مغيب
وإذا الصديق لقيته متملقًا
فهو العدو وحقه يتجنب
لا خير في ود امرئ متملق
حلو اللسان وقلبه يتلهب
يلقاك يحلف أنه بك واثق
وإذا توارى عنك فهو العقرب
يعطيك من طرف اللسان حلاوة
ويروغ منك كما يروغ الثعلب
وصلِ الكرام وإن رموك بجفوة
فالصفح عنهم والتجاوز أصوب
واختر قرينك واصطفيه تفاخرًا
إن القرين إلى المقارن ينسب
إن الغني من الرجال مكرم
وتراه يرجى ما لديه ويرهب
ويبش بالترحيب عند قدومه
ويقام عند سلامه ويقرب
والفقر شين للرجال فإنه
حقًّا يهون به الشريف الأنسب
واخفض جناحك للأقارب كلهم
بتذلل واسمح لهم إن أذنبوا
ودع الكذوب فلا يكن لك صاحبًا
إن الكذوب يشين حرًّا يصحب
وزن الكلام إذا نطقت ولا تكن
ثرثارة في كل ناد تخطب
واحفظ لسانك واحترز من لفظه
فالمرء يسلم باللسان ويعطب
والسر فاكتمه ولا تنطق به
إن الزجاجة كسرها لا يشعب
وكذاك سر المرء إن لم يطوه
نشرته ألسنة تزيد وتكذب
لا تحرصن فالحرص ليس بزائد
في الرزق بل يشقي الحريص ويتعب
وارع الأمانة والخيانة فاجتنب
واعدل ولا تظلم يطب لك مكسب
وإذا أصابك نكبة فاصبر لها
من ذا رأيت مسلمًا لا ينكب
وإذا رميت من الزمان بريبة
أو نالك الأمر الأشق الأصعب
فاضرع لربك إنه أدنى لمن
يدعوه من حبل الوريد وأقرب
واحذر مصاحبة اللئيم فإنه
يعدي كما يعدي الصحيح الأجرب
واحذر من المظلوم سهمًا صائبًا
واعلم بأن دعاءه لا يحجب
ولقد نصحتك إن قبلت نصيحتي
والنصح أغلى ما يباع ويوهب

(١٦) سعيد بن وهب١٩٥

كان شاعرًا مطبوعًا ومات في أيام المأمون، وأكثر شعره في الغزل والتشبيب بالمذكر، وكان مشغوفًا بالغلمان والشراب، ثم تنسك وتاب وحج راجلًا على قدميه ومات على توبة وإقلاع ومذهب جميل، ومات وأبو العتاهية حي وكان صديقه فرثاه.

أخبر علي بن سليمان الأخفش عن محمد بن مزيد قال: حدثت عن بعض أصحاب أبي العتاهية قال: جاء رجل إلى أبي العتاهية ونحن عنده، فساره في شيء، فبكى أبو العتاهية، فقلنا له: ما قال لك هذا الرجل يا أبا إسحاق فأبكاك؟ فقال — وهو يحدثنا لا يريد أن يقول شعرًا:

قال لي مات سعيد بن وهب
رحم الله سعيد بن وهب
يا أبا عثمان أبكيت عيني
يا أبا عثمان أوجعت قلبي

قال: فعجبنا من طبعه، وإنه يحدث فكان حديثه شعرًا موزونًا.

وكان سعيد بن وهب الشاعر البصري مولى بني سامة قد تاب وتزهد وترك قول الشعر، وكان له عشرة من البنين وعشر من البنات، فكان إذا وجد شيئًا من شعره خرقه وأحرقه، وكان امرأ صدق، كثير الصلاة، يزكي في كل سنة عن جميع ما عنده، حتى إنه ليزكي عن فضة كانت على امرأته.

وكان سعيد بن وهب يتعشق غلامًا يتشطر يقال له سعيد، فبلغه أنه توعده أن يجرحه، فقال فيه:

من عذيري من سمى
من عذيري من سعيد
أنا باللحم أجاه
ويجاني١٩٦ بالحديد

ونظر سعيد بن وهب إلى قوم من كتاب السلطان في أحوال جميلة، فأنشأ يقول:

من كان في الدنيا له شارة
فنحن من نظارة الدنيا
نرمقها من كثب حسرة
كأننا لفظ بلا معنى
يعلو بها الناس وأيامنا
تذهب في الأرذل والأدنى

وحدث حماد بن إسحاق عن أبيه قال: كان سعيد بن وهب لي صديقًا، وكان له ابن يكنى أبا الخطاب من أكيس الصبيان، وأحسنهم وجهًا وأدبًا، فكان لا يكاد يفارقه في كل حال، لشدة شغفه به ورقته عليه، فمات وله عشر سنين، فجزع عليه جزعًا شديدًا وانقطع عن لذاته، فدخلت إليه يومًا لأعاتبه على ذلك وأستعطفه، فحين رأى ذلك في وجهي فاضت دموعه، ثم انتحب حتى رحمته، وأنشدني:

عين جودي على أبي الخطاب
إذ تولى غضًا بماء الشباب
لم يقارب ذنبًا ولم يبلغ الحنـ
ـث مزجى مطهر الأثواب
فقدته عيني إذا ما سعى أتـ
ـرابه من جماعة الأتراب
إن غدا موحشًا لداري فقد أصـ
ـبح أنس الثرى وزين التراب
أحمد الله يا حبيبي فإني
بك راج منه عظيم الثواب

ثم ناشدني ألا أذاكره بشيء مما جئت إليه، فقمت ولم أخاطبه بحرف.

دخل سعيد بن وهب على الفضل بن يحيى في يوم قد جلس فيه للشعراء، فجعلوا ينشدونه ويأمر لهم بالجوائز حتى لم يبق منهم أحد، فالتفت إلى سعيد بن وهب كالمستنطق؛ فقال له: أيها الوزير، إني ما كنت استعددت لهذه الحال، ولا تقدمت لها عندي مقدمة فأعرفها، ولكن قد حضرني بيتان أرجو أن ينوبا عن قصيدة؛ فقال: هاتهما، فرب قليل أبلغ من الكثير؛ فقال سعيد:

مدح الفضل نفسه بالمعالي
فعلا عن مديحنا بالمقال
أمروني بمدحه قلت كلا
كبر الفضل عن مديح الرجال

قال: فطرب الفضل وقال له: أحسنت والله وأجدت، ولئن قل القول ونزر، لقد اتسع المعنى وكثر، ثم أمر له بمثل ما أعطاه كل من أنشده مديحًا يومئذ، وقال: لا خير فيما يجيء بعد بيتيك، وقام من المجلس، وخرج الناس يومئذ بالبيتين لا يتناشدون سواهما.

وحدث الخريمي قال: كان الفضل بن يحيى ينافس أخاه جعفرًا وينافسه جعفر، وكان أنس بن أبي شيخ خاصًّا بجعفر، ينادمه ويأنس به في خلواته، وكان سعيد بن وهب بهذه المنزلة للفضل، فدخلت يومًا إلى جعفر ودخل إليه سعيد بن وهب فحدثه وأنشده وتنادر له، وحكى عن المتنادرين وأتى بكل ما يسر ويطرب ويضحك، وجعفر ينظر إليه لا يزيد على ذلك، فلما خرج سعيد من عنده تجاهلت عليه وقلت له: من هذا الرجل الكثير الهذيان؟ قال: أو ما تعرفه؟ قلت: لا؛ قال: هذا سعيد بن وهب صديق أخي أبي العباس وخلصانه وعشيقه؛ قلت: وأي شيء رأى فيه؟ قال: لا شيء والله إلا القذر والبرد والغثاثة، ثم دخلت بعد ذلك إلى الفضل، ودخل أنس بن أبي شيخ فحدث وندر وحكى عن المضحكين وأتى بكل طريفة، فكانت قصة الفضل معه قصة جعفر مع سعيد، فقلت له بعد أن خرج من حضرته: من هذا المبرم؟ قال: أو لا تعرفه؟ قلت: لا؛ قال: هذا أنس بن أبي شيخ صديق أخي الفضل وعشيقه وخاصته، قلت: وأي شيء أعجبه فيه؟ قال: لا أدري والله إلا القذر والبرد وسوء الاختيار؛ قال: وأنا والله أعرف بسعيد وأنس من الناس جميعًا، ولكني تجاهلت عليهما وساعدتهما على هواهما.

وحدث عمرو بن بانة قال: كان في جواري رجل من البرامكة، وكانت له جارية شاعرة ظريفة يقال لها حسناء، يدخل إليها الشعراء ويسألونها عن المعاني، فتأتي بكل مستحسن من الجواب؛ فدخل إليها سعيد بن وهب يومًا وجلس إليها فحادثها طويلًا ثم قال لها بعد ذلك:

حاجيتك يا حسنا
ء في جنس من الشعر
وفيما طوله شبر
وقد يوفى على الشبر
له في رأسه شق
نطوف بالندى يجري
إذا ما جف لم يجر
لدى بر ولا بحر
وإن بل أتى بالعـ
ـجب العاجب والسحر
أجيبي لم أرد فحشًا
ورب الشفع والوتر
ولكن صغت أبياتًا
لها حظ من الزجر

قال: فغضب مولاها وتغير لونه وقال: أتفحش على جاريتي تخاطبها بالخنى؟ فقالت له: خفض عليك، فما ذهب إلى ما ظننت وإنما يعني القلم؛ فسرى عنه، وضحك سعيد وقال: هي أعلم منك بما سمعت.

(١٧) الحسن بن وهب١٩٧

حدث ميمون بن هارون: قال: كنا عند الحسن بن وهب فقال لبنان: غنيني:

أتأذنون لصب في زيارتكم
فعندكم شهوات السمع والبصر
لا يضمر السوء إن طال الجلوس به
عف الضمير ولكن فاسق النظر

قال فضحكت، ثم قال: فأي خير فيه إن كان كذا أو أي معنى؟ فخجل الحسن من بادرتها عليه، وعجبنا من حدة جوابها وفطنتها.

وحدث محمد بن عيسى قال: جاء عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع إلى الحسن ابن وهب، وعنده بنان جارية محمد بن حماد، وهي نائمة سكرى وهو يبكي عندها، فقال له: ما لك؟ قال: قد كنت نائمًا فجاءتني فأنبهتني وقالت: اجلس حتى تشرب فجلست، فوالله ما غنت عشرة أصوات حتى نامت، وما شربت إلا قليلًا، فتذكرت قول أشعر الناس وأظرفهم العباس بن الأحنف:

أبكي الذين أذاقوني مودتهم
حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا

فأنا أبكي وأنشد هذا البيت.

وحدث محمد بن موسى بن حماد قال: دعا الحسن بن وهب إبراهيم بن العباس فقال له: اركب وأجيئك عشيًا فلا تنتظرني بالغداة، فأبطأ عليه، وأسرع الحسن في شربه فسكر ونام، وجاء إبراهيم فرآه على تلك الحال، فدعا بدواة وكتب:

رحنا إليك وقد راحت بك الراح
وأسرعت فيك أوتار وأفراح

وحدث أيضًا محمد بن موسى قال: نظر إبراهيم بن العباس الحسن بن وهب وهو مخمور فقال له:

عيناك قد حكتا مبيـ
ـتك كيف كنت وكيف كانا
ولرب عين قد أرتـ
ـك مبيت صاحبها عيانا

فأجابه الحسن بن وهب بعشرين بيتًا وطالبه بمثلها، فكتب إليه أربعة أبيات وطالبه بأربعين بيتًا. وأبيات إبراهيم:

أأبا علي خير قولك ما
حصلت أنجعه ومختصره
ما عندنا في البيع من غبن
للمستقل بواحد عشره
أنا أهل ذلك غير محتشم
أرضى القديم وأقتفي أثره
ها نحن وفيناك أربعة
والأربعون لديك منتظره

وقال عبيد الله بن سليمان: لعمري ما في الكتاب أشعر من أبي إسحاق وأبي علي (يعني عمه الحسن بن وهب).

حدث علي بن يحيى قال: قلت لإسحاق بن إبراهيم الموصلي، وقد جرى ذكر أحمد بن يحيى المكي: يا أبا محمد، لو كان أبو جعفر أحمد بن يحيى المكي مملوكًا كم كان يساوي؟ فقال: أخبرك عن ذلك، انصرفت ليلة من دار الواثق، فاجتزت بدار الحسن بن وهب فدخلت إليه، فإذا أحمد عنده، فلما قام لصلاة العشاء الآخرة قال لي الحسن بن وهب: وكم يساوي أحمد لو كان مملوكًا؟ قلت: يساوي عشرين ألف دينار. قال: ثم رجع فغنى صوتًا، فقال لي الحسن بن وهب: يا أبا محمد، أضعفها. قال: ثم تغنى صوتًا آخر، فقلت للحسن: يا أبا علي أضعفها، ثم أردت الانصراف فقلت لأحمد غنني:

لولا الحياء وأن السير من خلقي
إذن قعدت إليك الدهر لم أقم
أليس عندك سكر للتي جعلت
ما ابيض من قادمات الرأس كالحمم

فغناه أحمد بن يحيى المكي فأحسن فيه كل الإحسان، فلما قمت للانصراف قلت للحسن: يا أبا علي، أضعف الجميع، فقال له أحمد: ما هذا الذي أسمعكما تقولانه ولست أدري ما معناه؟ قال نحن نبيعك ونشتريك منذ الليلة وأنت لا تدري.

وحدث محمد بن موسى قال: كان أبو تمام يعش غلامًا خزريًّا للحسن بن وهب، وكان الحسن يتعشق غلامًا روميًّا لأبي تمام، فرآه أبو تمام يومًا يعبث بغلامه، فقال له: والله لئن أعنقت١٩٨ إلى الروم لنركضن إلى الخزر؛ فقال له الحسن: لو شئت حكمتنا واحتكمت؛ فقال له أبو تمام: أنا أشبهك بداود عليه السلام وأشبه نفسي بخصمه؛ فقال الحسن: لو كان هذا منظومًا خفناه، فأما وهو منثور فلا، لأنه عارض لا حقيقة له؛ فقال أبو تمام:
أبا علي بصرف الدهر والغير
وبالحوادث والأيام فاعتبر١٩٩
أذكرتني أمر داود وكنت فتى
مصرف القلب في الأهواء والفكر
أعندك الشمس لم يحظ المغيب بها
وأنت مضطرب الأحشاء للقمر
إن أنت لم تترك السير الحثيث إلى
جآذر الروم أعنقنا إلى الخزر
إن القطوب له منى محل هوى
يحل مني محل السمع والبصر
ورب أمنع منه جانبصا وحمى
أمسى وتكته مني على خطر
جردت فيه جنود العزم فانكشفت
عنه غيابته عن فجرة هدر
سبحان من سبحته كل جارحة
ما فيك من طمحان العين بالنظر
أنت المقيم فما تغدو رواحله
وفعله أبدًا منه على سفر

وحدث وهب بن سعيد قال: جاء دعبل إلى الحسن بن وهب في حاجة بعد موت أبي تمام، فقال له رجل في المجلس: يا أبا علي، أنت الذي تطعن على من يقول:

شهدت لقد أقوت مغانيكم بعدي
ومحت كما محت وشائع من برد
وأنجدتم من بعد إتهام داركم
فيا دمع أنجدني على ساكني نجد

فصاح دعبل: أحسن والله! وجعل يردد:

فيا دمع أنجدني على ساكني نجد

ثم قال: رحمه الله، لو كان ترك لي شيئًا من شعره لقلت: إنه أشعر الناس.

وحدث أحمد بن عبيد الله بن ناصح قال: قلت لدعبل وقد عرض علي قصيدة له يمدح بها الحسن بن وهب أولها:

أعاذلتي ليس الهوى من هوانيا

فقلت له: ويحك أتقول فيه هذا بعد قولك:

أين محل الحي يا حادي
خبِّر سقاك الرائح الغادي

وبعد قولك:

قالت سلامة أين المال قلت لها
المال ويحك لاقى الحمد فاصطحبا

وبعد قولك:

فعلى أيماننا يجري الندى
وعلى أسيافنا تجري المهج

والله إني أراك لو أنشدته إياها لأمر لك بصفع؛ فقال: صدقت والله، ولقد نبهتني وحذرتني، ثم مزقها.

وحدث محمد بن موسى قال: أنشدني الحسن بن وهب لمحمد بن عبد الملك أبياتًا يرثي بها سكرانة أم ابنه عمر، وجعل الحسن يتعجب من جودتها ويقول:

يقول لي الخلان لو زرت قبرها
فقلت وهل غير الفؤاد لها قبر
على حين لم أحدث فأجهل قدرها
ولم أبلغ السن التي معها الصبر

وحدث محمد بن يزيد قال: دامت الأمطار ﺑ «سر من رأى»، فتأخر الحسن بن وهب عن محمد بن عبد الملك الزيات، وهو يومئذ وزير والحسن يكتب له، فاستبطأه محمد، فكتب إليه الحسن يقول:

أوجب العذر في تراخي اللقاء
ما توالى من هذه الأنواء
لست أدري ماذا أقول وأشكو
من سماء تعوقني عن سماء
غير أني أدعو على تلك بالثكـ
ـل وأدعو لهذه بالبقاء
فسلام الإله أهديه غضًا
لك مني يا سيد الوزراء

وحدث محمد بن موسى قال: اعتلَّ الحسن بن وهب فتأخر عن محمد بن عبد الملك أيامًا كثيرة، فلم يأته رسوله، ولا تعرف خبره، فكتب إليه الحسن قوله:

أيهذا الوزير أيدك اللـ
ـه وأبقاك لي بقاء طويلا
أجميلًا تراه يا أكرم النا
س لكيما أراه أيضًا جميلا
إنني قد أقمت عشرًا عليلًا
ما ترى مرسلًا إلي رسولا
إن يكن موجب التعمد في الصـ
ـحة منًا علي منك طويلا
فهو أولى يا سيد الناس برًا
وافتقادًا لمن يكون عليلا
فلماذا تركتني عرضة الظن
من الحاسدين جيلًا فجيلا
ألذنب؟ فما علمت سوى الشكـ
ـر قرينًا لنيتي ودخيلا
أم ملال؟ فما علمتك للصا
حب مثلي على الزمان ملولا
قد أتى الله بالشفاء فما أعـ
ـرف مما أنكرت إلا قليلا
وأكلت الدراج وهو غذاء
أفلت علتي عليه أفولا
بعد ما كنت قد حملت من العلـ
ـلة عبئًا على الطباع ثقيلا
ولعلي قدمت قبلك آتيـ
ـك غدًا إن وجدت فيه سبيلا

فأجابه محمد بن عبد الملك:

دفع الله عنك نائبة الدهـ
ـر وحاشاك أن تكون عليلا
أشهد الله ما علمت وما ذا
ك من العذر جائزًا مقبولا
ولعمري أن لو علمت فلازمـ
ـتك حولًا لكان عندي قليلا
إنني أرتجي وإن لم يكن ما
كان مما نقمت إلا جليلا
أن أكون الذي إذا أضمر الإخـ
ـلاص لم يلتمس عليه كفيلا
ثم لا يبذل المودة حتى
يجعل الجهد دونها مبذولا
فإذا قال كان ما قال إذ كا
ن بعيدًا من طبعه أن يقولا
فاجعلن لي إلى التعلق بالعذ
ر سبيلا إن لم أجد لي سبيلا
فقديمًا ما جاد بالصفح والعفـ
ـو وما سامح الخليل الخليلا

وكتب محمد بن عبد الملك إلى الحسن بن وهب وقد تأخر عنه:

قالوا جفاك فلا عهد ولا خبر
ماذا تراه دهاه قلت أيلول
شهر تجذ حبال الوصل فيه فما
عقد من الوصل إلا وهو محلول

وكان محمد قد ندبه لأن يخرج في أمر مهم فأجابه الحسن فقال:

إني بحول امرئ أعليت رتبته
فحظه منك تعظيم وتبجيل
وأنت عدته في نيل همته
وأنت في كل ما يهواه مأمول
ما غالني عنك أيلول بلذته
وطيبه ولنعم الشهر أيلول
الليل لا قصر فيه ولا طول
والجو صاف وظهر الكأس مرحول
والعود مستنطق عن كل معجبة
يضحى بها كل قلب وهو متبول
لكن توقع وشك البين عن بلد
تحله فوكاء العين محلول
ما لي إذا شمرت بي عنك مبتكرًا
دهم البغال أو الهوج المراسيل
إلا رعاياتك اللاتي يعود بها
حد الحوادث عني وهو مفلول
وكان الحسن بن وهب يساير محمدًا على مسناة،٢٠٠ فعدل عن المسناة لئلا يضيق لمحمد الطريق، فظن محمد أنه أشفق على نفسه من المسناة، فعدل عنها ولم يساعده على طريقه، وظن بنفسه أن يصيبها ما يصيبه، فقال له محمد:
قد رأيناك إذ تركت المسنا
ة وحاذيتني يسار الطريق
ولعمري ما ذاك منك وقد جد
بك الجد من فعال الشفيق

فقال له الحسن:

إن يكن خوفي الحتوف أراني
أن تراني مشبهًا بالعقوق
فلقد جارت الظنون على المشـ
ـفق والظن مولع بالشفيق
عذر السيد الأجل وقد سا
ر على الخوف من يمين الطريق
فأخذت الشمال بقيا على السيـ
ـد إذ هالني سلوك المضيق
إن عندي مودة لك حازت
ما حوى عاشق من المعشوق
طود عز خصصت منه ببر
صار قدري به مع العيوق
وبنفسي وإخوتي وأبي البر
وعمي وأسرتي وصديقي
من إذا ما روعت أمن روعي
وإذا ما شرقت سوغ ريقي

وحدث المبرد قال: استسقى الحسن بن وهب من محمد بن عبد الملك نبيذًا ببلد الروم وهو مع المعتصم، فسقاه وكتب إليه:

لم تلق مثلي صاحبًا
أندى يدًا وأعم جودا
يسقى النديم بقفرة
لم يسق فيها الماء عودا
صفراء صافية كأن
بكأسها درًّا نضيدا
وأجود حين أجود لا
حصرًا بذاك ولا بليدا
وإذا استقل بشكرها
أوجبت بالشكر المزيدا
خذها إليك كأنما
كسيت زجاجتها عقودا
واجعل عليك بأن تقو
م بشكرها أبدًا عهودا

ومن جيد شعره قوله:

بأبي كرهت النار لما أوقدت
فعرفت ما معناك في إبعادها
هي ضرة لك بالتماع ضيائها
وبحسن صورتها لدى إيقادها
وأرى صنيعك بالقلوب صنيعها
بسيالها وأراكها وعرادها
شركتك في كل الأمور بحسنها
وضيائها وصلاحها وفسادها

ومات الحسن بن وهب فرثاه أخوه سليمان بن وهب:

مضى مذ مضى عز المعالي وأصبحت
لالي الحجا والقول ليس لها نظمُ
وأضحى نجى الفكر بعد فراقه
إذا هم بالإفصاح منطقه كظم
وكتب الحسن بن وهب يشكر:

من شكرك على درجة رفعته إليها، أو ثروة أقدرته عليها، فإن شكري لك على مهجة أحييتها، وحشاشة أبقيتها، ورمق أمسكت به، وقمت بين التلف وبينه؛ فلكل نعمة من نعم الدنيا حد تنتهي إليه، ومدى يوقف عنده، وغاية من الشكر يسمو إليها الطرف، خلا هذه النعمة التي فاقت الوصف، وأطالت الشكر وتجاوزت قدره، وأتت من وراء كل غاية؛ رددت عنا كيد العدو وأرغمت أنف الحسود، فنحن نلجأ منك إلى ظل ظليل، وكنف كريم، فكيف يشكر الشاكر، وأين يبلغ جهده المجتهد.

(١٨) أشجع السلمي٢٠١

كان متصلًا بالبرامكة وله فيهم أشعار كثيرة، منها قوله في يحيى بن خالد وكان قد غاب:

قد غاب يحيى فما أرى أحدًا
يأنس إلا بذكره الحسن
أوحشت الأرض حين فارقها
من الأيادي العظام والمنن
لولا رجاء الإياب لانصدعت
قلوبنا بعده من الحزن

وقال أيضًا:

رأيت بغاة الخير في كل وجهة
لغيبة يحيى مستكينين خضعا
فإن يمس من في الرقتين مؤملا
لأوبة يحيى نحوها متطلعا
فما وجه يحيى وحده غاب عنهم
ولكن يحيى غاب بالخير أجمعا

وقال فيه أيضًا:

إذا غاب يحيى عن بلاد تغيرت
وتشرق إن يحتلها فتطيب
وإن فعال الخير في كل بلدة
إذا لم يكن يحيى بها لغريب

وقال فيه حين اعتل:

لقد قرعت شكاة أبي علي
قلوب معاشر كانت صحاحا
فإن يدفع لنا الرحمن عنه
صروف الدهر والأجل المتاحا
فقد أمسى صلاح أبي علي
لأهل الأرض كلهم صلاحا
إذا ما الموت أخطأه فلسنا
نبالي الموت حيث غدا وراحا

وهو القائل:

ليس للحاجات إلا
من له وجه وقاح
ولسان طرمذار٢٠٢
وغدو ورواح
إن أكن أبطأ الحا
جة عني فاللحاح
فعلي الجهد فيها
وعلى الله النجاح

ويستجاد له في مدح الرشيد:

وصلت يداك السيف يوم تقطعت
أيدي الرجال وزلت الأقدام
وعلى عدوك يابن عم محمد
رصدان ضوء الصبح والإظلام
فإذا تنبه رعته وإذا غفا
سلت عليه سيوفك الأحلام

ويستجاد له أيضًا قوله:

غدًا يتفرق أهل الهوى
ويكثر باك ومسترجع
وتختلف الأرض بالظاعنين
وجوهًا تشد٢٠٣ ولا تجمع
وتفنى الطلول ويبقى الهوى
ويصنع ذو الشوق ما يصنع
وأنت تبكي وهم جيرة
فكيف يكون إذا ودعوا
أتطمع في العيش بعد الفراق
فبئس لعمرك ما تطمع

وفيها يقول في جعفر بن يحيى:

بديهته مثل تدبيره
متى هجته فهو مستجمع
إذا هم بالأملا لم يثنه
هجوع ولا شادن أفرع
ففي كفه للغنى مطلب
وللسر في صدره موضع
وكم قائل إذ رأى بهجتي
وما في فضول الغنى أصنع
غدا في ظلال ندى جعفر
يجر ثياب الغنى أشجع
وما خلفه لامرئ مطمع
ولا دونه لامرئ مقنع

وهو القائل في محمد بن منصور بن زياد يرثيه:

أنعى فتى الجود إلى الجود
ما مثل من أنعى بموجود
أنعى فتى أصبح معروفه
منتشرًا في البيض والسود
أنعى فتى مص الثرى بعده
بقية الماء من العود
قد ثلم الدهر به ثلمة
جانبها ليس بمسدود
أنعى فتى كان ومعروفه
يملأ ما بين ذرى البيد
فأصبحا بعد تساميهما
قد جمعا في بطن ملحود
ألآن نخشى عثرات الندى
وعدوة البخل على الجود

ويستجاد له قوله في إبراهيم بن عثمان بن نهيك وكان صاحب شرط الرشيد وكان جبارًا عبوسًا:

في سيف إبراهيم خوف واقع
بذوي النفاق وفيه أمن المسلم
ويبيت يكلأ والعيون هواجع
مال المضيع ومهجة المستسلم
جعل الخطام بأنف كل مخالف
حتى استقام له الذي لم يخطم
لا يصلح السلطان إلا شدة
تغشى البرى بفضل ذنب المجرم
ومن الولاة مقحم لا يتقي
والسيف تقطر شفرتاه من الدم
منعت مهابتك النفوس حديثها
بالأمر تكرهه وإن لم تعلم

وقال لأخيه:

أبت غفلات قلبك أن تروحا
وكأس لا تزايلها صبوحا
كأنك لا ترى حسنًا جميلًا
بعينك يا أخي إلا قبيحا

ويستجاد له قوله في الرشيد:

لا زلت تنشر أعيادًا وتطويها
تمضي بها لك أيام وتثنيها
مستقبلًا جدة الدنيا وبهجتها
أيامها لك نظم في لياليها
العيد والعيد والأيام بينهما
موصولة لك لا تفنى وتفنيها
وليهنك النصر والأيام مقبلة
إليك بالفتح معقودًا نواصيها

ويستجاد له قوله يمدح إسماعيل بن صبيح:

له نظر لا يغمض الأمر دونه
تكاد ستور الغيب عنه تمزق

وهو القائل:

وما ترك المداح فيك مقالة
ولا قال إلا دون ما فيك قائل

وقال أيضًا:

مضى ابن سعيد حين لم يبق مشرق
ولا مغرب إلا له فيه مادح
وما كنت أدري ما فواضل كفه
على الناس حتى غيبته الصفائح٢٠٤
فأصبح في لحد من الأرض ميتًا
وكانت به حيًّا تضيق الصحاصح٢٠٥
سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض
فحسبك مني ما تجن الجوانح٢٠٦
فما أنا من رزء وإن جل جازع
ولا بسرور بعد موتك فارح
كأن لم يمت حي سواك ولم يقم
على أحد إلا عليك النوائح
لئن حسنت فيك المراثي وذكرها
لقد حسنت من قبل فيك المدائح

(١٩) علي بن الجهم

كان علي بن الجهم٢٠٧ قد هجا بختيشوع، فسبه عند المتوكل فحبسه المتوكل. فقال علي بن الجهم في حبسه عدة قصائد كتب بها إلى المتوكل، فأطلقه بعد سنة ثم نفاه بعد ذلك إلى خراسان. فقال أول ما حبس قصيدة كتب بها إلى أخيه، أولها قوله:
توكلنا على رب السماء
وسلمنا لأسباب القضاء
ووطنا على غير الليالي
نفوسًا سامحت بعد الإباء
وأفنية الملوك محجبات
وباب الله مبذول الفناء
هي الأيام تكلمنا وتأسو
وتأتي بالسعادة والشقاء
وما يجدي الثراء على غني
إذا ما كان محظور العطاء
حلبنا الدهر أشطره ومرت
بنا عقب الشدائد والرخاء
وجربنا وجرب أولونا
فلا شيء أعز من الوفاء
ولم ندع الحياء لمس ضر
وبعض الضر يذهب بالحياء
ولم نحزن على دنيا تولت
ولم نسبق إلى حسن العزاء
توق الناس يابن أبي وأمي
فهم تبع المهافة والرجاء
ولا يغررك مِن وَغْدٍ إخاء
لأمر ما غدا حسن الإخاء
ألم تر مظهرين علي عتبًا
وهم بالأمس إخوان الصفاء
فلما أن بليت غدوا وراحوا
علي أشد أسباب البلاء
أبت أخطارهم أن ينصروني
بمال أو بجاه أو ثراء
وخافوا أن يقال لهم خذلتم
صديقًا فادعوا قدم الجفاء
تظافرت الروافض والنصارى
وأهل الإعتزال على هجائي
وعابوني وما ذنبي إليهم
سوى علمي بأولاد الزناء
فبختيشوع يشهد لابن عمرو
وعزون لهارون المرائي
وما الجذماء بنت أبي سمير
بجذماء اللسان على الخناء
إذا ما عد مثلكم رجالًا
فما فضل الرجال على النساء
عليكم لعنة الله ابتداء
وعودًا في الصباح وفي المساء
إذا سميتم للناس قالوا
أولئك شر من تحت السماء
أنا المتوكلي هوى ورأيًا
وما بالواثقية من خفاء
وما حبس الخليفة لي بعار
وليس بمؤيسي منه التنائي

كان سبب حبس المتوكل علي بن الجهم أن جماعة من الجلساء سعوا به إليه وقالوا له: إنه يخمش الخدم ويغمزهم، وإنه كثير الطعن عليك والعيب لك والإزراء على أخلاقك، ولم يزالوا به يوغرون صدره عليه حتى حبسه، ثم أبلغوه عنه أنه هجاه، فنفاه إلى خراسان وكتب بأن يصلب إذا وردها يومًا إلى الليل، فلما وصل إلى الشاذياخ حبسه طاهر بن عبد الله بن طاهر بها، ثم أخرج فصلب يومًا إلى الليل مجردًا ثم أنزل، فقال في ذلك:

لم ينصبوا بالشاذياخ عشية
الإثنين مسبوقًا ولا مجهولا
نصبوا بحمد الله ملء قلوبهم
شرفًا وملء صدروهم تبجيلا
ما ازداد إلا رفعة بنكوله
وازدادت الأعداء عنه نكولا
هل كان إلا الليث فارق غيله
فرأيته في محمل محمولا
لا يأمن الأعداء من شداته
شدًّا يفصل هامهم تفصيلا
ما عابه أن بُز عنه لباسه
فالسيف أهول ما يرى مسلولا
إن يبتذل فالبدر لا يزري به
إن كان ليلة تمه مبدولا
أو يسلبوه المال يحزن فقده
ضيفًا ألم وطارقًا ونزيلا
أو يحبسوه فليس يحبس سائر
من شعره يدع العزيز ذليلا
إن المصائب ما تعدت دينه
نِعمٌ وإن صعبت عليه قليلا
والله ليس بغافل عن أمره
وكفى بربك ناصرًا ووكيلا
ولتعلمن إذا القلوب تكشفت
عنها الأكنة من أضل سبيلا

وكتب المتوكل إلى طاهر بن عبد الله بإطلاق علي بن الجهم، فلما أطلقه قال:

أطاهر إني عن خراسان راحل
ومستخبر عنها فما أنا قائل
أأصدق أم أكني عن الصدق أيما
تخيرت أدته إليك المحافل
وسارت به الركبان واصطفقت به
أكف قيان واجتبته القبائل
وإني بعالي الحمد والذم عالم
بما فيهما نامي الرمية ناضل
وحقًّا أقول الصدق إني لمائل
إليك وإن لم يحظ بالود مائل
ألا حرمة ترعى ألا عقد ذمة
لجار ألا تعمل لقول مشاكل
ألا منصف إن لم نجد متفضلًا
علينا ألا قاض من الناس عادل
فلا تقطعن غيظًا علي أناملًا
فقبلك ما عضت علي الأنامل
أطاهر إن تحسن فإني محسن
إليك وإن تبخل فإني باخل

فقال له طاهر: لا تقل إلا خيرًا، فإني لا أفعل بك إلا ما تحب، فوصله وحمله وكساه.

وقال علي بن الجهم للمتوكل:

عفا الله عنك! ألا حرمة
تجود بعفوك أن أبعدا
لئن جل ذنب ولم أعتمد
لأنت أجل وأعلى يدا
ألم تر عبدًا عدا طوره
ومولى عفا ورشيدًا هدى
ومفسد أمر تلافيته
فعاد فأصلح ما أفسدا
أقلني أقالك من لم يزل
يقيك ويصرف عنك الردى

وأحسن شعر قاله في الحبس قصيدته التي أولها:

قالوا حبست فقلت ليس بضائري
حبسي وأي مهند لا يغمد
أو ما رأيت الليث يألف غيله
كبرًا وأوباش السباع تردد
والشمس لولا أنها محجوبة
عن ناظريك لما أضاء الفرقد
والبدر يدركه السرار فتنجلي
أيامه وكأنه متجدد
والغيث يحصره الغمام فما يرى
إلا وريقه يراع ويرعد
والزاعبية لا يقيم كعوبها
إلا الثقاف وجذوة تتوقد
والنار في أحجارها مخبوءة
لا تصطلي إن لم تثرها الأزند
والحبس ما لم تغشه لدنية
شنعاء نعم المنزل المتودد
بيت يجدد للكريم كرامة
ويزار فيه ولا يزور ويحمد
لو لم يكن في الحبس إلا أنه
لا يستذلك بالحجاب الأعبد
كم من عليل قد تخطاه الردى
فنجا ومات طبيبه والعود
يا أحمد بن أبي دواد إنما
تدعى لكل عظيمة يا أحمد
أبلغ أمير المؤمنين ودونه
خوض الردى ومخاوف لا تنفد
أنتم بنو عم النبي محمد
أولى بما شرع النبي محمد
ما كان من كرم فأنتم أهله
كرمت مغارسكم وطاب المحتد
أمن السوية يابن عم محمد
خصم تقربه وآخر تبعد
إن الذين سعوا إليك بباطل
حساد نعمتك التي لا تجحد
شهدوا وغبنا عنهم فتحكموا
فينا، وليس كغائب من يشهد
لو يجمع الخصماء عندك مجلس
يومًا لبان لك الطريق الأقصد
فبأي جرم أصبحت أعراضنا
نهبًا تقسمها اللئيم الأوغد
خرج علي بن الجهم إلى الشأم في قافلة فخرجت عليهم الأعراب في خساف،٢٠٨ فهرب من كان في القافلة من المقاتلة وثبت علي بن الجهم، فقالتهم قتالًا شديدًا وثاب الناس إليه فدفعهم ولم يحظوا بشيء. فقال في ذلك:
صبرت ومثلي صبره ليس ينكر
وليس على ترك التقحم يعذر
غريزة حر لا اختلاق تكلف
إذا خام٢٠٩ في يوم الوغى المتصبر
ولما رأيت الموت تهفو بنوده
وبانت علامات له ليس تنكر
وأقبلت الأعراب من كل جانب
وثار عجاج أسود اللون أكدر
بكل مشيح٢١٠ مستميت مشمر
يجول به طرف أقب مشمر
بأرض خساف حين لم يك دافع
ولا مانع إلا الصفيح المذكر
فقلل في عيني عظيم جموعهم
عزيمة قلب فيه ما جل يصغر
بمعترك فيه المنايا حواسر
ونار الوغى بالمشرفية تسعر
فما صنت وجهي عن ظبات سيوفهم
ولا انحزت عنهم والقنا تتكسر
ولم أك في حر الكريهة محجمًا
إذا لم يكن في الحرب للورد مصدر
إذا ساعد الطرف الفتى وجنانه
وأسمر خطي وأبيض مبتر
فذاك وإن كان الكريم بنفسه
إذا اصطلت الأبطال في النقع عسكر
منعتهم من أن ينالوا قلامة
وكنت شجاهم والأسنة تقطر
وتلك سجايانا قديمًا وحادثًا
بها عرف الماضي وعز المؤخر
أبت لي قروم أنجبتني أن أرى
وإن جل خطب خاشعًا أتضجر
أولئك آل الله فهر بن مالك
بهم يجبر العظم الكسير ويكسر
هم المنكب العالي على كل منكب
سيوفهم تُفني وتُغني وتُفقر

كان علي بن الجهم يعاشر جماعة من فتيان بغداد لما أطلق من حبسه ورد من النفي، وكانوا يتقاينون ببغداد ويلزمون منزل مغن بالكرخ يقال له المفضل، فقال فيه علي بن الجهم:

نزلنا بباب الكرخ أطيب منزل
على محسنات من قيان المفضل
فلابن سريج والغريض ومعبد
بدائع في أسماعنا لم تبدل
أوانس ما للضيف منهن حشمة
ولا ربهن بالجليل المبجل
يسر إذا ما الضيف قل حياؤه
ويغفل عنه وهو غير مغفل
ويكثر من ذم الوقار وأهله
إذا الضيف لم يأنس ولم يتبذل
ولا يدفع الأيدي المريبة غيرة
إذا نال حظًّا من لبوس ومأكل
ويطرق إطراق الشجاع مهابة
ليطلق طرف الناظر المتأمل
أشر بيد واغمز بطرف ولا تخف
رقيبًا إذا ما كنت غير مبخل
وأعرض عن المصباح والهج بمثله
فإن همد المصباح فادن وقبل
وسل غير ممنوع وقل غير مسكت
ونم غير مذعور وقم غير معجل
لك البيت ما دامت هداياك جمة
وكنت مليا بالنبيذ المعسل
فبادر بأيام الشباب فإنها
تقضى وتفنى والغواية تنجلي
ودع عنك قول الناس أتلف ماله
فلان فأضحى مدبرًا غير مقبل
هل الدهر إلا ليلة طرحت بنا
أواخرها في يوم لهو معجل
سقى الله باب الكرخ من متنزه
إلى قصر وضاح فبركة زلزل
مساحب أذيال القيان ومسرح الـ
ـحسان ومثوى كل خرق معذل
لو ان امرأ القيس بن حجر يحلها
لأقصر عن ذكر الدخول وحومل
إذن لرأى أن يمنح الود شادنًا
مقصر أذيال القنا غير مسيل
إذا الليل أدنى مضجعي منه لم أقل
«عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل»

دخل علي بن الجهم يومًا على عبد الله بن طاهر في غداة من غدوات الربيع وفي السماء غيم رقيق، والمطر يجيء قليلًا ويسكن قليلًا، وقد كان عبد الله عزم على الصبوح فغاضبته حظية له، فتنغص عليه عزمه وفتر، فخُبِّر علي بن الجهم بالخبر وقيل له: قل في هذا المعنى لعله ينشط للصبوح؛ فدخل عليه فأنشده:

أما ترى اليوم ما أحلى شمائله
صحو وغيم وإبراق وإرعاد
كأنه أنت يا من لا شبيه له
وصل وهجر وتغريب وإبعاد
فباكر الراح واشربها معتقة
لم يدخر مثلها كسرى ولا عاد
واشرب على الروض إذ لاحت زخارفه
زهر ونور وأوراق وأوراد
كأنما يومنا فعل الحبيب بنا
بذل وبخل وإيعاد وميعاد
وليس يذهب عني كل فعلكم
غي ورشد وإصلاح وإفساد

فاستحسن الأبيات وأمر له بثلثمائة دينار وحمله وخلع عليه.

لما أطلق عبد الله بن طاهر علي بن الجهم من الحبس أقام معه بالشاذياخ مدة، فخرجوا يومًا إلى الصيد. واتفق لهم مرج كثير الطير والوحش وكانت أيام الزعفران، فاصطادوا صيدًا كثيرًا حسنًا، وأقاموا يشربون على الزعفران، فقال علي بن الجهم يصف ذلك:

وطئنا رياض الزعفران وأمسكت
علينا البزاة البيض حمر الدرارج٢١١
ولم تحمها الأدغال منا وإنما
أبحنا حماها بالكلاب البوارج
بمستروحات سابحات بطونها
على الأرض أمثال السهام الزوالج٢١٢
ومستشرفات بالهوادي كأنها
وما عقفت منها رءوس الصوالج
ومن دالعات ألسنًا فكأنها
لحى من رجال خاضعين كواسج
فلينا بها الغيطان فليًا كأنها
أنامل إحدى الغانيات الحوالج
فقل لبغاة الصيد هل من مفاخر
بصيد وهل من واصف أو مخارج
قرنًا بزاة بالصقور وحومت
شواهيننا من بعد صيد الروامج٢١٣

لما فلج ابن أبي دواد شمت به علي بن الجهم وأظهر ذلك له وقال فيه:

لم يبق منك سوى خيالك لامعًا
فوق الفراش ممهدًا بوساد
فرحت بمصرعك البرية كلها
من كان منهم موقنًا بمعاد
كم مجلس لله قد عطلته
كي لا يحدث فيه بالإسناد
ولكم مصابيح لنا أطفأتها
حتى نزول عن الطريق الهادي
ولكم كريمة معشر أرملتها
ومحدث أوثقت في الأقياد
إن الأساري في السجون تفرجوا
لما أتتك مواكب العواد
وغدا لمصرعك الطبيب فلم يجد
شيئًا لدائك حيلة المرتاد
فذق الهوان معجلًا ومؤجلًا
والله رب العرش بالمرصاد
لا زال فالجك الذي بك دائبًا
وفجعت قبل الموت بالأولاد

ومن جيد شعره قوله:

نطق الهوى بجوى هو الحق
وملكتني فليهنك الرق
رفقًا بقلبي يا معذبه
رفقًا وليس لظالم رفق
وإذا رأيتك لا تكلمني
ضاقت علي الأرض والأفق

وله أيضًا:

يا رحمة للغريب بالبلد النا
زح ماذا بنفسه صنعا
فارق أحبابه فما انتفعوا
بالعيش من بعده وما انتفعا

(٢٠) علي بن جبلة

قال المأمون يومًا لبعض جلسائه: أقسم على أن حضر ممن يحفظ قصيدة علي بن جبلة٢١٤ الأعمى في القاسم بن عيسى إلا أنشدنيها؛ فقال له بعض الجلساء: قد أقسم أمير المؤمنين ولا بد من إبرار قسمه، وما أحفظها ولكنها مكتوبة عندي؛ قال: قم فجئني بها، فمضى وأتاه بها وأنشده إياها، وهي:
ذاد وِرْدَ الغي عن صدره
وارعوى واللهو من وطره
وأبت إلا البكاء له
ضحكات الشيب في شعره
ندمي أن الشباب مضى
لم أبلغه مدى أشره
وانقضت أيامه سلمًا
لم أجد حولًا على غيره
حسرت عني بشاشته
وذوى المحمود من ثمره
ودم أهدرت من رشأ
لم يرد عقلًا على هدره
فأتت دون الصبا هنة
قلبت فوقي على وتره
جارتا ليس الشباب لمن
راح محنيًّا على كبره
ذهبت أشياء كنت لها
صارها٢١٥ حلمي إلى صوره
دع جدا قحطان أو مضر
في يمانيه وفي مضره
وامتدح من وائل رجلًا
عصر الآفاق في عصره
المنايا في مناقبه
والعطايا في ذرا حجره
ملك تندى أنامله
كانبلاج النوء عن مطره
مستهل عن مواهبه
كابتسام الروض عن زهره
جبل عزت مناكبه
أمنت عدنان في ثغره
إنما الدنيا أبو دلف
بين مبداه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلف
ولت الدنيا على أثره
لست أدري ما أقول له
غير أن الأرض في خفره
يا دواء الأرض إن فسدت
ومديل اليسر من عسره
كل من في الأرض من عرب
بين باديه إلى حضره
مستعير منك مكرمة
يكتسيها يوم مفتخره

وفيها يقول:

وزحوف في صواهله
كصياح الحشر في أثره
قدته والموت مكتمن
في مذاكيه ومشتجره
فرمت حقويه منه يد
طوت المنشور من نظره
زرته والخيل عابسة
تحمل البؤسى على عقره
خارجات تحت رايتها
كخروج الطير من وكره
وعلى النعمان عجبت به
عوجة ذادته عن صدره
غمط النعمان صفوتها
فرددت الصفو في كدره
ولقرقور أدرت رحًا
لم تكن ترتد في فكره
قد تأنيت البقاء له
فأبى المحتوم من قدره
وطغى حتى رفعت له
خطة شنعاء من ذكره

فغضب المأمون واغتاظ، وقال: لست لأبي إن لم أقطع لسانه أو أسفك دمه.

وكان يمدح حميد بن عبد الحميد، فلما سمع حميد هذا في أبي دلف قال: أي شيء بقيت لنا بعد هذا من مدحك؟ فقال:

إنما الدنيا حميد
وأياديه الجسام
فإذا ولى حميد
فعلى الدنيا السلام

وهو القائل في حميد:

دجلة تسقي وأبو غانم
يطعم من تسقي من الناس
والناس جسم وإمام الهدى
رأس وأنت العين في الراس

وقال للحسن بن سهل:

أعطيتني يا ولي الحق مبتدئًا
عطية كافأت مدحي ولم ترني
ما شمت برقك حتى نلت ريقه
كأنما كنت بالجدوى تبادرني

وهو القائل في حميد:

إلى أكرم قحطان
وصلنا السهب بالسهب
إلى مجتمع النيل
وملقى أرحل الركب
حميد مفزع الأمـ
ـة في الشرق وفي الغرب
كأن الناس جسم وهـ
ـو منه موضع القلب
إذا سالم أرضا غـ
ـنيت آمنة السرب
وإن حاربها حلت
بها راغية السقب
إذا لاقى رعيل المو
ت بالشطبة والشطب
وبالماذية الخضر
وبالهندية القضب
غدا مجتمع القلب
له جند من الرعب
فيا فوز الذي والى
ويا بؤسى أخى الذنب
أيا ذا الجود فاسلم ما
جرت حقب إلى حقب
فأنت الغيث في السلم
وأنت الموت في الحرب
وأنت الجامع الفار
ق بين البعد والقرب
بك الله تلافى النا
س بعد العثر والنكب
ورد البيض والبيض
إلى الأغماد والحجب
بإقدامك في الحرب
وإطعامك في اللزب
فكم أمنت من خوف
وكم أشغبت من شغب
وكم أصلحت من خطب
وكم أيمت من خطب
وما تمهرها إلا
دراك الطعن والضرب
تناهت بك قحطان
إلى الغاية والحسب
ففاتت شرف الأحيا
ء فوت الرأس للعجب٢١٦

ومما أسرف فيه فكفر أو قارب الكفر قوله في أبي دلف:

أنت الذي تنزل الأيام منزلها
وتنقل الدهر من حال إلى حال
وما مددت مدى طرف إلى أحد
إلا قضيت بأرزاق وآجال
تزور سخطًا فتسمى البيض راضية
وتستهل فتبكي أوجه المال

وقال فيها:

كأن خيلك في أثناء غمرتها
أرسال قطر تهامى فوق أرسال
يخرجن من غمرات الموت سامية
نشر الأنامل من ذي القرة الصالي

وقال أيضًا:

جلاء مشيب نزل
وأنش شباب رحل
طوى صاحب صاحبًا
كذاك اختلاف الدول
أعاذلتي أقصري
كفاك المشيب العذل
بدا بدلًا بالشبا
ب ليت الشباب البدل
جلال ولكنه
تحاماه حور المقل

وقد كان حميد ركب يوم عيد في جيش عظيم لم ير مثله، فقال علي بن جبلة يصف ذلك:

غدا بأمير المؤمنين ويمنه
أبو غانم غدو الندى والسحائب
وضاقت فجاج الأرض عن كل موكب
أحاط به مستعليًا للمواكب
كأن سمو النقع والبيض فوقهم
سماوة ليل قرنت بالكواكب
فكان لأهل العيد عيد بنسكهم
وكان حميد عيدهم بالمواهب
ولولا حميد لم تبلج عن الندى
يمين ولم يدرك غِنًى كسب كاسب
ولو ملك الدنيا لما كان سائل
ولا اعتام فيها صاحب فضل صاحب
له ضحكة تستغرق المال بالندى
على عبسة تشجي القنا بالترائب
ذهبت بأيام العلا فاردًا بها
وصرمت عن مسعاك شأو المطالب
وعدلت ميل الأرض حتى تعدلت
فلم ينأ منها جانب فوق جانب
بلغت بأدنى الحزم أبعد قطرها
كأنك منها شاهد كل غائب

شخص علي بن جبلة إلى عبد الله بن طاهر إلى خراسان، وقد مدحه فأجزل صلته، واستأذنه في الرجوع فسأله أن يقيم، وكان بره يتصل عنده؛ فلما طال مقامه اشتاق إلى أهله فدخل إليه فأنشده:

راعه الشيب إذ نزل
وكفاه من العذل
وانقضت مدة الصبا
وانقضى اللهو والغزل
قد لعمري دملته
بخضاب فما اندمل
فابك للشيب إذ بدا
لا على الربع والطلل
وصل الله للأميـ
ـر عرى الملك فاتصل
ملك عزمه الزما
ن وأفعاله الدول
كسروي، بمجده
يضرب الضارب المثل
وإلى ظل عزه
يلجأ الخائف الوجل
كل خلق سوى الإما
م لإنعامه خول
ليته حين جاد لي
بالغنى جاد بالقفل

فضحك وقال: أبيت إلا أن توحشنا، وأجزل صلته وأذن له.

دخل علي بن جبلة العكوك على حميد الطوسي في أول يوم من شهر رمضان، فأنشده:

جعل الله مدخل الصوم فوزًا
لحميد ومتعة في البقاء
فهو شهر الربيع للقراء
وفراق الندمان والصهباء
وأنا الضامن الملي لمن عا
قرها مفطرًا بطول الظماء
وكأني أرى الندامى على الخسـ
ـف يرجون صبحهم بالمساء
قد طوى بعضهم زيارة بعض
واستعاضوا مصاحفًا بالغناء

وفيها يقول:

بحميد — وأين مثل حميد —
فخرت طيءٌ على الأحياء
جوده أظهر السماحة في الأر
ض وأغنى المقوى عن الإقواء
ملك يأمل العباد نداه
مثل ما يأملون قطر السماء
صاغه الله مطعم الناس في الأر
ض وصاغ السحاب للإسقاء

فأمر له بخمسة آلاف درهم، وقال: استعن بهذه على نفقة صومك؛ ثم دخل إليه ثاني شوال فأنشده:

عللاني بصفو ما في الدنان
واتركا ما يقوله العاذلان
واسبقا فاجع المنية بالعيـ
ـش فكل على الجديدين فاني
عللاني بشربة تذهب الهـ
ـم وتنفي طوارق الأحزان
والقيا في مسامع سدها الصو
م رقى الموصلي أو دحمان
قد أتانا شوال فاقتبل العيـ
ـش وأعدى قسرًا على رمضان
نعم عون الفتى على نوب الدهـ
ـر سماع القيان والعيدان
وكئوس تجري بماء كروم
ومطي الكئوس أيدي القيان
من عقار تميت كل احتشام
وتسر الندمان بالندمان
وكأن المزاج يقدح منها
شررًا في سبائك العقيان
فاشرب الراح واعص من لام فيها
إنها نعم عدة الفتيان
واصحب الدهر بارتحال وحل
لا تخف ما يجره الحادثان
حسب مستظهر على الدهر ركنًا
بحميد ردءًا من الحدثان
ملك يقتني المكارم كنزًا
وتراه من أكرم الفتيان
خلقت راحتاه للجود والبأ
س وأمواله لشكر اللسان
ملكته على العباد معد
وأقرت له بنو قحطان
أريحي الندا جميل المحيا
يده والسماح معتقدان
وجهه مشرق إلى معتفيه
ويداه بالغيث تنفجران
جعل الدهر بين يوميه قسميـ
ـن بعرف جزل وحر طعان
فإذا سار بالخميس لحرب
كل عن نص جريه الخافقان
وإذا ما هززته لنوال
ضاق عن رحب صدره الأفقان
غيث جدب إذا أقام ربيع
يتغشى بالسيب كل مكان
يا أبا غانم بقيت على الدهـ
ـر وخلدت ما جرى العصران
ما نبالي إذا عدتك المنايا
من أصابت بكلكل وجران
قد جعلنا إليك بعث المطايا
هربًا من زماننا الخوان
وحملنا الحاجات فوق عتاق
ضامنات حوائج الركبان
ليس جود وراء جودك ينتا
ب ولا يعتفي لغيرك عاني

فأمر له بعشر آلاف درهم، وقال: تلك كانت للصوم فخففت وخففنا، وهذه للفطر فقد زدتنا وزدناك.

ولما مات حميد الطوسي رثاه بقصيدته العينية المشهورة التي تعد من نادر الشعر وبديعه، وهي:

أللدهر تبكي أم على الدهر تجزع
وما صاحب الأيام إلا مفجع
ولو سهلت عنك الأسى كان في الأسى
عزاء معز للبيب ومقنع
تعز بما عزيت غيرك إنها
سهام المنايا حائمات ووقع
أصبنا بيوم في حميد لو انه
أصاب عروش الدهر ظلت تضعضع
وأدبنا ما أدب الناس قبلنا
ولكنه لم يبق للصبر موضع
ألم تر للأيام كيف تصرمت
به، وبه كانت تذاد وتدفع
وكيف التقى مثوى من الأرض ضيق
على جبل كانت به الأرض تمنع
ولما انقضت أيامه انقضت العلا
وأضحى به أنف الندى وهو أجدع
وراح عدو الدين جذلان ينتحي
أماني كانت في حشاه تقطع
وكان حميد معقلًا ركعت به
قواعد ما كانت على الضيم تركع
وكنت أراه كالرزايا رزئتها
ولم أدر أن الخلق تبكيه أجمع
حمام رماه من مواضع أمنه
حمام، كذاك الخطب بالخطب يقدع
وليس بغرو أن تصيب منية
حمى أختها أو أن يذل الممنع
لقد أدركت فينا المنايا بثأرها
وحلت بخطب وهيُه ليس يرقع
نعاء حميدًا للسرايا إذا غدت
تذاد بأطراف الرماح وتوزع
وللمرهق المكروب ضاقت بأمره
فلم يدر في حوماتها كيف يصنع
وللبيض خلتها البعول ولم يدع
لها غيره داعي الصباح المفزع
كأن حميدًا لم يقد جيش عسكر
إلى عسكر أشياعه لا تروع
ولم يبعث الخيل المغيرة بالضحى
مراحًا ولم يرجع بها وهي ظلع
رواجع يحملن النهاب ولم تكن
كتائبه إلا على النهب ترجع
هوى جبل الدنيا المنيع وغيثها الـ
ـمريع وحاميها الكمي المشيع
وسيف أمير المؤمنين ورمحه
ومفتاح باب الخطب والخطب أفظع
فأقنعه من ملكه ورباعه
ونائله قفر من الأرض بلقع
على أي شجو تشتكي النفس بعده
إلى شجوه أو يذخر الدمع مدمع
ألم تر أن الشمس حال ضياؤها
عليه وأضحى لونها وهو أسفع
وأوحشت الدنيا وأودى بهاؤها
وأجدب مرعاها الذي كان يمرع
وقد كانت الدنيا به مطمئنة
فقد جعلت أوتادها تتقلع
بكى فقده روح الحياة كما بكى
نداه الندى وابن السبيل المدفع
وفارقت البيض الخدور وأبرزت
عواطل حسري بعده لا تقنع
وأيقظ أجفانًا وكان لها الكرى
ونامت عيون لم تكن قبل تهجع
ولكنه مقدار يوم ثوى به
لكل امرئ منه نهال ومشرع
وقد رأب الله الملا بمحمد
وبالأصل ينمي فرعه المتفرع
أغر، على أسيافه ورماحه
تقسم أنفال الخميس وتجمع
حوى عن أبيه بذل راحته الندى
وطعن الكي والزاعبية شرع

هوامش

(١) هو أبو معاذ بشار المرعث بن برد، أشعر مخضرمي الدولتين، ورأس الشعراء المحدثين، وممهد طريق الاختراع، والبديع للمتفننين، وأحد البلغاء المكفوفين، وأصله من فرس طخارستان من سبي المهلب بن أبي صفرة، ووقع ملك أبويه لبني عقيل بن كعب، فنشأ بشار فيهم وتربى في منازلهم، واختلف إلى الأعراب الضاربين بالبصرة حتى خرج نابغة زمانه في الفصاحة والشعر، وكان أكمه مجدور الوجه، قبيح المنظر، مفرط الطول، ضخم الجثة، متوقد الذكاء، صادق الحس، لطيف الدراية، شديد المجون والاستخفاف بالناس، كثير الاستهتار بالدين، قليل المبالاة للوقوع فيه، متهمًا بالزندقة شعوبيًّا، متعصبًا على العرب، شديد التبرم بالناس، نهاشًا لأعراضهم، لا يسلم من لسانه خليفة ولا سوقة، وكان من سعادة الرجل من أهل البصرة ألا يعرف بشارًا ولا بشار يعرفه، فإنه إن لم يصبه في عرضه أصابه في ماله، وقال بشار الشعر ولم يبلغ عشر سنين، وما بلغ الحلم إلا وهو مخشي معرة لسانه. وقد أجمع رواة الشعر ونقدته على أن بشارًا هو رأس المحدثين وأسبقهم إلى معاطاة البديع، وطرق أبواب المجون والخلاعة والغزل الرقيق الحضري، والهجاء المقذع. وأنه أول من جمع في شعره بين جزالة العرب ورقة المحدثين، وفتق المعاني الدقيقة، والأخيلة اللطيفة، حتى عد شعره برزخًا بين الشعر القديم والحديث، مجازًا يعبر عليه الشعر من مرابع البداوة إلى مقاصير الحضارة. وقد طرق كل باب من أبواب الشعر التي عرفت قبله وأربى عليها، وغلب عليه الهجاء والتشبيب بالنساء والخروج به عن الحد المألوف عند أهل زمنه، حتى أنكره عليه العلماء والمتورعون لما رأوا من سوء أثره في شبان البصرة. وقد نهاه المهدي عن التشبيب، فكان إذا مالت له نفسه يذكر منه ما يشاء ويقول: إن الخليفة منعه من كذا وكذا وإنه له مطيع. وضمن ذلك بعض قصائد مدح بها الخليفة، فلم يزد على أن حرمه الجائزة، وشجعه على ذلك وزيره يعقوب بن داود، وكان متورعًا، فهجاهما، فكان ذلك إلى زندقته سبب قتله. توفي سنة ١٦٧ﻫ وقد نيف على التسعين. وتجد ترجمته في الأغاني (ج٣ ص١٩ وج٦ ص٧) وابن خلكان (ج١ ص٨٨) والشعر والشعراء (ص٤٧٦) والفهرست (ص١٥٩).
(٢) تشب: تزداد وترتفع.
(٣) أبديت أي أخرجت إلى البادية.
(٤) مطاه: ظهره.
(٥) الغضاضة: المنقصة.
(٦) الخوافي: الريشات الصغيرات التي في جناح الطائر إذا ضمها خفيت، واحدتها خافية ضد القوادم.
(٧) الغل بالضم: الحديدة التي تجمع بين يد الأسير وعنقه وتسمى الجامعة.
(٨) الشبا بالفتح جمع شباة وهي من كل شيء حده.
(٩) المشيع: الشجاع.
(١٠) الجال: حافة القبر ونواحيه.
(١١) الزبرج: الزينة من وشي أو جوهر.
(١٢) طخفة: موضع بعد النباج وبعد إمرة في طريق البصرة إلى مكة، ومنه يوم طخفة لبنى يربوع على قابوس بن المنذر بن ماء السماء.
(١٣) المقربات: الخيل التي يقرب مربطها ومعلفها لكرامتها.
(١٤) من قرى اليمامة لبنى نمير.
(١٥) بيت رأس: قرية بالشأم من قرة حلب ينسب إليها الخمر.
(١٦) البرسام: علة يهذي فيها وهو ورم حار يعرض للحجاب الذي بين الكبد والأمعاء ثم يتصل إلى الدماغ.
(١٧) حيت بالإدغام لغة في حيي كرضي.
(١٨) الأيسار: جمع يسر، وهو اللاعب بالقداح.
(١٩) نفستهم: حسدتهم.
(٢٠) الكمن: واحدها كمنة وهي جرب وحمرة تبقى في العين من رمد يساء علاجه.
(٢١) العفر: قلة الزيارة، يقال: ما تأتينا إلا عن عفر أي بعد قلة زيارة وطول عهد.
(٢٢) كان قد قال: نينان البحور، فعابه بذلك سيبويه، فجعله تيار البحور.
(٢٣) الدثر: الكثير.
(٢٤) الرود: الشابة الحسنة الناعمة.
(٢٥) مقارف ذنب: مخالطه ومرتكبه من قارف الخطيئة إذا خالطها.
(٢٦) القذى: ما يسقط في الشراب من ذباب أو غيره.
(٢٧) السبائب: جمع سبيبة، وهي شقة من الكتان رقيقة يريد بها الألوية.
(٢٨) العانة: القطعة من الحمير. والجأب: ذكرها، ومعنى شكواها الصدى بأبصارها أن العطش قد تبين في أحداقها فغارت، وهذا من أحسن ما وصف به الحمار والأتن.
(٢٩) أي لم أطلب معروفك متوسلًا إليك بعهد أو قرابة.
(٣٠) الحرف: الناقة المهزولة.
(٣١) العلافي: الرحل العظيم.
(٣٢) وجناء ذعلب أي ناقة شديدة سريعة.
(٣٣) ماق: حمق في غباوة.
(٣٤) المحلة: منزل القوم.
(٣٥) أصله من الموالي، وقد استوزره الخليفة المهدي وسلمه الأمور كلها واشتغل هو باللهو.
(٣٦) هو حماد بن يحيى بن عمرو مولى عامر بن صعصعة. نشأ في الكوفة ثم واسط. وعاصر الدولتين، نبغ في الدولة العباسية بعد أن نادم الوليد بن يزيد الأموي. وجاء بغداد أيام المهدي ومعه مطيع بن إياس ويحيى بن زياد، وكلهم من المتهمين في دينهم. وحماد من الشعراء المجيدين، وكان ماجنًا ظريفًا خليعًا متهمًا في دينه مرميًّا بالزندقة. وأدرك بشار بن برد وله معه أهاج فاحشة، ولم يكن يهاب كبيرًا ولا صغيرًا، عالمًا كان أو خليفة. توفي سنة ١٦١ﻫ. وتجد ترجمته في الأغاني (ج١٣ ص٧٣) وابن خلكان (ج١ ص١٦٥) والشعر والشعراء (ص٤٩٠) والفهرست (ص٩١).
(٣٧) من بحوث صديقي الدكتور طه حسين أستاذ الآداب العربية بالجامعة المصرية.
(٣٨) النقرى: الدعوة الخاصة.
(٣٩) القلطبان: الذي لا يغار.
(٤٠) مناص: مدافع، من قولهم ناصاه مناصاة: أخذ كل بناصية صاحبه.
(٤١) ثبير: اسم جبل.
(٤٢) الثيل: وعاء قضيب البعير، والعود: البعير.
(٤٣) أي لو كان لك ذنب ما صادفتني مسرعًا إليك بالمكافأة.
(٤٤) السياق: الاحتضار.
(٤٥) السب: الكثير السباب.
(٤٦) من بحوث صديقي الدكتور طه حسين أستاذ الآداب العربية بالجامعة المصرية.
(٤٧) هو من الشعراء الموالي، أصل جده من سبي إصطخر، وكان غلامًا اشتراه عثمان بن عفان ووهبه لمروان بن الحكم، وأقام بعدئذ باليمامة، وقد اختلفوا في حقيقة نسبه. شب مروان على كره الشيعة لأنه من موالي بني أمية وقد حارب معهم، وكان شجاعًا مجربًا، فلما نبغ في الشعر قدم بغداد ومدح المهدي ثم الرشيد، وكان يتقرب إليه بهجاء العلويين، وهو من الفحول المقدمين، أول من شهره ونوه به معن بن زائدة الجواد المشهور بقصيدة نونية مدحه بها، مطلعها:
معن بن زائدة الذي زيدت به
شرفًا على شرف بنو شيبان
ولكنه اشتهر على الخصوص بقصيدة لامية مدح بها معنًا مطلعها:
بنو مطر يوم اللقاء كأنهم
أسود لهم في بطن خفان أشبل
فأجازه عليها بمال كثير، فكان كلما زاده معن عطاء زاده مروان مدحًا. توفي سنة ١٨١ﻫ. وتجد أخباره في الأغاني (ج٩ ص٣٦) وابن خلكان (ج٢ ص١٣٠) والشعر والشعراء (ص٤٨١) وخزانة الأدب (ج١ ص٤٤٧) والفهرست لابن النديم (ص١٦٠).
(٤٨) لهاميم واحدها لهموم، وهو العظيم الكثير الخير.
(٤٩) التليل: العنق.
(٥٠) تنجو: تسرع.
(٥١) الخرجاء: النعامة.
(٥٢) الرئال: فراخ النعامة واحدها رأل.
(٥٣) الرعال: القطع من الحيل واحدها رعلة.
(٥٤) النحائز: الأنساع.
(٥٥) الميس: شجر عظيم تتخذ منه الرحال.
(٥٦) الني: الشحم.
(٥٧) مدينة بناها السفاح بالكوفة، وذلك أنه لما ولي الخلافة نزل بقصر ابن هبيرة واستتم بناءه وجعله مدينة وسماها الهاشمية، فكان الناس ينسبونها إلى ابن هبيرة على العادة، فقال: ما أرى ذكر ابن هبيرة يسقط عنها، فرفضها وبنى حيالها مدينة سماها الهاشمية ونزلها.
(٥٨) هو زند بن الجون، وسمي أبا دلامة نسبة إلى ابنه دلامة، وهو كوفي المنشأ أسود اللون مولى لبني أسد، وكان أبوه عبدًا لرجل منهم فأعتقه. أدرك أبو دلامة أواخر الدولة الأموية، ولكنه نبغ في الدولة العباسية، وانقطع إلى أبي العباس السفاح والمنصور والمهدي، وكانوا يقدمونه ويصلونه ويستطيبون محاسنه ونوادره، وفيه دعابة وظرف، لا يخلو حديثه من نكتة أو ملحة، وكان مع ذلك معدودًا في جملة المتهمين بالزندقة وفساد الدين، وكان يشرب الخمر ولا يحضر صلاة ولا فروضا. توفي سنة ١٦١ﻫ. وأخباره في الأغاني (ج٩ ص١٢٠) وابن خلكان طبع بلاق (ج١ ص٢٦٧) والشعر والشعراء ص٧٤٨ والدميري (ج١ ص١٣٢) والمستطرف (ج٢) ص٤٣.
(٥٩) في الشعر والشعراء: «أبا مجرم».
(٦٠) في الطبري ج٢ ص٣٧١ طبع أوربا «فزاد الإمام المصطفى».
(٦١) البجر: خروج السرة ونتوءها وغلظ أصلها. والفدع: اعوجاج في الرسغ من اليد أو الرجل حتى ينقلب الكف والقدم إلى إنسيها.
(٦٢) أي غضبت.
(٦٣) الحراب بمعنى المحاربة وفي الأغاني «ضراب».
(٦٤) هكذا بالأصل ولعلها: اقفعل، من قولهم اقفعلت يده: تقبضت.
(٦٥) لزه بالشيء: ألزمه إياه.
(٦٦) الساج: الطيلسان الأخضر، وقيل الأسود.
(٦٧) البرش: نقط بيض في الجلد.
(٦٨) همة: هرمة.
(٦٩) المشجب: خشبات موثقة منصوبة توضع عليها الثياب وتنشر.
(٧٠) القطرب: ذكر الغيلان.
(٧١) المغرب: الأبيض من كل شيء.
(٧٢) يقال: فلان من أحلاس الخيل، أي من راضتها وساستها والملازمين ظهورها.
(٧٣) الكتف: عظم عريض يكون في أصل كتف الحيوان كانوا يكتبون فيه لقلة القراطيس.
(٧٤) السدف: الضوء وإقبال الصبح.
(٧٥) تجد ترجمته في الجزء الأول من هذا الكتاب ص٤٢٩ وقد ذكرناه هنا لمناسبة ذكر ما عثرنا عليه من منظومته لكتاب كليلة ودمنة. وقد أضفنا هنا ما لم نذكره في ترجمته هناك.
(٧٦) القيارة: محل إسالة القار.
(٧٧) طفر: وثب في ارتفاع.
(٧٨) ندم وحزن.
(٧٩) الدخنة: نحو يدخن به الثياب أو البيت، وفي الأصل: «الدجنة» بالجيم وهو تحريف.
(٨٠) في الأصل «ثم للعير» والعير: الحمار.
(٨١) الأملاك: الملوك.
(٨٢) كذا في الأصل ولعله: «بل الظن الحسن».
(٨٣) أوقها: ثقلها.
(٨٤) في الأصل هكذا «ينطره».
(٨٥) الهوج: الحمق. وفي الأصل: «لهوج» باللام وهو تحريف.
(٨٦) الظهار مصدر ظاهر الرجل من امرأته إذا قال لها: أنت علي كظهر أمي، فكنى بالظهر عن البطن تأدبًا.
(٨٧) في الأصل: «موطوف».
(٨٨) أيدا: قويًّا.
(٨٩) في الأصل: «فكم».
(٩٠) في الأصل:
لوصف باب بابا
(٩١) محارف: محروم محدود إذا طلب لا يرزق.
(٩٢) حزق: ضن عليه وبخل.
(٩٣) العرم: الشدة والشراسة. وفي الأصل: «العزم».
(٩٤) هو منصور بن الزبرقان بن سلمة النمري الربعي، من النمر بن قاسط، ثم من ربيعة بن نزار شاعر من شعراء الدولة العباسية، من أهل الجزيرة، وهو تلميذ كلثوم بن عمرو العتابي وراويته، عنه أخذ، ومن بحره استقى، وبمذهبه تشبه. وصفه العتابي للفضل بن يحيى بن خالد وقرظه عنده حتى استقدمه من الجزيرة واستصحبه، ثم وصله بالرشيد وجرت بعد ذلك بينه وبين العتابي وحشة حتى تهاجرا وتناقضا وسعى كل واحد منهما في هلاك صاحبه؛ وكان النمري قد مدح الفضل بقصيدة وهو مقيم بالجزيرة، فأوصلها العتابي إليه واسترفده له وسأله استصحابه، فأذن له في القدوم، فحظي عنده، وعرف مذهب الرشيد في الشعر وإرادته أن يصل مدحه إياه بنفي الإمامة عن ولد علي بن أبي طالب عليهم السلام والطعن عليهم وعلم مغزاه في ذلك مما كان يبلغه من تقديم مروان بن أبي حفصة وتفضيله إياه على الشعراء في الجوائز، فسلك مذهب مروان في ذلك ونحا نحوه، ولم يصرح بالهجاء والسب كما كان يفعل مروان ولكنه حام ولم يقع وأومأ ولم يحقق، لأنه كان يتشيع، وكان مروان شديد العدواة لآل أبي طالب وكان ينطق عن نية قوية يقصد بها طلب الدنيا فلا يبقى ولا يذر، وتجد أخباره في الأغاني (ج١٢ ص١٦ وج١٧ ص٣٢ و١٤١).
(٩٥) رواية الأغاني: «تتسع».
(٩٦) مفرده قنبل بفتح فسكون ثم فتح: الطائفة من الناس.
(٩٧) كذا في الأصل ولعله:
لا أنت أصبحت يعقد بيننا أرب
بتسكين الفعل يعقد للضرورة، وتسكين الفعل في الضرورة وارد ومنه قول امرئ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب
إثما من الله ولا واغل
(٩٨) في الشعر والشعراء «مصاليت».
(٩٩) الأزل: الضيق والشدة.
(١٠٠) العرام: الحدة.
(١٠١) العذم بالشفة كالعض بالأسنان.
(١٠٢) هو إسماعيل بن محمد بن يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري، والسيد لقبه ويكنى أبا هاشم، كان شاعرًا متقدمًا مطبوعًا، يقال إن أكثر الناس شعرًا في الجاهلية والإسلام ثلاثة: بشار وأبو العتاهية والسيد، فإنه لا يعلم أن أحدًا قدر على تحصيل شعر أحد منهم أجمع، وإنما مات ذكره وهجر الناس شعره لما كان يفرط فيه من سب أصحاب رسول الله وأزواجه في شعره ويستعمله في قذفهم والطعن عليهم، فتحومي شعره من هذا الجنس وغيره لذلك وهجره الناس تخوفًا وترقبًا، وله طراز من الشعر ومذهب قلما يلحق فيه أو يقارب، ولا يعرف له من الشعر كثير، وليس يخلو من مدح بني هاشم أو ذم غيرهم ممن هو عنده ضد لهم. توفي سنة ١٧٣ﻫ. وتجد ترجمته وأخباره في الأغاني (ج٧ ص٢) وفوات الوفيات (ج١ ص١٩).
(١٠٣) من بحوث صديقي الدكتور طه حسين أستاذ الآداب العربية بالجامعة المصرية.
(١٠٤) هم الحسن والحسين ومحمد.
(١٠٥) العزلاء: مصب الماء من الراوية ونحوها، ويقال: أنزلت السماء عزاليها، إشارة إلى شدة وقوع المطر على التشبيه بنزوله من أفواه المزادات.
(١٠٦) الرعن: أنف يتقدم الجبل جمعه رعون ورعان. والجبل: الطويل. ودهدى الحجر فتدهدى، أي دحرجه فتدحرج.
(١٠٧) الأواذي: أمواج البحر مفردها آذي.
(١٠٨) الزيم: المتفرق من اللحم.
(١٠٩) الحفان: صغار النعام.
(١١٠) هو سلم (ويقال سالم) بن عمرو أحد موالي أبي بكر الصديق، نشأ في البصرة، وكان شاعرًا مطبوعًا متصرفًا في فنون الشعر، وكان متظاهرًا بالخلاعة والفسوق المجون، وزاد شاعرية وتمرسًا بالشعر على يد بشار، لأنه كان راويته وتلميذه، أخذ عنه واغترف من بحره ونسج على منواله، وكثيرًا ما كان يأخذ أقواله فيسلخها ويمسخها كما مسخ هذا البيت:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته
وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
فجعله:
من راقب الناس مات غمًا
وفاز باللذة الجسور
فبلغ بيته بشارًا فغضب وأقسم ألا يدخل عليه ولا يفيده ما دام حيًّا، فاستشفع إليه بكل صديق حتى رضي ووبخه وقنعه بمخصرة كانت بيده. وكان صديقًا لإبراهيم الموصلي المغني المشهور ولأبي العتاهية. وكان يمدح البرامكة وخصوصًا الفضل بن يحيى. توفي سنة ١٨٦ﻫ. وتجد ترجمته في الأغاني ج٢١ ص١١٠ وابن خلكان ج١ ص١٩٨.
(١١١) الدمنة: الحقد.
(١١٢) قصير.
(١١٣) الكرابيس: جمع كرباس وهو القطن.
(١١٤) أي خفا فرو كثير الصوف غليظه.
(١١٥) الغلصمة: أصل اللسان.
(١١٦) معور: مخوف.
(١١٧) الشبه: النحاس الأصفر.
(١١٨) البوتقة: الوعاء الذي يذيب فيه الصائغ.
(١١٩) امتلكه.
(١٢٠) هو أبو أسامة ربيعة بن ثابت من موالي سليم، ويكنى أبا شبابة، وكان ينزل الرقة، وبها مولده ومنشؤه، فأشخصه المهدي إليه، فمدحه بعدة قصائد وأثابه عليها ثوابًا كبيرًا، وهو من المكثرين المجيدين، وكان ضريرًا وإنما أخمل ذكره وأسقطه عن طبقته بعده عن العراق وتركه خدمة الخلفاء ومخالطة الشعراء ومع ذلك فما عدم مفضلًا مقدمًا له. وتجد أخباره في الأغاني (ج١٥ ص٣٨) وخزانة الأدب للبغدادي (ج٣ ص٥٥).
(١٢١) أي لا استثناء فيها.
(١٢٢) هو يزيد بن أسيد (بضم الهمزة) من بهثة بن سليم، وأخو الأزد هو يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب.
(١٢٣) أثيرًا: مكرمًا.
(١٢٤) جرض بريقه: ابتلعه بالجهد على هم وحزن.
(١٢٥) العوذة: الرقية يرقى بها الإنسان من فزع أو جنون أو مرض.
(١٢٦) النفث البصاق اليسير ينفثه الراقي في العقدة عند الرقية.
(١٢٧) الحوفزان هو الحارث بن شريك الشيباني، سمي بذلك لأن قيس بن عاصم التميمي حفزه بالرمح حين خاف أن يفوته، وقد فخر بذلك سوار بن حبان المنقري فقال:
ونحن حفزنا الحوفزان بطعنة
سقته نجيعًا من دم الجوف أشكلا
(١٢٨) الخلة: الخليلة.
(١٢٩) هو الفضل بن عبد الصمد مولى رقاش، وهو من أهل البصرة. توفي سنة ٢٠٠ﻫ. وتجد ترجمته في الأغاني (ج١٥ ص٣٥) ووفيات الوفيات (ج٢ ص١٢٥) والشعر والشعراء (ص٥١٥).
(١٣٠) المعاير: المعايب.
(١٣١) هو أبو إسحاق اسماعيل بن القاسم بن سويد، أطبع أهل زمانه شعرًا وأكثرهم قولًا وأسهلهم لفظًا، وأسرعهم بديهة وارتجالًا، وأول من فتح للشعراء باب الوعظ والتزهيد في الدنيا والنهي عن الاغترار بها، وأكثر من الحكمة. ولد بعين التمر سنة ١٣٠ﻫ ونشأ بالكوفة في عمل أهله. وكانوا باعة جرار، إلا أنه ربأ بنفسه عن عمله وقال الشعر في صباه وامتزج بلحمه ودمه حتى صار كما قال هو عن نفسه «لو شئت أن أجعل كلامي كله شعرًا لفعلت» فذاع صيته وسلك طريق خلعاء الكوفة. ثم قدم بغداد ومدح المهدي وتعرف ببعض خدم قصر الخلافة وجواريه فتعشق منهن فتاة تدعى عتبة، ولما يئس منها لها عنها بعض الشيء. ودرس كثيرًا من مذاهب المتكلمين والشيعة والجبرية والزهاد فكان يسلك كل مذهب منها مدة ثم ينتقل عنه إلى الآخر حتى اختار له من كل ذلك عقيدة مختلطة أفضت به إلى العبادة والزهد في الدنيا قولًا ومعيشة على إفراط منه في حب المال والجمع له والبخل به على الأهل والولد والخدم. ولم يأت عصر الرشيد حتى أضرب عن الغزل وقصر قوله على الزهد في الدنيا والتذكير بالموت وأهواله، وهو في خلال ذلك يمدح الخليفة وملوك الدولة ويأخذ جوائزهم، ثم عرضت له حال امتنع فيها عن قول الشعر البتة حتى حبسه الرشيد لعدم تلبيته ما اقترحه عليه من القول فيه ثم أطلقه بعد أن أجاب طلبته، وعاد إلى قول الشعر على عاداته فيه وترك الغزل والهجاء، وبقي على ذلك مدة الرشيد والأمين وأكثر أيام المأمون. توفي سنة ٢١١ﻫ. وله ديوان مطبوع في بيروت سنة ١٨٨٧ وتجد أخباره في الأغاني ج٣ ص١٢٦ وج٦ ص١٨٦ وج٨ ص٢٤ وابن خلكان ج١ ص٧١ وطبقات الشعراء ص٤٩٧ والفهرست ص١٦٠.
(١٣٢) النظرة: التأخير والإمهال.
(١٣٣) هو مسلم بن الوليد مولى الأنصار يلقب صريع الغواني، شاعر متقدم من شعراء الدولة العباسية، منشؤه ومولده الكوفة، وهو فيما زعموا أول من قال الشعر المعروف بالبديع، وهو لقب هذا الجنس البديع واللطيف، وتبعه فيه جماعة، وأشهرهم فيه أبو تمام الطائي، فإنه جعل شعره كله مذهبًا واحدًا فيه، ومسلم كان متفننًا متصرفًا في شعره. قال محمد بن يزيد: كان مسلم شاعرًا حسن النمط، جيد القول في الشراب، وكثير من الرواة يقرنه بأبي نواس في هذا المعنى، وهو أول من عقد هذه المعاني الظريفة واستخرجها. وقال القاسم بن مهرويه: أول من أفسد الشعر مسلم بن الوليد، جاء بهذا الفن الذي سماه الناس البديع ثم جاء الطائي بعده فتفنن فيه. توفي بجرجان سنة ٢٠٨ﻫ وله ديوان مطبوع في ليدن سنة ١٨٧٥م. وتجد أخباره في الأغاني (ج١٣ ص٩) والشعر والشعراء (ص٥٢٨) والعقد الفريد (ج١ ص١٤٢).
(١٣٤) أجررت فلانًا رسنه: تركته وشأنه، والخليع: الذي خلع عذاره في الصبا.
(١٣٥) الطموح: المرتفعة في النظر إلى الأحبة. ومفرق: مقسم.
(١٣٦) أي لم تظن بي.
(١٣٧) يريد الخمر والجواري.
(١٣٨) محتضر، أي حضرته اللذات. والخلل: جمع خلة وهي الصديقة.
(١٣٩) خفرها، أي ولد عليها الخفر وهو شدة الحياء.
(١٤٠) أي مختار.
(١٤١) منضية: متعبة. والوجيف: ضرب من السير. والذلل: الضامرات.
(١٤٢) يريد بالنجم: الثريا. ومعترضًا: منتصبًا.
(١٤٣) مطردًا، أي مخذولًا. وضرب السمك والطول مثلًا.
(١٤٤) الهبل: الفقدان.
(١٤٥) يعني البيت الحرام.
(١٤٦) الكوم: العظام الأسنمة واحدها كوماء. والبزل: جمع بازل وهو ما له تسعة أعوام.
(١٤٧) جمع عان وهو الأسير، والخطل: ذو الخطل وهو الخطأ.
(١٤٨) هذا مثل، يريد لما رامت الحوادث من استجار به.
(١٤٩) نسبة إلى شريك، وهو أحد أجداد يزيد.
(١٥٠) هكذا في الأصل، وعندنا أن الكلمة محرفة عن (اتطدت) أي ثبتت، وهي وزان افتعل من وطد. وكانت أوتطد ثم قلبت فاء الافتعال تاء وأدغم المثل في المثل.
(١٥١) عترة الدين: جماعة الإسلام.
(١٥٢) أحد الخوارج على الرشيد.
(١٥٣) غافصه: فاجأه على غرة.
(١٥٤) هو الوليد بن طريف الشاري.
(١٥٥) الناضل: المصيب، والخصل مثله.
(١٥٦) الرس: وادي أذربيجان.
(١٥٧) تستن بالعضل: تتابع بالعسر، والمعضلة: الداهية.
(١٥٨) لا تدع بي الشوق، أي لا تدعني مشتاقًا. وسأله دعيل عن معنى ذلك فقال: لا تدعني صريع الغواني فلست كذلك، وكان لهذا اللقب كارهًا. ومعمود: عاشق، والهيف: الضامرات الخصور.
(١٥٩) أي ذهبت بجلدي.
(١٦٠) اغتزلت: اختلطت، ويريد بالنسجين: ما ولي الماء من الخمر أسرع فيه الماء فحله، وما ولي منها القاع بقي على حاله لم يحله الماء بعد.
(١٦١) الحبرة: النعيم.
(١٦٢) الفند: اللوم. والمخضود: الواهن.
(١٦٣) أي لا تدعوني إلى نفسها.
(١٦٤) الخطارة: الناقة تحرك ذنبها. والسرح: الخفيفة.
(١٦٥) الرهين: الأسير، والمصفود: الموثق بالحديد.
(١٦٦) الممحلة: السنة الجدبة. والجارود: المنجردة من النبات.
(١٦٧) تخمطها: سال بها. والقراديد: جمع قردد، وهو المرتفع من الجبال.
(١٦٨) السمام: طائر يشبه القطا. والصيخود: شدة الحر.
(١٦٩) التحريد من الحرد، وهو داء يصيب الإبل في قوائمها. والأين: التعب.
(١٧٠) البهر: هو ما يعتري الإنسان عند العدو من اللهث وتتابع النفس.
(١٧١) رق الصريح، أي استعباد الحر. والمذاويد: الانجاد واحده مذود.
(١٧٢) المحاييد: الجبناء جمع محياد.
(١٧٣) الهدأة: الفترة.
(١٧٤) الأبلخ: المتكبر.
(١٧٥) شآها: سبقها. ومزمود: مرعوب.
(١٧٦) المفئود: الذي أصيب فؤاده.
(١٧٧) الضبات: أوصال الرأس. والقماحيد: جمع قمحودة وهي العظم الناتئ في مؤخر الرأس بين القفا وأعلى الرأس.
(١٧٨) أعذر: جاء بما يعذر عليه.
(١٧٩) أي أغرت طوائفها.
(١٨٠) ترتاب: أي تستنكر.
(١٨١) الأفياء: جمع فيء وهو الظل آخر النهار. والجسد: الدم.
(١٨٢) موجفة: سريعة.
(١٨٣) أملود: أملس.
(١٨٤) الجرداء: قصيرة الشعر. والقيدود: الناقة الطويلة الظهر.
(١٨٥) كلمتان يزجر بهما الإبل.
(١٨٦) بعقوتهم، أي بفنائهم.
(١٨٧) الأهمال: جمع همل، وهو الشيء المسيب، ويراد به الصعب. ومخيسة: مذللة.
(١٨٨) بلدة عظيمة كانت بالقرب من بحر قزوين إلى الجنوب الشرقي منه.
(١٨٩) الجعاسيس: اللئام في الخلق والخلق.
(١٩٠) كان العباس شاعرًا غزلًا مطبوعًا من شعراء الدولة العباسية، وله مذهب حسن، ولديباجة شعره رونق، ولمعانيه عذوبة ولطف، ولم يكن يتجاوز الغزل إلى مديح ولا هجاء، ولا يتصرف في شيء من هذه المعاني، وقدمه أبو العباس المبرد في كتاب الروضة على نظرائه وأطنب في وصفه، وقال: رأيت جماعة من الرواة للشعر يقدمونه، قال: وكان العباس من الظرفاء ولم يكن من الخلعاء، وكان غزلًا ولم يكن فاسقًا، وكان ظاهر النعمة ملوكي المذهب شديد التظرف، وذلك بين في شعره، وكان قصده الغزل وشغله النسيب، وكان حلوًا مقبولًا غزلًا غزير الفكر واسع الكلام كثير التصرف في الغزل وحده، ولم يكن هجاء ولا مداحًا، وله ديوان طبع مع ديوان ابن مطروح بالآستانة سنة ١٢٩٨ﻫ وتجد أخباره وأشعاره في الأغاني (ج٨ ص١٥) وابن خلكان (ج١ ص٣٤٦) والشعر والشعراء (ص٥٢٥).
(١٩١) هو محمد بن مناذر، مولى لبنى يربوع، ويكنى أبا جعفر، شاعر فصيح، مقدم في العلم باللغة وإمام فيها، حتى أخذ عنه أكابر أهلها. وكان في أول أمره يتعبد ثم عدل عن ذلك، فهجا الناس وتهتك وخلع وقذف أعراض أهل البصرة حتى نفي عنها إلى الحجاز، فمات هناك سنة ١٩٨ﻫ. وتجد أخباره في الأغاني (ج١٧ ص٩) والشعر والشعراء (ص٥٥٣).
(١٩٢) الغرانيق: جمع غرنوق، وهو طائر مائي أسود وقيل أبيض يشبه الكركي.
(١٩٣) مصرصر: صائح بشدة.
(١٩٤) هو صالح بن عبد القدوس بن عبد الله بن عبد القدوس، من حكماء الشعراء، متهم بالزندقة، قوي الحجة، له منزلة سامية عند أهل مذهبه. نشأ في البصرة، وكان يقص على الناس ويغفلهم. توفي سنة ١٦٧ﻫ. وتجد أكثر أخباره في فوات الوفيات (ج١ ص١٩١) والدمري (ج١ ص٢٦).
(١٩٥) هو سعيد بن وهب أبو عثمان مولى بني سامة بن لؤي بن نصر، مولده ومنشؤه بالبصرة ثم صار إلى بغداد فأقام بها. وكانت الكتابة صناعته، فتصرف مع البرامكة فاصطنعوه وتقدم عندهم. وتجد أخباره في الأغاني (ج٢١ ص١٠٤).
(١٩٦) وجأه يوجأه ويجأه: ضربه باليد أو بالسكين. وخففت الهمزة ها هنا للشعر.
(١٩٧) كان الحسن بن وهب حسن الشعر والبلاغة، جيد اللسان، حلو البيان كأخيه سليمان، وكان موته بالشام. وتجد طرفًا من أخباره في الأغاني (ج٩ ص٢ وج٢٠ ص٥٤) وزهر الآداب (ج٣ ص٤٤).
(١٩٨) أعنقت: أسرعت.
(١٩٩) وردت هذه الأبيات في الأغاني وفيها بعض ألفاظ تخل بالآداب، وأثبتناها هنا كما وردت في ديوان أبي تمام.
(٢٠٠) المسناة: ما يبنى في وجه السيل.
(٢٠١) هو أشجع بن عمرو من ولد الشريد بن مطرود السلمي، وكان يكنى أبا الوليد، شاعر إسلامي عباسي، نشأ بالبصرة، وقال الشعر وأجاد فيه حتى عد من الفحول؛ وكان الشعر يومئذ في ربيعة واليمن، ولم يكن لقيس شاعر، فلما نجم أشجع وقال الشعر افتخرت به قيس. وانقطع إلى البرامكة ومدحهم واختص بجعفر فأصفاه مدحه، فأعجب به جعفر ووصله إلى الرشيد ومدحه فأعجب به أيضًا وأمده بالمال فأثرى وحسنت حاله في أيامه، وتقدم عنده، وله فيه المدائح المختارة، والقصائد السائرة. وتجد أشعاره وأخباره في الأغاني (ج١٧ ص٣٠) والشعر والشعراء (ص٥٦٢).
(٢٠٢) الطرمذار: المتكثر بما لا يفعل.
(٢٠٣) تفرق.
(٢٠٤) الصفائح: أحجار عراض تغطى بها القبور.
(٢٠٥) الصحاصح: جمع صحصح: وهي الأرض الجرداء المستوية الواسعة ذات حصى صغار.
(٢٠٦) الجوانح: الضلوع.
(٢٠٧) هو عربي قرشي شاعر فصيح مطبوع، وقد خص بالمتوكل حتى صار من جلسائه ثم أبغضه لأنه كان كثير السعاية إليه بندمائه فكان إذا خلا به عرفه أنهم يعيبونه ويثلبونه، فيكشف الخليفة عن ذلك فلا يجد له حقيقة، فنفاه إلى خراسان بعد أن حبسه مدة. وكان مذهبه في الشعر مذهب مروان بن أبي حفصة في هجاء آل أبي طالب وذمهم والإغراء بهم وهجاء الشيعة كقوله:
ورافضة تقول بشعب رضوى
إمام، خاب ذلك من إمام
إمام من له عشرون ألفًا
من الأتراك مشرعة السهام
وله أقوال في الغزل والعتاب وفي الوصف، توفي سنة ٢٤٩ﻫ. وتجد أخباره في الأغاني (ج٩ ص١٠٤) وابن خلكان (ج١ ص٤٩٧).
(٢٠٨) برية بين بالس وحلب.
(٢٠٩) خام: نكص وجبن.
(٢١٠) المشيح: المانع لما وراء ظهره. والأقب من الخيل: الدقيق الخصر الضامر البطن.
(٢١١) واحده دراج (بضم الدال وتشديد الراء) وهو طائر على خلقة القطا إلا أنه ألطف.
(٢١٢) الزالج من السهام: الذي يمشي على وجه الأرض ثم يمضي.
(٢١٣) الرامج: الملواح الذي يصاد به الصقور ونحوها من جوارح الطير.
(٢١٤) هو علي بن جبلة الأنباري، والعكوك لقبه، وهو من الموالي أبناء الشيعة الخراسانية من أهل بغداد، ولد في الحربية منها ونشأ فيها، وكان ضريرًا منذ ولادته مثل بشار بن برد، وهو شاعر مطبوع عذب اللفظ جزله، لطيف المعاني، مداح حسن التصرف، وقد استنفد شعره في مدح أبي دلف العجلي وأبي غانم حميد بن عبد الحميد الطوسي، وزاد في تفضيلهما وتفضيل أبي دلف خاصة حتى فضل ربيعة على مضر، فاستاء المأمون من ذلك وبلغه أبيات قالها العكوك في أبي دلف منها:
كل من في الأرض من عرب
بين باديه إلى حضره
مستعير منك مكرمة
يكتسيها يوم مفتخره
توفي سنة ٢١٣ﻫ. وتجد أكثر أخباره في الأغاني (ج١٨ ص١٠٠) وابن خلكان طبع بولاق (ج١ ص٤٩٥) والشعر والشعراء (ص٥٥٠).
(٢١٥) صارها: أمالها.
(٢١٦) العجب: أصل الذنب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤