الفصل الأول

تحوُّل المدنية الإسلامية

(١) توطئة

حمل الفتح الإسلامي الذي فتحه الخلفاء الراشدون في سبيل الدعوة الدينية من العناصر المادية والاجتماعية والسياسية ما كانت له نتائجه وآثاره، فبعد أن كانت الأموال في أيام النبي نحو أربعين ألفًا بين إبل وخيل، وبعد أن كان عمرُ بن الخطاب دهشًا مرتابًا حينما أبلغه أبو هريرة عند قدومه من البحرين، أنه أتى بخمسمائة ألف درهم، فاستكثرها عمرُ وقال: أتدري ما تقول؟ قال: نعم، مائةُ ألفٍ خمس مراتٍ. فصعد عمر المنبر وقال: «أيها الناس، قد جاءنا مال كثير، فإن شئتم كِلْنا لكم كيلًا، وإن شئتم عددنا لكم عدًّا» — بعد أن كان دهِشًا من هذه الثروة أصبحنا نرى بعد عهده بقليلٍ جسامة الهبات مما لا تعد هذه الأموال في جانبه شيئًا مذكورًا.

ونحن لا نعرض الآن للقول فيما وصلت إليه الثروة الإسلامية في أيام المأمون، ولا نعرض لفنون المدنيات العديدة التي سادت في عهده، لأننا رسمنا لأنفسنا خُطة مَنْ لا يريد استباق الحوادث وآثارها، ولا التاريخ ونتائجه، وإنَّا نجتزئ الآن بكلامنا عن عصر قريب من عصر النبي القريب العهد بتأثُّر الأذهان بالمثل العليا …

من أبي بكر الذي مات ولم يجدوا عنده من مال الدولة إلا دينارًا واحدًا سقط من غِرارة، والذي أوصى حينما دنا أجله بأن تباع أرض كانت له ويُدفع ثمنها بدلًا مما أخذه من مال المسلمين.

ومن عمر بن الخطاب الذي حرَّم على المسلمين اقتناء الضياع والزراعة؛ لأن أرزاقهم وأرزاق عيالهم وما يملكون من عبيد ومَوالٍ، كل ذلك يدفعه لهم من بيت المال، فما بهم إلى اقتناء المال من حاجة، وليس للمال في نفوسهم من إغراء، ولا إلى ضمائرهم من إفساد.

هذه حالُ المسلمين المادية والمعنوية في عهد النبى وصاحبيه، نظِّر بينها وبين ما جدَّ بعد ذلك من كثرة في المال وإسراف في الترف، مما كان له أعمق الأثر في تغير أحوال المسلمين الاجتماعية والمعيشية والخُلُقية.

يحدثنا ابن خلدون عن عامل أموي ليس بملك ولا خليفة، يحدثنا عن خالد القسري أمير العراق في أيام هشام، فيقول: إن غلَّته بلغت ثلاثة عشر ألف ألف درهم، ويُثبت لنا ابنُ الأثير دليلًا ليس بأقل مما ذهب إليه ابن خلدون قيمة وخطرًا؛ إذ يقول ما نصه: «إن طارقًا خليفةَ خالدٍ على الكوفة لما ختَن ولده أهدى إليه خالد ألف وصيف ووصيفة سوى الأموال والثياب»، وذكر اليعقوبي أن خالدًا فرق أموالًا عظامًا مبلغُها ستة وثلاثون ألف ألف درهم.

أجل! لقد تحوَّلت الاعتبارات الاجتماعية وِفاقًا للتغيرات المادية، فبعد أيام الورع وغلبة سلطان الدين والعدل في أعطيات المسلمين، بعد أيام عمر وصحابة عمر التي نعلم الشيء الكثير من وجهة نظر عُمُد الدين الإسلامي فيها إلى المال — وهو عنصر حيوي شديد الأثر في تحول النظم المعيشية والاجتماعية والسياسية أيضًا — وإلى ضرر اختزانه، فقد قال قائل لعمر بن الخطاب: «يا أمير المؤمنين، لو تركت في بيوت الأموال شيئًا يكون عدة لحادث إذا حدث!» فزجره عمر وقال له: «تلك كلمة ألقاها الشيطان على فيك وقاني اللهُ شرها! وهي فتنة لمن بعدي. إني لا أعد للحادث الذي يحدث سوى طاعة الله ورسوله، وهي عدَّتُنا التي بلغنا بها ما بلغنا.»

بعد هذه النظرات التقشقية البريئة، نظرات الورع والزهد، سرعان ما حملت الفتوح معها ومع تلك الثروات الطائلة التي أتت بها ما غيَّر عناصر عدة، فاختُزِن المال، وكانت الفتنة كما تنبأت نظرات عمر الصائبة إلى المال واختزانه، وذهبت في آثارها إلى ما هو أعمق وأخطر، ذهبت إلى الكيان الخلقي للعرب، فبدَّلت من سيرة قادتهم وسيرة شعبهم؛ كانت سيرة قادتهم عدلًا وإنصافًا، وسيرة شعبهم أنَفةً وانتصافًا، فتبدَّل الحال غير الحال حتى أتيح لمصعب بن الزبير مثلًا — وهو من بيت يناوئ بني أمية وينافسهم في الملك — أن يبذل ألف ألف درهم في زواجه من سُكينة بنت الحسين، ومثلها في زواج عائشة بنت طلحة، في حين كان جند المسلمين يتضوَّرون مسغبة وجوعًا حتى كتب عبد الله بن مصعب إلى عبد الله بن الزبير؛ لمناسبة ما يعانيه الجند وترف شقيقه زعيم الجند:

بلِّغ أمير المؤمنين رسالة
من ناصح لك لا يريد خداعا
بُضْع الفتاه بألف ألفٍ كامل
وتبيت ساداتُ الجنود جياعا
لو١ لأبي حفص أقول مقالتي
وأبث ما سأبثُّكم لارتاعا

صدق الشاعر في قوله؛ إن تلك الحال ليرتاع منها عمرُ حقًّا، وليَفرَقُ من ذكرها أبو بكر، ويلتاع من سماعها عليٌّ، ولكن الحال تغيرت إلى مدًى بعيد، حتى أصبح المال غرضًا تشرئبُّ لحيازته الأعناق، وتنزع نحو تملكه النفوس، إلى أن رأينا فيما بعد أن الحجاج بن يوسف لما حاصر الكعبة وفيها ابن الزبير، وتردد جنده في ضربها بالمنجنيق؛ جاء بكرسي وجلس عليه وقال: «يا أهل الشام، قاتلوا على أعطيات عبد الملك»؛ ففعلوا.

ذلك هو أثر المال في الأخلاق والأحوال والنفوس طبقًا للتغيرات الاجتماعية.

ولنحاول فيما سنعقده من الفصول الآتية تبيان حال الدولة العربية أيام عثمان، وكيف وصل الأمر إلى معاوية، وكيف خرج المُلكُ من بني أمية حتى وصل إلى بني العباس، ولنحاول بعد هذه التقدمةِ دراسةَ الحياة الأدبية إلى جانب دراستنا السياسية الاجتماعية؛ فإن ذلك ينفعنا كثيرًا فيما نرومه من التكلم ببسطة في القول وتصوير صحيح لعصر المأمون الذهبي، ولا سيما الحياة الأدبية والعلمية فيه، مُلاحظين في ذلك كله جانب القصد والإيجاز، مارِّين سراعًا على جُلِّ الحوادث الكبار في ذاتها، والتي لا تعنينا كثيرًا في موضوعنا — مثل عصر معاوية — مما نرجو أن نوفق في المستقبل القريب فنكتب عنه وعمَّا فيه من أسرار وثورات.

(٢) نظام الحكم في عهد الصحابة

الناس من حيث ميولهم ومعتقداتهم، دينية كانت أو سياسية، لا يكادون يَعدُون طبقة من ثلاث: محافظين، ومعتدلين، ومتطرفين.

ولسنا آخذين بسبيل من التوضيح لأحكام هذه الجماعات أو الأحزاب في حياة عثمان، ولا نظر كل فئة منهم إلى سياسة حكومته، وإنما يكفينا أن نقول: إن هذه الفئات التي تكوِّن دائمًا قوة الرأي العام الذي كان له في حكومات الصحابة صوت يؤبه له وإرادة تحترم، مع مراعاة طبيعة النفسية العربية البدوية الشديدة الإباء والأنفة، هذه الفئات لم يكن شبابها ولا كهولها، زهادها ولا النفعيون فيها، براضِينَ عن حكومة عثمان.

كان نظام الحكم في عهد الصحابة من حيث توزيع السلطات نظامًا تُيُوقراطيًّا — إذا صح لنا هذا التعبير، وهو صحيح لا محالة — ذلك لأنهم بإيمانهم وتقواهم وكامل إسلامهم جعلوا الله تعالى مصدر السلطات الدينية والدنيوية، فكل شيء لله؛ المال مال الله، والجند جند الله.

ومن هذه الناحية توافرت الشورى، وتوافرت الكرامة الدينية، وربما كان المحافظون من رجال الدين يتبرمون من هذه الناحية أيضًا بمنهج حكومة عثمان، التي لا نشك أن حزبها أيام عثمان لم يكن بذي خطر، اللهم في ماضيه من حيث الزعامة والسيادة وما إلى ذلك في العصر الجاهلي، ولكنه فاز أخيرًا ولعبت الجماعة العثمانية، ومنهم الأمويون، دورَهم المعروف ذا الأثر الكبير في العقلية العربية والمدنية الإسلامية.

(٣) حكومة عثمان ونظر الجماعات العربية إليها

وبعدُ، فماذا نقم الشباب والشيوخ من حكومة عثمان؟

أما نحن فلا يطلب منا أن نبدي رأينا في عثمان، فهو صحابي جليل، وله أثره الخالد في جمع القرآن وغير القرآن، وله دينه السمح الذي لا تشوبه شائبة، وما كان الدين ليحتم على الناس جميعًا أن يكون نظرهم إلى الحياة الدنيا نظر التقشف والزهد، ولا يطلب منا أن نُثبت ضعف الحكومة العثمانية، وإنما يُطلب منا أن نسرد الحوادث بإيجاز، ولنا في تسلسل هذه الحوادث ودراستها وتقييد آثارها ما قد يسمح لنا بالتعرض له حين معالجتنا الكلام عن عصرنا فيما بعد.

نعود فنتساءل: ماذا نقم الشباب والشيوخ من حكومة عثمان؟

يقول اليعقوبي: «إن عثمان آثر القرباء، وحمى الحمى، وبنى الدار، واتخذ الضياع والأموال بمال الله والمسلمين، ونفى أبا ذر صاحب رسول الله وعبد الرحمن بن حنبل، وآوى الحكم بن أبي العاص وعبد الله بن سعد بن أبي سرح طريدي رسول الله ، وأهدر دم الهرمزان ولم يقتل عبيد الله بن عمر به، وولَّى الوليد بن عقبة الكوفة فأحدث في الصلاة ما أحدث ولم يمنعه ذلك من إعاذته إياه.»

ويذكر اليعقوبي — في مكان آخر — ما كان من إغضاب عثمان لعائشة أم المؤمنين، ومكانةُ عائشة مكانتُها، وأنه نقص ما كان يعطيها عمرُ بن الخطاب، وأنها تربَّصت بعثمان حتى رأته يخطبُ الناس فدلَّت قميص رسول الله ونادت: «يا معشر المسلمين، هذا جلباب رسول الله لم يَبْلَ، وقد أبلى عثمان سُنَّته.» وليس أدل على شدة حفيظتها عليه من امتناعها أن تقوم بالصلح بينه وبين الخارجين عليه حين اشتد عليه الأمر وصار إليها مروان فقال لها: يا أم المؤمنين، لو قُمت فأصلحت بين هذا الرجل وبين الناس!

قالت: قد فرغتُ من جهازي وأنا أريد الحج.

قال: فيدفع إليك بكل درهم أنفقته درهمين.

قالت: «لعلك ترى أني في شك من صاحبك! أما والله لوَدِدْتُ أنه مُقطَّع في غِرارة من غرائري، وأني أُطيق حمله فأطرحه في البحر.»

قلنا: إن نظام الحكم في عهد الصحابة من حيث توزيع السلطات كان نظامًا تيوقراطيًّا في إرجاعه كل شيء إلى الله تعالى، وأن المال مال الله، والجند جند الله، وأن الحكم لله لا للناس.

ويقول لنا التاريخ: إنه كان بين عثمان وخازن بيت المال في عهده مشادَّة ومنافرة، وإن جُلَّ النُّقَّاد اتخذوا من هذه المشادَّة مطعنًا في سياسته المالية، وثُلمة يتهجمون منها عليه، وكانت هذه المشادة بينه وبين خازن بيت المال في أمر عطائه، حتى قال له عثمان: «إنما أنت خازن لنا؛ إذا أعطيناك فخذ، وإذا سكتنا عنك فاسكت»، فقال: «كذبت والله! ما أنا لك بخازن ولا لأهل بيتك، إنما أنا خازن المسلمين»، وجاء بالمفتاح يوم الجمعة وعثمان يخطب، فقال: «أيها الناس، زعم عثمان أني خازن له ولأهل بيته، وإنما كنت خازنًا للمسلمين، وهذه مفاتيحُ بيت مالكم.» ورمى بها، فأخذها عثمان ودفعها إلى زيد بن ثابت.

وليس من شكٍّ في أن شباب العرب عامة، وقريش خاصة، لهم آمالهم ولهم مطامعهم وهم في مقتبل عمرهم حين يكون الطموح إلى اعتلاء المراتب الرفيعة مصطدمًا بالوازع الديني، وأنهم تألموا أن ينال عبد الله بن خالد بن أسيد خمسين ألف درهم، ومروان بن الحكم خمسة عشر ألفًا، مع أن عثمان استردها منهما لما عُوتب ونُوقش، وتألموا أن يذهب آل عثمان بمناصب الدولة وهم يرون في أنفسهم من الكفايات والمواهب، ومن الحسب والنسب ما لا يقل عمَّا لهؤلاء.

•••

وما لنا نذهب بعيدًا في الاستدلال على نظريتنا هذه والنفس الإنسانية هي هي الطموح إلى زينة العاجلة وزخرفها، وقد جاء في الأغاني في معرض كلامه عن أبي قَطِيفة الشاعر:

إن ابن الزبير مضى إلى صفية بنت أبي عبيد، زوجة عبد الله بن عمر، فذكر لها أن خروجه كان غضبًا لله تعالى ورسوله عليه السلام والمهاجرين والأنصار من أثرة معاوية وابنه وأهله بالفيء، وسألها مسألته أن يُبايعه، فلما قدَّمت لزوجها عشاءه ذكرت له أمر ابن الزبير واجتهاده، وأثنت عليه وقالت: ما يدعو إلا إلى طاعة الله — جل وعز — وأكثرت القول في ذلك، فقال لها: أما رأيت بغلات معاوية اللواتي كان يحج عليهن الشُّهب! فإن ابن الزبير ما يريد غيرهن.

هذا رأي كبير من رجال العصر في خروج ابن الزبير يكشف لك ما كان يخالج نفوس الشباب من طموح إلى السلطان ولذاته، مع أن ابن الزبير كان خارجًا على أهل بيت يرى جُلُّ الناس في ذلك العصر أنهم اغتصبوا الملك من أهله اغتصابًا، ويظهر أن معاوية نفسه كان قد اقتنع بأنه لم يكن على الحق حتى كاد يتجنَّب مناجزة عليٍّ الحرب والعداء حين ذكره عليٌّ بكلام للرسول ، لولا مقالة ولده له: «كلا! ولكنك رأيت سيوف بني هاشم حدادًا تحملها شدادٌ»، فثارت ثائرته وقال: «ويلك! ومثلى يُعيَّر لجُبن! هلم إليَّ الرمح!» وأخذ الرمح وحمل على أصحاب عليٍّ.

فمعقول أن يغضب هؤلاء الشباب وأمثالهم من حكومة عثمان وهم يرون الغنائم والثروات تكتسح بلادهم — وللمال حكمه وسلطانه — ومعقول أيضًا أن يغضب منها أمثال عمرو بن العاص الذي قال له عثمان — يوم ندبه ليُعذرَه عند الناس فما كان منه إلا أن أضرم جذوة الحقد عليه: «يا ابن النابغة، والله ما زِدتَ أن حرَّضت الناس عليَّ … يا ابن النابغة، قمل درعك مذ عزلتك عن مصر.»

هذا من ناحية النفعيين وفيهم المتطرفون، وهناك المعتدلون، وهؤلاء قد نأوا بجانبهم عن الفتنة، واعتزلوا الناس من شرها وآثارها، وهم لها كارهون، ومنها ناقمون، وهناك المحافظون الأتقياء حقًّا أمثال أبي ذر ورافع بن خديج وغيرهما من صحابة الرسول الذين نعلم من تقواهم وزهدهم، ومن حبهم للآخرة وإعلاء كلمة الدين الشيء الكثير، والذين يقول فيهم الجاحظ في رسالته عن بني أمية:٢ «إنهم كانوا على التوحيد الصحيح والإخلاص المحض.»
ولنوضح قليلًا هذا النوع من المتقشفين حقًّا والمخلصين في عقيدتهم الدينية صدقًا، ولنضرب مثلًا بأبي ذر الغفاري، ولننظر ما يحكيه لنا ابن الأثير في هذا السبيل، فهو معتدل مُستَقْرٍ للحقيقة أكثر مِن سواه، يقول ابن الأثير: إن أبا ذر كان يذهب إلى أن المسلم لا ينبغي له أن يكون في ملكه أكثر من قوت يومه وليلته، أو شيء ينفعه في سبيل الله أو يعِدَّه لكريم، وكان يأخذ بظاهر القرآن: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا في سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ فكان يقوم بالشام ويقول: «يا معشر الأغنياء، واسوا الفقراء، بشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاوٍ من نار تُكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.» فما زال حتى وَلِع الفقراء بمثل ذلك، وأوجبوه على الأغنياء، وشكا الأغنياء ما يلقونه منهم؛ فأرسل معاوية إليه بألف دينار في جنح الليل فأنفقها، فلما صلَّى معاوية الصبح دعا رسولَه الذي أرسله إليه، فقال: اذهب إلى أبي ذر فقل له: أنقِذْ جسدي من عذاب معاوية؛ فإنه أرسلني إلى غيرك وإني أخطأتُ بك. ففعل ذلك، فقال أبو ذر: يا بنيَّ، قل له: والله ما أصبح عندنا من دنانيرك دينار، ولكن أخِّرنا ثلاثة أيام حتى نجمعها. فلما رأي معاوية أن فعله يصدق قوله كتب إلى عثمان: إن أبا ذرٍّ قد ضيَّق عليَّ، وقد كان كذا وكذا — للذي يقوله الفقراء — فكتب إليه عثمان: «إن الفتنة قد أخرجت خَطْمَها٣ وعينيها ولم يبق إلا أن تَثِبَ، فلا تنكأ القُرْح، وجهِّز أبا ذر إليَّ وأبعث معه دليلًا، وكفكف الناس ونفسك ما استعطت.» وبعث إليه معاوية بأبي ذر، فلما قدم المدينة ورأى المجالس في أصل جبل سَلْع، قال: بشِّر أهل المدينة بغارة شعواء وحرب مذكار. ودخل على عثمان فقال له: ما لأهل الشام يشكون ذرب٤ لسانك. فأخبره، فقال: يا أبا ذر، عليَّ أن أقضي ما عليَّ، وأن أدعو الرعية إلى الاجتهاد والاقتصاد، وما عليَّ أن أجبرهم على الزهد. ثم انتهت المُحاجَّة إلى أن خرج أبو ذر من المدينة ونزل الرَّبذة٥ فهذا النوع من التقشُّف المتبرم بحكومة عثمان، وذلك النوع من الشباب الطامح بعينيه إلى ما أصاب سواه منها، وتلك الجماعة المعتزلة التاركة الحبل على الغارب — كل هذه العوامل تجعلنا نقنع بنجاح الفتنة ضد حكومة عثمان وانتهائها بتلك المأساة المروِّعة التي كان فيها ما كان مما يحكيه لنا أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: من قتل عثمان رضي الله عنه، وما انتُهك منه، ومن خبطهم إياه بالسلاح، وبَعْج بطنه بالحِراب، وفَرْي أوداجه بالمشاقِص،٦ وشدخ هامته بالعمد، مع ضرب نسائه بحضرته، وإقحام الرجال على حرمته، مع اتقاء نائلة بنت الفَرافِصة٧ عنه بيدها حتى أطَنُّوا٨ أصبعين من أصابعها.

كانت تلك المأساة المروعة التي تُفتِّت القلوب الجلامد، وتنفجَّر لها العيون الجوامد، فلنقف عند ذكراها وَالِهين آسفين.

هوامش

(١) هذه الأبيات من عروض الكامل وتفاعيله:
متفاعلن متفاعلن متفاعلن
مرتين، وفي قوله: «لو لأبي» زحاف يقال له: الخزل، وهو سكون التاء وسقوط الألف من متفاعلن كما هو ظاهر في «لو لأبي»، فيبقى متفعلن، وهذا البناء غير مقول، فيصرف إلى بناء مقول وهو: مفتعلن. والخزل في الكامل قبيح.
(٢) راجع رسالة الجاحظ في بني أمية في باب المنثور من ملحق الكتاب الثالث في المجلد الثاني.
(٣) الخطم: الأنف.
(٤) ذرب اللسان: حدَّته.
(٥) الربذة: من قرى المدينة على ثلاثة أميال، قريبة من ذات عرق، وبها قبر أبي ذر الغفاري.
(٦) المشاقص: جمع مشقص، وهو نصل عريض، وقيل: سهم.
(٧) الفرفصة: بفتح الفاء لا غير، وليس في العرب ما يسمى بالفرافصة بالألف واللام غيره، كما أن أبا علي القالي ذكر أن كل ما في العرب فرافصة بضم الفاء إلا فرافصة هذا أبا نائلة امرأة عثمان رضي الله عنه.
(٨) أطنوا: قطعوا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤