الفصل الخامس

أبو جعفر المنصور

كان المنصور ملكًا سديد الرأي، محكم التدبير، وكان قوي العزيمة، جريء القلب، يمضي إلى غايته مُضيَّ السهم إلى الرميَّة لا يثنيه عنها شيء، سياسي حاذق لا يقبل أن تتدخل في سياسته عاطفة ولا خلق ولا اعتبار آخر إلا فوزه السياسي ليس غير، وهو إلى ذلك داهية، وربما اضطره الدهاء إلى شيء إن لم يكن الإثم الخلقي فهو يشبهه في كثير من الأحيان.

وهو من هذه الناحية أحد أولئك الساسة الذين عرفهم التاريخ من حين إلى حين بالإقدام في غير تردد ولا لين ولا تهيُّب للوسائل، والذين مثَّلهم «مكياڤلي» أحسن تمثيل.

فقد ذكر ابن الأثير أنه أحضر مرة ابن أخيه عيسى بن موسى وأمره بالمسير إلى المدينة لقتال محمد بن عبد الله، فقال: شاوِرْ عمومتك يا أمير المؤمنين، قال المنصور: فأين قول ابن هرمة:

نزور امرأً لا يمخض القوم سره
ولا ينتجي الأدنين فيما يحاول
إذا ما أتى شيئًا مضى كالذي أتى
وإن قال: إني فاعلٌ، فهو فاعل؟

ثم قال: امض أيها الرجل، فوالله ما يراد غيري وغيرك، وما هو إلا أن تشخص أنت أو أشخص أنا. فسار وسيَّر معه الجنود، وقال المنصور لما سار عيسى: «لا أبالي أيهما قتل صاحبه!»

وكان إلى جانب ذلك كما قال الجاحظ: مُقدَّمًا في علم الكلام، ومُكثرًا من كتاب الآثار، ولكلامه كتاب يدور في أيدي العارفين والورَّاقين معروف عندهم.

وفي وصف المنصور يقول يزيد بن هبيرة: «ما رأيت رجلًا قط في حرب ولا سمعت به في سلم أمكر ولا أبدع ولا أشد تيقظًا من المنصور، لقد حصرني في مدينتي تسعة أشهر ومعي فرسان العرب، فجهدنا كل الجهد أن ننال من عسكره شيئًا نكسرُه به فما تهيَّأ، ولقد حصرني وما في رأسي بيضاء، فخرجت إليه وما في رأسي سوداء.»

وكان المنصور يعطي في موضع العطاء ويمنع في موضع المنع، ولكن المنع كان أغلب عليه، حتى ضرب المثل بشُحِّه وسمي «أبا الدوانيق»؛ لشدته في محاسبة العمال والصناع على الحبة والدانق.

وقد يكون من المستطرف أن نذكر شيئًا مما رواه الطبري في تمثيل هذه الناحية من أخلاق المنصور، فقد جاء فيه أن واضحًا مولاه قال: «إني لواقف يومًا على رأس أبي جعفر إذ دخل المهدي وعليه قباء أسود جديد، فسلم وجلس، ثم قام منصرفًا وأتبعه أبو جعفر بصره؛ لحبه له وإعجابه به، فلما توسَّط الرواق عثر بسيفه فتخرق سوادُه، فقام ومضى لوجهه غير مكثرت لذلك ولا حافل به، فقال أبو جعفر: ردُّوا أبا عبد الله. فرددناه، فقال: يا أبا عبد الله، أستقلالًا للمواهب أم بطرًا بالنعمة، أم قلة علم بالمصيبة كأنك جاهل بما لك وما عليك؟»

فانظر إليه كيف لام ابنه وولي عهده وقد كان عنده أثيرًا، ولامه بمحضر من حاشيته في شيء ليس ذا بال عند أوساط الناس فضلًا عن الخلفاء!

ومهما يُعتذرُ للمنصور بحرصه على الاقتصاد في أموال دولة ناشئة، وأخذ ولي العهد بتجنب الإسراف والإهمال، فقد نرى أن هذه الحادثة وأمثالها — مما سنرويه لك — تظهر ناحية صغيرة من نفسية المنصور، فقد كانت أمامه جلائل الأعمال في الدولة يستطيع أن يُظهر فيها ميله إلى الحرص والاقتصاد دون أن يسف إلى هذه الصغائر.

•••

على أننا لا نستطيع أن نمتنع عن ذكر معاوية مؤسس الدولة الأموية والمقارنة بينه وبين المنصور مؤسس الدولة العباسية حقًّا من هذه الناحية؛ فقد كان معاوية — كما رأيت — أكرم الناس، وأشدهم تسخيرًا للأموال العامة والخاصة في الأغراض السياسية، وكان المنصور أشحَّ الناس بالأموال العامة والخاصة، يُؤثر التضحية بالدماء والكفايات في سبيل أغراضه السياسية على التضحية بالأموال.

ولعل من الإنصاف أن نلاحظ الفرق بين العصرين، وبين الدعائم التي اعتمد عليها الرجلان في إقامة ملكهما، فقد كان معاوية في بيئة عربية لم تخلُص بعدُ من البداوة ولا من سماحة الدين، فكان الحلمُ والكرمُ أليقَ به وأنفع، بينما كان المنصور في بيئة من الفرس والموالي تأثُّرها بالحضارة شديد، وحظها من الدين قليل.

ولو بسط معاوية سلطانه بالسيف لفشل، ولكننا نرى أن لو بسط المنصور سلطانه بالمال في شيء من الحزم لوُفِّق ولحقن الدماء، ولرسم لخلفائه خطة أقرب إلى اللين والعافية من هذه الخطة العنيفة التي ستراها في سيرة أكثرهم.

وحدث الوضين بن عطاء قال: «استزارني أبو جعفر — وكانت بيني وبينه خَلَالة قبل الخلافة — فصرتُ إلى مدينة السلام، فخلونا يومًا فقال لي: يا أبا عبد الله، ما مالُك؟ فقلت: الخير الذي يعرفه أمير المؤمنين، قال: وما عيالُك؟ قلت: ثلاث بنات والمرأة وخادم لهنَّ، فقال لي: أربعٌ في بيتك؟ قلتُ: نعم، قال: فوالله لردَّد ذلك عليَّ حتى ظننت أنه سيموِّلني، قال: ثم رفع رأسه إلي فقال: أنت أيسرُ العرب؛ أربع مغازل يدرن في بيتك!»

على أن شح المنصور لم يكن يخلو أحيانًا من بعض الظرف والفكاهة؛ فقد ذكر إبراهيم بن عبد الرحمن أن أبا جعفر كان نازلًا على رجل يقال له: أزهر السمان، قبل خلافته، فلما ولي الخلافة زاره الرجل وطلب صلته، فوصله، ثم عاوده فوصله، وجاءه في الثالثة فقال له المنصور: يا أزهر، ما جاء بك؟ قال: دعاء سمعته منك أحببت أن آخذه عنك، قال: لا ترده فإنه غير مستجاب؛ لأني قد دعوت الله أن يريحني من خِلْقَتك فلم يفعل! وصرفه ولم يعطه شيئًا.

وربما كان من العدل التاريخي أن نحتاط أمام هذه الروايات الكثيرة التي أسرف المؤرخون في روايتها إثباتًا لبخل المنصور وشحِّه؛ فقد يكون مصدرها ما ألفوه من إسراف الخلفاء، ولعل المنصور لم يبلغ أكثر من أنه كان شديد الميل إلى الحرص والتدبير، والنُّفرة من الملحفين، وأخذَ أهل بيته بذلك كله.

ولم يفت المنصور أن يعلل ذلك البخل؛ فقد جاء في عيون الأخبار أنه قال في مجلسه لقوَّاده: «صدق الأعرابي حيث يقول: أجِعْ كلبك يتبعْك»، فقام أبو العباس الطوسي وقال: «يا أمير المؤمنين، أخشى أن يلوِّح له غيرك برغيف فيتبعه ويدعك!»

وقد كان أبرويزُ أحكمَ من المنصور إذ قال لابنه شيرويه وهو في حبسه: «لا توسعن على جندك فيستغنوا عنك، ولا تُضيِّقنَّ عليهم فيضجُّوا منك، أعطهم عطاء قصدًا، وامنعهم منعًا جميلًا، ووسِّع عليهم في الرجاء، ولا تُسرف عليهم في العطاء.»

•••

وليس أدل على الشخصية السياسية لهذا الخليفة من سيرته مع ثلاثة هم في حقيقة الأمر أكبر زعماء الدولة في عصره، فهذه السيرة تبين لك — في وضوح وجلاء — ما قدمناه من أن المنصور كان «مكياڤلي» السياسة لا يُحجم عن الغدر وقطع الرحم وكفر النعمة إذا رأى منفعته في ذلك.

وهؤلاء الزعماء هم؛ أولًا: أبو مسلم الذي أخلص في نصرة المنصور والسهر على ملكه، فلم يألُ جهدًا في تعقب الخارجين على الملك، لا يفرقُ في ذلك بين أشياع المنصور وأهله من بني العباس، ولا خصومه الذين يكيدون له في السر أو في العلانية، فقتل الشيباني والكرماني وأبا سلمة الخلال، وحارب عمَّ المنصور عبد الله بن علي واستولى على ما في عسكره من الغنائم والأسلحة. وثانيًا: عمه عبد الله بن علي، وهو الذي فعل ما فعل في نصرة الدعوة العباسية وتقتيل خصومها من بني أمية، فضلًا عن حروبه الموفقة في صد جيوش مروان، ومع ذلك فقد سلط عليه المنصورُ أبا مسلم فحاربه وقهره، ولما لم يصل إلى قتله كلَّف ابنَ عمه عيسى بن موسى والي الكوفة أن يقتله، فلما لم يقتله تولَّى المنصورُ قتلَه بنفسه؛ ليأمن ما قد يحدثه من الثورة والاضطراب. وثالثًا: ابن عمه وولي عهده عيسى بن موسى، وقد رأيت كيف أشخصه المنصور لقتال محمد بن عبد الله ملحًّا في ذلك، حتى إذا أُشخِص قال المنصور: «لا أبالي أيهما قتل صاحبه!» ثم ما زال المنصور يكيد لهذا الأمير حتى خلعه من ولاية العهد، وبايع مكانه لابنه المهدي، ثم مضى في الكيد له. وقد يكون من المفيد أن ننقل ما جاء في المستطرف عن خلع عيسى بن موسى من ولاية العهد بمعرفة المنصور، وما قاله ابن الأثير عن قتل عمه عبد الله بن علي، فإن فيما قالاه تصويرًا دقيقًا لسياسة المنصور، وتمثيلًا لحرصه على الملك الذي كان لا يبالي في سبيل توطيده أن ينكث بما عقد من عهد، أو ينقض ما أبرم من ميثاق.

جاء في المستطرف: أن عيسى بن موسى لما غدر به المنصور ونقل ولاية العهد منه إلى المهدي ابنه أنشد:

أينسى بنو العباس ذبِّي عنهمو
بسيفي ونار الحرب زاد سعيرها
فتحت لهم شرق البلاد وغربها
فذلَّ مُعاديها وعزَّ نصيرها
أُقطِّع أرحامًا على عزيزة
وأُبدي مكيداتٍ لها وأثيرها
فلما وضعتُ الأمر في مستقره
ولاحتْ له شمسٌ تلألأ نورها
دُفعتُ عن الأمر الذي أستَحقُّه
وأوسق أوساقًا من الغدر عيرها

وجاء في ابن الأثير أن المنصور أحضر عيسى بن موسى بعد أن خلع نفسَه، وسلَّم إليه عمه عبد الله بن علي وأمره بقتله وقال له: إن الخلافة صائرة إليك بعد المهدي؛ فاضرب عنقه، وإياك أن تضعف فتنقض عليَّ أمري الذي دبرته. ثم مضى إلى مكة وكتب إلى عيسى من الطريق يستعلم منه عمَّا فعل في الأمر الذي أمره، فكتب عيسى: «قد أنفذت ما أمرت به.» فلم يشكَّ في أنه قتله — وكان عيسى حين أخذ عبد الله من عند المنصور دعا كاتبه يونس بن فروة وأخبره الخبر، فقال: أراد أن يقتله ثم يقتلك؛ لأنه أمر بقتله سرًّا، ثم يدعيه عليك علانية؛ فلا تقتله، ولا تدفعه إليه سرًّا أبدًا، واكتُم أمره، ففعل ذلك عيسى — فلما قدِم المنصور وضع على أعمامه مَن يُحرِّكهم على الشفاعة في أخيهم عبد الله، ففعلوا وشفعوا، فشفَّعهم وقال لعيسى: إني كنت دفعت إليك عمي وعمك ليكون في منزلك، وقد كلمني عمومتك فيه وقد صفحت عنه فائْتِنَا به، قال: يا أمير المؤمنين، ألم تأمرني بقتله فقتلتُه؟ قال: ما أمرتك؟ قال: بل أمرتني، قال: ما أمرتك إلا بحبسه وقد كذبتَ، ثم قال المنصور لعمومته: إن هذا قد أقر بقتل أخيكم، قالوا: فادفعه إلينا نقيدُه به. فسلمه إليهم وخرجوا به إلى الرحبة، واجتمع الناس وشهر الأمر وقام أحدهم ليقتله، فقال عيسى: أفاعلٌ أنت؟ قال: إي والله! قال: رُدُّوني إلى أمير المؤمنين. فردوه إليه، فقال له: إنما أردت بقتله أن تقتلني، هذا عمك حيٌّ سوي، قال: ائتنا به. فأتاه به، قال: يدخل حتى أرى رأيي، ثم انصرفوا فأمر فجُعِل في بيت أساسه ملحٌ، وأُجري الماء في أساسه فسقط عليه فمات.

وهذه الرواية يؤيدها أكثر المؤرخين من العرب. وقد فعل أبو مسلم مع سليمان بن كثير — وكان من أركان هذه الدولة — ما يضيف حلقة إلى سلسلة الاضطهادات التي ارتكبت تأييدًا لهذا الملك، فقد أحضره إليه وقال له: أتحفظ قول الإمام لي: «من اتهمته فاقتله؟» قال: نعم، قال: فإني قد اتهمتُك. فخاف سليمان وقال: أناشدك الله! قال: لا تناشدني؛ فأنت منطوٍ على غش الإمام. وأمر بضرب عنقه.

وقد سئم الناس هذه الحالة وثار بعض أمراء بني العباس أنفسهم احتجاجًا على ما أريق من الدماء، فقد جاء في الأغاني في أخبار عبد الله بن عمر العقيلي الشاعر المخضرم، أن محمد بن عبد الله لما سمع للعقيلي قصيدته التي مطلعها:

تقول أمامةُ لما رأت
نشوزي عن المضجع الأنفس

والتي ختامها:

فما أنس لا أنس قتلاهم
ولا عاش بعدهم من نَسِي

بكى واستعبر، فقال له عمه الحسن بن الحسن بن علي: أتبكي على بني أمية وأنت تريد ببني العباس ما تريد؟! فقال: «والله يا عم، لقد كنا نقمنا على بني أمية ما نقمنا، فما بنو العباس إلا أقل خوفًا لله منهم، وإن الحجة على بني العباس لأوجب منها عليهم، ولقد كانت للقوم أخلاق ومكارم ليست لأبي جعفر.»

وذكر الأصفهاني أيضًا أن محمدًا وآله وهبوا للشاعر مالاً لمدحته تلك، وهكذا تغيرت نفوس آل البيت من إسراف العباسيين في الفتك والقتل.١

•••

وماذا كان حظ أبي مسلم؟ وكيف كان جزاؤه على ذلك الإخلاص الدموي؟ كان جزاؤه أن قُتل بيد الخليفة نفسه عملًا بسنته المعروفة: «اقتُل من اتَّهمتَه»، مع أنه كان لا يقطع أمرًا دونه.

وقد ذكر الجاحظ أن المنصور لما همَّ بقتل أبي مسلم سقط بين الاستبداد برأيه والمشاورة فيه، فأرق في ذلك ليلته، فلما أصبح دعا بإسحاق بن مسلم العقيلي، فقال له: حدثني حديث الملك الذي أخبرتني عنه بحرَّان، قال: أخبرني أبي عن الحصين بن المنذر أن ملكًا من ملوك فارس — يقال له: سابور الأكبر — كان له وزير ناصح قد اقتبس أدبًا من آداب الملوك، وشابَ ذلك بفهم في الدين، فوجَّهه سابور داعية إلى خراسان، وكانوا قومًا عجمًا يُعظِّمون الدين جهالة بالدين، ويُخلُّون بالدين استكانة لقوة الدنيا وذلًّا لجبابرتها، فجمعهم على دعوة من الهوى يكيد به مطالب الدنيا، واعتزَّ بقتل ملوكهم لهم وتخوُّلهم إياهم — وكان يقال: لكل ضعيف صولة، ولكل ذليل دولة — فلما تلاحمت أعضاء الأمور التي لقح استحالتْ حربًا عوانًا شالتْ أسافلها بأعاليها، فانتقل العز إلى أرذلهم، والنباهة إلى أخملهم، فأشربوا له حبًّا مع خفض من الدنيا افتتح بدعوة من الدين، فلما استوسقت له البلاد بلغ سابور أمرهم وما أحال عليه من طاعتهم، ولم يأمن زوال القلوب وغدرات الوزراء، فاحتال في قطع رجائه عن قلوبهم — وكان يقال:

وما قطع الرجاء بمثل يأس
تبادهه القلوب على اغترار

فصمم على قتله عند وروده عليه برؤساء أهل خراسان وفرسانهم، فقتله، فبغتهم بحدث فلم يَرُعهم إلا ورأسه بين أيديهم، فوقف بهم بين الغربة ونأي الرجعة وتخطُّف الأعداء، وتفرق الجماعة، واليأس من صاحبهم، فرأوا أن يستتموا الدعوة بطاعة سابور، ويتعوضوه من الفرقة، فأذعنوا له بالملك والطاعة، وتبادروه بمواضع النصيحة، فملكهم حتى مات حتف أنفه. فأطرق المنصور مليًّا ثم رفع رأسه وهو يقول:

لذي الحلم قبل اليوم ما تُقرَع العصا
وما عُلِّم الإنسان إلا ليعلما

وأمر إسحاق بالخروج ودعا بأبي مسلم، فلما نظر إليه داخلًا قال:

قد اكتنفتك خلَّات ثلاث
جلبن عليك محذور الحمام
خلافك وامتنانك ترتميني
وقودك للجماهير العظام

ثم وثب إليه ووثب معه بعض حشمه بالسيوف، فلما رآهم وثب فبدره المنصور فضربه ضربة طوحه منها، ثم قال:

اشرب بكأس كنت تسقي بها
أمرَّ في الحلق من العلقم
زعمت أن الدين لا يُقتضى
كذبت فاستوفِ أبا مجرم

ثم أمر فخزَّ رأسه وبُعث به إلى أهل خراسان وهم ببابه، فجالوا حوله ساعة ثم ردهم عن شغبهم انقطاعُهم عن بلادهم وإحاطة الأعداء بهم، فذلَّوا وسلَّموا له، فكان إسحاق إذا رأى المنصور قال:

وما ضربوا لك الأمثال إلا
لتحذو إن حذوت على مثال

وكان المنصور إذا رآه قال:

وخلفها سابور للناس يُقتدَى
بأمثالها في المعضلات العظائم

وما أجمل تلك الجملة التي قالها محمد بن عبد الله العلوي حين أمَّنه المنصور على نفسه، فقد قال: أي أمان تعطيني؛ أمان ابن هبيرة، أم أمان عمك عبد الله، أم أمان أبي مسلم؟!

ولقد تنفس المنصور حين قتل أبا مسلم، حتى قال له بعض أقربائه ساعة قتله: عُدَّ هذا اليوم أول يوم من خلافتك.

•••

على أنه من الحق أن نقرر أن عدوان المنصور وإسرافه في التنكيل بخصومه له قيمته في الدلالة على عرفانه بحق الملك، وحرصه على نجاة الدولة من أخطار البغي والخروج على النظام، ففي سبيل هذه الغاية أسرف في سفك الدماء، وتقطيع الأرحام، وقتل أمثال بني الحسن والحسين، والديباج الأصفر، والنفس الزكية، وقتل عمه وقائده، وترك خزانة رءوس فيما ترك ميراثًا لابنه المهدي.

ولقد كان مع هذه القسوة ثاقب الرأي، محكم التدبير، وهو الذي يقول لابنه المهدي: «يا أبا عبد الله، ليس العاقل الذي يحتال للأمر الذي وقع فيه حتى يخرج منه، ولكنه الذي يحتال للأمر الذي غشيه حتى لا يقع فيه.»

وقد ذكر المؤرخون أنه كان إذا جنى على أحد جنايةً، أو أخذ من أحد مالًا جعله في بيت المال مفردًا، وكتب عليه اسم صاحبه، فلما أدركته الوفاة قال لابنه المهدي: «يا بني، إني قد أفردت كل شيء أخذته من الناس على وجه الجناية والمصادرة، وكتبت عليه أسماء أصحابه؛ فإذا وليت أنت فأعِدْه على أربابه ليدعو لك الناس ويحبوك.» وفي عهد المنصور أنشئت «بغداد» موئل العلم ودار السلام.

هوامش

(١) يخالفنا أستاذنا الشيخ عبد الوهاب النجار في هذا الرأي بقوله: «أحسب أن تغير آل البيت على بني العباس إنما كان سببه أنهم نفسوا عليهم ما أتيح لهم من ملك مع اعتقادهم أنهم أحق بذلك منهم.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤