الفصل التاسع

الحياة العلمية في العصر العباسي

(١) توطئة

هذه فذلكة مجملة بمثابة توطئة لما سنعرض له بما يقتضيه المقام من شرح وإيضاح في العصر المأموني، فمهمتنا الآن أن نلم ببيان العناصر المهمة في الحياة العلمية العباسية.

نعلم من تاريخ اليونان القديم أن أثر اليونان في الثقافة الإنسانية عظيم عميق، لأنه إلى جانب إمداد العالم بمنتجات فلاسفتهم وعلمائهم وكتابهم ومفكريهم، قد أمدوه أيضًا بالنخب والمُلح مما وقف عليه اليونان من زبدة علوم الأشوريين والبابليين والفينيقيين والمصريين والهنود والفرس واليونان والرومان، فإذا ما قلنا: إن العرب وقفوا على الفلسفة اليونانية ومنتجات العقول اليونانية، فكأننا نقول ضِمْنًا: إنهم وقفوا على آثار العقليات الإنسانية العامة وآثار الثقافة القديمة والحضارات السالفة.

ونعلم أن الدولة العباسية كانت فارسية إلى حد ما، أو على الأقل كانت مُتَّسمة بالطابع الفارسي مُتأثِّرة به، ونعلم من تاريخ سقوط الدولة الرومانية للأستاذ «چيون» أن «جستنيان» اضطهد مدارس أثينا لأنه كان خصمًا للفلسفة الوثنية، وكانت الفلسفة الأفلاطونية حين ذاك قد آتت ثمرتها ونضجت، ثم هرع أصحابها إلى الفرس، واتصل بأنوشروان سبعة من علماء اليونان، فأكرم وفادتهم، وأفسح لهم مجال التأليف والنقل فيما هم أهله وأصحاب القدح المُعلَّى فيه.

ويقول ابن النديم في الفهرست: إن الفرس نقلت في القديم شيئًا من كتب المنطق والطب إلى اللغة الفارسية، فنقل ذلك إلى اللسان العربي عبد الله بن المقفع، فمن المعقول إذن أن يكون العرب حين اتصلت ثقافتهم بالثقافة الفارسية وتأثروا بها، تأثروا في الوقت نفسه بالثقافة اليونانية أيضًا — ولم تكن الثقافة الفارسية مما يُستهان بأمره أو يُغمط قدرُه؛ لأنك إذا استقصيت تاريخ ملوكهم الكبار، مثل سابور بن أردشير، تجد أنه في خلال عهده بعَث إلى بلاد اليونان وجلب كتب الفلسفة، وأمر بنقلها إلى الفارسية، واختزنها في مدينته، وأخذ الناس في نسْخها وتدارُسها وهكذا — فالثقافة العربية أفادت أيَّما إفادة من منتجات الفرس وآثارهم وتراجمهم.

(٢) حركة النقل

لنتدرج الآن إلى شيء من التوضيح فننقل لك ما يقوله ابن صاعد الأندلسي في هذا الباب؛ لأنه مختصر عما تعرض له أمثال الأساتذة «نللينو» و«ابن أبي أصيبعة» و«القفطي» و«ابن النديم» وغيرهم ممن سيكونون عدتنا وموئلنا حين نعرض لهذه البحوث في العصر المأموني.

يقول ابن صاعد: «إن أول علم اعتُني به من علوم الفلسفة علم المنطق والنجوم، فأما المنطق فأول من اشتهر به في هذه الدولة عبد الله بن المقفع الخطيب الفارسي، فإنه ترجَم كُتب أرسطاطاليس المنطقية الثلاثة التي في صورة المنطق، وهي: كتاب «قاطاغورياس» وكتاب «باري أرمنياس» وكتاب «أتولوطيقا»، وذكر أنه لم يترجم منه إلى وقته إلا الكتاب الأول، وترجم ذلك المدخل إلى كتاب المنطق المعروف ﺑ «إيساغوجي» ﻟ «فرفوريوس الصوري»، وعبَّر عما ترجم من ذلك عبارة سهلة قريبة المأخذ، وترجم مع ذلك الكتاب الهندي المعروف بكليلة ودمنة، وهو أول من ترجم من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية …»

وأما علم النجوم فأول من عُني به في هذه الدولة محمد بن إبراهيم الفزاري، وذلك أن الحسين بن حميد، المعروف بابن الآدمي، ذكَر في تاريخه الكبير المعروف بنظام العقد: «إنه قدم على الخليفة المنصور سنة ست وخمسين ومائة رجلٌ من الهند عالم بالحساب المعروف بالسند هندي، في حركات النجوم مع تعاديل معلومة على كردجات محسوبة لنصف نصف درجة، مع ضروب من أعمال الفلك ومع كسوفين ومطالع البروج وغير ذلك، في كتاب يحتوي على اثني عشر بابًا، وذكر أنه اختصره من كردجات منسوبة إلى ملك من ملوك الهند يسمى قبغر، وكانت محسوبة لدقيقة؛ فأمر المنصور بترجمة ذلك الكتاب إلى اللغة العربية، وأن يؤلَّف منه كتابٌ تتخذه العرب أصلًا في حركات الكواكب، فتولَّى ذلك محمد بن إبراهيم الفزاري، وعمل منه كتابًا يسميه المنجمون «بالسند هند الكبير» وتفسير السند هند باللغة الهندية: الدهر الداهر.»

وقد يكون من المستصوب أن نفهم حقيقة وجهة نظر العرب حين ذاك إلى علم الفلك، فهم كاليونانيين في زمن «بطليموس» كان غرضهم في الهيئة تبيُّن الحركات السماوية مع كل اختلافاتها المرئية بأشكال هندسية تُمكِّنهم من حساب أوضاع الكواكب لأي وقت فُرض، فإن كانت تلك الأشكال تصلح لحساب الظواهر رضوا بها، وما اهتموا بالبحث في حقيقة حركات الأجرام السماوية؛ وذلك لظنهم أن البحث عن حقيقة الحركات وعللها يكون على المشتغلين بالحكمة والطبيعة والحكمة الإلهية.

ونحن نجد، بقطع النظر عن أحكام النجوم التي صارت غير مقبولة في أيامنا، أن الهيئة عند العرب كما يقول الأستاذ «نللينو»: قد اشتملت على علم الهيئة الكروي والعملي، وقسم صغير من النظري يخص الكسوفات واستتارات الكواكب السيارة، مع علم التاريخ الرياضي، وعلم أطوال البلدان وعروضها على طريقة كتاب الجغرافية لبطليموس، فقد خرج من علم الهيئة عند العرب علم الميكانيكا الفلكية وعلم طبيعة الأجرام السماوية وأكثر علم الهيئة النظري؛ إذ إنه يبحث عن حقيقة حركات الكواكب.

فلا مرية إذن في أن العرب، إلى جانب وقوفهم على الفلسفة الفارسية والحكمة اليونانية، قد وقفوا أيضًا على آخر الآراء العلمية الخاصة بعلم الفلك في ذلك الحين، وأنهم وقفوا على آراء بطليموس فيما وقفوا عليه من الآراء. وبطليموس كما قال البتَّاني: قد تقصَّى علم الفلك من وجوهه، ودل على العلل والأسباب العارضة فيه بالبرهان الهندسي والعددي الذي لا تُدفعُ صحته ولا يُشكُّ في حقيقته، فأمر بالمحنة والاعتبار بعده، وذكر أنه قد يجوز أن يُستدرك عليه في أرصاده على طول الزمان، كما استدرك هو على أبرخس وغيره من نظرائه؛ لجلالة الصناعة، ولأنها سماوية جسيمة لا تدرك إلا بالتقريب.

ولا يفوتنا أن نشير هنا إلى ترجمة كتاب زيج بطليموس المقول بأن أيوب وسمعان فسَّراه لمحمد بن خالد البرمكي، ونرجو حين تعرُّضنا لهذه الموضوعات في العصر المأموني أن نُلمَّ بها إلمامًا أدقَّ وأوسع.

على أنه يجدر بنا في هذه الفذلكة أن نشير إلى الكتب البهلوية الثلاثة التي استطاع الأستاذ «نللينو» أن يكتشف أثر نقلها فيما قبل انتهاء القرن الثاني للهجرة، فواحد منها في علم الهيئة الحقيقي، وهو زيج الشاه أو زيج الشهريار، والآخران في صناعة أحكام النجوم؛ وهما: المبزيذج في المواليد، المنسوب إلى بُزُرْجمِهْر، وكتاب صور الوجوه لتنكلوس، وكذلك يجدر بنا أن نشير إلى أن كتاب المَجَسْطي نقل في أيام الرشيد.

وإنا نلخص لك هنا ما لاحظه المرحوم جورجي بك زيدان في أمر النقل، من أن العرب، مع كثرة ما نقلوه عن اليونان، لم يتعرضوا لشيء من كتبهم التاريخية أو الأدبية أو الشعر، مع أنهم نقلوا ما يقابلها عند الفرس والهنود، فقد نقلوا جملة صالحة من تاريخ الفرس وأخبار ملوكهم، وترجموا الشاهنامة، ولكنهم لم ينقلوا تاريخ هيرودوتس ولا جغرافية إسترابون ولا إلياذة هوميروس ولا أوديسته، وسبب ذلك أن أكثر ما بعث المسلمين على النقل رغبتهم في الفلسفة والطب والنجوم والمنطق.١

ولا يُستخَفُّ بما اقتضاه ذلك النقل عن أشهر أمم الأرض في ذلك العصر من التأثير في الآداب الاجتماعية والآراء العامة، ولا سيما ما نقل عن الفارسية؛ لأن معظمه في الأدب والتاريخ، فدخل الآداب العربية كثير من آداب الفرس الساسانية وأفكارهم، اقتبسها العرب من الكتب التي نقلت عنهم، ولم يبق منها إلا ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، ونُتَف متفرقة في بعض الكتب، وقد درس في هذا الموضوع المُتَشَرِّق «إينواسترانشتيف» الروسي، ووضع فيه كتابًا طُبع في بطرسبرج سنة ١٩٠٩م.

على أنا نلاحظ أن تأثير هذا النقل عن الفرس لا يزال قائمًا إلى الآن في بعض الكتب العربية التي وضعت في عصور قريبة من عصر المأمون، نذكر منها على طريق التمثيل: كتاب «عيون الأخبار» لابن قتيبة، و«التاج» المنسوب للجاحظ، فعلى هذه المنقولات وأمثالها بنى المسلمون ما ألَّفوه في هذه العلوم أثناء تمديُنهم غير ما اختبروه وأضافوا إليها من عند أنفسهم.

وإن المُطَّلع على ما جاء بالفهرست لابن النديم خاصًّا بتلك المنقولات يعلم، مع شديد الأسف، أن جلها قد ضاع، على أنه كان للقليل الباقي منها أثره الفعَّال في نهضة أوروبا، وأهم ما بقي من ذلك التراث القيِّم هو كتاب المَجَسْطي لبطليموس، ترجمه الحجاج بن يوسف، وكتاب السياسة في تدبير الرياسة، ترجمه يوحنا بن البطريق، وبعض آثار لقسطا بن لوقا البعلبكي وغيرها.

(٣) العلوم القرآنية واللغوية والفقهية

كان المؤرخون القدماء يقولون في العلوم القرآنية: إنه قد تفرع عن القرآن نحو ثلاثمائة علم. ونحن نُحيلك على أمثال «مفتاح السعادة» لأحمد بن مصطفى، المعروف بطاش كبرى زاده، المطبوع بمطبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر آباد، ومقدمة ابن خلدون، و«مفاتيح العلوم» وغيرها. وأما النحاة وطبقاتهم واللغة وما دخلها من الألفاظ المستحدثة في العصر العباسي، فأمامك أمثال «شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل» لشهاب الدين الخفاجي، «ودرة الغواص» للحريري، وكتاب «المعرب من الكلام الأعجمي» لأبي منصور الجواليقي المتوفَّى في منتصف القرن السادس، وطُبع في ليبسك سنة ١٨٩٧م، وكتاب «طبقات النجاة» المعروف «بنزهة الألباء في طبقات الأدباء» لأبي البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري، وغيرها مما لا يقع تحت حصر.

وحسبنا أن نقول لك: إنه لم يكن في الجاهلية ولا في صدر الإسلام ذلك التراث العظيم من الألفاظ الطبية وأسماء الأدوية والجراحة وأسماء الأمراض والاصطلاحات الفلسفية وغير ذلك مما وُضع في العصر العباسي خاصة، أمثال قولهم: صيدلية، وتشريح، ونبض، وهضم، ومبردات، وقابض، ومسهل، وتشنُّج، وذات الرئة، وبنج، والهيولى، والقاموس، والقانون، إلى مئات الألفاظ من أمثال ذلك النوع الذي تجده في مظانِّه ولا نرى حاجة بنا إلى الاستطراد فيه.

ويجدر بنا هنا أن نشير إلى أثرٍ من أجل الآثار الاقتصادية للدولة الإسلامية في بداية العصر العباسي، ويُمكن النظر إليه كما ينظر الإسكتلنديون إلى كتاب «جون سنكلر» عن تاريخهم الاقتصادي، وهذا الأثر القيم الخالد الذي نظم جباية الدولة أجمل تنظيم وأدقه هو كتاب «الخراج» للفقيه الأكبر أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، صاحب الإمام أبي حنيفة النعمان.

هوامش

(١) ويرى أستاذنا الشيخ عبد الوهاب النجار «أنه يمكن إرجاع ذلك إلى سبب يراه أهم؛ وهو أن الراحلين من اليونان أيام الاضطهاد إلى حرَّان لم يكونوا أدباء ولا مؤرخين، وإنما كانوا فلاسفة وأطباء؛ فأسسوا في تلك البلاد مدرستهم، وأخَذ أهلُ البلاد عنهم ما يعرفون. فالأدب والتاريخ والجغرافيا لم يهاجرن إلى البلاد التي أخذ عنها العرب، وإنما هاجر الطب والفلسفة والهندسة والرياضة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤