الفصل العاشر

نماذج لبعض الشخصيات البارزة في العصر المأموني

(١) توطئة

أعترف أنه من الصعوبة بمكان أن أختار لك أشخاص هذه النماذج؛ لأن الكثرة من رجالات العصر من النباهة والكفاية بمكان، وقد كان يحلو لي حقًّا ويسرني أيَّما سرور لو اتسعت رسالتي للكتابة عن رجالات العصر من وزراء وعلماء وقضاة وشعراء وكتاب وأطباء ومغنين وندماء، بيد أن ذلك يتطلب سعة لا يحتملها هذا المقام.

على أنا قد رأينا أن نكتب لك كلمات مجملة عن «جبرائيل بن بختيشوع» من أطباء العصر، وعن «الجاحظ» من ملوك الكتاب ورؤساء الاعتزال، وعن «أبان اللاحقي» الشاعر وصاحب نظم كليلة ودمنة، وعن «أحمد بن يوسف» الوزير المأموني ومدبِّج رسالاته، وعن «يحيى بن أكثم» قاضي قضاته، وأخيرًا عن «إسحاق بن إبراهيم» وهو مجموعة هؤلاء.

ونعترف لك بأن في كتابنا شيئًا من التقصير نحسُّه، وسببه حاجة هذه الموضوعات إلى الإفاضة في الشرح والبيان، وإلى التحليل والإسهاب مما لا قبل لرسالتنا به.

وبعد، فلنبدأ بهذا النماذج فنقول:

(٢) جبرائيل بن بختيشوع الطبيب النسطوري

لسنا نريد أن نستطرد في الحديث عن بُختيَشُوع الطبيب الشهير، وإنما نريد أن نلم إلمامة به يتعرف منها القارئ ما كان للرجل من أثر في عصره، فنقول: إن هذه الأسرة هي الأسرة الوحيدة النسطورية التي استقام دور عزها ثلاثة قرون، كان لها خلالها حظ وجاه، وكانت لأفرادها حظوة، فاستعملهم الخلفاء العباسيون، فانتفعوا من الخلفاء، ونفعوا الطب وغير الطب من العلوم بآثارهم ومنتجات عقولهم.

أما هذه التسمية فسريانية، وهي مركبة من لفظتين سريانيتين، بُخْت ومعناه العبد، ويشوع ومعناه يسوع أي عبد يسوع، وكانت هذه الأسرة من مدينة جُندَيْسابور، وأول من عرفه التاريخ منها هو ديورجيس بن جبرائيل بن بختيشوع، وكان يزاول مهنة الطب فبرع فيها، ونبُهَ ذكْرُه، وأقيم رئيسًا لمستشفى مدينته حتى إن أبا جعفر المنصور قد أرسل وفدًا من قبله إلى جنديسابور يستدعيه إليه؛ إذ كان قد انتابه مرض فعجزت عن شفائه نُطُس الأطباء، فتأبى بختيشوع بادئ الرأي حتى اعتقله العامل، ولكن أعيان بلده من مطارنة وقساوسة وغير هؤلاء نصحوا له بأن يمتثل للأمر، فانقاد لنصيحتهم، وولي وجهه شطر دار السلام، ثم كانت له حظوة عند المنصور، وما كنا لنستطرد في الحديث عن هذه الأسرة، وإنما سُقنا هذه الكلمة لنأتي على شيء من أخبار أسرة جبرائيل، لنُظهر ما لهذا الرجل من المكانة في عالم الطب، وأنه من سلالة كانت تتوارث أخلافها عن أسلافها هذه الصناعة.

نقول: إن جبرائيل هذا قد نبغ على مثال ذويه، وظهرت فيه عوامل الوراثة، فورث عن آبائه الصفات الأدبية، وبرع في صناعة الطب، وكان إلى جانب هذا وديع الخلق، لطيف المحضر، كريم السجايا، عُرف في جو الطب سنة ١٧٥ﻫ/سنة ٧٩١م، ذلك بأن جعفر بن خالد بن برمك بعد أن أبلَّ من مرضة باعتناء بختيشوع، رغب إليه أن يبقى معه طبيبًا له، فاعتذر وأناب عنه ابنه جبرائيل هذا، فلقى منه كل رعاية، وكاشفه جعفر بداء خفي كان قد أصابه، فعالجه جبرائيل في ثلاثة أيام، وشفي جعفر، فزادت مكانة جبرائيل عنده وقربه منه، فكان جليسه وكان نديمه، وكان لا يفارقه ساعة واحدة، وحدث أن جارية من جواري هارون الرشيد قد يبست ذراعها، فأبرأها جبرائيل بحيلة لطيفة بعد أن أخفق الأطباء في معالجتها، فحباه بخمسين ألف درهم، وقد عظم شأنه حتى قال الرشيد لأصحابه: كل من كانت له إليَّ حاجة فليخاطب بها جبرائيل؛ لأني أقبل كل ما يسألني فيه ويطلبه مني، وكان في صحبة الرشيد أينما حلَّ وحيثما ارتحل، فقد ذهب معه إلى الرقة وصار معه إلى الحجاز.

ولما تولَّى الأمين الخلافة عرض جبرائيل على الخليفة أن يكون له خادمًا، فقبله ورحب به، ولم يكن يأكل شيئًا إلا بإذنه، ولما بلغ ذلك المأمون اعتقل جبرائيل، ولم يطلق سراحه حتى شفع فيه الحسن بن سهل، وفي سنة ٢١٠ﻫ/٨٢٦م مرض المأمون مرضًا أعجز أطباءه، وكان في مقدمتهم ميخائيل صِهْر جبرائيل، فأخذ جبرائيل على نفسه شفاء المأمون، وكان مُوفَّقًا، فلم تمضِ أيام حتى شفي المأمون، فغمره بنعمائه واتخذه أنيسًا ونديمًا، ولم يقف احترام المأمون لجبرائيل وإكرامه له عند هذا الحد، بل قد عداه إلى غيره من عمال الدولة، فقد أصدر المأمون أمره إلى الموظفين والعمال والقواد بأن يوقروا جبرائيل ويجلوه، وكان الرجل يتدخل في شئون طائفته كلها، حتى الشئون الكنسية، وبتأثيره انتخب البطريرك جيورجيس المعروف بابن الصباغ، فتولى الرياسة الدينية في طائفته وهو في سن الشيخوخة، ولما كانت سنة ٢١٣ﻫ/٨٢٨م مرض جبرائيل، واتفق أن الخليفة المأمون كان في ذلك العهد قد سافر إلى بلاد الروم، فأقعد المرض جبرائيل عن ملازمته، ولكنه أناب عنه ابنه بختيشوع، ولم يرجع المأمون وبختيشوع من رحلتهما حتى كان جبرائيل قد تُوفِّي.

فأقيم له مأتم حافل قلما كان لمثله في ذلك العصر، ودفن في مدفن القديس سرجيس بالمدينة، وترك مالًا كثيرًا، وملكًا واسعًا، فكانت له ضِياع بجُندَيْسابُور والسوس والبصرة والسَّواد، حصل عليها بما ناله من الخلفاء من التخصيصات الجزيلة، والهدايا الكثيرة في المواسم والمعاشات، وله من الكتب رسالة في المطعم والمشرب قدمها إلى المأمون، وكتاب المدخل إلى صناعة المنطق، ورسالة مختصرة في الطب، وهي مختصر تأليف ديروكوريدس وجالينوس وبولس الإيجيني، وله أيضًا كتاب في صناعة البخور، وقد نسب إليه السمعاني في مكتبته الشرقية مُعجمًا سريانيًّا على أن هذا مشكوك في روايته.

(٣) الجاحظ

«الكتاب وعاء مُلِئ علمًا، وظرف حشي ظرفًا، وبستان يحمل في رُدن، وروضة تقلب في حجر، ينطق عن الموتى، ويترجم كلام الأحياء، ولا أعلم جارًا أبرَّ، ولا خليطًا أنصف، ولا رفيقًا أطوع، ولا معلمًا أخضع، ولا صاحبًا أظهر كفاية، وأقل جناية، ولا أقل إملالًا وإبرامًا، ولا أقل خلافًا وإجرامًا، ولا أقل غيبة، ولا أبعد من عضيهة،١ ولا أكثر أعجوبة وتصرفًا، ولا أقل صلفًا وتكلفًا، ولا أبعد من مراء، ولا أترك لشغب، ولا أزهد في جدال، ولا أكف عن قتال من كتاب.

ولا أعلم قرينًا أحسن مواتاة، ولا أعجل مكافأة، ولا أحضر مَعُونة، ولا أقل مئونة، ولا شجرة أطول عمرًا، ولا أجمع أمرًا، ولا أطيب ثمرة، ولا أقرب مجتنى، ولا أسرع إدراكًا في كل أوانٍ، ولا أوجد في غير إبان من كتاب.

ولا أعلم نتاجًا في حداثة سنِّه، وقرب ميلاده، ورخص ثمنه، وإمكان جوده، يجمع من التدابير الحسنة، والعلوم الغريبة، ومن آثار العقول الصحيحة، ومحمود الأخبار اللطيفة، ومن الحكم الرقيقة، ومن المذاهب القويمة، والتجارب الحكيمة، والإخبار عن القرون الماضية، والبلاد المتراخية، والأمثال السائرة، والأمم البائدة ما يجمع الكتاب.»

بهذا الأسلوب الحسن في منحاه، الناصع البيان في مبناه، الداني القطوف، السديد في منهجه، العذب في مورده، يخاطبنا شيخ الكتاب غير مدافع، والمتفنن في الرسالات غير منازع أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ بعبارات تستساغ في غير مئونة ولا كد ذهن، وتستوعب بلا إرهاق خاطر ولا إعنات روية.

والجاحظ، أيدك الله، ليس وراء كتاباته، كما تعلم، مذهب لمستفيد، ولا مراد لراغب فِقَرُها متناسبة متراصفة، وألفاظها متنخلة متخيرة، وعباراتها مطردة منسجمة، وجملها مما يوطَّأ له مهاد الطبع، ويرتفع له حجاب السمع، وهي — وأنت جد عليم — من ذلك النوع الذي يدخل الآذان بلا استئذان لمكانها من الألباب، وهو من أجل ذلك يتطلب منا درسًا تحليليًّا مطولًا، وليس هذا في مقدورنا لتعدد الموضوعات التي نعالجها، ولأنها تستلزم عناية ببحثها والإشارة إليها، بقدر ما يتطلبه الجاحظ من عناية ودرس، فلنكتف بإلماعة موجزة عن حياة النابغة الفذ الذي تسنَّم ذروة الكمال، وبلغ غاية النضج في الأدب العربي وفنونه، وكان إلى جانب هذا صاحب مذهب في الاعتزال، هو المذهب الجاحظي، معتمدين فيها على ما كتبه ابن خلِّكان وصاحب معجم الأدباء ومؤلفات الجاحظ نفسه.

نشأته

هو أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الجاحظ، ولم تكن أسرته برفيعة القدر ولا سامية المكانة، بل على النقيض كانت خدَمًا وخولًا لمولاهم أبي القلمس عمرو بن قلع الكناني ثم الفُقيمي النسَّاب، وقد قيل: إن فزارًا جد الجاحظ كان جمالًا، وإن الجاحظ نفسه كان يبيع الخبز والسمك بسيحان.

قال الجاحظ: أنا أسن من أبي نواس بسنة، ولدت في أول سنة ١٥٠ﻫ ووُلِد في آخرها، وانكبَّ الجاحظ على العلم منذ طفولته انكبابًا عظيمًا، وشغف بالمطالعة والقراءة، وعكف على الدرس والحفظ، وقد قال عنه أبو هفان أحد معاصريه: لم أر قط ولا سمعت من أحب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائنًا ما كان، حتى إنه كان يكْتري دكاكين الوراقين ويبيت للنظر فيها، ثم ثنَّى أبو هفان بالفتح بن خاقان، وذكر بعده إسماعيل بن إسحاق القاضي.

سمع الجاحظ من أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد الأنصاري، وأخذ النحو عن صديقه أبي الحسن الأخفش، وأخذ الحديث عن يزيد بن هارون والسري بن عبدويه وأبي يوسف القاضي والحجاج بن محمد بن حماد بن سلمة، والكلام عن أبي إسحاق إبراهيم بن سيار النظام المعتزلي النابه الذكر، وبه تأثر وعليه تخرَّج في مذهبه في الكلام والاعتزال.

وإذ كانت ميوله إلى الاطلاع واستيعاب ما يقع تحت يديه من المؤلفات على ما وصفنا، وكان قصاري همه، في مَغْداته ومراحته وبُكوره وآصاله، أن يحفظ كتابًا أو يفهم بابًا، وكان العصر الذي فيه درَج ونما على ما علمت من غزارة المادة، وتعدُّد التآليف، وازدحام المعارف، ووفرة مختلف الثقافات، فلا غرو إذا أخبرنا الجاحظ عن نفسه بقوله: «لقد نسيت كنيتي، لقد تغيبت ثلاثة أيام حتى أتيت أهلي فقلت لهم: بم أكنى؟ فقالوا: بأبي عثمان.» ولا غرو إذا كان الجاحظ قد اتصل بكثير من علماء ونوابغ عصره وشهيري الكتاب والمترجمين من فُرس وسُريان، فتأثر بلا ريب ذكاؤه بهذا الاختلاط، وطالع جماع ما تُرجم في أزمان المنصور والرشيد والمأمون، فما كان يقع بيده كتاب إلا استوفى قراءته كائنًا ما كان، حتى إنه كان يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر، كما قلنا آنفًا، فكان لذلك من نوابغ العالم.

وغلب عليه أمران اثنان: الكلام على طريقة المعتزلة، والأدب ممزوجًا بالفلسفة والفكاهة.

ولقد قضى عامَّة عمره بالبصره موفور الكرامة، محبوًّا من خلائق الله سيما رؤساء الموالي وأعيان الهاشمية والعثمانية بالعطايا والمنح، لما كان يصنفه لهم من الرسائل التي كان يتعمد في كتابتها التشيع لمذهبهم، ومعاضدة مزاعمهم، ونقض أقوال مخالفيهم، وكانت له مهارة في التلاعب بعقولهم، وابتزاز أموالهم، واقتدار على التعبير في كل ما يعالجه، وفي كل موقف، وكان يحج كثيرًا إلى بغداد في أواخر عصر المأمون وغيره، فكان المأمون يرفده، ثم انقطع إلى الانتجاع إلى محمد بن الزيات طوال وزاراته الثلاث، ثم أقام بعد موت ابن الزيات بالبصرة حتى أصيب بالفالج، فبقى مفلوجًا حتى أسلم الروح.

ذكاؤه وخلقه

كان له حظ كبير وقسط وفير من الذكاء ورقة الشعور، ودقة العاطفة، وله في ذلك نوادر هي من خوارق الطبيعة، وكان غريب الأطوار، به شذوذ في أحواله وأطواره؛ ذلك لأنه كان يجمع بين الجد والفكاهة، حاضر النكتة، حاضر البديهة، سريع الخاطر، وكانت به دعابة وتظرف وتماجن، وكان لا يحتفل لما يأخذ الناس به أنفسهم وما يتواضعون عليه من العادات والرسوم وأنواع العصبية والمذهبية والجنسية، وكان كريم الأخلاق، كريم اليد، سخيًّا سمحًا، ولطيف المحضر، خفيف الروح، وكان على ما به من دمامة غاية في الظرف وحلاوة اللفظ، وهو من أجل ذلك كان يجمع بين الضدين.

اعتقاده ومذهبه

قلنا: إنه تخرج على أبي إسحاق إبراهيم بن سيار النظام، زعيم الفرقة التي تنسب إليه من المعتزلة، وكان يلازم أستاذه هذا ويتوفر على دروسه، فمن أجل ذلك كان الجاحظ معتزليًّا، وزعيم الفرقة الجاحظية في الاعتزال، وقد انتفع بمواهبه وما حباه الله من فصاحة الكلام وطلاقة اللسان وحسن البيان في ترويح مذهبه والدعاوة له، فكان لسان المعتزلة الناطق، وسلاحهم القاطع، وبرَع في الكلام، وخلَطه بالفلسفة اليونانية، ويرميه كثيرون بالضلالة، وأنه ماجن مهذار، متناقض نقَّال، يتلاعب بالناس، وينقض اليوم ما بناه أمس، وقد دافع عنه أبو الحسن الخياط في كتابه «الانتصار» على انتقادات ابن الراوندي العنيفة المرَّة التي تناول فيها عقيدة الجاحظ بالتجريح الشديد.

ومما قاله أبو الحسن الخياط فيما يفند به هجمات ابن الراوندي: «وأما رميك للجاحظ ببغض الرسول ، فهو دليل على أنك لا تعرف المحب من المبغض، ولا الولي من العدو؛ لأنه لا يعرف المتكلمون أحدًا منهم نصر الرسالة واحتج للنبوة بلغ في ذلك ما بلغه الجاحظ، ولا يعرف كتاب في الاحتجاج لنظم القرآن وعجيب تأليفه، وأنه حجة لمحمد على نبوته غير كتاب الجاحظ، وهذه كتبه في إثبات الرسالة، وكتبه في تصحيح مجيء الأخبار مشهورة، وهل يُستدل على حب الرسول والإيمان به وتصديقه فيما جاء به بشيء أوكد مما يستدل به على حب الجاحظ الرسول وتصديقه إياه!»

وقد تناول كبار المؤلفين من العرب؛ كابن قتيبة، والأزهري، والمسعودي، والبديع الهمذاني، وأبي العباس أحمد بن يحيى، وأبي العباس محمد بن يزيد المبرد، والفتح بن خاقان، والرئيس أبي الفضل بن العميد وغيرهم شخصية الجاحظ بما تستحقه من العناية والدرس، ومن النقد والتقريظ مما لا نثبته لك هنا مخافة الإطالة والملل، فلتراجع في مظانها ومواضعها.

علمه

يقول صاحب المعجم: «كان الجاحظ من الذكاء وسرعة الخاطر والحفظ بحيث شاع ذكره، وعلا قدره، واستغنى عن الوصف»، وقال غيره: إنه كان واسع العلم بفنون الكلام، كثير التبحر فيه، شديد الضبط لحدوده، ومن أعلم الناس به وبغيره من علوم الدين والدنيا، ولا غرو فإن مؤلفاته العديدة تشهد بأنه كان واسع الاطلاع حقًّا، غزير المادة، خصب الذهن، كثير المحصول العقلي، وقد أكثر التصنيف في الأدب واللطائف والفكاهات، وأتيح له أن يكون من أئمة الدين وكبار السُّمار.

ويقول الفتح بن خاقان في كتاب له إلى الجاحظ: «إن أمير المؤمنين يَجِدُ بك، ويهشُّ عند ذكرك، ولولا عظمتُك في نفسه، لعلمك ومعرفتك، لحال بينك وبين بُعدك عن مجلسه، ولغصَبك رأيك وتدبيرك فيما أنت مشغول به ومتوفِّر عليه، ولقد كان ألقى إليَّ من هذا عنوانه، فزدتُك في نفسه زيادة كفَّ بها عن تجشيمك، فاعرف لي هذه الحال، واعتقد هذه المِنَّة على كتاب «الرد على النصارى»، وافرغ منه وعجِّل به إليَّ، وكن ممن جدَا به على نفسه، وتنال مُشاهرتك، وقد استطلقته لما مضى، واستسلفت لك لسنة كاملة مستقبلة، وهذا مما لم تحتكم به نفسك، وقد قرأت رسالتك في «بصيرة غنام»، ولولا أني أزيد في مخيلتك لعرفتك ما يعتريني عند قراءتها. والسلام.»

رسائله

للجاحظ كثير من قصار الرسائل وطوالها، منها: أنه كتب إلى عبد الله بن خاقان في يوم عيد: «أخرتني العلة عن الوزير، أعزه الله، فحضرت بالدعاء في كتابي لينوب عني، ويَعمُر ما أخلفت العوائق مني، وأسأل الله تعالى أن يجعل هذا العيد أعظم الأعياد السالفة بركة على الوزير، ودون الأعياد المستقبلة فيما يُحبُّ ويُحبُّ له، ويقبَل منا ما نتوسل به إلى مرضاته، ويضاعف الإحسان إليه على الإحسان منه، ويمتعه بصحة النعمة ولباس العافية، ولا يريه في مسرة نقصًا، ولا يقطع عنه مزيدًا، ويجعلني من كل سوء فداءَه، فيصرف عيون الغير عنه وعن حظِّي منه».

وكتب إلى محمد بن عبد الملك الزيات يستعطفه: «أعاذك الله من سوء الغضب، وعصمك من سرف الهوى، وصرف ما أعارك من القوة إلى حب الإنصاف، ورجَّح في قلبك إيثار الأناة، فقد خفت، أيدك الله، أن أكون عندك من المنسوبين إلى نزق السفهاء، ومجانبة الحكماء.

وبعدُ، فقد قال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت:

وإن امرَأً أمسى وأصبح سالمًا
من الناس إلا ما جنى لسعيدُ

وقال الآخر:

ومن دعا الناس إلى ذمه
ذموه بالحقِّ وبالباطل

فإن كنت اجترأت عليك، أصلحك الله، فلم أجترئ إلا لأن دوام تغافلك عني شبيه بالإهمال الذي يورث الإغفال، والعفو المتتابع يؤيس من المكافأة، ولذلك قال عيينة بن حصن بن حذيفة لعثمان رحمه الله: عمر كان خيرًا لي منك! أرهبني فاتقاني، وأعطاني فأغناني، فإن كنت لا تَهبُ عقابي، أيدك الله، لخدمة سلفت لي عندك، فهَبْه لأياديك عندي، فإن النعمة تشفع في النقمة، وإلا تفعل ذلك لذلك، فعد إلى حسن العادة، وإلا فافعل ذلك لحسن الأحدوثة، وإلا فائتِ ما أنت أهله من العفو دون ما أنا أهله من العقوبة، فسبحان من جعلك تعفو عن المتعمد، وتتجافى عن عقاب المُصرِّ، حتى إذا صرت إلى من هفوته ذكر، وذنبه نسيان، ومن لا يعرف الشكر إلا لك، والإنعام إلا منك، هجمت عليه بالعقوبة.

واعلم، أيدك الله، أن شين غضبك عليَّ كزين صفحك عني، وأن موت ذكري مع انقطاع سببي منك كحياة ذكري مع اتصال سببي بك، واعلم أن لك فطنة عليم، وغفلة كريم. والسلام.»

وللجاحظ رسائل في الاستعطاف وشكوى الزمان آية في البلاغة أثبتناها في المجلد الثالث من هذا الكتاب.

وقد قال فيه بديع الزمان الهمذاني في المقامة الجاحظية: «إن الجاحظ في أحد شقي البلاغة يقطف، والآخر يقف، والبليغ من لم يُقصِّر نظمه عن نثره، ولم يُزْرِ كلامُه بشعره، فهل تروون للجاحظ شعرًا رائقًا؟ قلنا: لا، قال: فهلموا إلى كلامه، فهو بعيد الإشارات، قريب العبارات، قليل الاستعارات، مُنقادٌ لعريان الكلام يستعمله، نفورٌ من مُعتاصه يُهمِله؛ فهل سمعتم له لفظة مصنوعة أو كلمة غير مسموعة؟»

شعره

قيل: إن للجاحظ شعرًا، ولكننا نظرنا فيما ينسبه له يموت بن المُزرع وأبو العيناء وأبو الحسن البرمكي وغيرهم فوجدناه أقل طبقة من بلاغته، فمما ينسب إليه قوله:

يطيب العيش أن تلقى حكيمًا
غذاه العلم والفهم المصيب
فيكشف عنك حيرة كل جهل
وفضل العلم يعرفه اللبيب
سَقَام الحرص ليس له شفاء
وداء الجهل ليس له طبيب

مصنفاته

صنف الجاحظ أكثر من مائتي كتاب.

قال المسعودي: وكتب الجاحظ مع انحرافه تجلو صدأ الأذهان، وتكشف واضح البرهان، لأنه نظمها أحسن نظم، ورصفها أحسن رصف، وكساها من كلامه أحسن وأجزل لفظ، وكان إذا تخوف ملل القارئ وسآمة السامع خرج من جدٍّ إلى هزل، ومن كلمة بليغة إلى نادرة طريفة، وله كتب حسان؛ فمنها «البيان والتبيين»، وهو أشرفها لأنه جمع فيه من المنثور والمنظوم، وغرر الأشعار، ومستحسن الأخبار وبليغ الخطب ما لو اقتصر عليه مقتصر لاكتفى، و«كتاب الحيوان» و«كتاب الطفيليين» و«كتاب البخلاء»، وسائر كتبه في نهاية الكمال ما لم يقصد منها إلى تصعيب ولا إلى دفع حق، ولا يعلم ممن سلف وخلف أفصح منه.

وقال ابن العميد: كتب الجاحظ تعلِّم العقل أولًا والأدب ثانيًا.

أخباره

حدثنا أبو معاذ عبد الله الخولي المتطبب قال: دخلنا يومًا ﺑ «سُرَّ من رأى» على عمرو بن بحر الجاحظ نعوده وقد فُلج، فلما أخذنا مجالسنا أتى رسول المتوكل فيه فقال: وما يصنع أمير المؤمنين بشقٍّ مائل، ولُعاب سائل، ثم أقبل علينا فقال: ما تقولون في رجل له شقان، أحدهما لو غرز بالمسالِّ ما أحس، والشق الآخر يمر به الذباب فيُغوِّث، وأكثر ما أشكوه الثمانون؟ ثم أنشدنا أبياتًا من قصيدة عوف بن محلم الخزاعي، قال أبو معاذ: وكان سبب هذه القصيدة أن عوفًا دخل على عبد الله بن طاهر فسلم عليه عبد الله فلم يسمع، فأُعلِم بذلك، فزعموا أنه ارتجل هذه القصيدة ارتجالًا:

يا ابن الذي دان له المشرقان
طرًّا وقد دان له المغربان
إن الثمانين وبُلِّغتها
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وبدَّلتني بالشَّطاط انحِنًى
وكنت كالصَّعدة تحت السِّنان
وبدَّلتني من زَماع الفتى
وهمِّتي همَّ الجبان الهِدان
وقاربتْ منِّي خُطًى لم تكن
مُقاربات وثنَت من عِنان
وأنشأت بيني وبين الورى
عنانة من غير نسج العنان
ولم تدع فيَّ لمُستمتعٍ
إلا لساني، وبحسبي لسان
أدعو به الله وأثني به
على الأمير المصعبي الهجان
فقرِّباني، بأبي أنتما،
من وطني قبل اصفرار البنان
وقبل منعايَ إلى نسوة
أوطانُها حرَّان والرَّقمتانِ

والجاحظ، أيدك الله، قد جمع إلى مواقفه الكبار في الجدل والتناظر، ومتانة الأسلوب وتدفقه، وسمو المنحى وبلاغته، وقوة اللفظ وفخامته، جنوحًا عظيمًا إلى الدعابة واللطائف والتندر والطرائف، والمُلَح والنُّخَب، والنكت مع الأدب، مع خفة ظلٍّ، وظرف روح حبباه إلى النفوس، ومع نباغة وعبقرية جعلتاه فوق الهام والرءوس، وعذوبة عبارة ومائية أسلوب كأنهما الراح في الكئوس.

ومن جملة أخباره أنه قال: ذُكرتُ للمتوكل لتأديب بعض ولده، فلما رآني استبشع منظري، فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني، فخرجت من عنده فلقيت محمد بن إبراهيم وهو يريد الانصراف إلى مدينة السلام، فعرض عليَّ الخروج معه والانحدار في حرَّاقته، وكنا بسُرَّ مَنْ رَأَى، فركبنا في الحراقة، فلما انتهينا إلى فم نهر القاطول ضرب ستارًا وأمرنا بالغناء، فاندفعتْ عوَّادةٌ فغنت:

كل يوم قطيعة وعتاب
ينقضي دهرنا ونحن غضاب
ليت شعري أنا خصصتُ بهذا
دون ذا الخلق أم كذا الأحباب

وسكتتْ، فأمر الطُّنْبورية فغنَّتْ:

وارحمتا للعاشقينا
ما إن أرى لهم مُعينا
كم يهجرون ويُصرمو
ن ويُقطعون فيصبرونا

قال: فقالت لها العوَّادة، فيصنعون ماذا؟ قالت: هكذا يصنعون، وضربت بيدها إلى الستار فهتكته، وبرزت كأنها فلقة قمر فألقت نفسها في الماء، وعلى رأس محمد غلام يضاهيها في الجمال وبيده مِذبَّة، فأتى الموضع ونظر إليها وهي بين الماء وأنشد:

أنت التي غرَّقتني
بعد القضا لو تعلمينا

وألقى نفسه في أثرها، فأدار الملاح الحرَّاقة، فإذا بهما متعانقان، ثم غاصا فلم يُرَيا، فاستعظم محمد ذلك وهاله أمرهما، ثم قال: يا عمرو، لتُحدِّثني حديثًا يسليني عن فعل هذين وإلا ألحقتُك بهما، قال: فحضرني حديث يزيد بن عبد الملك وقد قعد للمظالم يومًا وعرضت عليه القصص، فمرت به قصة فيها: «إن رأى أمير المؤمنين أن يخرج إليَّ جاريته فلانة حتى تغنيني ثلاثة أصوات فعل»، فاغتاظ يزيد من ذلك وأمر من يخرج إليه ويأتيه برأسه، ثم أتبع الرسول رسولًا آخر، يأمره أن يدخل إليه الرجل فأدخله، فلما وقف بين يديه قال له: ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: الثقة بحلمك، والاتكال على عفوك، فأمره بالجلوس حتى لم يبق أحد من بني أمية إلا خرج، ثم أمر فأُخرِجت الجارية ومعها عودُها، فقال لها الفتى غنِّي:

أفاطم مهلًا بعض هذا التدلل
وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

فغنته، فقال له يزيد: قل، فقال: غنِّي:

تألق البرق نجديًّا فقلت له
يا أيها البرق إني عنك مشغول

فغنته، فقال له يزيد: قل، فقال: يا مولاي، تأمر لي برطل شراب، فأمر له به، فما استتم شربَه حتى وثب وصعد على أعلى قبة ليزيد فرمى نفسه على دماغه فمات، فقال يزيد: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أتراه الأحمق الجاهل ظنَّ أنَّي أخرج إليه جاريتي وأردها إلى مِلْكي! يا غلمان، خذوها بيدها واحملوها إلى أهله إن كان له أهل، وإلا فبيعوها وتصدقوا بثمنها، فانطلقوا بها إلى أهله، فلما توسطت الدار نظرت إلى حفيرة في وسط دار يزيد قد أعدت للمطر، فجذبت نفسها من أيديهم وأنشدت:

من مات عشقًا فليمُت هكذا
لا خير في عشق بلا موت

فألقت نفسها في الحفيرة على دماغها فماتت، فسُرِّي عن محمد وأجزل صلتي.

وبعد، فإن رسالتنا لا تسع التبسط في القول، ولا سيما شخصية بارزة كشخصية الجاحظ، التي تطلب كما قلنا رسالة مسهبة؛ لمكانة الرجل، ففيما قدمناه لك عنه الغُنية والكفاية، ونرى واجبًا علينا قبل أن نختم كلمتنا أن نحيلك هنا على رسالة خطية منسوبة إليه عثرنا عليها بدار الكتب المصرية، قيل إنه كتبها عن بني أمية، وسبق أن أشرنا إليها في كلمتنا عن العصر الأموي، وهي وحدها تنطق بوجهة نظر الرجل ومذهبه في الاعتزال، وتشهد بطول باعه في التبسط والإسهاب، مع فخامة اللفظ وحلاوته، وفراهة الأسلوب وطلاوته، وسمو البيان ومكانته. وقد أثبتناها لك في باب المنثور من الكتاب الثالث من المجلد الثالث، فراجعها ثمة.

(٤) أبان بن عبد الحميد اللاحقي

هو أبان بن عبد الحميد بن لاحق بن عفر مولى بني رقاش، كان بالبصرة ثم رحل إلى البرامكة ببغداد، فاتصل بهم ومدحهم ونال جوائزهم، ثم قويت الصلة بينهم وبينه حتى اتخذوه لهم معلمًا ونصيحًا، يستشيرونه في مهام أمورهم وتدبير شئونهم، وبلغ من حفاوتهم به وإكرامهم له أن جعلوا إليه امتحان الشعراء، وتقدير ما يستحقون من الجوائز والصلات، لكن هذا المنصب جعله غرضًا لهجو الشعراء وذمِّهم؛ لأنه ليس في مقدوره أن يرضيهم جميعًا من جهة، ولأنهم كانوا يرونه دون أن يكون لهم حكمًا من جهة أخرى.

وكان أبو نواس من أشد هؤلاء الشعراء نقمة على أبان، فإن أبا الفرج الأصبهاني يحدثنا أن أبا نواس لم يرض المرتبة التي جعله فيها أبان، فقال يهجوه بهذه الأبيات:

جالست يومًا أبانًا
لا درَّ درُّ أبان
ونحن حضرُ رِواق الـْ
أمير بالنهروان
حتى إذا ما صلاة الـ
أُولَى دنت لأوان
فقام منذر ربي
بالبر والإحسان
فكلما قال قلنا
إلى انقضاء الأذان
فقال كيف شهدتم
بذا بغير عيان
لا أشهد الدهر حتى
تعاين العينان
فقلت: سبحان ربي
فقال: سبحان ماني٢

وبقية القصيدة في ديوان أبي نواس.

فقال أبان يجيبه:

أن يكن هذا النوا
سِيُّ بلا ذنب هجانا
فلقد … حينًا
وصَفَعْناه زمانًا
هانئ الجَوْن أبوه
زاده الله هوانا
سائلِ العباس واسمع
فيه من أمِّك شانا
عجَنوا من جُلَّنار
ليكيدوك عجانا

وجلَّنار هذه هي أم أبي نواس، كان قد تزوجها العباس بعد أبيه، وربما كان لباعث هذه المهاترة بين أبي نواس وأبان أثر كبير فيما كان بين أبي نواس والبرامكة من كراهية وبغضاء، فإن أبا نواس كان معروفًا بسمو المكانة في الشعر، فلا يستطيع مثل أبان أن يُنزِله عن منزلته التي هو جدير بها، إلا إذا كان في ذلك هوًى للبرامكة، وقد يكون بوحي منهم، لكن أبا نواس لم يجد مصدرًا للحكم غير أبان فهجاه، ولم يكن هَجْوُه أبانًا ليُشفي غليله، وإنما يشفي غليله لو استطاع أن ينال بالهجو من يراهم خليقين بهجوه، وهم البرامكة، ولكنه لا يستطيع أن ينالهم بالهجو وهم أصحاب الدولة والسلطان.

كان أبان شديد الإعجاب بنفسه، مدلًّا بعلمه وأدبه، والقصيدة التي قدَّمها للبرامكة حين حاول أن يتصل بهم، على زعم أن يكون له شفيع من ترغيبهم فيه، تعطينا صورة واضحة عنه. وهذه هي القصيدة:

أنا من بغية الأمير وكنز
من كنوز الأمير ذو أرباح
كاتب حاسب خطيب أديب
ناصح زائد على النُّصاح
شاعر مُفلِق أخف من الرِّيـْ
ـشة مما يكون تحت الجناح
لي في النحو فطنة واتقاد
أنا فيه قلادة بوشاح
ثم أروى من ابن سيرين للعلـْ
ـم بقول مُنوَّر الإفصاح
ثم أروى من ابن سيرين للشعـْ
ـر وقول النسيب والأمداح
وظريف الحديث في كل فن
وبصير بترَّهات الملاح
كم وكم قد خبأت عندي حديثًا
هو عند الملوك كالتفاح
فبمثلي تخلو الملوك وتلهو
وتناجي في المشكل الفداح
أيمن الناس طائرًا يوم صيد
لغدو دعيت أو لرواح
أبصر الناس بالجواهر والخيـْ
ـل وبالخرَّد الحسان الصِّباح
كل ذا قد جمعت والحمد لله
على أنني ظريف المزاح
لست بالناسك المشمر ثوبيـْ
ـه ولا الماجن الخليع الوقاح
لو رمى بي الأمير أصلحه الله
رماحًا ثلمتُ حدَّ الرماح
ما أنا واهن ولا مستكين
لسوى أمر سيدي ذي السماح
لست بالضخم يا أميري ولا القز
م ولا بالمجحدر الدحداح
لحية جعدة ووجه صبيح
واتِّقاد كشعلة المصباح
إن دعاني الأمير عاين مني
شمريًّا كالبلبل الصيَّاح

على أن أبانًا مع إعجابه بنفسه وإدلاله بعلمه وأدبه لم يكن في مقدوره أن يساير كبار معاصريه من الشعراء؛ كأبي نواس وأضرابه في قوة الشعر، واختلاف فنونه، وحسن لفظه، ورقة معانيه.

ولعل ذلك يرجع إلى أنه كان ينقصه خصب النفس، وقوة الحس، والخيال المبدع للصور الشعرية، أي قوة الابتكار والاختراع، فإن هذه القوى جميعًا لا بد منها للشاعر لكي يُحسَّ وينتزع ويصوِّر، وهذا يفضي بنا إلى إحدى نتيجتين: إمَّا أن نشك فيما وصف به نفسه من جمال الظرف، وخفة الروح، واتِّقاد الذهن، نشك في اتصافه حقًّا بهذه الصفات، التي تملأ النفس شعورًا بما في الحياة من صور للشعر، وإما أنه كان قصير الباع في تصوير ما تحسه نفسه، وكلا الأمرين يبعد البون بينه وبين أبي نواس وأضراب أبي نواس، ولئن نقصته القوى التي تمده بالصور الشعرية، فقد وُفِّق إلى فن جديد نحسب أنه لم يسبق إليه، وهذا الفن لا يضطره إلى كد القريحة وإعمال الفكر في تصيُّد المعاني الجميلة، وإبرازها في أثواب زاهية جذابة؛ بل لا يحتاج معه إلى أكثر من أن تكون لديه ملكة النظم ووزن الكلام؛ إذ المعاني بين يديه لا يتكلف في سبيلها سعيًا، أو كد قريحة، وهذا الفن الجديد هو النظم التعليمي، وهو أن يعمد الشاعر إلى كتاب معروف منثور فينظمه، أو إلى قواعد عامة في الشريعة أو في اللغة أو في فرع من فروعهما، فينظمها أيضًا، ليَسهُل حفظُها ويقرُب تناولها، وهذا ما فعله أبان وما جعلنا نؤثره بالكلام، فإن هذا النوع من النظم يمثل ناحية طريفة من نواحي الأدب الجديدة في عصرنا المأموني، فقد نكون مُقصِّرين كل التقصير، إذا أغفلنا ذكر مبدعه ومبتكره، نقول: «وهذا ما فعله أبان» فإن الصولي وأبا الفرج الأصفهاني يحدثاننا بأن أبانًا نظم للبرامكة كتاب كليلة ودمنة، ليَسهُل عليهم حفظه، فأعطاه يحيى بن خالد عشرة آلاف دينار، وأعطاه الفضل بن يحيى خمسة آلاف دينار، ولم يعطه جعفر شيئًا وقال له: يكفيك أن أحفظه فأكون راويتك، وقد نقل الأصفهاني من هذا الكتاب بيتين هما:

هذا كتاب أدب ومحنهْ
وهو الذي يدعى كليله دمنهْ
فيه احتيالات وفيه رشدُ
وهو كتاب وضعته الهندُ

وقد أبادت الأيام هذا الكتاب كما أبادت كثيرًا غيره من الكتب العربية القيمة، حتى يئس الأدباء والمؤرخون في العصر الحديث من العثور على شيء منه، وقد يكون من حسن الحظ أن نعلن سرورنا بأنَّا قد وُفِّقنا إلى جزء كبير من هذا الكتاب، في جزء أو أوراق من جزء من كتاب الأوراق المنسوب للصُّولي؛ إذ عثرنا عليه بدار الكتب المصرية منذ أمد طويل حينما كنا نبحث فيها عمَّا وضعه العرب من الموسوعات والمَعْلَمات، وسنذكر في المجلد الثاني ما وجدناه فيه.

ويُحدِّثنا أبو الفرج بأنه عمل أيضًا القصيدة التي ذكر فيها مبدأ الخلق وأمر الدنيا وشيئًا من المنطق، وسماها «ذات الحلل»، ومن الناس من ينسبها إلى أبي العتاهية، والصحيح أنها لأبان، وسياق أبي الفرج هذا لا يدع سبيلًا إلى الشك في وجود هذه القصيدة، ومع الأسف لم ينقل إلينا منها شيئًا.

ويحدثنا الصولي، بسنده، أن أبانًا لما عمل كتاب كليلة ودمنة شعرًا، في قصيدته المزدوجة، أعطاه البرامكة على ذلك مالًا عظيمًا، فقيل له بعد ذلك: ألا تعمل شعرًا في الزهد؟ فعمل قصيدة مزدوجة في الصيام والزكاة، وقد وجدت هذه القصيدة، وترجمتها «قصيدة الصيام والزكاة نقل أبان من فم الرواة» ثم ذكر القصيدة، وقد نشرنا ذلك كله في موضعه من المجلد الثاني.

(٥) أحمد بن يوسف الكاتب

هو أبو جعفر أحمد بن يوسف بن القاسم بن صُبيح الكاتب من أهل الكوفة ومن موالي بني عجل، كان مذهبه الرسائل والإنشاء، وزَّره المأمون بعد أحمد بن أبي خالد، فقد كان يتولى ديوان الرسائل له، وكان معروفًا بين أهل عصره بسمو المكانة في العلم والأدب والكتابة والشعر، حكى عن المأمون وعبد الحميد بن يحيى الكاتب، وحكى عنه ابنه محمد بن أحمد بن يوسف وعلي بن سليمان الأخفش وغيرهما.

كتابته

أما مكانته في الكتابة فرسائله وتوقيعاته التي تحلت بها صدور الأدب، وتزينت بها كتب التاريخ تجعله في مقدمة الكتاب ومن أئمتهم، وهي بما فيها من جودة وإحكام، وتخير للألفاظ، وسلاسة في المعاني، تدل على أنه كان خصيب النفس، سريع الخاطر، وعلى أنه مالك أعنة المعاني، ونواصي الكلام، ولقد شهد له بالسبق في الكتابة والرسائل كبار رجال عصره ومَن جاء بعده.

قال الصولي: لما مات أحمد بن أبي خالد الأحول شاور المأمون الحسن بن سهل فيمن يكتب له ويقوم مقامه، فأشار عليه بأحمد بن يوسف، وبأبي عباد ثابت بن يحيى الرازي، وقال: هما أعلم الناس بأخلاق أمير المؤمنين وخدمته وما يرضيه، فقال له: اخترْ لي أحدهما، فقال الحسن: إن صبَر أحمد على الخدمة، وجفَا لذَّته قليلًا، فهو أحبُّهما إليَّ؛ لأنه أعرف في الكتابة، وأحسنهما بلاغة، وأكثر علمًا، فاستكتبه المأمون.

وروى الصولي، بسنده، أن الكُتَّاب اجتمعوا عند أحمد بن إسرائيل، فذكروا الماضين من الكُتَّاب، فأجمعوا أن أكتَبَ مَن كان في دولة بني العباس أحمد بن يوسف، وإبراهيم بن العباس، وأن أشعر كتاب دولتهم: إبراهيم بن العباس، ومحمد بن عبد الملك الزيات، فإبراهيم أجودهما شعرًا، ومحمد أكثرهما شعرًا، ثم الحسن بن وهب وأحمد بن يوسف.

فأنت ترى، أعزك الله، أن هؤلاء الكُتَّاب لم يقدِّموا أحدًا من كتاب دولة بني العباس على أحمد بن يوسف في الكتابة، وإن قدَّموا عليه في الشعر. والحق أن نبوغه في الكتابة هو الذي كان سببًا إلى ظهوره ورفعته، فقد روى العلماء أنه لما قُتل الأمين أمر طاهر بن الحسين الكُتَّاب أن يكتبوا إلى المأمون فأطالوا، فقال طاهر: أريد أقصر من هذا! فوُصِف له أحمد بن يوسف، فأحضره لذلك، فكتب:

أما بعد، فإن المخلوع وإن كان قسيم أمير المؤمنين في النسب واللحمة، فقد فرَّق حكم الكتاب بينه وبينه في الولاية والحُرمة، لمفارقته عصمة الدين، وخروجه عن إجماع المسلمين، قال الله عز وجل لنوح عليه السلام في ابنه: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ من أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ولا صلة لأحد في معصية الله، ولا قطيعة ما كانت في ذات الله، وكتبت إلى أمير المؤمنين وقد قتل الله المخلوع، وأحصد لأمير المؤمنين أمره، وأنجز له وعده، فالأرض بأكنافها أوطأ مهاد لطاعته، وأتبع شيء لمشيئته، وقد وجهت إلى أمير المؤمنين بالدنيا وهو رأس المخلوع، وبالآخرة وهي البُرْدة والقضيب، والحمد لله الآخذ لأمير المؤمنين بحقه، والكائد له من خان عهده ونكث عقده، حتى ردَّ الألفة، وأقام به الشريعة. والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.

قيل: فرضي طاهر ذلك وأنفذه، ووصل أحمد بن يوسف وقدمه.

وقيل: إن المأمون لما حُمل رأس المخلوع إليه وهو بمرو، أمر بإنشاء كتاب عن طاهر بن الحسين ليُقرأ على الناس، فكتبت عدة كتب لم يرضها المأمون ولا الفضل بن سهل، فكتب أحمد بن يوسف هذا الكتاب، فلما عرضت النسخة على ذي الرياستين رجَّع نظره فيها، ثم قال لأحمد بن يوسف: ما أنصفناك، ودعا بقهرمانه، وأخذ القلم والقرطاس، وأقبل يكتب بما يفرغ له من المنازل ويعد له فيها من الفرش والآلات والكسوة والكراع وغير ذلك، ثم طرح الرقعة إلى أحمد بن يوسف وقال له: إذا كان في غدٍ فاقعد في الديوان، وليقعد جميع الكتاب بين يديك واكتب إلى الآفاق.

قيل: ومما كتبه للمأمون حين كثر الطلاب للصلات ببابه: «داعي نداك يا أمير المؤمنين، ومنادي جَدْواك جمَعا الوفود ببابك يرجون نائلك المعهود، فمنهم من يمت بحُرمة، ومنهم من يُدل بخدمة، وقد أجحف بهم المقام، وطالت عليهم الأيام، فإن رأى أمير المؤمنين أن ينعشهم بسيبه، ويحقِّق حسن ظنهم بطَولِه، فعل إن شاء الله تعالى»، فوقع المأمون: «الخير متبع، وأبواب الملوك مغانٍ لطالبي الحاجات، ومواطن لهم؛ ولذلك قال الشاعر:

يسقط الطير حيث يلتقط الحـ
ـب وتُغشَى منازل الكرماء

فاكتب أسماء من ببابنا منهم، واحك مراتبهم، ليصل إلى كل رجل قدر استحقاقه، ولا تكدر معروفنا عندهم بطول الحجاب وتأخير الثواب؛ فقد قال الشاعر:

فإنك لن ترى طردًا لحرٍّ
كإلصاق به طرَف الهوان.»

وقال إبراهيم بن العباس: سمعت أحمد بن يوسف يقول: أمرني المأمون أن أكتب إلى النواحي في الاستكثار من القناديل في المسجد، فبتُّ لا أدري كيف أفتتح الكلام، ولا كيف آخذ به، فأتى آتٍ في منامي فقال: قل: فإن في ذلك أُنسًا للسابلة، وإضاءة للمتهجدة، ونفيًا لمكامن الريب، وتنزيهًا لبيوت الله عن وحشة الظلم. فانتبهت وقد انفتح لي ما أريد، فابتدأت بهذا وأتممت عليه.

ومن رسائله أيضًا: «لقد أحلك الله في الشرف أعلى ذروته، وبلغك من الفضل أبعد غايته، فالآمال إليك مصروفة، والأعناق إليك معطوفة، عندك تنتهي الهمم السامية، وعليك تقف الظنون الحسنة، وبك تُثنى الخناصر، وتُستفتح أغلاق المطالب، ولا يُستريث النُّجح من رجالك، ولا تعروه النوائب في دارك.» وإنا نحيلك على ما أثبتناه لك في المجلد الثالث من آثاره الممتعة.

شعره

كان أحمد بن يوسف شاعرًا مُعرقًا في الشعر كما كان مُعرقًا في الكتابة، إلا أن حظه من الشعر كان دون حظه من الكتابة، فإن نُقَّاد عصره لم يقدموا عليه أحدًا في الكتابة من كتَّاب بني العباس ووزرائهم، وقد قدَّموا عليه كثيرًا في الشعر، وقد ذكرنا — فيما سبق من ترجمته — إجماع فريق من الكتاب على سبقه في الكتابة دون الشعر. وقد روى الصولي، بسنده، أن قَعنَب بن مُحرز الباهلي قال: كنا نقول لم يلِ الوزارة أشعر من أحمد بن يوسف، حتى ولي محمد بن عبد الملك فكان أشعر منه.

ولم يكن المدح كثيرًا في شعر أحمد بن يوسف؛ فإنه كان بحكم مركزه كوزير للمأمون ورئيس ديوان رسائله غير محتاج إلى أن يتكسب بشعره أو يمدح الناس، ولذلك لا نرى في شعره مدحًا لغير المأمون وليِّه وربِّ نعمته، وكذلك كان هجاؤه قليلًا؛ فإن مروءته وأدبه ومركزه واعتداده بنفسه كل ذلك كان يرفعه عن أن يكون هجَّاء مُقْذعًا، وإنما كان يضطر أحيانًا إلى ذم أعدائه ومنافسيه في غير إقذاع ولا فحش، فمن ذلك قوله في سعيد بن سالم الباهلي وولده وقد كانت بينهم وبينه عداوة، فذكرهم يومًا فقال: «لولا أن الله عز وجل ختم رسالته بمحمد ، وكتبه بالقرآن؛ لبعث فيكم نبي نقمة، وأنزل عليكم قرآن غدر، وما عسيت أن أقول في قوم محاسنهم مساوئ السِّفَل، ومساوئهم فضائح الأمم»، وقال يهجوهم:

أبني سعيدٍ إنكم من معشر
لا تُحسنون كرامة الأضياف
قوم لباهلة بن أعصُر إن همُو
فخَروا حسبتهمو لعبد مناف
مطلوا الغداء إلى العشاء وقرَّبوا
زادًا لعمر أبيك ليس بكاف
بينا أتاك أتاهمُ كبراؤهم
يَلحَون في التبذير والإسراف
وكأنني لما حططتُ إليهمو
رحلي حططتُ بأبرق العزاف

أخلاقه وسيرته

كان أحمد بن يوسف فطنًا بصيرًا بأدوات الملك وآداب السلاطين، ذكيًا سريع الخاطر ذا مروءة وكرم، وكان مع ذلك يضرب في المجون واللهو بسهم، ومما يدل على عظيم مروءته ما قاله عبد الله بن طاهر حين خرج من بغداد إلى خراسان لابنه محمد، وما وقع بين محمد هذا وبينه بعد ذلك، قال عبد الله لابنه: إن عاشرت أحدًا بمدينة السلام فعليك بأحمد بن يوسف الكاتب؛ فإن له مروءة. فما عرج محمد حين انصرف من توديع أبيه على شيء حتى هجَم على أحمد بن يوسف في داره، فأطال عنده، ففطن له أحمد فقال: يا جارية، غدِّينا. فأحضرت طبقًا وأرغفة نقية، وقدمت ألوانًا يسيرة وحلاوة، وأعقب ذلك بأنواع من الأشربة في زجاج فاخر وآنية حسنة وقال: يتناول الأمير من أيِّها شاء، ثم قال: إن رأى الأمير أن يُشرِّف عبده ويجيئه في غد فأنعِمْ بذلك. فنهض وهو متعجب من وصف أبيه له، وأراد فضيحته، فلم يترك قائدًا جليلًا ولا رجلًا مذكورًا من أصحابه إلا عرفهم أنه في دعوة أحمد بن يوسف، وأمرهم بالغدو معه، فلما أصبحوا قصدوا دار أحمد بن يوسف وقد أخذ أهبته وأظهر مروءته، فرأى محمد من النضائد والفرش والستور والغلمان والوصائف ما أدهشه، ونصب ثلاثمائة مائدة وقد حُفَّت بثلاثمائة وصيفة، ونقل إلى كل مائدة ثلاثمائة لون في صحاف الذهب والفضة ومثارد الصين، فلما رفعت الموائد قال ابن طاهر: هل أكل مَن بالباب؟ فنظروا فإذا جميع من بالباب قد نصبت لهم الموائد فأكلوا، فقال: شتان بين يوميك يا أبا الحسن! «كذا في هذه الرواية كناه بأبي الحسن» فقال: أيها الأمير، ذاك قُوتي، وهذه مروءتي!

أما اللهو والمجون فقد كان حظه منهما غير قليل، وحسبنا أن نذكر ما قاله الحسن بن سهل حين شاوره المأمون فيمن يختاره بعد أحمد بن أبي خالد، فأشار عليه بأحمد بن يوسف وبأبي عباد ثابت بن يحيى الرازي، فقال له: اختر لي أحدهما، فقال الحسن: إن صبَر أحمد وجفَا لذاته قليلًا فهو أحبهما إليَّ.

ولقد كان به ما كان ببعض معاصريه من الكتب والشعراء والأدباء من ميل إلى الغلمان …! لذلك لم يكن غزله بريئًا، ولم يعالجه على أنه فن من فنون الشعر، وإنما كان غزله يترجم ترجمة صادقة عن شعوره ونوازع نفسه؛ فإنك لا تستطيع أن تسمع ما كان بينه وبين موسى بن عبد الملك ثم تحكم له بأنه اصطنع الغزل فنًّا من فنون الشعر، فقد كان موسى هذا في ناحيته، وهو الذي قدمه وخرجه، وكان يُرمَى بما كان يُرمَى به مما نُمسك عن ذكره.

حدَّث موسى نفسُه فقال: وهب لي أحمد بن يوسف ألف ألف درهم في مرات. وقد لامه محمد بن الجهم على تقديمه موسى بن عبد الملك على صِباه، فكتب إليه أحمد بن يوسف شعرًا يلتمس إليه فيه أن يكف عن عذله، وقد أمسكنا عن ذِكْره أيضًا لما فيه من مجون.

ومن غزله ما قاله في محمد بن سعيد بن حماد الكاتب — وكان يميل إليه وقيل عنه: إنه كان صبيًّا مليحًا:

صدَّ عني محمد بن سعيد
أحسنُ العالمين ثانيَ جِيد
صدَّ عني لغير جُرْم إليه
ليس إلا لِحُسنه في الصدود

وكان محمد بن سعيد يكتب بين يديه، فنظر إلى عارضه قد اختط في خدِّه، فأخذ رقعة وكتب فيها:

لحاك الله من شَعْر وزادا
كما ألبست عارضه الحدادا
أغرتَ على تَورُّد وجنتيه
فصيرت احمرارهما سوادًا

ورمى بها إلى محمد بن سعيد فكتب مجيبًا: عظم الله أجرك فيَّ يا سيدي، وأحسن لك العوض مني!

وكان لظرفه وفطنته وبصره بالأمور موضعًا لرضا المأمون وعطفه عليه، ويظهر أن علاقته بالمأمون وثقته به وملء يديه منه جعلته لا يتحرز في كلامه كثيرًا، فكان يسقط السقطة بعد السقطة حتى أتلف نفسه في بعض سقطاته، فقد حُكي أن المأمون كان إذا تبخر طُرح له العود والعنبر، فإذا تبخَّر أمر بإخراج المِجْمرة ووضعها تحت الرَّجُل من جلسائه إكرامًا له، وحضر أحمد بن يوسف وتبخَّر المأمون على عادته، ثم أمر بوضع المِجْمرة تحت أحمد بن يوسف، فقال: هانوا ذا المروءة! فقال المأمون: ألنا يقال هذا ونحن نصل رجلًا واحدًا من خدمنا بستة آلاف دينار؟ إنما قصدنا إكرامك وأن أكون أنا وأنت قد اقتسمنا بخورًا واحدًا، يُحضَر عنبر! فأُحضِر منه شيء في الغاية من الجودة، في كل قطعة ثلاثة مثاقيل، وأمر أن تُطرح القطعة في المِجْمرة يتبخَّر بها أحمد بن يوسف، ويُدْخل رأسَه في زيقه حتى يَنفدَ بخورُها، وفُعل به ذلك بقطعة ثانية وثالثة وهو يستغيث ويصيح، وانصرف إلى منزله وقد احترق دماغه، واعتل ومات سنة ٢١٣، وقيل: سنة ٢١٤ﻫ.

وكانت له جارية يقال لها: نسيم، لها من قلبه مكان خطير، فقالت ترثيه:

ولو أن ميتًا هابه الموت قبله
لما جاءه المقدار وهو هيوب
ولو أن حيًّا قبله هابه الردَى
إذن لم يكن للأرض فيه نصيب

وقالت أيضًا ترثيه:

نفسي فداؤك لو بالناس كلهم
ما بي عليك تمنَّوا أنهم ماتوا
وللورَى موتةٌ في الدهر واحدة
ولي من الهم والأحزان مَوْتات

(٦) يحيى بن أكثم القاضي

هو أبو محمد يحيى بن أكثم بن محمد بن قَطَن ينتهي نسبه إلى أكثم بن صَيْفي التميمي حكيم العرب المعروف.

عرف التاريخ يحيى بن أكثم حدثًا في مجلس سفيان بن عُيينة، المعروف بعلمه وورعه ونفوذه؛ إذ يقول ابن خلِّكان في كتابه «وفيات الأعيان»: ورأيت في بعض المجاميع أن سفيان خرج يومًا إلى من جاءه يسمع منه وهو ضَجِر، فقال: أليس من الشقاء أن أكون جالست صخرة بن سعيد، وجالس هو أبا سعيد الخدري، وجالست عمرو بن دينار، وجالس هو عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وجالست الزهري وجالس هو أنس بن مالك، حتى عدَّ جماعة، ثم أنا أجالسكم، فقال له حدث في المجلس: انتصِف يا أبا محمد، قال: إن شاء الله تعالى، فقال: والله لشقاء أصحاب أصحاب رسول الله بك أشد من شقائك بنا! فأطرق سفيان وأنشد قول أبي نواس:

خلِّ جنبيك لرام
وامضِ عنه بسلام
مُتْ بداء الصمت خير
لك من داء الكلام
إنما السالم من ألـْ
ـجَمَ فاهُ بلِجام

فتفرق الناس وهم يتحدثون برجاحة الحدَث، وكان ذلك الحدَث يحيى بن أكثم التميمي، فقال سفيان: هذا الغلام يصلُح لصحبة هؤلاء، يعني السلاطين. ا.ﻫ.

هذا كل ما نعلمه عن حداثة يحيى بن أكثم، وهي حداثة تبشر بما سيكون لهذا الناشئ من مكانة ونفوذ جديرين بما وهبه الله من ذكاء وسرعة خاطر، وقوة قلب وسلاطة لسان. تلك المخايل كانت واضحة فيه، وقد جعلته حديث حاضري مجلس سفيان، وحملت سفيان على أن يقول عنه: هذا الغلام يصلح لصحبة هؤلاء — مشيرًا إلى ولاة الأحكام.

لقد صدَّقت الأيام حدْس سفيان فيه، فقد انخرط يحيى في سلك القضاة صغيرًا لنجابته، ثم درج في مناصب القضاء حتى تبوَّأ أسمى مناصب الدولة؛ تبوأ منصب قاضي القضاة، ومنصب الوزارة للمأمون، منظورًا إليه في كل ما تولاه من المناصب بالتجلة والإكبار من الخاصة والعامة.

ونحن ذاكرون لك حياته وما تولَّاه من مناصب ومكانته العلمية والأدبية، وما كان مُتَّصفًا به من الحزم وحسن السياسة، وأقوال الناس فيه وفي أخلاقه، ووجهة نظر كل فريق من الناس فيه، معتمدين في ذلك على ما بين أيدينا من مصادر تاريخية وأدبية، مُنبِّهين على ما يمكن أن يقع بينهما من خلاف كثير أو قليل.

أول عمل تولاه

أما أول عمل تولاه فيحدثنا عنه ابن طيفور بقوله: «قال: حدثني أحمد بن صالح الأضجم، قال: هل تدري ما كان سبب يحيى بن أكثم؟ قلت: لا، وإني أحب أن أعرفه، قال: يحيى بن خاقان هو وصَله بالحسن بن سهل وقرَّبه من قلبه وكثَّره في صدره حتى ولاه قضاء البصرة، ثم استوزره المأمون فغلب عليه، وحدثني عبد الله بن أبي مروان الفارسي قال: كان ثُمامة سبب يحيى بن أكثم في قضاء البصرة مرتين، وسبب تخلصه من الخادم الذي أمر بتكشيفه بالبصرة، ويقال: إنه قطع خصيته في تعذيبه بالقصب.» ا.ﻫ.

ويقول ابن خلِّكان في سبب اتصاله بالقضاء: أراد المأمون أن يولي رجلًا القضاء، فوُصف له يحيى بن أكثم فاستحضره، فلما حضر دخل عليه، وكان دميم الخَلْق فاستحقره المأمونُ لذلك، فعلم ذلك يحيى فقال: يا أمير المؤمنين، سَلْني إن كان القصد علمي لا خَلْقي، فسأله المأمون المسألة المعروفة في الميراث بالمسألة المأمونية، وهي أبوان وبنتان لم تقسم التركة حتى ماتت إحدى البنتين وخَلَّفت من في المسألة، فقال يحيى: يا أمير المؤمنين، الميت الأول رجل أم امرأة؟ فعرَف المأمون أنه قد عرف المسألة فقلده القضاء.

ثم يذكر لنا ابن خلِّكان بعد ذلك نقلًا عن تاريخ بغداد للخطيب، أن يحيى بن أكثم ولي قضاء البصرة وسنُّه عشرون سنة أو نحوها، فاستصغره أهل البصرة فقالوا: كم سن القاضي؟ فعلم أنه قد استُصغِر فقال: أنا أكبر من عتاب بن أسيد الذي وجَّه به النبي قاضيًا على مكة يوم الفتح، وأنا أكبر من معاذ بن جبل الذي وجَّه به النبي قاضيًا على اليمن، وأنا أكبر من كعب بن سَوْر الذي وجَّه به عمر بن الخطاب رضي الله عنه قاضيًا على أهل البصرة، فجعل جوابه احتجاجًا.

قد عرفت — مما ذكرناه عن ابن طيفور المُعاصر ليحيى وعن ابن خلكان — أن بين روايتَي المؤرخين في سبب اتصال يحيى بالقضاء خلافًا، فابن طيفور يروي لنا أنه اتصل أولًا بالحسن بن سهل، نائب الخليفة المأمون في بغداد، ثم ولَّاه قضاء البصرة.

وابن خلكان يروي لنا أنه اتصل بالمأمون، وبعد أن امتحنه وعرف فضله ولاه القضاء، فهل يمكن التوفيق بين روايتيهما؟

يخيل إلينا أن كلتا الروايتين صحيحة، خصوصًا إذا ذكرنا ما رواه ابن طيفور من أن ثمامة كان سبب يحيى بن أكثم في قضاء البصرة مرتين؛ إذ يمكن أن تكون توليته قضاء البصرة في المرة الأولى كانت عن طريق اتصاله بالحسن بن سهل، وأن توليته في المرة الثانية كانت عن طريق اتصاله بالخليفة المأمون، وأن ما ذكره ابن خلكان في تاريخه من استصغار أهل البصرة له ثم احتجاجه عليهم بما فعله النبي وبما فعله عمر رضي الله عنه كان في المرة الأولى.

وبهذا التحليل نستطيع أن نفهم ما يذكره المؤرخون من أنه عُزل من قضاء البصرة لأمره بتعذيب خادم بالقصب بعد تكشيفه حتى قطعت خصيته، ثم ما يذكرونه من أنه عُزل لقوله أبياتًا من الشعر تغزُّلًا في ابني مسعدة، وكانا على نهاية الجمال.

ومهما يكن من شيء فنحن نرجح أنه تولى قضاء البصرة مرتين: الأولى عن طريق الحسن بن سهل، ثم عزل لأحد السببين المذكورين أو غيرهما مما لا نقطع به، والثانية عن طريق المأمون.

بقى شيء آخر فيما يرويه ابن خلكان نريد أن نلفت النظر إليه، فقد يكون فيه شيء من التناقض أو السهو؛ ذلك بأنه يروي لنا أن يحيى حين ولي قضاء البصرة كانت سنه نحو عشرين سنة، وأن أهل البصرة استصغروه فاحتج عليهم بما فعله النبي وعمر، وسواء أكانت توليته عن طريق الحسن بن سهل أم عن طريق المأمون فهي لا تعدو أوائل القرن الثالث الهجري، ثم يذكر بعد ذلك أنه توفِّي بالربذة سنة اثنتين وأربعين ومائتين وقبل غُرَّة ثلاث وأربعين وعمرُه ثلاثٌ وثمانون سنة، إذ مهما بالَغْنَا في سنه مُتَمشِّين مع رواية ابن خلِّكان، نقلًا عن تاريخ بغداد، من أنه تولَّى قضاء البصرة وسنُّه نحو العشرين، فلن نعدو به الستين إلا قليلًا، فكيف يمكن التوفيق بين هذا وبين ما يقوله ابن خلكان من أنه توفِّي وعمرُه ثلاثٌ وثمانون سنة، ولو فرضنا صحة ما يقوله ابن خلكان في عمره حين الوفاة، وفرضنا أيضًا صحة ما نقله عن تاريخ بغداد من أنه تولَّى قضاء البصرة وسنُّه نحو العشرين؛ لكانت توليته قضاء البصرة في النصف الأول من عهد الرشيد لا في عهد المأمون، وهو خلاف المجمع عليه وخلاف ما ينقله هو أيضًا من أن توليته البصرة كانت سنة اثنتين ومائتين.

ثم نرى يحيى بعد أن عُزل من قضاء البصرة في بغداد ثاويًا في دار شادها له صديقه الحميم ثُمامة بن أشْرس بحضرته — وكان ثمامة بن أشرس هذا عالمًا مُتكلِّمًا سليط اللسان قوي الحجة ذا آراء في الاعتزال، وإليه تنسب الطائفة الثمامية من المعتزلة، وكان متصلًا بالمأمون محببًا إليه، موثوقًا به منه، فكان خير وسيلة لاتصال صديقه يحيى بالخليفة المأمون — ثم عرف المأمون ما في يحيى من علم وذكاء وحزم فأدناه إليه وقربه منه، وخصَّه برعايته وعطفه حتى غلب عليه دون الناس جميعًا.

ويحدثنا ابن طيفور أن يحيى بن أكثم قال للمأمون: أظهر لكل قاضٍ ما تريد أن تولِّيه إياه وأْمُرْه بكِتمانه، ثم انظر أيفعل أم لا، وضَعْ عليهم أصحاب أخبار، فقال له المأمون: أولِّيك قضاء القضاة، وقال لغيره ما يريد أن يوليه، فشاع ذلك كله إلا خبر يحيى، فإنه أتاه أن الناس ذكروا أنه يريد الخروج إلى البصرة على قضائها، فذمَّهم، وقال له: كيف شاع هذا وأمرت باكتراء السفن إلى البصرة؟ قال يحيى: يا أمير المؤمنين، ليس يستقيم كتمان شيء إلا بإذاعة غيره وإلا وقع الناس عليه، قال: صدقت وحمده.

من المجمع عليه أن يحيى بن أكثم كان قاضي القضاة للخليفة المأمون، ولكن هل توَزَّر له؟ لم يذكره الفخري في وزراء المأمون، لكن ابن طيفور ذكر فيما نقلناه عنه أن المأمون استوزره، فهل يمكن أن يكون المراد من استيزار المأمون له ما ذكره طلحة بن محمد بن جعفر؟ إذ يقول في آخر وصفه لفضل يحيى بن أكثم وعلمه وأخلاقه: «وكان المأمون ممن برع في العلوم فعرف من حال ابن أكثم وما هو عليه من العلم والعقل ما أخذ بمجامع قلبه حتى قلَّده قضاء القضاة، وتدبير أهل مملكته، فكانت الوزراء لا تعمل في تدبير الملك شيئًا إلا بعد مطالعة يحيى بن أكثم.» ليس يبعد أن يكون هذا هو المراد، على أنا قد عددناه من وزراء المأمون في كلمتنا المجملة عن وزرائه.

ومهما يكن من شيء، فقد كان يحيى بن أكثم قاضي القضاة وصاحب الكلمة العليا والأمر النافذ في الدولة، وكانت مكانته من المأمون لا تدنو منها مكانة، ولكي تقدر حظوته لدى المأمون وأدب المأمون معه نورد لك ما يروى عن يحيى بن أكثم نفسه، قال:

بتُّ ليلة عند المأمون فانتبه في بعض الليل فظن أني نائم، فعطش ولم يدْعُ الغلام لئلا أنتبه، وقام متسللًا خائفًا هادئًا في خطاه حتى أتى البرادة، فشرب ثم رجع وهو يُخفي صوته كأنه لص حتى اضطجع، وأخذه سُعال فرأيته يجمع كمَّه في فمه كي لا أسمع سعاله، وطلع الفجر فأراد القيام وقد تناومتُ، فصبر إلى أن كادت تفوت الصلاة فتحرَّكت، فقال: الله أكبر، يا غلام، نبِّه أبا محمد، فقلت: يا أمير المؤمنين، رأيت بعيني جميع ما كان الليلة من صنيعك، وكذلك جعلنا الله لكم عبيدًا، وجعلكم لنا أربابًا.

وهاك حكاية أخرى تدل على أدب المأمون وحظوة يحيى لديه، وهي مروية عن ثمامة بن أشرس صديق يحيى وثقة المأمون، قال ثمامة: «كان يحيى بن أكثم يماشي المأمون يومًا في بستان موسى والشمس عن يسار يحيى والمأمون في الظل وقد وضع يده على عاتق يحيى وهما يتحادثان حتى بلغ حيث أراد، ثم كرَّ راجعًا في الطريق التي بدأ فيها، فقال ليحيى: كانت الشمس عليك لأنك كنتَ عن يساري، وقد نالت منك، فكن الآن حيث كنتُ وأتحول أنا إلى حيث كنتَ، فقال يحيى: والله يا أمير المؤمنين لو أمكنني أن أقيَك هولَ المطلع بنفسي لفعلت، فقال المأمون: لا والله ما بد من أن تأخذ الشمس مني مثلما أخذت منك، فتحول يحيى وأخذ من الظل مثل الذي أخذ منه المأمون.» ا.ﻫ.

ولم يزل في هذه الرعاية من المأمون والحظوة لديه يفوض إليه المأمون جليل الأعمال، ويرسله في مهام الأمور، حتى كانت سنة ٢١٦ﻫ؛ إذ نرى المأمون بمصر يسخط على يحيى بن أكثم الذي كان في حاشيته، ويرسله مغضوبًا عليه إلى العراق، ثم يبلغ من حنقه عليه أن يكتب في وصيته إلى ولي عهده المعتصم محذرًا إياه من اصطناع الوزراء والركون إليهم، ضاربًا بيحيى بن أكثم مثلًا في سوء السيرة وقبيح الفعال، ونحن نلقي على مسامعك ما كتبه في وصيته متعلقًا بيحيى: «ولا تتخذن بعدي وزيرًا تلقي إليه شيئًا؛ فقد علمت ما نكبني به يحيى بن أكثم في معاملة الناس وخُبث سيرته، حتى أبان الله ذلك منه في صحة مني، فصرتُ إلى مُفارقته قاليًا له غير راضٍ بما صنع في أموال الله وصدقاته، لا جزاه الله عن الإسلام خيرًا.»

ثم لم تزل تختلف الأحوال على يحيى بن أكثم بعد ذلك، وتتقلب به الأيام حتى أيام المتوكل على الله، فلما عُزل القاضي محمد بن القاضي أحمد بن أبي دُوَاد فوض ولاية القضاء إلى القاضي يحيى، وخلَع عليه خمس خلع، ثم غضب عليه المتوكل وعزله سنة أربعين ومائتين وأخذ أمواله، وأُلزم منزله. ثم حج بعد ذلك وأخذ معه أخته واعتزم أن يجاور، ثم بلغه رضا المتوكل عنه ورجوعه له، فبدا له في المجاورة ورجع يريد العراق، فلما كان بالربذة في طريقه إلى العراق وافته المنية يوم الجمعة منتصف ذي الحجة سنة أربعين ومائتين، وقيل: غُرة ثلاث وأربعين ومائتين، ودفن هناك. وقد قدمنا لك ما ذكره ابن خلكان في عمره حين الوفاة، وشفعناه بما يمكن أن يكون في كلامه من تناقض أو سهو أو تحريف.

كان يحيى بن أكثم فقيهًا عالمًا بالفقه، بصيرًا بالأحكام، وقد عدَّه الدارقطني في أصحاب الشافعي رضي الله عنه، راويًا للحديث، آخذًا بحظ كبير من كل فن، سمع الحديث عن عبد الله بن المبارك وسفيان بن عيينة وغيرهما، ويروي عنه الترمذي وغيره من رجال السنة وحفَظة الحديث، وكانت له منزلة سامية لدى رجال الدين وعلماء الجماعة.

ومما رفع منزلته لدى الناس جميعًا موقفه المشهور مع المأمون، مما يدل على سعة علمه، وقوة حجته، وعظيم جراءته؛ ذلك بأن المأمون رأى وهو في طريقه إلى الشام جواز نكاح المتعة، فوقف له يحيى موقفًا أكسبه حمْدَ أئمة الدين وثناءهم عليه. ونحن نزجى إليك هذا الحديث نقلًا عن ابن خلكان، قال: «حدث محمد بن منصور قال: كنا مع المأمون في طريق الشام فأمر فنودي بتحليل المتعة، فقال يحيى بن أكثم لي ولأبي العيناء: بكِّرا غدًا إليه؛ فإن رأيتما للقول وجهًا فقولا، وإلَّا فأمسكا إلى أن أدخل، قال: فدخلنا عليه وهو يستاك ويقول وهو مغتاظ: مُتعتان كانتا على عهد رسول الله وعلى عهد أبي بكر رضي الله عنه وأنا أنهى عنها! ومَن أنت يا جعل حتى تنهى عما فعله رسول الله وأبو بكر رضي الله عنه! فأومأ أبو العيناء إلى محمد بن منصور وقال: رجل يقول في عمر بن الخطاب ما يقوله نكلمه نحن! فأمسكنا، فجاء يحيى بن أكثم فجلس وجلسنا، فقال المأمون ليحيى: ما لي أراك متغيرًا؟ فقال: هو غمٌّ يا أمير المؤمنين لما حدَث في الإسلام، قال: وما حدث فيه؟ قال: النداء بتحليل الزنا! قال: الزنا؟ قال: نعم، المتعة زنًا، قال: ومن أين قلت هذا؟ قال: من كتاب الله عز وجل وحديث رسول الله ، قال الله تعالى: قد أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ إلى قوله: وَالذينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا علىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ يا أمير المؤمنين، زوجة المتعة ملك يمين؟ قال: لا، قال: فهي الزوجة التي عند الله ترث وتورث وتلحق الولد ولها شرائطها؟ قال: لا، قال: فقد صار متجاوز هذين من العادين، وهذا الزهري، يا أمير المؤمنين، روى عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنفية، عن أبيهما، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله أن أنادي بالنهي عن المتعة وتحريمها بعد أن كان قد أمر بها، فالتفت إلينا المأمون فقال: أمحفوظ هذا من حديث الزهري؟ فقلنا: نعم، يا أمير المؤمنين، رواه جماعة منهم مالك رضي الله عنه، فقال: أستغفر الله! نادوا بتحريم المتعة، فنادوا بها.» ا.ﻫ.

أما آراء يحيى الكلامية فإن المؤرخ يقف أمامها موقف حيرة وإحجام، ويحتاج إذا أراد أن يبدي رأيًا فيها إلى شيء غير قليل من الأناة والروية؛ ذلك بأن يحيى كان يقف موقفًا قريبًا من الفتنة العنيفة التي كانت مضطرمة في وقته، فهو قاضي قضاة المأمون، ومنزلته منه منزلة يُغبط عليها، والمأمون زعيم القائلين بخلق القرآن، وهي بدعة اعتزالية، ثم هو في الوقت نفسه مرضيٌّ عنه من الجماعة وأهل السنة، ثم نراه حينًا يقف موقف المعارضة من صديقه وحميمه ثُمامة بن أشرس المعتزلي وزعيم الطائفة الثمامية، معارضة تشتدُّ في بعض الأحيان إلى المخاشنة والمهاترة، وأنت تعلم من هو ثُمامة وما علاقته بالمأمون وثقة المأمون به، ثم تعلم ما كانت علاقته بيحيى نفسه وكمْ له من يدٍ عليه، أضف إلى كل هذا ما يرويه ابن خلِّكان من أنه كان يقول: «القرآن كلام الله، فمن قال: إنه مخلوق يُستتاب، فإن تاب وإلا ضُربت عنقه» ولاحِظْ أن المأمون زعيم القائلين بذلك.

فهل يمكن مع ذلك إبداء رأي في عقيدة يحيى الكلامية؟ وهل يمكن أن تكون كل هذه الروايات صحيحة مع ما يبدو عليها من شبه تناقض؟

نظن أنه باستعمال شيء من التحليل يمكن إبداء الرأي، ويمكن التوفيق أيضًا؛ ذلك بأن يحيى بن أكثم كان كيِّسًا حازمًا، خفيف الروح، حلو اللسان، فاستطاع بذلك أن يداري الناس جميعًا، خاصَّتهم وعامَّتهم، وأن يكتسب رضاهم جميعًا، فإذا حُووِر وجُودِل فاشتد أحيانًا؛ فإنما يكون ذلك إلى الحد الذي لا يمس مكانته ونفوذه، فبقي في حظوة لدى المأمون وإخوان المأمون دونها كل حظوة، وكان في الوقت نفسه بموضع الكرامة والرضا من أهل السنة والجماعة.

إلى هنا لم نستطع أن نبدي شيئًا في رأيه، وكل ما يمكن أن يُستنبط مما تقدَّم أنه كان حسن التقية، بارعًا في المداراة والمصانعة والرياء، وكانت هذه الخلة من أظهر مميزات العصر؛ فالخليفة يداري فيقابل قاتل أخيه بالترحاب، فإذا ما خرج القائد القاتل وسُئل المأمون عن عَبْرة استعبرها كانت إجابته: «قتلني الله إن لم أقتل طاهرًا» ثم هو بعدُ يوصي صاحب أخباره بالرياء، ويعدد لنا أهل الرياء في عصره. وهاك مثلًا قاضي قضاته كما ترى من سيرته.

ولكن هل من الممكن أن نستسيغ مشادَّته العنيفة أحيانًا في محاورة صديقه ومُصطنعه ثمامة بن أشرس، مع ما في هذه المشادة من نُكران للجميل، ومن تعريض نفوذه للضياع، دون أن يكون على خُلْف معه في الرأي، ودون أن نميل إلى صحة ما يرويه المؤرخون من أنه كان سليمًا من البدعة ينتحل مذهب أهل السنة؟

هذا ما يمكن أن تؤدي إليه المقدمات وإن كانت حياة يحيى والبيئة التي تحيط به تجعله إلى الجانب الآخر أقرب. نريد من كل هذا أن نستنبط رأي يحيى الكلامي وإن كان، وهو قاضي القضاة، حريصًا على أن يكون بنجوة عن منازعات الأحزاب الكلامية، إذ نظن أن الذي ينصح إلى المأمون حين أراد أن يلعن معاوية، وأن يكتب بذلك كتابًا يُقرأ في حفل من الناس بقوله: «يا أمير المؤمنين، إن العامة لا تحتمل هذا، ولا سيما أهل خراسان، ولا تأمن أن تكون لهم نفرة، وإن كانت لم تدر ما عاقبتها، والرأي أن تدع الناس على ما هم عليه، ولا تظهر٣ لهم أنك تميل إلى فرقة من الفِرق، فإن ذلك أصلح في السياسة، وأحرى في التدبير.» نظن أن الذي يفعل ذلك هو من أحرص الناس.

هذا كله كان في الفترة التي كان فيها مُتصلًا بمناصب الدولة أو على أمل الاتصال بها، أما بعد أن سخط عليه المأمون وأقصاه من مناصب الدولة، وأوصى إلى المعتصم بأن يتدرَّع بالحذر منه ومن أمثاله، فقد ظهر يحيى بن أكثم معارضًا عنيفًا لبدعة خلْق القرآن، ومن هنا نميل إلى أن نفترض أن الجملة التي رواها ابن خلكان صحيحة النسبة إليه، وأنها من آثاره بعد غضب المأمون عليه.

أدبه

ذُكر أن يحيى بن أكثم كان فقيهًا بصيرًا بالأحكام، راويًا للحديث، آخذًا من كل فن بطرف، ويظهر أن حظه من الأدب الإنشائي لم يكن كحظه من غيره، فإنه لم يؤثر عنه في المصادر التي بين أيدينا من القطع الرائعة النثرية أو الشعرية إلا أبيات من الشعر نُسبت إليه في الغزل بالمذكَّر، من ذلك ما عُزي إليه حين دخل عليه ابنا مَسعدة، وكانا في نهاية الجمال، وكانا كلما يمشيان في الصحن أنشد قوله:

يا زائرينا من الخيام
حياكم الله بالسلام
لم تأتياني وبي نهوض
إلى حلال ولا حرام
يحزنني أن وقفتما بي
وليس عندي سوى الكلام

ويقال: إن هذه الأبيات كانت سببًا لعزله كما قدمنا.

ومما ينسب إليه من الشعر قوله في غلام جميل كان يكتب بين يديه، فقرَص القاضي خدَّه، فخجل الغلام وطرح القلم من يده، فأملى عليه هذه الأبيات:

أيا قمرًا جمشته فتغضَّبا
وأصبح لي من تيهه متجنِّبَا
إذا كنت للتجميش والعض كارهًا
فكن أبدًا يا سيدي متنقبَا
ولا تظهر الأصداغ للناس فتنة
وتجعل منها فوق خديك عقربَا
فتقتل مسكينًا وتفتن ناسكًا
وتترك قاضي المسلمين معذبَا

وقيل: إن هذه الأبيات قالها في الحسن بن وهب وهو صبي، وقد لاعبه وجمَّشه فغضب الحسن.

أخلاقه

حسبنا أن نذكر لك دلالة على ما لهذا الرجل من فطنة وحزم وتدبير وحسن سياسة أنه تملَّك قلب المأمون، الذي قدمنا لك عنه ما قدمنا، حتى غلب عليه دون الناس جميعًا، وكان مع ذلك مهيبًا، خفيف الروح، سليط اللسان، قويَّ القلب، سريع الخاطر، وحسبك دلالة على قوة قلبه وسرعة خاطره ما روي من أن المأمون قال له معرضًا به: من الذي يقول:

قاض يرى الحدَّ في الزناء ولا
يرى على من يلُوط من باس؟

قال: أوَما يعرف أمير المؤمنين من القائل؟ قال: لا، قال: يقوله الفاجر أحمد بن أبي نعيم الذي يقول:

لا أحسب الجَور ينقضي وعلى الـ
ـأمَّة والٍ من آل عبَّاس

فأفحم المأمون خجلًا وقال: ينبغي أن يُنفَى أحمد بن أبي نعيم إلى السَّند. وهذان البيتان من قصيدته التي قد ذكرناها في الحياة الأدبية لعصر المأمون.

وقد جعل العلماء مقارنة بين أحمد بن أبي دُوَاد ويحيى بن أكثم في أخلاقهما وآرائهما ونفوذهما لدى الملوك، فيقال: إن كليهما غلب على سلطانه في عصره، ووصفهما بعض البلغاء وقد سئل عن أيهما أنبل فقال: كان أحمد يجِدُّ مع جاريته وابنته، ويحيى يهزل مع خصمه وعدوه.

سيرته

أما سيرته فلم نر رجلًا في مركزه الديني والاجتماعي حامت حوله الريب والإشاعات مثلما حامت حول هذا القاضي، ومع هذه الريب والإشاعات فقد كان مرعي الجانب، موفور الكرامة، ويظهر أن جل الناس حتى أخص أصدقائه به كانوا يجنحون إلى تصديق هذه الإشاعات، إلا أئمة الدين، فقد كانوا يكبرونه وينكرون أن يكون لهذه الإشاعات ظل من الحق، فقد سئل أحمد بن حنبل عن هذه الإشاعات فأنكرها إنكارًا.

ولعل الذي يفسر موقف رجال الدين منه هذا الموقف وإنكارهم ما ينسب إليه من إشاعات موقف يحيى من المأمون يوم «المتعة» وغير يوم المتعة، مما جعله في نظرهم بطلًا من أبطال الدين، وخليقًا بمثله أن يكون بنجوة من كل منكر.

أما يحيى نفسه، فيحدثنا ابن خلكان نقلًا عن ابن الأنباري، أنه قال لرجل كان يأنس له ويمازحه: ما تسمع الناس يقولون فيَّ؟ قال: ما أسمع إلا خيرًا، قال: ما أسألك لتزكيني، قال: أسمعهم يرمون القاضي … قال: فضحك، وقال: اللهم غفرًا المشهور عنا غير هذا.

ويقال: إن المأمون لما تواترت هذه الإشاعات أراد أن يمتحنه فأخلى له مجلسًا واستدعاه، وكان قد أسرَّ إلى غلام خزري أن يكون في خدمتهما وحده حتى إذا خرج المأمون عابث القاضي، فلما استقر بهم المقام وخرج المأمون أخذ الغلام يعابث القاضي، فسمع المأمون — وكان يستمع حديثهما — القاضي يقول: «لولا أنتم لكنا مؤمنين»، فدخل عليهما منشدًا قول أبي حكيمة راشد بن إسحاق الكاتب:

وكنا نُرجِّي أن نرى العدل ظاهرًا
فأعقبنا بعد الرجاء قنوط
متى تصلح الدنيا ويصلح أهلها
وقاضي قضاة المسلمين يلُوط

وقد قلنا: إن أخص أصدقائه به كان يجنح إلى تصديق هذه الإشاعات، فقد قيل: إن صديقه أبا عبد الله الحسين بن عبد الله بن سعيد اشتهى بعد أن مات يحيى أن يراه في المنام ليعلم ما فعل الله به، فأوحت إليه الأحلام أن الله غفر له بعد أن وبَّخه على تخليطه، وأن يحيى حاجَّ ربه بالحديث المشهور: «إني لأستحي أن أعذب ذا شيبة بالنار.» فهل يستوحي الأحلام ليعلم ما فعل الله بصديقه مَن يعتقد براءته؟

تآليفه

يحدثنا المؤرخون أن يحيى بن أكثم ألف كتبًا في الفقه، وأخرى في الأصول، وله كتاب أورده على العراقيين أصحاب أبي حنيفة سماه «كتاب التنبيه». وهذا يؤيد ما قاله الدارقطني من أنه كان من أصحاب الشافعي.

(٧) إسحاق بن إبراهيم الموصلي

قد يكون حظ المغنين وأهل الموسيقى المسلمين من عناية المؤرخين في العصور الإسلامية أكثر من حظ غيرهم، وقد عُنِي المؤرخون بتسجيل حوادثهم وألحانهم وإيقاعاتهم، وما كان يقع بينهم من خلاف منشؤه المنافسة والحسد، أو التقرُّب إلى ذوي السلطان، وما كان يتفق لهم من مفاكهات لطيفة، ونكات طريفة. وهذه العناية ظاهرة من الكتب الكثيرة التي أُرصدت لهذه الناحية من تاريخ الحضارة الإسلامية، وقد عبث الدهر بجل هذه الكتب ولم يبق منها إلا القليل، وعلى رأس هذا القليل الباقي — وهو الحجة في هذا الموضوع — كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني.

وقبل أن نعرض للكلام على إسحاق وتفصيل حياته، نقرر أننا عاجزون كل العجز عن أن نجلو الناحية الفنية من شخصيته، فإن جلاء هذه الناحية وكشفها لا يتسق إلا لرجل أُوتي حظًّا كبيرًا من الموسيقى، يستطيع به أن يقدِّر مواهب أهل الفن وما وفِّقوا إليه من إجادة، ونرجو أن يتاح لإسحاق من يتوافر له هذا الحظ، فيجلو لنا شخصيته الفنية، ومبلغ المدى الذي قطعه في سبيل الكمال الموسيقي، كما أتيح «لبتهوفن» وغير «بتهوفن» من أصحاب المواهب الكبيرة في الموسيقى من أبرَز شخصياتهم الفنية للناس، وأبان ما لعبقرياتهم من آيات خالدات في الفن.

ولن يستطيع أحد مهما أُوتي من مواهب واتخذ من أسباب أن يجلو شخصية إسحاق الفنية ما بقيت مصطلحات الموسيقى العربية مغلقة لم تفتح، وما بقيت تعاليمها ألغازًا لم تُحلَّ.

وإذ كان هذا هو موقفنا من الناحية الفنية إزاء شخصية إسحاق، فلنكن مؤرخين ليس غيرُ، نورد لك الحوادث كما رواها المؤرخون مع تحليل ما نوفَّق إلى تحليله من أخلاقه وأعماله فنقول: هو أبو محمد إسحاق بن إبراهيم بن ميمون بن بَهمَن بن نسك، ووالده إبراهيم وهو ماهان، وسبب نسبته إلى ميمون أنه كتب كتابًا إلى صديق له فعنونه: من إبراهيم بن ماهان … فقال بعض إخوانه من فِتْيان الكوفة: أما تستحي من هذا الاسم؟ قال: هو اسم أبي، قال: فغيِّره، قال: فكيف أغيره؟ فأخذ الفتى الكوفي الكتاب فمحا ماهان وكتب ميمونًا، فصار من ذلك الحين إبراهيم بن ميمون.

وأصل أسرة إسحاق من فارس، من بيت شريف في العجم، كان هرب جده ماهان من جور بعض عمال بني أمية لخراج طُولب بأدائه، فنزل الكوفة، وأُمُّ إبراهيم والد إسحاق من بنات الدهاقين الذين هربوا كما هرب ماهان، وتزوجها ماهان بالكوفة، فولدت له إبراهيم ثم مات وسِنُّ إبراهيم سنتان أو ثلاث، فكفل إبراهيمَ آلُ خزيمةُ بن خازم، ومن هذا صار ولاؤه إلى تميم.

وقد سأل الرشيدُ إبراهيمَ عن السبب بينه وبين تميم، فقال له: ربونا يا أمير المؤمنين فأحسنوا تربيتنا، ونشأت فيهم، وكان بيننا وبينهم رضاع فتولونا بهذا السبب. وقال إسحاق يفتخر بأصله وبيته وكافلي أبيه:

إذا كانت الأشراف أصلي ومنصبي
ودافع ضيمي حازمٌ وابن خازم
عطستُ بأنف شامخ وتناولتْ
يداي الثُّريا قاعدًا غير قائم

وسبب قولهم: الموصلي أنه لما اشتد إبراهيم وأدرك صحِب الفِتيانَ واشتهى الغناء وطلبه، فاشتد أخواله عليه في ذلك وبلغوا منه، فهرب إلى الموصل وأقام بها سنة، فلما رجع إلى الكوفة قال له إخوانه من الفتيان: مرحبًا بالفتى الموصلي، فغلَبت عليه.

ثم ما زال إبراهيم يأخذ بأسباب الغناء حتى حذقه، واتصل بأحد عمَّال المهدي، ثم بلغ المهديَّ أمره فطلبه إليه، وبقي بعد ذلك مُتَّصلًا بالخلفاء ورجالات الدولة حتى توفِّي في عهد الرشيد سنة ١٨٨ﻫ.

أما ابنه إسحاق الذي عقدنا هذا الفصل لتحليل شخصيته وللكشف عن مواهبه وأخلاقه، فولد سنة ١٥٠ﻫ ولم يظهر شأنه وتتم منزلته إلا في أيام الرشيد، ثم أخذ نجمه يتألق في سماء الخلافة العباسية أيام الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق، ثم تُوفِّي سنة ٢٣٥ﻫ في صدر أيام المتوكل، وكان يحُلُّ من هؤلاء الخلفاء جميعًا بموضع العطف والتجلة، وسنذكر شيئًا من صلته بكل خليفة، وما كان يغدقه عليه كل خليفة من عطف ومال.

نشأته

كان حظ إسحاق من وسائل التهذيب والتثقيف خيرًا من حظ والده إبراهيم، فإن والده نشأ يتيمًا فكفله غيرُ أبيه، حتى إذا شبَّ وترعرع وظهر ميله إلى نوع خاص من الفنون لم يجد من القائمين بأمره ومَن لهم سلطان عليه مَن يُقدِّر استعداده الفطري، ونزعاته النفسية، حتى اضطر — من إلحاح ضغط أخواله عليه، ومطالبتهم إياه أن يترك الغناء، وألا يأخذ في شيء من أسباب الموسيقى — أن يهيم على وجهه في الأرض، في سبيل تحقيق ما تميل إليه نفسه، ويهيئه له استعداده.

أما إسحاق فقد نشأ في بيت أبيه، وشبَّ وترعرع بعينه،٤ وقد وجد من أبيه الذي فهم الحياة ولذعته آلامها مَن يهتم بتثقيفه، ويحترم نزعاته الفطرية وميوله النفسية. وإسحاق يعد ابن رجل أثير عند الخلفاء، مُقدَّم لدى رجالات الدولة، وفي وفرة من الثراء وحظ عظيم من الترف، مما يصله به الخلفاء وغير الخلفاء، فاستطاع إسحاق لجاه أبيه وماله أن يختلف إلى جلة العلماء وكبار رجال الفن، وأن يرتاد خير البيئات والأوساط التي لا يقل أثرها في تهذيب النفوس عن أثر التعليم، وقد كان من حظ الموسيقى والآداب أن تتهيأ الأسباب وتستوى الوسائل لرجلها الفذ ونابغتها العظيم.

ويحدثنا إسحاق عن شيء من تربيته وتثقيفه فيقول: «أقمت دهرًا أغلِّس كل يوم إلى هشيم، فأسمع منه ثم أصير إلى الكسائي أو إلى الفراء فأقرأ عليه جزءًا من القرآن، ثم أتي منصور زلزل، فيضاربني طريقتين أو ثلاثًا، ثم آتي عاتكة بنت شهدة فآخذ منها صوتًا أو صوتين، ثم آتي الأصمعي وأبا عبيدة فأناشدهما وأحادثهما وأستفيد منها، ثم أصير إلى أبي فأُعلِمه بما صنعت وأخذت، وأتغدى معه وأروح معه عشاء إلى أمير المؤمنين.»

فأنت ترى من حديث إسحاق عن فترة من فترات نشأته وتثقيفه أنه كان يختلف كل يوم إلى رجال الحديث، ثم رجال القرآن والنحو، ثم أهل الفن الضاربين على الآلات والملحنين، ثم يذهب بعد ذلك إلى أهل الأدب والرواية، فيناشدهم ويحادثهم، ويستفيد منهم، ثم يجتمع بأبيه بعد ذلك كله يخبره بما صنع وأخذ، حتى إذا جاء المساء ذهب مع أبيه إلى دار الخلافة، وهي — أيدك الله — خير منتدى لرجال العلم والأدب والسياسة في الدولة.

هذه التربية المنظمة والبيئات الراقية أخرجت من طفل إبراهيم الموصلي — ذلك الطفل الذكي النشيط — رجلًا يصفه صاحب الأغاني بقوله: «موضعه من العلم، ومكانه من الأدب، ومحله من الرواية، وتقدمه في الشعر، ومنزلتُه في سائر المحاسن أشهر من أن يُدلَّ عليها بوصف، وسترى في مطاوي ما نورده عليك من أحاديثه ونوادره أنه ما عالج علمًا من العلوم أو فنًّا من الفنون إلا برع فيه وبرز.»

فأما الغناء، فحدثنا أبو الفرج صاحب الأغاني أنه كان أصغر علومه، وأدنى ما يوسم به، وإن كان الغالب عليه وعلى ما كان يحسنه، فإنه كان له في سائر أدواته نظراء وأكفاء، ولم يكن له في هذا نظير لحق بمن مضى فيه، وسبق من قد بقي، وسهَّل طريق الغناء وأنارها، فهو إمام أهل صناعته جميعًا، وقدوتهم ورأسهم ومُعلِّمهم، يعرف ذلك منه الخاص والعام، ويشهد له الموافق والمفارق، على أنه كان أكره الناس للغناء وأشدهم بغضًا له، لئلا يُدَّعى عليه ويُسمَّى به.

وهذه الجملة الأخيرة، وهي أنه كان من أكره الناس للغناء … إلخ، تدلنا بوضوح على نفسية إسحاق ومطامحه من جهة، وعلى ما كان للمغنين وأهل الموسيقى عامة من قيمة ومنزلة من جهة أخرى، كما تدلنا على أن المغنين وأهل الموسيقى كانت منزلتهم مهما نالوا من حظوة لدى الخلفاء وأرباب السلطان دون منزلة الرواة وأهل الأدب، من الفقهاء ورجال الحديث، وتدلنا أيضًا على أن إسحاق كان عالي النفس، بعيد الهمة، يكره أن يتصل بفن يقعد به دون ما هو خليق به من منزلة ومكانة، وماذا يصنع إسحاق وقد أُوتي موهبة لم يُؤتها أحد غيره، وهي موهبة تأبى إلا أن تُعلن نفسَها، كما يعلن الزهر نفسه بأرَجِه، والقُمْري بهَديله؟ وماذا يجدي عليه كرهه للغناء وبغضه له وقد يطالبه به مَن لا يرى سبيلًا إلى مخالفته؟

ولقد كان إسحاق في كراهيته للغناء صادق الشعور، صادق الحس، فإنه لم يَحُل بين المأمون وبين أن يُولِّيَه أسمى المناصب إلا شهرته بالغناء؛ إذ يقول المأمون: «لولا ما سبق لإسحاق على ألسنة الناس وشهرته عندهم بالغناء لولَّيته القضاء بحضرتي، فإنه أولى به وأعف وأصدق، وأكثر دينًا وأمانة من هؤلاء القضاة.» وقد يكون من حق إسحاق أن يكره الغناء ويألم لاتصاله به؛ إذ يرى المناصب السامية في الدولة يتبوَّؤُها قوم هم دونه فيما وصلوا إليها به، وهم وصلوا إليها بالعلم، وقد كان هو عالمًا بالفقه والحديث وعلم الكلام، وباللغة والشعر وأخبار الشعراء وأيام الناس، وكان لا يدع فرصة دون أن يعلن سخطه وما ناله من ظلم، فقد حدثنا ابن خلكان أن محمد بن عطية العطوي الشاعر قال: كنت في مجلس القاضي يحيى بن أكثم، فوافى إسحاق بن إبراهيم الموصلي، وأخذ يناظر أهل الكلام حتى انتصف منهم، ثم تكلم في الفقه فأحسن، وقاس واحتج، وتكلم في الشعر واللغة ففاق من حضر، ثم أقبل على القاضي يحيى فقال: أعز الله القاضي، أفي شيءٍ مما ناظرت فيه وحكيته نقض أو مطعن، قال: لا، قال: فما بالي أقوم بسائر هذه العلوم قيام أهلها وأنتسب إلى فن واحد قد اقتصر الناس عليه، يعني الغناء؟ قال العطوي: فالتفت إليَّ القاضي يحيى وقال لي: الجواب في هذا عليك — وكان العطوي من أهل الجدل — فقال للقاضي يحيى: نعم، أعز الله القاضي، الجواب عليَّ. ثم أقبل على إسحاق فقال: يا أبا محمد، أنت كالفراء والأخفش في النحو؟ فقال: لا، فقال: أنت في اللغة ومعرفة الشعر كالأصمعي وأبي عبيدة؟ قال: لا، قال: فأنت في علم الكلام كأبي الهذيل العلاف والنظام البَلْخي؟ قال: لا، قال: فأنت في الفقه كالقاضي — وأشار إلى القاضي يحيى؟ فقال: لا، قال: فأنت في قول الشعر كأبي العتاهية وأبي نواس؟ قال: لا، قال: فمن ها هنا نُسبت إلى ما نُسبت إليه؛ لأنه لا نظير لك فيه، وأنت في غيره دون رؤساء أهله. فضحك وقام وانصرف، فقال القاضي يحيى للعطوي: لقد وفيت الحجة حقَّها، وفيها ظلمٌ قليل لإسحاق، وإنه ممن يقل في الزمان نظيره. ا.ﻫ.

ومهما يكن من شيء فقد اشتهر إسحاق بالغناء دون غيره مما كان يحسنه من سائر العلوم، وقد كان إسحاق مع ذكائه وعلمه، وعلو نفسه، وبُعدِ همَّتِه، مهيبًا كريمًا، جم الأدب، عفيف اللسان.

أما عن كرمه فيروي لنا صاحب الأغاني أنه كان يُجري على أبي عبد الله الأعرابي في كل سنة ثلاثمائة دينار، وأن ابن الأعرابي هذا وقف على المدائني يومًا فقال له المدائني: إلى أين يا أبا عبد الله؟ فقال: أمضي إلى رجل هو كما قال الشاعر:

نرمي بأشباحنا إلى ملك
نأخذ من ماله ومن أدبه

قال: ومن ذلك؟ قال: إسحاق بن إبراهيم!

وإنا نسوق إليك قصة أخرى، وهي مع دلالتها على شغف إسحاق بالعلم والحرص على استثباته تدل أيضًا على سخاء نفسه وكرمه.

قال إسحاق: جئت يومًا إلى أبي معاوية الضرير ومعي مائة حديث، فوجدت حاجبه يؤمئذ رجلًا ضريرًا، فقال لي: إن أبا معاوية قد ولَّاني حجابته لينفعني، فقلت له: معي مائة حديث، وقد جعلتُ لك مائة درهم إذا قرأتها، فأستأذنْ لي. فدخلتُ على أبي معاوية، فلما عرفني دعاه فقال له: أخطأتَ؛ إنما جعلت لك ذلك على الضعفاء من أصحاب الحديث، فأما أبو محمد وأمثاله فلا، ثم أقبل عليَّ يُرغِّبني في الإحسان إليه، ويذكر ضعفه وعنايته به، فقلت له: احتكم في أمره، فقال: مائة دينار، فأمرت الغلام بإحضارها، وقرأت عليه ما أردت وانصرفت. وهذه القصة تدل على أريحيته إلى جانب دلالتها على علمه.

قال أحمد بن الهيثم: كنت يومًا جالسًا ﺑ «سر من رأى» عند إخوان لي، وكان طريق إسحاق في مُضيِّه إلى دار الخليفة ورجوعه علينا، فجاءني الغلام يومًا وعندي أصدقائي فقال: إسحاق بن إبراهيم الموصلي بالباب، فقلت: يدخل، أوَفي الأرض من يُستأذن عليه لإسحاق؟! فذهب الغلام يأذن له وبادرتُ إلى تلقيه، فدخل وجلس منبسطًا آنسًا، فعرضنا عليه ما عندنا، فأجاب إلى الشراب، فأحضرنا نبيذًا مُشمسًا، فشرب منه ثم قال: أتحبون أن أغنيَكم؟ فقلنا: إي والله، أطال الله بقاءك، إنا نحب ذلك، قال: فلم لا تسألونني؟ قلنا: هِبْناك، قال: فلا تفعلوا، ثم دعا بعُودٍ فأحضرناه، فاندفع يغني، فشربنا وطربنا، فلما فرغ قال: أحسنت أم لا؟ فقلنا: بلى والله، جعلنا فداك، لقد أحسنتَ، قال: فما منعكم أن تقولوا لي أحسنت؟ قلنا: الهيبة والإجلال لك، قال: فلا تفعلوا هذا فيما تستأنفون؛ فإن المغني يحب أن يُقال له: أحسنت، ثم غنَّى:

خليليَّ هُبَّا نَصْطبح بسواد
ونَروِ قلوبًا هامُهن صوادي
وقولَا لساقينا زياد يُرِقها
فقد هدَّ بعض القوم سقيُ زياد
فقلت: يا أبا محمد، فمن هو زياد؟ قال: غلامي الواقف على الباب، ادعه يا غلام، فدخل فإذا هو غلام خِلَاسي،٥ قيمته عشرون دينارًا أو نحوها، فقال: أتسألونني عنه، فأُعرِّفكم إياه، وأُدخِله إليكم، ويخرُج كما دخل! وقد سمعتم شعري فيه وغنائي، أشهدكم أنه حر لوجه الله تعالى، وقد زوَّجته أختي فلانة، فأعينوه على أمره، قال: فلم يخرج حتى أوصلنا إليه عشرين ألف درهم. ولعل في هذه القصة المتقدمة أيضًا مقنعًا لك بما كان لإسحاق في نفوس الناس من هيبة وكرامة.

منزلة إسحاق في الغناء

قدَّمنا لك أننا نعترف بالعجز عن أن نجلو الناحية الفنية من حياة إسحاق، وأن ذلك لا يتسق إلا لرجل أوتي من المواهب الفنية حظًّا عظيمًا، وقدَّمنا لك أن إسحاق كان يحسن كثيرًا من العلوم إحسانًا قل أنه يتسق لغيره، وأنه كان مع إجادته الغناء، وتبريزه فيه، وسبْقه أقرانه، يكره أن ينتسب إليه أو يُسمَّى به؛ لأنه كان عالي النفس، بعيدَ مرامي الهمة، ويرى أن انتسابه إلى الغناء يقصر به عن بلوغ مرامي همته. والآن نقول: إنه كان مع هذا شديد الغيرة على الغناء، كثير الذب عنه، وله العذر، فإن صاحب الفن، أيًّا كان الفن، لا يجد إلى الصبر سبيلًا إذا عبث بفنه العابثون أو تهجم المتهجمون.

وإذا كنا نعترف بالعجز عن أن نجلو الناحية الفنية لإسحاق، فإن ذلك لا يمنعنا من أن ننقل إليك شيئًا مما رواه المؤرخون؛ لتعلم ما كان يُحيط به من إكبار وإعجاب من الخلفاء، ورجالات الدولة، وأصحاب الفن؛ لنبوغه في فنه، وتبريزه فيه، ولتعلم — أيضًا مما كان يبديه من ملاحظات — مبلغ ما كان له من دقة حس، وقوة ذوق، وحدة شعور، وسلامة فطرة.

ويعدو بنا الكلام عن القصد لو أطلقنا لأنفسنا العنان في إيراد كل ما نراه حسنًا وظريفًا من أحاديث إسحاق ومجالسه، وما كان يتفق له من مفاكهات ونوادر؛ لذلك نكتفي بإيراد بعض حوادثه مما يتصل بالخلفاء الذين عاشرهم وما كانوا يحيطونه به من عطف ورعاية.

وقدمنا لك أن إسحاق ظهر في عهد الرشيد، وتوفي في صدر أيام المتوكل، فلنذكر لك شيئًا من تاريخه ونوادره مع كل خليفة من خلفاء هذه الفترة من العصر العباسي.

أما الرشيد فقد كان يُلقبه من إعجابه به بأبي صفوان، ولقَبُه «إسحاق أبو محمد» كما رأيت، وقد بلغ من إعجابه به أن استأثر به لنفسه، ونهاه عن أن يغني أحدًا غيره، ويحدثنا إسحاق عن هذا بقوله: نهاني الرشيد أن أغني أحدًا غيره، ثم استوهبني جعفر بن يحيى، وسأله أن يأذن له في أن أغنيه ففعل، واتفقنا يومًا عند جعفر وعنده أخوه الفضل، والرشيد يومئذ عقيب علة قد عُوفِي منها وليس يشرب، فقال لي الفضل: انصرف الليلة حتى أهب لك مائة ألف درهم، فقلت له: إن الرشيد نهاني أن أغني إلا له ولأخيك، وليس يخفى عنه خبري، وأنا مُتَّهم بالميل إليكم، ولست أتعرَّض له ولا أعرضك، فلما نكبهم الرشيد، وقال: إيه يا إسحاق، تركتني بالرقة وجلست ببغداد تغني الفضل بن يحيى! فحلفت بحياته أنني ما جالسته قط إلا علي الحديث والمذاكرة، وأنه ما سمعني قط إلا عند أخيه، وحلَّفته بتربة المهدي أن يسأل عن هذا في دارهم من نسائهم، فسأل عنه فحُدِّث بمثل ما ذكرته وعرَف خبر المائة ألف الدرهم التي بذلها لي ورددتها، فلما دخلت عليه ضحك ثم قال: سألت عن أمرك فعرفته مثلما عرفتني، وقد أمرت لك بمائة ألف درهم عوضًا عمَّا بذله لك الفضل.

ويقول الأصمعي: دخلت أنا وإسحاق بن إبراهيم الموصلي يومًا على الرشيد، فرأيناه لقس٦ النفس، فأنشده إسحاق:
وآمرة بالبخل قلت لها اقصري
فذلك شيء ما إليه سبيل
أرى الناس خلان الكرام ولا أرى
بخيلًا له حتى الممات خليل
وإني رأيت البخل يزري بأهله
فأكرمت نفسي أن يقال بخيل
ومن خير حالات الفتى لو علمته
إذا نال خيرًا أن يكون يُنيل
فعالى فعال المُكثرين تجمُّلًا
ومالي كما قد تعلمين قليل
وكيف أخاف الفقر أو أُحرم الغنى
ورأيُ أمير المؤمنين جميل

قال: فقال الرشيد: لا تخف إن شاء الله، ثم قال: لله در أبيات تأتينا بها، ما أشد أصولها، وأحسن فصولها، وأقل فضولها، وأمر له بخمسين ألف درهم، فقال له إسحاق: وصفُك والله، يا أمير المؤمنين، أحسن منه، فعلامَ آخذ الجائزة؟ فضحك الرشيد، وقال: اجعلوها مائة ألف درهم، قال الأصمعي: فعلمتُ يومئذ أن إسحاق أحذقُ بصيد الدراهم مني.

وكان من أشد منافسي إسحاق في الغناء إبراهيم بن المهدي أخو الرشيد الذي كان يعتز عليه بجاهه، وبما له من حظ في الفن كبير، ومن أشدِّ الملاحاة التي حدثت بينهما ما كانت في مجلس الرشيد؛ قال إسحاق: كنت عند الرشيد يومًا وعنده ندماؤه وخاصته، وفيهم إبراهيم بن المهدي، فقال الرشيد: غنِّ:

أعاذل قد نُهيتُ فما انتهيتُ
وقد طال العتابُ فما ارعويت
أعاذل ما كبرتُ وفيَّ مَلهًى
ولو أدركت غايتَك انثنيتُ
شربت مدامة وسُقيتُ أُخرَى
وراح المُنتشُون وما انتَشَيتُ

فغنيته، فأقبل عليَّ إبراهيم بن المهدي فقال لي: ما أصبت يا إسحاق ولا أحسنت، فقلت له: ليس هذا مما تعرفه ولا تُحسنه، وإن شئت فغنِّه، فإن لم أجدْك أنك مخطئ فيه منذ ابتدائك إلى انتهائك، فدمي حلال! ثم أقبلتُ على الرشيد فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه صناعتي، وصناعة أبي، وهي التي قرَّبتنا منك، وأوطأتنا بساطك، فإذا نازعنا أحد بلا علم لم نجد بُدًّا من الإيضاح والذَّبِّ، فقال: لا لوم عليك، وقام الرشيد ليبول، فأقبل إبراهيم بن المهدي عليَّ وقال لي: ويلك يا إسحاق، أتجترئ عليَّ وتقول ما قلت يا ابن الزانية! فداخلني ما لم أملك نفسي معه، فقلت له: أنت تشتمني ولا أقدر على إجابتك وأنت ابن الخليفة وأخو الخليفة، ولولا ذلك لقلت لك: يا ابن الزانية كما قلت لي يا ابن الزانية، أوَتراني لا أُحسِن أن أقول لك: يا ابن الزانية، ولكن قولي لك ذلك ينصرف إلى خالك، ولولا ذلك لذكرت صناعته ومذهبه — قال: وكان بيطارًا — ثم سكتُّ، وعلمتُ أن إبراهيم سيشكوني إلى الرشيد، وسوف يسأل من حضر عما جرى، فيخبرونه، فتلافيتُ ذلك بأن قلت: أنت تظن أن الخلافة لك، فلا تزال تُهددني بذلك، وتُعاديني كما تُعادي سائر أولياء وغلمان أخيك حسدًا له ولولده على الأمر، وأنت تضعف عنه وعنهم، وتستخفُّ بأوليائهم تشفِّيًا، وأرجو ألا يخرجها الله تعالى عن الرشيد ولا عن ولده، وأن يقتُلَك دونها، فإن صارت إليك — والعياذ بالله تعالى — فحرام عليَّ العيش حينئذٍ، والموت أطيب من الحياة معك، فاصنع حينئذٍ ما بدا لك.

فلما خرَج الرشيد وثَب إبراهيم فجلَس بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين، شتمني وذكَر أمي واستخفَّ بي، فغضب الرشيد وقال لي: ويلك ما تقول؟ قلت: لا أعلم، فسَلْ مَن حضَر، فأقبل على مسرور وحسين فسألهما عن القصة، فجعلا يخبرانه ووجهه يتربَّد إلى أن انتهيا إلى ذِكْر الخلافة، فسرِّي عنه ورجع لونه، وقال: لا ذنب له، شتمتَه فعرَّفك أنه لا يقدر على جوابك، ارجع إلى موضعك، وأمسك عن هذا! فلما انقضى المجلس وانصرف الناس أمر بألَّا أبرح، وخرج كل من حضر حتى لم يبق غيري، فساء ظني وأوهمتني نفسي، فأقبل عليَّ وقال: يا إسحاق، أتراني لم أفهم قولك ومرادك وقد زيَّنته ثلاث مرات؟ أتراني لا أعرف وقائعك وإقدامك وأين ذهبت؟ ويلك لا تَعُدْ! حدِّثني عنك لو ضربك إبراهيمُ أكنتُ أضربه وهو أخي يا جاهل! أتراه لو أمر غلمانَه فقتلوك! أكنتُ أقتله بك؟! فقلت: والله يا أمير المؤمنين، قتلتني بهذا الكلام، وإن بلَغه ليقتُلنِّي، فما أشك في أن بلغه الآن، فصاح بمسرور وقال: عليَّ بإبراهيم، فأُحضِر، فقال لي: قم فانصرف.

فقلتُ لجماعة من الخدم — وكلهم كان له محبًّا وإليَّ مائلًا ولي مطيعًا: أخبروني بما يجري، فأخبروني من غدٍ أنه لما دخل عليه وبَّخه وجهَّله وقال له: أتستخفُّ بخادمي وصنيعتي، وابن خادمي وصنيعتي وصنيعة أبي في مجلسي! وتقدم عليَّ وتستخفُّ بمجلسي وحضرتي! هاه هاه! وتُقدِم على هذا وأمثاله! وأنت ما لك وما للغناء؟ وما يدريك ما هو؟ ومن أخَذَك به وطارَحك إياه حتى تتوهم أنك تبلغ فيه مبلغ إسحاق الذي غُذِّي به وعلمه، وهو من صناعته؟ ثم تظن أنك تُخطِّئه فيما لا تدريه، ويدعوك إلى إقامة الحجة عليه فلا تثبت لذلك وتعتصم بشتمه، هذا مما يدل على السقوط، وضعف العقل، وسوء الأدب، من دخولك فيما لا يشبهك، وغلبة لذتك على مروءتك وشرفك، ثم إظهارك إياه ولم تُحكمه، وادعائك ما لا تعلمه حتى ينسبك إلى إفراط الجهل، ألا تعلم أن هذا سوء أدب وقلة معرفة، وعدم مبالاة للخطأ والرد القبيح والتكذيب؟ ثم قال: والله العظيم، وحق رسوله، وإلَّا فأنا بريء من المهدي إن أصابه أحد بمكروه، أو سقط عليه حجر من السماء، أو وقع من دابته، أو سقطت عليه سقيفة، أو مات فجأةً، لأقتلنَّك به، والله والله وأنت أعلم، قم الآن فاخرج ولا تعرض له. فخرج وقد كاد أن يموت، فلما كان بعد ذلك دخلت عليه وإبراهيم عنده، فجعل ينظر إليه مرة وإليَّ مرة ويضحك، ثم قال له: إني لأعلم محبتك لإسحاق وميلك إليه وإلى الأخذ عنه، وإن هذا لا يجيئك من جهته كما تُريد إلا بعد أن يَرضَى، والرضا لا يكون بمكروه، ولكن أحسِن إليه وأكرمه، واعرف حقه وصِلْه، فإذا فعلتَ ذلك، وخالف ما تهواه، عاقبته بيد مستطيلة، ولسان منطلق، ثم قال لي: قم الآن إلى مولاك وابن مولاك، فقبِّل رأسه. فقمت إليه وقام إليَّ واصطلحنا.

ولعل ما قدمناه لك يعطيك صورة واضحة عما كان لإسحاق من مكانة لدى الرشيد، وما كان للرشيد من حدب عليه وبرٍّ به.

أما مكانة إسحاق عند الأمين وبطانته، فإنها لا تقل — أيدك الله — عن مكانته عند الرشيد وبطانة الرشيد، ولا ترى خيرًا في الدلالة على هذه المكانة من كلام إسحاق نفسه؛ قال إسحاق: استدناني الأمين يومًا وهو مستلق على فراش حتى صارت ركبتي على الفراش، ثم قال: يا إسحاق، أشكو إليك أصحابي، فعلتُ بفلان كذا ففعل كذا، وفعلت بفلان كذا ففعل كذا، حتى عدد جماعة من خواصه، فقلت له: أنت يا سيدي تتفضل عليَّ وتُحسن رأيك فيَّ، ظننتَ أنَّي ممن يُشاور في مثل هذا الحديث، تجاوزتَ بي حدي ومقداري، وهذا رأي يَجلُّ ولا يبلغه قدري، فقال: ولمَ؟ أنت عندي عالم عاقل ناصح، قلت: هذه المنزلة عند سيدي علمتني ألا أقول إلَّا ما أعرف، ولا أطلب إلا ما أنال، فضحك وقال: بلغني أنك عملت في هذه الأيام لحنًا في شعر الراعي، فلم أسمعه منك، فقلت: يا سيدي، ما سمعه أحد إلا جواريَّ، ولا حضرتُ عندك منذ صنعته، فقال: غنِّه، فقلت: الهيبة والصَّحْو يمنعانني من أن أؤديَه كما أريد، فلو آنس أمير المؤمنين عبدَه بشيء يُطربه ويُقوي طبعه كان أجود، قال: صدقت، ثم أمر بالغداء فتغدينا، وأمر بالستائر فمُدَّت، وغنَّى مَن وراءها وشربنا أقداحًا، فقال: يا إسحاق، ما جاء أوان الصوت؟ فقلت: بلى يا سيدي، وغنيت في شعر الراعي:

ألم تسأل بعارمة الديارا
عن الحي المفارق أين سارا
بلى ساءلتُها فأبتْ جوابًا
وكيف تسائل الدِّمَن القِفارا

فاستحسنه وطرب عليه وقال: يا إسحاق، لا تطلب بعد البُغية ووجود المُنية، وما أشربُ بقية يومي إلا على هذا الصوت، ووصلني وخلَع عليَّ من ثيابه.

ومما حدث بين الأمين وإسحاق أن الأمين اصطبح ذات يوم، وأمر بالتوجيه إلى إسحاق، فوجَّه إليه عدة رُسُل كلهم لا يصادفه، حتى جاء أحدهم به، فجاء مُنتشِيًا ومحمدٌ مُغضب، فقال له: أين كنت؟ ويلك! قال: أصبحت يا أمير المؤمنين نشيطًا، فبكَّرت إلى بعض المتنزهات، فاستطبتُ الموضع فأقمتُ فيه، وسقاني زياد فذكرت أبياتًا للأخطل وهو يسقيني، فدارك فيها لحن حسن، فصنعته وقد جئتك به، فتبسم وقال: هاته، فما تزال تأتي بما يُرضي عنك عند السخط، فغناه:

إذا ما زياد علَّني ثم علَّني
ثلاث زجاجات لهن هدير
خرجت أجر الذيل حتى كأنني
عليك أمير المؤمنين أمير

فقال: بل على أبيك، قبَّح الله فعلك! فما زال إحسانك في غنائك يمحو إساءتك في فعلك، وأمر له بألف دينار. وأصلُه قول الأخطل:

إذا ما نديمي علني

وزياد هذا غلام لإسحاق، وقد ذكرنا فيما سبق أنه أعتقه وزوجه من أخته بدافع من أريحيته وأثر الشراب فيه.

أما عبد الله المأمون، فيحدثنا إسحاق عن ناحية من شخصيته، وهي موقفه من الغناء وسماعه، وقد ألمعنا إليها حين عرضنا للكلام عن المنادمة في عصره، ثم نسوق إليك بعد هذا الحديث ما كان لإسحاق من مكانة لدى المأمون أيضًا.

قال إسحاق: أقام المأمون بعد قدومه بغداد عشرين شهرًا لم يسمع حرفًا من الأغاني، ثم كان أول من تغني بحضرته أبو عيسى بن الرشيد، ثم واظب على السماع مُستترًا مُتشبهًا في أول أمره بالرشيد، فأقام على ذلك أربع حجج، ثم ظهر للندماء والمغنين، وكان حين أحب السماع سأل عني، فخرجت بحضرته وقال الطاعن عليَّ: ما يقول أمير المؤمنين في رجل يتيه على الخلافة، وما أبقى من التيه شيئًا حتى استعمله؟ فأمسك المأمون عن ذكري وجفاني من كان يَصِلني لسوء رأيه فيَّ، فأضرَّ ذلك بي، حتى جاءني علُّويه يومًا فقال لي: أتأذن لي في ذكرك عند المأمون؛ فإنا قد دعينا اليوم؟ فقلت: لا، ولكن غنِّه بهذا الشعر؛ فإنه سيبعثه على أن يسألك لمَن هذا الشعر، فإذا سألك فتح لك ما تُريد، وكان الجواب أسهل عليك من الابتداء، فقال: هات، فألقيتُ عليه لحني في شعري:

يا سرحة الماء قد سُدَّت موارده
أما إليك طريق غير مسدود
لحائمٍ حام حتَّى لا حراك به
مُحلَّأٍ عن طريق الماء مطرود
ومضى علُّويه، فلما استقر به المجلس غنَّاه، فما عدا المأمون أن يسمع الغناء حتى قال: ويحك يا علُّويه! لمن هذا الشعر؟ قلت: يا سيدي، لعبد من عبيدك جفوته واطَّرحته بغير جرم، فقال: إسحاقَ تعني؟ فقلت: نعم، فقال: يحضر الساعة، فجاءني رسوله، فحضرت، فلما دخلت قال: ادْنُ، فدنوت، ورفع يديه مادَّهما إليَّ، فأكببتُ عليه فاحتضنني بيديه، وأظهر من برِّي ما لو أظهره صديق مؤانس لصديقه لسرَّه.٧

ثم ما زالت تعظم مكانته عند المأمون حتى سأله يومًا أن يكون دخوله مع أهل العلم والأدب والرواة لا مع المغنين، فإذا أراد الغناء غنَّاه، فأجابه إلى ذلك، ثم سأله بعد مدة طويلة أن يأذن له بالدخول مع الفقهاء، فأذن له، فدخل يومًا مع يحيى بن أكثم مُتماسِكَين، وعلُّويه ومخارق في حجرة لهما جالسين ينتظران جلوس المأمون، فرأياهما وقد دخلا حتى جلسا بين يدي المأمون، فكاد علُّويه أن يُجنَّ وقال: يا قوم، سمعتم بأعجب من هذا! يدخل قاضي القضاة ويده في يد مغنٍّ حتى يجلسا بين يدي الخليفة! ثم مضت مدة فسأل إسحاق المأمون في لبس السواد يوم الجمعة والصلاة معه في المقصورة، فضحك المأمون وقال: ولا كل هذا يا إسحاق! وقد اشتريتُ منك هذه المسألة بمائة ألف درهم، وأمر له بها. وهذا الخبر يؤيد ما ذكرناه في أول كلامنا على إسحاق من أنه كان يطمح إلى أن يكون في مرتبة غير مرتبة المُغنين.

وانظر إلى دقة إحساس إسحاق وقوة ذوقه في تبينه الخطأ في وتر واحد بين ثمانين وترًا، وكان ذلك في مجلس المأمون؛ قال إسحاق: دعاني المأمون يومًا وعنده إبراهيم بن المهدي، وفي مجلسه عشرون جارية قد أجلس عشرًا عن اليمين وعشرًا عن يساره، فلما دخلتُ سمعتُ من الناحية اليسرى خطأ فأنكرتُه، فقال المأمون: أسمعتَ خطأ؟ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، فقال لإبراهيم بن المهدي: هل تسمع خطأ؟ قال: لا، فأعاد عليَّ السؤال، فقلت: بلى يا أمير المؤمنين، فإنه لفي الجانب الأيسر، فأعاد إبراهيم سمعه إلى الناحية اليسرى ثم قال: لا والله يا أمير المؤمنين ما في هذه الناحية خطأ! فقلت: يا أمير المؤمنين، مُرْ الجواري اللائي على اليمين يُمسكنَ، فأمرهن فأمسكن، ثم قلتُ لإبراهيم: هل تسمع خطأ؟ فتسمَّع ثم قال: ما ها هنا خطأ، فقلت: يا أمير المؤمنين، يُمسكن وتضرب الثامنة، فأمسكن وضربت الثامنة، فعرف إبراهيم الخطأ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، ها هنا خطأ؛ فقال المأمون عند ذلك لإبراهيم بن المهدي: لا تُمارِ إسحاق بعدها؛ فإن رجلًا عرف الخطأ بين ثمانين وترًا وعشرين حلقًا لجديرٌ ألا تماريه، قال: صدقت يا أمير المؤمنين — وكان في الأوتار كلِّها مَثْنى فاسد التسوية — فطرب المأمون وقال: لله درُّك يا أبا محمد، فكنَّاني يومئذ.

وخبر آخر يدل على حذق إسحاق بفنه في مجلس آخر للمأمون، قال إسحاق: دخلت على المأمون يومًا وعقيد يغنيه مرتجلًا وغيره يضرب عليه، فقال: يا إسحاق، كيف تسمع مُغنينا هذا؟ فقلت: هل سأل أمير المؤمنين غيري عن هذا؟ فقال: نعم، سألت عمي إبراهيم فقرَّظه واستحسنه، فقلت: يا أمير المؤمنين — أدام الله سرورك وأطاب عيشك — إن الناس قد أكثروا في أمري حتى نسبتني فرقة إلى التزيد في علمي، قال: فلا يمنعك ذلك من قول الحق إذا لزمك، فقلتُ لعقيد: اُردد الصوت الذي غنيته، فردَّه وتحفَّظ فيه وضرب عليه ضاربه، فقلت لإبراهيم بن المهدي: كيف رأيته؟ فقال: ما رأيت شيئًا أنكره مما سمعته، فأقبلتُ على عقيد وقلت له لما استوفاه: في أي طريقة غنَّيتَ؟ فقال: في الرمل، فقلت للضارب: في أي طريقة ضربت؟ فقال: في الهزج الثقيل، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما عسى أن أقول في صوت يغنيه مغنيه رملًا، ويضربه ضاربه هزجًا ثقيلًا، وليس هو صحيحًا في إيقاعه الذي ضرب عليه؟ قال: وتفهَّمه إبراهيم بن المهدي فقال: صدق يا أمير المؤمنين، والأمر فيه بيِّنٌ! فعجب المأمون من ذلك كيف خفي على كل مَن حضر.

أما منزلته عند الواثق، فيقول ابن حمدون: سمعت الواثق يقول: ما غناني إسحاق قط إلا ظننت أنه قد زيد في ملكي، ولا سمعته قط يغني غناء ابن سريج إلا ظننت ابن سريح قد نُشر، وإني ليحضرني غيره إذا لم يكن حاضرًا فيتقدمه عندي بطيب الصوت، حتى إذا اجتمع عندي رأيت إسحاق يعلو، ورأيت من ظننت أنه يتقدمه ينقص، وإن إسحاق لنعمة من نعم الملوك التي لم يَحظَ أحد بمثلها، ولو أن العمر والشباب والنشاط مما يُشترى لاشتريتهن له بشطر ملكي.

أما المتوكل الذي تُوفِّي إسحاق في أول عصره، فيحدثنا ابن حمدون أنه سأل عن إسحاق، فعرف أنه كُفَّ، وأنه بمنزله ببغداد، فكتب في إحضاره، فلما دخل عليه رفعه حتى أجلسه قُدَّام السرير، وأعطاه مخدة، وقال: بلغني أن المعتصم دفع إليك في أول يوم جلست بين يديه مخدة وقال: إنه لا يستجلب ما عند حُرٍّ مثل إكرامه، ثم سأله: هل أكل؟ فقال: نعم، فأمر أن يُسقى، فلما شرب أقداحًا قال: هاتوا لأبي محمد عودًا، فجيئ به، فاندفع يغني بشعره:

ما علة الشيخ عيناه بأربعة
تغرورقان بدمع ثم تنسكب

قال ابن حمدون: فما بقي غلام من الغلمان الوقوف إلا وجدته يرقص طربًا وهو لا يعلم بما يفعل، فأمر له بمائة ألف درهم، ثم انحدر المتوكل إلى الرقة — وكان يستطيبها لكثرة تغريد الطير فيها — فغناه إسحاق:

أأن هتفت ورقاء في رونق الضحى
على فنن غضِّ النبات من الرَّنْد
بكيتَ كما يَبْكي الوليد فلم تكن
جليدًا وأبديتَ الذي لم تكن تُبدي

فضحك المتوكل ثم قال: يا إسحاق، هذه أختُ فِعْلتك بالواثق لما غنَّيته بالصالحية:

طربت إلى أُصيبيةٍ صغار
وذكرني الهوى قُرب المزار

فكم أعطاك لما أذن لك في الانصراف؟ قال: مائة ألف دينار. فأمر له بمائة ألف دينار وأذن له بالانصراف.

وإنا لو ذهبنا نذكر لك من أخبار إسحاق وما كان له من نوادر في مجالس الخلفاء وغير مجالس الخلفاء من رجالات الدولة لعدونا حد القصد، وإنما نحيل من يريد التزيد من أمر إسحاق على كتاب الأغاني، ونختم هذا الفصل من أخبار إسحاق بما قاله محمد بن عمران الجُرْجاني، حين ذُكر عنده، قال: كان — والله — إسحاق غرة في زمانه، وواحدًا في عصره، علمًا وفهمًا وأدبًا ووقارًا، وجودة رأي، وصحة مودة، وكان والله يُخْرس الناطق إذا نطق، ويُحيِّر السامع إذا تحدَّث، لا يَمل جليسُه في مجلسه، ولا تمُجُّ الآذان حديثه، ولا تَنْبو النفس عن مطاولته، إن حدَّثك ألهاك، وإن ناظرك أفادك، وإن غنَّاك أطربك، وما كانت خصلة من الأدب ولا جنس من العلم يتكلم فيه إسحاق فيقدم أحد على مُساجلته أو مُناوأته فيه.

قال إسحاق بن إبراهيم: رأيت في منامي جريرًا جالسًا ينشد وأنا أسمع، فلما فرغ أخذ كبَّة من شَعري فألقاها في فيَّ فابتلعتها، فأوَّل ذلك بعض من ذكرته له أنه ورَّثني الشعر، قال زيد بن محمد المهلبي: وكذلك كان، لقد مات إسحاق وهو أشعر أهل زمانه.

وقال أبو الفرج الأصفهاني: وكان إسحاق جيد الشعر، كان يقول وينسبه للعرب، فمن ذلك قوله:

لفظ الخدور عليك حورًا عِينا
أنسينَ ما جمع الكِناس قَطِينا
فإذا بَسَمنَ فعنْ كمثل غمامة
أو أُقحُوان الرمل بات معينا
وأصح ما رأت العيون محاجرًا
ولهنَّ أمرضُ ما رأيتَ عيونا
فكأنَّما تلك الوجوه أهلَّة
أقمَرنَ بين العشر والعشرينا
وكأنهن إذا نهضن لحاجة
ينهض بالعقدات من يبرينا

وأشعاره في هذا النوع كثيرة، ولعل الذي كان يدفع أولئك الشعراء إلى أن ينسبوا خير ما تجود به قرائحهم إلى العرب الجاهلين أو أعراب الصحراء رُوحُ ذلك العصر، وأنها كانت رُوحًا تميل إلى القديم، ولا سيما إذا زُيِّن هذا القديم بإطار من خيال الرواة والقصاصين، ويظهر أن ما كانوا يظفرون به رُواةً للشَّعر العربي أكثر مما كانوا يَظفَرون به شعراء مجيدين، وإلا فهل يُتصور أن يَنْسب المرء نتاج قريحته إلى غيره ما لم يكن ثمن ذلك عظيمًا؟

ومن شعر إسحاق ما اعتذر به إلى الواثق حين عتَب عليه في تأخُّره عنه، وهو قوله:

أشكو إلى الله بُعدي عن خليفته
وما أعالج من سُقم ومن كبر
لا أستطيع رحيلًا إن هممت به
إليه يومًا ولا أقوَى على السفر
أنوي إليه رحيلًا ثم يمنعني
ما أحدث الدهرُ والأيامُ في بصري

ومن شعره أيضًا عند علو سنه:

سلامٌ على سير القلاص من الركب
ووصل الغواني والمدامة والشرب
سلام امرئ لم يبق منه بقية
سوى نظر العينين أو شهوة القلب

ومن جيد شعر إسحاق ما كان يستحسنه ابن الأعرابي ويعجب به أيَّما إعجاب، وهو قوله:

هل إلى أن تنام عيني سبيل
إن عهدي بالنوم عهد طويل
غاب عني مَن لا أُسمِّي فعيني
كل يوم وجدًا عليه تسيل
إنَّ ما قلَّ منك يكثر عندي
وكثير ممن تحب القليل

وكان إسحاق إذا غنَّى هذه الأبيات تفيض عيناه، ولما سئل عن بكائه أجاب: تعشقت جارية فقلت لها هذه الأبيات، ثم ملكتها، فكنت مشغُوفًا بها، حتى كَبرتُ واعتلَّتْ عيني، فإذا غنيت هذا الشعر ذكرت أيامي المتقدمة، وأنا أبكي على دهري الذي كنت فيه.

وقال إسحاق: أنشدت الأصمعي الأبيات الثلاثة فجعل يعجب بها ويرددها، فقلت له: إنها بنت ليلتها، فقال: لا جرم أن أثر التوليد فيها ظاهر، فقال إسحاق: ولا جرم أن أثر الحسد فيك ظاهر! ولعل هذا هو سبب الجفوة التي كانت بين إسحاق والأصمعي.

فإن ابن منظور يروي لنا في مختصره، أن إسحاق كان يأخذ عن الأصمعي ويذكر عنه الروايات، ثم فسد ما بينهما، فهجاه إسحاق وثلبه، وذكر عند الرشيد أنه قليل الشكر، بخيل، ساقط النفس، لا تزكو الصنيعة عنده، وذكر له أبا عبيدة معمر بن المثنى بالثقة والصدق والسماحة، واشتماله على جميع علوم العرب، وفعل مثل ذلك عند الفضل بن الربيع، ولم يزل بهما حتى وضع منزلة الأصمعي عندهما، ثم أنفذا إلى أبي عبيدة مالًا جليلًا واستقدماه، فكان إسحاق سبب ذلك.

وكان إسحاق قليل الهجو، فإذا هجا رأيت في هجوه عفة اللسان، وجمال التعريض، ونريد أن نذكر لك من هذا الباب قوله في أحمد بن هشام، وكان إسحاق يألف أحمد هذا وأخاه عليًّا وسائر أهله إلفًا شديدًا، فوقعت بينهم نَبْوة ووحشة فهجاهم، وهذا مما قاله في أحمد:

وصافية تُعشي العيون رقيقة
رهينة عام في الدنان وعام
أدرنا بها الكأس الروية مَوهنًا
من الليل حتى انْجابَ كلُّ ظَلام
فما ذر قرن الشمس حتى كأننا
من العي نحكي أحمد بن هشام

ويقال إن أحمد سأله: ما ذنبي؟ فقال: لأنك قعدت على طريق القافية …!

وكان إسحاق يسأل الله ألا يبتليه بالقُولَنْج لما رأي من صعوبته على أبيه، فرأى في منامه كأنَّ قائلًا يقول: قد أجيبت دعوتُك، ولستَ تموت بالقُولَنْج، ولكنك تموت بضدِّه، ثم أصابه ذرَبٌ في شهر رمضان سنة ٢٣٥ﻫ، فكان يتصدق في كل يوم يمكنه صومه بمائه درهم، ثم ضعَفُ عن الصوم فلم يُطقه ومات في الشهر.

ولما نُعى إلى المتوكل غمَّه وحزن عليه وقال: ذهب صدر عظيم من جمال الملك وبهائه وزينته!

مؤلفاته

علمت مما أوردناه لك في الكلام على إسحاق أنه كان يحسن كل ما كان عالجه من العلوم إحسانًا قلَّ أن يستوي لغيره، ولكنه قصَر تأليفه على ما قصَرتْه عليه وظيفتُه وعمله، فألَّف في الأغاني والإيقاع والنغم، وآداب الشراب، والندماء والمنادمات، وأخبار الشعراء، وأهل الفن من المُغنين والمُغنيات، فمن مؤلفاته: كتاب الأغاني الكبير، وكتاب اللحظ والإشارات، وكتاب الرقص والزفن، وكتاب النغم والإيقاع، وكتاب الندماء والمنادمات، وله مؤلفات عمن سبقه من أهل الفن رجالًا ونساء، أمثال: معبد، وابن مِسْجَح، وعزَّة الميلاء وغيرهم، وله أيضًا كتاب الهُذَليِّين، وكتاب تفضيل الشعر، وكتاب أخبار ذي الرُّمة، وكتاب جواهر الكلام، وله كتاب منادمة الإخوان وتسامر الخلان، وكتاب القيان، وغير ذلك مما ينطق بعلو كعبه في شتى الفنون، ويشهد بأنه دائرة معارف عامة.

هوامش

(١) الكذب والنميمة.
(٢) اسم لصاحب طائفة من الملحدين.
(٣) هذه السياسة حازمة، وهي التي يجري عليها الملوك في الدول التي فيها أحزاب مختلفة، يكون الملك فوق الأحزاب منازعتها، ولا يُظهر ميله لحزب دون حزب.
(٤) أي تحت رعايته وعنايته.
(٥) الخِلَاسي: الولد بين أبوين أسود وأبيض.
(٦) لقست نفسه عن الشيء: خبثت وعثت.
(٧) انظر: كتاب بغداد «ج٦، ص٣٢٨»، وقد سبق أن ذكرنا هذه القصة في فصل المنادمة بصيغة أخرى، نقلًا عن كتاب التاج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤