الفصل الثاني

المأمون

(١) توطئة

لننتقل الآن إلى حداثة المأمون، ولنتبع في دراستنا له نفس الطريقة التي ترسمناها حين دراستنا لحداثة الأمين، فنتكلم عن مولده، كما نتكلم عن نشأته وأخلاقه محاولين أن نجمع شتات المعلومات التاريخية في هذا الصدد، وأن ننظر فيها نظرة تفهم واستيعاب وإمعان ومقارنة وموازنة بما يقتضيه المقام من إجمال وإيجاز.

(٢) مولده

ولد عبد الله المأمون لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة هجرية، وهي التي استُخلف فيها الرشيدُ، فلما بُشِّر بمولده سُرَّ به سرورًا عظيمًا، وسماه المأمون تيمنًا بذلك، وأمه أم ولد باذغشية تسمى «مَراجل»، ويقال: إنها تمت إلى أسرة عريقة في المجد من الأسر الفارسية.

نشأ المأمون في حجر الخلافة، وتهيأ له من وسائل التربية والتثقيف ما لم يتهيأ إلا لأخيه الأمين، وكانت ظاهرةً عليه مخايل النجابة والذكاء وبُعد الهمة والتعالي بنفسه عن سفساف الأمور.

ومع كبر سن المأمون وظهور هذه الخلال فيه، وثقة الرشيد به ومحبته له لم يُتَح له ما أتيح للأمين من البيعة بولاية العهد؛ إذ كان لأم الأمين من المكانة لدى الرشيد، وهي زوجه، ما لم يكن لأم المأمون. وقد سبق أن بينا لك في كلامنا على الأمين ما قام به أخواله من المسعى المُوفَّق في أن يكون أمر الدولة من بعد الرشيد لابن أختهم، وما قام به الفضل بن يحيى في خراسان من البيعة للأمين بولاية العهد، حتى أصبح الرشيد أمام الأمر الواقع، فأعلن بولاية العهد للأمين راضيًا أو مكرهًا.

(٣) نشأته وأخلاقه

وكَّل الرشيد بكفالة المأمون والنظر في شئونه ومراقبة أحواله جعفر بن يحيى وزيره، كما جعل الأمين في كفالة الفضل أخي جعفر. ونحن نحس عند ذكر كفالة الفضل للأمين إحساسًا، قد لا يعدو الواقع كثيرًا، أن بين هذه الكفالة وبين إعلان الفضل بولاية العهد للأمين في خراسان صِلةً.

فلما نما المأمون وترعرع أخذ المؤرخون يذكرون لنا من مظاهر نجابته وحزمه، وتقديره لنفسه وللناس، ومعرفته بمن كانت أهواؤهم معه أو عليه، ووقوفه على ما يجري حوله من شئون وأحوال، مما سنقصُّه عليك، ما ينبئ بما سيكون لهذا الغلام من شأن عظيم.

ولعل أظهر ما يدل على نجابة المأمون في صباه ما يقصه علينا التاريخ عن أبي محمد اليزيدي مؤدبه الذي يقول: «كنت أؤدب المأمون وهو في كفالة سعيد الجوهري، فجئت دار الخلافة وسعيد قادم إليها، فوجهت إلى المأمون بعض خدمه يُعلمه بمكاني، فأبطأ عليَّ، ثم وجهت آخر فأبطأ، فقلت لسعيد: إن هذا الفتى ربما تشاغل بالبطالة وتأخر، فقال: أجل، ومع هذا فإنه إذا فارقك تعرَّم١ على خدمه، ولقوا منه أذًى شديدًا، فقوِّمه بالأدب، فلما خرج تناولته ببعض التأديب، فإنه ليدلُك عينيه من البكاء إذ قيل: جعفر بن يحيى الوزير قد أقبل، فأخذ منديلًا فمسح عينيه وجمَع ثيابه، وقام إلى فراشه فقعد عليه متربعًا، ثم قال: ليدخلْ، فقمتُ عن المجلس وخفت أن يشكوني إليه فألقى منه ما أكره، قال: فأقبل عليه بوجهه وحدَّثه حتى أضحكه وضحك إليه، فلما همَّ بالحركة، دعا المأمون بدابة جعفر ودعا غلمانه فسعوا بين يديه، ثم سأل عني فجئتُ، فقال: خذ عليَّ بقية حِزْبي، فقلت: أيها الأمير، أطال الله بقاءك، لقد خفت أن تشكوني إلى جعفر بن يحيى، ولو فعلتَ لتنكر لي، فقال: تُراني، يا أبا محمد، كنتُ أُطلع الرشيد على هذه، فكيف بجعفر بن يحيى حتى أطلعه على أنني أحتاج إلى أدب؟! خُذْ في أمرك، عافاك الله، فقد خطر ببالك ما لا تراه أبدًا ولو عدت إلى تأديبي مائة مرة!»

وكذلك مما يدل على ذكاء المأمون وثقوب بصيرته، وأصالته وحصافته منذ نعومة أظفاره وميعة صباه ما يُحكى من أن أم جعفر عاتبت الرشيد في تقريظه للمأمون دون الأمين ولدها، فدعا خادمًا وقال له: وجِّه إلى الأمين والمأمون خادمًا يقول لكل واحد منهما على الخلوة: ما تفعل إذا أفضت الخلافة إليك؟ فأما الأمين فقال للخادم: أقطعك وأعطيك، وأما المأمون فإنه قام إلى الخادم بدواةٍ كانت بين يديه وقال: أتسألني عما أفعل بك يوم يموت أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين، إني لأرجو أن نكون جميعًا فداءً له، فقال الرشيد لأم جعفر: كيف ترين؟ فسكتت عن الجواب.

وأعدل الشواهد على تقدير هذا الغلام لنفسه كأمير وابن خليفة، وشعوره بما له من منزلة اجتماعية خاصة، وبما ينبغي أن يكون له في نفوس الناس من إجلال واحترام، وما يجب لمثله في آداب التحية وحسن الخطاب ما جَبَه به الحسن اللؤلؤي، وهو الذي اتخذه الرشيد مؤدبًا للمأمون بعد أبي محمد اليزيدي، حين كان يطارحه شيئًا من الفقه، وأخذت المأمون سنة من النوم، فقال له اللؤلؤي: نمت أيها الأمير؟ فقال المأمون: سوقيٌّ ورب الكعبة، خذوا بيده، فجاء الغلمان فأقاموه، فلما بلغ الرشيد ما صنع قال متمثلًا:

وهل يُنبتُ الخطيَّ إلا وشيجُه
وتُغرَس إلا في منابتها النخل

ويحدثنا التاريخ أيضًا عن المأمون صبيًّا، أن الرقاشي هجاه حين مدح الأمين بقوله:

لم تلده أمةٌ تعـ
ـرف في السوق التجارا
لا ولا حُدَّ ولا خا
ن ولا في الخزي جارا

يُعرِّض بالمأمون لأن الرشيد كان قد حدَّه في جارية أو في خمر.

ومهما يكن من شيء في صبا المأمون فقد كانت ظاهرة فيه مخايل النجابة والذكاء والحزم، وحسن التدبير، وجودة الحدس، والطموح إلى الكمال.

وقد يجد الذين يذهبون إلى أن في تلقيح الأجناس تحسينًا للنوع حجة ظاهرة في المأمون لمذهبهم؛ إذ لا تعوزهم الوسيلة في أن يرجعوا نجابته إلى أنه من أم فارسية وأب عربي، أو بعبارة أخرى: إلى أنه قد جمع بين الدم الآري والدم٢ السامي.

هذه المخايل حببته إلى الرشيد وجعلته يُقدِّره قدرَه، فجعله ولي عهد الخلافة بعد أخيه الأمين، وجمَعت حوله طائفة من ذوي الهمم الشماء الذين توسموا فيه مُحقِّقًا لأطماعهم الواسعة.

ومن أظهر هؤلاء الذين التفوا حوله لتحقيق مطامعهم الفضل بن سهل الذي اتخذ يحيى بن خالد البرمكي وسيلة إلى الرشيد في أن يكون في خدمة المأمون، وحسبك أن تعلم من أمر الفضل هذا، أنه القائل حين سئل عن السعادة: إنها أمر جائز وكلمة نافذة! وأنه الذي قال له مُؤدِّب المأمون يومًا في أيام الرشيد: إن المأمون لجميل الرأي فيك، وإني لا أستبعد أن يحصل لك من جهته ألف ألف درهم، فاغتاظ من ذلك وقال له: ألك عليَّ حقد؟ ألي إليك إساءة؟! فقال المؤدِّب: لا والله ما قلتُ هذا إلا محبة لك، فقال: أتقول لي: إنك تحصل منه ألف ألف درهم؟ والله ما صحبته لأكتسب مالًا قلَّ أو جلَّ، ولكن صحبته ليُمضيَ حُكم خاتمي هذا في الشرق والغرب! قال: فوالله ما طالت المدة حتى بلغ ما أمَّل.

حسبك أن نذكر لك هذا من أمر الفضل بن سهل لتعلم ما لهذا الرجل من هِمَّة وثابة، وعزيمة مرهفة مضَّاءة، ومطالع واسعة، وحسبك أن نذكر لك ما وصفه به أحد معاصريه، وهو إبراهيم بن العباس؛ لتُقدِّر الرجل وتُقدِّر كفايته، قال:

يُمضي الأمور على بديهته
وتريه فكرته عواقبها
فيظل يصدرها ويوردها
فيَعُمُّ حاضرها وغائبها
وإذا ألمَّت صعبةٌ عظُمت
فيها الرَّزيَّة كان صاحبها
المستقلُّ بها وقد رسبت
ولَوَت على الأيام جانبها
وعدَلتَها بالحق فاعتدلت
ووَسِعت راغبها وراهبها
وإذا الحروب بدت بعثت لها
رأيًا تَفُلُّ به كتائبها
رأيًا إذا نبت السيوف مضى
عزم بها فشفى مضاربها
وإذا الخطوب تأثلت ورست
هدت فواضله نوائبها
وإذا جرت بضميره يده
أبدت به الدنيا مناقبها

يقول الفخري: قالوا لما رأى الفضل بن سهل نجابة المأمون في صباه، ونظر في طالعه — وكان خبيرًا بعلم النجوم — فدلَّته النجوم على أنه سيصير خليفة، لزِم ناحيته وخدمه ودبر أموره حتى أفضت الخلافة إليه فاستوزره.

وسواء أكان مرجع اتصاله بالمأمون إلى خبرته بالنجوم أم إلى جودة حدسه، فقد اتصل بالمأمون وهو صبي، وكان الحامل له على أن يكون في خدمته تحقيق آمال كبار، رأى بكياسته وحذقه في نجابة المأمون خيرَ كفيل بتحقيقها.

ولقد كان استعداد المأمون الفطري منذ نشأته أن يكون رجل جماعة وقائد أمة؛ إذ قد حبَتْه الطبيعة فيما حَبَتْه من شتى المواهب موهبة الخطابة والتبريز فيها، فقد أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثني عمي عبد الله وأخي أحمد قالا: لما بلغ المأمون وصار في حدِّ الرجال أمَرَنا الرشيد أن نعمل له خطبة يقوم بها يوم الجمعة، فعملنا له خطبته المشهورة، وكان جهير الصوت حسن اللهجة، فلما خطب بها رقَّت له قلوب الناس، وأبكى من سمعه، فقال أبو محمد اليزيدي يمدح المأمون:

لتَهْن أمير المؤمنين كرامة
عليه بها شُكر الإله وُجوب
بأنَّ وليَّ العهد مأمون هاشم
بدا فضله إذ قام وهو خطيب
ولما رماه الناس من كل جانب
بأبصارهم والعود منه صليب
رماهم بقول انصتوا عجبًا له
وفي دونه للسامعين عجيب
ولما وعت آذانهم ما أتى به
أنابت ورقت عند ذاك قلوب
فأبكى عيون الناس أبلغ واعظ
أغر بِطاحيُّ النِّجار نجيب
مهيب عليه للوقار سكينة
جريء جنان لا أكعُّ هَيُوب
ولا واجِبٌ فوق المنابر قلبه
إذا ما اعترى قلب النَّخيب وجيب
إذا ما علا المأمون أعواد منبر
فليس له في العالمين ضريب
تصدع عنه الناس وهو حديثهم
تحدَّث عنه نازح وقريب
شبيه أمير المؤمنين حزامة
إذا وردت يومًا عليه خطوب
إذا طاب أصل في عروق مشاجه
فأغصانه من طيبه ستطيب
فقل لأمير المؤمنين الذي به
يُقدَّم عبد الله فهو أديب
كان لم تغب عن بلدة كان واليًا
عليها ولا التدبير منك يغيب
تتبَّع ما يرضيك في كل أمره
فسيرته شخص إليك حبيب
ورثتم بني العباس إرث محمد
فليس لحيٍّ في التراث نصيب

فلما وصلت هذه الأبيات إلى الرشيد أمر لأبي محمد بخمسين ألف درهم، ولابنه محمد بن أبي محمد بمثلها.

•••

وبعد، فليس من شك في نجابة المأمون وتبريزه، ولعل هذه النجابة الخارقة كانت من الأسباب التي حملت الرشيد على أن يستوثق له الأمر في ولاية العهد من أخيه، ولأخيه منه، فجمعهما في بيت الله الحرام حين حج عام ست وثمانين ومائة، ومعه كبار رجال الدولة وجل الظاهرين من الأسرة المالكة، واستكتب كليهما عهدًا بما له وعليه قبل الآخر، وأشهد عليهما جماعة من ذوي المكانة والنفوذ، ثم علق العهدين في الكعبة، ليكونا في مكان الاحترام الديني، وقد أثبتنا لك العهدين في باب المنثور من الكتاب الثالث في مجلدنا الثالث.

نقول: لعل هذه النجابة الخارقة كانت من الأسباب التي حملت الرشيد على أن يفعل ما فعل من استيثاق الأمر بين الأخوين؛ خوفًا على المأمون ومنه.

ولسنا ننكر أن من جملة تلك الأسباب ما يصح افتراضه من أن الرشيد كان يقدر قوة حزبي المأمون والأمين، وبعبارة أخرى: حزبي الفرس والعرب، أو العلوية والهاشمية، أو الشيعية والسنية.

ونحن لا نستطيع أن نرجع مظاهر العطف المختلفة، وفي مناسبات كثيرة، من الرشيد على المأمون إلى الأُبوة وحدها، فإن للرشيد أولادًا غير المأمون وغير الأمين لم ينالوا شيئًا من هذه الحظوة العظيمة لديه؛ لذلك نرى — وقد ترى معنا رأينا — أن هذه الحُظوة التي ينالها المأمون من الرشيد في مناسبات كثيرة دون إخوته ترجع إلى ما امتاز به المأمون من نجابة خارقة، وميل إلى جد الأمور، وترفُّع عن سفسافها، وسموٍّ عن دناياها، واضطلاع بما يُكلف القيام به من أعباء ومهامَّ.

ولعل أظهر مظاهر العطف من الرشيد على المأمون ما فعله الرشيد حين وافته منيته ﺑ «طوس»، من وصيَّته بجميع ما كان معه من جند وسلاح ومال للمأمون دون أن يكون لخليفته من بعده؛ ليشد بذلك من أزر المأمون، ويقوي من جانبه، وأنت جد عالم بما قدمناه لك، من الكلام في العصر الأموي، عن أثر المال، فتُقدِّر معنا ما كان يرومه الرشيد، ولست في حاجة لأن أقول لك: إن أثر المال وسلطانه في نفوذ الكلمة وقوة الشوكة دونه كل أثر وكل سلطان.

ولعلنا لا نعدو الواقع كثيرًا حين نذهب إلى القول بأن الرشيد كان يحذر الخلاف بين الأخوين، ويخاف كليهما على الآخر، يخاف الأمين على المأمون؛ لأن الأمين سيصبح الخليفة الذي بيده قوة الدولة من جند ومال، وتصحبه مزاياها من عظم الهيبة ونفوذ الكلمة، وسيكون مطمح آمال الآملين وموضع رجاء الراجين.

ومن شأن كل هذا أن يجعل الناس جميعًا أو الأكثرية الساحقة منهم يلتفون حوله رغبةً أو رهبة، وجدير بمن كان هذا شأنه أن يُخشى ويُتَّقى.

ويخاف المأمون على الأمين؛ لأن ما امتاز به المأمون من نجابة خارقة، وجدٍّ وحنكة، وعرفان بشئون الحياة واضطلاع، واعتداد بنفسه يجعل منه خطرًا شديدًا على الأمين جديرًا بأن يُخشى ويُتَّقى أيضًا، ويظهر أن كل هذا وقر في نفس الرشيد الذي كان معروفًا بالحزم وجودة الحَدْس، وقوة البصر بالعواقب، فأراد أن يتقيه، ورأى أن خير وسيلة لاتقائه، أن يستكتبهما العهدين، كما قدمنا، فيقطع بذلك أسباب الخلاف بين الأخوين، ويحول دون دسِّ الدساسين، وسعاية الساعين، ويفهم أنصار الفريقين ما للبيعة بين الأميرين من حرمة وتوقير.

غير أن تصرفات الأيام، وآثار البطانة، ونتائج السعاية، ومغبات الرياء والنفاق كانت فوق ما كان يُقدِّر الرشيد، فوقع الخلاف بين الأخوين أعنف ما يكون، ولم يكن ما اتخذه الرشيد من وقاية وحيطة ليصد تياره الجارف.

وكان المأمون الشاب حسن التوفيق في اختيار حاشيته ومشيريه، فجمع حوله طائفة من ذوي الدهاء والحنكة، وهؤلاء وإن كانوا من ذوي المطامع والأغراض قد أخلصوا له النصح، وثقَّفوه التثقيف الذي يكفل له النجاح، فإن تحقيق أطماعهم الواسعة موقوف على نجاحه.

فإخلاصهم له إخلاص في الواقع لأنفسهم أيضًا، ولما كانت أم المأمون فارسية فربما جاز لنا أن نقول: لعل لكونها فارسية أثرًا في أن يخلص له هؤلاء المشيرون؛ إذ كانوا كلهم من الفرس، وإذ كانت له بهم هذه القرابة.

وهذا يفسر لنا عاطفة من عواطف المأمون، وهي ميله إلى خراسان، وتعصبه بعض التعصب للخراسانيين؛ إذ يحدثنا التاريخ أن رجلًا من الشام اعترض طريقه مرارًا وقال: «يا أمير المؤمنين، انظر لعرب الشام كما نظرت لعجم خراسان، فقال له: أكثرت عليَّ! والله ما أنزلتُ قيسًا عن ظهور خيولها إلا وأنا أرى أنه لم يبق في بيت مالي درهم واحد، يعني فتنة ابن العامري، وأما اليمن فوالله ما أحببتها ولا أحبتني قط، وأما قضاعة فساداتها تنتظر السفياني حتى تكون من أشياعه، وأما ربيعة فساخطة على ربها مُذ بعث الله نبيه من مُضر، ولم يخرج اثنان إلا خرج أحدهما شاريًا.٣ اعرف! فعل الله بك!»

وإنه ليجوز لنا أن نرجع هذا الميل لا إلى ما ذكره المأمون وحده، بل إلى التربية وأثر البيئة الفارسية في نفسه، وإلى مقابلة حسن الصنيع بمثله، فأم المأمون فارسية، والذين كفلوه وقاموا بتثقيفه فارسيون، والذين أحاطوا به ونصروه فارسيون، ومن هنا نستطيع أن نفهم الرأي الذي يقول به بعض المؤرخين الفرنجة: إن انتصار المأمون على الأمين كان أيضًا انتصارًا للفرس على العرب، كما كان انتصارًا للفرس على العرب انتصارُ العباسيين على الأمويين، ومن هنا نستطيع أن نعلل أيضًا ما ذهب إليه بعض الباحثين من أن المأمون كان شيعيًّا وهو عباسي؛ لأن البيئة الفارسية التي نشأ فيها كانت إلى حد غير قليل مهد التشيع للعلويين، فيجوز أن تكون قد صبغت المأمون بشيء من ألوانها، وقد كان لذلك آثاره لا في السياسة ونظام الملك فحسب، بل في الآراء والمذاهب مما سنذكره حين نعرض للكلام على الخليفة المأمون.

ولعلنا نكون بما قدمناه لك عن نشأة المأمون وصباه قد رسمنا لك صورة واضحة لهذا الأمير الذي سيكافح كفاحًا شديدًا في سبيل الملك، والذي كان له أكبر أثر في الحضارة الإسلامية.

أما شتى مواهب المأمون وآراؤه، وما اشتهر به من الحلم والعفو والكرم والبصر بالسياسة، وجودة الحدس، وكفاية البطانة، وشغفه بالعلم والأدب والجدال، وما كان لهذا الشغف من ثورة علمية وفكرية وكلامية في عصره، فسنرجئ الكلام فيها إلى موضعها من كتابنا، وهو الكلام على الخليفة المأمون بعد أن استقر له الأمر في بغداد، وحين نضجت فيه هذه الخلال وآتت كل ما لها من ثمرات.

هوامش

(١) أصابهم بشراسة وأذًى.
(٢) كتب أستاذنا الشيخ عبد الوهاب النجار عن هذا ما نصه: «كذلك كان الرشيد، كان يجمع بين الدم الآري والدم السامي، فهل التحسين ينجع في الطبقة الأولى فقط ويفسد في الثانية؟ ومع هذا فإن جوزتاف لوبون يخالف هذا الرأي على إطلاقه ويقول: إن أمة كل أفرادها مولدون لا تُساس، ويعلل ذلك بتضارب السجايا والخصال والعقائد التي يرثها من أبويه، واضطرابها في نفسه.»
(٣) في ابن الأثير: «سائسًا»، وهو غلط، والصحيح ما أثبتناه عن أستاذنا الشيخ عبد الوهاب النجار. والشراة هم الخوارج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤