من المثقف الوطني إلى المثقف المحترف

تمتلك كل ثقافة متواترة التراكم والنمو ومتعددة التكوين متكاملته ومتفاعلة بصفة خاصة مع شرطها الاجتماعي ومحيطها العام، نظامها المخصوص لها، وجملة أنساق ومفاهيم منبثقة من تاريخها وتعبِّر عن صيرورتها عبر نماذج وبصيغ نظرية وأشكال تمثيلية محددة. إن المسالك التي تمر بها والطريق التي تعبِّدها، وخلال ذلك القيم التي تنتجها برموزها ودلالاتها تتحول، مع الرواد والأعلام الذين يؤسسون ثوابتها ويرسون عمدها، إلى ذاكرة مستقلة ومتميزة بتاريخها وعناوينها. وعندئذٍ فإنه يصعب إن لم يكن مستحيلًا تبين أو فهم أي شيء في حياة وسِجل بلد أو أمةٍ ما دون العودة إلى هذا التدوين المسنن.

لا، بل ما لنا لا نقول إن توفر هذه الذاكرة من عدمها لهو البرهان الأول على وجود الثقافة في سياق زماني ومكاني بذاته، وكل حديث عن الهوية بتشكيلاتها المتعددة، وفي مناخنا نحن المتباينة، لا مناص له من الاسترفاد من أصول هذه الذاكرة تعلمه وتحصنه وتعلمه إن عثر أو زاغ، وما أكثر الزيغ وأهله في زماننا هذا وبعض أهله، ممن باتوا يحسبون أن بالإمكان محو اللوح على الهوى، ولا يفهمون أن المحاضري — الذي عز نظيره اليوم — إنما يمحو ليزداد حفظًا، وأن فعل المحو هنا يُعَد شحذًا للذاكرة لا إلغاءً أو استخفافًا بها. وما الهوية غير الذاكرة نفسها. وأما إلغاؤها فلا يمكن أن يتم بضربة لازب، كما يتوهم المجتثون، سواء أخذناها من جذورها أو قطفناها من ثمارها؛ ولذلك يحتاج كل من يقارب هذا الموضوع من أي زاوية أن يحتاط من مزالقه. ليس مردُّ ذلك خطورته القرينة بمعتقدات الناس أحيانًا ومشاعرهم — سأسميها فطرية وهي أقوى ما لدى الإنسان — بل لكون مدلوله يمثل مرتكز وجود، ودليلًا لفهم الواقع، دليل سير للمجتمع، وأداة لاستشراف المستقبل الذي ما تفتأ الذاكرة تتغذى به وتقوى، فتغدو بحكم هذه التغذية والتمثُّل المستمر لكل معطًى جديد ملزمة للجميع، أو بسلطة أهون مرجعية تاريخية ونسقية لا يسهل تسفيهها من قبل أي عابر سبيل، أو إفراغ محتواها لملئها من جديد بأي تسطيح أيديولوجي أو تطلع نهازي. على أي مغامر في هذه الحلبة أن يعلم أن الهوية التي هي الذاكرة الثقافية ذاتها ليست ولا يمكن أن تتحول آلة صدئة يمكن تفكيكها قطعة قطعة، وبيعها في سوق ثقافة «الخردة» و«الخردوات» أو عرضها بأبخس الأثمان، داخل الحدود وخارجها أيضًا، والسبب لا يرجع فقط إلى وجود حماتها بلا قيد أو شرط، بل وأكثر من ذلك إلى أن النسيان نفسه، وهو دائمًا مؤقت، ينقلب إلى ذاكرة ملغومة سرعان ما تستعيد مبادرة اليقظة وإعادة الوعي بالواقع، بعد أن يتوهم «مزيفو النقود» وتجار بورصة القيم والخردوات «الثقافية» بأن الجميع بات في غيبوبة أو سبات عميق … وذلك، ذلك حين يطلع فيهم فجأة المثقف الوطني، أو، ذلك المثقف القديم! ليذكر للمرة الألف بأن حبل الكذب قصير، وإليكم شرحه ببعض التفصيل.

الذين يعيشون في صحو الضمير ونباهة الذاكرة الثقافية، لهذا الوطن العزيز، وأبناؤهم أيضًا ممن تغذوا من الضرع الوطني؛ يعرفون جيدًا أن تُربتنا أنجبت ورعت نقلة طيبة تولَّت — إلى جانب رجال الكفاح والإصلاح — الدفاع عن مقومات شعب وهوية أمة وحقوق لغة وتراث، وسخَّرت طاقتها لإطلاق مشروع النهضة وغد السيادة تبعًا لمقتضيات المرحلة. هي التي تمثلت في شخصية ونموذج المثقف الوطني؛ إذ في ظروف الاحتلال الأجنبي لا صدقية ولا مشروعية إلا لما يشد عضد الوطن وينافح عن حقه في الحرية والاستقلال. لقد كان هذا المثقف فقيهًا ومعلمًا ومربيًا، ومؤسس مدرسة أهلية للحفاظ على اللغة العربية — لا كما عليه الحال اليوم لإتلافها والإجهاز عليها — وأديبًا كاتبًا يغامر في تجربة الأنواع الأدبية الحديثة من قصة ومسرحية، لا يفهم كيف تكون الكتابة والأدب والفكر والبيان والجمال أيضًا، لغير موضوع الوطن والإصلاح والإحياء والتنوير والتجديد كذلك. وإذا كانت السلفية المغربية قد شكلت إحدى المرجعيات الكبرى للحركة الوطنية، إن لم نقل أقواها، وانطبعت بسماتها حتى اختصت بموضوعها؛ فإن الثقافة وكل ما يندرج في الإنتاج الثقافي — والأدب في صميمه — جُبِل بمرجعية وخصال وحماس زمانه، فكانت على ما نعرف.

لقد كانت تلك أيديولوجية من غير شك كالفطرة والإيمان، ثم تمذهبت لتصبح قاعدة سلوك ونهج كتابة؛ حيث تماهت الذات وشرط أو مذهبية الالتزام. لا بإلزام أو سادنية كما يشيع الغافلون، وإنما باقتناع محض. ورثت الستينيات وما أسست بعبارة اليوم حس الالتزام الوطني الذي اغتنى بصفتَي، بل بمطلبَي، التقدم والتحرر، وهما المضمون الجديد لوعي الكاتب ومسار الكتابة. لم يزدد هذا السلوك إلا رسوخًا، وتوكيده مع التعبير عنه قوة وعمقًا في العقدين المواليين، وما أكثرها الأدبيات والمواقف التي صاغت هذا الوضع وبنته أيديولوجيًّا ومفهوميًّا وإبداعيًّا، وكان الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، واتحاد كتَّاب المغرب التاريخي والجامعة الفتية والمنابر الثقافية بين مجلات وملاحق ترتاد الآفاق الجديدة، وتتفتح فيها تجارب وتجريبيات من كل نوع. هي ما شكل الأرضية الصحيحة التي نهضت عليها واستثمرتها مواقف ونصوص لاحقة، وذلك خلافًا لدعاوى مطبوعة بالتزوير والافتئات على التاريخ، وبصفاقة في الكذب وتدليس الحقائق لا مزيد عليها، وعلى رءوس أشهاد ما زال دم الحياة ينبض في دمهم ووعيهم فكيف إذا ماتوا، ولن يموتوا إلا بعد التصدي ﻟ «تسونامي» التسلط على الريادة وادعاء الأمجاد المنهوبة من سير الآخرين.

لكل شيء أوانه، وحسبنا التنبيه إلى أن الانحراف عن القاعدة لا يلغي القاعدة بل يوطد عمادها، وكيفما كانت المعاول التي تضربها فهي لن تسقط بفعل التشويش ومسلكيات التكسب. لقد قُدَّ المثقف الوطني — في مراحله المختلفة — من صخر وصبر وشرف حد المثالية؛ فلا يكون لا بهلوانًا في سيرك، ولا شاة ترعى في عشب السلطة، من غير عداءٍ مسبق ولكن حفاظًا على استقلالية تحصنه من الزلل، وتزوده بطاقة لا تنفد لممارسة وعيه النقدي الذي بدونه لا يكون للمثقف لا وضع Statut ولا اعتبار. وقد شاءت الأيام أن تتقلد فئات من المعارضة التاريخية بعض مقاليد الأمور؛ فوُجد من خُيل له أنها «باعت الجمل بما حمل» وانطلق يلهث نحو أحلام مكبوتة كمنت طويلًا، عجبًا، في إحباط المعارضة، معلنًا عن هوية جديدة مزعومة لمثقف جديد مزعوم، هو الآخر. والحق أنها لم تسِم نفسها وإن تهافتت على بعض الشعارات تنهبها وتسوغ بها استرداد تلك «الفرص الضائعة». وها قد وجد — من هو؟ — ضالته في شعار «العهد الجديد» كناية عن اعتلاء الملك محمد السادس سدَّة العرش؛ فانطلق يكيل المديح، ويبيح المحظور باسم ضرورة مبيَّتة، معتبرًا المثقف التقدمي سلعة بالية، ومُكرسًا جهده للنصب والسلب في زمن حصد الغنائم وشراء الذمم. ولا يكلفه ذلك كثيرًا ما دام يرسل نفسه في جميع الاتجاهات ليعود فيلتقي بها في منعطف موعود بات له اليوم اسم ببراءة اختراع، اسم الاحتيال. وإني لأراه اليوم تنينًا بألف رأس، يبلع ويركع ثم يبلع، ما أحسبه سيشبع … فوداعًا للمثقفين الوطنيين من كل ضرب، المناضلين والبُلهاء الحالمين … ومن اليوم، المجد، كل المجد للمحتالين!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤