كان عامًا اسمه … بن بركة

كان عامًا لا ككل الأعوام. مُذه صرتَ مشدودًا إليه بألف سبب، وليس أنين العمر إلا واحده. يأتيك طورًا مدًّا، وطورًا جزرًا، ليمتد لفحًا، برقًا فرعدًا، وهي صواعق خببٌ في ربوع البلاد. هل كانت الدار البيضاء يومها نهر دم أم سعير شوارع، لتتزلزل المدارس زلزالها، وتثكل الأمهات أكبادها، والنساء أزواجها، وننظر في مراقد أحلامنا صارت مواقد، اصطلی فيها الصدى باللظى، يوم تثقَّب لحمها بالرصاص، ولياليها كلها اصطبغت بحناء المواجد.

كان عام تلاميذ ظنوا أنهم إذ يعبرون سبيل دفاترهم، متسلقين عروق تلال تُرى عالية كالسحاب/واصلون حتمًا إلى رعشة الأنبياء/في ذُرى الكبرياء/وعند همس قريب منهم ثاوٍ في بحر الظلمات/وأن غدًا سيشرق كالشمس يشقشق بالضحكات/وأنهم بهدير النبض الذاهب إلى غدهم/لا محالة يجترحون المعجزات/وإذ بين هذا وذاك، استبيح الملاك/بين أرض وسماء دوَّى قصف الهلاك/وغاضت في دمها محبرة الكلمات.

في العام النصف الستيني ذاك، كنا نحلم بأن نكبر، ونلحظ كل صباح كيف يينع فوق الشفتين شارب خفیف، ربما سنزهو به حيث يسري الحفيف، خلف تنورة لفتاة، علَّنا نلقط من حبها بعض الفتات، والقلوب الطرية تدمى بها، يا له من نزيف! كان العيش صغيرًا والأمل أنَّى لنا أن نحتويه، والدار البيضاء نخوتنا نحن البيضاويين، كانت قبل الدَّك الأول لتبقى بعده. وفي الصباح الأشهَر في مارس من العام النصف الستيني ذاك، لم نكن نبغي ونحن نمضي إلى الثانوية على موعد مع طارق، ربما، أو نابليون في درس التاريخ، غير أن يأتي المساء، لنئوب خفافًا إلى حضن أحلامنا، فنناجي طيفًا يحوم بأجفاننا، ليلة إثر ليلة، ربما هي العامرية ليلى، قوت القلوب تجيء بها شهرزاد، هي طوق النجاة.

في الصباح الذي كان نديمًا للربيع، وكليمًا لخطيف الشعر، يرافقنا عادة في الطريق، يحلِّق فوق الرءوس، أنذرَنا على غير عادته بالنعيق، بعده حلقت مروحيات السلطان، كالطوفان انتشرت فيالقه، وهوت فوق رءوسنا الهراوات، أزَّ الرصاص في شارع السويس، تساقط أطفالٌ رأوا محمد الخامس في القمر كالنجوم، في درب السلطان. لم يبكوا ولم يصرخوا، بل توشحوا بدمهم هذا الصباح، ساروا خلف أجداثهم، ذاهلين من كثرة العابرين إلى قبورهم بلا أكفان. حتى البحر شهق. من كثرة ما ألقوا به من جثث غرق، بأناشيد الملائكة أنينًا في أعماقه اختنق. ثم عادوا فضجُّوا. كنت فيهم، إنهم هاجوا وماجوا، لم يكونوا لا ثوارًا، ولا فجارًا، كما صوروهم أو شوهوهم، ولكن موجًا فاض به شوقه إلى اليابسة، إما تلاميذ في عبق النعناع العبدي، أو عمالًا فقراء لهم ثأر وحلف وثيق مع المسغبة، وما أدراك ما المسغبة. طوفانًا هجم الرجال الغلاظ، الأشداء، في الصباح الربيعي الذي كان، وما تلاه، حتى الأولياء هزوهم في مراقدهم، سيدي عبد الرحمن، سيدي محمد مول مرس السلطان، وسيدي بليوط، كأني رأيته ممسكًا بندقية، يضغط على القرص من عين البحر، يرد عن مدينته زحف الغيلان … وهذا، طبعًا، قبل أن يمسي غريبًا مثلي، في مدينته، وجهه إلى المحيط وظهره — شأن تاريخنا — لأي عابر مبوَلة، فيا لهذي المهزلة.

في خريف العام ذاك، أي في الحرف الأول من أبجدية الدخول إلى الجامعة، وصل الناجون من المجزرة إلى فاس «ظهر المهراز»؛ حيث كنا نحن في الأعالي، وهي تحت مخفية خلف العذار. امرؤ القيس بالباب مثل كل العرب، والطرمَّاح، والحارث بن حلِّزة، والسليك ابن السلكة. عقر لنا ذو القروح ناقته، ثم استرحنا إلى نخلة حسبنا فيئها من طول هجير ونجيع خلد الجنان. طاف بنا مثل كل الأنام، طيف منام أحمد المجاطي ومحمد السرغيني يتساندان، هما لنا سارية وجدار وكأس مُدام. شكري فيصل، كالبهبيتي، كأمجد الطرابلسي، والفقيه ابن عبد الله هو وابن تاويت، يُقرئوننا أكذب الشعر، كيف يطرز البيان، عليهم ألف رحمة وسلام …

فجأة، لم نكن قد بتنا في أعالي الظهر إلا بضع ليل، والحلم يسري شهده الأول على اللسان العربي المبين، وإذ يا سادة يا كرام «عفت الديار محلها فمُقامها/بمِنى تأبَّد غولها فرجامها»، قال لبيد بن ربيعة يا فتية شدوا رحالكم، فما أمهلوكم إلا أيامًا، وهذا أوان الشد. وحين نزلنا إلى ساحة الحي الجامعي بفعل نفير أو نذير لم نرَ له صورة، بهرتنا صورته الأكبر: ظهر جليًّا وخفيًّا. أدركنا صوته من بعيد وهو قريب: جئت أودعكم من أول لقاء لأبقى فيكم. أما كيف؟ فلأني مضطر أن أعيركم دمي كي تمضوا في هذا الطريق — وأشار إلى بعيده — لكن، حذار أن تنسوا فهو دَين عليكم رده في الوقت المناسب، أو سيلاحقكم أنتم وأخلافكم كاللعنة، وسيعيثون في الأرض فسادًا، ويفعلون بهذا المغرب الفعائل، فحذار! والآن، كما ترون، أخذوني بلا كفن؛ ولذا سأتطهر للمرة الأخيرة بدمي وأمضي، وهو في عنقكم. ومن يومها تعلَّمتُ الغضب؛ لأني فعلًا صافحت بن بركة وأنا فتًى، في الصحو لا في المنام، قبل أن يغتصب. من يومها عرفت أن حنجرتي وُجدت لتصرخ بملء فمي ضد المرَدة، السفلة، وقلمي، أي قلم لن يوجد، لن يكون حرًّا إلا إذا ندَّد وصاح في وجه القتلة: أنتم القتلة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤