«أفديه إن حفظ الهوى أو ضيَّعه»

لا أعذَب، ولا آلم من ذكرى تتعتق. تُوغل في زمن انتمت إليه واغتربت عنه لتئوب، عودًا على بدء، مرجَّعة كأصداء حُداء في صحراء عمرنا الفاني. لا أنت تخطبها ولا هي تدنو منك إلا بمقدار ما تحترقان، أو تفترقان، بإمعان صد تتصاديان، ثم في منعطف الولع تلتقيان. آه منه، لهبٌ هي وأنت بقايا الحريق أو كالرماد خفق … انظروا إلى هذي الأعالي، فهي ما أمطرت إلا لأن رملي شهق.

خلتُني من علق. وأنا ماضٍ إليها برفيف من شفق. فاسيَّة الأهداب من (قاع لقوايع) أهدتني رضابها يذوب: «أقولك إيه عن الحب يا حبيبي؟» أم بغدادية كَرخيةٌ تجلب الهوى من حيث أدري ولا أدري ولسان حالي إثرها يهذي: «هو صحيح الهوى غلاب!»

مالي أشط والبلاد حولي هم أهلي ذات اليمين وذات الشمال. ليس أحلى منها طعمًا، عسل سوس، لو ذقته، لأينعت في أحلامها سوسنا، وبحتُ له — القريبة منك هي النائية —: «أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعه.»

لكنهم أجلاف أهل هذي البلاد، بعضهم طبعًا — ربما هي تقسو على من تحب، وتترك أنت للود باقة — جلبوا لهم حبيبًا من أرض العدوان، ونسوا أننا — هي وأنا عرب أبدًا — ولنا اسم وعنوان. فتحوا له أجفاننا، شقوا أحداقنا، وأولموا له، وأجلسوه ليقيء علينا وعلى ما لم يبقَ من أمجاد العرب. لن أسمي كل ذاك الفجور. لا ولن أعيد على مسامعكم تلك التراتيل وذلك المزمور. سأذكركم فقط أن هذا حدث في يوم من أقسى الزمان مما كان أحلى زمان. سأضيف بأن ذكراها — ذكرى رحيلها الثلاثين — مرت شاحبة، مثل أيام أمتنا الغاربة. «بوب مارلي» وحده ضجَّت به الأصقاع — كنت قديمًا أتلوى بموسيقى الريغي، أي قبل أن يصبح الزعيق والنقيق السلعة الرائجة! — وصدحت أبواق ولقالق هذي البلاد بذكراه، بينما من بصوتها كان يطرب الحجر قبل البشر، أمست منزوية مثلنا، في غربتنا الأبدية … يا لآلام أم كلثوم، يا شفاء كل قلب مكلوم، طوبى لك، وبذكراك طوبى لنا. ﻓ «هل رأى الحب سكارى، سكارى مثلنا؟!»

أم كلثوم: اسم، علَم، أكلما سمعته ارتد إليك صدى السنين في حفيف شجوها من شجن وحنين، أم هو المغنى والمبنى وما لا يُنال، ولذا فهي سقيا الماضي مددًا وحريق الشجو غدًا، ولهفة الشوق إليها أبدًا، أبدًا. أم كلثوم، وحده صوتها جغرافيا. أفسح فضاء، ذاك الذي تحققت فيه الوحدة العربية طرَّا، فغفا المغرب تحت أهداب المشرق، وسرى هذا في شغاف المغرب.

ويحَنا نحن الذين انتمينا إلى تلك الستينيات، لقرن أفل. ولجنا الجامعة وفي صدورنا أذان الله أكبر، وبعد أيام تلاه نداءان: من الفسطاط، من قاهرة المعز، واحد لعبد الناصر يؤسس الأرض العربية كأن لم تكن أبدًا، وثانٍ لأم كلثوم يرسل في الكون غناءً غردت به الدنيا سرمدًا. فقمنا استخرنا واستأذنَّا ربنا هيئ لنا من أمرنا رشدًا؛ فلبى النداء. من يومها ناصر وسُومة صارا لنا أبًا وأمًّا، حضنًا ومجدًا وسؤددًا.

أم كلثوم؛ كنت طفلًا في خمسينيات برشيد، وأبي يُجلسني عند عتبة جلبابه. أمامه عدة الشاي، وأرى أطرافه تتهادى. ما بك يا أبي؟ تسأله أم ربما تسألني حَيرتي، فتجيبني الأطراف، وهي تهتز من الشجو والألطاف، أن ما بها هو رجفة من سماع … وبذاكرة الغد استرجعت ما شنَّفه أمس فجاء: «وُلد الهدى فالكائنات ضياء/وفم السماء تبسُّم وعطاء.» مذ ذاك لم يفارقني الصوت ولا سحر الغناء، ورُحت أتقرَّى جمال الكلمات كما أتملَّى في الوجوه النضرة. من هناك أقطف صورة لأنسجها غدًا بها، ومنها أطبع قبلة على لون اختلج … عجبي صار صوتًا، ندًى، هو لها، في رحاب بيتنا أشمه شذًى، وكلما رنوت إلى النجم عاليًا هلَّ صوتها فوقي من عليائها وأيقنت أنها هناك حيث رحل أبي … قطوفها دانية.

عباد الله؛ أنا واحد من جيل تربَّى وتشبَّع بكل ما هو عربي في فنون الإبداع؛ الشعر والنثر والغناء بحق. لئن مِلت إلى عبد الحليم في ضغط مراهقة؛ فقد وجدتني وأنا أصعد سُلم العمر والتجربة، أي محن الدهر، ألتمس أم كلثوم للتنفيس والسلوان جاعلًا منها إقامة الوجدان. كنت قد شرعت أتدرب على فروض طاعة الله، واكتشفت أن الإنصات إلى أصوات الكون دليل لها وواحد منها؛ فتبعتها في رحلة العمر وبين عنفواني وصهد شبابي اشتعل الجمر في حلقي واللهب في قلبي، ودلتني على عنوان اسمه باب الطرب. دفعناه برفقٍ فصرنا في إيوان لا هو أرض ولا سماء، وسيدة فخمة، لعوب السحر تشدو بين دعاء وغناء، وحولها الأنام، كل إلى حبيب يغدو، والصوت يفترش روحي، تارة يفتح، وتارة يشفي جرحي. وأشارت أخيرًا إلى عنوان اسمه باب الهوى، فقصدتُه عدْوًا، وصوتها على لساني يناغيني: «حسِّيت كأني اتخلقت تاني!»

«ودارت الأيام» … «ومرت الأيام»، كبرنا، وشاخ زماننا، هزمت أمتنا، وانكسرت قلوبنا، وانطفأت أحلامنا، وقهرت شعوبنا، ولا مجرى يجمع دمعنا يا ويلنا، وامتلأت الدنيا بالضجيج، وغطَّى الأفق هول وعجيج، وصارت أنكر الأصوات «عند الله» العذب الطروب الذي يشنِّف الأسماع ولا أسماع. ولم يكُ سبب ذلك أن سفلت الأذواق، ولا أن أمتنا وحضارتنا انقلبت سقط متاع في الأسواق وحسب، بل لأننا نحن الذين أحببناها حد العبادة، أستغفر الله، وطرزنا بها تاريخنا، وزرعناها في سنا العينين، لم نعرف كيف نحافظ على ضوء أقمارنا وشفيف حزننا، وذكاء حبنا، وشرف ذكرنا، فضعنا يا «امرأة ليس لها عنوان». إلا صوتها، وأحمد المديني، واحد من جيل الغرباء، ليس له بعد باب الله «غير فجر من نواصيك» يعبُّ اليوم، كما بالأمس، من لظى شذوك الأعذب، وأنت تصبِّين ونظل نشرب حتى تظمأ الأحقاب «ويظمأ كل ما عتَّقتِ من سحب ومن أكواب.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤