صباح الخير يا الحزينة … مثلي!

سواء تجاورنا أو تباعدنا؛ فإنك مقيمة إلى جانبي. كنت كذلك أمس، وصرت اليوم أقرب. فأنا حزين مثلك يا مدمنة الأحزان، ولأننا — معًا — كما قال شاعرنا العربي، غريبان ها هنا «وكل غريب للغريب نسيب.»

بدأ الكلام ينطق وحده في ذروة صمته، أي حين شفَّ صمتنا لما التقينا — هل التقينا حقًّا أم برجنا الحوتي تنادى في بشرتينا حين لمسني حفيفك — ذراعك المتغضنة قليلًا احتكت صدفة بمرفقي المزغب. من بين كل نساء ورجال الأرض عرفتك، أي أني انتزعتك من حشد متجر «المونوبري»، ظننت لي الحق وحدي في أن أحضنك بنظرتي، وأن أحمي وقفتك في طابور الدفع وأستعجل القابضة، حتى إني كذبت على واقف قبلي بزعم أننا معًا، لأصبح خلفك بجوارك، ألمُّ رعشاتك المتكسرة على الطريق مثل شظايا العمر، وأقتفي خطوتك في تلك الصبيحة الخريفية المشمسة.

لم أكن أعلم أن انتقالي من سكناي في الدائرة الخامسة عشرة بباريس إلى الضاحية الظليلة الهادئة في نويي سورسين، غير بعيد عن «بورت مايو» في منتصف الثمانينيات الماضية، سيجعلني — من غير وعي مسبق — أجاور أدباء وفنانين كبارًا، وأن نهر السين، مجدولًا كظفيرة لغابة بولوني، سيصبح خلِّي، يا ويلي! أما فرانسواز، فلم تكن تراه، ولا هي ترى أحدًا، فكيف ستراني؟! كنت سأبدو ساذجًا، حقًّا، لو استعجلت تعرُّفي عليها وانحشاري فيها، وقلت بلهفة الولهان: Francoise, Françoise, j’ai la chamade لا يليق أن أخاطبها باسمها الشخصي من دون طول تعارف، مثل أي عابر سبيل في أرضنا يلاقيك في الطريق ويهجم عليك بلا مقدمات ألسيي احمد، أمحماد، القرينة! بهمس تلعثمت بأحد عناوين كتبها مكتفيًا بكلمة قوية، دالة، حتى إن شركة سيارات استأجرتها منها، وفي نهاية الزقاق الذي يصل إلى شارع الجنرال ديغول من جهة نويي — دائمًا — رأيت القفة الصغيرة بيدها اليمنى تهتز، ربما من ثقل ما تحويه من مشروبات، فرفعت بصري أتلقف نظرات قريبة مني، تلقي عليَّ منها مطرزة برعشة لا تفارق شفتيها — كدأبها — وبعينين فسيحتين وحادتي النظرة.

وصلتُ إلى ساغان متأخرًا جدًّا طبعًا، لا بسبب فارق السن وحده بيننا، بل بسبب تلك الشهرة الطاغية التي صنعت منها كاتبة/كاتبًا كاملًا من الضربة الأولى، ممتلئة بجميع الخصال المرغوبة والمستفزة، منبثقة من عصر جديد. في التاسعة عشرة من العمر فقط، أصدرت روايتها الأولى «صباح الخير أيها الحزن» عن دار جوليار (١٩٥٤م)، كأنها القنبلة؛ لتثقب سقف المبيع في عام واحد بأزيد من خمسمائة ألف نسخة في ذلك الزمن یا سيدي. لم تنل ليلى بعلبكي، غادة السمان، ولا خناثة بنونة شيئًا من هذا الحظ؛ ربما لأنهن ظهرن في المكان غير المناسب، ولأن المسألة في الأدب تتعلق بحساسية عصر، وعند ساغان بأخرى خاصة جدًّا.

لم تكن هذه الفتاة التي مشت بساقَين قويتَين لجيل ما بعد الحرب العالمية الثانية متعبة ولا مشجرة الرأس، أو مهمومة القلب بأوزار ما خلفته الحرب، بل هي سليلة عائلة بورجوازية، قدمت إلى باريس الأنوار لتستقر في الضفة اليمنى منها طبعًا؛ حيث الترف بعيدًا عن الصرعات والفورات الطلائعية في الدائرتين الخامسة والسادسة بين شارعي سان ميشال، وسان جرمان. لم تكن بحاجة سوى لقليلٍ من التوازن أو كثير، حسب، لكنها فضلت تكسير الإطار. من طبعها أن تهشم وتتآمر ضد كل من يسجن حريتها، حتى على نفسها تأمرت. روايتها الصرعة، أكثر من محاولة لنبذ التوافق المسبق الذي يمكن للعالم الخارجي وقيمه التوافقية أن يفرضه على الفرد ليدجن حريته، أثمن ما يملك. هل هذا كل شيء؟ كلا، تقول ساغان، مشهرة في بورصة الأدب عملتها التي لن تبلى على مر العقود، وأظنها ستبقى رغم تغييب الموت لصاحبتها في ٢٤ سبتمبر ٢٠٠٤م. في سنة ١٩٥٤م كتبت في روايتها الذائعة الصيت: «هكذا، فقط حين أكون في سريري والوقت فجر، وليس معي سوى حركة السيارات في باريس، أحس بذاكرتي تخونني أحيانًا؛ يعود الصيف خافتًا وشديد البطء في الظلام. عندئذٍ يصعد فيَّ شيء أستقبله باسمة، وبعينَين مغمضتَين أُحييه: صباح الخير أيها الحزن.»

كيف أمكن لهذه المرأة الرمحية والمتبعثرة، أن تنبثق شعاعًا نفَّاذً ا، وتكتسح سيلًا عرِمًا في خضم زمن ثقافي وأدبي هائل، تلاطم برياح التحديث العاتية لما بعد الحرب الثانية، وبأمواج أعلام عمالقة أمثال مالرو، أرغون، مورياك، سارتر، وبوفوار، طبعًا، وأن تنفجر وسط هؤلاء وآخرين مثل قنبلة موقوتة، هي بارودها وضحيتها ورغبتها في آن. وفيما عالم جديد يتأسس، هي لا تريد أن تني إلا ذاتها، بحكايات ومشاغل عادية وعبارات منسقة خفيفة ورشيقة، ستحمل لاحقًا اسم وصفة «الموسيقى الهامسة» قبالة الآخرين الكبار سادة الرواية الجديدة، ممتشقين سيوف النظرية مرتدين مسوح بناة سرد مغایر قوامه العين والمادة ومقاس الأشياء الاستهلاكية التي سيحولها رولان بارت إلى «أساطير».

فرانسواز ساغان على خلاف المدرسة التي جمعَت في الحقيقة خليطًا لم يتجانس قط، فيه كلود سيمون، مشيل بوتور، ألان روب غرييه، لم تبغِ أكثر من رسم مشاعره عبر البوح بمشاعر شخصياتها مثلما يحلو لغيرها رسم الطباع والسلوك. أن تفعل ذلك بمقتضى حياة تتماهى مع الكتابة وهذه بتلك. ما تطلَّب منها الكثير من المقاومة والافتداء، حد متاخمة الكتابة، الفناء والإقامة في عصاب السكيزوفرينيا. غير أنها، شأن بريجيت باردو، مع مراعاة الفارق، كانت كاتبة فضائحية — لا إباحية كما يتصور الطهرانيون السُّذَّج — بإشهار غبة الحياة، والكتابة العارمة كأسلوب حياة، أسلوب في الحياة، لتصوغ جزءًا، نكهة وميسمًا من حساسية عصر، وهو العامل الأساس الذي يسلكها في العقد الفريد للكتَّاب الكلاسيكيين، وهذا على الرغم من تعارض سلوكها مع الرصانة المفترضة للكلاسيكية، كقيمة تتبقى بعد زوال كل شيء.

لعل هذا ما جعل ساغان تُلاحق فناءها المتقدم دومًا في الكلمات الهاربة، تريد اقتناصها لترسلها إلى الأصدقاء «أجمل الاستذكار» (١٩٨٨م) ولاحقًا دائمًا «مع كامل مودتي» (١٩٩٣م). في الستينيات كان عليها، هي وزُمرة من المفتَتنين بالعيش، أن تمجن بجمال في الأبيقورية الباذخة لجزيرة «سان تروبي» في الساحل اللازوردي، ثم لتنسحب من الصخب متخذة من عزلتها مقامًا لكبرياء وحدتها. لا أظن شخصيًّا أن المخدر الذي أدمنت، من كحول أو مكيف أو قمار كان مطلوبًا من أجل الكتابة قدر ما هو السور الضروري للاحتماء من كل أشكال الحياة المهولة الأخرى — انتبهوا، إننا في باريس التي تأكل جميع الأجيال — والاحتفاظ بصفاء السريرة، تذروها سحب الدخان تارة، وتسهو طويلًا وعميقًا في الجَزر البعيد للساحل اللازوردي.

في سنوات إقامتي الأولى العاصفة بباريس، مثَّلت منطقة النورماندي جاذبيتي الأولى. من شدة جمال هذه المنطقة وبديع طبيعتها كان الحبيب المرحوم محمد باهي، أحد أمراء باريس قلَّ أن يجود الزمان بمِثلهم، يقول: «إن البقر ينظم الشعر هنا، أيضًا.» أما أنا فمَدينة دوفيل فهي ما غدا في النورماندي قِبلتي. غالبًا ما أقصدها بمفردي لأتمتع بكل أنانية بالساحل الشاسع وملاحقة البحر في جَزره. هنا التقيت بمارغريت دوراس وتعارفنا، وهي تخرج تدريجيًّا من خمارها الطويل؛ رغم أنني لست مقامرًا كنت أرتاد كازينو دوفيل، بقامتي ولحيتي القديمة كانوا يظنونني من الربع النفطي؛ أخسر قليلًا وأربح النزر اليسير، فيما أراها هي — أعني فرانسواز — تحرق وتحترق. من الطريف حقًّا أن الشيء الوحيد الذي لم تخسره — غير حياتها طبعًا — هو بيتها في «هونفلور» بساحل النورماندي، غير بعيد عن دوفيل وتروفيل؛ حيث كنت أنسج العمر الجميل. هذا البيت اقتنته فرانسواز من إيراد مقامرة عاصفة في دوفيل، وتدخل الأصدقاء كي لا تبلعه الخسارة والضرائب التي لا ترحم أحدًا في فرنسا وبشراسة. ولم أكن أملك لها شيئًا؛ أنا المغربي العربي القادم من أولاد حريز، زاحفًا كالجراد على الغرب بأحلام هوجاء ابتغاء أسلوب حياة يليق بي كإنسان … وكاتب اليوم وغدًا.

نترك بيت مرغريت في «هونفلور» التي بنَت مقابر مقدسة في رواياتها لجميع عشاقها، وأحس بحفيف بشرة فرانسواز يلامس بصمت متدلِّه حرش صدري وسخونة نفَسي في صباح ضبابي ونحن نغادر البلدة القديمة، عين منها زائغة ونظرة منها نحوي كأنها معاتبة: «جئت متأخرًا؛ أوه، لماذا جئت متأخرًا؟!» ثم رافقتها حتى شفاه الموج، ومعًا ركبنا الرحيل … بحزن.

أمس، استجوبني، أكاد أقول استنطقني مراسل فضائية عربية، ضرب دماغي بكم مطرقة/سؤال. كلها عن دَور المثقف والمبدع والكاتب، ومسئوليتنا في هذا الزمان، ولماذا نقف مكتوفي الأيدي، ورأينا في العولمة، وخليط جليط كهذا. كان يسألني كأني جنرال ينبغي أن يتصدى لأشكال العدوان والطغيان كافة. لم يخطر بباله لحظة واحدة أن يسألني كم امرأةً عشقت في حياتي، أو أي الزهور أحب إليَّ … في الأخير، أنا من سأله: «هل تحب برامس؟» لم يحر الصحفي المستنطق جوابًا، وانتبهت أن فرانسواز هي من طرح السؤال، انبثقت للتو من النهار الذي كان ينهض خافتًا يحاول أن يشفَّ من عينَيها الناعستَين، وكمن يدخل محرابًا تقدَّمت إليها مستقبلًا: «صباح الخير أيتها الحزينة … مثلي!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤