قريبًا من زهرة اللوتس … السحرية

لماذا بقي العرب هم الأقل تمتعًا بالحرية بين مختلف أمم العالم؟ أوَليسوا جدیرین بها، ومحرومين منها بسبب تضافر عوامل ومعوقات تجعلهم واقعين في ما يُشبه تأبيد الاستبداد؟ يمكن أن نأخذ هذين السؤالين كأحد المداخل الممكنة لقراءة وفحص أوضاع الحرية في العالم العربي، تلك التي شكَّلت الموضوع الجديد ﻟ «تقرير التنمية العربية ٢٠٠٤م» ذي العنوان الفرعي «نحو الحرية في الوطن العربي» والذي ينبغي أن نلاحظ، ومن باب المفارقة أو ربما تأكيد صدقية طروحاته، أن قليلًا من المنابر الإعلامية العربية روَّجت مضمون التقرير وتوصياته الكبرى، وهذا في الوقت الذي يوجد فيه إجماع على أن هناك تعطشًا لدى المواطن العربي للحرية في أشكالها ومستوياتها وتعبيراتها المتعددة.

وبالفعل؛ فإن الخبراء العرب واضعي التقرير الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للتنمية ينطلقون في عملهم من تعريف شمولي للحرية يستوعب الحريات المدنية والسياسية، والتحرر من كل أشكال النَّيل من كرامة الإنسان شأن الجوع والمرض والخوف. وانطلاقًا من المبادئ العامة التي تقيم أعمدة هذا السجل ترسم صورة مرعبة لواقع الحريات في أوطاننا ينبغي أن تتدبر فيها طويلًا قوى التحرر والتقدم العربية لتزداد إصرارا على نهجها، خاصة أن غياب الحرية أو تعويقها، هي والحكم الصالح، يقيدان تحقيق التنمية والنهضة الأبعد. وعليه فإن أجراس الخطر يمكن أن تقرع للإنذار بالمخاطر وبغية الوصول لما سماه التقرير ﺑ «الازدهار». في المقدمة، الحريات المدنية والسياسية المستهدفة إما من سُلطات لا تؤمن بالديمقراطية، أو تكرس سلَطًا أخرى تقليدية أو قبَلية أو عقيدية. إن هذا يتمثل في انتهاك الحقوق الطبيعية مجتمعة، السياسية واحدة منها. ويظهر فاضحًا في انهيار الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ويكفي الاستشهاد بحالة ٣٢ مليون شخص يعانون سوء التغذية، وفي مستوى مذهل من الأمية الهجائية بحوالي ثلث الرجال ونصف النساء. لنلحق بهذا مباشرة شبكة لعناصر التحريف والتشويش المناوئة من قبيل التخويف، مثلًا من وصول تيارات بعينها إلى السلطة بالطريق الديمقراطي، أو ادعاء الخصوصية المتعارضة شكلًا مع حقوق الإنسان، أو وجود تناقض بين الدستور وقوانين تقيد الحقوق المنصوص عليها إن لم تُلغها.

هذا كله يبدو مشخصًا بكيفية تمكن من معالجه أو التخفيف من بلواه بوسائل شتى، ذلك أن أخطر ما يميز ظاهرة قمع وانحسار الحرية في العالم العربي هو ما نددت به دائمًا قوى التقدم، وتحسسه بشدة التقرير الأممي؛ نعني ما اصطلح على تسميته ﺑ «دولة الثقب الأسود»، المتمثلة في مركزية قصوى في الجهاز التنفيذي المحتكر لكل السلطات وتوفير آليات مختلفة لخدمة هذا التركيز. الشيء الذي يُفرغ مؤسسات ذات طبيعة تمثيلية ولها صبغة ديمقراطية أو قانونية من محتواها، معطلة دورها، وجاعلة من أخرى، كأجهزة الاستخبارات — مثلًا — أو ممارسات الفساد والرشوة صاحبة اليد العليا. فما بالك بعد هذا حين تنتهج الأنظمة سننًا في تأبيد حكمها، لا على أسس الديمقراطية ولكن فقط برسم برامج شعارية تارة، أو رفع دعاوى وصائية أخرى، أو بزرع نوع من الترهيب يصبح فيه وجود النظام في ذاته صمام أمان في وجه تسعير مخاطر محتملة أو مفترضة، وهو إجمالًا ما أطلق عليه «شرعية الابتزاز» تلغي كل شرعية غيرها ممكنة.

ليست الأنظمة المتسلطة، بأدواتها القمعية المباشرة أو أساليبها المراوغة والمهيمنة، مسئولة وحدها عن وضع تغييب الحريات في العالم العربي، ذلك أن أزمة البنية السياسية سرعان ما تنعكس على التنظيم الاجتماعي الذي يصبح محتضنًا لضرب من الوأد الذاتي للحرية يطبق في التنشئة الأسرية، والبرامج التعليمية، والعلاقات الاجتماعية؛ إنها سلسلة حلقات تصنع نموذج الفرد الخنوع والمستسلم والمدجَّن في النهاية. بينما يلعب النظام الاقتصادي ونمط الإنتاج السائدَين دَورًا حاسمًا في فرض الحكم التسلطي؛ ففي ظل نظام الريع تبرز الدولة بصفة مانحة وموزعة للثروة تضع الجميع تحت رحمتها وتتعالى بحكم ما تخلقه من ولاءات وتراتبات عن كل مسئولية، إلى حد أن شططها يصبح مناعة تتخفى وراءه عشرات. المصالح تدافع عن نفسها وترد عنها كل كيد، ومنه «كيد» مطالب الحرية والديمقراطية. وهذا خلافًا لنظام اقتصادي يعتمد جزء كبير منه على دافعي الضرائب، الذين يحق لهم مساءلة الدولة ومحاسبتها على طريقة تدبير الموارد المالية.

يقينًا أن صورة الحرية في عالمنا العربي، المرسومة والمخططة في ملامحها العامة ليس أكثر، تستدعي مواقف استعجالية لمحاولة تدارك ما أفسده الدهر، اللهم أن يكون الخرق قد اتسع على الراتق. من هنا النفير الذي يطلقه خبراء التنمية البشرية عن أزمة الحرية والتسلط التي نتخبط فيها، ودعوتهم إلى الشروع في إصلاحات سياسية وقانونية للحد من احتكار السلطة وإقرار الشرعية التي يعتبرونها غائبة كظاهرة عامة بالرغم من أشكال التمثيل الشعبي، بنسب متفاوتة. يتعلق الأمر في الواقع بالبدائل أو الإمكانات المتاحة للعلاج بعد تشخيص المرض، هكذا يرسم السيناريو التالي من ثلاث حلقات:

  • (١)

    إما لا أمل يُرجى وتبقى الأمور على حالها في الجمود.

  • (٢)

    وإما أن تتبلور من الداخل إرادة الإصلاح وتنبثق، بالتالي، خطط التغيير عبر إعادة توزيع الحكم وممارسة حكامة جيدة، ما سيثمر النتيجة المأمولة التي اسمها «الازدهار».

  • (٣)

    وإما أخيرًا سيناريو التدخلات القادمة من الخارج. وفي الجملة؛ فإن كل تأجيل للإصلاح أو تحايل عليه سيجعل من استمرار العجز التنموي والقهر في الداخل والاستباحة من الخارج ما يمكن أن يفضي إلى تعميق الصراع … الشيء الذي قد يدفع بالبعض إلى أشكال من الاحتجاج العنيف تتزايد معها ظروف الاقتتال، والبحث عن تداول السلطة بالعنف المسلح. «ولذا فالأفضل لتلافي الخراب هو التداول السلمي الحقيقي للسلطة من خلال عملية تاريخية يتبناها الجميع … في السلطة وخارجها.»

برسم الختام نريد لا بأس من التذكير مجددًا من أن هناك إجماعًا اليوم لدى الخبراء الأمميين أو الناطقين باسم النخَب العربية، والحكام قبلهم، على أن الإصلاح لا يمكن أن ينبثق إلا من الداخل. لكن هناك إشكالية إصرار النخبة الحاكمة، والمسئولة طبعًا عما أصاب بلدانها من تردٍّ في العقود المنصرمة؛ إصرارها على أنها وحدها من ينبغي أن يقود عملية الإصلاح بلا أي برنامج أو جدول زمني، وبتهميش القوى الأخرى أو استعدائها. وثانيًا، ألا يجوز لنا في بعض أحوالنا أن نستعير ما يقوله اليوم أبناء البرسترويكا الروسية حين يتحدثون بذهول عن إشكالية وضعهم: «نعم، أُعطينا حرية التعبير، ولكن لا أحد يستمع إلينا!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤