بالكلمات … ورفيف الأخيلة

لكي تكتب، وإن كنت تقصد سرد قصة بالذات؛ فإنك لا بد في حاجة إلى الخرافة، ما أسميه الانزياح الضروري عن حافة الواقع. هذا ما يعلمنا إياه أبو علم الأدب في الغرب فولفغانغ كايزر. ويقصد الباحث الألماني استعمال الدراسة الأدبية للكلمة بوصفها تعيين مجرى الأحداث، وباعتبارها القالب الشامل الذي ينضوي داخله العمل الأدبي، حين يتميز في خصائصه بهذه التسمية. فلكأنك في تيه، أو تسبح في بحر متلاطم، وتريد دفع ذراعيك بانتظام لضبط إيقاع سباحتك؛ إذ بدون ذلك ستظل تتخبط، ولن يظهر منك إلا القبيح والفوضوي.

من غير هذا، ليس إلا العناد، والإلحاح اللجوج، والإصرار المنفر؛ ما يخوض فيه من يشوهون وجه الحياة، ويجرحون بهاءها بالندوب، ثم يقفون ضاحكين ومزهوين أمام فعلتهم الشنيعة ظانين أنهم خدموا البشرية — أما الإنسانية فشأن آخر — بهذا اللايوصف، فكيف يسمَّى عندئذٍ. ليسوا بالضرورة على وعي، أي صحو بورطتهم. الوعي فطنة وإدراك ينجبان تمثُّلًا نقبض عليه حسًّا، ونتصوره بعد اليقظة في الذهن، شعاعًا يضيء من دواخلنا. فهم واجتراح وإحساس، وإذا كل ما تقع عليه العين حياة، ويلتقطه السمع نبض، وتلمسه الأصابع تشكل، ويتحسسه الجسد التحام بالوجود واختراق له بعد ذلك نحو أبعد منه. هو ذا الوعي الكلي لا يمكن لأي غرٍّ أو دعيٍّ أو طري العود من ناحية التجربة، وضمنها العمر بلا شك، أن يتوفر عليه ويشتمل على مزاياه اللاتحصى، ولن يكون تعدادها إلا تحريضًا على تجاوزها إلى الأفضل منها. وهذا وعي آخر لا يملكه المتعجل من أمره، النهم لأكل الثمرة، لقطفها قبل الأوان، أن يصطبر عليه؛ لذلك لا مفر أن يقذفها في فمه مُرة وفجة، فيما الفن، فيما الجمال، فيما الحياة خلق حسن وتكوين سوي، وقوم بها فاكهون.

سأقول — من نحو آخر — إنه صنو الموهبة؛ رغم التباعد المفترض والمقرر غصبًا بين العقل والقلب. الموهبة تغشاك وتغشاها. لا تطرق إلا باب من يناديها ويناجيها ويفيض من عينيه النور وهو لا يعرف المسار؛ فإن وصلت انفسحت في صدره الأبهاء، وسرى الماء وغرد الطير وأزهرت البلاغة دانية القطاف. ثم ثابر واحترق، وهوى وغوى فغرق، وعاد من ليل الهواجس العميق انبثق … إلى أن لم يبقَ بينه وبين القلب إلا رب الفلق. ثم عاد فأراهما، الموهبة والموهوب، الوعي وصاحبه، يلتقيان في منتصف الطريق، كأن كل واحد منهما يستغيث بثانيه أدركني. وتراهما يمشيان يدًا بِيد، تتشابك الأعين بين أصابعهما خلسة من غيرة وهما ما انفكا يمضيان، وبألم صامت يتقدمان إلى حضرة الجمال. مشحونان بالأمل والرغبة، مجللان بالكبرياء في الطريق الذي يعرف فيه كل موهوب حقيقي رعشة الخلق الفني، وستمسه لا محالة قشعريرة الخوف وهو يحس أنه مهزوم أمام الكمال وعلى أعتابه جاثٍ، وفي الطريق إليه سيفنى، وحتى إن وصل فذاك قدره!

حين «تنتابني» خواطر مماثلة أحس باشتياقي إلى الكلمات، كلماتي الطريدة أو المتباعدة، مثل بذور نجوم في حقل السماء، وهي ستثمر غدًا أقمارًا. في انتظار نورها روحي أرض وسماء. لا أخاف عليها من الهروب ما دامت تعبر دورة خصب. أخاف فقط على وفرة الخصب. أخاف فيض شوق عندي من أن يتبدد قبل أن يلقى خرافته، مجراه ليستقيم له المجرى الذي يصبح له مسكنًا، ومرقًى إلى سماه. وكالفجاءة التقينا. جاءني من خمَّن أن ما أعانيه شبيه بالوحام، وهكذا لا أعرف أي «كورس» وقف على رأسي يتغنى بتلك القصائد البرتغالية البديعة: غزل القرون الوسطى؛ جميلًا محلولًا في غناء الشعب يتنزل أناشيد صداقة Cantigas de amigon تقطر في سمعي:
«آه، أيها الزهر، آه، يا زهر الصنوبر الأخضر،
ألديك أخبار من صديقي؟ آه، يا إلهي أين هو؟
أيها الزهر، آه يا زهر الغصن الأخضر،
ألديك أخبار عن حبيبي؟ آه يا إلهي أين هو؟»

كنت من ينشد في صوت يتعدد، ليذهب إلى أقصى الأرض لعله ملاقٍ هناك هالة أو فيء أحباب. الغياب أسمعه صوتًا يحضر في وجهي ويكلمني. للصوت شكل. للشكل رائحة. للرائحة لون. للون مذاق، فأشرعة تخوض في الماء، وأجنحة ريشها السحاب، وله رغبات تجتمع الآن كلها في جسد، مقبل عليه، أو مدبر عنه، لا مناص فهو المدد. ويحِي، ماذا أصابني، وأي ابتلاء؟! في لحمي، في همسي، لمسي كغفوتي، ويقظتي فيه، من خافقي ينبض، منه يمتد كل هذا الجسد؟!

«آه أيها الزهر، آه يا زهر الغصن الأخضر
ألديك أخبار من حبيبي؟»

عجبًا كيف في الغياب يتكاثف الحضور، وفي النسيان يهيج التذكر. ونحن الذين سلخنا غضَّ الحياة في الكتابة، ولم نرَ غير رماد أجسادنا وأمالنا يسد الأفق. سنستريح قريبًا عند بال الصيف، لم نعرف الربيع، الربيع ليس لنا، ونرفع وجوهنا إلى السماء، من باب الرجاء عساها تمطرنا أملًا آخر، ولتكن سحابة صيف. ليكن كل ما مضى علامات؛ الرجال الماضون غدرًا أو قبل الأوان، الأحداث الحمراء، أماكن العتمة وزوايا العناكب، وأزمنة عبرت في هتاف فات، وتاريخ كامل هاكه إلى موات. سأقهقه قائلًا: سنكتبه نحن كي لا نموت، ها، ها!!

ليس يأسًا، صدقوني، فسواء انتمى صاحبها إلى الشرق أو الغرب، دعك من مغاربنا، تبدو الكتابة عند مجترحها نوعًا من القدر الممض، يحكم عليه بملاحقة ذاته في ذوات الآخرين أو من خلالهم، أو البحث عبر هؤلاء عن الحيز المحتمل القابل لاحتواء ذاته، سواء على سبيل الواقع أو المجاز. يفعل ذلك خارج دائرة الأمل أو اليأس معًا؛ لأن ما يبغيه يجهله سلفًا، أو يطمره في مكمن الكتمان، لا يذيعه إلا مقسطًا أو مقمطًا بالسحر، يمشي وراءه وهو يكتشف تحليقه في اللحظة نفسها التي يرافق فيها أسراب الطير والعيش والمنية.

لا يفضل الكاتب الآخرين بشيء كبير. تراه يقول هذا لا عن تواضع زائف وإنما ليبعد عنه تميزًا سيثقل على كاهله بلا طائل، وخاصة في بلدان يعتبر الابتلاء بالقراءة والكتابة فيها مضيعة للوقت وامتيازًا متروكًا للواهمين. هناك تفوُّق واحد يستطيع الكاتب أن يدعيه، وذلك حين يتوسوس بكتابته طبعًا، وتغدو حلبته الأولى والأخيرة تقريبًا. إن له أن يزعم — مثلًا — أنه يعيش في الوهم، ومن أجل الوهم. بادعاء مماثل تنفتح أمامه أبواب الحرية، حتى ولو كان مغلولًا بألف قيد؛ ولذا فهو يتهيأ بالقول، يقتات به، ويعتبر — يا للهول! — أن مهمته هي تدبير شئون الحزن بين بني البشر … بالكلمات، ورفيف الأخيلة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤