هل تعلم أن فاس يسكنها الجان؟!

ألححتُ كثيرًا على سمر لتحضر إلى باريس. ربما أكثر مما ينبغي. قلت لها إن أعياد الفصح مواتية جدًّا لتلتقي بنت بأبيها، هنا. لم أكن أعني المناسبة الدينية فهي لغيرنا، ولكن السكينة التي نلتمسها في كل ما هو قالت إنها مستريحة في بيروت؛ حيث تشمُّ الشمس في ذراعها كل صباح، أما باريس فهي غريمتها؛ إذ يكفي أنها أخذتني منها. أقنعتها أخيرًا، ووجدتني عند وصولها أحار أين أقودها، وهي التي لم تحمل سوى جسدها. كانت مثلي تريد أن تجفو كل الأماكن التي تركت فيها جزءًا من ذاكرة ومشاعر لم أعرف كيف أحافظ عليها، فكأنني أهملتها معها؛ حيث تركتها في شرق المتوسط مكرهًا، فيا لخسارتنا معًا!

ربما بوَهم أن أستعيدها إلى البراءة المفتقدة، لم أجد غير وطن بعيد عن عينيها، قريب دائمًا إلى قلبي، مساحة محتملة للمصالحة، ومن حسن الحظ، ظننت أن الوطن — أعني المغرب — أضحى خلال أيام قريب المنال، وفي قلب العاصمة الفرنسية. عرفت أني سأجازف مع هذه الصبية؛ إذ كيف أدعوها إلى تغيير شراع عاطفتها بريح لا تواتي من كبر في كنف أحضان وثقافة أخرى. هكذا جميع المهاجرين واهمون، بل متسلطون إذ يفترضون أن أبناءهم يمكن أن يُساقوا بكلمتين إلى «لبلاد»، وفيها سيرضعون من جديد ما أخذوه هم من سالف الدهر، كأن الزمن لم يمضِ خطوة واحدة في أي اتجاه. وأكثر منهم تسلطًا الذين يُرحِّلون إلى الخارج بضاعة عنا يعتبرونها صالحة لكل مكان وزمان، ولو كره الكارهون، على الآخرين أن يبتهجوا بحسنها، وما همَّ أنهم لا يتهجون حروفها، وإليكم البيان:

فإني قلت لابنتي إن بلادك الأصلية على مرمى حجر، وبما أنكِ سلَوتِها وعشقتِ المها الأُخر؛ فستحيين الرحم بيسر ولا تغرُّب. فقد اتُّفق أن مؤسسات وطنية على رأسها وزارة السياحة أرادت، بإخلاص وحسن نية طبعًا، وبمناسبة مرور خمسين سنة على استقلالنا المجيد، ونظرًا — أيضًا — لرهان بلادنا الخطير على مغرب سياحي ليكون الثروة النفطية التي نعدمها؛ أرادت مزيد تعريف بنا، وإشهار لثقافتنا وتراثنا، ومعالمنا الحضارية والطبيعية وما شئت مما لا شك سيجلب الملايير (كذا)، فقصدَت الاتجاه الصحيح عندها — أي باريس — وفي أفخم ضاحية قريبة، (نويي سورسين) حيث اقتدتُ ابنتي بقلب خافق إلى المعرض الموعود الذي عولتُ عليه سيبهر العجم قبل العرب، فضلًا عن أنه سيصالحنا عاطفيًّا، يا إلهي! ببلدة نويي الوديعة، في حيها الشرقي الغابوي، حيث يمتد المنتزه المعروف باسم Jardin d’acclimatation يقصده الأطفال خاصة لما فيه من ألاعيب ومشاهد مغرية، وبمراياه ذات الانعكاسات المضخَّمة. هنا بالضبط اختار المغرب الرسمي وتوابعه أن ينيخ ويحط الرحال — بمعنى الكلمة — لبضعة أيام؛ هكذا دُقت الأوتاد، ونُصبت الخيام، متفرقة بين جنبات الحديقة لا تخطئها العين، ولكل خيمة منظر ومخبر، ولها مجتمعة، لو ضم شتاتها حديث، والله، ذو شجون!

اعلم أيها المغربي العزيز، ملتصقًا بتربتك أم مهجرًا منها، أن وطنك به خيمة تحتوي على صنوف أعشاب، للتداوي أقرب، ولا بد من السواك والحرقوس والكحل والمورد والمسكة، والعكار الفاسي، تيمنًا ببهاء نسوتنا. يا للهول، كدت أنسى أطباق الحناء، وإلا من أين يأتي غروب واحاتنا بخضابه الشفقي، بل يمكنك اختصار المغرب في كفِّ امَّحى منها خضاب دم الشهداء — لأمس — وتراها بنت حاضرها يا سيدي، نحن أبناء اليوم، تراها تتثنى بغنج الخصور التي تلبس تلك القفاطين. هذه هي المرأة المغربية، سأضيف إليها قرطًا وخلخالًا ووشمًا، ورأسًا مغطًى بترازة، وأخريات معروضات في سوق إمليشيل، فنبيع لها أجمل صورة في الغرب.

طبعًا لم أعلق بشيء، وإنما تركت ابنتي ترى على هواها، وأسمعها تعلق بصمت: «عالم آخر!» في الخيمة الثانية صور سياحية — وإلا ماذا سأسميها — عن البحر وعن الشاطئ، ألسنا تجارًا للشمس؟! وللأقواس والأبواب في المدن العتيقة، والتربة الحمراء أو الصفراء في ورزازات؛ أرض السينما لا الإنسان أو أبناءها المذقعين، العاشقين للمطر لا العدسات. كنا نمسح هذه الصور مع عابرين كالتائهين، بلا حماس ولا دليل للزائرين كأن حب المغرب وحيٌ ينزل من السماء. في الخيمة الثالثة خرَّاط تقليدي، حاضر بجسده غائب في الزمن الغابر، مثل أوانٍ تقليدية، يتساءل مهاجر زائر، هل يمكن تأجيره لتأثيث مناسبةٍ ما، فقلت له هذه هي المناسبة بالضبط، ومضى لا يفهم مع أولاده خاطرهم في شيء آخر تمامًا. في الخيمة الرابعة، كما لا بد ستحزرون، صوانٍ وأطباق ومشهيات، فنحن من العرب المستعربة، والآكلة خاصة؛ مطبخ وطباخ وعارض حلوى، وبلادنا يمكن أن يختصرها شعار واحد: «المغرب طجين!» اللهم أن يغار كناوة وهداوة، وأخاف من الأرواح الأخرى التي سنصل إليها في حينه، بل إننا وصلنا، وها هي بالباب.

كنا، وقد أُتخمنا بهذا المخيم المعطاء، ورفقًا بابنتي قلت آخذها إلى حيث أعيدها لعمرها الغض، لكن ها هي تجذبني نحو خيمة قصية، هناك سرتُ بخطوة متكاسلة إلى أن وقفنا على مدخلها. رأينا امرأة جالسة، مفترشة الأرض حولها بضع صبية، وأخاف أكذب لو قلت هل هي مغربية أو نصرانية أو الله أعلم. وحدنا واقفان، وصلنا والمرأة تلوك في فمها كلامًا، حين أنصتنا هنيهة فهمنا أنها تحكي للأطفال حكاية. كنا كمن يدخل إلى قاعة سينما ويلتقط الفيلم بعد بدايته؛ لكن لملمنا الخيوط بسرعة. كانت المرأة تحكي عن فاس التي أعرف، وتجهل حتمًا، ومني منك، عندي عندك، بلغَت حكايتها الذروة، غير أنها بدل أن تسحر مثل الجن الذين كانت تروي سيرتهم، بسم الله الرحمن الرحيم، قطبَت جبينها، وأظن الحلقة اتسعت حينئذٍ بمرور أطفال فرنسيين يزورون المرايا الشهيرة للحديقة، لا الخيام، ثم ضربَت كفًّا بكفٍّ زيادة في تنبيه المجلس أو ربما إحضار الأرواح لتقول هكذا بالفرنسية الفصيحة: الحكاية انتهت، لكن فاس يسكنها الجن فعلًا، وهم يتعقبون الأطفال بالليل والنهار، ويخرجون للكبار، أيضًا، في الأماكن الموحشة، وحتى … ولذلك يدخل السكان هناك إلى بيوتهم باكرًا جدًّا، ورأيت عينيها تجحظان بعد ذلك مع شفتيها تزبدان، والأطفال يفرنقعون، وأنا أجرُّ وحيدتي إلى أبعد نقطة ممكنة مخافة أن تخرج حية رقطاء لترقص على إيقاع بندير، ليكتمل المشهد. وكأن ابنتي خمنت شعوري فبادرتني: هكذا أنت دائمًا يا أبي، بتقلق عالفاضي! هوِّن عليك، باريس ذات الشيء، فيها الجن أيضًا … وبعد لأيٍ أعادت لي طمأنينتي: والملائكة كمان، على قول عمو طه حسين، الله يرحمه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤