الكلمات: جثث ستُبعث يانعة!

«بمثابة شاهدة على قبر طفلة اسمها زينب، قتلتها إسرائيل في قرية قانا اللبنانية، مع ٣٧ طفلًا في حربها الهمجية على الأمة العربية، في ٣٠ يوليوز ٢٠٠٦م.»

وقفتُ عند عتبتها، نتبادل على غير العادة نظرات محنطة. وقفتُ وما في الفظاعة شك لواقف، لا أسمع، لا أشم، تعطلت الحواس، والنظر وحده إلى ما يشبه شاهدتها، هناك عمال يوشكون على الانتهاء من نصبها في العتبة، ملقًى عليها كغطاء، أو ككفن. يحدث حين كنا نلتقي في منعطف رغبة أو شهاب احتراق لنجوى تأججت بالذكرى، أن تنضو بعض فتنتها، تقول خذني، أو امنحنيك يا الضائع أبدًا في متاه الصبوات. يحدث أن تصفر الريح، تجلب بين التركيب والعطف والاستفهام علامة للتعجب، لكي لا يخلو عالمنا من الدهشة. يحدث أن ينازل الواحد منا آخره فيها؛ لأن نسغها من الرحم يكبر فينا، والسلالة تقيم أعراسها دائمًا بالدمقس وبالحرير، وذاك مذ علقت أطلال خولة على جدران الكعبة، وباءت قريش إثرها بخسران مبين. يحدث حتى أن ننسى الذي به جئنا ومن أجله كخير أمة، وحين تتراقص أمامنا على وسن الحلم نعود نجمح في الصهيل، نرقى بالصهوات ثانية كأننا لن نعرف الكبوات إلى ذرى بلاغتنا وسمو أعراقنا راحلين من الاستعارة الصريحة إلى المكنية عسى غفوة المجاز تطول. وكم جعلتُ منها مقارعة للمنايا، وفرسانًا تدكُّ الجبال ما شقَّ لها غبار؛ کم صارت كل ما أملك وأغلى ما يُمتلك، لا تبديل لكلمات الله، لم أقبل دونها الرجوع إلى السطر أو أي بدل.

وقفت عند عتبتها عيوننا مطفأة. رماد في المحجرين وغار انحفر. من فعل بك هذا؟ من فعل بك هذا؟ لا أسمع! لن تسمعي! ما القول؟ من، ما أنت؟ ماذا وقوفك والفتيان؟ آه، حقًّا، من عدت، كنت؟ هي مسجاة، أراها بلا حراك، أطرافها متباعدة كالمهشمة، أشلاء، مفحَّمة أو كالمكبَّدة، ناتئة خارج خرق سوداء. هي لم تمت وإلا لوضعوا لها كفنا أبيض، هي ليست حية وإلا لنثرت علي فتنتها وواجهتني للمنازلة «كدأبها من أم الحويرث قبلها.» لم ألكزها ولا هي تثنَّت خلسة المختلس. صرت خبيرًا بالدلال لما تكالبت علينا الفتن، فأسلسنا القياد، لقد «تكسرت النصال على النصال» لكني لم أملك رغم كل شيء إلا أن أعود أقف عند عتبتك، أي لا مقتربًا ولا مبتعدًا، جسدي رماد وأنا من عجب مشتعل بحرائقك القديمة، ولا حول لي، ولا سطوة، تناثرت دفاتر الذكري، الحرب لا أكثر من شظية ساهية، والأمة نطفة في الرحم ساجية، وحق القرآن، مع الدفاتر بعناها، طُمرت حية، «هي آخر ما يباع من المتاع» … غير أن الصرخة رغم كل شيء واقفة، صاحبي القديم ظل يصرخ دهرًا، ظل يسري في البلاد، بكل غناءٍ يشدو، وكل نعيب من فرط الهلاك ينعى العباد، قبل أن تنطفئ شمس الله في بغداد، وبعد خرابها إرم ذات العماد، ولم تسقط الصرخة، أسمعه الآن المجاطي من مقبرة الشهداء برباط الفتح أمس ينفض عن أرض المغرب اللحد، ويستأنف العدَّ، ولسان الشاعر فيه ما انفك يكابد: «ظمئنا والردى فيك/ فأين نموت يا عمة؟!»

إنما، كيف أبقى أمامها، أي في لا هنا، حيث لا ينبغي أن أوجد، والحرب مشتعلة في الهناك الصحيح؛ حيث ترسانة غولدا وغوندوليسا ترسل القتل الصريح، تجريان محادثات تدور دائمًا في جوٍّ وديٍّ، يتم فيها التوقيع بجميع حروف الأبجدية على إبادة العرب، شرقًا وغربًا، حتى لا يبقى لقحطان وعدنان أثر، وتوءَد العربية قبل أن تنجب في الخلق محمدًا أو عليًّا وعمر. حتى توءَد أو تصير أمَة، مثل سائر هؤلاء الغلمان والهَرَمة، كروش وعروش تتوسطها نجمة داوود وتزحف على خلفها، يجرها السيد اليانكي لتولغ في دمها الذبيح. ويحها الكلمات لا تعرفني، الموت الزؤام شاخص لي، قدَّت أمتي من دُبر، غولدا تعربد في سماي، تحرث أرضي بلحم أهلي، محراثها عظم جدي وأولادي، وسمادها نومي على حكي أمي، تاريخ تنتن بالهوان، وأطلال أحبة كانت هواي. لا أعرف حتى وجهي، نظري في صورة القتل، قتل العربي الزري، يرتد لي، تارة يصفعني بالإنكار، أخرى يبصق في وجهي، اتفو! أوَلا تعرف معنى العار؟! أصابعي تنسل عن يدي نافرة في الهواء، لا تعرف ما الورق، عنها تصد الكتابة، جف ما كان من حبر، وفاض الدم عن محبرة الكآبة. أردت أن أستردها فتجمعت قبضة هَوت على رأسي: أفِق، الأصابع هي للزناد اليوم يا ولدي، للقتل المباح، لتواقيع الهمج الجدد، أنبياء الحداثة العظمى على بروتوكول إبادتنا، أفِق، غدًا ستمطر دمًا ملء سحابة!

بلى اليوم. جُستُ العتبة، ولم أجانب الجثث المنتشرة، ولا الأشلاء ما انتثر منها، وما هو بعد راجف فوق ركام قصف الشمطاء غولدا، وتباريح ليسا الفجَّار، راعش بأصبع الشهادة، بعد تفجير أصبع الديناميت في دبابة القتلة. صرتُ بالداخل دفعة واحدة؛ فإذا الكلمات الموتى أحياء، هم دائمًا عند ربهم يرزقون، تحتاج إلى الفرسان والإيمان وفحول الشعراء، بلى سمعت في باحة الحرم الشريف، وبلسان الشرفاء الأحرار: ستخون لو عاديتنا، نسيتنا، فذاك ما يريده الأعداء، أن تسقط البندقية، يأسن نهر الكرامة فينا، يجف في كل الحناجر منا نبع النداء. انظر، إنهم بيدٍ يضغطون على زر الدمار، وبالأخرى يهيئون لنا أنسب العبارات لسلام الجبناء. أخذتها، إني لأحضنها، أمسح الجرح عنها بجراح نازفة، أهيل على الموتى خشية غربان أخرى ظل أشجار الله الوارفة، من يدري قد يساعدني الله؛ فيعيد الروح إلى هذي الرمم، أو يرمينا إلى هذا الحد إلى الهباء! الأطفال الذين على طريق الموت حروف مضيئة، كل طفل نجمة هوَت وأينعَت في الأرض حديقة، كل وليد سيولد عندنا غدًا شهيد بقتلك أيها المجرم بوش، دعني من آذانهم في يدك النخاس، وجه «زينب» قانا إلى أبد الدهر ثأر سنطلبه وبيان حقيقة. وحدها بعد ملاذنا أم سنكفر أيتها السماء. وحدها زينب والصحب الملاك أشلاء في العراء … «فلا نامت أعين الجبناء.»

الكلمات التي كانت سابقًا، فخر أبي الطيب في البيداء،
اقتحمَتني، وتفجرت، لا تفهم العتبات هي، ولا لغة الحُداء.
العربية اليوم إذا لم تصبح قذيفة في وجه قاتل زينب،
كل هذه العربية، الأرومة، العقيدة، دنان الزمن، أو محض هراء؟
تجاوزتني الكلمات. أنا لا أكثر من جدث، قِربة في الهواء!
الكلمات دفنتني — حسبتني حيًّا — وطارت إلى معراج الشهداء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤