مغاربة، لكن من أي طينة؟!

ذكرى استقلال المغرب وأمجاده الوطنية ليست كلها مناسبة للفرح وأخذ العبرة والحماس لانطلاقة أخرى نحو المستقبل؛ هي ذكرى لا واحدة ولا موحَّدة، أو إنها في عرف البعض لا ينبغي أن تكون كذلك، وعندهم أنها ينبغي أن تتعرض للتهشيم والتكسير حتى تبعد عنها مزية الإجماع الوطني الضامن لوحدة الأمة ومهماز بقائها واستقرارها. تُرانا نحن الذين تغنَّينا ببلادنا وأسكتنا احتجاجنا وبلسمنا جراحنا وقلنا باسم الله نبدأ ونعيد الكرة أيها الوطن، إنما كنا مخطئين؛ لأن هناك من يريد أن يخطئنا في حبنا، ويفصلنا عن ديارنا، ويسلخنا من تاريخنا، ويطفئ نور الله الذي في قلوبنا بأفواه وأية أفواه؟!

لسنا سذَّجًا، أنا وعشيرتي الأقربون؛ لأن نتصور أن السماء التي تظلل الناس ستكون نفسها الأرض التي تأويهم، فمذ وُلدنا تحت شمس هذا البلد وتخبَّطنا صغارًا، وحتى كبارًا في وَحله تعلمنا أن هناك من ينازعنا رغيفنا ويستكثر علينا الخطوة في الطريق والاستنشاق من الهواء، والزهرة التي كانت مبذولة صارت مكتوفة الأيدي خلف الأسوار، ولم نبال — رغم كل شيء — بالحيف في تقسيم الأرزاق، وقبلها زهقت أرواح وقُطعت أعناق، واليوم وقد بلغ السيل الزبى، وإذ نُحس الموسَى تصل إلى العظم؛ لم يبق لنا إلا أن ننطق بالحق كل الحق. لا ندَّعي امتلاك الحقيقة؛ فهي للجميع بقدرِ ما يُسهم في صنعها وينمِّيها، يرسخ عمادها ويدرأ عنها صدأ الأيام تصقل في مرآة زمن؛ إذ يتقدم في التجدد والتطور لا ينكر سالف عهده — على هواه — كما لا يحق لأحد — إلا غصبًا وبهتانًا — أن يمحو معناها ومبناها، على الأقل ما دمنا نحن أحياء قد صُغناها وفي دمنا تجري أو دونها نموت.

فبعد ما رأيتُ، بعد ما سمعتُ وأسمع كل يوم بما لم يعفَّ عنه لسان كان ينبغي أن يبقى زعافه في جوف صاحبه كيلا تُرى الحية وهي تسعى في واضحة النهار، قلت لا بدَّ أنذر عشيرتي الأقربين، وهم ليسوا أهلي أو صَحبي كلهم، أو حزبي فقط، فجميعهم بنو وطني لا أُفاضِل بينهم إلا بقربى هذا البلد الغالي على من افتداه وأخلَص له ويتنزه لسانه عن إيذاء أهله وسكانه الجديرين به، لا المشدودين إلى تاريخ العناكب بخيوط أوهَى من خيط العنكبوت. وإني أمام ملك البلاد، سمعته في خطاب ١٦نُوَنبر التاريخي، ومنه عبارات دُرر جدير تقييدها كما ينبغي؛ فهي تقرُّ حقائق، وتنبِّه السادرين في غيِّهم علَّهم يرجعون إلى سواء السبيل، لا بأس أن نرجع إليها، ومنها: «سبيلنا — الذي لا رجعة فيه — تعزيز المواطنة الكاملة لكافة المغاربة الذين أعتبرهم سواسية حيثما كانوا، وكيفما كانت وضعيتهم الاجتماعية. لا فرق بين فرد وآخر، إلا بقدر ما يجسِّده من وطنية صادقة، ونهوض بالمسئولية، وتمثيل مشرِّف لبلدنا الذي نعتز بالانتماء إليه، والعمل الجماعي من أجل صيانة وحدته وتوطيد عزته.» هذا السواء يريد قوم أن يواصلوا تنكُّبه، وقوم أن يضربوا به عرض الحائط، لا يهز العروش وإنما كراسيهم المخلخلة وبطونهم المكورة، وحقوقًا يدَّعونها ما أنزل الله بها من سلطان. وآخرون — لو يدرون — يزرعون في الأرض الإحن ويدفعوننا دفعًا صوب الفتن، وإلى ما لا منجاة منه— والعياذ بالله — عندهم غير نار حرب توقد.

فهل في هذا يريد دعاة النعرات العرقية واللغوية بالمغرب أن يُوقعونا؟ وهل انتفت عندهم الحدود فما باتوا يُميِّزون بين حق الرأي وحرية التعبير، وبين «حق» العدمية والإلغاء المشين. وليعلم القاصي والداني أن هناك من رفع اليوم — وفي عُقر دارنا — الدعوة إلى طردنا منه وتهجير عقيدتنا وتعويضنا وإياها بما لا يعلمه إلا الجاهلون المارقون. فالعرب يا سادة يا كرام — في منطق هؤلاء — ليسوا أكثر من غزاة دخلاء، هم — نحن — وإسلامهم القابلان معًا للكنْس والإجلاء. قبل سنوات وقف شخص غِر أمام بناية البرلمان يحمل يافطة كتب عليها بعنوان عربي مبين: «نطالب بطرد العرب من المغرب». مرَّ به مواطنون فعلَّقوا إنه معتوه، وتساءل عقلاء عن مَعاد الضمير في «نطالب»، ودفن كثير منا رءوسهم في الرمال. وعند إعداد بيان ختامي لأحد مؤتمرات اتحاد كتَّاب المغرب — في سالف العصر والأوان— ارتفع صوت نشاز «یطالب» بحذف النسبة العربية للاتحاد، وتصدَّى وقتها لشططٍ كهذا رجال نهلوا من معين عروبتنا ومغربنا وقالوا: «إن شيئًا من هذا لا يمكن أن يحدث إلا بالمرور على أجسادنا!» وذاكرة التاريخ حية لم تمت. أما اليوم فلسان من العنصرية والتفرقة العرقية، بل والتحريض على الكراهية وبث الفرقة الوطنية واللغوية، وصولًا إلى مسعى نفي العقيدة في سعار، والناس عندنا إما لاهون أو لا مبالون، أو هم بالصمت متواطئون، ولا صمت في ما يمكن أن تغرق به السفينة، وخطاب الدعوة إلى تدبير الخلاف أو الاختلاف، واحترام خطاب التعددية تماشيًا مع مقتضيات (كذا) هو تهرُّب من تحمل مسئولية لا تقبل التأجيل.

إن صياغة الاصطلاحات، والتنويع في «الأسلبة» الأيديولوجية لا ينفي أن هناك — في النهاية — مضمونًا أيديولوجيًّا ودعاة أمس كانوا خلف الحجب والخنادق، واليوم يعتبرون باسم حقوق معينة وذاكرة مثقوبة، أضف إليها تمائم الأوهام، أن المغرب مشاع وسواهم من عرب وإسلام سقط متاع. ومن عجب لا يقولون شيئًا عن الأعاجم، وكيف أن لغة الضاد محقورة في وطنهم «الأصلي»، ولا تأخذهم الغيرة على من وحَّدهم وصنع منهم أمة وأخرجهم من الظلمات إلى النور. فهل تعيش الأوطان والمجتمعات بالتنكر لتاريخها وتسفيه ثوابته، بتعريضها لعبث الهوى ومعاول المغرضين باسم تجديد الهويات ووعي القوميات وما شاكَل، أم أجيالنا الصاعدة والقادمة ستعرف كيف تقيم التوازن المناسب بين ركائز التاريخ ومطامح الغد بما يلبي حاجة الإنسان المواطن إلى التماهي مع ذاته في الوقت الذي ينتسب إلى وطنه، ويمتد في الأفق الإنساني الأوسع؟ أكثر من سؤال كبير مفتوح، وهو لا شك جوهر صراع ندخل فيه، والأمل أن يأخذ مظهرًا ثقافيًّا وسياسيًّا ديمقراطيًّا، لا أشكال تعنت وتطرف وفتن، كهذه المهلكة في بقاع من العالم شتى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤