ملك الذئاب

نام الجميع، وهبَّت ريح قوية حملت الرمال معها، وغطَّت وجه الصحراء بعاصفة رملية عاتية، وسرعان ما استطاعت الرمال أن تُطفئ النار التي كانت مشتعلةً في الإطار الكاوتش … وكانت الذئاب ما تزال تقف على البعد … تلعق أفواهها وتبري أنيابها الطويلة المسنونة … وترمي بالشرر من عيونها في اتجاه السيارة الواقفة.

ومن بين الذئاب … كان يقف ذئب ضخم … أغبر اللون … وكان واضحًا أنه زعيم مجموعة الذئاب أو ملكها.

وكانت الذئاب جميعًا تقف خلفه في انتظار أن يتحرَّك فتتحرَّك معه … وكان الذئب الكبير يرفع رأسه إلى فوق … ثم يُطلق عواءً عميقًا قويًّا تتجاوب به جنَبات الصحراء … ثم ينظر حوله إلى قطيع الذئاب الجائع وكأنه يُحس أنه مسئول عن إطعامها … وقد كان راكبوا العربة بالنسبة للقطيع وجبةً شهيةً لا تتوافر إلا نادرًا.

وأخذ الملك يحفر الأرض بإحدى قدميه … وكأنه يُفكِّر فيما يفعل … ولم يكد يرى النار وقد انطفأت حتى رفع أذنيه … وتشمَّم بأنفه الهواء … وتأكَّد أن النار قد ذهبت … فالتفت إلى الوراء ثم عوى عواءً قصيرًا وكأنه يُصدر أمرًا للقطيع بأن يتقدَّم.

وتقدَّمت الذئاب تقطع الطريق إلى السيارة في هدوء حتى اقتربت منها … ثم توقفت مرةً أخرى في انتظار ما سيفعله الملك.

في هذه الأثناء كان الأصدقاء جميعًا قد استسلموا للنوم العميق، وكذلك المفتش، وكانت السيارة مغلقةً من الخلف بواسطة قماش سميك … ولكن هذا القماش لم يكن يقف عقبةً أمام مخالب الذئاب الحادة … فسرعان ما تقدم الملك ووقف على قدميه الخلفيتين … وأخذ يشق القماش بأظافره القوية الحادة … واستطاع في دقائق قليلة أن يفتح ثغرةً في القماش ثم مدَّ رأسه داخل السيارة، وأطل على النائمين بعينَين شرهتَين!

كان «تختخ» آخر من صعد إلى العربة؛ فكان ينام قريبًا من نهايتها، ولم يكن بين رأسه وبين رأس الذئب الكبير إلا سنتيمترات قليلة … وأحس «تختخ» بين اليقظة والمنام بأنفاس قوية سيئة الرائحة تلفح وجهه … ففتح عينيه ببطء … وبدا له كأنه في حلم مزعج، وهو يرى صورةً مهزوزةً لرأس الذئب الكبير تُطل عليه من قماش السيارة الممزَّق … أغمض «تختخ» عينَيه وفتحهما بضع مرات قبل أن يتأكَّد من الحقيقة المذهلة … إن ذئبًا حقيقيًّا وليس حلمًا يُطل عليه … وقد بدت عيناه في الظلام كأنهما جمرتان من النار!

أحسَّ «تختخ» كأنه أُصيب بشلل مفاجئ فلم يعد يستطيع الحركة … ولا الكلام … وأخذ يُجاهد كي يصرخ ولكن مجهوده ذهب هباءً ولم يخرج منه صوت … ومرةً أخرى حاول ولكن دون جدوى … وكأن صوته قد ضاع وكأنه أصيب بالخرس!

برغم هذا الشلل … كان ذهنه يعمل بسرعة خارقة … فقد كانوا جميعًا معرَّضين للموت … وكان صوت الذئاب الغازية يُحيط بالسيارة. لم تكن ترفع صوتها … ولكن الريح كانت تحمل لأذنَي «تختخ» همهمتها الجائعة الشرسة.

كانت الثواني تمر بسرعة … وهناك صراع بين وحشية ملك الذئاب وذهن «تختخ»، وكان رأساهما متقاربَين كأنهما يتعاركان فعلًا … ولكن ذلك الصراع الصامت كان بين عقلَين يعملان بسرعة.

أخيرًا … مدَّ «تختخ» يده في هدوء … فلم يكن يريد أن يشعر الذئب أنه استيقظ … كان يُريد أن يكسب ثواني إضافيةً يستطيع فيها أن يفعل شيئًا … وكانت فكرته أن يبحث عن شيء … أي شيء ثقيل يضرب به رأس الذئب … وأخذ يتحسَّس أرض السيارة … ووقعت يده لحسن الحظ على مفتاح من الحديد ممَّا يستعمل في إصلاح السيارة … وأمسكه «تختخ» بيدٍ مرتعدة … ثم استجمع قواه … وكان الملك قد بدأ يتحرَّك للقفز داخل السيارة، وقد استعدَّت بقية الذئاب للهجوم خلفه، وارتفعت يد «تختخ» في الظلام … وقد مسك بالمفتاح الثقيل … وبكل ما يملك من قوة … هوى على رأس الذئب الضخم … وارتفعت صيحة في هدوء الصحراء … صيحة متألِّمة … رهيبة … وقفز الملك مبتعدًا … واستيقظ جميع من في السيارة على الصوت المرعب وقد ارتفعت صرخات بعضهم … فقال «تختخ» بصوت حاول أن يجعله ثابتًا: لا تخافوا!

وجلس الجميع في أماكنهم … وأخرج «تختخ» بطاريته وأضاء السيارة … ثم روى للأصدقاء والمفتش ما حدث بسرعة.

كانت صرخة الملك قد بعثت في بقية الذئاب موجةً من الغضب، فارتفع صوت عوائها المخيف … وقال المفتش: إننا في موقف خطير … فلن تتردَّد الذئاب في أن تهاجمنا مرةً أخرى.

قالت «نوسة» مرتعبة: ولكن … كيف تهاجمنا الذئاب ونحن مجموعة معًا؟

المفتش: لا بد أنها جائعة جدًّا … وأكثر الحيوانات المتوحشة لا تهاجم الإنسان إلَّا إذا كانت في غاية الجوع.

محب: والنار التي أشعلناها!

تختخ: صحيح … كيف هاجمتنا الذئاب برغم وجود النار قرب السيارة؟!

عاطف: ألا تسمعون؟! إن الرياح في الخارج تهب بشدة، ولا بد أنها حملت معها كميةً من الرمال أطفأت النار.

قفز المفتش إلى خارج السيارة وقد شهر مسدسه … وقفز خلفه «تختخ» ومعه مصباحه … كان ثمة قمر صغير قد أضاء الصحراء الواسعة … وبدأ قطيع الذئاب يقف في شبه دائرة حول السيارة.

قال المفتش بصوت متعب: إننا في موقف لا نُحسد عليه … وهذا العدد من الذئاب يستطيع — إذا هجم علينا مرةً واحدة — أن يفترسنا.

تختخ: الأمل الآن أن تسكن الريح فنتمكَّن من إشعال النار مرةً أخرى … وليس هناك حل آخر … إلَّا إذا كانت معك كمية إضافية من الرصاص يُمكن أن نبعد الذئاب بها.

المفتش: للأسف … ليس معي رصاص إضافي، وقد نحتاج إلى ما في المسدس من رصاصات باقية.

تسلَّل بقية الأصدقاء من السيارة ونزلوا إلى الأرض ووقفوا جميعًا يرقبون قطيع الذئاب التي أخذت تُردِّد عواءها المخيف بين لحظة وأخرى.

وكانت «لوزة» تُمسك بيد «تختخ» وهي تُفكِّر في كل ما حدث … كيف بدأت هذه المغامرة في فندق «شيراتون» الأنيق على النيل … ثم وصلت إلى هذا المكان المخيف … أمام هذا القطيع الجائع من الذئاب الصحراء المتوحشة.

قالت «لوزة» ﻟ «تختخ» بصوت هامس وكأنها تخاف أن تسمعها الذئاب: ماذا سيحدث يا «تختخ» بعد ذلك؟

ردَّ «تختخ» في صوت حاول أن يجعله واثقًا: لا أدري بالضبط … ولكن مسدس المفتش فيه رصاصات باقية، فإذا هاجمتنا الذئاب مرةً أخرى نستطيع إبعادها.

أحسَّت «لوزة» ببعض الاطمئنان … وكان المفتش يقف أمامهم وقد شهر مسدسه … ثم قال: على كل حال حاولوا إشعال النار في الإطار مرةً أخرى.

قال «محب»: لو استطعنا أن نسكب بعض البنزين على الإطار فسيكون من الأسهل إشعاله.

عاطف: ولكن كيف نُخرج البنزين من خزان السيارة؟

فكَّر الجميع لحظات ثم قال المفتش: من الممكن هذا إذا استطعنا إدخال خرطوم إلى الخزان وشفطنا البنزين … ففي هذه الحالة — نتيجةً للضغط الجوي داخل الخزان — سينزل البنزين.

صعد «تختخ» و«محب» إلى السيارة، وأخذا يُفتشان على ضوء البطارية عن قطعة خرطوم … ولحسن الحظ عثرا عليها … وأسرعا ينزلان، ثم فتحا غطاء الخزان ومدَّا الخرطوم فيه.

قال «تختخ»: ابحث عن إناء نجمع فيه البنزين يا «محب» … ثم ناوله البطارية، فعاد «محب» مرةً أخرى إلى السيارة، وعثر على صفيحة فارغة فعاد مسرعًا بها … وأخذ «تختخ» يشفط طرف الخرطوم بقوة، حتى استطاع أن يجذب البنزين من الخزَّان.

وكانت الذئاب تقترب … وكل ثانية تمضي تُقرِّبهم من لحظة الهجوم … وبدت عيون الذئاب المشتعلة تلمع في الظلام المخيف …

استطاع الصديقان أن يجذبا كميةً من البنزين، وأسرعا إلى الإطار ثم سكبا البنزين عليه … وأصبحت هناك مشكلة إشعال الكبريت … ولكن «تختخ» تصرَّف بسرعة فأخرج منديله وغمسه في البنزين، ثم لفَّ خلف السيارة ليتجنَّب الريح، وأشعله وأسرع به إلى الإطار … واستطاع أن يشعل النار مرةً أخرى … ولم يكن بين الذئاب وبينهم إلا أمتار قليلة.

ساعد البنزين على إشعال النار في الإطار بشدة، وارتفعت ألسنة اللهب وساعدها الهواء — الذي أصبح خفيفًا — على الاشتعال … ولأول مرة منذ بدأت الأزمة الأخيرة … عادت الابتسامة إلى وجوه الأصدقاء … وبدءوا يحسون بدل الخوف بالإثارة والمتعة.

زاد اشتعال الإطار … وبدا واضحًا أن المغامرين قد كسبوا المعركة ضد الذئاب، فقال المفتش: نستطيع الآن أن نعود للنوم … وسأبقى أنا قرب الباب فقد تعود الذئاب مرةً أخرى.

عاد الأصدقاء جميعًا إلى السيارة، وتمدَّد المفتش بجانب الباب القماش … وظل ممسكًا بمسدسه في يده … ونام الجميع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤