الهجَّانة

قال البعض: إن السبب هو نصف فدان القطن الذي اقتُلعت شجيراته في الليل من أرض البرنس.

وقال آخرون: إنه النقب الذي حدث في اصطبل الإبعادية المجاورة.

ورد بعض ثالث، وكاد يقسم أن السبب هو الحريق الذي اجتاح الساقيتين القبليتين في وقتٍ واحد.

يختلف الناس دائمًا أبدًا على السبب، ولكنهم يذكرون تمامًا عصر الجمعة الذي جاءوا فيه، وتمشت مع مجيئهم الهمهمات تزحف في القرية، وتقول: الهجانة وصلوا.

كان الرجال يزومون بها، ثم تتشعب أصواتهم مملوءة بالخوف والتشاؤم تارة، وتارة تحفل بغبطة ساهمة، فإن جديدًا سيحدث في القرية، وما أقل ما يحدث في القرية من جديد.

وكان الصغار يتلقَّون الكلمة من أفواه آبائهم، وترتعش أجسادُهم بالخوف من الغرَباء الذين لم يسمعوا عنهم أو يروهم، ثم تنبسط وجوهُهم بالفرح؛ لأنهم سيرونهم.

وأصبح لا حديث للنساء إلا عن العبيد الطوال السمر ذوي الأرجل الرفيعة الجافة والكرابيج المسقية بالزيت.

ولم يرهم أحدٌ حين دخلوا القرية، ولا حين تسرَّبوا إلى دوار العمدة، وكأنهم وصلوه من جوف الأرض، ولكنهم ما إن استقروا في الدوار، حتى حفل الشارع الذي بجواره بأناسٍ يتبصصون على القادمين، ويتسمعون ما يجد من الأخبار، وحينئذٍ تميل الرءوس على الرءوس، وتجري الإشاعات رائحة غادية مخترقة البلدة من أقصاها إلى أقصاها.

ومن غير أن يلفَّ منادٍ أو يُنبِّهَ خفير، سرت الأوامر تحملها آذانٌ إلى أفواه، وأفواه إلى آذان.

وعرف الناس في غمضة عين أن الويل لمن يُخطي عتبة داره بعد المغرب، وعليهم إرجاع المواشي قبل حجة الشمس، وعليهم بعد هذا ألَّا يوقدوا نارًا، أو يُشعلوا مصابيح، ثم ليتعشوا ويصلوا ويناموا في الظلام، والويل لمن لا يعجبه الحال.

وكما يعمُّ الصمتُ ساعة الإفطار في رمضان، سكتت الألسن فجأةً في الحلوق على أثر هذه الأنباء، واهتزَّت الرءوس تجترُّ الأوامر السريعة المتلاحقة على مهلٍ وفي وجوم.

وشعر كلُّ واحد أن الأمر أكثر من أن يفكر فيه وحده، فتقارب الجيرانُ مذهولين في حلقات، وامتلأت القهوة الوحيدة بالناس، وقد أصبحت مصدرَ التخمينات.

وعلى قدر ما أذهلهم ما سمعوه، فقد استنكروه وأبوا تصديقَه.

•••

ولم يستطيع مخبولٌ أن يتصور أن القرية كلها قد نامت من المغرب، والليل انقضى دون أن يُسمع للعشاء أو للفجر آذان، لم يتصور مخبولٌ حدوث هذا.

ولم ينتظر واحد منهم أن يُنصتَ له آخر، فراحوا كلهم يتكلمون في انفعال واضح، وقد علت الأصوات، واهتزت الأيدي، وكلما ارتفع الجدال وازدحمت القهوة كثرت آذانُ النساء والبنات الملتصقة بالنوافذ، تلتقط ما استطاعت التقاطَه، ثم تطير به إلى المتحفظات القاعدات أمام الأبواب يتبادلْنَ الآهات والحسرات.

وكان من المستحيل أن تستمرَّ الحال على هذا المنوال، فشيئًا شيئًا كلَّت الأصوات، وهدأت المحاورات، ولفَّ الحاضرون أيديَهم حول كوبات الشاي والقرفة، فقد كان هذا آخرَ عهدهم بالقهوة التي ستُغلق أبوابها بعد اليوم، ويبحث محمد أبو حسين صاحبُها لنفسه عن عملٍ ثانٍ، هكذا قالت الأوامر.

وسرعان ما بدَّدت الجماعةُ الوجومَ الذي أدَّى إليه النقاش، واستطاع جمعة أن يرفع صوته الأخنف، حتى يُسمِع الموجودين ما كان يودُّ قولَه من زمن: والنبي لماشي في نص الليل، واللي يقابلني حتف في وشه.

وردَّ عليه حامد الصعيدي الذي يعمل الطعمية أيام السوق بصوته اللزج قائلًا: يا شيخ اتلهي، دانت لو دقت كرباج …

وضحك الجمع، واستمروا يضحكون، وشعبان مقاول الأنفار يدقُّ بيده على صدره ويقول: بذمة محمد أنا آكل عشرة من الكتربنت السود دول.

وساهاه عبد الفتاح الخفير، وهو في حموة كلامه، ودلق بعض الماء في قفاه، وانتفض شعبان ملسوعًا خائفًا، ولعلعت القهقهات.

وقال الخفير بعد أن شبع ضحكًا: إنتو عارفين إيه يا ولاد؟ دول بنادقهم هندي من أم حداشر طلقة، مش زي الممغوصة بنادقنا الأرمنتوه.

وأخذ بعد هذا يشرح، في لهجة العالم، الفرق بين الهندي والأرمنتوه، وعدد قليل يسمع، بينما الباقي قد تفرَّق يتهامس، ويتحدث في شئون العيش.

وساعتها كان نفرٌ من الأعيان جالسين يستنشقون الهواء في الخلاء على مقاعد محطة القطار ومعهم العمدة، وتلقَّفوا الأنباء باهتمامٍ قليل، وأنصتوا إلى العمدة وأشداقُه تُضخِّم الكلمات، ثم تفرطها على دفعات، وهو يقول إن البلد تلفت، والخلق باظت، والذمم خربت، والناس تخاف ولا تخجل، ولا يصلحها إلا الكرابيج الغريبة.

وكان الأعيان يموءون وهم يوافقونه على كل ما يقول، بل تمنَّى واحدٌ منهم لو كان الود وده ليبقى الهجانة تسوق الناس أمامهم كالنِّعاج أعوامًا وأعواما.

•••

وأصفر العصر.

وكانت البلد قد أَفرغت ما لديها من كلام، وعرفت كلَّ الأخبار والشائعات، ورويت من السخرية بنفسها ومن إخافة بعضها بعضًا.

وحين رأى الناس خيالاتِهم تطول وتمتدُّ، تذكَّروا المغرب وما ينتظرهم فيه.

وتحرَّك المصدقون والمكذبون والمتفكهون في كل اتجاه، حتى أصبحت القريةُ كعُشِّ النمل، وأسرعت النسوةُ إلى الغيطان يستعجلْنَ الأزواج، ويَروينَ ما حدث.

وازدحمت الأطباقُ والأذرع الملحَّة أمام الدكاكين، وتصاعدت أدخنةٌ كثيرة من المواقد والأفران، وقد تكهربت تنجز الطعام والخبز.

وفي النهاية قُطعت الأرجل من الشوارع، وتجمَّع الناس في استغرابٍ وسخريةٍ حول الطبالي يحاولون ابتلاع العَشاء، والشمس ما زالت طالعة.

وراح الآباء والأمهات يَعُدُّون الأولاد، ويَرون من الغائب، ويوصونهم ويخيفونهم من الشياطين السود، ومن مغادرة الدور.

واختفت الشمس وراء نخيل الحوشة وحدها، ودون أن يراها أحد، فقبل المغرب كانت الأبواب قد أُغلقت كلها، والناس رابضين في الدور وفوق السطوح.

ولم يَنمِ الناس. وكيف ينامون؟! وانطلقوا يتحدثون داخل المنادر والقاعات، غير مقتنعين بالذي حدَث ولا مقيمين له أيَّ اعتبار.

وجاء قطار الثامنة يتهادى، وسمع الناس صفيرَه، فانقطعت الأحاديث واستعدَّت الآذانُ كلها لسماع ما يجري للعائدين من البندر في القطار، الذين بلا شك لم يعلموا بما جدَّ، ولم يُهيئوا أنفسهم له.

وارتجَّت قلوبٌ كثيرة، وبكت نساء، ونهنهت عجائز، والآذان تشرخها الصرخاتُ التي عمَّت القرية، وتلسعها أصواتُ الاستجارة والهرولة والركض.

وأعقب الضجةَ سكونٌ أغرق الليل والظلمة والناس، ما كان يقطعه إلا دبيبُ الأحذية الميري الثقيلة، وهي تحفُّ بالأرض بين الحين والحين، والصوت الرفيع ذو اللكنة البربرية الغريبة يقول وكأنه مطواة تقطع: مللي هناك؟

ولا يرد عليه أحد، وقد ينبح كلبٌ بعيد، ثم يعود الصمت الغامق.

وبات الناس ليلةً طويلة أكثرها خوفٌ ويقظة، والقرية قد لفَّها جوٌّ خطير محيِّر.

وأدرك الناسُ في حسرةٍ حينئذٍ أن المسألة جدٌّ لا هزل فيها، وأن الذي يقع ستُزهَق روحُه، وتسلخ الكرابيجُ جتته.

•••

وطلع الصبح.

وتفتحت الأبواب، وانطلق الخلق كالدجاج الذي ضايقتْه زحمةُ القفص، وكانوا حين يتبادلون تحية الصباح يقولونها بقلوب متورمة، وأرواحٍ خجلة، كانوا كالذي فقد شيئًا، ولكنه لا يدري كُنهَ ما فقد.

وتناقل الناس وهم يتفرَّقون وراء رغيف الخبز ما حدث للعائدين من البندر، وكانوا يتناقلونه في فتور خافت، وحين علموا أنهم رُبطوا بحبل، وقضوا الليلة في الدوار بعد علقة نصفها الموت، كانوا يهزُّون رءوسهم ولا يقولون شيئًا، أو ينطق الواحد بكلمةٍ لا معنًى لها، ثم يسكت.

وبدأ يوم طويل كغيره من الأيام، ومضى النهار في تلكُّؤٍ يخنق الأنفاس، وحين عاد الرجال في الظهر وما بعد الظهر منهكين مشتَّتين التقت الجماعاتُ فوق المصاطب، وأمام الدور، وقد أُغلقت القهوة. وكان كلامُهم كثيرًا لا روحَ فيه ولا فائدة كثرثرة النساء، وكلٌّ منهم يغرق في رواية تفاصيل ما سمعه من دبيب أثناء الليل، ويقص نفس الحكاية عما حدث بعد قطار الثامنة.

وحين مجَّ الناس الكلام والعودة إليه، تحول الحديثُ الدائر على مصطبة المعلم عمر إلى ناحيةٍ أخرى؛ لما عنَّ لعبد الغني الجمل أن يُطيل لسانه. وعبد الغني هو المنقذ دائمًا من الحديث الممجوج؛ فهو لا يعدم نكتة يرنها على الحاضرين، فينسوا كلَّ شيء، وتستغرقهم فكاهاتُ عبد الغني، وكان هو نفسه فكاهة، بقامته القصيرة التي تطاولها قامات الصغار، ورأسه التي مثل حبة البطاطس، وطاقيته الصوف المنطبقة بحذافيرها على جبهته، والتي حولها المنديل المحلَّاوي القديم ملفوفًا ومربوطًا بعقدة خبير، حتى لا يبينَ شعره، وما كان له شعر. فتحتَ طاقيتِه كانت قرعته حمراء راشحة، وكان الناس إذا لم تسعف النكتة عبد الغني يجدون في رأسه المتنفَّس، ويجذب الجريءُ منهم طاقيته، فتفج الحُمرة من رأسه، وتنهال عليها البصقات.

غيرَ أن ما حدث وجد فيه عبد الغني ثروةً ما بعدها ثروة، فراح يُقلِّد الأوسطى عبد الخالق الحلَّاق السمين الطويل ذا الشوارب، وهو ممسك بحقيبته الخشبية التي فيها العدة في يده، ورافعًا باليد الأخرى ذيله، والكرابيج تنهال عليه، ولا يستطيع الجري، أو حتى التحرك، وإنما يقول في تهتهةٍ عاتبة مختنقة بالبكاء: ما يصحش يا افندي، يا افندي ما يصحش.

وينفلت عبد الغني في براعةٍ إلى عمك دعدور بائع السردين الذي نظره شيش بيش، والذي يصرُّ دائمًا على التحدث بالمنطق والحجج والقانون، وعلى فلسفة كل ما يدور في البلد من حادثات، وعبد الغني كان حين يغمز دعدور لا يخلو فؤاده من بعض الحقد، فقد كان الناس يضحكون لفلسفة دعدور الساذجة أكثر من ضحكهم لنكات عبد الغني المفتعلة، التي يدافع بها عن نور رأسه.

وعلى غِرَّة وَجَم الجالسون والواقفون وكفُّوا عما هم فيه حين همس الشحات في صوتٍ آمر: هس يا جدع، أهم جم.

وما انتهى حتى كان الثلاثة يمرون من أمامهم، وكانت هذه أول مرة تقع عليهم الأبصارُ في وضح النهار، وَسِن كلُّ واحد عينيه محاولًا أن يلتهمَهم بنظراته. كان فيهم واحدٌ طويل رفيع ملفوف كعامود التليفون يبدو أبو عوف الجمال طفلًا إذا وقف بجواره، وكان الثاني أقصر منه إنما له شلاضيم أعوذ بالله منها يبرز بينها ضبٌّ من الأسنان اللامعة البياض، وكأنها أصابع المذراة، وكان ثالثهم مبططًا مربعًا وعيناه يقدح منهما الشرر، وكانت وجوههم في سواد الهباب، وحلكة ليالي آخر الشهر، ويقطع سوادَها تشريطات، وعلى كتف كلٍّ منهم بندقية، وفي يده كرباج طويل تلتفُّ حوله أسلاك نحاسية صفراء تنتهي بعقدٍ غليظة، العقدة منها تطلع بقطعة لحم.

ومروا بلا سلام أو كلام، وكأنهم فائتون على جبَّانة، وما كاد دعدور يفتح فمَه يُعلِّق على الموقف بعدما ابتعدوا حتى أقفله ثانية، وأحكم الإقفال. فقد عاد الثلاثة وفي عيونهم شرٌّ مستطير، ودون سابق إنذار ارتفعت الكرابيج مرة واحدة، ثم دوَّت، بينما لكنتهم تقول في حقد: على بيتك، يا بنت الكلب.

وكان الشاطر هو الذي أخذ ثوبَه في أسنانه، وقال: أخلو لي الطريق. وفي غمضة عينٍ لم يكن في الشارع كلِّه إنسٌ واحد، وجرى الثلاثة وراء الناس كالنحل الفائع، وكانت وقعة الذي يقابلهم أسود من شعر رأسه.

ويومها نامت البلد من العصر.

•••

ومر يومان وثلاثة وخمسة، ولا حديث للناس خلال الساعات التي يستطيعون فيها الحديث إلا عن الهجانة وما فعلوه. فالليلة دخلوا على الحاج مصطفى وهو يتعشَّى، وقلبوا الطبلية وضربوه، ثم تسلقوا السطح وراء الحاجة فألهبوها وهي تجأر بالصراخ.

وفي الغد تتناقل الألسن ما حدث لعبد الحميد وامرأته حين أشرفت على الوضع، وخرج غصبًا عنه يُحضِر أم مخيمر الداية، وكيف ظلُّوا يضربونه حتى قال: أني مرَة.

وليلتها بات في الدوار ووضعت امرأتُه وحدها، واستمرت تنزف إلى أن جاءتها الإسعاف في الصباح.

والا يوم قابلوا شيخ البلد وجفَّ ريقُه، ووقف لسانه وهو يردد: أنا الشيخ، أنا الشيخ، أنا الشيخ.

يقولها ويرددها حتى والكرابيج تنهال عليه والهجانة تقول: شيكه إيه يا هراميه، خش بيتك.

وكلُّ حديث من الأحاديث كان يزيد انكماشَ الواحد في جِلده، فأصبح لا همَّ لكل إنسان إلا أن يُنهيَ ما في يده حتى يلزمَ دارَه، أما الذين كانوا يعملون في البندر ويجيئون في القطار، فقد استغنى أكثرُهم عن عمله، وداروا في القرية بلا عمل، والباقي فضَّل ألف مرة أن يبيت على أي وجه في البندر، ولو على الرصيف.

وفي يوم السوق كانت قصة تُحكَى، ويعقبها استنكارٌ كثير. فقد ضربوا ليلتها مرسي أبو إسماعين. وصحيح أن مرسي لم يكن يملك قيراطًا واحدًا، وليس في حوزته فدان إيجار، إنما كان ولدًا ولا كل الأولاد، كان ابنَ ليل قتل وسرق ونهب، وفي صدره العريض الراسخ ترقد قصصٌ تشيب لهولها الولدان، ومع هذا ففي البلد كان يعيش في حاله، وأدبه في معاملة الناس مضربُ الأمثال، كان يعود المريض ويعزي في الميت، ويساعد الضعيف، وينتقم للمظلوم، ويقف لكل صغيرٍ وكبير، وكانت البلد تفخر به إذا جاء مجالُ الفخر بين أبطال البلاد، ويروون عنه كيف لوى سيخ الحديد وكسر المسمار، ورفع كيس القطن وحده على الجمل. وعلى حسِّه كان الناس يتركون محاريثهم ومواشيهم في الحقول، وبعد هذا كله تضربه الهجانة! وتطلق عليه النار إرهابًا حين حاول المقاومة! ثم تدكُّ صدره بعد ذلك بدبشك البنادق وكعوب الأحذية!

واضطر الناس في النهاية أن يصدقوا حين كانوا يقاربون السوق، ويمرون بالمركز، ويشاهدون أبو إسماعين قابضًا على حديد النافذة كالأسد الجريح.

وعادوا يومها من السوق، وكلٌّ يقول لنفسه: ابعد عن الشر وغني له.

•••

وكما تتهادى مياه الترعة لا يقلقها إلا موجات خانعة لا تكاد تشب حتى تموت، عاش الناس وقد رضوا بما كان وسلَّموا بما حدث، وما قد بقي في قلوبهم من استنكاف زال وانمحى، ولم يعد بها إلا تسليم ذليل، حتى العمدة الذي كانت كل بادرة تصل إليه، فيسمعها، ويجعل أذنًا من طين، وأخرى من عجين، قابلوه ذات ليلة، فقال لهم إنه العمدة، فردوا عليه: ولو، خش بيتك.

ودخل بيته، وأغلق الباب بالضبة والمفتاح دون أن يقول ثلث الثلاثة كام.

وبلغت الحكاية الناس، وضحكوا في سرِّهم على العمدة، وتشفُّوا فيه، وعرفوا أنه غلبان مثلهم ولا حول له ولا قوة، وأنه لم يَعُد الحاكم الناهي في البلد.

وتطلع الناس إلى الحكَّام السود الجدد، وبدءوا يتعرفون أسماءهم، ويخلطون بين حسن الطويل وجاسر القصير، وسلطان الذي له عيون الذئب، ومضوا يتحسسون أخبارهم، ويَعدُّون عليهم كلَّ ساكنة وواردة، ويعرفون يومًا بيوم مِن عند مَن سيأكلون؟ ومن أي بيتٍ من بيوت الأعيان سيحمل لهم عبد الفتاح الخفير الصينية الحافلة فوق رأسه.

وكان الصغار سبَّاقين إلى تتبع ما يدور في غرفة الهجانة، فكانوا يدسون أنظارهم خلال نوافذها، ثم يزهقون من التطلع، فيجرون وراء بعضهم وهم يقلدون أصوات العساكر ومشيتهم، ويستعيضون عن الاستغماية أثناء الليل بالجري بالأطواق أثناء النهار، ويُلحفون على آبائهم حتى يشتروا لهم كرابيج مثل التي مع الهجانة، وحين لا يجدون في إلحاحهم أملًا يصنعونها هم من ذيول البهائم التي يذبحها أبو أحمد الجزار، وكذلك من أجزاءٍ أخرى، وبدلًا من الزجر الذي كانوا يلقونه من الآباء في أول الأمر، تساهل الآباء، بل تعدَّى الأمرُ حدودَ التساهل، وتدخلت سيرة الكرابيج فيما كان يدور بين الرجال من أحاديث، وكانت المجادلات لا تنتهي حول صُنْعها وحول البلاد التي تصنعها، وهل هي مصر أم السودان؟

وكان الطلبة والتلامذة الذين يقضون إجازتهم بالبلدة يسمعون الأحاديث، ويسخرون من الجهل الذي يسودها، ويتفضل واحد منهم، ويصلح ما أفسده الجهل، ويتطرق الكلام إلى الهجانة أنفسهم، ويصغى الناس في شيءٍ من الإكبار إلى الأفندية، وهم يسخرون بالحكام السود، ويتفكهون عليهم، ثم ينقلبون بجرأتهم على البلدة الجبانة التي تتمسح في أحذية عساكر ثلاثة، لا يساوي الواحد منهم مليمًا أحمر.

وكان الناس يعرفون سرَّ سخط التلاميذ، فقد منعت الأوامرُ الجديدة طوابيرَهم التي كانت تجوب القرية رائحةً غادية، وكذلك سهراتهم إلى نصف الليل على الميزانية الحجر، وجريهم وراء بعضهم في دروب البلدة النائمة، وتربصهم بالبنات.

وكان الناس يسمعون الكلام ويسكتون، فالمتاعب لا تنقصهم، ولكن كان بعضهم لا يسكت، فالبدراوي محترف كتابة العرائض والبلاغات مضى عليه أسبوع، وله كل يوم عريضة، وكل صبح بلاغ، يفند فيها ما صنعه العساكر بالبلد، ولكنه حين عرف أن الهجانة قد علمت بأمره، نفض يده من الكتابة، واندفع يتقرب إليهم ويتلطف معهم، ويرجع بنسبه إلى دنقلة حيث جاءوا، ويتطوع بإبلاغهم سرًّا ما يحدث وراء ظهورهم، ولم ينفعه كلُّ هذا حين قابلته الهجانة، التي لا تعرف عربي، ذات ليلة، وقد اطمأن إلى صداقتهم، فجعلوه يعضُّ الأرض وهو يستعرض تربة أجدادهم.

وكانت البلد حين يسلمها يومٌ كئيب إلى آخر أشد منه كآبة يزداد شعورها بأنها كانت في نعمة، وزالت، وأن الخراب قد حلَّ، ويكاد محمد أبو حسين صاحب القهوة يخبط رأسه في الحائط على رزقه المقطوع، وتجار الكيف معه ساخطون، والخفراء يصرون على أسنانهم، ويكتمون وهم في أعماقهم يتمنون مصيبة عاجلة تطيح بالهجانة، وقد أصبحوا هم وشيخهم وعمدتهم دلاديل، وصار لزامًا عليهم أن يقضوا الليل بطوله ساهرين، والدكاكين وقفت حالها، والعاملون بالبندر لا يجدون الخبز، ولا صلاة ولا عبادة أو سهر، وإنما ضرب وإهانة ومسخرة، وكأنما البلد بأناسها عزبة أبيهم، والحكايات تترى عن ركنتهم في زقاق مبروكة، ومبروكة تاجرة البيض العازبة كانت الركنةُ في زقاقها حدثًا تتلاعب له الحواجب، وتغمز العيون.

والناس في صبرهم كالجِمال، تشهد وتسمع وتقاسي حتى تحين اللحظة.

وقد حانت.

•••

كان مرسي أبو إسماعين قد مضت أيامٌ على خروجه من الحجز، ولكنه لم يمكث في البلد إلا يومًا واحدًا، ثم غادرها إلى حيث لا يعرف أحد. ويومها كان الناس يتدبرون في مللٍ ماذا يطبخون ليلة النصف من شعبان، وفوجئ الذين خلفهم النهار في البيوت بالهجانة، وهي تجري هنا وهناك هالعة. وما أثار جريانهم الخوف بقدر ما أثار الاستغراب، فما كانوا يرتدون بدلهم أو أحذيتهم الثقيلة، وليس في أيديهم كرابيج، وإنما حفاة عراة، وقد نكشت شعورهم السوداء الغامقة.

وحسب الناس أن شيئًا خطيرًا قد حدث، أو أن حريقًا شبَّ، فلم يتمالكوا أنفسهم، وجرى البعضُ وراءهم. غير أن الخبر عُرف في النهاية، واتضح أن عبد السلام النجار هو الذي وقف لهم على رأس الشارع، والورداني هو الذي أحضر السلمين وربطهما معًا، ثم صنع منهما قنطرة وصلت حائط الدوار بحائط بيت أبو حسين، وبقية الرجال كانوا على السطح، وكان مع عبد المجيد سكينة طويلة بحدين، ومع الورداني بلطة، ومع صالح بندقية ميزر، وكان مع أبو حمد شمروخة الذي ما رفعه مرة إلا وكُسر به رأس.

والمهم أن مرسي أبو إسماعين الشارب من لبن أمه هو الذي تسلَّل وحده إلى الغرفة التي ينام فيها الهجانة في النهار، وخرج حاملًا بنادقهم.

وقص الرواة وشهود العيان ما جرى بعد هذا، وكيف تذلَّل الطغاةُ إلى العمدة، وكادوا يُقبِّلون مداسه، وكيف بكى جاسر وهو يستعطف الرجل ويرجوه أن يعثر لهم على البنادق حتى لا يروحوا في ألف داهية. واختلفت الرواياتُ في رد العمدة، ولكنها اتفقت على أن الرجل استعبط عليهم وأفهمهم أن الأمر قد خرج من يده، مع أنه يعرف، وكل الناس يعرفون من هم أولاد الحلال الذين فعلوها.

ويسكت الرواة، فالبقية قد شاهدها كلُّ الناس، حين انقلب المركز والنيابة، وجاء ضباطٌ من المديرية، وارتبكت الدنيا، ولم يتوقف التليفون عن الرنين.

وانتهى اليوم وقد سيق الهجانة محروسين.

وحين أقبل الليل كان عشرة من أهل البلد قد غيَّبهم المركز، والمباحث تقصُّ الأثر وراء أبو إسماعين، والقهوة لا تزال مغلقة، والناس تتساءل في قلقٍ عما يحدث غدًا، وهل يجيء هجانة آخرون، أم يكتفي الحكام بالذي مضى؟

ورغم هذا فقد أوقد الناس المصابيح، ورأَوا النور في الليل وقد اشتاقوا إلى النور، وأذن المغرب والعشاء، وامتلأ الجامع بالمصلين، وانطلقت الضحكات لأتفه الأسباب، وبلا أسباب، ولعب الطلبة والتلامذة الكرة في ضوء القمر، وانتشرت مواكب الصغار تجوب القرية مهللة فرحانة، وأحدهم يهتف بأغنية خارجة عن الهجانة والباقون يردون، حتى الصبايا لم يخجلْن، فرُحْن يُرددْنها هن الأخريات، وتتوقف المواكب عند السامر الذي أحياه عبد الغني، وقد تحزم بمنديله، وكشف رأسه عن عمد فبانت حمرتها، وهو يرقص، وعمك دعدور يطبل له على طشت النحاس، والشارع قد ازدحم بالضاحكين المصفقين وهم يردون على عبد الغني ويقولون:

أهي ليلة يا جميل.

أهي ليلة والسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤