رهان

كان يومها من أيام الصيف الحلال، والطريق الزراعي الطويل ليس فيه ذبابة ولا غراب، والدنيا ظهر، والحر يكتم أنفاس السكون، ويكفن صغار النسمات، ويجعل من «غرزة» الشرقاوي جنة وحيدة على جانب الطريق الذي يتلوَّى بالقيظ والنار.

وكان في «الغرزة» ساعتها أربعةٌ من زبائنها الدائمين، الذين تسرَّب موسمُ القطن إلى محافظهم، فجعلها تمتلئ بالبرايز والقروش والخمسات. وكانوا يتحدثون بكلامٍ فاترٍ ممدود، وفيما عدا هذا كان صالح بائع التين الشوكي يتربَّع بجانب قفصه، وقد مال فوقه، وغرق في صمتٍ حزين وهو ينش الذباب عن تينه، وأحيانًا عن وجهه. والشرقاوي صاحب المكان استغرقه الصراع مع النوم وأمامه «وابور» الجاز مطفيًّا، ولا يُصغي إلى فرج، عامل رش الطريق، المتربع بجوار عامود من الأعمدة التي تحمل سقف الغرزة، والذي كان يطلب في إلحاحٍ تتخلَّله فتراتُ صبرٍ طويلة أن يأذن له الشرقاوي فيشرب على «الجوزة» كرسيًّا من الدخان.

ودخل القادم الغريب.

كان أعرابيًّا طويلًا ناشف العود، يرتدي قميصًا من البفتة القديمة يكشف عن ساقَيه اللتين التصق جلدُهما بالعظام، وحول وسطه حزامٌ عريض من الصوف يشدُّ ظهرَه، وفوق رأسه شالٌ في لون التراب، وعقال باهت تقطَّعت خيوطُه، والعَرَق قد صنع فوق وجهه المدبَّب بحورًا وأنهارًا، وعيناه يكاد الدمُ يسيل منهما.

ورد الجالسون سلامَه، ووضع من فوق كتفه خروفًا صغيرًا كان يلهث، وحين سأل عن الماء أشار الشرقاوي إلى الزير المدفون في الأرض، وشرب الرجل كل ما كان في قاع الزير، ثم أخذ مكانه فوق المصطبة، وقد انتقل الماءُ في سرعةٍ من بطنه إلى وجهه.

ولم تكن الألسنةُ تستطيع احتمال الغفوة وفي حضرتها غريبٌ، وسرعان ما دار الحديث، وعرف الجالسون من أين هو قادم وإلى أين هو ذاهب، وما لبث الاستخفاف أن انزلق إلى الألسنة حين أدركوا أن الرجل لا ناقة له ولا جمال، ولا نقود معه ولا حشيش.

وفي الوقت الذي كان الملل قد بدأ يتسرَّب إليهم، كان صالح قد بدأ ينشط، ويكفُّ عن نش الذباب، ويساهم في الحديث بنصيرٍ وافر، ويتغزَّل في التين وطراوته التي تنزل على القلب فتُحييه.

وأصبح صالح وحده هو الذي يتكلم، ولُعاب الباقين يتحرك لكلامه.

واستفتح واحد منه بخمسة «كيزان» واستكثر الباقون الخمسة عليه، وأهمل هو استكثارَهم، وأعلن أنه يستطيع التهامَ القفص كله.

وضحك الموجودون، وسألوا «شيخ العرب» عن رأيه وهم يضحكون، وتوقَّفوا حين قال العربي في صوته المؤدب الخافت: أنا آكل ميه.

واستكثروا الرقم، بل لم يتصورا أبدًا أن الثور نفسه يستطيع أن يأكل مثل هذا العدد.

وحاوروه وداوروه وهم يسخرون، ولكنه أصر على الرقم، وقدَّم الخروف الصغير ضمانًا لكلمته.

وأخرج واحدٌ محفظتَه وقد قَبِل الرهان، واستعدَّ لدفع ثمن المائة إذا أكلها الرجل.

وكاد صالح يطير من الفرح وهو يُقشِّر، والعربي يأكل، والباقون في نفَس واحد يَعدُّون.

وتحرك فرج من جلسته، ونسي كرسي الدخان، وانضمَّ إلى صالح يُقشِّر معه.

وكان الاثنان لا يلاحقان فمَ الرجل، وهو يتاوي «الكيزان» واحدًا وراء الآخر في سهولة وسرعة، وكأنه يقذفها في بئر لا قرارَ لها.

وحملق الشرقاوي في الرجل وقد غادره النوم إلى غير رجعة، وراح يهمس وهو يَعُدُّ مع زبائنه ومع صالح وفرج.

وعند الأربعين فكَّ الرجل حزامه.

وحوالي الستين طلب الرجل ماء، فأسرع الشرقاوي يجري ويملأ الكوب من الترعة.

وفي التسعين طلب الرجل ماء للمرة الثانية، دفعه في جوفه، ثم تكرَّع طويلًا، وفي بطءٍ وثقةٍ أتى على المائة، وأكل بعدها كوزًا آخر من أجل الحاضرين.

وما إن انتهى حتى ألقى نظرةً على وجوه الموجودين التي كلها صمتٌ ودهشة، وانتظر برهة يلتقط أنفاسه، ثم حمل الخروف، وفي هدوءٍ ألقى عليهم السلام ومضى.

وقبل أن يختفيَ عن الأنظار أسرعت العيونُ كلُّها تُحدِّق في بطنه، ثم بدأت الجماعة تستعيد ألسنتَها.

وقال الشرقاوي وهو يهزُّ رأسه: إن الرجل من عرب الغرب، ولا بد أنه عزم على التين، وحضر الجن قبل أن يأكلَه. قال ذلك وتلفَّتَ يمنةً ويسرة، ثم سمَّى وهو يبصق في عِبه.

وقال صالح: إن في بطنه دودًا كان يبتلع التين أولًا بأول.

وتنحنح فرج وقال: إن العرب كالجمال لهم معدتان.

وأكَّد رجل من الذين انتفخت محافظُهم إن العربي سينفجر بعد قليلٍ ويموت، وأنهم لا ريب سيعثرون عليه بعد يوم أو يومين طافيًا فوق ماء الترعة، أو مكوَّمًا تحت الكوبري.

وكثرت الأقاويل، وبعدت التخمينات والتفسيرات، وكادت تنشب معركة.

أما الرجل فقد مشى في الطريق، وبداياتُ المغص تلوي أحشاءه وكلُّ ما يهمُّه أنه تغذَّى، وسكتتْ عنه ولو هنيهة مساميرُ الجوع، وليكن بعد ذلك ما يكون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤