تصدير

هذه مسرحيات من المسرح الإنجليزي المعاصر، نُشِرت من قبل في دوريات متخصصة١ ويجمع بينها تيار المسرح النفسي الذي وُلد على أيدي هارولد بنتر، وازدهر على أيدي توم ستوبارد ودافيد ستورى وغيرهما ممن يمثلون «موجة جديدة» (كما يقول جون راسل تايلور في كتابه الذي يحمل هذا العنوان ونُشر عام ١٩٧٩م)، موجة تختلف عن موجة الستينيات التي بدأت مع جوز أوزبورن وازدهرت على أيدي بيتر شافر، وجون آردن، وإدوارد بوند وغيرهم.

وربما كانت تسمية المسرح النفسي (أو الدراما السيكلوجية) تسمية غير دقيقة؛ لأن كل عمل مسرحي، بل كل عمل أدبي، إنما هو عمل نفسي في المقام الأول. ولكن السمة التي تميز هذا المسرح وتهبه مذاقه الخاص هي أنه ينقل الحدث إلى باطن الشخصيات، ويستخدم الرموز التي أشاعها علم النفس الحديث في الإيحاء بعوالم خبيئة في باطن كل إنسان لا تتكشف إلا في الأحلام، أو في حالات الأمراض النفسية التي شاعت في هذا العصر، وأهمها: الاكتئاب، والعصاب، والانهيار النفسي الناجم عن عجز الفرد عن مسايرة الحياة من حوله، ربما نتيجةً لاضطرابات عاطفية وليدة صدامِه مع المجتمع وفشله في التكيف، وربما لأسباب أخرى. ولذلك فإن العزلة التي يقع فيها أبطال المسرحية الأولى في هذا الكتاب يمكن تفسيرها على ضوء هذه العلل. وبينما يستخدم بنتر رموز الأحلام ليوحي بطبيعة هذه العلل ويرصد جذورها، يختار دافيد ستوري مصحة نفسية لمسرحية البيت، بحيث يجمع فيها شخصيات مريضة يصعب وصفها بالجنون بصورته الشائعة لدينا، رغم أنها قد تخطت بالقطع عالم التعقل «فسقطت في الهوة» كما يقولون. وهذه هوة غريبة؛ لأنها ليست هوة البلاهة أو الضعف العقلي بالمفهوم الذي أشاعه الكُتاب في بلادنا، ولكنها هوة التخبط النفسي نتيجة انهيار مقاومة الشخصيات لضغوط الحياة من حولها.

أما الجديد حقًّا في هذه النصوص فهو براعة استخدام هذه المادة النفسية المعقدة في إخراج مسرح ناجح من الناحية الدرامية. إذ يلجأ الكاتب هنا إلى تحويل النفس الإنسانية إلى مسرح تدور عليه أحداث مختلطة مستقاة من الماضي ومن العلاقات المجهضة بين الشخصيات وغيرها ومن المحاولات المحبطة للتواصل أو لتحقيق الذات، بحيث لا نشهد على المسرح حدثًا بالمعنى المفهوم؛ بل مجرد تقابل بين اللحظات الحرجة في حياة كلٍّ منها، وتكشفًا تدريجيًّا لعوامل السقوط في الهوة. وهكذا فنحن ندرك بالتدريج ما حدث وما يحدث وما يمكن أن يحدث، ونتبين أن لحظة تأزم الصراع لحظة متنقلة لا يمكن تحديد مكانها في الوسط أو النهاية؛ لأنها تصبح عددًا من اللحظات التي تتفاوت عددًا ووحدة بتفاوت لحظات التأزم.

المأساة الجديدة

وبطبيعة الحال فإن من شأن هذا التكنيك المسرحي أن يقدم لنا مأساة من نوع جديد؛ مأساة لا تنتهي بالموت أو بفراق موجع أو بفجيعة نفسية أو فكرية (مما شهده المسرح المعاصر)؛ بل مأساة نشهدها منذ البداية ونعيشها طول الوقت. وهي أيضًا مأساة تسلك في سيرها خيطًا دائريًّا إذ تنتهي حيث تبدأ، أي أن نقطة البداية التي ينطلق منها الحدث تسير سيرًا حثيثًا إما في دوائر أو في أنصاف دوائر حتى تصل إلى نهايةٍ يمكن تحديدها بأنها اللحظة التي نكتشف فيها نحن أن لا أمل في النجاة لهؤلاء الأشخاص ولا أمل في شفائهم. وهي أيضًا اللحظة التي ندرك فيها تعاطفنا الكامل معهم بحيث نتبين أن في داخل كلٍّ منا نحن اضطرابًا محتملًا أو حقيقيًّا يمكن أن يؤدي بنا إلى الوقوع من شفا الحفرة أي إلى الانضمام إلى عالم التهرؤ النفسي الذي يعيش فيه قسم كبير من سكان عالمنا الحالي مهما كانت مظاهر الأسوياء بادية علينا — كما يقول البروفسور دافيد ستافورد كلارك — في كتابه الطب النفسي اليوم.

وقد تبيَّنت المجتمعات المتحضرة أهمية هذا المجال من مجالات العلم الحديث. ويكفي أن نذكر أن عدد الأسِرَّة التي يشغلها المرضى النفسيون في جميع المستشفيات في بريطانيا قد بلغ ٤٦,٦٪ من العدد الكلي لعام ١٩٦٨م (صحيفة التايمز، ١٤ أغسطس ١٩٦٨م) وربما كان من نتيجة هذا الإلحاح على توعية الجمهور أن شاعت أفكار كثيرة عن علم النفس (بعضها صواب ومعظمها خطأ، كما بيَّن ذلك البروفسور أيزنك مرارًا وتكرارًا)؛ ولكنها مع ذلك تشكل في مجموعها تيارًا لا يمكن تجاهله؛ بل إن الدور الذي يلعبه هذا التيار لَيماثلُ الدور الذي تلعبه المعلومات الأساسية التي يتلقاها الطالب في شتى المواد في المدرسة والجامعة. ولذلك فإن هذه الأفكار قد بدأت تُشَكِّل خلفية حضارية من سمات عصرنا الحالي.

المسرح النفسي

وإذا كان المدخل الرئيسي إلى المسرح النفسي هو تلك الأفكار الشائعة عن علم النفس (الذي يختلط أحيانًا بالتحليل النفسي، وبما قاله فرويد عن الأحلام والرموز الجنسية والكبت والعقد … إلخ) فإن المسرحيات المقدمة في هذا الكتاب تلتمس بابًا آخر وهو باب تكامل الشخصية وتفردها عند بعض العلماء الذين اتبعوا فرويد أو اختلفوا معه، وتستقي كثيرًا من أفكارها الأساسية من الفلسفات الحديثة وأهمها الفلسفة اللغوية. ولذلك فالكاتب المسرحي هنا يستخدم اللغة على عدة مستويات؛ أولها: مستوى الحوار الذي يشبه عملية التداعي النفسي بكلماته الموحية ولحظات صمته المتكررة، وثانيها: هو مستوى الإسقاط الذي يتخذ صورة المونولوجات الطويلة، وثالثها: هو مستوى الحدث الذي يقع في لحظات قصيرة من لحظات الوعي.

وقد التزمت في ترجمة هذه النصوص الثلاثة التزامًا حرفيًّا بالأصل الإنجليزي، حتى ولو كان ذلك على حساب السلاسة في الصياغة العربية (وقطعًا على حساب الجزالة) بُغية الحفاظ على كل مستوى من هذه المستويات، وإيمانًا مني بضرورة محاكاة الأسلوب الأصلي؛ حتى يستطيع القارئ العربي متابعة هذه المستويات وهو ينتقل من منطقة شعورية إلى سواها.

وربما كان مصدر الجدة في هذه التجربة هو ترجمة نص البيت إلى اللغة العامية الدارجة إذ وجدتها أقدر من الفصحى على نقل لغة الحديث اليومية التي تكشف عن مواطن في التجربة الإنسانية لا يمكن للفصحى أن تفصح عنها؛ خاصة مظاهر التنغيم والنبر التي تختفي أو تكاد في العربية المكتوبة البعيدة عن لغة الأفكار المباشرة والأحاسيس التلقائية للشخصيات التي يصورها المؤلف. كما أنني التزمت بنوع ما من موسيقى الشعر في الأجزاء المنظومة من مسرحية الساعة الناطقة حتى أحافظ على ما يريد توم ستوبارد أن يقدمه من رؤى استعارية للزمن وإحساسنا بالزمن في هذا العصر.

إن هذه تجربة جديدة في ترجمة المسرح، أتمنى أن تكون موفقة. وأيًّا كان حظها من التوفيق فهي لا بد منها. وربما اتسع المجال في محاولات لاحقة للحديث التفصيلي عن مدى جدواها.

١  هي «المسرح والسينما»، و«نادي المسرح»، و«الفنون» ما بين عامي ١٩٧٨ و١٩٨٠م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤