الفصل الثاني

ساكِن الصَّخْرَة

(١) التِّمْثالُ الصَّخْرِيُّ

فَقالَ وزِيرُهُ الْحَكِيمُ «نارادا»: «لَقَدْ ذَكَّرَتْنِي هذِهِ الْقِصَّةُ الْعَجِيبَةُ، بِقِصَّةِ التِّمْثالِ الصَّخْرِيِّ الَّذِي تَرَوْنَهُ فِي الْمَعْبَدِ الكَبِيرِ. فَهِيَ — فِيما أَرَى — جَدِيرَةٌ بِأَنْ تُخَلَّدَ فِي بُطُونِ الْأَسْفارِ (الْكُتُبِ)، لِما فيها مِنَ الْعِظَةِ وَالاعْتِبَارِ.»

فقالَ لَهُ الْمَلِكُ: «أَتَعْنِي تِمْثالَ الرَّاجا (الْأَمِيرِ الْهِنْدِيِّ)، وَالتَّماثِيلَ الَّتِي تُحِيطُ بِهِ مِنْ أَفْرَادِ أُسْرَتِهِ وَعَشِيرَتِهِ؟»

(٢) الصُّخُورُ الْآدَمِيّة

فَقالَ الْوَزِيرُ: «نَعَمْ. وَما هِيَ بِتَماثِيلَ مَنْحُوتَةٍ — كما يَظُنُّ الْكَثِيرُونَ — بَلْ هِيَ أَنَاسِيُّ (ناسٌ) عاشُوا فِي مَدِينَتِنَا «بَنارِسَ» رَدحًا مِنَ الدَّهْرِ (أَقَامُوا فِيها زَمَنًا طَوِيلًا)، ثُمَّ مُسِخُوا — بَعْدَ حَياتِهِمْ — صُخُورًا.»

فَقالَ المَلِكُ مَدْهُوشًا: «لَقَدْ طالَما وَقَفْتُ أَمامَ تِلْكَ التَّماثِيلِ الصَّخْرِيَّةِ الْبارِعَةِ، وَعَجِبْتُ مِنْ إِبْداعِها، وَتَأَنُّقِ صانِعِيها فِي تَصْوِيرِها وَنَحْتِها، وَكَيْفَ سَمَا بِهِمُ الْفَنُّ الْأَصِيلُ حَتَّى كادَ يُنْطِقُهُمْ، وَيُشْعِرُ النَّاظِرَ إِلَيهِمْ أَنَّ الْحَياةَ سَارِيَةٌ فِيهمْ، لا سِيَّما تِمْثالُ الرَّاجا؛ فما أَذْكُرُ أَنَّني وَقَفْتُ أَمامَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً حَتَّى خُيِّلَ إِلَيَّ أَنَّهُ لَا يَزالُ يُفَكِّرُ وَيَسْمَعُ ما أَقُولُ وَيَفْهَمُهُ، وَحَسِبْتُ أَنَّ فِي جَسَدِهِ الصَّخْريِّ نَفْسًا مُسْتَقِرَّةً فِي صَمِيمِهِ؛ فَما اسْمُ ذلِكَ الرَّاجا؟ وَما قِصَّتُهُ؟ وَكَيْفَ عَاشَ؟ وَكَيْفَ مُسِخَ — بَعْدَ حَيَاتِهِ — صَخْرًا؟»

(٣) «سامِيتي»

فَقالَ «نارادا»: «كانَ هذا الرَّاجا — أَوَّلَ أَمْرِهِ — نَاسِكًا مَعْرُوفًا بِالزُّهْدِ وَالْوَرَعِ، وكانَ يُدْعَى «سامِيتي»، وَقَدْ عاشَ في إِحْدَى القُرَى الصَّغِيرَةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى نَهْرِ «الكَنْجِ». وَقَدْ رَفَعَتْهُ فَضائِلُهُ وَزُهْدُهُ إلى مَرْتَبَةِ الْأَطْهارِ الْأَخْيارِ؛ فَكانَ مَثَلًا مِنْ أَعْلَى أَمْثِلَةِ التَّقْوَى: لا هَمَّ لَهُ إِلَّا الصَّلاةَ وَالنُّسُكَ وَعِبَادَةَ الْخالِقِ، لا يَشْغَلُهُ عَنْ ذلِكَ شَاغِلٌ مِنْ طَيِّباتِ الدُّنْيا وَلَذائِذِ الْحَياةِ وَمُتَعِ الْغُرورِ.

وَقَدْ ذاعَتْ فَضائِلُهُ وَمَزَاياهُ في بِلادِ الْهِندِ — قَاصِيَةً وَدَانِيَةً — فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِ الْوُفُودُ مِنْ كُلٍّ صَوْبٍ وَحَدَبٍ (مِنْ كُلِّ جِهَةٍ)، تَمْلَأُ أَبْصارَها مِنْهُ، وَتَلْتَمِسُ دَعَوَاتِهِ وَبَرَكاتِه، وَتَرْجُو الشِّفاءَ وَالْبُرءَ عَلَى يَدَيهِ، بَعدَ أَنْ عَرَفُوا أَنَّهُ مُجابُ الدَّعْوَةِ، وَرَأَوا «برَهْما» لا يَرُدُّ لَهُ رَجاءً، وَلا يَرْفُضُ لَهُ شَفَاعَةً.»

(٤) خَطَراتُ نَفْسٍ

وَذا صَباحٍ فَكَّرَ النَّاسِكُ مَلِيًّا (طَويلًا) فِيما يَسمَعُهُ مَن ثَناء النَّاسِ عَلَيْهِ، وَتَمْجِيدِهِم فَضَائِلَهُ وَمَزَايَاهُ، فَسَاوَرَهُ الرَّيْبُ، وَمَلَأَ نَفْسَهُ الشَّكُّ فِي أَمرِهِ، وَقالَ فِي نَفْسِهِ مُتَعَجِّبًا: «تُرَى: أَيُّ فَضْلٍ اسْتَحْقَقْتُهُ فَأَظْفَرَنِي بِهذِهِ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي رفَعُونِي إِلَيها؟

أَتُرَانِي جَدِيرًا بِهذِهِ الْمَدائِحِ الَّتِي يُثْنُونَ بِها عَلَيَّ؟ وَكَيفَ أَسْتَحِقُّها وَأَنا لَم أَبْلُ نَفْسِي (لَم أَخْتَبِرْها) مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَم أُعَرِّضْها لِامْتِحانِ إِرادتِها يَومًا مِنَ الْأَيَّامِ أَمامَ بَعضِ الْمُغْرِيَاتِ الَّتِي تَفْتِنُ الْعَالَمَ؟ فَكَيفَ أحكمُ عَلَى قُوَّةِ عَزِيمَتِها؟ وَأَنَّى لِي أَنْ أَتَعَرَّفَ صِدْقَ مَعْدِنِها وَأَصَالَةَ عُنْصُرِها، قَبْلَ أَنْ أُلْقِيَ بِها في بَوْتَقَةِ الاختِبَارِ؛ حَيْثُ تَصهرُها نارُ التَّجرِبَةِ؟ وَأَيُّ فَضْلٍ لِي فِي هذا الصَّلاحِ ما دُمْتُ لا أَرَى حَوْلِي إِلَّا طَائِفَةً مِنْ خِيارِ النَّاسِكِينَ الصَّالِحِينَ؟ لا مَعدَى لي — إِذَن — عَنِ اختِبارِ نَفْسِي وَامتِحَانِها، وَتَعرِيضِها لِمَفَاتِنِ الْحَياةِ وَمَبَاهِجِها. وَلا بُدَّ منَ الرِّحلَةِ إِلَى بَعضِ حَوَاضِرِ «الْهِنْدِ» الْكَبِيرَةِ، حَيْثُ أَقْضِي زَمَنَ التَّجْرِبَةِ، وَأَختَلِطُ بِالْبِيئاتِ الْمُخْتَلفَةِ الْأُخرَى، وَأَرَى الْحَياةَ الْمَرِحَةَ الْفَاتِنَةَ مِن قَرِيبٍ، وَأَندَمِجُ في بَعْضِ مَا تَحوِيهِ مِنْ أَسْبابِ التَّرَفِ وَأَفَانِينِ النَّعِيمِ.

أُرِيدُ أَن أَلْتَقِيَ الشَّرَّ وَجْهًا لِوَجهٍ، وَأُحارِبَهُ غَيْرَ هَيَّابٍ! أُرِيدُ أَنْ أَقْهَرَهُ بِما أُوتِيتُهُ (مَلَكْتُهُ) مِنْ عَزِيمَةٍ صَادِقَةٍ، وَصَوْمٍ دَائِمٍ، وَحِرْمَانٍ قَاطِعٍ لِجَمِيعِ الطَّيِّباتِ. وَلَنْ يَتَسَنَّى (لَنْ يَتَيَسَّرَ) لِي ذلِكَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَتَذَوَّقَها، وَتَشْتَهِيهَا نَفْسِي، ثمَّ أَكُفَّ عَنْها، وَيَعْصِمَنِي مِنْ غِشْيَانِها زُهْدِي وَنُسُكِي وَتَقْوَايَ، فَتُجَنِّبَنِي إِرَادَتِي الغَلَّابَةُ الْحازِمَةُ اقْتِرَافَ الْإِثْمِ، وَالانْغِمَاسَ فِي النَّعِيمِ وَالتَّرَفِ.

وَمَتَى نَجَحْتُ فِي هذا الامْتحانِ اسْتَحْقَقْتُ أَنْ أَظْفَرَ بِلَقَبِ: «صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ»، عَنْ جَدَارَةٍ وَصِدْقٍ.»

(٥) في مَدِينَةِ «بنارِسَ»

وما لاحَتْ تِلْكَ الرَّغْبَةُ الْعارِضَةُ لَهُ، حتَّى أَصْبَحَتْ عزِيمَةً ثَابِتَةً، لا يَتَطَرَّقُ إِلَيْها وهَنٌ، ولا يَلْحَقُ بِها ضَعْفٌ ولا تَرَدُّدٌ. وَما لَبِثَ أَنْ أَعَدَّ لها عُدَّتَهُ؛ فَوَدَّعَ أُسْرَتَهُ، وَأَهْلَهُ وَعَشِيرَتَهُ وسافَرَ — مِنْ فَوْرِهِ (للْحالِ) — إِلى مَدِينَةِ «بَنارِسَ»، وَقَدْ سَبَقَتْهُ شُهْرَتُهُ إِلَيْها قَبْلَ أَنْ يَحُلَّ بِها، وَذاعَ نَبَأُ مَقْدِمِهِ بَيْنَ أَهْلِهَا.

(٦) هَدَايَا الْأهْلِينَ

فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِ الْوُفُودُ — عَلَى أَثَرِ وُصُولِهِ — وَجَلَبُوا لَهُ الْكَثِيرَ مِنَ النَّفائِسِ وَالطُّرَفِ وَالْهَدايا عَلى اخْتِلافِها. وَعَرَضَ عَلَيْهِ الْأَهْلُونَ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِتَشرِيفِ دُورِهِمْ. وَحاوَل كُلُّ وَاحِدٍ مِنهمْ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِهِ وَيُسْكِنَهُ دارَهُ. وَأَحْضَرُوا لَه أَكْداسًا مِنْ طَيِّباتِ الْفَاكِهَةِ، وَلذائِذِ الْأَطْعِمَةِ الشَّهِيَّةِ. فَرَفَضَ كلَّ ما عَرَضُوهُ عَلَيْهِ قَائِلًا: «لا حاجَةَ لِي بِشَيْءٍ مِنْ هذا كُلِّهِ. حَسْبي — مِنَ الْمَسْكَنِ — رُكْنٌ صَغِيرٌ قَرِيبٌ مِنْ مَعْبَدٍ أَنْزَوِي فِيهِ، وَحَسْبي — مِنَ الطَّعامِ — بَلِيلَةٌ منَ الذُّرَةِ.»

وَلكِنَّ الْهَدَايَا لَمْ تَنْقَطِعْ؛ فَلَمْ تَلْبَثْ دَارُهُ أنِ ازْدَحَمَتْ بِلَذائِذِ الْفاكِهةِ وَالْأَطْعِمةِ الشَّهِيَّةِ.

(٧) الثَّمَرَةُ الْأُولَى

فَرَأَىَ أمامَهُ أكْداسًا مِنْ فاكِهةِ الْأَناناسِ، ذاتِ الرَّائِحَةِ الْحُلْوَةِ الطَّيِّبةِ، وَأكْوامًا كَثِيرَةً مِنْ فاكِهَةِ الْمَنْجُو ذاتِ الطَّعْمِ الْمَرِيء الْمُسَتساغِ، وَما إِلَى ذلِكَ مِنَ الْمَآكِلِ الْمُنْعِشَةِ، جَاثِمَةً أَمامَهُ. فَقالَ فِي نَفْسِهِ: «أَيُّ مَزِيَّةٍ أَسْتَحِقُّ بِها الْفَضْلَ وَالتَّكْرِيمَ حِينَ أَحْرِمُ نَفْسِي هذِهِ الْمُتَعَ، مَا دُمْتُ لَمْ أَذُقْ لها طَعْمًا؟ إِنَّ الْفَضِيلَةَ الْحَقَّ لا يَنالُها صاحِبُها إِلَّا إِذا حَرَمَ نَفْسَهُ مِنَ الطيِّباتِ الَّتي تَشْتَهِيها.

فلَا بُدَّ — إِذَنْ — مِنْ أَنْ أَتَذَوَّقَ أَوَّلًا واحِدَةً مِنْ هذِهِ الْفاكِهةِ، وَمَتَى اسْتَمْرَأْتُها، وَاسْتَحْسَنْتُ طَعْمَها، كَفَفْتُ نَفْسِي عنها عَلَى حُبِّها (تركْتُها بِرغْم مَحَبَّتِي إيَّاها)، وَتَفَتُّحِ نَفْسي لِمَرْآها. وَحِينَئِذٍ يُصْبِحُ زُهْدِي فيها، وحِرْمانُ نَفْسي تَذَوُّقَها، صَنِيعًا مَشْكُورًا، وجِهادًا عِنْدَ رَبِّي مَأْجُورًا (يُكَافِئُنِي عَلَيْهِ).»

وَثَمَّةَ (حينئِذٍ) أَمْسَكَ بِثَمَرَةٍ مِن طَيِّباتِ الْفاكهةِ، فَوَجَدَها سَائِغَةً شَهِيَّةً، فَأَكَلَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ، فَأُعْجِبَ بِلَذَائِذِ هذا الثَّمَرِ.

وما لَبِثَ أن نَزَلَ عَلَى حُكْمِ الشَّرَهِ، وَأَذْعَنَ للنَّهَمِ (خَضَعَ لِلْبِطْنَةِ وَالْحِرْصِ عَلَى الطَّعامِ)، فَلَمْ يُبْقِ مِنْ سِلالِ الْفاكِهةِ — عَلَى كثْرَتِها — شَيْئًا.

(٨) فِي طَرِيقِ الشَّرِّ

وَلَمْ يَكُنْ هذا الاخْتِبارُ الْأَوَّلُ آخِرَ امْتِحانٍ أَخْفَقَ فِيهِ.

وَلا غَرْوَ في ذلِكَ (لا عَجَبَ)؛ فَإِنَّ مَنْ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ طَائِعًا مُختارًا لِمَفاتِنِ الْحَياةِ وَمُغْرِياتِها، وَيَجْرُؤُ عَلَى أَنْ يَزُجَّ بِنَفْسِهِ فِي مُوَاجَهَةِ الشَّرِّ — بلا داعٍ — إِنَّما يُغَرِّرُ بِها أَشَدَّ تَغْرِيرٍ، وَيُعَرِّضُها لِلهَلاكِ الْمُحَقَّقِ.

وَهكَذا كانَ، وَابْتَدَأَ الطَّمَعُ يُغْرَسُ فِي قَلْبِ هذا النَّاسِكِ الْوَرِعِ التَّقِيِّ.

(٩) خاتَمُ الْمُلْكِ

ومَرَّتِ الْأَيَّامُ، وَزادَ طُمُوحُهُ، وَاشْتَدَّتْ رَغْبَتُهُ فِي لَذائِذِ الْحَياةِ، وَارْتَقَى مِنْ رَغْبَةٍ إِلَى رَغْبَةٍ، حَتى تَوَشَّجَ طَمَعُهُ، وَاشْتَبَكَتْ أُصُولُهُ فِي قَلْبِهِ؛ فَقالَ فِي نَفْسِهِ ذاتَ يَوْمٍ: «أُرِيدُ أَنْ أَكُونَ «راجا»؛ لِتَكُونَ لِي قُصُورٌ فَاخِرَةٌ، وَحَاشِيَةٌ وَخَدَمٌ، فَاسْتَجِبْ لِدُعَائِي — يا رَبِّ — جَزَاءَ ما عَبَدْتُكَ لَيْلَ نَهارَ، بِدُونِ انْقِطَاعٍ، فَلَقَدْ طالَما تَفَانَيْتُ فِي الْإِخْلاصِ وَالْخُضُوعِ لَكَ، فِي صَلَوَاتِي الَّتِي أَقَمْتُهَا آناءَ اللَّيْلِ وَأَطْرافَ النَّهارِ.

فَامْنَحْنِي خاتَمَ الْمُلْكِ الَّذِي يُظْفِرُ صاحِبَهُ بِكُلِّ مَا تَصْبُو إِلَيْهِ نَفْسُهُ، وَتَرْغَبُ فِيهِ مِنْ لَذائِذِ الْحَياةِ وَطَيِّباتِها.»

(١٠) حَدِيثُ «رَفانا»

فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ — حِينَئِذٍ — «برهْما:» رَسُولُ الْخَيْرِ، وَمَلَكُ الْرَّحْمَةِ؛ بَلْ ظَهَرَ لَهُ بَدَلًا مِنْهُ «رفَانا» رَسُولُ الشَّرِّ، وَشَيْطانُ الْأَذى، فَقالَ لَهُ: «أتُرِيدُ أَنْ تُصْبِحَ «راجا»؟ فَلْيَكُنْ لَكَ ما تُرِيِدُ، فَقَدْ أَجَبْتُ دُعاءَك، وَإِنِّي مُبَلِّغُكَ مُرَادَكَ، وَمُحَقِّقٌ لَكَ رَغْبَتَكَ، ولكِنْ عَلَى شَرِيطَةٍ وَاحِدَةٍ: فَلَنْ أَمْنَحَكَ مَا تَطْلُبُ مِنْ مُلْكٍ وَاسِعِ الْغِنَى، عَرِيضِ الْجاهِ، إِلَّا بَعْدَ أَنْ تُفَوِّضَ لِيَ الْأَمْرَ فيما تَمْلِكُ مِنْ حَيَوَانٍ لأُهْلِكَهُ وَأُزْهِقَ رُوحَهُ بِنَفْسِي؛ لأَنِّي أُحِبُّ الشَّرَّ وَالْأَذَى.»

(١١) ضَعْفُ النَّاسِكِ

فَتَرَدَّدَ النَّاسِكُ في قَبُولِ هذا الشَّرْطِ لَحْظَةً، وَلكِنَّ «رَفانا» لَوَّحَ لَهُ بِبَرِيقِ الذَّهَبِ الْخاطِفِ، وَقالَ لَهُ: «كُلُّ هذا مِلْكٌ لَكَ، مَتَى أَظْفَرْتَنِي بِما طَلَبْتُهُ.»

فَصاحَ «سامِيتِي» قائلًا، وَالْأَلَمُ يَحِزُّ فِي نَفْسِهِ: «لَكَ ما أَمْلِكُ مِنْ حَيَوَانٍ، فَاصْنَعْ بِهِ ما شِئْتَ.»

(١٢) مَلِكُ الْمُلُوكِ

وَمَرَّتِ الْأَيَّامُ، وَتَجَدَّدَتْ مَطامِعُهُ، وَزادَتْ رَغَبَاتُهُ؛ فَاتَّجَهَ لِرَسُولِ الشَّرِّ «رَفانا» قائلًا: «أُرِيدُ أَنْ أُصْبِحَ إِمْبِراطُورًا. أُرِيدُ أَنْ يَكُونَ لِي أَكبَرُ جَيْشٍ فِي الدُّنْيا. أُرِيدُ أَنْ يَكُونَ لِيَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ. أُرِيدُ أَنْ أُصْبِحَ مَلِكَ مُلُوكِ «الْهِنْدِ» جَمِيعًا، لا يُنَازِعُنِي فِي سُلْطَانِي كائِنٌ كانَ.»

فَأَجابَهُ «رَفانا»: «فِي قُدْرَتِي أَنْ أَمْنَحَكَ جَمِيعَ ما تَطْلُبُ، وَلكِنْ عَلَى أَنْ تُفَوِّضَ لِيَ الْأَمْرَ فِي رَعِيَّتِكَ، وَتَهَبَ لِيَ حَيَاةَ شَعْبِكَ وَخَدَمِكَ؛ لِأَعِيَثَ فِي الْبِلادِ فَسادًا، وَأُشِيعَ فِي جُمْهُورِهِمُ الطَّاعُونَ.»

فَقالَ «سامِيتي» مُتَنَهِّدًا مَحْزُونًا: «أَلَيْسَ لِي مَعْدى وَلَا مَفَرٌّ عَنْ بَذْلِ هذِهِ التَّضْحِياتِ، لِأَفُوزَ بِما أُرِيدُ؟»

فَأَجابَهُ «رَفانا»: «لا شَيْءَ يَضْطَرُّكَ إِلَى بَذْلِ الْفِداء؛ فَابْقَ — كما أَنْتَ — أَمِيرًا، وَانْظُرْ إِلَى الْإِمْبِراطُورِ (مَلِكِ الْمُلُوكِ) وَما يَكْتَنِفُهُ (ما يُحِيطُ بِهِ) مِنْ أُبَّهَةٍ وَعَظَمَةٍ وَبَهْجَةٍ، وَلْتَمْتَلِئْ نَفْسُكَ حَسْرَةً حِينَ تَرَى جِيَادَهُ الْمُسَوَّمَةَ (خَيْلَهُ الرَّشِيقَةَ الْفَاخِرَةَ)، وَتَشْهَدُ مَوْكِبَهُ الْحاشِدَ، وَأَفْيَالَهُ الضَّخْمَةَ، وَقَدْ وَطِئَتْكَ وَداسَتْكَ بِأَقْدامِها، أَوْ أثارَتْ فِي وَجْهِكَ ذَرَّاتٍ مِنَ الْغُبَارِ وَرَذاذًا مَنَ الطِّيْنِ.»

فَصاحَ «سامِيتِي»: «كَلَّا، كَلَّا، لَا أُرِيدُ أَنْ أُقْهَرَ، وَلا أُحِبُّ أن أُغْلَبَ أَبَدًا؛ بَلْ أُرِيدُ أَنْ أَكُونَ أَقْوَى إنْسانٍ فِي عَصْرِي أَنْ أُصْبِحَ إِمْبِرَاطُورَ «الْهِنْدِ» (مَلِكَ مُلُوكِها).

مَا دُمْتَ مُصِرًّا عَلَى رَأْيِكَ فَاصْنَعْ بِشَعْبِي مَا بَدا لَكَ.»

(١٣) مَصائِبُ الشَّعْبِ

فابْتَهَجَ «رَفانا»: رَسُولُ الشَّرِّ، وَشَيْطانُ الْأَذَى، وَقَهْقَهَ ضاحِكًا مَسْرُورًا بِما ظَفِرَ بِهِ مِنْ نجاحٍ وَتَوْفِيقٍ. وَما ارْتَقَى «سامِيتِي» عَرشَه الْإِمْبِراطُورِيَّ، حَتَّى أَشاعَ «رَفانا» فِي شَعْبِهِ الْوَبَأُ، وَنَشَرَ الطَّاعُونَ بَيْنَهُمْ؛ فَأَهْلَكَ النَّاسَ، وَحَصَدَهُمْ وُحْدانَا وَزَرافاتٍ (أَفْناهُمْ أَفْرادًا وَجَماعاتٍ)، دُونَ أَنْ يُبَالِيَ «سامِيتِي» آلامَهُم وَمَصارِعَهُمْ.

(١٤) مَتاعُ الْغُرُورِ

وَهكذا اعْتَصَمَ «سامِيتِي» (احْتَمَى) بِقَصْرِه الْإِمْبِراطُورِيِّ الْفَاخِرِ المَنيف (الْعالي)، الَّذِي يَتَلَأْلَأُ بِالذَّهَبِ الْخالِصِ وَالْأَحْجارِ الْكَرِيمَةِ، وَأَصْبَحَ إِمْبِراطورًا مُسَيْطِرًا عَلَى الْعِبادِ، يَهَابُهُ النَّاسُ، وَيُمَجِّدُ قُوَّتَهُ الْجُنُودُ، وَيَهْتِفُونَ لَهُ مِلْءَ حَناجِرِهِمْ. وَاشْتَدَّ عُجْبُهُ وَخُيلاؤُهُ، وَتَضاعَفَ زَهْوُهُ وَكِبْرِياؤُهُ، وَشَغَلَتْهُ لِذَائِذُ الدُّنْيا، وَأَنْساهُ مَتَاعُ الْغُرُورِ آلَامَ النَّاسِ وَمَصائِبَهُمْ، وَأَغْرَاهُ ضَعْفُهُمْ؛ فَطَغَى وَتَجَبَّرَ، وَتَمادَى فِي ظُلْمِهِ، بَعْدَ أَنْ خُيِّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ أَصْبَحَ إِلَهًا وَالنَّاسُ لَهُ عَبِيدٌ.

(١٥) حُبُّ الْبَقاءِ

وَذا صَباحٍ فَكَّرَ فِي نَفْسِهِ مَلِيًّا (تَأَمَّلَ طَوَيلًا)، وَقَدْ أَنْساهُ حُبُّ الْحَياةِ كُلَّ شَيْءٍ؛ فَقالَ مُتَحَسِّرًا: «وَا أَسَفا عَلَيْكَ يا «سامِيتِي»! إِنَّ الْمَوْتَ سَيَخْطَفُكَ كما خَطَفَ غَيْرَكَ مِنْ قَبْلُ، وَلَنْ يُنْقِذَكَ مِنْ غائِلَتِهِ شَيْءٌ، وَسَتَكُونُ نِهايتُكَ الْفَناء، وَتَرِدُ حَوْضَ الْمَنِيَّةِ (الْمَوْتِ)، الَّذِي وَرَدَهُ الْأَنَاسِيُّ فِي جَمِيعِ الْعُصُورِ.

فَكَيْفَ تُطِيقُ هذا الْمَصِيرَ؟ كَيْفَ تَرْضَى لنَفْسِكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْفَانِينَ الْهالِكِينَ؟ كَلَّا، لا يُطِيقُ هذِه الْخاتِمَةَ الْمُحْزِنَةَ الْفَاجِعَةَ عاقِلٌ، وَلا يَرْضاها لِنَفْسِهِ راشِدٌ.»

(١٦) ثَمَنُ الْخُلُودِ

ثُمَّ صَرَخَ «سامِيتِي» يَدْعُو «رَفانا» راجِيًا ضارِعًا أَنْ يَهَبَ لَهُ بَقَاءَ التَّأْبِيدِ (يَمْنَحَهُ عَيْشَ الْخُلُودِ). فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ «رَفانا»، وَقَالَ لَهُ وَهُوَ يُقَطِّبُ حَاجِبَهُ: «ماذا تُرِيدُ؟ أَلَمْ تَظْفَرْ مِنَ الْأَمَانِيِّ بِما لَمْ يَظْفَرْ بِهِ أَحَدٌ؟ هَلْ بَقِيَتْ لَكَ رَغْبَةٌ لَمْ تُقْضَ بَعْدُ؟»

فَقالَ «سامِيتِي»: «نَعمْ، أُرِيدُ أَنْ تَهَبَ لِيَ الْخُلُودَ!»

فَأَجابَهُ: «إِذَنْ تُرِيدُ أَنْ تَشْرَكَ إِلَهَكَ فِي صِفَةِ الْبَقاءِ الَّتِي تَفَرَّدَ بِها؟ هذا أَمْرٌ عَزِيزُ الْمَنَالِ، بَعِيدُ الْإِدْراك.

وَلكِنِّي أُحَقِّقُهُ لَكَ، إذا قَبِلْتَ شَيْئًا وَاحِدًا، وَهُوَ أَنْ تَرْضَى — فِي هذِهِ الْمَرَّةِ — بِهَلاكِ أَهْلِكَ وَعَشِيرَتِكَ، وَأَنْ تَكُونَ مَصَارِعُهُمْ علَى يَدَيْكَ.»

فَقالَ «سامِيتِي»: «أَمَّا هذا فَلا سَبِيِلَ إِلَيْهِ، وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنِّي أَبَدًا.»

فَأَجابَهُ «رَفانا» ساخِرًا: «دَعْنِي — إِذَنْ — هادِئًا، وَلا تُزْعِجْنِي بِنِدائِكَ إِيَّايَ مَرَّةً أُخْرَى.»

(١٧) ضَعْفُ الشَّيْخُوخَةِ

وَمَرّتِ السُّنُونَ، وَانْقَضَتِ الْأَعْوَامُ مُتَعَاقِبَةً، وَظَلَّ بَطَلُ قِصَّتِنا «سامِيتِي» يُقاوِمُ ذلِكَ الْإِغْرَاءَ؛ وَلكِنَّ الشَّيْخُوخَةَ لَمْ تَلْبَثْ أَنْ أَدْرَكَتْهُ، تَسْعَى إِلَيْهِ بِخُطُواتٍ مُسْرِعَةٍ حَثِيثَةٍ. فَلَمَّا شَعَرَ بِدُنُوِّ أَجَلِهِ (قُرْبِ مَوْتِهِ)، وَأَحَسَّ أَنَّ شَبَحَ الْمَوْتِ يَقْتَرِبُ منْهُ، وَيَجِدُّ فِي الْبَحْثِ عَنْهُ، أَنْسَتْهُ أَنَانِيَّتُهُ (حُبُّهُ ذاتَهُ) كُلَّ شَيْءٍ؛ فَصاحَ يَدْعُو «رَفانا»، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَمَّا يُرِيدُ.

فَقالَ لَهُ: «أَهْلِكْ مَنْ شِئْتَ منْ عَشِيرَتِي، وَهَيِّئْ لِيَ الْخُلُودَ بَعْدَ ذَلِكَ.»

(١٨) صَوْتُ الْهاتِفِ

وَهُنا سَمِعَ «سامِيتِي» هاتِفًا يَهْتِفُ بِهِ مِنَ السَّمَاءِ: «لَقَدْ كَثُرَتْ ذُنُوبُكَ وَآثَامُكَ، وَامْتَلَأَ الْكَيْلُ بِخَطاياكَ، وَاسْتَحْقَقْتَ اللَّعْنَةَ جَزَاءَ ما أَسْرَفْتَ فِي ضَلالِكَ وَبَغْيِك. لَقَدْ كانَ فِي قُدْرَتِكَ أَنْ تَعِيشَ أَسْعَدَ مَخْلُوقٍ: تَحُفُّكَ الْمَهابَةُ وَالْجَلالُ. وَلكِنَّكَ — وَقَدِ انْزَلَقْتَ مَرَّةً فِي طَرِيقِ الشَّرِّ — لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تُقَاوِمَ تَيَّارَهُ الْجَارِفَ؛ فَدَفَعَتْكَ الْخُطْوَةُ الْأُولَى إِلَى ما بَعْدَها مِنْ خُطُوَاتٍ، انْتَهَتْ بِكَ إِلَى هذِهِ الْخاتِمَةِ الْمُحْزِنَةِ، فَلَمْ تَسْتَطِعِ الْوُقُوفَ في ذلِكَ الْمُنْحَدَرِ الْهاوِي السَّحِيق. وَأَسْلَمَتْكَ غَيَّتُكَ وَضَلالُكَ إِلَى مَا تَرَاهُ، فَسَوَّلَتْ لَكَ أَنْ تَقْتَرِفَ إِثْمًا بَعْدَ إِثْمٍ؛ فَلَمْ تَتَوَرَّعْ عَنِ ارْتِكابِ كَبِيرَةٍ مَهْما عَظُمَتْ.

(١٩) سَاكِنُ الصَّخْرَةِ

أَتَصْبُو إِلى الْخُلُودِ نَفْسُكَ؟ حَسَنًا. سَتَظْفَرُ بِطِلْبَتِكَ هذِهِ، وَسَتَبْقَى لَكَ وَلِأُسُرَتِكَ الْحَياةُ أَبَدًا. ما دامَ قَلْبُكَ فِي مِثْلِ صَلابَةِ الصَّخْرَةِ، فَلْيَكُنْ جِسْمُكَ الْآدَمِيُّ صَخْرَةً أَيْضًا، مِثْلَ قَلْبِكَ. أَلَا وَلْتُمْسَخْ مَع جَمِيعِ مَنْ ضَحَّيْتَ بِهِمْ مِنْ أَهْلِكَ تَمَاثِيل مِنَ الْحِجارَةِ، وَلِيَنامُوا جَمِيعًا فِي سَلامٍ وَادِعِينَ، أَمَّا أَنْتَ فَلْتَبْقَ رُوحُكَ خَالِدَةً فِي تِمْثالِكَ الصَّخْرِيِّ؛ لِتكُونَ مَثَلًا نافِعًا، وَعِظَةً نَاطِقَةً لِمَنْ يَقْتَفِي آثارَكَ مِنَ الْباغينَ الظَّالِمِينَ، وَيَرتَضِي سُنَّتَكَ (يختارُ طَرِيقَتَكَ) مِنَ الْعادِينَ (الْمُعْتَدِين).»

خاتِمَةُ الْقِصَّةِ

فَقالَ مَلِكُ «بنارِسَ»: «ما أَعْجَبَ ما رَوَيْتَ — أَيُّها الْحَكِيمُ الْعَظِيمُ — فَإِنَّ ما قَصَصْتَهُ عَلَيْنا مِنْ شَرَهِ «سامِيتِي» وأَنَانِيَّتِهِ، وَتَفَانِيهِ في الْإِقْبالِ عَلَى لَذائِذِ الدُّنْيا الْخادِعَةِ، وَما إِلَى ذلِكَ مِنَ النَّقائِصِ الْمَرْذُولَةِ: لا يَقِلُّ غَرَابَةً عَمَّا حَدَّثْتُكُمْ بِهِ مِنْ وَفَاء «مَلَكِ الدَّوْحَةِ»، وَإِنْكَارِهِ ذَاتَه، وُجُودِهِ بِنَفْسِهِ، وَما إِلَى هذا منَ الْمَزَايا النَّبِيلَةِ.»

لَقَدْ رَأَيْنَا مِنْ شَنَاعَةِ «سَاكِنِ الصَّخْرَةِ» وَفَعَالِه الذَّميمِ، بِقَدْرِ ما عَرَفْنا مِنْ نَبالَةِ «ساكِنِ الدَّوْحَةِ» وَخُلُقِهِ الْكَرِيمِ.

وَإِنَّ فِي هاتَيْنِ الْقِصَّتَيْنِ — عَلَى وَجازَتِهِما (بِرَغْمِ اخْتِصارِهما)، وَاخْتِلَافِ قَصْدَيْهما، وَتَبَايُنِ غَايَتَيْهِما — لدَرْسًا بَلِيغًا نَافِعًا لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وَحِكمةً سَامِيَةً لِمَنْ وَعَى، وَآيَةً نَاطِقَةً لِمَنِ اعْتَبَرَ.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤