الفصل الأول

الحضارة

مفهومها وميدانها

(١) مشكلة تعريف اسم العلم

تدور حول اسم العلم الذي يدرس الحضارة كثيرٌ من المشكلات والمفارقات. وأساس هذه المشكلات يرجع إلى سببين؛ أولهما: سوء استخدام مصطلحات ومسميات ناجمة عن استخدامات مسبقة عامة المدلول في كثير من اللغات. وهذه الاستخدامات قد تكون عارضة في العلوم أو أساسية، أو اصطُلِح عليها من قبل المتخصصين في العلوم الإنسانية، وقد تكون ذائعة شائعة في الاستخدامات اليومية لكثير من الشعوب واللغات، وبذلك تقترن بمفاهيم عامة وغامضة معًا. أما السبب الثاني: فهو يُرجع الاختلاف على تسمية العلم إلى ارتباطه مسبقًا بمنهج ومفهوم خاص لمدرسة ما من مدارس دراسة الحضارة.

أنثروبولوجيا حضارية أم ثقافية؟

واسم الموضوع الذي تدور حوله الدراسة هو «الحضارة» التي تقابل في الإنجليزية Culture وفي الألمانية Kultur، وهناك مصطلح آخر مشابه كثيرًا لمصطلح الحضارة هو «المدنية» الذي يقابل Civilization، ومصطلح ثالث هو «الحضارات العليا» Hoch Kulturen, High Culture.

وهذه المصطلحات الثلاثة متشابهة من ناحية النوع أو الكيف، لكنها تختلف من حيث الكم والعمر، كما أنه يحدث أيضًا اختلاط كبير في استخدامها بالتبادل دون تحديد في علوم إنسانية أخرى.

والحضارة Culture هي أعم وأشمل هذه المصطلحات الثلاثة، وكما سنعرف فيما بعد تتناول الحضارة كل شيء من المنتجات الإنسانية المادية والفكرية والمعنوية بالدراسة سواء كان ذلك بالنسبة لمجتمعات قديمة أو حديثة، متخلفة أو متقدمة تكنولوجيًّا، بائدة أو معاصرة. والأصل في الكلمة هو الأصل اللاتيني Cultura بمعانٍ عديدة من الزراعة إلى التربية الصناعية إلى مجموعة القوانين والأنماط السلوكية التي تعيش عليها المجتمعات. والحضارة في العربية من التحضر، والحضر عكس التبدي والبادية، وهي بذلك — من الناحية الحرفية — مفهوم محدود بالزراعة والاستقرار، ولكننا إذا أخذنا هذا المصطلح بمفهوم واسع مستنبط من الاستقرار، فإننا قد نصل إلى ميدان النظم المادية والمعنوية والقوانين الخاصة بالمجتمعات المستقرة، وهو كما نرى أيضًا يقتصر على المجتمعات المستقرة، ويُستثنَى من ذلك الجماعات البادية من رعاة وصيادين.

ولكن هناك نقطة هامة في الاستخدامات اللغوية؛ تلك هي أن المصطلحات يتغير مفهومها بتغير الزمن، وهذا المبدأ يعكس مجموعة التغيرات التي تطرأ على المجتمع من النواحي المادية والمعنوية، ومن ثم لا بد للكلمات والمصطلحات أن تتغير مفاهيمها إلى المفاهيم الشائعة التي يصطلح عليها من قبل جمهرة الناس. فإذا كان مفهوم الحضارة في اللاتينية والعربية قد بدأ بالمفهوم الزراعي؛ فإنه الآن قد شاع واستُخدِم لمفهوم يُعبِّر عن مجموعة النظم والقوانين والمنتجات المادية والمعنوية لأي مجتمع، ومن ثم فإننا نرجح استخدام «الحضارة» في هذا المعنى على أي مصطلح آخر.

وفي هذا المجال يتبنَّى علماء الاجتماع في مصر استخدام مصطلح «الثقافة» بديلًا للحضارة، وبرغم أن التربية والتثقيف واردتان لمعنى Cultura في اللاتينية واللغات اللاتينية الحديثة، إلا أن اللغات الجرمانية تستخدم مصطلحًا آخر هو Bildung بمعنى التنشئة والتشكيل والتثقيف، وكذلك شاع استخدام «ثقافة» في العربية القديمة والحديثة على نحو مرادف للألمانية. وبذلك فإن مصطلح «ثقافة» والصفة «ثقافي» و«ثقافية» محدودة المعنى جدًّا بالقياس إلى شمول كلمة «الحضارة». فالثقافة بمعناها العربي الشائع الآن قاصرة على عدد محدود من الناس واسعي الاطلاع، وهي بذلك أيضًا تصف نوعًا من أنواع المهارة العقلية، ومن ثم فهي تزداد تحددًا في مفهومها عن مصطلح الحضارة والحضري مهما كان مفهومهما في الماضي.
وهناك مصطلح «مدنية»، والأصل فيه في اللغة العربية مشتق من المدينة وحياة المدن، وكذلك الأصل اللاتيني مشتق من Civitat بمعنى مدينة، ومنها ساكن المدينة Civilis، والمقصود بذلك أساسًا هو وصف سكان مدينة روما؛ لأنه كانت لهم حقوق وحريات جعلتهم يختلفون عن سكان بقية الإمبراطورية الرومانية، ومن ثم كانت «مواطنية» روما رمزًا على أشياء حضارية كثيرة من بينها الرخاء والترف والثقافة وحرية التعبير والحرية الكاملة للفرد. ومجموعة نظم وقوانين وعادات تميز أهل روما عن غيرهم، ومواطنية روما — أو المدينة الرومانية — تمثل مرحلة ما من مراحل الحضارة، وهي بصفاتها تمثل مرحلة متطورة زاهية وزاهرة وزاخرة بكافة أشكال الحضارة المادية والمعنوية؛ ولهذا فإن كلمة «مدنية» بخلفيتها التاريخية هذه قد اختصها علماء الإنسانيات عامةً، وعلماء الحضارة خاصةً، فإنها تشكل جزءًا لا يتجزأ من الحضارة، وإن زاد كمًّا في شتى أشكاله. والمتفق عليه أن المدنية هي فترات عارضة في الحضارة تتميز بزيادة هائلة في كم مشتملها ومحتواها وتعقد وتركب نمطيتها، لكنها لا تختلف عن حضارة غير المدنيين؛ لأن كلًّا منهما يشتمل على طرائق وخصائص للحياة المدنية والمعنوية.

والمدنية صفة عارضة في الحضارة؛ لأنها تتكون من تراكمات كمية للحضارة في منطقة ما لظروف اقتصادية وتاريخية، ولا تلبث أن تزول وتتدهور لأسباب اقتصادية واجتماعية وتاريخية أيضًا. فالمدنية في العالم قد تبرعمت في مناطق مختلفة في عصور مختلفة ولأزمان مختلفة، ثم اضمحلت وذوت، وقد تعود مرة أخرى في المكان نفسه لأسباب أخرى مختلفة ظاهريًّا، وإن كانت هذه الأسباب لا يمكن أن تقيم مدنية دون وجود مقومات كامنة في المنطقة.

ومدنيات العالم المعروفة عند عامة الناس هي: المصرية الفرعونية، والعراقية القديمة، والإغريقية، والرومانية، والبغدادية العباسية، والمصرية الفاطمية — المملوكية، والأندلسية، والأوروبية الصناعية. وهناك مدنيات تحتل مكانًا وسطًا نتيجة لمواقعها الجغرافية أو لتحدد دعائمها الاقتصادية على أسس ضيقة كالتجارة. وعلى رأس هذه المجموعة من المدنيات، الفينيقية والعربية الجنوبية بما فيها حضارة أكسوم الحبشية. وهذه المدنيات قد تفاعلت مع بعضها تفاعلًا بيولوجيًّا مثمرًا فيما يشبه الدورة الحضارية؛ وذلك لأنها كلها كانت في منطقة التقاء واحتكاك مستمر حول البحر المتوسط وقربه، وهو الذي يمكن أن نسميه بحر المدنية الأعظم. وهناك مدنيات أخرى كبيرة أثرت في مناطق جغرافية محدودة، مثل مدنية الصين التي اقتصرت على شرق آسيا، وعالم المحيط الباسيفيكي، والمدنية الهندية التي أثرت في شبه القارة الهندية وجنوب شرق آسيا. وكان عالم المحيط الهندي عامةً ميدانًا لتأثيرات مدنيات البحر المتوسط والهند والصين بدرجات مختلفة في أزمان مختلفة.

وفي أحيان محدودة يُطلَق على مدنية الإغريق مثلًا كلمة الحضارة الإغريقية، والمقصود بها المظاهر الحضارية الزاهرة في فترة ازدهار المدنية الإغريقية، وكذلك يُطلَق على المدنية المصرية الحضارة المصرية، والحضارة الرومانية … وهكذا، وهذا الاستخدام راجع إلى عدم تحدد المعنى المقصود بالمصطلح — خاصةً حينما يستخدمه علماء التاريخ والأركيولوجيا.

ومع ذلك فإن مصطلح «الحضارة العليا» قد نشأ في وقت غير بعيد، للتمييز بين الازدهار الحضاري القديم لبعض الحضارات التي عاشت في نطاق جغرافي ضيق إلى متوسط؛ مثل: الحضارة السومرية، أو الفرعونية، أو الفينيقية، أو الإغريقية. وبين حضارة هذه المناطق في بقية فترات حياتها، وكذلك للتمييز بينها وبين «المدنية» التي يمكن أن تُطلَق على حضارة مزدهرة شاملة لمساحة كبيرة كالإمبراطورية الرومانية، والمدنية الإسلامية، والمدنية الحديثة أو الصناعية.

ولا يمكننا أن نمضي بالمناقشة إلى أبعد من ذلك لضيق المقام، ولكن الخلاصة يمكن أن تُرتَّب على النحو التالي:
  • (١)
    الحضارة: هي أكثر المصطلحات شمولًا لما يقصده الدارسون للمجتمعات الإنسانية في شتى صورها، وهي الشق الثاني الدائم الوجود لأي تجمع إنساني.
  • (٢)
    الثقافة: مفهوم قاصر على نوعية حضارية معنوية، وعلى عدد محدود من أفراد المجتمع.
  • (٣)
    المدنية: تصف مرحلة زمنية زاهرة من مراحل الحضارة غالبًا تنتشر على مساحة إقليمية كبيرة، وهي بذلك ليست صفة حضارية دائمة.
  • (٤)
    الحضارة العليا: تصف المدنيات القديمة، وغالبًا تلك التي تظهر في منطقة جغرافية محدودة.

أنثروبولوجيا أم إثنولوجيا؟

والعلم الذي يقوم بالدراسة الحضارية للمجتمعات الإنسانية يختلف اسمه كثيرًا بين المدارس المتخصصة، وسبب الاختلاف الأول راجع إلى اختلاف إسناد العلم إلى المسند إليه: هل هو الإنسان أم الشعب؟ فكلمة أنثروبولوجي مستمدة من الأصل الإغريقي Anthropos بمعنى إنسان، وكلمة إثنولوجي مستمدة من الأصلين اللاتيني والإغريقي Ethnos بمعنى شعب أو سلالة أو أمة. والفرق بين الإسنادين في واقع الأمر — ومن الناحية اللغوية — ليس أمرًا خطيرًا؛ لأنهما يسندان دراسة الحضارة إلى الإنسان (بصيغة الجمع) أو الشعب. وقد انتشرت كلمة أنثروبولوجي في اللغات الأنجلوساكسونية، بينما شاع استخدام إثنولوجيا في مجموعة اللغات الأوروبية اللاتينية والجرمانية.
أما الاختلاف الثاني فيرجع إلى اختلاف مناهج المدارس، وسوف نعود إلى هذه النقطة بدراسة تفصيلية لتاريخ تطور المدارس الأنثروبولوجية والإثنولوجية، ولكن تكفي الإشارة هنا إلى أن الأنثروبولوجيين الإنجليز يستخدمون مصطلح الأنثروبولوجيا الاجتماعية لطبيعة تركيز معظم أبحاثهم على جوانب معينة من التنظيم الاجتماعي، وعلى رأسها نظم القرابة والزواج. أما في أمريكا فيشيع استخدام مصطلح الأنثروبولوجيا الحضارية؛ وذلك نتيجة لتعدد ميادين الدراسة وكثرتها في موضوع الحضارة. أما في فرنسا فيُستخدَم مصطلح إثنولوجيا مع تشديد على الموضوعات النظرية والفلسفية في الموضوع الاجتماعي والحضاري. وفي المنطقة الألمانية تُستخدَم أيضًا إثنولوجيا وترجمتها الألمانية الحرفية Voelkerkunde — علم الشعوب — وتتعدد الاتجاهات في المدارس الألمانية الإثنولوجية؛ فمن اهتمامات بالنواحي النظرية الفلسفية إلى اهتمامات بالنواحي المادية في الحضارة، واتجاه جديد نسبيًّا في الدراسات الميدانية المتعددة الاتجاه.

وفي مصر تتنوع التسميات، لكنها كلها مرتبطة بالمدرسة الأنجلوساكسونية، فالبعض يسميها أنثروبولوجيا اجتماعية، والبعض أنثروبولوجيا ثقافية، ولعل القلة تسميها أنثروبولوجيا حضارية. وتسهيلًا واختصارًا، وفي الوقت نفسه ارتباطًا بمفهوم دراسة الحضارة لدى الشعوب والمجتمعات المختلفة، أرجو أن يشيع استخدام اصطلاح إثنولوجيا بدلًا من استخدام مصطلح مزدوج، ولكن الذي يهم في نهاية الأمر هو الاتفاق على المضمون: دراسة الحضارة بعناصرها المادية والمعنوية وغير المادية، في ارتباط واضح بالتفاعلات الداخلية للحضارة، والتفاعلات الخارجية مع الحضارات الأخرى المجاورة وغير المجاورة.

الإثنولوجيا والإثنوجرافيا

إن آخر الاختلافات على التسميات هو الاختلاف بين ما يُذكَر في بعض المدارس على أنه موضوع إثنولوجي (أو أنثروبولوجي حضاري أو اجتماعي) وبين الإثنوجرافيا Ethnography، وقد قِيلَ كثيرًا إن الموضوعين هما فرعان في علم الحضارة، ولكن هذا التقسيم اصطناعي في رأي بعض العلماء، كما أنه قد يؤدي إلى مفاهيم خاطئة.

صحيح أن المعنى الحرفي لإثنوجرافيا هو علم وصف الشعوب، لكن القول بأن الإثنوجرافيا تقف عند حد وصف وتسجيل المظاهر الحضارية لحضارة مفردة، وأن الإثنولوجيا تقوم بعملية المقارنة الحضارية والدراسة التحليلية ليس أمرًا صحيحًا. فإن العمليتين يقوم بهما الإثنولوجي معًا؛ ذلك لأنهما كلٌّ متكامل. فالوصف والتسجيل ليس إلا مرحلة في دراسة الحضارة المفردة، يليها تحليل هذه الدراسة الوصفية ودراسة عناصرها دراسة مقارنة. والقليل من الأبحاث — وخاصة القديمة — كانت تقف عند حد الوصف إذا لم يكن كاتبها إثنولوجيًّا مدربًا، وهي على أي حال تصبح خامة للإثنولوجي عند الدراسات المقارنة والتنظير الحضاري.

والحقيقة أن كل المونوجرافات Monograph التي تقدم للقارئ دراسة شاملة عن حضارة مفردة، عبارة عن أبحاث حضارية تتناول جانبي الوصف والتحليل معًا. ففي كل مونوجراف تفصل العناصر الحضارية عن محيطها؛ كي يمكن معالجتها دراسيًّا، ثم يُعاد التركيب الكلي للعناصر مرة أخرى؛ لتوضيح تفاعلاتها الحية داخل الإطار الحضاري. وفي أحيان كثيرة تتم أيضًا بعض الدراسات المقارنة داخل المونوجراف لتوضيح العلاقات الحضارية الخارجية للحضارة التي تقع تحت البحث.

وعلى هذا يتضح لنا أن أي دراسة مقارنة للحضارات، أو مقارنة لعنصر حضاري، يجب أن تكون قائمة أولًا — وقبل كل شيء — على الدراسات الإثنوجرافية التي تُكوِّن المونوجرافات مصدرها الأساسي.

وعلينا أن نلاحظ أن كتابة المونوجراف شيء والدراسة المقارنة في الحضارة شيء آخر؛ ذلك أن المونوجراف يُستمَد أساسًا من الدراسة الميدانية، في حين أن الدراسة المقارنة تُستمَد من وجود عدد من المونوجرافات والدراسات الإثنوجرافية. ولا يعني هذا أن هناك متخصصين في الدراسات الإثنوجرافية وآخرين في الدراسات الإثنولوجية، فالواقع أنه لا يمكن أن يتكون الإثنولوجي ويتبلور إلا بعد أن يكون قد نزل إلى ميدان الدراسة العملية مرة أو مرات؛ حتى يتفهم طرفًا من واقع الحضارة قبل أن يحاول تنظير مشكلاتها، ومرة أخرى لا يجب أن يفهم من ذلك أن الإثنولوجي وحده هو الذي يقوم بمشكلة التنظير. ففي أحيان كثيرة لا يوجد تنظير بالمعنى المفهوم، إنما محاولات منهجية في الدراسة الميدانية أو الدراسة المقارنة، أو نقد أو بناء لنظريات إثنولوجية سائدة، وإن كان بعض الإثنولوجيين قد قاموا فعلًا بمحاولات نظرية جيدة — في وقتها — للمفهوم والمشكلات والوظائف الحضارية — كما سيأتي ذكره فيما بعد.

(٢) ميدان الدراسة الإثنولوجية

سواء اخترنا مصطلح إثنولوجيا أو أنثروبولوجيا حضارية أو اجتماعية؛ فإن ميدان الدراسة في مجموعه ميدان مشترك يمكن أن يُوصَف ويُعرَّف على النحو العام التالي، تاركًا لاختلافات الهدف النهائي للمدارس المختلفة اختلافات في المدخل إلى الميدان، وفي النتائج المترتبة على البحث.

فالإثنولوجيا في مجموعها هي علم دراسة المجتمعات الإنسانية بوصفها خالقة وحاملة للحضارة. فالاتفاق سائد على أنه لا يمكن فصل الجماعة عن الحضارة إطلاقًا، فلا وجود لحضارة دون جماعة بشرية، والعكس صحيح، وميدان الدراسة الأساسي للإثنولوجيا هو الجماعات والمجتمعات ذات الحضارة البدائية، وإن كان هذا الميدان قد اتسع أخيرًا بحيث أصبح يشتمل على دراسة المجتمعات في الحضارات العليا القديمة. كما اتسع أكثر بتأثير تطور المدارس الحضارية الأمريكية إلى دراسة مجتمعات أوروبية أو أوروبية الأصل في ظروف تكنولوجية حديثة. وعلى هذا النحو، فإن الإثنولوجيا تدرس أساسًا الأنماط الحضارية ذات الطابع البدائي المعاصر والقديم، كما تدرس المجتمعات الحديثة أيضًا في الريف والمدينة، وتأثير الهجرات في التركيبات الحضارية المعاصرة.

ونظرًا لوجود عدد هائل من المعلومات الإحصائية وغيرها بالنسبة للمجتمعات الحديثة من حيث الكثير من صفات المجتمع (الحالة الصحية والمواليد والوفيات = إحصاءات حيوية) بالإضافة إلى مصادر تاريخية مدونة عن المجتمعات المعاصرة (الحياة الاجتماعية والتعليمية، ونظم الزواج، والأوضاع الاقتصادية، والتركيبات الطبقية، وتقسيم العمل، والثروة، والنظم القانونية والسياسية والدينية)؛ فإن ميدان الدراسة الإثنولوجية في المجتمعات الحديثة يُتَّخَذ طابعًا مميزًا يساهم فيه الإحصاء بدور كبير، ويهدف إلى إيجاد التركيب النمطي للمجتمعات الحديثة حضاريًّا، وهو بذلك يكوِّن دراسة ممتعة للحضارة في مجتمعات معقدة تكنولوجيًّا، موحدة في أساسها وعمومياتها في النظم الاجتماعية والقانونية والخلقية … إلخ.

أما الدراسة الإثنولوجية في المجتمعات البدائية ومجتمعات الحضارة العليا؛ فإنها في أساسها دراسة لجماعات بسيطة في تركيبها الحضاري، معقدة في نظمها الاجتماعية والدينية، وهي زيادة على ذلك تنقصها الإحصاءات والسجلات التاريخية إلا في أحوال نادرة، وبذلك فإن الدارسين لهذه الجماعات — في الماضي والحاضر — لا يستطيعون إلا أن يعبروا عن بعض العلاقات التاريخية للمجتمع الذي يدرسونه؛ وذلك لتوضيح وتفسير بعض النظم الخاصة التي يصادفونها أثناء الدراسة. ولقد تضخمت هذه الفكرة التاريخية، حتى سيطرت على بعض الإثنولوجيين في المدرسة التاريخية ومدرسة التاريخ الحضاري، فأصبحت الإثنولوجيا تهدف — فيما تهدف — إلى إعادة تركيب التاريخ عند الجماعات التي يدرسونها.

وأيًّا كان حجم الهدف التاريخي عند الدارسين للحضارة؛ فإن الإثنولوجيا في ميدان المجتمعات البدائية لا يمكن أن تنفصل عن واجب تاريخي؛ لأن الحضارة والمجتمع يعيشان معًا في داخل البعد الزمني.

واتجاه الإثنولوجيا إلى دراسة الحضارات العليا القديمة قد يرجع إلى مجرد الرغبة في دراسة هذه الحضارات القديمة الراقية، ولكن الدراسة الإثنولوجية التي بدأت بالمجتمعات البدائية سرعان ما اتضح لها أن هذه المجتمعات قد تأثرت حضارتها بهجرات بشرية وحضارية متعددة ومختلفة، مصدرها بعض المراكز الهامة في الحضارات العليا القديمة. ونتيجة لذلك كان لا بد من فهم مؤثرات العناصر الحضارية القادمة من الحضارات العليا، والدور الذي لعبته في التركيب الحضاري للمجتمع والحضارة البدائية. ولقد أدى هذا الاكتشاف إلى بعض المغالاة من جانب بعض الدارسين للانتشار الحضاري في أوائل هذا القرن، لكن — وبغض النظر عن التطرف — فإن التفاعلات الحضارية بين الحضارات البدائية والعليا كانت موجودة في الماضي، كما هي موجودة في الوقت الحاضر بين الحضارة الصناعية وبقية الحضارات العالمية.

وعلى هذا النحو، فإن ميدان الإثنولوجيا هو دراسة وتحليل المقومات والأسس الحضارية للمجتمعات البدائية، ومجتمعات الحضارات العليا القديمة، والمجتمعات المعاصرة. ولا يعني هذا أن الإثنولوجيا تحل محل الدراسات الاجتماعية المتخصصة أو الدراسات الفولكلورية أو غيرهما من الدراسات الإنسانية الراهنة. إنما الدراسة الإثنولوجية تعالج الموضوع الحضاري الشامل في تلك المجتمعات كلها من وجهة نظر مغايرة لوجهات نظر العلوم الإنسانية المتخصصة. ولكن بما أن موضوع الدراسة مشترك أحيانًا، فلا بد من وجود بعض التداخل بين هذه الموضوعات المختلفة؛ لأن النسيج الحضاري كلٌّ متكامل ومتفاعل.

والخلاصة أن ميدان الإثنولوجيا هو دراسة ماهية الحضارات وعناصرها وتركيبها ووظيفتها وعملياتها التاريخية. فهو إذن دراسة للحياة الداخلية للحضارة والقوى المحركة لوجودها ونموها واستمرارها وتغيرها، وإذا كان الأمر كذلك فما هي الحضارة؟

(٣) بعض تعريفات للحضارة

تتفق المجتمعات الإنسانية القديمة والحديثة في عدد من المسائل الجوهرية الأساسية: الحياة المتجمعة للأفراد (قل عددهم أو كثر)، البحث عن الغذاء، التزاوج بين الجنسين، التعايش مع فكرة الموت. ولقد نشأ عن هذه المسائل الجوهرية عدد لا حصر له من الاختلافات والتغايرات في النظم والتنظيمات الاجتماعية والسياسية، والنظم الاقتصادية وتكنولوجيات إنتاج الغذاء، ونظم زواج متعددة مختلفة، وأفكار غيبية تنتظم في العقائد والطقوس المتعددة الأشكال — بما في ذلك أيضًا نمو للفنون التشكيلية والأدبية والموسيقى والرقص، وكلها بدأت بدايات طقسية دينية.

هذه الاختلافات الهائلة العدد في شتى أشكال الحضارات ترجع إلى عدد من الأصول، في مقدمتها العلاقة بين الإنسان والأرض، وعلى قدر ما يبتكر الإنسان من أدوات وتلاؤمات مع المسرح الطبيعي الذي يعيش عليه، يزداد جنوح النظم الاقتصادية الاجتماعية المترتبة عليها إلى أن تتخذ شكلًا خاصًّا محلي النمط. ويُضاف إلى هذا دور النقل الحضاري بين المجموعات المتقاربة، إلى جانب دور النمو والتطور المستمر المحلي، ويؤدي هذا إلى زيادة ابتعاد النسيج الحضاري في مجموعة عما هو عليه شكل هذا النسيج في مجموعة أخرى، حتى ولو جاورتها وكانت غير بعيدة منها.

وإلى جانب هذا السبب الرئيسي، نجد أيضًا أسباب أخرى مردها إلى الحركة والهجرة من إقليم إلى آخر لأسباب غير معلومة أو معلومة. وهنا تبدأ من جديد عوامل التلاؤم والتكيف مع الظروف الجديدة — مع امتصاص أو رفض لما هو سابق من أشكال حضارية لجماعة سابقة الإقامة والتكيف في هذه الأوطان الجديدة.

وعلى أي حال، فإن هناك مجموعة أسباب كثيرة بعضها يرجع أيضًا إلى عوامل نفسية. مثال ذلك مزاج مجموعة في اختيار لون من الألوان رمزًا للفرح أو الحزن، أو اختيار نظام اقتصادي برغم صعوبة تطبيقه في الوطن الجديد.١

والنتيجة النهائية لكل هذا أننا نجد اختلافًا كبيرًا في السلوك الإنساني في غالبية المظاهر والممارسات الحضارية. فنظم النشاط الاقتصادي تختلف اختلافًا بينًا في داخل البيئة الجغرافية الواحدة؛ مثل ممارسة الزنوج للزراعة والأقزام للصيد دون الزراعة داخل غابات حوض الكنغو. والغذاء يختلف اختلافًا هائلًا بين أكل اللحوم والأسماك النيئة عند الإسكيمو، والاعتماد على الحليب والدم عند المازاي في شرق أفريقيا. وتختلف عادات الملبس من العري الكامل أو شبه الكامل عند كثير من سكان المناطق الحارة في العالم، إلى الملبس الكامل عند بعض سكان المنطقة الحارة أيضًا (الباجندا في شرق أفريقيا)، ومن ثم فإن انعكاس آثار البيئة الطبيعية ليس ملزمًا للناس أن يتخذوا أشكالًا متقاربة. وإلى جانب هذا فإن الاختلافات في أنظمة المجتمع والقرابة والزواج والعقائد والفنون والزينة والمسكن؛ كلها تعبر عن مدى شدة التفاوت في التركيبات الحضارية الإنسانية على البعدين المكاني والزماني.

ويتعلم الإنسان منذ طفولته كل العناصر التي تكوِّن حضارة المجموعة التي ينتمي إليها: يتعلم الأكل واللغة وكل شيء يؤهله لكي يسلك السلوك المعتاد داخل الجماعة. وأهم ما يتعلمه هو اللغة التي تمكنه من التعرف بسهولة على كل وسائل الحياة حسب النمط السائد في المجتمع. واللغة ووسائل الحياة المتفق عليها هي أهم ما يميز المجتمع البشري عن التجمع الذي تعيش من خلاله أنواع الحيوانات المختلفة.

ومن ثم فإن الإثنولوجيا تنظر إلى الحضارة، وتدرسها، على أنها:
  • أولًا: وسائل الحياة أو إعداد الأفراد للحياة داخل المجتمعات المختلفة.
  • ثانيًا: نمط السلوك الخاص بالمجتمعات المختلفة.
  • ثالثًا: وسائل الحياة التي تميز مجموعة من المجتمعات التي تربط بينها درجات من التفاعل والاتصال.
  • رابعًا: وسائل الحياة التي تميز مكونات مجتمع كبير منظم؛ مثل: المجموعات الإقليمية، أو الأقليات، أو الطبقات الاجتماعية الدينية القوالب (كطبقات الهند)، أو الطبقات الاجتماعية الاقتصادية.

وبرغم هذا التعدد في أشكال الحضارة، فهي في جوهرها يمكن أن تُعرَّف تعريفات عامة وتفصيلية، كما فعل كثيرون من الإثنولوجيين.

وقد كان جوستاف كليم٢ (١٨٤٣) من أوائل الذين عرَّفوا الحضارة بأنها مجموعة … العادات والمعلومات والمهارات والحياة الاقتصادية والعامة خلال السلم والحرب، والديانة والعلوم والفنون … وتظهر من خلال نقل تجارب الماضي إلى الجيل الجديد.
وأشهر تعريفات الحضارة وأكثرها اختصارًا وشمولًا، هو التعريف الذي ذكره تيلور:٣ أنها ذلك الكل المركب الذي يحتوي على المعرفة والمعتقد والفن والخلقيات والقانون والعادة، وكل قدرات واعتيادات أخرى يكتسبها الإنسان كعضو في مجتمع.
وعرف كريبر وكلكهون٤ الحضارة على أنها عملية تاريخية (التقليد الاجتماعي) نمطية أو اعتيادية (القواعد والقوانين والمثل)، ونفسية (التلاؤم والتعليم والعادة) وأصولية (الأدوات والآلات – الأفكار – الرموز).
أما فلهلم شميت W. Schmidt٥ فيرى أن الحضارة تتكون في أساسها من التشكيل الداخلي للروح الإنسانية، وتنعكس في أشكالها الخارجية نتيجة لارتباط الروح بالجسد (أي إن الحضارة هي المظهر المادي للتشكيل الروحي).
ويقول فرانز بواس F. Boas:٦ إن الحضارة هي الكم المتكامل للأفعال والنشاطات العقلية والطبيعية التي تميز السلوك الجماعي والفردي للأفراد الذين يكونون مجموعة اجتماعية، بالارتباط ببيئتهم الطبيعية، وبغيرهم من المجموعات أو بالارتباط بأعضاء مجموعتهم، وبالارتباط بين كل فرد ونفسه، وهي تحتوي أيضًا على منتجات هذه النشاطات ودورها في حياة المجموعة. ومجرد تعداد المظاهر المختلفة للحياة لا يكون الحضارة، فهي أكثر من ذلك؛ لأن عناصرها ليست مستقلة منفصلة، بل تكون بناءً متآلفًا.
ويعرف هِكل J. Haekel (١٩٥٥) الحضارة بأنها: مجموع أشكال الحياة الموضوعية المنسقة لجماعة ما، وهي نتاج الترابط بين الإنسان كفرد وكعضو في المجتمع، وتفاعله مع البيئة الجغرافية والبشرية، ومن ثم ينتج شكل للحياة له نموذج معين في إقليم طبيعي معين يتحدد بواسطة أفكار ومبادئ وقيم ودوافع معينة تعمل في ترابط وبناء معين.
ولعل أحسن التعريفات من حيث الشمول والتفصيل تعريف الأستاذ هر سكوفتس٧ الذي يمكن أن نحلله على النحو التالي:
  • (١)

    الحضارة هي الكم النهائي للمعتقدات والمعرفة والقيم والأهداف التي تكوِّن حياة جماعة ما، واستمرار هذه المقومات الحضارية يعتمد على التقليد والقيم، وبعبارة أخرى فالحضارة شيء يُتعلَّم.

  • (٢)

    الحضارة تتكون من مقومات بيولوجية ونفسية وتاريخية، ومعنى هذا أن الحضارة تنبع عن الكينونة الإنسانية المادية النفسية.

  • (٣)

    الحضارة بناء منتظم من العناصر الحضارية، على أساس مبادئ معينة تؤدي إلى تكوين النمط الحضاري. وتختلف الحضارات فيما بينها ليس فقط من حيث محتواها، ولكن من حيث تركيبها وتكاملها أيضًا. والحضارة ليست مجموعة عناصر، لكنها بناء متكامل تترابط داخله المكونات والعناصر الحضارية.

  • (٤)

    تتكون الحضارة من عدة أقسام؛ هي: الحضارة المادية، والتنظيم الاجتماعي، والديانة، والنظرة العامة للحياة. وهذه الأقسام تتفاعل معًا وتُوَجَّه توجيهًا معينًا حسب مبدأ البناء الحضاري السائد.

  • (٥)

    الحضارة عملية دينامية قواها الدافعة التفاعل بين المحافظة والتجديد، وتختلف قوة أحد هذين العاملين حسب الزمن والمكان والظاهرات الحضارية والتأثير الخارجي، وهذه الدينامية والتغير الحضاري قد يكون بتأثيرات من الخارج أو عوامل النمو الداخلية.

  • (٦)

    الحضارة متغيرة نتيجة للتغير الذي يطرأ على العناصر الحضارية والتناسب بين تلك العناصر والحضارات، وكلما كانت الحضارة كبيرة تزيد كمية المتغيرات، وبذلك يمكن أن تُمارَس عادة معينة بأساليب مختلفة متغايرة داخل الحضارة الواحدة، وهذا دليل على الدور المؤثر للإنسان على المظهر العام للعناصر الحضارية.

  • (٧)

    الحضارة تتميز بانتظام ومرونة تسمح باحتمالات معينة بناء على النمط الحضاري.

  • (٨)

    الحضارة هي الوسيط الذي يؤهل الأفراد للاشتراك في عضوية الجماعة وتساعد على نمو شخصيته.

ويمكن أن نلخص التعريفات المختلفة للحضارة على أنها المحيط الذي يخلقه المجتمع ويعيش من خلاله لتأمين احتياجاته المادية والمعنوية، وأن هذا المحيط دينامي متطور يتعلمه أفراد المجتمع بالتوارث الاجتماعي.

(٤) الأقسام الكبرى في الدراسة الحضارية

لتعدد نواحي البحث في الأنثروبولوجيا الحضارية، أصبح الكثيرون يطلقون عليها علم تقييم الإنسان وتقسيمه حضاريًّا. ولقد تلقى هذا العلم دفعته الكبرى بعد الكشوف الجغرافية الكبرى في القرن السادس عشر وما بعده. وقد أدت النظم الحضارية في شتى أشكالها التي تختلف عن المجتمعات الأوروبية في غالبية الأحوال، إلى الاهتمام بكشف ودراسة هذا الاختلاف الحضاري. ولقد ظهر ذلك جليًّا في صورة المونوجرافات العديدة التي يعالج كل منها قبيلة أو مجتمعًا مُعَيَّنًا. وقد ميزت هذه الدراسات المونوجرافية الفترة الأولى في الدراسات الإثنولوجية، وما زالت حتى الآن تمثل حجر الزاوية في الدراسات الإثنولوجية.

ومع تقدم مناهج الدراسة وتطور المعرفة الإثنولوجية، أصبحت هناك عدة أقسام أو حقول رئيسية في البحث الحضاري. لكن هذه الحقول مترابطة برباط الحضارة الشامل.

حقل التكنولوجيا أو الحضارة المادية

يدرس هذا الحقل كل أشكال الحضارة المادية في صورة وصف وتحليل كل المنتجات المادية للحضارة: أنواع المسكن ومواد بنائه، وشكل التجمع السكني، والمخازن والمباني، أو الأماكن المخصصة للحيوان المستأنس، دراسة الغذاء وأشكاله ومصادره وطرق طهوه وتناوله، دراسة أدوات الإنتاج، دراسة أدوات الزينة والفنون المختلفة من الزينة الإنسانية (تصفيف الشعر، النقوش المختلفة على الوجه والجسم وأنواعها والأصباغ والعقود والأساور التي تُلبَس في المعاصم والزنود والأرجل) إلى زينة المسكن، نوع الأثاث المستخدم وشكل الموقد وآنية الطبخ، الفنون التشكيلية وخامات التماثيل والأقنعة، أشكال الثياب وخاماتها ومصادرها. كما يشتمل هذا الحقل على دراسة أدوات وأماكن صناعة الأدوات والآلات المستخدمة: عجلة (دولاب) الفخار و«مصنع» صهر الحديد أو النحاس لصنع أدوات الزراعة والأسلحة. وأخيرًا يدرس هذا الحقل المستحضرات الطبية وأنواع الأعشاب المستخدمة وطرق تحضيرها.

حقل النظام الاقتصادي

كثيرًا ما كان يختلط الأمر بين التكنولوجيا والنظام الاقتصادي، لكن ميدان النظم الاقتصادية محدود بشكل أو أشكال النشاط الاقتصادي الذي يمارسه المجتمع من صيد بري، وجمع للإنتاج النباتي الطبيعي، وصيد الأسماك، والزراعة الأولية أو المتنقلة، والزراعة الدائمة، وزراعة الحدائق، ورعي الحيوان، والحرف الصناعية اليدوية والآلية. وتمتد الدراسة في هذا الميدان إلى دراسة نوعية الإنتاج: اكتفاء ذاتي أو إنتاج للتبادل أو التسويق. ومن ثم، فإن هدف الإنتاج يحدد كثافة النشاط الاقتصادي، ويرتبط ذلك بنوع الحضارة وأنظمتها السائدة، وكذلك تُدرَس هنا أنواع التبادل الإنتاجي من المقايضة إلى التجارة النقدية (في شتى أشكال النقد) وأشكال ووسائل النقل.

ويدرس هنا أيضًا التنظيم الاقتصادي في تقسيم العمل بين الجنسين، وكذلك تصنيف العمل بين طبقات السن التي ينقسم إليها المجتمع، في صورة دورة نشاط تنتهي بتفرغ كبار السن للحكمة والحكم، وتعليم شباب المجتمع الحضارة العامة في صورة نظرية القيمة والمواقف النمطية للسلوك. ويعطي ذلك في شكل تاريخي يسرد حوادث قديمة نستخرج منها العبرات والقيم. وأخيرًا يتناول هذا القسم توزيع الثروة على أفراد المجتمع، ويدرس هنا تكوين الطبقات الدينية أو الأسطورية القالب (عشائر الحكام أو عشائر رجال الدين)، وتكوين الطبقات الاجتماعية في الحضارات العليا.

النظم الاجتماعية

تقوم الدراسة هنا على أساس محاولة فهم التركيب الاجتماعي والعوامل التي يتأسس عليها هذا التركيب الاجتماعي. وهنا عدة مداخل من أهمها دراسة التنظيم العشائري ونظم القرابة ودورها في تحديد أنماط السلوك الاجتماعي العام: الزواج، والبنوة، والطلاق. وتظهر النمطية في عدد من التشريعات التي تربط الناس وتقيدهم بالسلوك العام والمعاملات وغيرها مما نسميه العادات والتقاليد، وأشكال الأسرة، ونظم التقاضي، ونظم الحكم الإداري والسياسي، وطبقات السن، وغير ذلك من التنظيمات الاجتماعية، وكذلك نظم التربية والتنشئة والشخصية والقيم.

ومن بين أوجه الدراسة في هذا الحقل دراسة المعتقدات الدينية والممارسات الطقسية وعالم ما بعد الطبيعة، ومن ثم دراسة طبقة أو عشيرة رجال الدين وأنماط السحر والتطبيب والكائنات غير المرئية من أرواح خيرة وشريرة، ونظام الدفن وطقوسه، وأشكال المقابر والمعابد. وفي هذا المجال يدخل أيضًا موضوع النظام الملكي المقدس الذي يعتبر الملوك سلالة مختارة تحل فيها الروح الهادية لبطل أو إله أو نصف إله المجتمع، ومن ثم فالملك يحكم بالحق الإلهي، وهو بذلك الحاكم الزمني والروحي معًا. وهذا المبدأ كان شائعًا من أقدم العصور حتى اليوم في المجتمعات القديمة وفي أوروبا في العصور الوسطى وحتى الثورة الفرنسية، وما زال موجودًا عند عدد من القبائل البدائية في أفريقيا.

حقل الفنون

وهو الحقل الذي يتناول دراسة الألعاب، واللعب، والفنون التشكيلية، والنحت، والتطعيم، والتلوين، والهندسة المعمارية، والموسيقى، والقصة، والشعر، والرقص، والغناء، والمسرح، والفولكلور عامةً. وبالرغم من أن للفولكلور علمًا متخصصًا إلا أنه بالنسبة للإثنولوجي على جانب كبير من الأهمية؛ لأنه يعطي الباحث وسيلة هامة للتنقيب داخل المجتمع تاريخيًّا، ويعطيه انعكاسات أنماط الحضارة على الممارسات الفعلية في الأوقات المختلفة.

الحقل التطبيقي

وهو أحدث فروع الدراسة الحضارية، وقد ظهر كاستجابة لمحاولة تطبيق المعرفة العلمية على المجتمعات التي تمر بفترات انتقال حضارية من أنماطها التقليدية إلى الأنماط والقيم الحضارية المرتبطة بالصناعة؛ وذلك من أجل ضمان قدر من صحة الانتقال الحضاري دون حدوث مآسي الضياع بين القيم والمكونات الحضارية القديمة والجديدة.

•••

هذه هي الحقول الكبرى في الدراسات الحضارية التي يعمل فيها الإثنولوجيون، وعلينا أن نلاحظ أنه لا يوجد في الوقت الراهن إلا القليل من الإثنولوجيين الذين يستطيعون أن يلموا إلمامًا شاملًا بكل هذه الأقسام الكبرى. وقد كان هناك في الماضي بعض الإثنولوجيين القادرين على ذلك، ولكن كم المعلومات الراهنة والمناهج الجديدة جعل هناك تخصصات بين المتخصصين في الحضارة، وأحدث هذه التخصصات الأنثروبولوجيا الاقتصادية، إلى جانب التخصص اللغوي القديم. ومع ذلك لا بد أن يكون الإثنولوجي ملمًّا إلمامًا جيدًا بكل نواحي الحضارة قبل أن يميل إلى تخصص معين، وهذا هو العيب الذي يُؤخَذ على الأنثروبولوجيا الاجتماعية البريطانية المعاصرة، وهو عيب يتلافاه بعض الإنجليز حاليًّا، وتلافاه الأمريكيون بتعدد وغنى المناهج والمذاهب والدراسات الميدانية العديدة في العالم الأمريكي وعالم المحيط الهادي.

والحقيقة أن التخصص لم يقتصر فقط على الأشخاص، ولكنه كاد أن يصبح سمة من سمات المدارس الأنثروبولوجية. وفي مقابل هذا التخصص الشديد الذي يهدد وحدة علم الحضارة، نجد عددًا من العلماء يدعون إلى التقليل من المغالاة في التخصص. مثال ذلك دوجلاس تايلور D. Taylor (١٩٥٢) الذي أوضح أخطار دعوة برتشارد Evans-Pritchard بالتخصص الكامل في الأنثروبولوجيا الاجتماعية البريطانية، قائلًا إن هذه الدعوة قد تؤدي إلى انفصال تخصصات أخرى مما يؤدي إلى انهيار النظرية التكاملية للحضارة، وقد يؤدي إلى ظهور أسماء كثيرة؛ مثل: علم الحضارة المقارن، علم التكنولوجيا المقارن، علم الاجتماع المقارن. وربما ظهرت أسماء أخرى أكثر تخصصًا؛ مثل الأنثروبولوجيا السياسية أو الاقتصادية.
وقد أوضح الأستاذ هرسكوفتز٨ في كتابه الذي نُشِرَ بعد وفاته بقليل، أن العلوم تنقسم إلى: علوم طبيعية، والإنسانيات، وعلوم اجتماعية. وأن الأنثروبولوجيا لا تنحصر في واحد من هذه الأقسام، بل تشتمل عليها؛ لأن الإنسان كائن متعدد الوجوه، والعلماء الذين يدرسون الإنسان يجب أن يطرحوا جانبًا الحدود المتفق عليها للمعرفة وأقسامها، وعليهم أن يتابعوا دراسة موضوعاتهم داخل أي قسم منها.

ولتوضيح ذلك يقول هرسكوفتز إن الأنثروبولوجيا الطبيعية أساسًا موضوع دراسة بيولوجية، لكن الأنثروبولوجي مضطر إلى أن يحسب حساب التقليد والحضارة لمعرفة تأثير نمط الاختيار في الزواج والغذاء على الوراثة والفسيولوجيا، وعليه أيضًا أن يدرس البيئة ويقابل بذلك مشكلات تواجه الجغرافي البشري. وحين يدرس الأنثروبولوجي لغة مجموعة ما؛ فإن عمله يدخل أيضًا دائرة الإنسانيات؛ لأنه مضطر في هذا المجال إلى دراسة الأسطورة والخرافة لهذه المجموعة، ويسجل موسيقاها، ويحلل فنونها ويفهم فلسفتها. لكن الباحث نفسه يصبح باحثًا في التركيب الاجتماعي حينما يدرس ويحلل القرابة والاقتصاد والحكم والديانة والفنون.

ويتضح من هذا مدى الاختلاف الشديد بين دعوة الانفصال والدعوة إلى التجميع، ولا شك أن الحضارة بمكوناتها كمٌّ متكامل، وإن كانت دراستها تقتضي أن نفصل حقولها وميادينها. ويجب ألا يكون ذلك هدفًا نهائيًّا، بل هدفًا جزئيًّا من أجل فهم أعمق، يعود بعده التركيب الدراسي إلى التجميع والشمول.

١  على سبيل المثال هاجرت مجموعة الياكوت التركمانية من وسط آسيا إلى حوض نهر لينا في سيبيريا الشرقية منذ حوالي ألف من السنين، ونقلت معها رعي الأبقار كما كانت تفعل في وسط آسيا، برغم اختلاف ظروف سيبيريا المناخية والإيكولوجية، وأضافوا إلى الأبقار تربية الرنة الذي لم يكن سكان سيبيريا قد تعلموا طريقة استئناسه من قبل.
٢  Klemm, G., “Allgemiene Cultur-Geschichte der Menschheit”, Leipzig 1843.
٣  Tylor, E. B., “Primitive Culture”, Boston 1874.
٤  Kroeber, A. L. & Clyde Kluckhon, “Culture, A. Critical Review of Concepts and Definition” Peabody Museum, Harvard Univ. XLVII No. 1, 1952.
٥  Schmidt, W., “Handbuch der Methode der Kulturhistorischen Ethnologic”, Münster 1937.
٦  Boas, F., “The Mind of the Primitive”, New York 1911.
٧  Herakovits, M., “Man and His Works”, New York 1948.
٨  Herskovits, M. J. “Cultural Anthropology” New York 1964, pp. 7,8.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤